عرض مشاركة واحدة
قديم 18-09-21, 09:39 PM   #150

روز علي
 
الصورة الرمزية روز علي

? العضوٌ??? » 478593
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 711
?  نُقآطِيْ » روز علي is on a distinguished road
افتراضي الفصل الرابع والعشرون

الفصل الرابع والعشرون.........
وصلت امام الحافلة والخاصة بالترحال بين المدن وهي ترفع نظراتها من تحت حافة قبعتها والتي كانت تقييها من قطرات المطر القوية ، قبل ان تدخل من فورها من باب الحافلة والذي فُتح امام الركاب المنتظرين والهاربين من الأمطار الغزيرة ، والتي لم تتوقف لثانية لتغرق كل طرقات الأحياء والقانطين بها بكل مكان .

ما ان دخلت حتى اختارت المقعد الفارغ والمتبقي امامها من بين عدة مقاعد شاغلة ، لتجلس عليه بلحظة وهي تسند ظهرها للخلف بتعب وإنهاك استبد بها بعد تلك المسافة الطويلة والتي اخذت منها كل ذرة طاقة كانت مختزنة بداخلها بعد خروجها من بيت صديقتها ، لتضيع بين زحمة المواصلات والتي ارهقت جسدها والذي ما يزال للآن يعاني من آثار مرض الأمس ، ولكنها مع ذلك لم تهبط من عزيمتها ولم تأثر على سير خطتها بالوصول لبيت صديقتها واطمئنانها عليها بالرغم من انها لم ترتح قط لحالة تلك الفتاة الحالمة وما وصلت له ولتلك الحياة والتي تعايشها مع ذاك الزوج الجليدي ! وكل ما تتمناه بحياتها ان تكذب ظنونها السيئة حولها وان تكون حقا ما تزال صديقتها كما تعرفها وتعهدها بتلك الشخصية المفعمة بالحياة والتي لا يؤثر بها كل سلبيات العالم بروحها النقية الجميلة ، ومع ذلك لا تستطيع تكذيب ظنونها والتي تصيب اهدافها دائما بدون ان تخطئ تفكيرها مثل غريزة الحذر والتي عاشت عليها ونمت بها حتى اصبحت جزء من هذا الجسد والذي تعيش عليه .

رفعت يدها وهي تمسح على مقدمة قبعتها من قطرات المطر والتي ما تزال تسيل منها ، لتتصلب بعدها لوهلة بمكانها ما ان سمعت الصوت المألوف وهو يقول بجانبها بخشونة حذرة
"جميل ان اراكِ مجددا يا حلوة ! يا لها من صدفة رائعة واستثنائية !"

اتسعت حدقتيها الزرقاوين على استدارتهما بجمود وهي تنتفض بمكانها بحركة طفيفة ، لتلتفت بوجهها بحذر للجالس بجانبها بدون ان تنتبه لهويته منذ لحظة جلوسها هنا ! لترفع بعدها حاجبيها ببطء متوجس لبرهة وهي تتجول بنظراتها بجانب وجهه للذي كان ينظر من النافذة بشرود وكأنه ليس من نطق الآن بذلك الكلام من لحظة ؟

عبست ملامحها ما ان تابع كلامه بدون ان ينظر لها وبهدوء ظاهري
"حسنا إلى متى ستبقين تحدقين بي بهذه الطريقة حتى تصدقي بأنني حقيقة امامك ولست وهم من خيال خرج من ابشع كوابيسك ؟!"

عضت على طرف شفتيها بتشنج ما ان تذكرت ما حدث معها بسبب هذا الرجل والذي يكون عضو من عصابة خطيرة والسبب بخطفها من اجل الوصول لشريكهم (مازن) من خلالها ظناً منه بأنها شقيقته ومن ستوصلهم لجحر ذاك المجرم ، ولن تنسى ما حدث بعدها من احداث سريعة بداية من انقاذ (شادي) لها واكتشافه لكل شيء يتعلق بحياتها الماضية حتى اصبحت ورقة رابحة بيده لا تستطيع سلبها منه او التحكم بها نهاية بتحديد موعد زواجها منه والذي حدث بغفلة منها ورغم إرادتها ، وكم هذا الأمر يزعجها ويدفعها لتشعر بالنقمة عليهم بكل شيء يحدث معها للآن .

قالت بعدها بلحظات وهي تشدد من القبض على يديها هامسة من بين اسنانها بانقباض بدون ان تحيد بنظراتها بعيدا عنه
"هل هذه خطة جديدة لمحاولة الانتقام مني بعد ما فعلته بخطتكم الحقيرة وتدمير اعضاء من مجموعتكم باعتقال الشرطة لهم ؟ وبعد كل هذا لا شك بأنكم ستكيدون لي بالفخاخ وتلقيني درساً لن انساه بحياتي لكي لا احاول العبث معكم مرة اخرى !"

حرك رأسه نحوها بلحظات وهو ينظر لها لأول مرة ، ليعقد عندها حاجبيه لبرهة ظهرت معها الندبة واضحة بينهما وهو يبتسم هامسا بدون مرح
"لقد اخطأتِ يا جميلتي بالظن ، لأني لو كنت اخطط لذلك حقا لما بدأت بالكلام معكِ هنا وبحافلة ترحال تحوي على مئات البشر ! فهذا ليس من عادات عملي المعروفة ، وايضا واهم صفة عندي بأني لا اكرر خطأي مرتين فمرة واحدة تكفيني لتعلمني فداحة فعلتي الأولى وآثارها والتي ستبقى ملازمة لي دائما"

عقدت حاجبيها بحدة وهي تهمس بامتعاض
"إياك وان تناديني جميلتي ، وكل هذه الترهات والتي كنت تتكلم عنها فهي لا تهمني ، فأنا لا اثق بك ومن المستحيل ان اثق بمجرم حاول يوما خطفي واذاقني الويل مع اصدقائه ، وكله من اجل الوصول لمجرم باستخدام المقربين منه والذين ليس لهم ذنب بأعماله ولا يربطهم به سوى صلة الدم والتي لم تكن يوما من اختيارهم"

اتسعت ابتسامته بجمود للحظات بدون ان تنم على شيء وبدون ان تنتبه لنبرة صوته القاتمة والتي ازدادت برودا وهو يتمتم بشرود
"انتِ على حق لم يكن يوما من اختيارهم"

تغضن جبينها بحيرة وهي تهمس بحدة منفعلة
"بماذا تهمس ؟"

ارتفع حاجبيه ببرود وهو يعود للنظر للنافذة قائلا بعدم مبالاة متعمدة
"لا تهتمي لكل شيء اقوله ، ولا تهمني ايضا ثقتك من عدمها فأنا لم اطلب منكِ تصديقي بكل الاحوال ولا اخذ رأيكِ على كلامي"

تنفست بوجوم وهي تتنقل بنظرها بتوجس بعدد الركاب بالحافلة والذين يتجاوزون اكثر من عشرين راكب وكل منهم منشغل مع اصدقائه ورفيقه بالرحلة وسيكون من الجنون افتعال فضيحة او مشكلة بين كل هذا القوم والذي سيسبب لكل منهما بفضيحة علنية ستنشر بكل الصحف ، لتكتف بعدها ذراعيها فوق صدرها بتصلب وهي تعود لتسند ظهرها بهدوء عليها الالتزام به حتى نهاية الرحلة ، والتي ما تزال الطريق امامها طويلا بدون ان تعلم من اين ظهر لها هذا الرجل ليسلط بحياتها هكذا وبهذه اللحظة بالذات ؟

ابتسمت فجأة ببرود ساخر ما ان تذكرت من بين غمامة شرودها تضايق (شادي) من انجذاب كل اصناف المجرمين لها تحديدا والذين يحومون من حولها بكل مكان تذهب إليه بدون إرادة منها ، ويبدو بأنه على حق بعد كل شيء فهي لطالما كانت تجذب هذا النوع من البشر بعد ان ترعرعت بينهم منذ شبت عن الطوق .

