عرض مشاركة واحدة
قديم 04-09-21, 09:38 PM   #144

روز علي
 
الصورة الرمزية روز علي

? العضوٌ??? » 478593
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 712
?  نُقآطِيْ » روز علي is on a distinguished road
افتراضي

خرجت من سيارة الاجرة بهدوء ونظراتها ساهمة بالمنزل الكبير امامها ، لتلوح بعدها بيدها لسائق الاجرة بجانبها ليكمل طريقه بعيدا عنها ، وبعد ان ساعدها بالوصول لهذا العنوان والذي اخذ منها وقت طويل وجهد جبار لتكتشف موقع المكان والبعيد عن منطقة سكنها ومدينة نشأتها وهذا بعد تنقلها وترحالها من مدينة لأخرى بالمواصلات العامة ، فمن كان يظن بأن يصل بها الأمر لبذل كل هذا المجهود فقط للوصول لهذه المنطقة الغريبة والجديدة على حياتها ؟

سارت بثبات باتجاه مدخل المنزل وهي تراقب بحذر كل ما يحيط بالمكان الغريب والغير مألوف عليها وخاصة بأنها لم تصل بحياتها لهذه المناطق ولم تزرها يوما ، وما ان وقفت امام باب المنزل حتى عقدت حاجبيها بريبة واجمة وهي تنظر للمقبض البارز بمنتصف الباب والذي يكون الجرس على ما يبدو والشبيه بالعصور ما قبل التاريخ عندما كان كل شيء يعتمد على الصنع الحرفي واليدوي !

طرقت على باب المنزل بيدها متجاهلة وجود ذلك المقبض الغريب وهي تفكر فقط بالذي عليها فعله وجاءت من اجله ، وما هي ألا لحظات طويلة اخذت اكثر مما يستحق لاستقبال الطارق حتى بدأت تظن بأنه لا احد يسكن بهذا المنزل ! ليُفتح بعدها بدقائق الباب امامها ببطء شديد قبل ان يطل عليها وجه المرأة والتي تبدو كبيرة جدا بالسن ، او هذا ما هو ظاهر امامها وخاصة بهذه الهيئة المريبة والتي تبعث الخوف والشك بالروح وكأن كل هموم ومشاكل العالم متجلية على تفاصيل حياة هذه المرأة ! ولا تعلم لما استكانت بمكانها وهي تفقد النطق للحظات امام هذه المرأة السوداء والتي تبدو خرجت لها من قصص الاشباح او ما شابه ؟

تنحنحت بعدها بصلابة وهي تهمس بخفوت مرتجف طغى على صوتها
"هل هذا هو المنزل المتواجدة به صفاء جلال ؟"

تغضن جبينها بحيرة ما ان نظرت للمحة الخوف والتي سكنت بعينيها السوداوين الواسعتين وهي تزيد من شحوب ملامحها البيضاء بدون ان تفهم اي من تلك التخبطات الظاهرة امامها ! لتحاول بعدها الكلام مجددا قبل ان يصلها صوت من داخل المنزل بهمس رقيق ميزته فورا
"ماذا هناك يا عمتي هيام ؟ لماذا ؟......"

انقطع الكلام لوهلة ليحل الصمت فجأة على حياة الجميع ، ما ان تقابلت نظراتها الدامعة باهتزاز بنظرات جليدية مبتسمة بجمود بهالة من الرقة اخذتهما سويا لعالم خاص بهما وحدهما ، ليعيد بهما روح الطفولة والتي خطته اناملهما الصغيرة معا برابط لم يكن له صلة بالدماء يوما ، بل بقرابة معقدة نمت بينهما ليؤدي عن الرباط الابدي والذي يجمعهما معا ، منذ ان شبت كليهما عن الطوق وهو ناتج عن العلاقة والتي ربطت بين والدتها وشقيق والد الاخرى ، لتصبح اقوى صداقة طويلة الأمد تجمع بين تلك الطفلتين بذلك العمر الصغير .

شهقت فجأة الساكنة بمكانها والتي بدأت الدموع برسم خطوط على وجنتيها بأول مبادرة بينهما ، وهي تنظر من بين غلالة دموعها للتي رفعت قبضتها ببطء لتشير بأصبعي السبابة والإبهام امام شفتيها كعلامة لعهد قديم ما تزال اثاره معلقة على ارواح تلك الطفلتين مثل اتفاق قديم لم تمحى خطوطه بعد كل شيء ، لتعيد المقابلة لها نفس اشارتها وهي ترفع اصبعيها امام شفتيها والتي تتبعها دائما عبارة (ابتسم فلا شيء يستحق حزنك) .

انتفضت (صفاء) وهي تندفع لا شعوريا وبعد ان ابتعدت المرأة عن إطار الباب الفاصل بينهما ، لتحتضن تلك الطفلة الباكية صديقتها الاخرى والتي تراجعت قليلا ، وهي ترفع يديها لتعانق ذلك الجسد المهتز بنحيب بكاء عنيف فاجأها ، وهي تربت بيدها الاخرى على شعرها الناعم بصمت بدون اي كلام فقط تعبر كليهما عن مشاعرهما المكبوتة بطريقتهما الخاصة والتي لا يفهمها سوى الصمت والذي كان رفيقهما على الدوام للآن .

تنفست (هيام) بتعب وهي تمسح على اطراف عينيها الدامعة لا إراديا من هالة الحزن والتي غيمت على الاجواء من حولهم بثواني ، والتي تستطيع تعرفها جيدا من خبرتها الطويلة بالمآسي والتي مرت على حياتهم لسنوات ، وهي تشاهد تلك الباكية وهي تفرغ مشاعرها بصديقتها والتي تبدو بنفس عمرها ، والتي تبين بأنها بحاجة شديدة لوجودها بعد كل ما مرت به منذ زواجها بابنها القاسي والذي ما يزال يحملها كل الذنوب بحياتهما واخطاء الماضي بها .

استدارت بصمت وهي تغادر بعيدا عنهما بدون كلام آخر لتفسح لهما المجال لتعبر كل منهما عن مشاعرها المكبوتة للأخرى والتي ليس لها علاقة بها ، وتتمنى حقا ان تريح هذه الزيارة تلك الفتاة وتخفف قليلا عن ندوب احدثها بها ابنها ، متناسية خوفها من ردة فعل ذلك الابن عن هذه الزيارة الغير متوقعة والغير مسموح بها بالنسبة له ؟

بينما كانت (ماسة) بهذه الاثناء تربت بيدها بهدوء صامت على شعرها البني الناعم كما اعتادت منذ طفولتهما كلما جاءت لها تلك الطفلة باكية من احدهم لتبدأ صديقتها بمواساتها بطريقتها واعطائها النصح والارشاد وهذا بعد ان تلقن المسؤول عن حزنها درسا لن ينساه بحياته ليطلب منها الصفح والغفران وعدم تكرارها ، لتهمس بعدها بلحظات بابتسامة باهتة ببعض المرح ويدها مستمرة على مسح ذلك الحرير البني برتابة
"لقد اخبرتكِ بآخر مرة بأن لا تعودي لي باكية ! ولكنكِ بكل مرة تخلفين الوعد وتكررين خطأكِ بدون ان تتعلمي الدرس ، وهذا هو العيب فيكِ يا صفاء"

______________________________
بعد نصف ساعة تقريبا قضتها من خلالها وهي تتكلم عن كل شيء بحياتها بثرثرتها المعتادة والتي لم تتغير كثيرا سوى بحزن ذاك الصوت المغرد ببحة مهتزة وبدموع خفية ما تزال تحتل اطراف مقلتيها العسليتين وهي تحاول مسحها بكفها كل حين بدون جدوى ، مع احمرار طفيف بتلك العينين الجميلتين والتي تظهر مدى البكاء والذي اهدرته بصنبور عينيها لأول مرة بعيدا عن شرودها الحالم والذي كان يرافقها بكل خطوات حياتها .

امسكت فجأة بكفها لتتوقف عن سيل الكلام وهي تهمس بخفوت جاد
"صفاء ما بكِ ؟ وماذا حدث معكِ !"

ابتسمت الجالسة بجانبها على طرف السرير بغرفتها والتي احضرتها لها لتأخذ كليهما راحتهما بالانفراد مع بعضهما اكثر كما كان يحدث بالماضي ، قالت بعدها بابتسامة متسعة وهي تعود لمسح عينيها بخفوت
"لا شيء ، ماذا سيكون هناك مثلا ؟ انا بأفضل حال كما ترين"

حركت رأسها بالنفي وهي تقرب وجهها امامها بلحظة متفحصة كل تفاصيلها بنظرات حادة خبيرة هامسة بجمود
"انتِ تكذبين والدليل هي الدموع والتي سكبتها ما ان رأيتني وكأنكِ تشكين لي همومك بطريقتك الخاصة !"

زمت شفتيها بارتجاف قبل ان تدير عينيها بعيدا عنها وهي تهمس بامتعاض تمثيلي
"غير صحيح فقد اشتقت إليكِ كثيرا ، وسحبتني عاطفتي لأيام الطفولة البعيدة ، فأنا لم اركِ منذ ايام طويلة ونحن لم نكن نمرر يوم بدون رؤية بعضنا البعض ، ولكن يبدو بأنكِ انتِ التي لم تشتاقي لي يا جاحدة ؟...."

قاطعتها التي اعتدلت بجلوسها وهي تقول بحدة نافذة
"صفاء توقفي عن هذه الطريقة الطفولية بالهروب من اسئلتي ، فأنا جادة تماما ، واريد ان اعرف الآن كل شيء حدث معكِ منذ زواجكِ من فارس احلامك والذي حدث بغفلة عن الجميع وبدون حتى اي تشهير ؟"

ضمت قبضتيها معا عند حجرها وهي تعض على طرف شفتيها بألم مكبوت عاد لينهش احشاءها بحرقة قديمة لم تنطفئ للآن ، لتخفض بعدها بلحظة نظراتها بضعف استبد بها وهي تهمس بهدوء خاوي حاولت استجلابه بكل ما تستطيع من قوة
"صدقيني يا ماسة انا حقا بخير وسعيدة جدا بحياتي مع زوجي ، واعتذر على عدم اقامة حفلة تشهير لزواجي ، ولكن هذه كانت طلبات زوجي وانا لم استطع الرفض....."

قاطعتها فجأة من قالت بحاجبين مرفوعين باستنكار
"وماذا كان رأيكِ انتِ ؟ ألم تكوني تحلمي دائما بحفلة زفاف كبيرة تتكلم عنها كل الناس مثل القصص الخيالية وقصص الحب والتي كنا نشاهدها بصغرنا !....."

رفعت رأسها بسرعة وهي تجيبها بقوة لم تخفي الرجفة بعينيها الحزينتين
"هذا كان قراري ايضا يا ماسة ، فهو كان لديه ظروف منعته من اقامة حفلة ، وانا لم اكن اريد ازعاجه بحفلة لن تغير شيء بحياتنا ، وكما اخبرتك تلك الأفكار والتي كانت تدور برؤوسنا فيما مضى مجرد احلام وتفاهات ليس لها وجود بأرض الواقع ، فكل ما يهمني هو زوج يحميني ويصون حياتي ورفيق يسير معي بهذا الدرب"

ارتفع حاجبيها بوجوم للحظات وهي تشعر بنفسها تكلم شخص آخر بعيدا عن افكار صديقتها التافهة واحلامها والتي لطالما تشبثت بأرض مخيلتها الخصبة بدون ان تسمح لأحد بالتأثير عليها ، فماذا حدث لها حتى انقلبت هكذا بدون سابق إنذار ؟

تنحنحت بتصلب وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها لبرهة هامسة بخفوت بارد
"بالمناسبة لم تخبريني من تلك المرأة والتي استقبلتني عند باب المنزل ؟ وايضا لما انتقلتما لمنزل آخر بعيد عن مكان سكن زوجكِ القديم ! أتعلمين كم من الجهد الذي بذلته بالبحث عن مكان سكنك الجديد وبمدينة بعيدة عن مكان عيشنا ؟"

ابتلعت ريقها بانقباض وهي تفرك يديها معا بتوتر احتل اطرافها لوهلة ، لتدير بعدها نظراتها بعيدا عن نظراتها المسلطة وهي تهمس بخفوت شارد
"انها تكون والدة جواد ، وهذا المنزل لها ونعيش به لنبقى بقربها ، واعتقد بأنه سيستقر بهذه المدينة مع والدته بجانب مكان عمله هنا ، والذي تبين بأنه يعمل بوظيفة محامي ولم يعمل بدار النشر سوى لمدة قصيرة ولهدف انتهى بتحقيقه"

اتسعت عينيها للحظات بصدمة مشدوهة وهي تحاول تحليل كلامها والذي بعثر افكارها لبرهة ! لتقول بعدها بتفكير عميق وهي ترفع حاجب واحد بريبة
"ولكني اتذكر بأنكِ قد اخبرتني بأن جميع افراد عائلته متوفيين وليس له احد بحياته ؟ إذاً من اين ظهرت والدته ولما يعيش اساسا بعيدا عنها !"

زمت شفتيها بوجوم وهي تهمس باستياء شاردة بالبعيد
"حتى انا لا اعلم السبب ؟ وكم اتمنى حقا لو اعرف السبب !"

عقدت حاجبيها بعدم استيعاب وهي تحاول تحليل مجريات الأمور من تعقيد كما يفعل عقلها عادةً امام هذا النوع من المعلومات الناقصة والتي تحتاج للتركيب لتكتمل السلسلة ؟ لترفع بعدها قبضتها وهي تمسك ذقنها بقوة هامسة بعبوس متجهم
"لقد كان يعيش بمدينة اخرى بعيدا عن والدته وبالقرب من مكان عمل والدك ، وقد كان ايضا يعمل معكِ بنفس دار النشر والتي تبين بأنها ليست بوظيفته الحقيقية ، وهذا يعني بأنه اما يكون كان يخطط لتنفيذ هدف محدد او غاية بتلك المدينة الغريبة عنه ، واما لديه ثأر دفعه ليقيم بمنطقة لا تنتمي لمكان معيشته وما ان انتهى حتى عاد للمدينة والتي تقيم بها والدته وبجانب مكان عمله"

التفتت من فورها باتجاه صديقتها لوهلة وهي تستمع لتحليلها بعينين متسعتين بوجل بدون ان تفهم سبب الرعب والذي احتل كل إنحاء جسدها بانقباض حاد غير مألوف ؟ لتهمس بعدها لا شعوريا بتوجس
"ماذا يعني ثأر ؟"

كانت ما تزال شاردة بتحليلها وهي تلوح بذراعها بلا مبالاة قائلة ببرود
"تلك النفوس المريضة والتي تملئها الحقد ما ان تخسر شيء قيم او احد عزيز عليها ، والتي تظن بأنها ما ان تسترد حقها من صاحب الثأر وسبب خسارتها لهذا الشيء سترتاح عندها ، لتستطيع اكمال حياتها بطبيعية وهناء وبعد ان تستعيد حقها اخيرا والذي لم يستطع احد من رجال القانون او اقاربه من استعادته وهذا ما يدفعهم للثأر"

غامت نظراتها فجأة بغلالة قاتمة وهي تفكر بمدى احتمالية ان يكون هناك ثأر مدفون بحياة زوجها وهو ما يحركه لفعل ما يفعله معها ؟ ولكن كيف ستقدر على التأكد من هذا الكلام ؟

افاقت من غلالتها والتي احاطت حياتها للحظة صوت الجالسة بقربها وهي تهمس بجانب اذنها بقلق
"صفاء ما لذي اصابكِ ؟ لما لونك مسحوب هكذا ؟"

شهقت بارتعاش لوهلة وهي تلتفت نحوها بارتباك لتقول بعدها بشبه ابتسامة وهي تمسح وجنتيها المحمرتين تلقائيا
"لا شيء يا ماسة ، ولكني كنت افكر بأمر ما احتل تفكيري فجأة"

ارتفع حاجبيها بعدم اقتناع وهي تشيح بوجهها جانبا بتفكير جامد ، لتقول بعدها بلحظات قصيرة وبعد ان اختفى الجمود عن ملامحها قليلا بابتسامة جانبية بمرح
"صحيح لقد نسيت ان اخبركِ ؟ لدي لكِ خبرين واحد سعيد والآخر حزين وهذا ليبدل عنكِ هالة الحزن قليلا"

نظرت لها بلهفة عادت لتلون تلك الاحداق العسلية وهي تهمس بطفولية
"اخبريني بالبداية بالخبر السعيد ؟"

اومأت برأسها بهدوء وهي تدس يدها بجيب سترتها قبل ان تخرج منها هاتف جديد وهي تلوح به قائلة ببساطة
"انظري لقد اشتريت هاتف جديد ، كما كنتِ تتمنين وتصرين عليّ دوما"

اتسعت عينيها بدهشة وبانبهار بذات الوقت مع ابتسامة صغيرة بدأت تشق طرف شفتيها الورديتين لأول مرة منذ وصولها ! لتختطف بعدها الهاتف بلمح البصر من يد صاحبته وهي تتفحصه باندهاش هامسة بفرحة طفولية
"رائع ما اجمله ! واخيرا تحققت امنيتي وبدلتِ هاتفكِ القديم والذي اخجل من ان اسميه هاتف ، لقد ظننت بأني سأشيخ قبل ان تأتي هذه اللحظة !"

عبست ملامحها بغضب وهي تهمس من بين اسنانها بحدة
"لقد كان هاتفا رائعا وافضل من التقنيات الحديثة والتي احدثت ضجة بدون الداعي لذلك ، ولكن حدث ان توفي قبل ان يشيخ معي"

ضحكت ببحة ما تزال تسيطر على صوتها الباكي وهي تنظر لها بأطراف عينيها ومرفقها يضرب بذراعها قائلة بخفوت مرح
"اذاً هيا اخبريني كيف توفي هاتفك وما نوع الحادث الفظيع والذي تعرض له وجعلكِ تتخلين عنه ؟ بالعلم بأنه قد تعرض لحوادث عدة ولم يتأثر بها !"

امتعضت ملامحها وهي تهمس بشراسة قاتمة ناظرة امامها بنقمة
"لقد كان اسوء حادث يتعرض له ، واسوئهم بالنسبة لي"

تغضن جبينها باستغراب وهي تتابع تشنجات ملامحها والتي ظهرت على صفحة وجهها ؟ لتقول بعدها بلحظة وهي تعود لتأمل الهاتف نافضة عنها غمامة الحزن
"ولكنه ليس افضل الهواتف الحديثة والتي رأيتها ، ومع ذلك يبقى افضل من تلك الخردة والتي تسميها هاتف"

حادت بنظراتها نحوها لوهلة بدون اي تعبير مقروء سوى عن الغضب والذي ما يزال يعبث بملامحها الجليدية ، لتخفض بعدها الهاتف وهي تهمس بابتسامة مرتبكة
"إذاً وما هو الخبر الحزين ؟"

تسمرت للحظات بمكانها بدون اي حركة وكأنها تحولت لتمثال جليدي ، قبل ان يتبعها بصوتها البارد بعبوس غير معبر
"لقد عقدت قراني قبل عدة ايام من ابن خالي"

فغرت شفتيها بارتعاش لوهلة وملامحها تتنقل بين الوجوم والذهول بنفس الثانية بدون ان تحدد ما عليها الشعور به الآن بين كومة المشاعر والتي اجتاحتها بلحظة واحدة ! لتستطيع بالنهاية الهمس ببلاهة متعثرة
"هل عقدت انتِ ايضا قرانك من ابن خالك المتزوج روميساء ؟ ولكن كيف هذا ؟....."

تأوهت بألم ما ان ضربتها الأخرى على رأسها بقوة وهي تقول بعبوس حاد
"لا يا بلهاء ! لقد عقدت قراني من ابن خالي الثاني الغير متزوج والذي انقذنا من قبل من شقيقك المجنون ، لذا فكري اولاً قبل ان تنطقي بأي كلمة سخيفة طائشة"

دلكت على رأسها بيدها وهي تهمس بضيق ممتعض
"حسنا فهمت ، لا داعي للقسوة ! وكيف حدث هذا الزواج ظننت بأنكِ لا تطيقين فكرة الارتباط بأي رجل ؟"

حركت رأسها بعيدا عنها وهي تهمس ببساطة
"لقد حدث ان غيرت رأيي بفكرة الزواج ، وهذا بالنهاية قدري المحتوم والذي لا استطيع التحكم به ، ولكني اعدكِ بأنه لن يدوم"

عقدت حاجبيها ببطء لوهلة وهي تهمس بابتسامة خبيثة بمرح
"إذاً هل تقولين بأنه قدركِ حقا ؟ ام هو سحر الحب والذي اوقع بقلبك !....."

شهقت بذعر وهي ترفع يديها تلقائيا لتحمي رأسها من الضربة الطائشة ما ان التفتت المتجهمة بجانبها وهي ترميها بنظرات مستعرة قد توديها قتيلا ، لتهمس عندها بابتسامة مرتجفة ببراءة
"لن اعيدها مجددا هذا وعد"

عادت بنظراتها للأمام باللحظة التالية وهي تتأفف بضيق واضح ، لتتابع الجالسة بجانبها كلامها وهي تخفض يديها عن رأسها بهدوء
"ولكن لم افهم ما هو الأمر المحزن لتقولي عنه خبر محزن ؟ بل هو اجمل خبر اسمعه بحياتي واجمل من خبر حصولك على الهاتف ! فمعرفتي بزواج صديقتي من شخص شهم ووسيم مثل ذاك الرجل بدل ذاك المجنون لهو امر رائع !......."

قاطعتها بصوت بارد بانقباض مفاجئ
"إياكِ وان تخبري مازن عن زواجي ، فأنا لا اريد اي مشاكل بهذه الفترة"

اومأت برأسها بصمت وهي تعض على طرف شفتيها بارتجاف ما ان تذكرت شقيقها ووالدها والذين لم تعد تستطيع ان تسأل عنهما بعد زواجها المزعوم والذي لا تعلم اين ستكون نهايته ؟ لتشعر بعدها بلحظة بيد تربت على كتفها بهدوء قبل ان يتبعها صوتها وهي تهمس بقلق لم يفارقها للآن اتجاه صديقتها
"هل انتِ حقا بخير يا صفاء ؟"

ابتلعت ريقها بتشنج وبحشرجة البكاء والتي ما تزال عالقة بمجرى تنفسها بألم ، لتهمس بعدها بأنفاس متقطعة وبعد ان اختفت السعادة اللحظية عن تفاصيل وجهها لتعود لحزنها الشارد
"انا بخير ، وكل ما اتمناه ان ابقى دائما بخير ، ولا اريد شيء آخر من هذه الحياة"

فتحت شفتيها عدة مرات بتفكير بدون ان تجد ما تواسيها به وهي تقفل كل الطرق بطريقها لسبر اغوارها ومعرفة قصة حياتها الجديدة والتي لا تبدو مبهجة كما كانت تظن سابقا ! ليقطع عليها تفكيرها صوتها الرقيق وهي تتابع كلامها مع دمعة صغيرة انحدرت من مقلتيها دون ارادة منها
"لقد كبرنا حقا يا ماسة ولم نعد اطفال ! وكل واحد منا اصبح يختار شريك حياته والذي سيكمل معه بهذه الحياة ، بدون ان يأبه احد بالتباعدات والتي ستزداد بين كل واحد منا لينفرد بحياته الخاصة وبتكوين نفسه وعائلته ، ولن يعلم عندها احد بالنزاعات والمشاكل والتي نواجهها بتلك الحياة والتي اخترناها بإرادتنا الحرة ؟"

ارتفع حاجبيها بوجوم عابس ولم يعجبها سير كلامها ابدا والمعنى الخفي والذي وصلها له ؟ وقبل ان تعلق على كلامها سبقتها التي التفتت نحوها بلحظة وهي تهمس بابتسامة صغيرة ببهجة
"مبروك عقد قرانك يا ماسة ، واتمنى لكِ طولة العمر وسعادة ابدية ترافقك طول حياتك ، ولكن إذا عرفت بأنكِ لم تدعيني لحفلة زفافك ، فأنا عندها سأدعو لكِ بالسوء وبداية فاشلة لحياتك ، وهذا آخر كلام عندي لذا احذري !"

ابتسمت بدهشة مع ارتفاع حاجبيها بآن واحد وهي تهمس بخفوت متحدي
"لقد كبرتِ حقا ايتها الطفلة الباكية ولم تعودي فتاة سهلة"

اتسعت ابتسامتها بسعادة حتى وصلت لوجنتيها المحمرتين مع بريق مبهج لمع بمقلتيها العسليتين بعيدا عن الحزن ، لتندفع بعدها فجأة وهي تعانقها بذراعيها بقوة بنفس قوة استقبالها لها ، وهي تهمس بحزن سكن قلبها وببحة بكاء سيطرت على صوتها
"لو تعلمين كم اشتقت لكِ يا ماسة ؟"

بينما كانت الاخرى تربت على شعرها بهدوء وبصمت اعتادت على ان تقابلها به لتصبح طقس حياة بينهما تعيش عليه كليهما ، وهي تستمد القوة من كل واحدة منهما لتكمل النقص بدواخلهما ومن تناقضات الاخرى ، حتى اصبحت حياة بأكملها ما تجمع بينهما وفراقها هو الموت .

______________________________
فتحت باب الغرفة وهي تخرج منه تتبعها خطوات السائرة من خلفها وهي تهمس بعطف ورجاء
"هيا يا ماسة لقد وصلتِ للمنزل للتو ، وليس من اللائق ان ترحلي بدون ان نقدم لكِ اي ضيافة تليق بكِ بعد كل تلك المسافة والتي قطعتها لتصلي لهنا....."

قاطعتها التي توقفت امام باب المنزل لتستدير نحوها بلحظة وهي تلوح بيدها قائلة بجمود خافت
"لا استطيع يا صفاء ، افهمي لقد اتيت فقط للاطمئنان عليكِ وامضاء بعض الوقت برفقتك ، ولم اتوقع ان اؤخذ كل هذا الوقت بالزيارة والتي استغرقت اكثر مما كنت اخطط له ، والآن عليّ الاسراع للحاق بالحافلة والتي ستوصلني للمدينة الأخرى والتي لن اصل لها قبل موعد الغروب"

عبست ملامحها بحزن وهي تمسك بيدها هامسة بخفوت متأسف
"انا اعتذر حقا على التعب والذي تكبدته للوصول لمكان سكني وتفكيركِ بالسؤال عني ، بينما كان من المفروض انا ان ازوركِ واسأل عنكِ وليس انتِ"

ربتت على كفها بيدها الاخرى وهي تحرك رأسها هامسة بابتسامة صغيرة بشرود
"لا بأس يا صفاء ، فأنا لست اعاتبك ولا انتظر منكِ شيء ، فقط اردت استعادت بعض الذكريات معكِ فأنتِ ستبقين صديقتي الوحيدة وامركِ يهمني جدا مثل جزء من عائلتي والتي انتسبت إليها منذ وقت طويل"

نظرت لها بنظرات دامعة عسلية وهي تشدد من إمساك يدها بكلتا كفيها بقوة لتزيد من تقوية عهد ما يزال ينمو بداخل كل منهما لهذه اللحظة ، لتقول بعدها بلحظات التي سحبت يدها وهي تعقد حاجبيها بجدية
"هل حقا قررتِ ترك مسيرتك بالجامعة ؟ ذلك الطريق والذي اخترناه معا وبعزيمة بأن نكمله معا"

زمت شفتيها بوجوم لبرهة وهي تخفض نظراتها بامتقاع بدون ان تتجرأ على الكلام ، وهي لا تعلم بماذا تجيبها الآن بعد ان تجاهلت كل اسئلتها المتعلقة بالجامعة لتعود لنفس السؤال من جديد ؟ فهل تخبرها بالحقيقة وبأن زوجها لا يسمح لها بزيارة عائلتها حتى يسمح لها بالذهاب للجامعة بفترة زواجها المؤقت ؟

همست بعدها بارتجاف طغى على صوتها الخافت بوجل
"لا لا اعتقد !"

ارتفع حاجبيها وهي تحاول التقاط همستها الاخيرة بعدم اقتناع وبجمود سيطر على ملامحها فجأة ، وبدون ان تنتبه كليهما لصوت باب المنزل بقربهما والذي فُتح فجأة ليدخل منه الرجل ، والذي تجمد بمكانه لبرهة وملامح وجهه تتنقل بين الجمود الصخري والغضب الاسود ، والذي بدأ يطفو على اغلب ملامحه الحادة بقسوة بدأت تنضح بعينيه السوداوين نشرت القتامة بالأجواء من حولهم بغمامة كاتمة للأنفاس .

اول من لمحه التي كانت تقف مقابلا له والتي اتسعت عينيها العسليتين بلحظة على اقصاهما برعب غير مسبوق وبارتعاش احتل كل طرف بجسدها الهش ، وهي تدرك الآن فقط فداحة فعلتها ومصيبتها والتي غفلت عنها بالدقائق الماضية ! لتلتفت بعدها الاخرى الواقفة بقربها والتي شعرت بوجوم غريب بالأجواء وبرعب صديقتها والتي شلت حركتها ، وهي تحدق بالذي كان يقف امامهما وهو ما يزال ممسك بمقبض الباب بقوة وبقسوة شعرت بها ، وهي تتجلى بملامح وجهه الحادة باسمرار خالص وبريق خطر يلمع بتلك الأحداق السوداء القاتمة لا يراها سوى من عايش وجرب كل اصناف الرجال بقسوتهم وقذارتهم ؟ ولكن الذي اكتشفته بنظرة خاطفة وطمئن قلبها بأن هذا الرجل لا ينتمي لأي من هؤلاء الرجال من تلك الفئة المعروفة بالعصابات واصحاب السوابق الاجرامية ، وبالرغم من كل ذلك فهي شبه متأكدة بأنه لا يختلف عنهم بطباعهم النارية وهالة القسوة والتي تحيط كل واحد منهم لتبعث الرعب بأوصال كل من يحاول مجابهتهم من تلك الفئة .

عضت على طرف شفتيها بتفكير عميق وهي ترفع حاجب واحد ببطء ما ان شعرت بأن هذه الملامح القاسية قد مرت بذهنها سابقا وقد قابلتها من قبل منذ فترة ليست ببعيدة ، ولكن المشكلة عدم قدرتها على تذكر مكان رؤيتها لها وهي تغيب عن عقلها لأول مرة لم تحصل معها من قبل ! ومع ذلك ما زالت موقنة بأنها قد رأتها متجسدة بملامح احدهم بنفس تلك الخطوط الدقيقة الحادة بدون ان تتذكره ؟

تنفست بهدوء وهي تنفض هالة الصمت عنهم هامسة للساكنة من خلفها ببساطة
"إذاً عليّ المغادرة الآن ؟ فيبدو بأن زوجك قد وصل ولم يعد وجودي هنا لائقا بينكم ! لذا وداعا إلى لقاء آخر"

عندما لم تجد اي رد منها وهذا ما توقعته حتى استدارت للأمام لتكمل سيرها امام الذي كان يتبع معها بتدقيق خطوة بخطوة وبنظرات حادة غير معبرة ، لتصل بالنهاية بمحاذاته وعلى مقربة منه قبل ان تهمس لبرهة بابتسامة متصلبة بقسوة شبيهة بقسوة ملامحه
"اهتم بصديقتي جيدا وحافظ عليها بكل ما تستطيع من قوة ، لأنك إذا اخطئت معها يوما وكررتها ايام متواصلة فأنت عندها لن تخسرها فقط بل ستصبح مجرد حلم بحياتك ستتمنى فقط الوصول له ، فهي دائما تسامح وتصفح مرة ومرتين ، ولكن صدقني بالنهاية ستنتهي فرص مسامحتك عندها ولن يبقى لك سوى اللوم والندم ، لذا توقف عن كسرها لأنك لو حاولت ترميمها فلن تعود كما كانت كالسابق وسيموت عندها بآخر المطاف حبها لك"

التفت بوجهه نحوها ببطء وهي ينظر لها ببرود جليدي طغى على نظراته السوداء بدون ان يرد بكلمة ، لتبتسم بعدها بشحوب وهي تقول بمحبة مزيفة
"نهارك سعيد ، وتشرفت بالتعرف عليك يا سيد زوج صديقتي"

خرجت بعدها بلحظات بدون اي كلمة اخرى لتخلف من بعدها سكون ورهبة بالأجواء من حولهما بصمت طويل ، وما هي ألا لحظات حتى اغلق باب المنزل من خلفه بقوة صدحت بالمكان ، وهي تبعث رعشة لا إرادية بجسد الساكنة بمكانها وكأنها صحوة مما اصابها الآن وبداية عذاب جديد مما هي مقبلة عليه ، وهي تخرق احدى قوانينه والتي اخبرها بها من قبل بدون اعتبار لأحد !

لعقت طرف شفتيها لا شعوريا وهي تنتظر القادم والذي لم يتأخر عنها كثيرا ما ان همس المقابل لها بأول مبادرة منه بخفوت خطير يحمل الكثير بين طياته
"من هذه الفتاة والتي كانت موجودة بمنزلي ؟"

ابتلعت ريقها وهي تجيب بخفوت شديد بدون ان تعلم إذا كان قد وصل له صوتها
"انها صديقتي ماسة ، وقد اتيت للاطمئنان عليّ لا اكثر"

شددت من القبض على يديها بقوة حتى آلمت مفاصلهما ما ان تقدم اكثر بخطواته نحوها ومع كل خطوة كانت تزيد من تخبط نبضات قلبها المتسارعة بألم بصدرها ، ليقف بعدها امامها تماما لا يفصل بينهما سوى خطوة وهو يتابع كلامه قائلا بحدة اشد عن السابق
"وهل هذه هي صديقتك والتي تتكلمين عنها دائما بين ثرثرتك ؟"

امتعضت ملامحها من كلامه الاخير والذي يدعوه بالثرثرة وهي تومأ برأسها بالإيجاب وبصمت يكاد يطبق على انفاسها ، ليقطع كل هذا الهدوء والذي طغى على كلامه الاخير القبضة والتي امسكت بذراعها بلمح البصر ليتبعها بقسوته المعتادة بالصراخ ببأس
"ومن سمح لكِ بإحضار اصدقائك او استقبالهم بمنزلي ؟ ألم نتفق سابقا على عدم استقبال احد بالمنزل وعدم زيارة احد ، هل عدنا لعصيان اوامري مجددا واختراق القوانين والتي وضعتها لكِ بمهلة هذا الزواج المؤقت ! لما لا تستطيعين الالتزام بكلامي ؟....."

تدخلت التي خرجت من المطبخ بعجلة وهي تقول بجزع
"جواد ما لذي تفعله ؟......."

صمتت بارتباك ما ان تجسد المشهد امامها وهي ترى ابنها يعنف زوجته بطريقة لم تتوقع حدوثها من قبل ولا بأحلامها ، لتوجه نظرات عاتبة لابنها والذي لم يعر وجودها اهتمام ، وهو يوجه كل غضبه الاسود على تلك الزوجة المستكينة بمكانها والتي كانت تتلقى التعنيف بصمت ارهق كيانها ، والذي كان يرتجف بداخلها بانقباض وبنحيب صامت غير مسموع سوى امام اذنيها وكأنها سلمت مصيرها للمجهول .

تقدمت بسرعة (هيام) وهي تقول بحزن عميق واستعطاف امام جنون ابنها
"اسمعني يا جواد ، هي لم تخطئ انا التي استقبلت صديقتها فهي فتاة طيبة ونيتها صافية ، وقد كانت تود رؤية صديقتها والاطمئنان عليها ، وصفاء لم تكن تعلم عن هذه الزيارة......"

قاطعها الذي رفع رأسه كما كفه باتجاه والدته بأمر وهو يقول بقوة
"توقفي عن الدفاع عنها امامي يا امي ولوم نفسك ، فهذه المشكلة هي السبب الرئيسي بها وهي المخطئ الوحيد هنا ، عندما خرقت قوانيني بدون اي اعتبار لأحد وقد نبهتها كثيرا على هذا الأمر"

تلكأت والدته بمكانها وهي تعود للهمس بحذر ورجاء مستجدي
"ولكن بني هي....."

عاد لمقاطعتها الذي قطب جبينه بحدة وهو يصرخ بأمر رج جنبات المنزل
"امي رجاءً لا تتدخلي بهذه الأمور ، وابقي بعيدة"

عبست ملامحها بشحوب وهي توجه نظراتها للتي كانت تنظر لها بالمقابل باستجداء صامت وهي تستغيث بها لتنقذها بما فيه الآن ، لتحاول بعدها ببرهة الكلام من جديد بخفوت وحزن اشد
"فقط اسمعني يا بني ، فليس هكذا تحل الأمور"

تأفف بعدها بنفاذ صبر وهو يسحبها معه باتجاه غرفتها بصمت ، وهي تتبعه بتعثر ونظراتها ما تزال معلقة بالتي تركوها من خلفهما وهي تودع آخر امل بالنجاة من هذه الحال والتي ستقضي على المتبقي من هدوء حياتها .

وما ان وصل بها للغرفة حتى ادخلها بقسوة وهو يعود ليكبل ذراعيها بقوة هادرا امام وجهها بعنف قاسي
"هل تريدين رؤية غضبي الاسود ؟ لأنه على ما يبدو لم يعجبك الوجه والذي اقابله بكِ وطريقة الحياة والتي اعاملها بكِ ! لذا تريدين تجربة شيء آخر من ألوان حياتك معي......"

حركت رأسها بالنفي لا إراديا وهي تهمس بتلعثم وبأنفاس متحشرجة
"صدقني يا جواد ، لم اكن اعلم بزيارة ماسة ، لقد جاءت بغفلة مني لتطمئن عليّ ، وإذا كنت لا تصدقني فيمكنك رؤية هاتفي ومكالمتي الاخيرة معها"

ارتفع حاجبيه بحدة قاسية وهو يتذكر القليل من كلام تلك الفتاة الغريبة والتي شعر بقسوة كلامها ينفذ بروحه بطريقة لم تسبق ان حدثت معه ؟ وهو الذي لم يتوقع ان يكون شكل تلك الصديقة المجهولة عكس ما تخيل ! فهي تبدو النقيض تماما عن زوجته الرقيقة والتي ظهرت بوقاحة كلامها وثقتها البالغة بنفسها وكأنها شقيقتها الكبرى وليست صديقة بعمرها لم تتجاوز العشرين بعد .

عاد بنظره للتي كانت ترتجف بين يديه بنحيب صامت مثل عصفور صغير يحتضر بين قيود قبضتيه القاسيتين ، ليقول بعدها بلحظات بابتسامة جادة بشك
"هل تقولين الحقيقة يا صفاء ؟ ام هذه كذبة منكِ لتنفذي من فعلتك !"

حدقت به للحظات بتجمد لمحه بعينيها الدامعتين واللتين توقفتا عن البكاء فجأة ، لتهمس بعدها لوهلة بابتسامة ضعيفة بحزن
"هذه الحقيقة فأنا لم اكذب بحياتي ولم اعرف الكذب يوما ، ولكن هناك آخرون جعلوني اعيش بكذبة همّ الذي ابتدعوها وانا الوحيدة التي صدقتها ! الصادقون ليسوا اغبياء ولكنهم يظنون بأن جميع من حولهم صادقون مثلهم"

تسمر بمكانه للحظات وهو يشعر بإهانة غير مباشرة اصابته بقوة بدون ان يسمح لأيً من هذه التخبطات بالظهور على ملامحه الصخرية سوى لمحة ألم خفية سكنت تلك الاحداق السوداء للحظة ، ليعود بعدها للجمود وهو يدفع ذراعيها بعيدا عنه بقسوة قبل ان يستدير بقوة ، وقبل ان يصل للباب سبقته التي همست من خلفه ببحة بكاء طفيفة
"هل تفعل كل هذا من اجل الثأر يا جواد ؟"

توقف عند الباب بجمود قبل ان يلتفت بنصف وجهه وهو يهمس بلا مبالاة
"ما لذي تتفوهين به ؟ وعن اي ثأر تتكلمين !"

تقدمت نحوه اكثر حتى اصبحت خلفه تماما وهي تهمس بوجوم حزين
"اقصد هل هناك ثأر بينك وبيني لا اعلم عنه ؟ فأنا لا اتذكر بأني قد اخطئت معك يوما !....."

قاطعها الذي عاد ليستدير نحوها بلحظة وهو يقول بانفعال عابس ببعض الصدمة من تفكيرها
"كفى يا صفاء ليس هناك شيء من هذا الكلام"

رفعت عينين نديتين وهي تهمس بانفعال منقبض
"بل كلامي صحيح وتريد الانتقام مني بشيء فعلته لك بالماضي ، ولكني متأكدة بأني لم افعل لك شيء ، وكيف سيحدث هذا وانا لم اقابلك بحياتي !"

عقد حاجبيه بحدة حتى ظهرت خطوط دقيقة بقسوة عند زوايا شفتيه المتصلبتين ، وهو يفكر بطريقة لينحي تفكيرها عند هذه النقطة فهو لن يدعها تكتشف شيء عن هذا الثأر قبل ان يحررها منه ويتخلص من هذا العبء والذي اصبح يثقل على كاهله كثيرا ، ليقول بعدها بلحظة بابتسامة جانبية بخبث وهو يلوح بذراعه جانبا
"بل لقد التقينا من قبل يا صفاء ، كيف تنسين بهذه السرعة تلك اللحظات المهمة بحياتنا ؟"

انفرجت شفتيها بأنفاس مرتعشة بدون ان تتذكر شيء مما يتفوه به من ترهات ! لترفع بعدها حاجبيها برهبة وهي تهمس بعدم فهم
"عن اي لقاء تتكلم ؟"

انحنى امامها فجأة بوجهه جمدت اطرافها برعب وبعثرت كيانها بأكمله بثانية ، وهو يمسك بذقنها الصغير بقوة شعرت بها بأصابعه المتصلبة ليقبلها عندها برقة بدون اي مقدمات ، قبل ان يهمس امام شفتيها بخفوت خشن ألجم انفاسها
"انا فارس احلامك يا صفاء"

اخذت عدة انفاس مرتجفة بدون كلام ، ليتراجع عندها بعيدا عنها بلحظة قبل ان يخرج من الباب المفتوح من خلفه بصمت ، بينما انفاسها عادت للارتجاف بتخبط صدرها الملتاع بتقافز نبضاته ، لترتمي باللحظة التالية على السرير من خلفها وهي تنظر امامها بشرود ما ان غيمت نظراتها بضباب احلامها ، بذكرى بعيدة لطفلة لا تتجاوز العشر اعوام واقفة امام شاب طويل القامة وهي تسأله ببراءة عن اسمه ، ليجيب صاحب القامة الطويلة بجواب غامض لم تأبه لمعناه الحقيقي آن ذاك وهو يخترق قلبها الصغير بفرحة طفولية
"انا اكون فارس احلامكِ يا صغيرتي"

______________________________
كانت تسير باتجاه مرآب المدرسة حيث مكان سيارتها المركونة هناك ، لتتوقف بعدها قليلا وهي تشعر بقطرات مطر صغيرة بدأت بالهطول من فوقها ببطء ، لتنذر عن وصول عواصف وشيكة بمثل هذا اليوم الغائم والذي لا يجلب سوى الحزن والكآبة ، وهذا بعد ان تحملت الغيوم بكل انواع الهموم لتسيل بالنهاية على شكل دموع محملة بخيبة كبيرة وبرودة مجمدة للأطراف .

ما ان غرزت المفتاح بقفل باب السيارة حتى تسمرت لوهلة ما ان سمعت الصوت الطفولي يقول من خلفها بمرح
"معلمتي"

استدارت للخلف بحذر وهي تنظر باتساع للطفل امامها والذي هرول باتجاهها ، قبل ان يقف امامها مباشرة وهو يقول بابتسامة كبيرة برجاء
"هل يمكنكِ ان توصليني معكِ اليوم للمنزل ؟ ارجوكِ"

ارتفع حاجبيها بدهشة للحظات وهي تهمس بصرامة خافتة
"ولماذا تريد الذهاب معي تحديدا ؟ واين هو والدك ألم يصل بعد ؟......"

قاطعها وهو يعبس باستياء
"لن يستطيع القدوم بسبب الاحوال الجوية ، والحافلة قد غادرت منذ وقت ، وانا لا اريد الذهاب مع اي احد من عمال المدرسة ، لذا ارجوكِ ان تقليني معكِ"

عقدت حاجبيها بحيرة وبوجوم طفى على ملامحها لبرهة ، ليقطع سيل افكارها صوت مساعدة المديرة والتي اتجهت نحوهما من فورها وهي تقول بصرامة آمرة
"سامي هيا تعال معي بسرعة ، من اجل ان اوصلك للمنزل قبل ان يتأخر الوقت"

تراجع الطفل بخطواته بسرعة ليقف بجانب الساكنة بمكانها وهي تراقب الوضع بارتباك تجلى على ملامحها بشحوب ، لتقول بعدها بلحظات بثبات متزن ما ان وقفت امامها مساعدة المديرة بإمارات الغضب المتجلية على وجهها بعبوس
"لا بأس يا آنسة منال ، انا سأوصل سامي لمنزله فأنا اعرف عنوان سكنه ، وسأعفيكِ اليوم من هذه المهمة لكي لا يسبب لكِ المزيد من المشاكل"

حانت منها التفاتة نحو الطفل بعبوس قبل ان تتنهد بيأس ، وهي توجه نظرات قوية باتجاه المقابلة لها قائلة بحرص شديد
"حسنا يا معلمة روميساء ، ولكن عليكِ ان تنتبهي بأن يصل لمنزله بدون اي مشاكل ، فهذه الأمانة قد اصبحت الآن بعاتقك وعليكِ الحرص عليها جيدا واعادتها لأصحابها كما هي"

اومأت برأسها بشرود وهي تبتلع ريقها بتشنج وبانقباض حاد احتل صدرها فجأة بدون ان تعلم مصدره ؟ وسبب تلك الغصة العالقة بمنتصف روحها بدون ان تتزحزح من مكانها ؟ وتفكيرها فقط بتحمل مسؤولية طفل ينحر روحها بألم قديم لا يريد ان يبارح مخيلتها ابدا !

بعدها بلحظات كانت تشغل محرك السيارة وبعد ان جلس الطفل بالمقعد بجانبها ، لتبدأ بالقيادة بعيدا عن اسوار المدرسة وبعيدا عن انظار تلك المرأة والتي كانت تتابعهما بنظراتها الصارمة حتى اختفوا عن نظرها تماما .

وبعد دقائق من القيادة الصامتة قطعها صوت الجالس بجانبها وهو يقول بانبهار واضح مخترقا هالة الصمت والتي احاطت نفسها بها
"سيارتكِ جميلة جدا وهي تشبه كثيرا سيارات السباق ، ولكن لما لم اراكِ تقودينها من قبل ؟"

ابتسمت بهدوء وهي تنظر لقطرات المطر والتي تكاثرت على زجاج النافذة امامها هامسة برفق
"هذا لأنني لم اشتريها سوى من فترة قصيرة ، فقد كنت اعود لمنزلي بسيارة اجرة او مع زوجي"

التفت نحوها بوجهه الصغير وهو يرفع حاجبيه هامسا ببراءة
"ولما لم تشتريها من قبل ؟ ماذا كان يمنعك من شراء هذه المركبة الرائعة !"

انفرجت شفتيها قليلا قبل ان تضحك لا إراديا على فضول هذا الطفل والذي يميزهم بهذا السن ، لتعود بعدها لقناع الجدية وهي تهمس بهدوء جاد
"لأنني ببساطة لم اكن املك رخصة قيادة لأستطيع قيادة هذه المركبة الرائعة ، وما ان اصبح لدي رخصة قيادة اشتريتها ، هل فهمت يا صغيري ؟"

اومأ برأسه ببراءة وهو يهمس بلهفة بالغة
"انتِ محظوظة جدا يا معلمة روميساء ، اتمنى لو املك رخصة قيادة لأستطيع عندها قيادة ما يحلو لي من انواع السيارات حديثة الطراز لكي اذهب بها حيث اشاء وبدون مساعدة اي احد ليوصلني للمنزل"

حادت بنظراتها نحوه بحيرة من افكاره الغريبة بخصوص السيارات واحلامه والتي تدور نحوها على طفل بعمره ! لتعقد بعدها حاجبيها بوجوم ما ان تابع كلامه وهو يضرب على صدره بقبضته الصغيرة قائلا بثقة طفولية
"انا اعدكِ بأنني عندما اكبر سأشتري سيارة جميلة وافضل من سيارتك ، وعندها يمكنني ان اوصلكِ للمكان الذي تريدينه وتحبين زيارته"

حركت رأسها للأمام بابتسامة هادئة وهي تتابع بنظرها عمل المساحات الآلية والتي كانت تمسح قطرات المطر برتابة ، لتهمس بعدها بلحظة بخفوت مبتسم
"ولكنك نسيت والدك ! ألا تريد ان توصله معك بسيارة احلامك ؟"

ردّ عليها الذي عبست ملامحه وهو يتمتم بحزن
"إذا كان لا يحب ان يوصلني معه بسيارته للمنزل ، فأنا ايضا لا اريد ان اوصله بسيارتي المستقبلية"

تغضن جبينها بوجوم للحظات قبل ان تهمس بحزم صارم
"لماذا تقول مثل هذا الكلام عن والدك ؟ هو اكيد لا يتقصد عدم الحضور وايصالك للمنزل ، هو فقط لديه ظروف واشغال تمنعه من ايصالك دائما"

اعتدل بجلوسه وهو يكتف ذراعيه بصمت هامسا بغضب
"ولكنني اشعر بأنه لا يحبني فهو يحب العمل اكثر مني ويفضل قضاء الوقت بالعمل على قضاء الوقت معي ! فهو يقضي كل ايامه بالعمل وحتى عندما يعود للمنزل يتجاهلني بحجة العمل"

عقدت حاجبيها بألم وهي تعود بنظرها للقطرات المتسربة على زجاج النوافذ الامامية بدون كلام والندوب بروحها تعود لتذكرها بحياتها والتي لم تكن بأفضل حال من حياة هذا الطفل ! فهي كانت يتيمة رغم وجود الوالدين والذين لم يكن يهمهما بحياتهما سوى العمل والانشغال بذلك العالم القاسي بعيدا عن الطفلتين ، لتنجبر واحدة منهما على رعاية الاخرى بغياب الوالدين والذين لم يستطيعا يوما تحمل مسؤوليتهما ورعايتهما كما ينبغي بعالمهما الخاص والمليء بالمشاكل والحروب منذ سنوات والذي انتهى بموت احد الوالدين .

بعد مسافة قصيرة اخذت منها اكثر من وقتها بسبب زحمة السيارات بهذا الجو الماطر والتي اصبحت وجهة البعض منهم الوصول لبيوتهم بسلام قبل ان تسوء الحالة الجوية اكثر ، كانت تركن عندها السيارة على الطريق المقابل لبناء منزله ، وما ان حاول الطفل فتح باب السيارة بجانبه حتى اوقفته التي امسكت بذراعه وهي تقول بحزم
"انتظر يا سامي ، المطر ما يزال يهطل بغزارة ، لا تخرج قبل ان يتحسن الجو قليلا لكي لا تصاب بالبرد"

اومأ برأسه بطاعة وهو يعود بظهره لمقعده بصمت ، لتعود بالمقابل للجلوس بهدوء وهي تراقب قطرات المطر الغزيرة والتي كانت المساحات الآلية تعمل مهمتها بمسحها كل دقيقة لتتضح الرؤية امامهما .

وبعد عدة دقائق طويلة لمحت سيارة بعيدة بأضواء خاطفة اعمت بصيرتها للحظات ، ولكن ليس هذا ما لفت انتباهها بل صراخ الجالس بجانبها وهو يهتف بسعادة
"هذه سيارة ابي"

اتسعت عينيها بوجل ما ان خرج الطفل بجانبها من باب السيارة بلمح البصر ، لتنزع بعدها حزام الأمان وهي تخرج من فورها وراء الطفل ، وقد بدأت قطرات المطر بالهطول بغزارة على كامل ملابسها وشعرها ، ولكنها لم تأبه ونظراتها تلاحق الطفل الذي توقف عند الطريق بلهفة بانتظار قدوم والده ، وما ان حاولت اللحاق به حتى لمحت اضواء سيارة اخرى تبدو مسرعة من قيادتها المتهورة والذي يبدو بأن صاحبها قد فقد السيطرة على قيادتها ، وهي تترصد للسيارة امامها والتي لم تكن سوى سيارة والد الطفل .

تحركت باندفاع وهي تجري باتجاه الطفل وكل ما يحركها هو الخوف والذي نشبت عليه منذ كانت طفلة ، وبدون شعور منها عانقت الطفل بقوة وهي تدفن وجهه الصغير بصدرها ، ليتبعها بعدها بلحظة صوت تصادم قوي لسيارتين صدمت الواحدة منهما الاخرى بعنف والتي كانت تقود بتهور ليحدث تصادم خطير يشاركه صوت زخات المطر القوية وكله قد حدث بلحظة واحدة .

ما ان عاد السكون للأجواء الكاتمة وبصمت تام متناقض عن الصخب والذي سبقه بلحظة لم يعد يقطعه الآن سوى صوت المطر والذي خفت عن السابق ، لتشعر بعدها بارتخاء ذراعيها لبرهة ما ان تحرر الطفل من قيودها ليهرول بعيدا عنها باتجاه الحادث بمنتصف الطريق والذي تجمع من حوله الآلاف من البشر ، بينما عينيها الخضراوين المتسعتين بوجل تشاهد كل ما يحدث بروح ميتة وبقلب تعب من النبض ، وهي تراقب شريط حياتها يعاد امامها بشكل مختلف واكثر وقعا على روحها وهي تعايش الفقد بكل معانيه والذي ينتهي عادةً بفقد احد الوالدين او بفقدهما معا وبآن واحد وعندها لا نستطيع فعل شيء سوى التعايش مع قدرك المرسوم لك بهذه الحياة .

_______________________________
تنفست بارتجاف وهي تعانق ذراعيها بشدة من البرد القارص والذي اصبح يحوم بالأجواء ، وعينيها الغائمتين بسحابات الحزن والأسى تتابع قطرات المطر الصغيرة والتي كانت تسيل على زجاج النافذة ببطء وصعوبة ، وهي تشاركها هالة الحزن والتي خيمت على حياتها فجأة بعد مسيرة من حياة مبهجة مليئة بالسعادة والفرح بدون اي ندوب او حزن ، لتكون هذه نهاية كل احلامها والتي بنتها من اجل تلك الحياة السعيدة والمنتظرة لبطلة حكايتها والتي تقمصت دورها منذ طفولتها !

رفعت كفها امام زجاج النافذة الباردة والتي اشبعت بسحب ضباب الامطار ، لتخط عليها بأصبعها السبابة وهي تشكل على زجاجها بلحظة شكل وجه مبتسم كما اعتادت ان ترسم بأيام الطفولة ، عندما كانت تجدها متعة برسم الوجوه المبتسمة على نوافذ السيارات بأيام الشتاء البارد ، وكأنها تنشر السعادة بالعالم الكئيب ليصبح اكثر بهجة شبيهة بحالتها الدائمة مهما كان الوضع الذي تعيشه من حولها ، عبست زاوية من شفتيها بحزن وهي تخفض كفها ما ان تسربت قطرة ماء صغيرة لتمحي الابتسامة عن الوجه المبتسم ، وهو يتحول لوجه عابس حزين اختفت عنه كل سبل السعادة بالعالم بدون ان ينفذ الفرح بداخله وهو يفقد طريقه إليها !

مسحت الدمعة الهاربة من عينيها وهي تعيد الخصلات الحريرية لخلف اذنيها بهدوء وصمت تام ، لتشدد بعدها من تطويق صدرها بذراعيها وهي تريح جانب رأسها على إطار النافذة سابحة بذكريات بعيدة عادت واخذتها إليها ، بعد ان نست وجودها وقيمتها بحياتها الحالمة وما ان سمعت ذلك الاسم القديم لشخص مجهول الهوية كان يبدو بطلها المنتظر والذي تجسد امامها فجأة مثل الحلم الخاطف والشبيه بأحلام يقظتها !

اخفضت جفنيها على حدقتيها العسليتين وهي تتذكر اللحظة بكل تفاصيلها عندما كانت تلعب قريب من مدخل باب المنزل وحدها وهي تقفز فوق مربعات الرخام بالطريق على قدم واحدة ، ليظهر بعدها بلحظة الرجل الطويل والذي اصطدمت به عند ساقيه بسبب طوله الفارع حتى كادت تقع للخلف وهي تتشبث بساقيه بكفيها الصغيرين بخوف ، مرت لحظات قبل ان تفلت ساقيه ببطء وهي ترفع وجهها الصغير بوجل وبعينين متسعتين برعب باتجاه التمثال الساكن امامها والذي يبلغ رأسه عنان السماء بالنسبة لطولها والذي لا يتجاوز ساقيه !

كانت تشاهد شاب بمقتبل العشرين من العمر بملامح سمراء هادئة بدون اي تعبير يعلو ملامحه الساكنة ، ولكنها للغرابة لم تشعر بأي خوف فطري نحو هذا البشري الغريب عنها بالرغم من التحذيرات والتنبيهات والتي كان يمطرها بها والدها دائما بخصوص عدم الاقتراب من الاغراب وعدم اعطائهم ثقتكِ مهما حدث ! فما سبب هذه الراحة والتي بعثها مظهر هذا الغريب بروحها بسكينة وسعادة زرعت الفرح بقلبها ؟

عقدت حاجبيها الصغيرين بحيرة ما ان انقلبت ملامحه بعبوس متجهم وبعدها لشيء آخر لم تفهمه ولم تهتم له ؟ ليتبعها بعدها بلحظة انحناء ذلك الجسد الطويل امامها بلمح البصر وهو يجثو على ركبتيه ، ليصل لمستوى وجهها والذي كان ينظر له بابتسامة متسعة ببراءة كانت تزيد تلك العيون العسلية بريقا ذهبيا شبيه بالشموس الصغيرة .

ابتسم بعدها بجمود وهو ينظر لها عن كثب قبل ان يهمس بابتسامة غامضة
"ما هو اسمكِ يا صغيرتي ؟"

زمت شفتيها الصغيرتين وهي تهمس من بينهما بعفوية
"اسمي هو صفاء جلال"

اومأ برأسه ببرود وابتسامة غريبة كانت تعلو ملامحه بتصلب بدون ان تفهم سببها ؟ لتقول بعدها من فورها وهي تبتسم ببراءة
"ومن تكون انت يا سيد ؟"

اعاد نظراته للأمام وهو يضيق عينيه السوداوين لبرهة ، لينطق بعدها بلحظة بابتسامة جانبية بخفوت
"انا اكون فارس احلامكِ يا صغيرتي"

اتسعت عينيها العسليتين بدهشة قبل ان تتحول بلحظة لسعادة بالغة وهي تهمس بلهفة طفولية
"هل انت حقا فارس احلامي والذي سيتزوج بي عندما اكبر مثل قصة سندريلا !"

ارتفع حاجبيه بجمود وهو يتابع فرحتها الطفولية وتصديقها لهذا الأمر ببساطة صامتة ، ليزيد من حدة ابتسامته الملتوية وهو يتمتم بجمود متقد مغلف بمشاعر مكبوتة
"ربما ! فلا احد يعلم ما يخبئه لنا القدر ؟"

انفرجت شفتيها بعدم استيعاب قبل ان تعود للابتسام بسعادة وهي تعتبرها موافقة من فارس احلامها والذي سيكون زوج المستقبل والذي انتظرت قدومه بعالمها كثيرا مثل قصص الافلام المتحركة والتي تشاهدها على شاشة التلفاز يوميا ، ليعود للكلام مجددا الذي عاد للوقوف امامها وهو يرفع يده لها قائلا بابتسامة هادئة بدون اي تعبير
"ما رأيكِ ان نذهب معا بجولة بالحديقة ؟ سنستمتع كثيرا بوقتنا"

اخفضت نظراتها ليده الممدودة للحظات وهي تفكر باحتمالية صحة الذهاب معه ! ولم تأخذ منها سوى لحظة قبل ان تمسك بيده بكفها الصغيرة وهي تهمس بابتسامة كبيرة
"انا موافقة هيا بنا"

شدد من تطويق كفها الصغيرة وابتسامته تتسع بجمود مع نظراته والتي كانت تتابع بانتباه لهفة الصغيرة والتي تبدو مستعدة للذهاب معه لآخر العالم بدون اي تردد ظاهر على ملامحها الطفولية ، والتي كانت تذكره بشيء بعيد جدا غلفه ببرود وقسوة روحه وبدون اي ذرة شعور بالذنب دفنه بداخل ركام حياته .

بعد مرور دقائق كانوا قد وصلوا بها للحديقة اسرعت الطفلة بالجري بعيدا باتجاه بائع المثلجات ، قبل ان تقف امامه وهي تنظر بحماس للذي كان يسير نحوها ببطء بعكسها ، وما ان وصل كذلك عند بائع المثلجات حتى طلب منه مخروط من المثلجات لها ، لتقول بسرعة التي كانت تقفز بحماس وهي تقول بسعادة
"اريد مثلجات بنكهة الفراولة والفانيلا"

وضع البائع كريات الفراولة والفانيلا بالمخروط قبل ان يقدمه لها ، ليقول بعدها بتساؤل للواقف بجانبها
"ألا تريد انت ايضا المثلجات ؟"

كان يدس يده بجيب بنطاله قبل ان يناوله الاوراق المالية وهو يقول بجمود
"لا شكرا ، لا اريد"

حرك البائع رأسه بعدم مبالاة وهو يتناول النقود منه ، وما ان كان على وشك الرحيل حتى اوقفه البائع وهو يقول بجدية
"انتظر ! ألا تريد باقي نقودك !"

توقف قليلا بمكانه وهو يمسك بيدها الصغيرة للتي كانت منشغلة بتناول المثلجات بسعادة ، قبل ان يكمل بلحظة سيره معها قائلا ببساطة
"يمكنك الاحتفاظ بالباقي"

كان يحيد بنظراته بين الحين والآخر باتجاه الممسكة بيده وهي تتناول مثلجاتها بيدها الأخرى ، وبعد ان لطخت شفتيها بسائل المثلجات وهي تلعق حول شفتيها بلسانها الصغير كل لحظة باستمتاع واضح على تفاصيل وجهها الصغيرة ، وهو لا يفهم كل هذه الثقة العمياء والتي تكنها نحوه بأول لقاء بينهما بدون ان يدخل بقلبها الصغير الشك او الخوف منه ؟

افاق من افكاره بعبوس ما ان اشارت بيدها الصغيرة الممسكة بالمثلجات الذائبة وهي تقول بحماس منبهر
"انظر هذه المرأة تملك ورود جميلة !"

رفع نظراته باتجاه الذي تشير له ليلمح عندها امرأة كبيرة بالسن تقريبا تمسك بباقة ورود من كل الألوان وهي تلف وشاح مورد فوق رأسها شبيه بألوان الورود بين يديها ، وما هي ألا لحظات حتى كانا يقفان امامها تماما وهي تقول لهما بابتسامة بشوشة بمودة
"ما هو نوع الورود الذين تريدان شرائه ؟"

تدخلت الطفلة التي امسكت بيده بكفيها الصغيرين بتشبث قائلة برجاء متوسل
"ارجوك اشتري لي وردة ، اريد وردة"

حانت منه التفاتة جانبا وهو ينظر لشفتيها العابستين بحزن وعينيها الواسعة بالدموع ناظرتين له برجاء صامت ، وهو يشعر بسائل المثلجات يلتصق بيده بعد ان امسكت بيده بكفها الصغيرة الباردة والتي كانت تمسك بها مخروط المثلجات ، ليشيح بعدها بوجهه بعيدا عنها بضيق وهو يقول للمرأة بخفوت باهت
"هلا اعطيتني زهرة دوار الشمس ؟"

تهللت اسارير المرأة بسعادة وهي تقدم للزبون زهرة دوار الشمس ، ليمسك بعدها بالزهرة وهو يلمح فرحة الطفلة بجانبه والتي برقت بعينيها العسليتين بابتسامة كبيرة ، لينحني عندها امامها بلحظة وهو يقدم لها الزهرة والتي تناسب شكلها كما يرى ، لتمسك بها بالمقابل وهي تلوح بها هامسة بابتهاج عسلي فرح شبيه بشعاع زهرة دوار الشمس
"شكرا لك يا فارس احلامي ، احبك كثيرا"

تشنجت ابتسامته قليلا بدون ردّ وهو يحاول ابعاد شعاعها الذهبي والذي اخترق حياته فجأة بدون سابق إنذار .

وصل بالنهاية عند باب مدخل منزلها من حيث احضرها بعد تقريبا ساعة كاملة بالتجول بالحديقة ، ليقول بعدها بابتسامة جامدة بغموض
"حسنا لقد انتهت الجولة ، يمكنكِ الذهاب الآن يا صغيرتي"

اومأت برأسها بابتسامة حزينة قبل ان تقول بسرعة وهي تلوح بيدها الصغيرة بلهفة
"انتظر قليلا ! دقائق لأخبر ابي بوجودك ليأتي ويتعرف عليك ؟ سيسعد كثيرا بوجودك"

لم تمهله الوقت ليجيب على كلامها فقد كانت قد انطلقت بعيدا عنه لداخل المنزل ، وما ان عادت بعدها بدقائق وهي تسحب والدها قائلة بحماس
"انظر يا ابي ، ها هو !....."

انفرجت شفتيها الصغيرتين بصدمة ما ان اكتشفت عدم وجوده وخلو المكان منه ، ليقول بعدها والدها وهو يجول بنظراته بالمكان بحيرة
"صفاء من هو الذي تريدين مني لقائه ؟"

التفتت نحوه وهي تهمس بعبوس طفولي
"لقد كان هنا فارس احلامي"

ارتفع حاجبيه لوهلة قبل ان يضحك بمرح وهو يقول بابتسامة حانية
"هل هو صديق وهمي جديد يا صفاء !"

استاءت ملامحها اكثر وهي تهمس بتذمر
"غير صحيح هو ليس وهمي......"

قاطعها وهو يقول بجدية صارمة
"غير مهم يا صفاء ، ومرة اخرى إياكِ والتأخر باللعب خارج المنزل والابتعاد عنه ، فهذا يشعرني بالخوف والقلق عليكِ طول وجودكِ بالخارج ، سمعتي يا حبيبتي ؟"

اخفضت رأسها للأسفل بوجوم وهي تنظر للزهرة والتي ما تزال بيدها هامسة بخفوت مستاء
"حاضر يا ابي"

نهضت عن الكرسي بجانب النافذة وهي تنفض غمامة الذكريات عن رأسها والتي لن تجلب لها سوى الحزن على ذكريات واراها الزمن بين طياته المنسية ، لتصل امام المكتبة بزاوية الغرفة وهي تخرج من ادراجها دفتر صغير شبيه بمفكرة صديقتها (ماسة) والتي اشترياها معا من نفس المتجر بطفولتهما .

جلست على الكرسي وهي تقلب بين صفحات مفكرتها قبل ان تقف على صفحة كانت تحوي زهرة ذابلة من نوع دوار الشمس والتي اكل منها الزمن ما اكل بدون ان تدفن بريقها الذهبي والتي ما تزال تحتفظ به للآن ، وهي تشعر بنفس السعادة والتي انتابتها منذ لحظة حصولها على زهرة دوار الشمس من ذلك الفارس المنتظر ، والذي لم يصدق احد بوجوده وهمّ يظنونه مجرد وهم من وحي خيالها الخصب ولا وجود له بالواقع ، حتى اثبتت بالنهاية صحة وجوده بعالمها وتجسد شخص حقيقي بحياتها وهو يحقق كلامها بالزواج منها والذي لم يكن مجرد خيال ابتدعه عقلها الحالم ، وكم تتمنى بهذه اللحظة لو بقي مجرد خيال تحيى عليه وتسعد بوجوده فقط بتلك المخيلة ، والتي لا يعلم احد بوجودها غيرها بدل الألم الغائر والذي تعيش عليه يوما بعد يوم وكله بفعل يديها !

نهاية الفصل وبانتظار آرائكم وتفاعلكم بفارغ الصبر ❤


روز علي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس