عرض مشاركة واحدة
قديم 08-10-21, 12:37 AM   #64

فايزة العشري لوزة
 
الصورة الرمزية فايزة العشري لوزة

? العضوٌ??? » 472964
?  التسِجيلٌ » Jun 2020
? مشَارَ?اتْي » 393
?  نُقآطِيْ » فايزة العشري لوزة has a reputation beyond reputeفايزة العشري لوزة has a reputation beyond reputeفايزة العشري لوزة has a reputation beyond reputeفايزة العشري لوزة has a reputation beyond reputeفايزة العشري لوزة has a reputation beyond reputeفايزة العشري لوزة has a reputation beyond reputeفايزة العشري لوزة has a reputation beyond reputeفايزة العشري لوزة has a reputation beyond reputeفايزة العشري لوزة has a reputation beyond reputeفايزة العشري لوزة has a reputation beyond reputeفايزة العشري لوزة has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فايزة العشري -لوزة- مشاهدة المشاركة
الفصل الثاني عشر
كان ممددًا على فراش وثير، سكن بعضا من آلام ظهره الذي شبت فيه الحرائق، بعد نوبة ضرب جديدة من جلاده، بعدما قال "لا" في وجهه، معاندًا سلطته معلنًا رغبته في الالتحاق بالجامعة، كانت هذه المرة التي لا يعرف كم عددها بعد عدد المرات التي خالف فيها العمدة، ووقف بوجهه، لكن هذه المرة كانت أكثرهم تمردًا وعنادًا، بعد أول مرة سلخ ظهره السوط في أول ليلة تسبق مكوثه بالقصر، حينها كان إصراره على قول اسمه لا إراديا، أما اليوم فإصراره وعناده كان عن عمد !
عندما كان صغيرًا تعلّم أن يقول "نعم"، ولا يعارض أبدًا ولم يكن بيده سوى الطاعة، حينها علم أن والديه قد وافقا على استخراج شهادة وفاة له ل"موسى نصر الدين"مقابل مبلغ مادي، دفعه لهم العمدة صاحب السلطة والطغيان لكي يستولي على ابنهم ويستخرج له شهادة ميلاد أخرى باسمٍ مغايرٍ، ويكون فيها الأب العمدة"علوي صالح"!!
أما هو فلم يكن للعمدة الابن الذي أراده، لم يكن الابن المطيع الذي تمنى أن يكون ذراعه اليمنى، وخليفته في المظالم، بل كان شوكةً في حلقهِ، ولعنة تمرده أشعلت غضب العمدة، فصار دائم السخط عليه. أما هو فقد توقفت رغبته في طاعته، هذا مستقبله الذي يريد أن يحرمه منه، ألا يكفي كل ما قد حرم منه؟ ألا تكفي طفولته التي حرم منها ووالديه، وهويته ، وأصدقائه ألم يكفه كل هذا، حتى يطال جبروته مستقبله أيضا؟
أثناء شروده الباكي، سمع صرير باب حجرته يفتح ببطء فأغمض عينيه كأنه يغط في النوم، لكنه أرهف السمع لتلك الخطوات التي تقدمت نحو فراشه، واقتربت منه جالسه، ثم سمع همسًا رقيقًا يناديه:
- "موسى" … "موسى" استيقظ يا بني.
أبواه تخليا عنه، فصار يتيمًا وهما حيان، وأبوه على الورق أبعد ما يكون عن الرأفة والحنان لكي يأتي إليه فجرًا فيهمس إليه ب"بني" وموقظا إياه، إضافة لذلك لن يناديه أبدًا ب"موسى"، الذي مات فمن يوقظ اﻵن ميتًا، أماتوه بجبروتٍ وهو على قيدِ الحياة؟
أدار رأسه ليرى مناديه على بصيص ضوء انبعث من أنوار حديقة القصر إلى داخل غرفته المظلمة، فوقعت عيناه على ملامح أبيه الحقيقي، ورغم تخليه عنه إلا أنه اشتاق إليه، اشتاق ضمته إلى صدره، وحنوه عليه، منذ سنين افتقد هذا الحنان والاحتواء، وهذا الوجه الحبيب افتقد أن يكون بهذا القرب.
سقطت دموعه على وجهه متتابعة، وسريعة، فما كان من أبيه إلا أن بكى هو اﻵخر وضم رأسه إلى صدره في أسف وألم.
وبعد أن هدأت نوبة البكاء نظر له "موسى" مستفهمًا عن سببِ وجودهِ في حجرتهِ، فمسح أبوه وجهه المتغضّن من آثار الدموع، وهو يقول بهمسٍ ويمدّ يده إليه بلفافةٍ من القماش بداخلها رِزَم من النقود :
- خذ هذه واهرب يا "بني" اهرب وأكمل تعليمك بالمدينة، أنت حصلت على مجموع عالي، أريدك أن تكون طبيبا يا ولدي، هذه الأموال التي دفعها العمدة لنا مقابل تخلّينا عنك، ويقوم هو بأخذك، سامحني يا بني لقد جبنت من الوقوف في وجهه، كان سيشرّدنا أنا وأمك وأختك، وكان سيحصل عليك في النهاية، جبروته ليس له حدود، وأنت تعرف ذلك.
أحنى"موسى" رأسه بأسفٍ وأكمل أبوه، لم نهنأ بمالٍ ولا طعامٍ من بعدِك يا ولدي، سامحني يا حبيبي، هذه الأموال، خذها أنت ستنفعك حتّى تجد عملا وتعتمد على نفسك، اهرب، وكن حريصًا وتخفّى جيدًا.
سأله "موسى" وحلم الحرية والأمل يداعب مخيلته:
- والعمدة ماذا سيفعل؟ وأنت لو سألك ماذا ستقول؟
- سأقول له ابني مات ولا أعرف شيئًا عن ابنه، سامحني يا بني أنا أحاول أن أعوّضك وأساعدك عن تقصيري معك.
قتلته جملة أبيه، ولم يعرف أيسامحه على ما فعله معه، أم يظل ساخطًا عليه.
هو يعرف أن العمدة كان بإمكانه أن يستولي عليه دون مقابل، ويحصل على ما يريد كيفما يريد، ولا يجرؤ أحد على معارضته، أو إبداء حتى مجرد اعتراض، فالكل يخشاه، ويخاف أن يطاله بسيف ظلمه القاطع، ورغم ذلك إلا أنه حاول أن يشتري رضاهم بهذه الأموال، لأنه يعرف مدى غلو مطلبه، فهو يعرف معنى أن يحرم من الولد، وقد حرمه الله نعمة الإنجاب، رغم زواجه المتعدد؛ ولأنه لا يريد أن تذهب أمواله وسلطته لأخيه الوحيد؛ لذا قرر أن يعاند القدر ويكون له الولد، حتى وإن عارضته الحياة.
قرّر أن يربي "موسى" كولده ليكبر مُحِبًا له، لكن اليد التي تمسك بالسوط، والسلاح، لا تعرف كيف تحنو، والقلب الغليظ القاسي، لا يدرك سبل الحنان والرأفة، والعقل الشيطاني الذي دبّر طريقةً لقلب الحق باطلًا، وأخْذ طفل من أبويه، لهو عقل لا يرشد سبيلا لتربية طفل سوى بالقهر والضرب والإيلام خاصة ولو كان طفلا كهذا الذي جلبه على نفسه، ثائرًا، عنيدًا، يقطر كرهه له من عينيه فما كانت الأعوام التي قضاها في قصره، سوى أعوام من القهر والخوف، واﻷلم.
قام من مكانه مسرعًا وارتدى ثيابه على عجلٍ، وكأنّه كان يحتاج من يدفعه ويشجعه على الهربِ، وهو يقول:
- لا أريد المال يا أبي أنا سأهرب فقط، دع الأموال معك ربما تعينك على الحياة .
قام أبوه يمنعه وهو يقول له :
- اهدأ اﻵن، وفكر كيف ستهرب أولا ومتى.
- لا
وخرج مسرعًا من غرفتِهِ، وكأنّه كان ينتظر ذلك المؤشر الذي يدفعه لكي يتخلص من قيده دون تفكير، ودون تخطيط، فقد دفعه اليأس للهرب، جرى متخفيًا بالظلام، ومتسترًا بنخيلِ حديقةِ القصرِ، وما إن اقترب من بوابةِ القصرِ وبدأ في تسلقها حتّى سمعَ من يصرخ فيه:
- قف مكانك، ولا تتحرك .
لكنه لم يستمع للأمر الذي جاءه وأسرع خطواته المتسلقة، وسمع من ورائه زناد قد أطلق، وطلقة طارت فاخترقت ذراعه وأوقعته أرضًا.
شهق مستيقظًا بانزعاجٍ وهو يرفع رأسه من فوقِ ذراعهِ التي أصابتها الرصاصة يوما ما، وقد كان متوسده على مكتبهِ عندما غلبه النعاس، وهو يقرأ في مرجع طبي تركه، وقد حاول أن يجعله أنيسه ليشغله عن كل أفكاره التي تتقاذفه.
لا تفتأ ذكريات ماضيه تطارده في أحلامه، ويقظته، وتنغّص عليه أوقاته الهادئة القليلة، كان لسؤالِ والدة فريدة عن سببِ عيشه في المدينة بعيدًا عن أهلهِ أثرًا في استرجاعِ ذكرياتٍ حاول أن يدفنها في عمقِ الذاكرة، حاول أن ينساها ويشغل نفسه عن التفكير بها، لكن ذكرياته فرضت نفسها وطفت على السطح أول ما سلم عقله للنوم.
قطع انزعاجه ابتهالا لشيخ ذي صوتٍ عذبٍ مغردٍ كتغريدِ بلبلٍ يشدو فوق غصنٍ مياد انساب صوته خفيضًا من مذياعِ المسجدِ المجاورِ لشارعهم، فقام من مكانه ليقوم بتشغيل مذياعه الصغير على إذاعة القرآن الكريم قبل آذان الفجر، فيشدو صوت الشيخ بابتهاله الجميل بوضوح قريب، يريح الصدر من الضيق والكدر والناس حوله مهللين :
-"يا إله العالمين؛
يا إله العالمين حنيني دائم؛
والقلب شاك عليل؛
سال دمعي يا إلهي؛
ولولا غربتي ما كان دمعي يسيل؛
غربتي نجوى ونيرانُ شوق؛
وأسىً باكٍ وليلٌ طويل؛
وإذا ضاقت فنجوى دعائي؛
حسبي الله؛
حسبي الله ونعم الوكيل؛
بالله إيماني وفيه رجائي؛
وإلى علاه ضراعتي وبكائي؛
يا مؤنسي في وحدتي؛
يا منقذي في شدتي؛
يا سامعا لندائي؛
فإذا دجى ليلي وطال ظلامه؛
ناديت يا رب كنت ضيائي؛
سبحانك جلّ جلالك يا الله*


مسح دموعه التي انسابت على وجنتيه بهدوء وخشوع، وتنهّد قائلًا:
- حسبي الله ونعم الوكيل .
رُفع آذان الفجر بأن الله أكبر فوق كلِ ضيقٍ، فوق كلِ سقمٍ، فوق كلِ حزنٍ قد يُهلك الروح والبدن، فأخذ يُردّد وراء المؤذن وهو على يقين مما يردده، ظلّ يعمل لسانه بترديدِ اﻵذان، أثناء وضوئه، ثم أمسك بمنشفةٍ جفّفَ بها وجهه، وساعديه من آثار الوضوء، ثم اتّجه نحو المرآة ليُصفّف شعره العالي المبلل الذي انسابت منه خصلة سوداء على جبينه العريض فبدا وسيمًا، رغم هالات الإرهاق التي تحيط بعينيه بسبب قلة نومه وقلة راحته، فقد أنهك نفسه بالعمل في نوبة ليلية بالمشفى بعد دعوة الغداء التي لبّاها عند فريدة، ليُلهي نفسه عن التفكير بها أو بنفسه، وها هو إنهاكه قد بدا على وجهه.
ذهب لحجرته ليبدّل ثيابه، ويذهب لصلاة الفجر، وعقله يدور في المنغّص الجديد الذي حلّ ضيفًا على عقلهِ، وكأنّه كان ينقصه منغصا إضافيا يكدر عليه ما تبقى له من وقت فراغه، فقد ابتلي قلبه بالميل لهذه ال"فريدة" العنيدة التي تظهر عكس ما تخفي، فتحاول أن تظهر امرأة مستهترة غير مبالية، امرأة قوية جافة الطباع، لكنها على عكس كل ما أظهرت، طفلة متمردة خائفة من الحياة وما فيها، فاقدة للثقة بكل من حولها.
ابتسم ابتسامة جانبية عندما تذكر خوفها الطفولي وتلعثمها عندما تفحّص جرحها وصوتها المرتعش وهي تقول له:
( هو جرح بسيط، لقد زال الألم، لا داعي لذلك)
كم تمنى لو أنه باستطاعته أن يضمّها إلى صدره ويربّت على وجنتها بحنان ويخبرها بما يشبه الهمس، أنه لن يؤلمها ما حيا، ولكن هيهات من وصوله لتلك المكانة منها وهو يكاد لا يعلم عنها أي شيء ذي بال!
لا يمكنه أن يقول، أنه وقع بحبها وهي امرأة متزوجة، لكنها أثارت فضوله واهتمامه، رغم ما أبدته له من فظاظة في التعامل، لكنّه على كل حال سيخمد صوت فضوله ويميت رغبته في فهمها، فليس هذا من حقه، وسيتجاهل السؤال عن حال جرحها اليوم، بل سيتجاهل رغبته في معرفة حالها كل يوم، حتى يقضي الله بينهما، فيفهم ما تخفيه، وقد تبتسم له الحياة معها أو يرحل عن هذا المكان دون فهم فتموت نبضات حبه قبل أن تولد، ويكتب لها الحياة !.
****
مكالمة صباحية أتتها وهي تُبدّل ثيابها على عجل، من ذا الذي سيهاتفها صباحًا هكذا "فريدة" بالطبع ستكون نائمة وتهنأ بنومٍ عميقٍ فمن يا ترى سيكون المتصل؟!
أمسكت هاتفها على عجل لتلقي نظرة على شاشته فيفاجئها مرأى اسم المتصل
"زاهر" يضيء هاتفها باسمه، كما يضيء وجوده أيامها المظلمة !!
خفق قلبها بسرعة، ماذا يريد في هذا الصباح لمَ يتصل؟!
كتمت توترها وحيرتها، ثم حبست شهيقًا في صدرِها أخرجته زفيرًا متقطعًا، فتنفث توتّرها على دفعات وهي تجيب الاتصال قائلة:
- صباح الخير يا أستاذ "زاهر"، خيرًا إن شاء الله هل ألغي موعد الغد؟
أتاها صوته الرصين الواثق الهادئ قائلًا:
- صباح الورد يا "مريم" كيف حالك؟
بدا على وجهها إمارات التعجب، لم يناديها باسمها دون ألقاب؟ وما هذا الصباح الجميل الذي تمناه لها؟!!
سعيدة؟ أجل سعيدة، فكيف يأتيها صباح مُزيّن بالوردِ من سارق قلبها، ولا يكون صباحًا سعيدًا؟!
لكنّها لن تبدي له ذلك؛ لذا قطعت تعجّبها الصامت بنحنحة محرجة وأجابته:
- الحمد لله… أنا بخير ، ثم سكتت عن الكلام المباح فمهما كانت الكلمات تتقاتل على شفتيها لكي تخرج له متغنّجة معلنةً عن نفسها، لكنّها ستحبسها بحنجرتها وتمنعها عن فعل ذلك، فليأتي هو بما عنده، وستصمت لتفسح لكلماته الطريق وللعجب أن أتاها صوته قائلًا:
- دمتِ بخيرٍ .. أردت أن أؤكد عليك موعد الغد، فانتهزت الفرصة لكي أبدأ يومي بسماع صوتك.
تورّدت وجنتيها بحمرةِ الشفقِ، ونضارةِ الزهراتِ على الغصونِ، لكنها تجاهلت تلميحه الصريح لرغبته بسماعِ صوتها، وأجابته بصوتٍ يرجفُ خجلًا:
- نعم .. نعم نتقابل غدا شكرًا لك.
- عفوا آنستي . مع السلامة.
- مع السلامة.
أغلقت الهاتف، وهي في حالةِ ذهولٍ من تلك المكالمة غير المتوقعة، أتكون بحلم ولم تستفق بعد من نومها؟
تردّد صوته المحبب إلى قلبها في ذهنها بقوله: انتهزت الفرصة لكي أبدأ يومي بسماع صوتك
لا، لا هو حلم، حلم السعادة الذي يطاردها، ويغريها بليالٍ ورديةٍ ونهارات مشرقة.
حلم يمسك بيديها، ويسحبها نحو بريقِ الحبِ الخاطفِ خطوةً خطوةً، وكأنّها تتعلم أولى خطواتِ السيرِ على طريقِ الحبِ.
تنهّدت بعمقٍ ونظرت للهاتف، ثم شهقت بفزعٍ واستفاقت من الحلمِ وهي تقول:
- يا الله .. لقد تأخّرت عن العملِ، سامحك الله يا "زاهر"، سامحك الله، خطفت حقيبة يدها بسرعة وجرَتْ تلاحق الزمن ربما تصل بالميعاد!!
*****
نظرت حولها في إرهاقٍ، ولهاثها يعلو، فلا تسمع شيئا سوى صوت أنفاسها، تتلفت في لهفة، وكأنّها تبحث عن عون أو إغاثة من أحدهم، لكنّها لا ترى أحدًا على امتدادِ بصرها! لا ترى شيئًا سوى امتدادٍ شاسعٍ لحقلٍ كبيرٍ يملأهُ عشبًا أصفر خشنًا، ويتوسّطه تلة عشبية صغيرة تحجب ما وراءها.
واقفة هي تلتقط أنفاسها في وسط هذا المكان، ترتدي فستانا يتطاير مع الهواء، كما يطير قلبها تماما من الخوف والضياع، شعرها انسدل على ظهرها، وتطايرت خصلاته هي الأخرى على وجهها، كانت كورقة شجر سقطت من غصنها وتحاول أن تثبت في وجه الريح الذي ازداد مع قرب غروب الشمس، عادت تركض ثانية ولهاثها يعلو أكثر، قدماها حافيتان، وتؤلمانها بشدةٍ، فقد جرحها ذاك العشب الجاف، جرحتها أشواكه وخشونته التي امتلأ طريقها به.
تجري .. تجري .. تجري
تلهث .. تلهث ويعلو صوت أنفاسها
ثوبها يطير، شعرها يطير، وفؤادها من الخوف هواء
تراءى لها من بعيد فرسا تركض نحوها، فحثت الركض نحوها هي الأخرى.
صهلت، وكأنها تناديها أو تعلمها أنها رأتها، وقد أتت إليها، ولكنها لم ترَ صاحب هذه الفرس فكيف لها أن تمتطيها أو أن تركض بها هاربة؟ هاربة من ماذا؟
لا تعرف، إنما هي فقط خائفة وتود الهرب، ورؤيتها لتلك الفرس البيضاء قد طمأنتها، صهيلها القوي اَمن خوفها لكنّها كلما ظنّت أنها تقترب منها، تزداد المسافة بينهما اتساعًا وابتعادًا!! سمعت صوت خشخشة قريبة منها، ربما خلفها من بين العشب الأصفر الجاف، وكأن شيئا يزحف فيتكسر تحته العشب! التفتت وراءها وهي تركض في فزع، لكنها لم تر شيئا، وصوت ضربات قلبها ولهاثها يصمها عن سماع ما يصدر حولها، لكن شعورها بحركة سريعة وراءها زاد من فزعها.
أصبح بينها وبين الفرس خطوات قليلة، لكنها التفتت خلفها؛لتبحث عن مصدر الصوت الذي تسمعه، فتعثرت. صرخت وعلت صرختها عندما ظهر لها من بين العشب الجاف ثعبانا طويلا يخرج لسانه المشقوق فيفح فحيحا مخيفا، ويتقدم منها بثقة.
نزعتها من صرختها ذراعا قوية جاءتها من خلفها تشدها وتنتشلها من سقوطها فترفعها على ظهر الفرس، فهجم الثعبان على صاحب الذراع القوية -الذي لم تستطع تبين ملامحه بعد- ولدغه، فردت الفرس الهجوم بهجوم ، وانقضت على الثعبان تضربه بقوائمها حتى خمدت حركته .
حاوط خصرها بذراعه السليمة حتى لا تقع وبيده المجروحة أمسك لجام الفرس، ونجزها لتسير فاستجابت له .
أدارت رأسها ببطء؛ لتنظر من فوق كتفها فتتبين ملامح ذاك الفارس، وما إن التفتت حتى سمعت من يناديها...

- فريدة… فريدة… استيقظي هيا كفاكِ نوما، أنت احتللتِ فراشي إلى ما بعد الظهيرة .. هيا يا كسولة.
استوت"فريدة" جالسة بسرعة على الفراش، وهي تشهق بصوت مرتفع وكأنها تخرج من تحت الماء، نظرت إلى خصرها وكأنها لازالت تشعر بذراع تحيطها، دارت بعينيها حولها في دهشة لوجودها بحجرة أمها، كيف قضت ليلتها في فراش أمها ؟ لكنها سرعان ما تذكرت أنها كانت تحدثها بالأمس، وهي ممدة إلى جوارها، وربما غفت بجانبها ولم تشأ أمها أن توقظها .
اقتربت منها والدتها وعلامات القلق بادية على وجهها وهي تقول:
- ما بك يا حبيبتي .. أأنت بخير؟
تنهدت "فريدة" وخللت أصابعها خصلات شعرها فأرجعتها للوراء بعيدا عن وجهها ثم ابتسمت لأمها مطمئنة وهي تقول:
- صباح الخير يا شمسي .. أنا بخير يا حبيبتي لا تقلقي
ربتت أمها على كفها وقالت لها :
- حسنا يا حبيبتي هيا .. هيا انهضي للتناولي فطورك؟ ثم تركتها، وغادرت الغرفة.
شردت "فريدة" في ذلك الحلم الذي رأته أو ذاك الكابوس، يجثم خوفها على صدرها مما رأته فأراحت ظهرها إلى وسادتها وهي تتذكر منظر الثعبان المخيف الذي رأته- ثم قطبت - كأنها رأت ثعبانا شبيها له من قبل ... أين رأته؟ متى رأته؟
ظل عقلها يدور في قلق ثم سطع في عقلها مظهرها، وهي تقف على مركب أوشك على الرسو منتظرة سيف .. هي تصيح .. هي تصرخ و تشيح لأمها الجالسة على المرسى .. وثعبان يفح في كأس بجوار أمها .. أمها ترفع الكأس لتحتسيه .. هي تصرخ .. نعم انه نفس الثعبان.. هو نفسه.
ذلك الكابوس الذي رأته عندما كانت محمومة !!
ماذا يعني هذا؟ ومن ذلك الفارس لذي أنقذها، ولدغه الثعبان ؟
وتمنت لو أنها قد استطاعت رؤية وجهه ومعرفة هويته.
دخلت أمها غرفتها مجددا، لتجد ابنتها قد تمددت مرة أخرى على الفراش، فعقدت حاجبيها، وسألتها في ضجر :
- هيا يا "فريدة" أتنوين النوم حتى صلاة العشاء ؟
حاولت أن تصرف عن ذهنها ذلك الحلم الذي يجثم وقعه الثقيل فوق صدرها؛ حتى لا تلفت انتباه أمها لانزعاجها، ثم ابتسمت، وقالت لها بدلال، وهي تتمطى:
- فراشك جميل يا أمي أعتقد أنكِ ستستضيفينني كل ليلة.
- انهضي هيا .. مَن هذه التي ستنام معي كل ليلة؟ لم أستطع أن أنام بجوارك من كثرة حركتك، وتقلبك.
X-قالتها أمها بضحك وهي تعرف أن ابنتها ستغتاظ، وتهب من فراشها -
وبالفعل لم تكذب فريدة حدس أمها، فهبت من فراشها بغيظ فتناثر شعرها على ظهرها، وقصَّتها الغجرية قد انحرفت على جبينها المقطب وتسائلت بضيق، ودهشة:
- مَن يفعل ذلك .. أنا أتحرك كثيرا أثناء نومي يا أمي؟!
أجابتها أمها من بين ضحكاتها:
- لقد انطلت عليكِ الحيلة يا صغيرتي واستطعت أن أجعلك تقفزين من الفراش، مَن هذه التي تتحرك كثيرا في نومها ؟ أنت قطتي المشاكسة التي تتكور على نفسها عند النوم، إن أردتي النوم معي كل ليلة فلك ما شئت، سأتحمل مقاسمتك فراشي أمري لله.
ضحكت فريدة وانشرح قلبها لمشاكسة أمها لها، وهذا يعني أنها قد غفرت لها ما فعلته بأمسها القريب، ثم قالت لها :
- لا حرمني الله من حنانك هذا يا حبيبتي، قولي لي هل تناولتي فطورك؟
ابتسمت أمها وهي تمسد جبينها بأصابعها محاولة إخفاء انزعاجها من الألم
- لا لم أتناوله بعد، سأتناول مسكنا للصداع وأُعِد الإفطار حتى تغسلي وجهك، وتتوضئي وتصلي .
اقتربت منها فريدة متسائلة بقلق:
- صداع.. لم؟ أحقا لم تستطيعي النوم أمس بسبب وجودي ؟

- لا يا حبيبتي استطعت النوم طبعا، هو مجرد صداع سيزول بمفعول المسكن عندما أتناوله، صحيح كيف حال جرحك أتشعرين بتحسن ؟

أجابتها وهي ترفع كفها لا إراديا تجاه وجهها، وكأنها تتأكد من وجود الضمادات حول كفها قائلة:
- أشعر بوخز بسيط من حين ﻵخر.
- لأنك لم تأخذي المسكن الذي كتبه لكِ الطبيب، تناولي فَطورك واذهبي لإحضاره من الصيدلية.
أماءت برأسها موافقة ثم ربتت على ذراع أمها قائلة:
- حسنا سأفعل ذلك، وأنتِ يا حبيبتي استريحي قليلا حتى أعد لنا الإفطار، ثم تتناولين مخفف الألم. لن أتأخر عليكِ.
قالت أمها بضحك:
-لا سأحضره أنا حتى لا تقطعي باقي أصابعك مع الإفطار
ضحكت فريدة بانطلاق،وقالت بنزق ودلال :
-لا مانع أن تفطري بالأصابع اللذيذة لفريدة
تركت "فريدة" أمها لتنهي ما عليها، وقد عزمت في قرارة نفسها أن تفعل أي شيء يرضي أمها، ويجعلهما مستمتعتان باَخر يوم لها بأجازتها، وقررت أن تصرف عن ذهنها التفكير في ذلك الحلم حتى تختلي بنفسها فتحاول أن تبحث له عن تفسير في كتاب تفسير الأحلام لابن سيرين الرابض بمكتبتها!

Xxxxxxxxxxxxxxxx xxxx ****
ثلاثة فناجين من القهوة قد احتساها ولم يستفق بعد، يشعر بين كل لحظة وأخرى أن رأسه ستستقط على صدره من فرط الإجهاد، والرغبة في النوم؛ لذا قام من فوره وقد قرر العودة إلى بيته لينام حتى صباح اليوم التالي.
ضرب جرس استدعاء الممرضة، فطرقت ثم دلفت، فسألها رغم نيته المبيته بالرحيل قائلا:
- هل هناك حالات أخرى بالخارج؟
- لا ولكن هناك حالة قد اتصلت لتسأل عن وجودك وقلت لها أنك متواجد بالعيادة.
قطب جبينه بانزعاج وقال لها:
- لا لا اتصلي بهذه الحالة فورا وقولي لها أني اعتذرت ورحلت، ودعيها تأتي في نوبة المساء
- كما تأمر.

تجاوزها "موسى" متجها إلى ردهة المشفى، لن يستطيع التركيز بشيء وهو خائر القوى منهك الجسد، لابد له من الراحة، قضى طريقه من عمله حتى بيته، غافيا وقد أراح رأسه على نافذة الافلة بإنهاك.
وصل أخيرا أمام بنايته فجر رجليه بتعب نحوها، ووقف أمام المصعد ينتظر نزوله، لم يكن يستطيع الصعود على قدميه رغم أن هذه كانت عادته كنوع من الرياضة، لكن اﻵن غير قادر على فعل ذلك.
طيف امرأة مر من جواره بعدما نزلت من سلم البناية ثم مضت. لم يلتفت نحوها لكنها التفتت!

لقد كانت "فريدة" ذاهبة للتغير على جرحها،لم تكن تتوقع رؤيته،فلم يكن الوقت موافقا لميعاد عودته من المشفى لكنه بدا لها منهكا، فوقفته منتظرا المصعد، مستندا بكفه على الحائط المجاور للمصعد توحي بإنهاكه.
هيئته استجلبت عطفها، وقد تذكرت إحساسها بالندم على فظاظتها معه، ووجدت في نفسها جرأة تدفعها للاعتذار منه، فنادته بعدما وقفت عن التقدم للخروج من البناية، وقبل أن يغلق باب المصعد الذي ركبه قائلة:
- دكتور موسى ..
توقف "موسى" لوهلة عن غلق باب المصعد وقد فاجأه النداء، هذا الصوت يعرفه، لكن كيف؟ ولم؟
ورفع بصره تجاه الصوت ليتأكد له ظنه عن صاحبة الصوت إنها فريدته تقف، وقد خفضت بصرها إلى الأرض بحياء، وحرج كطفل مذنب شعر بذنبه للتو. حدق بدهشة نحوها أهذه "فريدة" أم أنه يهذي لقلة نومه؟ وما هذا الرداء الفضفاض الذي ترتديه بجناحي بذراعين كجناحي فراشة رفرفا على إثر الهواء الذي لفحهما ببرودة منعشة فأطفأ بعضا من لهيبهما معا.
خرج من المصعد وتقدم نحوها في تؤدة، و إحساس بخيالية ما يحدث يراوده وإنما يشعر بأنه قد يستفيق في أي لحظة ليجد نفسه على فراشه قد استيقظ بعد نوم عميق.
سألها بهدوء ظاهري لا يشي بثورة فؤاده قائلا:
- خير يا مدام فريدة أتحتاجين شيئا ؟

صمتت وأخرسها توترها عن الحديث، فتاهت العبارات عن شفتيها، لا تعرف بم تجيبه؟ أتعتذر له فقط عما بدر منها أم تشرح له ما تمر به ؟ ولكن لِم تشرح له، من هو حتى تشرح له ؟ احتارت فيما تقول ولعنت تسرعها الذي جعلها تناديه دون أن ترتب قولا مناسبا تحدثه به.
وعندما وجدها خجلة لا تنطق فأراد أن يفهم لماذا نادته فسألها ليزيل عنها ارتباكها قائلا :
- هل غيرتِ ضمادة جرحك منذ الأمس .
فأجبت ب(لا) بصوت خفيض فأكمل وشعور بالعجب يخالطه من خجلها، ورقتها الظاهرة معه، وكأنها صارت امرأة أخرى غير التي كان بضيافتها بالأمس :
- حسنا هيا إلى الصيدلية لتغيري على جرحك وساَتي معك لأشتري بعض الحاجيات من الصيدلية إذا لا تمانعين .
ابتسمت وأجابته برقة وهي تنظر له:
- لا أمانع
خرج أمامها وتقدمها في المسير بخطوة، والحيرة تأكله عن سبب منادتها له، لذا كان من الطبيعي أن يعرض عليها الذهاب معها للتغيير الجرح رغم عدم رغبته في الذهاب،هو يرغب في النوم فقط ويبدو أنه لن يكتب له النوم ولو حتى ساعات قليلة، لكن لا بأس ربما تنحل عقدة لسانها بالطريق، وتخبره عما تريد! وتفهمه لم نادته؟
لكنها ظلت صامتة أثناء سيرها خلفه بحياء ألهب قلبه الذي أُغرم بها .. كم تبدو فاتنة بردائها الفضفاض ووجهها الطفولي الخجول .. ثم استغفر سرا، عندما وجد نفسه يمعن التفكير بها، تأفف سرا وهو يقول لنفسه:
- سامحك الله يا فريدة فلتنطقي ماذا أردتي مني بدلا من تركي بهذ الحيرة.
أما "فريدة" فقد ظلت تُعد الكلمات التي ستقولها اعتذارا عما بدر منها ، ولكن الكلمات كانت تخذلها ولا تعرف بم تبدأ، وماذا تقول. تعجبت لشعورها بالخجل من وجوده بجوارها، وزاد من خجلها شعورها بالخطأ في حقه، وقد نوت أن تصلح خطأها هذا.
وصلا إلى الصيدلية فسبقها بالدخول وابتدر هو الحديث قائلا :
- أريد أن أغير لها على جرحها بضمادة جديدة .
ثم نظر خلفه وسألها بصوت خفيض : هل أحضرت مخفف الألم الذي كتبته لكِ
فأشارت بالنفي.
فنظر مرة أخرى للصيدلي وأخبره باسم المسكن الذي كان قد كتبه لها .
انصرف الطبيب، ثم عاد بعد قليل بأدواته التي يحتاجها لاستبدال ضمادة يدها المجروحة. بدا على وجه فريدة التوتر والخوف و ندمت أنها نادت على موسى، كانت خجلة من رؤيته لها بهذا الضعف ، لو لم تكن نادته لما تعرضت لهذا الموقف الذي لا تحسد عليه.
نظر لها موسى بطرف عينه فلاحظ خوفها الذي طفا على ملامح وجهها، فقال لها مطمئنا:
-لا تخافي لن تشعري بألم .. ثم وجه حديثه للطبيب قائلا : بدل لها الضمادة برفق من فضلك .
أشار له الصيدلي أنه سيفعل، و اضطرت فريدة لمد يدها المجروحة له وهي مغمضة العينين في خوف جلي، خاصة وأن أصبعها يؤلمها منذ استيقظت، وزاد الألم بعدما أعدت هي الإفطار بدلا من أمها، وتبللت دون قصد ضمادتها. فسبب لها ذلك بعض الالتعاب بالجرح.
كانت تخشى أن تتألم أكثر بما سيفعله ذلك الطبيب، و ما إن وضع الطبيب بعضا من علاج مضاد للالتهاب على أصبعها المجروح الذي ظهر عليه علامات الالتهاب، حتى تأوهت بصوت مكتوم .. مما أثار حفيظة "موسى" الذي وقف إلى جانبها شاعرا بالقلق عليها من خوفها و بالغيرة لإمساك ذلك الطبيب بيدها وكأنه وحده من له الحق بإمساك كفها، أو أنها أحد ممتلكاته الشخصية التي لا يريد لأحد المساس بها، أو أنه يحق له الغيرة من الأساس مما جعله يبعد يد الطبيب عنها بجفاء قائلا :
- بربك ألم أقل لك برفق ... لما تتوجع إذَا ؟
تعجب الطبيب من تصرفه وأجابه:
- أنا أعمل برفق بالفعل، هي فقط……
قاطعه موسى بيده بحركة عصبية وسحب منه الأدوات قائلا وعلى وجهه علامات التوتر والقلق:
- دع عنك ذلك سأضمدها لها أنا.
كانت فريدة قد فتحت عينيها الدامعتين بعد أن سمعت هذا الحوار بين موسى الحانق والطبيب المُحرج المتعجب، لتجد كفها في يد موسى القوية وبدأ يعمل يده بتضميد جرحها بلطف، ورقة فأشعرتها لمسات يده بأنها قد حوت حنان بمئ الأرض و من عليها .. لم يصر على لطفه معها، رغم أنها اَذته في أمسها ؟
أنهى ما قد كان يفعله دون أن تشعر سوى بألم طفيف، ولا تعرف سببا لذلك، ألم تشعر بألم لمهارته؟ أم لأنها شردت بوجهه الذي كان منهمكا منذ قليل بتضميد جرحها فخففت صورته في عينيها بعض الألم؟.
أتى الصيدلي بالدواء المسكن ونقده موسى حسابه وخرج فخرجت وراءه وشعور بالوهن والضعف عاد يتملكها، فتأخرت عنه بعدة خطوات، لذا وقف وسألها :
- هل أنتِ بخير ؟
تماسكت وادعت القوة و أجابته قائلة :
- نعم أنا بخير
فأكمل سيره و أسرعت هي من خطواتها رغم تعبها لتلحق به وما إن فصلت بينهما خطوة واحدة، حتى ترامى إلى سمعه صوتها الرقيق يقول :
- دكتور موسى .. أنا .. أنا أعتذر عن فظاظتي معك بالأمس أتمنى أن تتقبل اعتذاري و تلتمس لي عذرا، أنا اَسفة.
لم يصدق ما سمعه ، وارتفع لديه إحساس أنه في حلم لاشك في ذلك و لما لم يجيبها سمعها تناديه :
- دكتور موسى ... هل تقبلت اعتذاري؟
نظر نحوها و قلبه يرقص طربا لسماع صوتها الرقيق يأتيه معتذرا، لكنه أجابها برصانة تخفي سعادته قائلا بهدوء:
- حصل خيرا يا مدام فريدة .
شعرت أنه لم يتقبل اعتذارها وإنما ذوقه حتم عليه قول ذلك فقط حتى لا يزيد إحراجها؟ لكنه ربما لم يتقبل اعتذارها فقالت لهxوصوتها قد زادت له نبرة الأسف:
- أنا اعتذر حقا .. لك الحق في عدم تقبل اعتذاري، فقد كنت عديمة الذوق معك ،ولأني قد اختبرت سعة صدرك فلي عشم أن تقبل اعتذاري.
تبسم "موسى" لرقتها وصدق حدسه أنها أظهرت له طباعا عكس طباعها، ولمعت بذهنه فكرة تمنى أن تصيب و ينتهز من خلالها فرصة رحابة صدرها المفاجئة تلك لنفسه فيصل لمبتغاه فقال لها باتسامة واسعة:
- حسنا أنا اتقبل اعتذارك .. لم يحدث شيئا، و لتتأكدي من ذلك يسعدني أن أدعوك أنت وزوجك عندما أراه ووالدتك بالطبع على الغداء، ولأني لا أحسن الطبخ سأدعوكم في مطعم يقدم طعاما ممتازا .
تنحنحت فريدة وقالت له :
- أنا مُطلقة منذ عامين أو يزيد قليلا.
صمتت ولم تزد حرفا.
سقطت كلماتها على رأس موسى كحجر صلب، تفاجأ أنها مطلقة، كان يظن زوجها مسافرا أو أنهما على خلاف معا لكنه لم يتوقع أنها مطلقة، ورغم ضيقه لشعوره بالحزن في صوتها، بقدر ما أسعده سماع هذا الخبر وأنه كان موفقا عندما أتى على ذكر زوجها ليعرف أين هو ؟ مما جدد لديه الأمل في عبث حبها بقلبه، بلا قيد ولا مانع.
ورغم سعادته إلا أنه قال لها بحرج :
- اَسف لسماع ذلك .
منحته ابتسامة صافية وقالت لتزيل عنه الحرج :
- لا عليك ... شكرا لتقبلك اعتذاري. بعد إذنك
كانا قد وصلا لمدخل البناية، فسبقته بصعود درجات السلم حتى تقكع عليه الحديث إذا ركبا معا المصعد.
تبعها بنظره وقلبه معلق بخطاها، ثم تنهد ونظر إلى يده فانتبه أنه لازال حاملا دواءها فناداها:
- "فريدة"
تعحب من نفسه أن اسمها قد فلت منه دون ألقاب، واستاء من نفسه لفعل ذلك، مما سيجعلها تصب عليه غضبها من جديد، إلا أن شيئا من هذا لم يحدث، بل نظرت ورائها لتجده مادا لها يده بالدواء.
فعادت وأخذته منه، ثم شكرته بابتسامة عذبة ممتنة، ولم تقل حرفا أخذت الدواء ثم صعدت درجات السلم متمهلة شاردة بما دار بينهما منذ قليل.
دلفت لشقتها، وأغلقت الباب ثم وقفت مستندة بظهرها عليه،وضعت كفها فوق موضع قلبها، وتساءلت لم يدق في سرعة محببة حيرتها؟ ..لا زالت تشعر بملمس يديه الحنونة .. لا زالت تشعر بوجوده المسيطر الذي أجبرهت على احترامه والنظر له بامتنان .. لم أصابعها ترتجف هكذا ودقات قلبها تعزف لحنا راقصا في انتشاء يا ترى!
*****
تمدد موسى على فراشه في إرهاق شديد، لكن عقله يصر على الاستيقاظ وتذكر تفاصيل مقابلته بفريدة التي لم تكن بحسبانه ، وبعدما كان ينوى الابتعاد عنها لأنها متزوجة، يقضى ربه بأن يفرج واحدا من همومه بلطف منه، وتبتسم له الحياة ولو لمرة وتغريه ببصيص نور قريب سيسطع على حياته، ودفء جميل يذيب برودة أيامه. دفء العائلة هذا ما يتمناه وقلبه مال بشدة لهذه الفريدة، ويحلم بأن يكون كلاهما عوضا لﻵخر عما لاقاه في ماضيه، ورغم أنه يعرف أن أمه ستعارضه عندما تعلم برغبته في الزواج من ثيِّب* إلا أن ذلك لا يقلقه كثيرا، فهو لن يمنحها فرصة الاعتراض، ثم إنها ستعترض على من ابنها "موسى" الذي أماتته، أم على "صالح" الذي هو ليس ابنا لها؟!
هو لا يمن عليها باستمرار وصلها وودها بالخفاء من خلال مكالماته لأخته، لكنه ينصر في نفسه الخير على الشر، ويحاول مسامحتها ونسيان الماضي، لكنه مع ذلك لن يسمح لها اعتراض أو تخريب مستقبله مثلما خرب ماضيه، ثم إن زواجه من "فريدة" لن يكون خطأ يحق لأحد الاعتراض عليه، ثم ابتسم وتسائل في نفسه وهو مغمض العينين:
- أبهذه السرعة أخذت قرارك، ونويت الزواج منها؟ ولكن ماذا عنها هي هل ستقبل أم سترفض بعدما تقذفك بحجر من فظاظتها المتخفية وراء رقتها ؟
ولم يصل لإجابة لسؤاله ﻷنه راح في سبات عميق وطيف "فريدة" الملائكي يداعب حلمه كما يداعب واقعه.

Xxxxxxxxxxxxxxxxxxxx x ******
حل المساء سريعا وانتهى اَخر يوم بعطلتها بشكل أسرع وها هي تجلس بمفردها فوق فراشها بعدما تمنت لأمها ليلة طيبة والتي نصحتها بدورها أن تنام مبكرا حتى تستيقظ نشيطة !
ولكن كيف لها أن تنام بعد مهاتفتها التليفونية مع "مريم". تلك المكالمة التي هتكت كل أقنعة التلهي والسعادة الوقتية مع أمها لتطفو مشاعر الضيق والاختتاق على سطح قلبها ومحياها.
كانت سعيدة بتلك الوظيفة التي رشحها "زاهر" لصديقتها، لكنها كانت حزينة أيضا، فهي ولأول مرة ستذهب لعملها، ولن تجد صديقة عمرها معها لتكن بجوارها دائما وتُآزرها في أوقات ضيقها، وهي كذلك لن تكون معها فيتقاسمان فرحتهما وحزنهما كما يتقاسمان قلبيهما،ستُلهي الدنيا كل واحدة عن اﻷخرى بهمومها ومشاغلها، وسيقل بينهما التواصل رويدا رويدا،ربما حتى ينتهي!
ورغم ضيقها المكنون إلا أنها لم تبدِ شيئا منه أمام صديقتها حتى لا تؤثر على قرارها تجاه هذا العمل الجديد بل شجعتها على الذهاب مع "زاهر" ودعمته كثيرا لدى مريم القلقة المتشككة من ناحيته؛ فقد كانت تحترمه وتقدره.
وها هي ستنتظر حتى تهاتفها "مريم" بعد مقابلة العمل تلك لتخبرها عن قرارها تجاه هذا العمل الجديد، الذي تظن أنه سيكون بالمواقفة فهو عرض لا يرفض.
وقبل أن تخلد للنوم قررت قراءة تفسير حلمها، فقامت وأحضرت من مكتبتها الصغيرة متاب تفسير الأحلام ثم عادت إلى فراشها وجلست وقلبها يدق بعنف من الترقب والخوف من هذا الحلم فتحت باب تفسير رؤية الثعبان لتقرأ بخوف وقلبها يخفق برعب ويسقط إلى أخمص قدميها أو يغوص في صدرها مختبئا من قلقه وخوفه:
(يقول ابن سيرين أن الحية أو الثعبان بشكل عام في الحلم تدل على عداوة شديدة على قدر حجمها وقدر سمها، وكلما كان الثعبان كبيرا في الحجم دل على قوته وهذا ينعكس على جبروت العدو
-يقول ابن سيرين أن الشخص إذا شاهد ثعبانا في منامه و كان هذا الثعبان صوته مرتفع ويقترب منه أو يطارده دل ذلك على أن هذا الشخص سوف يتعرض لمكروه بحجم اللدغة التي طالته في المنام .
- يقول ابن سيرين ان .……)
سارت ارتعاشة باَخر عنقها وجف حلقها تماما لما قرأته واعتصرت قبضة باردة قلبها الرقيق ومزقتها التساؤلات الخائفة الحائرة إربََا ... ثعبان يتربص بها (مكروه أو عدو) بل والأكثر رعبا أن سم هذا الثعبان قد طال أمها ..ما هذا ؟ و من الذي انتشلها في الحلم فطاله الثعبان بلدغته وصار معرضا لمكروه كما هي معرضة ؟ مَن ذلك الثعبان؟
واتجه عقلها لا إراديا تجاه موسى أيعقل أن يكون هو من يتربص بهن ولكن لم؟ هو يبدو خلوقا ولكن الكارثة التي تؤرقها أن الجُرم لا يقع إلا ممن نثق بهم و نستبعدهم عن دائرة الاتهام !
ولكن إذا كان "موسى" هو من يتربص بها فمن كان منقذها بالحلم، سيف؟ و ضحكت باستهزاء محركة رأسها يمنة ويسرة قائلة بصوت مسموع :
-لا يمكن ... لا يمكن .
ربما يكون "سيف" هو ذاك الثعبان وسم أيامي .. يارب سلِّم .
نفسها خائفة وجلة كطفل وحيد تخلى عنه محبيه فجلس وحيدا خائفا ينزوي على نفسه، لم تستطع النوم من خوفها فقامت إلى حجرة أمها، فطرقتها ثم دخلت، توجهت نحو فراش أمها ثم نامت إلى جوارها متكورة بخوف داخل حضن أمها هنا ملجأها، هنا ستختبأ من شرور عقلها وأفكارها، وياليتها تستطيع الاختباء في مكان أبعد من ذلك، في رحم أمها لعلها تأمن مما ينتظرها في قادم الأيام
يُتبع…
__________________________________________________ ____
* الابتهال لنصر الدين طوبار ابتهال " يا إله العالمين"
رابط الابتهال:
https://youtu.be/i6tqa_nxwoi

https://youtu.be/guypmhhiwe8

بانتظار اَرائكم وانتقادتكم البناءة دمتم بود ومحبة💚
-بقلم/فايزة ضياء العشري
* ثيِّب : هي المرأة التي فَقَدَتْ زَوْجَها بِمَوْتٍ أَوْ طَلاقٍ.


فايزة العشري لوزة غير متواجد حالياً