حانت منها التفاتة نحو الصامت بجانبها وهي تهمس بوجوم طاردة غمامة الحذر عنها
"هل تذهب عادةً بالمواصلات العامة وتتنقل بين المدن كثيرا ؟ ام انها جزء من عملكم نشر الفساد بكل المدن الموجودة على الخارطة !"

حرك رأسه بشرود وهو يتمتم بشبه ابتسامة ساخرة
"لا يا ذكية هذا ليس جزء من عملنا ، بل كنت اعمل زيارة عائلية لبعض الاقارب بهذه المدينة وايضا زيارة لبعض الاحباء"

ارتفع حاجبيها ببرود وهي تهمس بخفوت ساخر
"لم اكن اعلم بأنكم من نوع البشر الذي يملك احباء بحياته ! لم اقصد الإهانة ولكن هذا هو الظاهر ؟"

زفر انفاسه بهدوء وهو يعود للكلام قائلا بجمود قاتم
"قد تكونين على حق ، فأنا لم املك الجرأة على الاقتراب منهم او مواجهتهم بعد كل ما حدث بالماضي ، واتمنى لو املك بعض الجرأة لمواجهة تلك الاخطاء والتي لا تغفر ابدا بحياتي والتي ستبقى ندوب عليّ التكيف معها دائما"

انفرجت شفتيها قليلا وهي تهمس بخفوت مستاء
"هل تقصد بأنك لم تقترب من الذين اتيت لزيارتهم بهذه المدينة خصيصاً ؟"

حاد بنظراته نحوها لثواني وهو يحرك رأسه قائلا ببساطة
"لا داعي للتعجب ! فأنا اتنقل دائما بين مدينتي ومدينة احبائي املاً بأن اكسب المقدرة يوما ما واقوم بزيارتهم بدون اي خوف من ذلك الماضي ، ولا اعلم تحديدا متى سيأتي هذا اليوم ؟"

عضت على طرف شفتيها بانفعال مكبوت وهي تشيح بوجهها بعيدا عنه وبعد ان شعرت بأنها تدنو كثيرا من منطقة الخطر وهي تتجاوز حدودها والتي بنتها حول نفسها لتفصل بينها وبين البشر ، ولا تعلم من اين اتى كل هذا الفضول لتدخل بقصة حياته والتي اثارت بداخلها ألم عميق غير مبرر ؟
تنفست بهدوء وهي تعود للكلام بعدها بلحظات قليلة هامسة باقتضاب
"هل ما تزالون تبحثون عن مازن ؟ وتدخلون المقربين منه لتصلوا له من خلالهم ؟"

قطب جبينه للحظات وهو يتمتم بجمود بارد
"الحقيقة لا اعلم فأنا قد خرجت من هذه المهمة منذ فساد تلك الخطة ودمارها ! ولكن ما اعلمه بأن والدي سيبقى مستمر حتى يجد مازن ولو كان بسابع ارض"

عقدت حاجبيها بتوجس من كلامه الأخير والذي لا ينبئ بالخير ! لتقول بعدها بسرعة وهي تهمس بدون ان تمنع نفسها وبتشنج احتل اطرافها فجأة
"فقط سؤال لما يحاول والدك الوصول لمازن ؟ ما لذي فعله لكم مازن لتنقلبوا ضده هكذا ! أليس هو فرد وشريك معكم بالعصابة ؟"

تصلبت ملامحه بجمود صخري لبرهة وهو ينظر لها بسواد احداقه المتقدة بحقد دفين شكت بأنها قد لمحته بعينيه السوداوين والتي عادت فجأة لبرودها المريب ! ليعود بعدها باللحظة التالية للنظر للنافذة بعيدا عنها وهو يتمتم بجفاء ساكن
"نظرتك للأمر خاطئة فهو لم يكن يوما شريكنا او جزء من مجموعتنا ، بل هو مجرد شخص تربطنا به مصالح قديمة بالنسبة لوالدي ، واما بالنسبة لي فلا يربطني به سوى حقد دفين وكره بدائي ما يزال موجود بداخل روح العائلة"

كانت تنظر له بحاجبين مرفوعين بانشداه وبملامح ساكنة وهي تحاول ربط كل الحقائق معا والتي لم توصلها لأية نتيجة وهي تشعر بحلقة مفقودة بكل مجريات القصة !

ادارت رأسها بعيدا عنه وهي تنظر لبعض الركاب والذي بدأ منهم بتجهيز حقيبته بسبب قرب مكان محطته القادمة ، لتشعر بنهوض الجالس بجانبها وهو يقول لها بابتسامة جانبية بجمود
"حظاً سعيدا يا فتاة"

ما ان خرج من امامها وبلحظة خطرت فكرة برأسها كانت قد غفلت عنها تماما ، وهي تنتفض بلحظة ملوحة بذراعها قائلة بصوت مندفع
"هل تعرف اسم جواد مصعب او تربطك به علاقة ؟"

توقف قليلا بسكون لم تدم سوى للحظة قبل ان يقول بلا مبالاة وهو يعاود السير بين الركاب وبعد ان توقفت الحافلة عند المحطة التالية
"انه يكون ابن عمي"

اتسعت عينيها الزرقاوين للحظات بتجمد وهي تنظر لخروج الركاب امامها بدون صوت وبأنفاس كاتمة فقط الضجيج برأسها والذي ربط كل الحقائق معا بسلسلة طويلة تبين كل النتائج الحتمية والتي توصلها لأمر حاسم لا شك فيه ، لتسند بعدها رأسها للخلف لبرهة وهي تخفض جفنيها بصمت على احداقها وعلى رؤية حقيقة ذاك الشعور والمرارة والتي بدأت تلتهم روحها على تلك الحياة والتي تدمرت كلياً قبل ان تبدأ مسيرتها وبداخل قلب نقي لم يعرف للقسوة طريق .

______________________________
ارجع ذراعه لخلف رأسه وهو يضرب بطرف القلم على سطح المكتب برتابة وهدوء وكل ما يدور به عقله هو لحظات ليلة امس واعصار المشاعر والذي دار بتلك اللحظات الفريدة وفوق إرادة كليهما ! وحتى انه قد بدأ يشعر باستسلامها الناعم له بموجة مشاعر جديدة دكت حصونها لتعلن عن انهزامها النهائي امامه والذي لن يدع لأي عائق جديد يصل او يبنى بينهما ، وهو ما يزال على ذاك الوعد بتغيير طبيعة تلك المجرمة البدائية وتحويل نقاط ضعفها لنقاط قوة بحياتهما ، وخاصة باقتراب الجزء الثاني من حياتهما الزوجية والتي لن يتخلل بها اي اسرار او مجهولات بل الحقائق وكشف كل المستور فقط حتى تتعرى امامه تماما بشخصيتها الحقيقية والمدفونة بين ركام الماضي وقبل ان تصبح ما هي عليه الآن .

ولكن المشكلة الآن تكمن بالسر الجديد والذي اخترق افكاره وشوش عليه سير اهدافه المستقبلية من جديد والتي كان يخطط لها منذ فترة وجيزة ، وكل ما يسعى لمعرفته واكتشافه الآن وبأي طريقة هو سبب تواجدها بتلك الشركة وبهيئة غريبة تدعو للشك اكثر ، وهو الذي كان يظنه على الدوام وطيلة حياته الماضية مجرد صبي طائش مجنون يتسكع بالطرقات قبل ان يلمح تلك العينين الباهتتين بلون زرقة سماوية لم يخطئ بهما ولم ينسى نظرتهما المذعورة بذلك الصبي ، وللآن لم تغب عن افكاره ولو للحظة وهو يبحث عن صاحبهما بوجوه الجميع والذين مروا بحياته لسنوات متوالية حتى وجد مسعاه اخيرا والذي صدمه بشدة !

اغمض عينيه لبرهة ما ان مرت على ذهنه تلك اللحظات البعيدة عندما كان يسير بساحة الشركة والتي قدم طلب التوظيف بها ، وبدون سابق إنذار خرج ذاك الصبي من العدم وهو يجري نحوه بأقصى سرعة ، وقبل ان يتدارك نفسه كان يصطدم به بقوة حتى اسقطت بلحظة ذاك الجسد الهزيل ارضا بدون ان يسقط معه وهو يحافظ على ثباته بشق الأنفس بسبب ذاك الاندفاع المنطلق والذي لم يحسب له حسابا .

افاق من صدمته للحظات وهو يخفض نظراته لذلك الجسد الملقى ارضا والذي كان يحاول النهوض بارتجاف منتفض ، وهو يتجول بنظراته بملابسه بحيرة من بنطال اسود ضيق يعلوها قميص بزرقة باهتة وقبعة غريبة صبيانية وهو يبدو لم يتجاوز سن الثالثة عشرة بعد ، تنفس بعدها بكبت وهو يلاحظ سكونه المفاجئ بدون اي حركة وكأنه قد تحنط بمكانه ، لينحني بعدها بجانبه بلحظة وهو يحاول ان يمسك بذراعه النحيل جدا والذي شعر بعظامه البارزة منه ونظراته تدور على ملامحه المخفية عنه قائلا بهدوء متوجس
"هل انت بخير يا فتى ؟ هل تستطيع النهوض ؟......"

تصلب بمكانه لوهلة ما ان التقطت نظراته تلك العينين الزرقاوين بلون باهت سماوي لم يرى شبيه له او مثيل لذلك اللون الغريب ، قبل ان تتسع بلحظة تلك العينين بذعر بلون تموج بالمحيط الهادئ بثواني ، وما هي ألا لحظات حتى اندفع من فوره ذاك الجسد الهزيل بعنف ليلقي به ارضا بعد ان اختل توازنه بلحظة ، وهو ينظر لذاك الفتى والذي هرول بعيدا عنه بلمح البصر ليختفي بغمضة عين وكأنه لم يكن وهو ما يزال جالسا ارضا بحاجبين معقودين بوجوم بدون ان يفهم سبب ما حدث معه الآن ؟

فتح عينيه بثواني ما ان سمع صوت الهاتف وهو يخترق غمامة الذكريات والتي اخذته بعيدا بجنون لحظاتها ، ليزفر بعدها انفاسه بتمهل وهو يلتقط هاتفه ليجيب عليه من فوره قائلا ببرود
"مرحبا من معي ؟"

اجاب عليه من بالطرف الآخر قائلا بصرامة حادة
"ماذا تقول يا شادي ! ألم تعد تعرف رقمي ام انك حذفت اسمي من هاتفك ؟"

عقد حاجبيه بصدمة وهو يعود للنظر لشاشة الهاتف لوهلة قبل ان يضعه بجانب اذنه وهو يهمس بابتسامة صغيرة بمرح
"لا يا احمد ، لقد اجبت على الهاتف بدون ان انتبه لأسمك الجميل والمنير بهاتفي ، ولكن حقك على رأسي واعدك بأن اضع لك نغمة خاصة باسمك لأميزك مرة اخرى ولا اغفل عنك"

عاد للكلام بنفاذ صبر
"كفى يا شادي ، لقد اتصلت بك فقط لأسألك إذا كنت تملك رقم ماسة ؟"

ارتفع حاجبيه بدهشة لبرهة وهو يعتدل بجلوسه بتحفز ، ليهمس بعدها بلحظة بنبرة خطيرة بعد ان اختفى المرح منها
"ماذا تريد من زوجتي يا احمد ؟ ومن اعطاك ايضا الإذن لتدعوها باسمها امامي وطلب رقمها مني بكل جرأة ! هل يعقل بأنك قد صدقت كلامها بالأمس عن فكرة زواجها منك ؟......"

قاطعه من بالطرف الآخر وهو يقول بانفعال منذهل
"اخرس يا شادي وتوقف عن التحامق ، انا لم اقصد كل هذا يا احمق ، وكل ما اردته هو الاتصال بماسة لأطمئن إذا كانت روميساء معها او إذا كانت تعرف مكانها ؟ وهذا كل شيء"

ارتفع حاجب واحد بريبة وهو يهمس بشك
"حقا ما تقول ! ولماذا إذاً دعوتها باسمها بدلا من ان تقول زوجتك فلا تنسى بأنها زوجتي الآن واسمها قد اصبح محرم عليك ؟"

ردّ عليه بخشونة وقد بدأ صبره ينفذ منه
"ارجوك يا شادي هذا ليس وقته الآن ، واخبرني هل تملك رقمها ام لا ؟"

عقد حاجبيه فجأة وهو يقول بتفكير مراوغ متجاهلا كلامه الاخير
"انتظر لحظة ! هل قلت تريد الاطمئنان على روميساء ؟ ولما تريد السؤال عنها هل هي بخير ؟"

تنفس بتحشرج واضح وهو يهمس بكبت مرهق
"لا اعلم ماذا اقول لك ؟ فهي لم تعد للمنزل للآن ولا تجيب على اي من اتصالاتي بالرغم من انها لم تفعلها من قبل ! ودائما ما تكون موجودة بالمنزل على موعدها"

استد ذقنه فوق قبضته وهو يقول بتفكير عميق
"قد يكون جاء امر طارئ اضطرها للتأخر بعملها بالمدرسة !"

ردّ عليه بشرود وهو يحرك رأسه بالنفي
"غير صحيح ، فقد ذهبت بنفسي للمدرسة وتأكدت بأنها قد غادرت منها منذ فترة طويلة"

اومأ برأسه بهدوء وهو يبتسم بتصلب باهت ، ليقول بعدها بلحظة بابتسامة باردة بغموض
"لا تقلق ، فهذا هو المتوقع والمعروف دائما من بنات عمتنا مايرين !"

عاد للكلام بحدة وهو يزفر انفاسه بضيق
"رجاءً يا شادي ، هل معك رقم ماسة لأتصل بها ؟ فأنا احتاج له بشدة"

ابتسم بهدوء وهو يبعد ذقنه عن قبضته ليريح رأسه بمسند الكرسي قائلا بكسل
"اجل املك رقمها"

ردّ عليه بسرعة بلهفة
"اجل هيا اعطني اياه"

عقد حاجبيه ببطء لوهلة وهو يعبس بلحظات قائلا بحزن مصطنع
"اعتذر منك حقا ولكني تذكرت بأن الرقم الذي املكه لم يعد بالخدمة فهو لهاتفها القديم والذي تحطم بالفعل ، وهي الآن لا تملك اي هاتف لتتصل به"

مرت لحظات ساكنة قبل ان ينفجر من بالطرف الآخر وهو يصرخ بحنق غاضب
"ولما لم تقل هذا منذ البداية ؟ اللعنة عليك يا شادي !"

اتسعت ابتسامته وهو يكتم ضحكته بأسنانه قائلا من بينهما بروية
"اهدئ يا احمد ، واسمع......"

توقف عن الكلام وهو يبعد الهاتف عن اذنه بصدمة ما ان اقفل شقيقه الخط بوجهه بدون كلمة وهو يبدو قد بالغ بمضايقته حتى وصل به الغضب لأوجهه ، ليقول بعدها وهو يرفع ذراعه لرأسه هامسا بوجوم
"يا لقلة ذوقه !"

عبست بعدها ملامحه بلحظات وهو يخفض ذراعه بهدوء ما ان تذكر كلام شقيقه وسؤاله عن رقم (ماسة) والذي يعني بأنها لم تعد للمنزل كذلك وألا لما كان سأل عن رقمها ليطمئن منها عن مكان زوجته ! ليعض بعدها على طرف شفتيه بضيق وهو يتذكر كلام (روميساء) الأخير ما ان سألها عن صحة تلك المجنونة والتي لم يجدها بغرفتها بالصباح الباكر وهي تطمئنه قائلة
"لا تقلق عليها يا شادي ، فأنا قد رأيتها وهي تخرج وقد كانت بأفضل حال عن السابق ، واعتقد بأنها تحتاج لبعض الوقت المنفرد مع نفسها قبل ان تعود لحياتنا ، وصدقني مهما بلغ قلقك عليها فهي ادرى الناس بمصلحة نفسها وبما يفيدها ، واتمنى حقا ان تتفهم تقلباتها وكل حالاتها الغريبة فهي ليست تتقصد اضرار احد وليست من الذي يعاني من مرض او انفصام شخصي ، فكل ما تحتاجه هو من يفهمها ويستطيع قراءة طباعها من غير ان تقولها ، وانا متأكدة بأنك ستكون افضل من يفعل هذا"

تنفس بقوة وهو يوبخ نفسه لأنه لم يحاول البحث عنها ومعرفة مكانها بعد كلمات شقيقتها ، فقد ظن بأنها كما قالت تحتاج لوقت مستقطع بحياتها مع نفسها بدون تدخل احد ، وهو يتجاهل ويتناسى الخطر المحيط بها دائما والذي يتربص لها من جميع الجهات ومن اسوء المخلوقات على وجه الأرض .

انتفض عند هذه الفكرة بلحظة وهو ينهض عن الكرسي ليدور بلمح البصر حول المكتب ، قبل ان يصل لسترته على الأريكة وهو يتلقفها بطريقه ليكمل سيره لخارج الغرفة ، وكل فكره بمكانها الآن ونوع الخطر الذي ستكون تواجهه كالعادة وكأنها تجذب الخطر إلى حياتها جذب بدون ان ترحم المسكين والذي عليه دائما حمايتها من ذلك الخطر المحدق بها على الدوام....

______________________________
كانت تجلس فوق مقاعد الانتظار بممر المشفى الطويل وهي تستمع فقط للأصوات المنتشرة من حولها بهمسات كثيرة غير مفهومة ، وكلها تدور حول الحادثة والتي اصيب بها عدة اشخاص بتصادم سيارات عنيف بسبب فقدان احدهم التحكم بمقود السيارة بالطريق المنزلق من الامطار الغزيرة ، ليحدث ما حدث ومن ضمن ذاك الحادث كان يوجد والد الطفل والذي كانت تحاول إيصاله لمنزله بأمان ليتدمر نهائيا ذاك الأمان امام عينيها بصورة لم تتخيلها بحياتها من قبل ، وهي تتمنى ان لا تلتصق تلك الصورة بمخيلة ذاك الطفل لآخر يوم بحياته وبذلك السن الصغير ، فهي تعلم جيدا نتائج تلك الحوادث على نفوس الاطفال بسنواتهم الأولى وما هي آثارها بحياتهم والتي ستترك بصمة وحرقة ستوشم بدواخلهم كعلامة لا تزول من ضمن ذكريات ستتخلد بحياتهم لتفسد براعم الطفولة قبل ان تتحرر من قيودها .

رفعت يديها وهي تمسح وجهها باستغفار ودعاء دائم اصبح يلازمها بكل حادثة تمر امام عينيها لتعيد شريط ذكرياتها المنسية عن بعض تلك الطفولة والتي تحولت لسلسلة معاناة وحوادث عنيفة ما تزال تحرق روحها بلهب الماضي ، وهي تتذكر بذلك اليوم البعيد والشبيه بما تراه الآن عندما اكتشفت بداية الكوارث بحياتهم والتي ادت عن وفاة الذي كان يشكل الأمان وسند لتلك العائلة الصغيرة ، ما تزال تسمع تلك الخطوات المهرولة امامها وهي تمسك بيدها الصغيرة والتي كانت تسحبها منها بعنف محاولة مجاراة سرعتها بخطوات متعثرة ، وعينيها الخضراوين المتسعتين بوجل تراقب التي كانت تغفو على كتف والدتها بعالم آخر بعد ان دق الخبر منزلهم بمنتصف الليل مثل نواقيس الخطر بيوم مظلم اختفى معه ضوء القمر من ايام فصل الشتاء الكئيب .

توقفت بعدها الخطوات بمنتصف الممر الطويل وهي تلهث بتعب وبخفقات قلبها الصغير والذي ما يزال يضرب بأذنيها بصخب ، لترفع بعدها نظراتها بتشتت لوالدتها والتي اوقفت الطبيب بمنتصف الطريق وهي تكلمه بحدة متوترة بعض الشيء
"اريد ان اعرف اين هي غرفة أيمن الفاروق ؟ لقد اخبروني بأنه بهذا المشفى !"

تذكرت جيدا عندما عقد الطبيب حاجبيه بريبة وبحيرة غزت ملامحه الباردة وهو يقول بجدية عملية
"عذرا ولكني لم اسمع بهذا الاسم من قبل ولست المسؤول عن الحالات التي تصل الآن ! فقد انتهت مناوبتي بالفعل وعليّ المغادرة الآن ، لذا يمكنكِ سؤال احد آخر غيري"

شهقت بذعر ما ان تمسكت والدتها بيدها بياقة رداء الممرضين الخاص بالطبيب وبيدها الاخرى كانت تثبت بها ابنتها الصغيرة النائمة على كتفها ، وهي تظهر شخصيتها الأخرى العنيفة صارخة بانفعال حانق وبعد ان استبد بها التعب والقلق بما يحتمل صبرها
"اسمعني جيدا انا لست بمزاج جيد لأسمع هذا الهراء منك ، لأني بحالة من العصبية والجنون قد تدفعني لأرتكب بك جريمة واخبر الجميع عن تقصيرك بعملك والتي قد تلطخ سمعتك بهذا المشفى المحترم وتفسد صورتك النظيفة به ، لذا افعل ما اقوله لك وجد لي غرفة زوجي أيمن والذي نزل حالة عندكم حفاظا على حياتك المهنية"

ابتلع الطبيب ريقه بتوتر واضح وهي تنفض يدها بعيدا عنه محتضنة ابنتها الصغيرة بكلتا ذراعيها بتصلب بدون ان يؤثر بها تعب العمل الطويل طيلة الأيام السابقة وسهر الليالي لإنجازه ، لتنظر بعدها للطبيب وهو يحاول العودة لثباته بعد ان هزت صلابته بلحظة قائلا باحترام غريب متناقض عن الأسلوب والذي كان يتكلم به قبل قليل
"حسنا يا آنسة الفاروق لا داعي للمشاكل ، انتِ ارتاحي هنا قليلا وانا سأذهب لأسأل لكِ عن غرفة زوجك ، وبخصوص مغادرتي من هنا فأنا لن ارحل قبل ان اتأكد من راحتك ووصولكِ لزوجك"

ارتفع حاجبيها الصغيرين بدهشة وهي تنظر للطبيب والذي غادر بسرعة من امامهم وبلمح البصر ، لتوجه بعدها نظراتها لوالدتها والتي ارتمت جالسة على مقاعد الانتظار بتعب تجلى بوضوح على ملامح وجهها الشاحبة ببشرتها الرخامية البيضاء وبفتنة تطغى عليه رغم كل شيء يحدث معها بحياتها .

تقدمت بخطواتها الصغيرة قبل ان تجلس من فورها بجانبها على مقاعد الانتظار ، وهي تراقب المكان الفارغ من البشر بسبب الوقت المتأخر من الليل وهذا ليس غريب على حياتهم والتي لم يتواجد بها احد قط من طرف الوالدين وكأنهم مقطوعين من شجرة ومنفصلين عن باقي جميع البشر والذين لم يعترفوا بوجودهم يوما ! التفتت بعدها بلحظات باتجاه والدتها وهي تقطع الصمت هامسة بدموع حبيسة
"امي ، هل ابي بخير ؟ واين هو الآن ؟"

كانت تراقب بعيون مهتزة التي رفعت يدها وهي تمسح على جبينها المتعرق وشفتيها ترتجفان بدعاء خافت التقطته اذنيها بوضوح ، لتجيبها بعدها بلحظات بصوت خافت مشتد بنبرتها الحادة الصلبة
"اصمتِ يا روميساء ، ولا تنطقي بحرف"

صمتت بالفعل وهي تزم شفتيها المرتجفتين بحزن لتخفض نظراتها لقدميها الصغيرتين بوجوم طغى على المكان من حولهما ، وما هي ألا دقائق عدتها بثوانيها كان يقف الطبيب امامهم بوجه شاحب مرتبك وكأنه قد فقد قدرته على النطق تماما او يعاني من صعوبة بتجميع الكلمات والتي سينطق بها امامهم ! لتتدخل بعدها التي عادت لصلابتها وهي تنهض عن مقعدها ببطء وبعد ان وضعت الصغيرة النائمة فوق المقاعد لتقول بنبرة خافتة بقوة
"هيا تكلم ، ماذا حدث معك بخصوص معرفتك بمكان أيمن الفاروق ؟"

تنفس الطبيب بهدوء وهو يقول بعدها بلحظة وبعد ان سلم امره لمصيره المحتوم
"الحقيقة لقد وصل أيمن الفاروق لهذا المشفى بحالة حرجة جدا وقد حاول الممرضين كل استطاعتهم لإنقاذه ومساعدته ، ولكن قدره كان اسرع منه واخذه منا بالرغم من كل المجهود والذي بذله الطاقم لمساعدته ، وكما نقول فالموت حق ولا يستطيع احد التحكم به فقد حدث وانتهى عمره"

اتسعت عينيها بصدمة وبغمامة مشتتة وهي تحاول استيعاب كل كلمة نطق بها على عقلها الصغير والذي توقف عن العمل لوهلة بالرغم من مهارتها باستيعاب الحوادث من حولها بذكاء فقدته بلحظة غادرة ! لتنهض من فورها عن مقعدها وهي تتجه للساكنة بمكانها والطبيب يتابع كلامه بحزن وهو يحاول مواساتها بعبارات العزاء
"البقاء لله ، وكل نفسٍ ذائقةٌ للموت ، تحلي بالصبر والقوة فكل شيء بالحياة زائل"

عندما لم يجد اي ردّ منها وقد تحنطت بمكانها بدون اي حركة ظاهرة حتى ابتعد عنها من فوره وهو يعود من حيث جاء ، عندها لن تنسى ابدا ملامح والدتها بتلك اللحظة وهي تنظر لتلك المرأة الصلبة المتمردة والتي كانت تخيف الجميع بشراستها وقلة تهذيبها حتى انفض الجميع من حولها ولم يعد اي احد يطيقها بالعالم وبكل مكان تتواجد به حتى اصبح البعض منهم يتمنى اختفاءها من حياتهم نهائيا والأمر والذي شوه سمعة بناتها بالمستقبل ، لقد كانت ترى تلك العينين الزرقاوين الشبيهتين بعينين شقيقتها الصغرى وهي تشحب ببطء بلا حياة فقدت بريقها الخطير بتلك اللمعة المجنونة والتي كانت تحتل تلك العينين الجميلتين ، لتصبح احجار باهتة بدون اي دموع فقط جمود ساكن هو ما جمد تلك العينين كما ملامحها البيضاء وكأن الموت البطيء يزحف فوق تفاصيل تلك الملامح الدقيقة والتي بدأت تظهر عليها تعب السنين بخطوط صغيرة غير مرئية سوى امام عينيها وهي تتجلى عليها واضحة بدون اي اقنعة تخفيها ، بالرغم من ان حياتها مع والدها منذ ولادتها كانت عبارة عن شجارات وتشابكات متتالية وانعدام تفاهم بينهما وكأنهما النقيض عن بعضهما تماما ، وبالحقيقة هي التي كانت تجعل الحياة بينهما صعبة ومستحيلة وبالأحرى هي التي كانت سبب كل شجار يحدث بينهما بسبب موضوع تافه لا يتطلب كل هذا الصخب ، وبكل مرة يعود بطبيعة حياة والدتها المرفهة وروحها الشرسة والتي لا تقبل بالقليل حتى جعلت آخر لحظاتهما بالحياة عبارة عن مآسي ومشاكل خسرت معها ذكريات جميلة لم تستطع صنعها بينهما ولو ليوم واحد ، و لا احد يعلم بقيمة ذلك الذي مات بالمشفى بالنسبة لمرأة حاربت العالم وعائلتها من اجله لينتهي كل شيء بغمضة عين وقبل ان تكتشف مدى حبها له وكم من تضحيات قدمت من اجل هذا الحب !

كله كان بلحظة واحدة فقط قبل ان تمسك بيدها بقوة وهي تهمس بنشيج مضطرب متوجس مما هو قادم
"امي ماذا حدث مع ابي ؟ وماذا كان يقول الطبيب ؟....."

فغرت شفتيها الصغيرتين بارتعاش ما ان قالت الساكنة بمكانها وهي تعود لصحوتها بحقد عاد ليغزو ملامحها الحجرية بجنون
"لقد رحل ، ذلك الخائن الكاذب لقد خذلني بعد ان وعدني بالكثير وهو الآن قد اخلف بوعوده ورحل ببساطة ! تركني بدون ان يعطي اعتبار لأحد ولا لأي من وعوده تلك !"

ردت عليها بسرعة ببكاء منتحب
"ماذا ؟!....."

نفضت يدها بعيدا عنها بعنف وهي تتجه للنائمة على المقاعد بدون ان تشعر بوضع الكارثة والتي حطت على حياتهم ، لتحملها بعدها بلحظات بين ذراعيها وهي تأن بنومها قبل ان تريح رأسها الصغير على كتفها لتعود لسكونها بسباتها الطويل بدون ان تشهد على شيء ! وكيف ستشهد مثلا او تستوعب معنى الفقد والموت على طفلة بعمر الرابعة لم تفقه شيء بعد بالحياة القاسية ؟

نظرت لوالدتها وهي تسير بالممر بخطوات ثابتة تحسد عليها وهي تقول لها بأمر خافت
"هيا يا روميساء لنرحل من هنا"

سارت بسرعة خلفها وهي تجري باتجاهها لتمسك بيدها بلمح البصر وهي تقول ببكاء مترجي
"لا يا أمي ، لن ارحل قبل رؤية ابي ، اريد الاطمئنان عليه......"

قاطعتها بحدة صارخة وهي تلتفت بوجهها نحوها بجنون عاد ليتربص بها بدون ان تهتم بسنها الصغير آن ذاك وصدمة مثل هذا الخبر عليها
"كفى غباء ! اخبرتكِ بأنه قد رحل بدون رجعة ، مثل جميع من قبله ، يعني مات وتركنا وحدنا"

ضمت شفتيها الصغيرتين وهي تحاول خنق شهقاتها الصغيرة ارتجف معها جسدها بعنف ونظراتها الدامعة تتابع التي ابتعدت عنها بدون ان تأبه بالقلب الصغير والذي آلمته بشدة ، وهي تحاول ضبط مشاعرها الطفولية بأول تجربة لها بالفقد وبعد ان فقدت الشخص الوحيد والذي كانت تشعر نحوه بالمحبة الخالصة بأبوية حنونة ستفتقد وجودها كثيرا بحياتها المجردة من اي مشاعر والتي ازدادت قسوة مع رحيله .

انتفضت من ذكرياتها بلحظة والتي سحبتها بغمامتها المظلمة ما ان شعرت باليد الصغيرة والتي امسكت بها وصاحبها يقول بحزن وبعيون دامعة صغيرة
"هل ابي سيكون بخير ؟ انا اشعر بالخوف عليه"

نظرت له للحظات بعيون خضراء شاحبة باهتزاز تظللها هالة من الحزن والأسى من ذكرياتها القديمة والتي اعادها إليها بسؤاله الطفولي والذي نطقت به من قبل لوالدتها بدون إجابة تريحها ، لتمسك بعدها بلحظة بجانب وجهه بحنان وهي تقول بابتسامة هادئة بدون ان تظهر اي من صراعاتها الداخلية
"اجل يا صغيري سيكون بخير ، انت فقط عليك بالدعاء له وهو سيكون بخير"

اومأ برأسه الصغير ببطء وهو يعيد وجهه للأمام بسكون تام ، ابعدت يديها عنه وهي تمسح اطراف عينيها برفق هامسة بالدعاء بداخل قلبها الملهوف عليه وعلى مصير ذاك الطفل إذا اصيب والده بمكروه او وصلت حالته لما لا تحمد عقباه .

تعوذت من الشيطان من فورها وهي تحاول الحفاظ على ثباتها ودفن مشاعرها القديمة بزاوية منسية من روحها السحيقة بدون ان تتركها تخرج للسطح ، لتلتفت من فورها نحو رأس الطفل ما ان همس بوجوم خافت
"انا احب ابي كثيرا ولم اقصد كل الكلام والذي قلته عنه لأنه لا يصطحبني معه من المدرسة ، ولكني احبه كثيرا ولا اريده ان يرحل ويتركني"

زمت شفتيها بارتجاف لبرهة وهي لا تجد ما عليها النطق به بعد ان فقدت كل كلمات المواساة من عقلها بتشتت لم يحدث معها من قبل ؟

اخترق سكون المكان صوت باب الغرفة والذي خرج منه الطبيب المختص بحالة المصاب ، لينهض الطفل عن المقعد من فوره وهو يتجه للطبيب ليمسك بملابسه قائلا ببكاء طفولي
"ماذا حدث لأبي ! هل هو بخير ؟ هل استطيع رؤيته ؟"


امسكت به التي وقفت من فورها وهي تبعده عنه قائلة بخجل مضطرب
"اعتذر فهو متلهف جدا لمعرفة حال والده"

اومأ الطبيب برأسه بتفهم وهو يقول بتفكير
"هل هو ابنكِ ؟"

حركت رأسها بسرعة بالنفي وهي تهمس بارتباك واضح
"لا انا معلمته وهو تلميذي"

عاد ليحرك رأسه ليقول بعدها بابتسامة هادئة باطمئنان
"على كل حال لا تقلقي على صحة الوالد فهو قد اصبح الآن بصحة جيدة ، ونحن قد تكفلنا بتضميد جروحه وكل الرضوض والتي اصابته من الحادث ، فقد كان الحادث عليه طفيف ولم يؤثر كثيرا على انحاء جسده او على عظامه والتي تأكدنا بأنها جميعها سليمة ، وكل ما يحتاجه الآن هو الراحة التامة وبعدها سيعود كما كان وافضل"

تنفست الصعداء وهي تريح كفها على قلبها النابض بعنف اخف عن السابق وكأن النور قد عاد ليشرق من حياتها من جديد وبأمل يشع بأروقة روحها وهو ينفض هالة الحزن عنه والتي اكتسحه بتلك الذكريات السحيقة والتي دفنتها بتراب الماضي ، بينما كان الطفل يعانق الطبيب وهو يقول ببهجة عادت لتشع بتفاصيل وجهه الصغيرة
"هل هذا يعني بأن والدي بخير وسأستطيع رؤيته امامي قريبا ؟"

لتكون اجابة الطبيب ضحكة بشوشة وهو يربت على رأسه بحنان قائلا بثقة
"اجل بني ، والدك بخير وستراه قريبا امامك إن شاء الله"

وكل هذا امام زوج من العيون الخضراء الدامعة بدون ان تمنع تدفقها بتلك المقلتين الواسعتين وهي تخفض اهدابها عليهما بدعاء صامت بأن يبقى الأمل مرابط بحياتها وبكل مساراتها بدون ان تفقد وجوده والذي سيكون منارتها بهذه الحياة الصعبة والتي تحتاج لكل قوة بالعالم لتكمل بها .

______________________________
كان يلوح بالسيجارة بين اصابعه بملل وهو يراقب بنظرات باردة كل البشر الهاربين من تساقط الامطار وهم يركضون بكل مكان بحثا عن الحماية من قوة زخات المطر الغزيرة ، بينما هو واقف تحت مظلية من مظلات المتاجر المغلقة والتي كانت تقييه من زخات المطر وهو مشغول بتدخين سيجارته بلا مبالاة بدون ان يفزع من الحالة الجوية والامطار الغزيرة مثل باقي البشر ، وكأنه يشاهد فيلم هزلي ممل وبمجريات متوقعة بدون اي تشويق او حماس وبرتابة قضت على كل شغف الانتظار !

اخفض ذراعه بتصلب وهو ينفث الدخان من شفتيه بهدوء قاتم ما ان حل الصمت على حياته لوهلة ، وهو يلمح بطرف عينيه السيارة السوداء الغريبة والتي توقفت امام البناية السكنية المقابلة له بلحظة ، ليقبض بعدها بلحظات على السيجارة بيده بتشنج وهو يشعر بألم خاطف عاد ليسري بطول ذراعه بتخدر لحظي .

ضيق عينيه السوداوين بحدة وهو يتابع التي خرجت من السيارة السوداء وهي تمسك بمظلة زرقاء فوق رأسها لتحميها من زخات المطر القوية ، ليتنفس بعدها بما تبقى من دخان سيجارته بقوة وهو يشاهد الوجه الذي التفت ناحية صاحب السيارة ليصبح مقابل له بدون ان تنتبه لوجوده ، وهي تعطي كل انتباهها للرجل الغريب بالسيارة والذي يود لو يعلم صلة القرابة والتي تجمعها به لتسمح له بإيصالها للمنزل والكلام معه على العلن ؟ وهو الذي لم يعرفها سوى امرأة محافظة لا تملك اي علاقات بحياتها سوى العلاقة والتي كانت تجمعه بها فيما سبق بالرغم من عنادها بصنع الحدود بها على الدوام ؟ ولكن ليس هذا ما زاد شراسة ملامحه الحادة بلحظة لتظهر جينات والده البدائية بصفة المجرمين حتى برزت الندبة بين حاجبيه بحدة ، وهو يراقب ابتسامتها الجميلة والتي كانت تهديها للرجل بالسيارة دون سواء والتي تظهر غمازتيها بوضوح والمعروف بأنها لا تهديها لأحد سوى للمميزين بحياتها ، وهو كان من ضمنهم يوما ما قبل ان تقصيه منهم بدون وجه حق !

زفر انفاسه بلهيب حارق وبنفاذ صبر على وشك فقده امام ما يجول به تفكيره وعينيه تكاد تقتل كل ما تصله انظاره السوداء المتوحشة بقتامة وهو يحاول ان يشتت تفكيرها بعيدا عنها ، ولولا تدريباته والذي اكتسبها بضبط نفسه وتقييد مخالب الشيطان بداخله والتي تتربص بروحه على الدوام ليس لسبب سوى من اجل المحافظة على علاقته بتلك الفتاة منذ تعارفه بها والتي قلبت كل موازين حياته بأيام ، وألا لما كان بقي مكتوف اليدين هكذا بدون حراك وبدون قتل صاحب السيارة الآن وبهذه اللحظة او حرق المركبة والتي يجلس بها ، ليتعلم عندها عدم الاقتراب من ممتلكات الآخرين والخاصة بهم !

اخفض نظراته للسيجارة بيده والتي سحقها بقبضته بدون ان ينتبه لتصبح عبارة عن رماد ، وهو يستمع بنفس لاهث لصوت السيارة والتي تحركت بعد خمس دقائق كاملة منذ وقوفها لتغادر بلحظة بعيدا عن مجرى سمعه .

رفع رأسه بسرعة باتجاه التي كانت تتابع بنظراتها ابتعاد السيارة بطريقها ، ليخطو بعدها بدون إرادة منه وبعد ان فقد قدرته على التحكم بأجزاء جسده وهو يسير بحركات جامدة وبطريق مستقيم لأول مبادرة منذ لحظة فراقهما ، وهو يتابع بتركيز التي استدارت بعيدا عنه بلحظة امام البناية السكنية وقبل ان تتحرك قال من خلفها بقوة وهو يأخذ موقعه من خلفها بجمود
"من كان هذا الرجل والذي تبرع بإيصالكِ للمنزل بهذا الوقت من الليل ؟"

سكنت بمكانها للحظات بدون اي حركة لترتدي قناع الجمود من فورها وهي تهمس بدون ان تستدير له
"هذا ليس من شأنك ، وارحل من هنا"

عبست ملامحه بوجوم وكأنه لم يفاجئ وهذا ما كان يتوقعه منها ! تلك الفرسة الأبية والتي لا تهوى الاستسلام او الخنوع امام أياً كان من يقف بمواجهتها وهذا ما كان يزيد شرارة الحب المتبادل بينهما فيما مضى .

تنفس بعدها بكبت وبهواء المطر والذي غرق ملامح وجهه بدون ان يأبه لذلك ، وهو يعود للهمس بجمود صخري
"تكلمي يا سيدرا واجيبِ على سؤالي ، فالصبر عندي له حدود ، من يكون صاحب تلك السيارة والتي كنتِ تركبين بها وتكلمتِ معه لخمس دقائق كاملة بدون ان تهتمي لوجودك بالطريق العام امام مئات البشر ؟!"

كان يشعر بتنفسها المرتجف او المندهش بعض الشيء قبل ان تهمس بلحظة بسخرية واضحة
"من يعلم ! ربما يكون حبيبي او خطيبي او زوجي......"

قاطعها بصرخة متوحشة وهو يزمجر فوق صوت المطر القوي والذي طغى عليه
"سيدرا إياكِ !......."

انتفضت بمكانها وهي تستدير نحوه بعنف متشبثة بمقبض المظلة الخاصة بها بكلتا يديها صارخة بعصبية
"ومن تكون انت بحياتي لتسأل مثل هذا السؤال الخاص ؟ ومن وضعك جاسوس على حياتي بعد ان نفضتك منها وهددتك بعدم الاقتراب منها مجددا !"

تصلبت ملامحه لثواني وهو ينظر لوجهها المحمر بفرط الغضب والذي كان ملتف بوشاح ابيض ناعم يحدد استدارة وجهها والذي اشتاق لرؤيته كثيرا بكل هذا القرب منذ وقت بعيد ، ابتسم فجأة بتلك الابتسامة الحادة المتملكة والتي لا تظهر سوى امامها وهو يقول بثقة باردة
"بل انا اكون اكثر من شخص غريب عنكِ بحياتك ، انا كل الأشياء الجميلة والتي كنتِ تتمنينها دائما وتحققت بوجودي وهذا على لسانكِ انتِ"

زمت شفتيها بانفعال حانق وهي تزيد من توهج وجنتيها المحمرتين بانتفاخ ، لتقول بعدها بلحظات بابتسامة ساخرة بشماتة وهي تلوح بأصبعها السبابة امامه بعنف
"حقا يا سيد اوس ، تعجبني كثيرا ثقتك الزائدة بنفسك ، ولكنك نسيت بأن هذا كان من الماضي عندما كان موجه لشخص يتصف بالنزاهة والشرف والنخوة ظننته يوما بك ، والآن وبعد ان انكشف كل المستور وظهرت حقيقتك الشنيعة والتي اخجل من ذكرها واختفت عني تلك الغمامة والتي كانت تمنعني عن رؤيتك ، استطيع ان اقول لك بأنك لا شيء امامي الآن ولا تشكل بحياتي سوى فاصل قصير وحب اعمى اخذني على حين غفلة ، هل سمعت يا ابن المجرم اوس متحت ؟ والآن ارحل قبل ان اجري معك إجراء آخر واحقق تهديدي السابق لك والذي يبدو لم يخيفك بما يكفي لتقف امامي مجددا"

تجمد بمكانه لبرهة بتلك الملامح الحجرية المنحوتة بتفاصيل وجهه والتي يتقن اخفاء كل مشاعره خلف واجهتها ، بدون ان يعلم احد عن الصراعات والتي يعاني منها بدواخله على مدار سنوات ! حتى بان الألم بتلك الأحجار السوداء بلمحة خاطفة بدون ان يستطيع كبح ألمها من ان تطفو على السطح .

عاد لقناع البرود فجأة وهو يتقدم نحوها بخطوتين قبل ان يمسك بذراعها بلمح البصر ، وهو يهمس امام وجهها المشتعل باحمرار قاني بكبت منفعل
"كفى يا سيدرا ، إلى متى ستستمرين بهذا العقاب القاسي معي ؟ لم اكن اعلم بأنكِ تحملين كل هذا الحقد بقلبكِ الاسود والذي لطالما كان يتغنى بالحب لي ! ام ان كل تلك المشاعر كانت مجرد اوهام وسراب بحياتك ؟"

تنفست بجمود لبرهة وهي ترفع يدها لتمسك بيده بقوة وهي تنزعها عن ذراعها بعنف هامسة بكل غل العالم وبقلب يدمي حقد بعد كشف كل الحقائق المدوية والتي دمرت سعادته بلحظة
"هذا فقط بأحلامك يا سيد اوس ، وصدقني لو كان بيدي لكنت جرعتك القليل من ألمي والذي جعلتني اتذوقه على جرعات ، لتخطف مني كل سعادتي وكل احلامي الكبيرة بلحظة واحدة ، وتذكر دائما بأن فتاة شريفة لا تجتمع مع مجرم حقير مثلك ، وكذبك عليّ كل هذه المدة الطويلة سيبقى دائما ذنب بعنقك حتى ينحرك نهائياً ولن يشفع لك ندمك عندي ابدا"

كان يتنفس ببرودة وهي تدفع يده بعيدا عنها بجمود طغى على ملامحها الحاقدة باحتقان ، وبدون ان ينتبه كليهما لسقوط المظلة ارضا بغفلة عنهما وبعد ان جفت الأرض وتوقفت الأمطار لتنحسر بقطرات صغيرة رقيقة تشاركهما معاناة اللحظة ، استدارت بعدها بعيدا عنه باللحظة التالية قبل ان تهمس بجمود وهي تعود لهدوئها الظاهري البارد
"الخذلان هو اسوء شعور من الممكن ان تجربه بحياتك ، ويأتي بعدها كسر الثقة لمن اعطيته كل ثقتك ومحبتك الخالصة وهو يدوس عليها ببساطة دمرت كل الأشياء الجميلة والتي كانت جزء من حياته يوما ، ومرة اخرى إياك والظهور امامي مجددا وألا صدقني لن ارأف بحالك وسأنفذ عندها انتقامي منك بدون اي تردد او تفكير"

تصلب بمكانه بلحظات مثل كل شيء حوله وهو يزيد من ضغط قبضتيه وبألم سكن بدواخله بدون اي كلمة وبصمت قاتم طويل ، بينما انحنت المقابلة له وهي تلتقط مقبض المظلة من على الأرض بصمت قبل ان ترفع نفسها باستقامة وهي تكمل طريقها لداخل البناية ببرود ، وهي تترك تلك العينين السوداوين بقتامة زادت عن السابق وبحاجبين معقودين بتصلب وبعد ان فرغ الطريق من المارة ، ليبقى وحده لا يشاركه حزنه ورتابة انفاسه سوى صوت القطرات الصغيرة والتي ما تزال تهطل ببطء وخفوت متناقضة عن السواد والألم والذي ما يزال يقبض على احشاءه كوحش مستكين يقبع بأعماق روحه مثل مرض وهو يلازمه منذ ان ولد بهذه الحياة .

يتبع في الصفحة التالية وهذا رابطها https://www.rewity.com/forum/t481045-16.html..........



التعديل الأخير تم بواسطة كاردينيا الغوازي ; 23-09-21 الساعة 10:36 AM
روز علي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس