عرض مشاركة واحدة
قديم 23-10-21, 10:36 PM   #180

روز علي
 
الصورة الرمزية روز علي

? العضوٌ??? » 478593
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 720
?  نُقآطِيْ » روز علي is on a distinguished road
افتراضي

كان يقف امام بناء المنزل بملامح قاتمة مظلمة وهو يحدد هدفه القريب على بعد بضعة اقدام...لتضيق بعدها عينيه السوداوين بحدة الصقر مع ابتسامة غامضة بافتراس بدأت بالبروز على زاوية شفتيه المتصلبتين...وكأنه على وشك ارتكاب جريمة شنعاء او عمل خطير لا يفصله الكثير عن تحقيقه...وهذه المرة بعزيمة اكبر وبدافع اقوى بدون اي قرار بالتراجع...فقد وصل الحقد بداخله والذي تغلغل بصميم روحه حد الانفجار والذي لن يستطيع كل قوة بالأرض ان تبعده عنه .

اخفض عينيه ببطء وهو يتنهد بقوة ليحرر كل غبار الماضي عن صدره وروحه ، قبل ان يكمل طريقه بخطوات ثابتة وبإصرار كبير وبرغبة عارمة بالثأر تزداد مع كل خطوة نحو هدفه .

وقف امام باب المكتب بعد ان غادر الخادم والذي استقبله حتى وصل إلى هنا ، بالرغم من حفظه للطريق مسبقا والتي تؤدي لهذا المكان بكل مرة يزور بها هذا المنزل ، وبالحقيقة لم يعد يستطيع تذكر عدد المرات والتي زار بها هذه الغرفة بسبب التقارب الذي يجمعه بذلك الساكن خلف المكتب والذي لم يترك له اي ذكرى جيدة بكل مرة يتقابل فيها معه ، وكأنه يصر على تشويه صورته وتلك الدماء والتي تربطه به حتى وصل للرمق الاخير من علاقته معه والتي لن تشفع له بعد الآن اي من اخطاءه نحوه .

زفر انفاسه بقوة وهو يمسك بمقبض الباب البارد مثل حدقتيه والتي تستطيع تجميد ما يصله من نظراتها ، وما ان اصدر الباب صوت بداية الحرب بنعيق عالي بسبب عمره الذي فاق عمر الجميع حتى بدأ يتجلى امامه شكل الصرح الكبير للمكتب الخشبي العريض ، ليرتفع بنظره بهدوء للذي كان يتربع ذلك الصرح وهو يجلس خلفه بكل هيمنة بعيون الصقور الشبيهة بعينيه رغم عمرهما والذي ظهر جليا عليهما ، بدون ان يفقد حدتهما وخلفيتهما المتوحشة والتي تظهر مدى خطرهما بأوقات العمل والتي ترهب اشجع الفرسان ، وهو يقابله بنفس النظرات بكره بدائي قديم اعتلى ملامحه بلحظة وهو يجابهه بالمثل ليكون له بالمرصاد .

اشتدت ملامحه بلحظة ما ان قال الذي اعتدل بجلوسه وبهيبة ما يزال يحافظ عليها
"اهلا بك يا ابن مصعب ، لم تطل علينا بهذه الزيارة منذ مدة طويلة ! هل تريد مساعدة بخصوص امور حياتك ؟"

تجول بنظره بلحظات بدون ان يعلو ملامحه اي انفعال قبل ان يهمس بابتسامة مشدودة قريبة للسخرية
"شكرا لك على هذا العرض المتأخر ، لو انك فعلتها بالسابق فقد كان من الممكن ان اوافق ، ولكن بما انني قد وصلت للحياة المثالية والمستقلة فلم اعد بحاجة لمساعدة احد ، وانت ستكون آخر من افكر بقبول مساعدته"

ابتسم ببطء مجرد التواء بطرف شفتيه المجعدتين وهو يقول بحزن مريب بدون اي شعور بالأسف
"صحيح لقد سمعت بأنك تحيى حياة مثالية بعد كل ما مررت به وتجاوزته بقوة وعزيمة تحسد عليهما ، فأنت قد اثبت لي حقا بأنك خصم لا يستهان به ، ونسيت ايضا بأن ابارك لك زواجك السريع والذي لم احسب له حساب ، فمن الذي سيتوقع بأن رجل مثلك ما يزال مقبل على الحياة ويفكر بالزواج والأطفال ؟"

عبست ملامحه بأول لمحة غضب تمر على محياه والتي استطاع بمهارة ان يخفيها خلف غلاف مشاعره الجليدية ، ليقول بعدها بلحظة بنفس الجمود الصخري وهو يجاريه بأسفه المزيف
"اجل هذا ما حدث ، فأنا بعد كل شيء لم اخطئ حتى اوقف حياتي بتلك اللحظة بالذات ، وتستحق عائلتي ان استمر بنسلها ونسعد بحياتنا القادمة والتي لا نعلم متى ستزول ؟ ولكن المؤسف بالأمر هي عائلتك والتي تبدو قد توقف النسل عندها وهذا لصالحنا لكي لا يعاني المزيد من البشر من اشباهك ومن وراثة جيناتك الاجرامية....."

قاطعه بأنفاس حادة وبدون ان يتحرك ساكنا فقط جمود احتل تلك الملامح المجعدة برهبة الهالة والتي تحوم من حوله
"كفى وإياك وان تنطق بأي كلمة زائدة يا ابن مصعب ، ولا تقلق بخصوص نسلي فأنا متأكد بأن ابني اوس لن يوقف جينات عائلته والتي سينقلها لأولاده"

ارتفع حاجبيه بدهشة باردة لوهلة قبل ان يشاركها بضحكة صغيرة لا إرادية وكأنه تشنج احتل حنجرته بحكة صغيرة ، ليعود للنظر له بقوة اكبر وبحقد ظهر للعيان وهو يهمس باستهزاء واضح
"هل تقول بأن ابنك هو الذي سيكمل النسل ؟ ولكن ماذا لو فشل بهذه المهمة ؟ ماذا لو كان مثل والده والذي لم يستطع الحفاظ على زوجته ودفعها للهروب منه بعد زواج دام لنصف سنة فقط ؟ فكما يقولون الولد سر ابيه"

ضرب فجأة بقبضته على سطح المكتب بغضب بدأ بافتراس ملامحه بلحظة فاصلة ، ليتنفس بعدها بهدوء استطاع استجلابه بصعوبة وهو يقول باستهجان السخط
"لقد تجاوزت كل حدودك هذه المرة يا ابن مصعب ! من اين تعلمت كل هذه الجرأة والوقاحة بالتكلم مع عمك الوحيد وكبير هذه العائلة ؟ ام ان تحسن حالك والعزة اخذتك بعيدا يا غر ؟"

ابتسم بدون اي حياة وهو يهمس بعبارة سمعها من قبل بنفور
"قد اكون تعلمت منك ! او جيناتك قد بدأت بالتأثير عليّ ؟"

تغضنت زاوية من شفتيه لا شعوريا وهو يهمس بخشونة بعد ان اختفى جزء من غضبه
"جميل ان اسمع هذا الكلام منك يا ابن مصعب ، ولكن لم تخبرني من هي الفتاة والتي تزوجت منك وقبلت بالارتباط بشخص يملك ماضي مثل ماضيك ؟"

اختفت الابتسامة تماما ليحل مكانها الوجوم العابس وهو يجيبه بلحظة بصوت مشتد قاسي
"هذا ليس من شأنك ، ولا علاقة لك بأي شيء يخص حياتي"

قطب جبينه بتجهم للحظات قبل ان يخرج سيجارة وهو يشعلها بيده الاخرى بصمت ، ليقول بعدها وهو ينفث دخان السيجارة ببأس
"إذاً لما اتيت لزيارتي اليوم ؟ وما لذي تريده مني الآن بعد ان ارتاحت حياتك ولم يعد وجودي بها له معنى ؟"

اجاب من فوره بصوت صلب واثق
"اتيت لأصفي حساباتي معك"

حدق به للحظات بتلك العيون الحادة والتي تحاوطها التجاعيد القاسية بدون ان تقلل من رهبتها ، ليبتسم بعدها ببرود وهو يتمتم بعدم اهتمام
"ليس هناك من حسابات نصفيها معا ، فأنا اذكر بأنك قد صفيت كل شيء مع كل من يدينون لك بحياتك ومعي شخصياً ، فلا تظن بأنني لا اعلم الشخص المسبب بحادثة السرقة والتي حدثت بمكان عملي قبل عشر سنوات ! ومع ذلك لم اعطي الأمر اهتماما كبيرا فقد كنت مجرد شاب طائش مندفع ما يحركه الانتقام فقط من اجل شقيقته المقتولة ، ولكن صدقني لن استطيع ان اتغاضى عن اخطائك كثيرا إذا استمرت على هذا المنوال"

كان يشدد على قبضتيه لا إراديا حتى ابيضت مفاصله بغضب اسود عاد ليطفو على روحه الحارقة ، وهو يشعر بنفسه قد وصل لنهاية صبره معه فاقت احتماله على مدار سنوات ، ليقول بعدها بجمود باهت وهو يوجه نظرات باردة بغضب ما يزال يلوج بأعماقه
"وانت تعلم ايضا بأنني لم افعل هذا سوى من اجل الحصول على كل المعلومات والتي توصلني لقاتل شقيقتي ، وكل شيء اخفيته عني بدون ان تطلعني على اي خيط يوصلني لها ، وكأن حياتك ستكون مهددة إذا افصحتني عن هذا السر"

عاد لينفث دخان سيجارته وهو يتمتم ببرود صخري
"إذاً تعترف بقبح جريمتك وما وصل له سعيك وراء تلك المعلومات ، صدقني كان بودي ان اساعدك بتلك الأوقات ولكن بما ان الحادثة كانت غير مقصودة والمتهم قدم لنا تعويضا عن كل الذي حصل ، فلم يعد هناك شيء بيدنا نستطيع فعله وهذا مصيرها بالنهاية ، واتمنى ان تتفهم الموقف"

انفجر فجأة صارخا بعنف وهو يلوح بذراعه جانبا باستهجان
"توقف عن الدفاع عنه وقول مثل هذه التبريرات الفارغة ! فأنت تعلم جيدا بأن فعلته اسوء بكثير مما تتخيل ، فهي كانت هدفه ومجرد خطة من اجل ارضاء شركاءه ولعبة بهذه الخطة الشنيعة ، لو انه لم يستدرجها بتلك الطريقة الحقيرة ولم يتقرب منها من الاساس ؟ لما كانت فعلته ستكون بكل هذه الشناعة ليكون هو تلك الوسيلة لتصل لهم"

دس طرف السيجارة بسطح الطاولة وهو يقول بجمود قاسي
"ولكنك لم تجني شيئاً من سرقة تلك المعلومات ، فأنا لا ارى بأنك قد عاقبت المجرم الرئيسي بكل ما حدث مع غنوة ! بل تركته يعيش حياته بحرية بدون ان تسبب له المشاكل ، بعكس المجرمين الآخرين وشركاءه والذين لم تتوانى عن اذاقتهم الويل والمرارة حتى بدأوا يتوسلون منك الرحمة وطلب الصفح"

عقد حاجبيه بغموض وهو يتابع الدخان المتصاعد امام عينيه بهدوء ، لترتفع ابتسامته لا شعوريا وهو يهمس بنشوة وبثقة كبيرة غيرت ملامحه بلحظة
"هذا لأنه حالة خاصة وحسابه وطريقة انتقامه ستكون مختلفة عن الباقين ، وقد تحقق جزء مما كنت اصبو له واخطط منذ سنوات ، ولم يبقى سوى القليل حتى يتحقق انتقامي بالكامل من جميع من سببوا الأذى لعائلتي"

رفع نظراته نحوه بجمود لوهلة ليتراجع بجلوسه بقوة وهو يقول بحدة نافذة
"حسنا ، وما لذي تريد تصفيته معي إذاً ؟ بما انك قد حققت انتقامك من الجميع ولم اعد موجود بالصورة !"

حرك رأسه للأسفل قليلا وهو يغلق الباب من خلفه ببطء هامسا بتصميم عاد ليتخلل صوته
"انا الآن لا افكر بأحد منهم ، بل كل ما اريده هو تصفية حساباتي كاملة معك انت ، يا عمي العزيز"

ارتفع حاجبيه ببطء شديد وهو يتقدم بجلوسه قائلا باستهزاء ساخر
"وما لذي تفكر بفعله مثلا ؟ تريد قتلي ودفن جثتي بالمكتب لتشفي غليلك مني !"

تقدم بخطواته بهدوء غامض وعينيه لا تترك هدفه وهو يهمس مع كل خطوة بتهديد حذر وبشرارة بدأت تلوح بالأفق
"ولما لا ؟ استطيع فعل ما هو اسوء من هذا ! ولا احد بالطبع سيعلم بالأمر ؟ وبكل دمعة واذى سببته لعائلتنا ستدفع ثمنها غالية"

اتسعت عينيه بتوجس من نبرة صوته ونظراته الغريبة الموحشة لأول مرة يراها عليه ، ليرفع رأسه بتأهب وهو يستعد للوقوف قائلا بعصبية استبدت به
"ما هذا الذي تتفوه به يا ولد ؟ هيا اخرج من هنا....."

قطعت كلماته الاخيرة الذي وصل له بلمح البصر لينقض على عنقه والتي اصبحت بين قبضتيه بلحظة وهو يعيده جالسا بقوة ، بينما كان هو يسطو عليه من فوق وهو يهمس امام وجهه والذي بدأ بالتحول للون الازرق المنتفخ وبشراسة وبدون اي رأفة بقلبه المحمل بالسواد ناحيته
"كيف تشعر يا عمي وانا احاول خنقك هكذا ؟ وانت الآن على وشك الموت بين يدي ! كما كنت تفعل معي عندما كنت بعمر الخامسة عشرة وما ان اتمرد عليك وارفض اوامرك ، لتحاوط عنقي بتلك اليدين الصلبتين القاسيتين وهي تكاد تزهق انفاسي الاخيرة"

كان يحاول مجابهته وهو يتلوى بمكانه بدون فائدة وهو يتفوق عليه جسمانيا وصحيا وبقوته والتي تفوقه كذلك بأضعاف ، ليكمل كلامه الذي التقط القداحة من على سطح الطاولة والتي كان يشعل بها سيجارته من لحظة ، ليشعلها امام عينيه والتي كانت تتابع الشعلة الصغيرة الخارجة بينهما وهو يهمس بخفوت شديد وبمرارة حارقة
"انظر استطيع ان احرقك بهذه الشعلة الصغيرة والتي ستحولك لقطعة فحم اسود بالي ، كما كنت تهددني بالماضي بنفس هذه الشعلة وانت تقربها من عينيّ قائلا بأن لا احاول العبث بالنار لكي لا احرق اصابعي ، وبالحقيقة كنت دائما تحرق قلبي وروحي بنفس هذه النيران والتي بدأت بالاشتعال والهياج بداخلي اكثر حتى وصلت لأقصى درجاتها"

امسك بقبضتيه بيديه المجعدتين وهو يحاول تلقف انفاسه بارتجاف هامسا بتقطع وبضعف لأول مرة يظهر على محياه وبعد ان هز قوته وجبروته
"كفى يا جواد ، فلا تنسى بأنني عمك يا مجنون ! لذا إياك وان تتهور"

اتسعت ابتسامته بقتامة بدون اي مرح وهو يعاود تقريب الشعلة من وجهه حتى شعر بها تحرق جانب وجهه قائلا باستهزاء منفعل
"الآن تقول وتعترف بأنك عمي ! وماذا عن ابن شقيقك والذي اذقته المرار طيلة حياته الماضية ؟ وماذا عن شقيقته والتي دائما ما كنت تلقبها بأقذر الألفاظ كالعاهرة بدون اي وجه حق ؟ وحتى بعد موتها لم تتكلف ولو قليلا بإظهار بعض الحزن عليها ومحاولة استرداد حقها ؟ وماذا عن زوجة شقيقك والتي كنت تعايرها بموت زوجها وبقلة حيلتها بدل ان تقدم لها الدعم ! لقد تجاوزت بتصرفاتك كل خبث العالم وحتى لو بقيت اتكلم عنك لأيام اخرى فلن استطيع ان اوفيك حقك !"

تشنج جسده بدون ان يستطيع التكلم او النطق وهو يحاول الوصول لسلاحه بدرج المكتب ، ولكن يده كانت اسرع منه وهي تمسك بذراعه بقوة حتى كاد يكسرها وهو يعيدها لخلف ظهر الكرسي بلحظة ، ليقول بعدها بابتسامة شرسة مشبعة بالكراهية وهو يحرك رأسه بقسوة
"لا تحاول مجابهتي اكثر يا عمي فهذا سيضرك اكثر وسيسرع من موتك ، فنحن الآن لم نعد كما كنا بالماضي فقد انقلبت الأدوار بيننا واصبحت انا الزعيم هنا وانت العبد المأمور ، فقط لتشعر قليلا بما كنا نشعر به عندما كنا اطفالا لا حيلة لنا بالمقاومة او القتال"

قرب اكثر بالقداحة المشتعلة على وجهه حتى بدأ يتشنج بانتفاض ويطلق صوت خواء مذبوح ، ليلقي بعدها بالقداحة بعيدا بلحظة وهو يقرب وجهه منه هامسا بابتسامة صغيرة بانتشاء غريب
"ولأنني لا اريد ان اكون مثلك بأي شكل كان ، ولا اريد اي رابط شبه ولو من بعيد ان يجمعنا معا ، سأطلق سراحك الآن لتعيش المتبقي من حياتك مع كل الذنوب والتي ستحملها بالعالم لنهاية يوم بحياتك ، استمتع يا عمي متحت لأن العذاب قادم لا محالة إذا لم يكن بالحياة الدنيا فسيكون بالحياة الآخرة"

زفر انفاسه بحرقة قبل ان ينفض عنقه بعيدا عنه بعنف ليرتمي اكثر على الكرسي باهتزاز حتى كاد يقع به ، ليستدير الآخر بعيدا عنه وهو يتمتم بصوت هادئ اختفى عنه كل انفعال كان يحتل كيانه بلحظة
"لو كنت حقا مثلك لما سامحتك عن كل اخطاء الماضي ! ولكنت فعلت معك بالمثل واذقتك من نفس الكأس المر والذي لم تتوانى عن اذاقتي إياه ؟ ولكني لست مثلك ولن اكون ولن اسمح بتلك الجينات والدماء بالسيطرة عليّ مهما حصل ، فأنا اُفضل الموت على ان اشبه بشخص حقير مثلك"

اعتدل بجلوسه الذي كان يتنفس بسرعة زادت من حدة خفقات قلبه وصدره الضعيف والذي ظهر عليه تعب الزمن وعمره الحقيقي والذي بان على تقاسيم وجهه ، بينما اندفع الجامد بمكانه باتجاه باب المكتب بدون كلام قبل ان يصطدم بالباب والذي فُتح امامه فجأة بدون سابق إنذار ، ليسكن بمكانه قليلا فقط للحظتين قبل ان يشيح بوجهه جانبا بجفاء اكتسح حياته لوهلة ليتبعها بتحركه وهو يغادر من الغرفة بأكملها وكأن شيء لم يكن !

كان الواقف عند إطار الباب ينظر بأثره بهدوء وبصمت تام ، قبل ان تظهر شبح ابتسامة على محياه بلحظة وهو يحرك رأسه بوجوم ، وبألم عاد لينتشر بسائر جسده ببطء ليقبع بمنتصف حياته مثل العلقم والذي ما يزال مضطر لتذوقه بكل مرة يرى بها تلك النظرات بدون ان يستطيع فعل شيء حيالها ...

_______________________________
كانت تراقب بعيون متسعة بجمود أطباق الطعام الكثيرة والتي كان يوزعها النادل على انحاء الطاولة المستديرة بانتظام....تنهدت بعدها بملل وهي تشيح بوجهها جانبا بعيدا عنهما مريحة ذقنها فوق قبضتها ومرفقها منتصب فوق الطاولة...شردت برواد مطعم الفندق الفاخر وجميعهم تظهر عليهم علامات الثراء والرقي الفاحش...وليس بملابسهم وبحليهم فقط بل بحركاتهم المدروسة وبأسلوب كلامهم وتناول طعامهم من اصناف اطعمة محددة مثل طبيعة حياة نشئوا عليها منذ المهد...بينما لا يعلم احد منهم ما يعانيه اصحاب الطبقات الدنيا والأقل حظاً بالحياة والذين يحسبون كل لقمة كانت تدخل لأفواههم بتلك الحياة الصعبة والتي لم يجربها سوى من قست عليه الحياة لينتمي لتلك الطبقات ! ولكن ماذا عن الذي يملك بالفعل سبيل ورابطة دماء توصله لكل تلك الرفاهية والتي حرم منها على مدار سنوات بدون ان يستطيع الاقتراب منها لأنه ببساطة قد نبذ منها من قبل ان يولد ؟

زفرت انفاسها بوجوم وهي تبعد مرفقها ما ان قال المقابل لها بجدية نافذة
"اين شردتِ يا ألماستي ؟ لقد حان وقت الطعام الآن ، ام تنتظرين الدعوة لذلك ؟"

رفعت وجهها بإيباء مشدود وهي تهمس بخفوت مستاء
"كم مرة اخبرتك ان تتوقف عن تلقيبي بهذا الاسم ! فهو مزعج ولا يعجبني ابدا"

امسك بالسكين والشوكة وهو يقطع شريحة لحم بطبقه بمهارة هامسا باهتمام مزيف
"ولكنني اراه مناسبا جدا لكِ ، ولن اجد اسم غزل يعبر عنكِ اكثر منه ، ألا إذا كان هناك اسم آخر تريدين مني ان اطلقه عليكِ ! بالمناسبة بماذا كان يناديكِ زوج والدتك ؟"

ارتفع حاجبيها بدهشة لحظية قبل ان تعبس بجمود ملامحها بدون كلام ، لتشرد بعدها بطبقها امامها لثواني وهي تهمس بدون اي تعبير
"وبماذا سيفيدك معرفة ما كان يناديني به زوج والدتي ؟ هل ستستخدمه انت ايضا لتطلقه عليّ ؟"

رفع قطعة اللحم بالشوكة لفمه وهو يتمتم امامها بابتسامة جانبية بتفكير
"بل من اجل ان اقارنه بين لقب الألماسة وبين اللقب الذي كان يناديك به ، بالرغم من تأكدي بأنه لا ينتمي لأسماء الغزل !"

زمت شفتيها بعبوس وهي تنظر لقطعة اللحم والتي افترسها بشفتيه وهو يمضغها باستمتاع واضح ألجمها لثواني ، لتقول بعدها من فورها بلا مبالاة وهي تعود للنظر لطبقها بهدوء ظاهري
"انت على حق لم يكن له علاقة بأسماء الغزل ، فقد كان يناديني بلقب شبيهة والدتي بسبب الشبه بيننا كما كان يرى"

ساد الصمت للحظات قليلة قبل ان يعود للكلام الذي اخفض الشوكة امام الطاولة وهو يهمس بصوت اجش مبتسم
"انا ارى بأنه قد اخطئ بشدة بهذا اللقب وبصورة التشابه بينكما ! فكل شخص يتميز بصفة تجعله يختلف عن الآخرين ولا احد بالعالم يشبه احد ، كما انكِ يا ألماستي شخصية استثنائية عن الجميع ولن اجد من يملك نفس صفاتك إذا كان ظاهراً او داخلياً ، ثقي بهذا الكلام دائما واجعلي الجميع يفخر بما انتِ عليه لأنكِ مميزة"

اتسعت عينيها قليلا بتموج قاتم وبمشاعر اختلجت بصدرها بلحظة وهي تسمع كلام كانت تحتاج له بشدة بتلك الفترات المتفاوتة والتي كانت تظن فيها بأنها شخصية موصومة بالعار وانعكاس عن صورة والدتها والتي خلقها الجميع بداخلها ، وعبارات كثيرة هي ما كانوا ينطقون بها على الدوام ما ان تتقابل مع معارف والدتها بالعمل وبالحياة

(تشبهين والدتك شكلاً وقالباً ، وكأنكِ نسخة مصغرة عنها ، وكأنها قد تركت لنا نسخة ملعونة بعد رحيلها لتكمل مسيرتها بسخط ما تبقى من البشر وافساد حياتهم)

عضت على طرف شفتيها بألم افترس ملامحها وهي تشدد من القبض على يديها بحجرها لا شعورياً ، لترمش بعدها بعينيها عدة مرات محاولة نفض الحرقة عن سطح روحها والتي ارسلت نيرانها لكل طرف بجسدها المشدود بقوة ، رفعت عينيها بوجل باتجاه الطبق والذي قدمه الجالس امامها بدون مقدمات وهو يهمس برفق
"لقد ملئت طبقك بكل اصناف الأطعمة الشهيرة ، والتي اكيد ستحوز على إعجابك وتفتح شهيتك للطعام ، فأنتِ لم تتذوقي بحياتك مثل هذا الطعام الفاخر ، وهذه فرصة لتجربي تناول كل جديد قد يغير حياتك للأفضل"

امتعضت ملامحها فجأة بشعور بالمرارة وهي تهمس من بين اسنانها بقنوط
"لا داعي لهذه التلميحات الساخرة عن حياتي الماضية ! ولا يهمني تجربة اي شيء يخص حياتكم المثالية والتي لا يشوبها اي معاناة او عجز امام طبقات المجتمع الدنيا"

وضع الطبق امامها مباشرة وهو يهمس بملامح هادئة وبابتسامة صغيرة بثقة بدون ان يهتم لاتهاماتها المبطنة
"لقد اسئتِ الظن مجددا واخفق عقلك بالتفكير كما يفعل عادةً عندما يتخلل به الغضب ، فأنتِ تعلمين جيدا بأن هدفي من هذا الكلام ليس السخرية بل تشجيعك على تناول الطعام ؟ فأنا اريد منكِ ان تستمتعي بتناول طعامك حتى تصلي حد الامتلاء ، وايضا من اجل ان تعوضي عن نقاط النقص بجسدك الهزيل والذي يكاد يختفي تقريبا !"

عقدت حاجبيها ببطء شرس وهي تمر بنظرات سريعة على جسدها تحت سترتها الحمراء ، لترفع نظرها بقوة وهي تدس خصلاتها لخلف اذنيها هامسة بابتسامة متصلبة باستهزاء
"يبدو بأن السيد معشوق الفتيات لم يعجبه عيوب زوجته والتي اكتشفها بعد ان تزوج بها وتورط ؟ وصدقني مهما حاولت تجميل صورتك امامي فلن تستطيع اخفاء يأسك من اختيارك والذي وقع على الفتاة الأقل انوثة بالعالم بالمقارنة مع عشيقاتك السابقات !"

سكنت ملامحه لوهلة وهو يرفع حاجب واحد بجمود صامت مشحون بكل انواع المشاعر والتي مرت على محياه بثانية ، ليعود من فوره للابتسام ببرود وهو يرفع الشوكة امام فمه قائلا بجفاء
"يبدو بأنكِ ما تزالين تعانين من الغباء والتفكير المحدود بعد كل شيء ؟ وانا الذي ظننت بأنني قد استطعت كبح جماحك اخيرا ! ولكن يبدو بأنكِ تحتاجين لأكثر من ترويضك ؟"

انفرجت شفتيها بصدمة وهي تحاول تحليل كلامه الاخير ببطء وبغضب بدأ يستولي على كيانها بأكمله رويدا رويدا ، لتخرج عن صمتها بآخر لحظة وهي تهمس باستيعاب واجم
"ماذا تعني بترويضي ؟ هل تراني فرس امامك !....."

قاطعها الذي طرق بالشوكة على الطبق بقوة وهو يقول بانفعال مفاجئ
"ماسة تناولي طعامك بصمت ، فنحن الآن بمطعم ولسنا لوحدنا ، وعليكِ التزام آداب المائدة هنا من اجل ألا يفكروا بنوع الطبقة التي اتيتِ منها !"

غرزت اسنانها بطرف شفتيها بقسوة وهو يزيد من سخريته منها بدون ان تجد القدرة على مجاراة هذا الماكر المتلاعب معشوق الفتيات ، حتى انها لم تتأكد للآن من صحة تلك القصة والتي سمعتها من تلك الفتاة الغامضة والتي تكون من ضمن قائمة صديقاته السابقات ؟ والتفكير فقط بكل هذا الكم من الحقائق يودي عقلها للجنون المحدق ، والذي يتربص لكل أمل بالسعادة بحياتها والتي ما ان تنبت بروحها حتى يعود من يسحقها بقسوة واقعها !

امسكت بالشوكة وهي تغرزها بقطعة شريحة اللحم بقسوة حتى شعرت بها تمزق نياط قلبها وليس قلب شريحة اللحم امامها ، لتنتفض برأسها عاليا ما ان قال الذي كان يمسك بالشوكة والسكين بهدوء
"ألماستي ليس هكذا يؤكل اللحم ! بل هكذا"

ارتفع حاجبيها بانتباه مشدوه وهي تشاهد الذي كان يقطع شريحة اللحم بالسكين الخاصة به بهدوء وروية ، قبل ان يتبعها بلحظة بالشوكة بيده الاخرى والتي غرزها بقطعة اللحم المقسومة بقوة ، لتصل بعدها الشوكة لشفتيه وهو يمضغ قطعة اللحم بثانية بين اسنانه الحادة بصمت .

افاقت من تأملها بشرود وهي تخفض نظراتها لشريحة اللحم الخاص بها ، لتمسك بعدها بالسكين بيدها الاخرى وهي تستعد للانقضاض على شريحة اللحم باستخدامهما ، لتطبق بعدها ما فعله امامها بنفس الخطوات حتى وصلت بالنهاية قطعة اللحم لشفتيها وهي تدسها بداخل فمها بهدوء ، لتمضغها بعدها بين اسنانها ببطء شديد وبشراهة وكأنها تحاول تذوق نكهتها وليونتها على مهل وبشهية مفتوحة على الحياة .

بينما كان الجالس مقابل لها يراقبها بحاجبين مرتفعين بتأهب وهو يتمعن بكل حركاتها الدقيقة والتي علمها إياها من لحظة ، وهي تطبقها بحذافيرها وباستمتاع تجلى على محياها وهو يحقق هدفه المنشود ، لترتفع زاوية شفتيه بابتسامة تحمل الهيام والشغف معا وهو يشاركها بابتسامتها الصغيرة والتي احتلت شفتيها الحمراوين بلحظة وكأنها عدوة ونقلتها نحوه عبر ذبذبات حركات ملامحها والتي تدهشه بأصغر تفاصيلها الفاتنة .

ارتجفت ابتسامتها كما ملامحها بلحظة وهي تخفض وجهها بعيدا عن نظره بحياء استبد بها واخذها على حين غرة ، ليرجع بعدها برأسه قليلا للخلف وهو يغير وجهة نظراته بعيدا عنها .

ابتسم بميلان وتفكير ما ان وقعت نظراته على عدد من الازواج الراقصين بمنتصف المطعم والذي يشكل منطقة للرقص على اجواء انغام القاعة بسحر المكان ، ليقول بعدها بلحظة بشرود خافت
"ما رأيكِ ببعض التغيير وتجربة شيء آخر جديد ؟"

رفعت عينين حائرتين برجفة وهي تمضغ الطعام ببطء بدون ان تتبين مقصده بكلامه الاخير ، لتوجه بعدها نظراتها للمسار الذي ينظر إليه وهي تبتلع طعامها بهدوء شديد ، قبل ان تتسع مقلتيها بلحظة وهي تنفض غمامة الاستمتاع عنها لتستبدلها بالوجوم العابس والذي عاد ليتجلى على محياها .

عادت للنظر امامها وهي تغرز الشوكة بسلطة الملفوف بطبقها هامسة بلا مبالاة وكأنها لم تسمعه
"الطعام شهي جدا ، شكرا لك على تعليمي كيفية التناول الصحيحة وبأسلوب مهذب لائق يناسب طبقتك المخملية"

حرك رأسه قليلا بدون ان يعير كلامها الاخير انتباه وهو يهمس بجدية وبتصميم بدأ يلوح بصوته
"ما رأيكِ بهذا ! ستكون لمسة لطيفة على امسية هذه الليلة"

زمت شفتيها بحنق لوهلة وهي تمضغ السلطة بقسوة اكبر ، لتضع الشوكة بجانب الطبق بقوة وهي تلوح بيدها هامسة بكل ما تحمله من لطف
"لقد شعرت بالنعاس فجأة ! هل يمكننا العودة لجناحنا الآن ؟"

وقف فجأة الذي نظر نحوها اخيرا بابتسامة باردة وبعيون سوداء احتدت بلحظة بعناد بعث الحذر الغريزي بأطرافها ، ليحدث بعدها ما كانت تتوقعه وهو يلتف حول الطاولة بلمح البصر قبل ان يقف بجانب مقعدها ، ليحرك بعدها رأسه بإشارة الإصرار والتي حفظتها جيدا لتدفعها لأخذ الحيطة دائما وهو يشاركها بيده والتي ارتفعت امامها بدعوة للقبول الآمر .

قال الذي ابتسم بهدوء وبصوت اجش قوي
"هيا بنا يا ألماستي لنغير اجواء الحفلة قليلا"

تراجعت بمقعدها بتحفز وهي تحرك رأسها بالنفي بعنف هامسة باستنكار
"لا يا شادي ليس مجددا ! انا لا احب هذا....."

قطعت كلامها اليد والتي سحبت ذراعها برفق لتنهض عن مقعدها بقوة ، وبدون سابق إنذار كان ينزل بيده على طول ذراعها ببطء قبل ان يعتقل كفها الباردة بيده القوية بثانية ، ليسير بعدها باتجاه الساحة المستديرة بمنتصف المطعم وبين الازواج الراقصين هناك .

وقف امامها بهدوء وهو يشب يديه بخصرها بقوة هامسا امام وجهها القريب بانفعال خشن
"اسمعي جيدا واتبعي خطواتي بحذافيرها كما فعلتِ بطريقة تناول الطعام ، ولكن هذه المرة المهمة ستكون اصعب وامام ملايين المشاهدين واي خطأ متعمد منكِ ستدفعين ثمنه غاليا يا ألماستي"

تجمدت ملامحها بشحوب باهت وكلامه يتردد بصدى روحها بنفس الجملة الاخيرة والذي تعلم جيدا ما يتبعها عادة ، لتفيق من غمامتها غصبا ما ان تشبث اكثر بخصرها وهو يقربها على بعد خطوة منه ، لترفع بعدها يديها ونفسها على اطراف حذائيها وهي تتمسك بكتفيه بقوة هامسة بجانب اذنه بوجوم
"اذاً تحمل تبعات خسارتك القريبة !"

اتسعت ابتسامته اكثر وهي تميل بتحدي هامسا بصوت ثعلب ماكر
"سنرى يا ألماستي !"

ابتسمت بدون اي مرح حقيقي وهي تتحرك مع خطواته وبكل حركة كانت تدوس على حذائيه بكعبيها المسننين بعنف متعمد بكل لحظة واخرى ، لتتغضن ابتسامته بضيق وهو ينزلق بنظره على حذائيها المسننين قبل ان يهمس بصوت مشتعل وهو يتقبل بداية التحدي الخاص بها
"إذاً تريدين اللعب بهذه الطريقة ؟ لكِ هذا"

ارتفعت عينيها برجفة سريعة تحولت لانتفاض ما ان شعرت بجسدها يرتفع بخفة على اطراف حذائيها بدون ان تشعر بالأرض تحتها...وبلحظة كانت تتشبث لا إراديا بكتفيه بذعر وهو يدور بها عدة دورات اخذت عقلها بالكامل بدون ان تأبه بما يجري من حولها...وما ان خف الدوران من حولها وهو يسندها بجسده بدون ان ينزلها ارضا حتى انسابت يديه مثل الموج على جسدها من تحت ثوبها....وهو يتحرك مع تفاعلات وتشابكات جسديهما معا بكل الاتجاهات بنعومة فائقة لم تشعر بها من قبل...وكل هذا يحدث وهي فوق الأرض ومعلقة فوق السحاب بدون ان تمنع السعادة من التدفق على تفاصيل ملامحها وبابتسامة طافت على شفتيها بهيام غير محدود...وشعرها يحلق مع دوامات سعادتها العارمة وهو يضرب على وجهها مثلما يضرب على دقات قلبها الهائجة بعنف اتعبها من فرط مشاعرها والتي فاضت لأول مرة خارج قوقعتها المحكمة .

تنفست بارتجاف سكنت معها اصوات الصخب بداخلها ما ان توقف كل شيء للحظة ، قبل ان تشعر بجسدها وهو ينزل للأسفل تدريجيا برفق وهدوء ، لتلمس بالنهاية قدميها الارض بحذر وهي ما تزال متشبثة به بدوامات دوارها والذي اغشى عقلها وغمر قلبها بفرحة اللحظة .

رمشت بعينيها عدة مرات بارتعاش ما ان اخترق سمعها المشوش صوت التصفيق الحار من حولهما بقوة بدأت بالارتفاع تدريجيا لتعيدها لأرض واقعها والتي ابتعدت كثيرا عنها ، اخفضت يديها بعيدا عنه وهي تمسح كليهما بقماش الثوب باهتزاز ، لتجول بعدها بنظراتها بتخبط بالساحة والتي فرغت فجأة من الراقصين سواهما ، وجميع رواد المطعم مجتمعين حول الساحة مثل الحلقة وكل منهم ينظر لهما بين الاندهاش والانبهار وكأنهم كانوا يقدمون لهم للتو عرضاً عاطفياً مجانيا مثل جزء من فيلم حيّ !

رفعت عينيها امامها بضيق لتصطدم بالذي كان ينظر لها بنفس الابتسامة المائلة ولكن هذه المرة مع لمحة انتصار تغلبت عليها ، لتعض بعدها على طرف شفتيها بغيظ يكاد يفتك بها وهي تنظر له بتلك الأحداق البحرية بأمواج هائجة تختلف عن هياج مشاعرها السابقة ، لتستدير بلحظة لوهلة وهي تهدأ صخب نبضاتها من فرط ما حدث معها الآن ، قبل ان تسير بعيدا عنه بجمود وهي تتجاوز كل الصفوف من المجتمعين حولها بدون ان تلقي اي نظرة نحوهم ، وهي تكمل طريقها خارج المكان بأكمله وخارج تلك الدوامة المجنونة والتي انهكت مشاعرها اكثر مما تحتمل .

_______________________________
وقف امام باب الغرفة بملامح باردة حجرية بدون اي تقاسيم او تعابير مجرد تلبد طاف على اسمرار ملامحه القاسية...امسك بمقبض الباب وهو يعزم امره لتأخذ منه ثواني قبل ان يدفع باب الغرفة باللحظة التالية بقوة اكبر مما يستحق وكأنه على وشك خلعه من مكانه...لتقع عينيه من فورها على الجالسة على طرف السرير تعطيه ظهرها وهو يسمع صوت تمتمات خافتة حفظ نبرتها العذبة عندما يخرج بتلك الطريقة السلسة والتي تستطيع بها تطهير قلب من يسمعها....وهذا ما حدث معه وهو يتسلل لصميم قلبه مباشرة ليطفئ هياجه وينفض ما تبقى من غبار الماضي عنه وهو يتسلط عليه بدفء نافضا كل برودة جليده والتي كانت تكتسحه من لحظة ...

قبض على يديه وهو يتقدم عدة خطوات امام التي كانت تتلو سور من القرآن الكريم وهي منحنية قليلا امامها وبتركيز شديد وخشوع لما تفعله ، ليتوقف بجانبها على بعد خطوات من السرير وهو يحاول ان يخترق غمامتها المقدسة بمثل هذه اللحظات المهمة بالنسبة لها ، عندما تخلو مع نفسها وتفرغ كل الحلول من رأسها ليصل يأسها وقلة حيلتها لتستنجد بتلاوة القرآن الكريم علها تجد به راحتها التامة واطمئنان قلبها بتطهيره بنور الله ، تعقدت ملامحه بضيق وهو يعود طفل صغير يحاول صياغة كلامه وطلب السماح من والدته ورضاها عليه ، ليهمس بعدها بلحظة بكل ما يستطيع من رجاء وحزن معدوم
"امي اريد التكلم معكِ ، لذا هلا اعطيتني القليل من وقتك ؟"

ضم شفتيه بتصلب ما ان تجاهلته الساكنة بمكانها وهي تستمر بتلاوة القرآن بهدوء وخشوع تام ، ليرفع بعدها ذراعه وهو يحك مؤخرة عنقه بتشنج سرى على طول عاموده الفقري ، ليخطو بلحظة خطوة اخرى بالقرب منها وهو يعود للهمس برجاء اخفت وبملامح عابسة
"امي رجاءً ! اسمعيني فقط انا....."

صمت بتجهم وهو يراقب التي اغلقت القرآن بيديها برفق وهي ترفعه لمستوى وجهها لتقبله بهدوء بالغ دام لعدة لحظات ، قبل ان تتحرك من مكانها وهي تضع المصحف بمكانه الخاص فوق الرف وبحرص شديد .

قطع الصمت مجددا عندما شعر بضيق الانتظار بدون ان تعطيه انتباه
"انا اعتذر"

سكن بمكانه للحظات ما ان خرج صوتها اخيرا ببرود الاجواء بينهما وهي تعود للجلوس هامسة بجمود
"اخرج من هنا يا جواد ، فأنا ليس لي طاقة للتكلم بشيء الآن"

ارتفع حاجبيه بدهشة تنتابه لأول مرة وهو يخفض ذراعيه للأسفل مثل حال المذنبين ، ليهمس بعدها بخفوت مهتز سيطر على نبرة صوته
"ولكنكِ غاضبة ولا استطيع تركك بهذه الحالة ، فقط لو تعطيني الفرصة للكلام ، واعدك....."

قاطعته بقبضة يدها والتي ضربت على ساقيها بعصبية مفرطة تخرج بحدة لأول مرة وكأنها قد فقدت القدرة على تجميع افكارها من الغضب والذي احتلها بلحظة
"كفى يا جواد ، لا اريد سماع اي تبريرات منك لن تشفع عندي كل ذنوبك والتي اقترفتها بحقي وبحق الآخرين ، فقد تجاوزت الحد المسموح به بالصفح والسماح ، وكله بسبب حقدك المرضي والذي دمر حياتنا بأكملها وقلبي الملهوف عليكم....."

قطعت كلامها بنحيب صامت ما ان جثى امامها بقوة الذي اخفض رأسه عند ركبتها بلحظة وهو يتبعها بهمس خافت اقرب للتوسل الراجي
"اتوسل إليكِ يا امي لا تقولي مثل هذا الكلام وتلقي باللوم عليّ كاملا بكل شيء يحدث معنا ، فأنا بشر بالنهاية ولست ملاك الرحمة والذي يصفح ويسامح بعد كل ما جرى معنا ، انا اعترف بأنني قد اخطئت كثيرا ولم اسمع كلامكِ وارتكبت الكثير من الذنوب والتي لا تغتفر بطريق استعادة حق غنوة ، ولكن ماذا تتوقعين مني ان افعل وانا ارى شقيقتي الصغرى تموت امام عيني بدون ان يحاسب القاتل على جريمته ؟ وانا ارى كل من اعرفهم من اصدقاء واقارب ينقلبون ضدنا بلحظة ويضعون كل اللوم على غنوة بجريمة قتلها وبأنها لا تستحق الحياة بعد ان شوهت صورتنا امام الناس بدون ان ينظروا بتفاصيل الجريمة الحقيقية ! وبعد كل هذا تريدين مني ان اصمت واشاهد والجميع يعبث ويشوه بشرف غنوة كما يحلو لهم ويرون ! وكل هذا لأن والدي غير موجود ليوقفهم عند حدهم...."

قاطعته الهمسة المنتحبة من التي ضمت قبضتيها معا امام صدرها المذبوح على ضناها
"كفى يا جواد ، ارجوك"

تجمدت ملامحه لوهلة قبل ان يتابع كلامه بدون ان يأبه بارتجاف جسدها امامه وهو يسند جبينه على ركبتها بسكون وبملامح اختفى عنها كل سبل الرحمة
"صدقيني يا امي ما فعلته لا شيء مما يستحقه هذا النوع من حثالة البشر ، لقد كنت انتظر بفارغ الصبر حتى يقوى عودي قليلا واستطيع مجابهتهم بنفس قوتهم واذاقتهم العذاب والويل لتجربة القليل مما اذاقوه لشقيقتي ولنا ، وجعلهم يتمنون الموت رحمة لهم من عذابي لكي يندموا على اللحظة والتي وضعوا بها شقيقتي يوما بمخططهم ، وعليهم ان يكونوا ممتنين بأنني قد تركتهم بالنهاية لعقاب السجن وتسليم نفسهم للشرطة بعد ان اذقتهم كل انواع التعذيب المعنوي والجسدي ، وقد فكرت كذلك كثيرا بطريقة مناسبة لتعذيب صاحب الجريمة والقاتل الحقيقي ، وعندما اكتشفت بوجود شقيقة له قررت بتلك اللحظة ان ألعب بنفس طريقته وعلى نفس المستوى ، فقط من اجل ان يعرف بشناعة جريمته ويكتشف ذلك الشعور بتذوق نفس الكأس باستخدام اقرب الناس له ، ولكن....."

حبست شهقتها بكفها بارتجاف وهي تنظر للوجه والذي ارتفع نحوها وهو يكمل بطعن قلبها بهمس لا يكاد يسمع
"ولكنني بالنهاية اختلفت عنهم جميعا يا امي ، فأنا لم انفذ انتقامي بحذافيره ولم اكمل تعذيب كل من خاصمونا وعذبونا ، لو كنت كما تتخيلين حقا لما تزوجت من صفاء بعقد زواج حقيقي وبعكس ما حدث مع غنوة ! لو كنت حقا مثل عمي لما تركته على قيد الحياة لهذه اللحظة وانا اتجاهل كل قباحة تصرفاته بدون اي عقاب ! هل سمعتِ يا امي انا لست بكل هذا السوء فما ازال احمل بعض الضمير والرحمة وتلك التعاليم والأخلاق والتي تربيت عليها منذ الصغر ؟ وهذا الذي دفعني لأؤمن دائما بأن كل ظالم وكل جبار بالحياة سيعاقب على شر اعماله يوما ما ، إذا لم يكن الآن فهذا سيحدث اكيد بالحياة الآخرة ، أليس هذا ما كنتِ تقولينه دائما ؟"

اخفضت يديها بعيدا عن شفتيها بهدوء وهي تمسح على رأس ابنها القابع على ركبتها ، لتسيل دموعها من عينيها الواسعتين بانحدار وهي تهمس بخفوت واهي وببسمة خفية بحزن
"اجل هذا ما قلته لك ، لكل ظالم رب يحاسبه ولكل مظلوم رب يناجيه ، لذا دع العبد للخالق"

قبض بيديه على عباءة والدته بقوة حتى لم يعد يشعر بالألم الموحش القابع بداخله ليتحرر على شكل دموع خفية وهو يدفن وجهه اكثر بقماش تلك العباءة السوداء ليبث بها آلامه واحزانه والتي كبتها على مرور سنوات ، وهو يهمس بتحشرج مرير مثل العلقم يخرج لأول مرة بصوته الخشن
"سامحيني يا امي واعفي عني هذه المرة ، فأنا لا اريد خسارتك كذلك ولا اريد ان تستمري بهذا الغضب عليّ ، فأنتِ عندي كل شيء املكه وما افعله فقط من اجل رضاكِ ومن اجل ان امسح ذلك الألم الساكن بعينيكِ منذ وفاة شقيقتي وابنتنا الصغرى"

شهقت بدموع اكثر وبغصة نحرت ما تبقى من فتات قلبها الباكي ، وهي تبعد يديها عن شعره بلحظة لتطوق رأسه بين احضانها بقوة وهي تهمس بخفوت حاني عاد ليتدفق نحو ابنها الوحيد بعطف
"اكيد انا اسامحك يا بني ، وليس لأنك اعتذرت عن خطأك واظهرت ندمك به فقط ! بل لأنك ابني الوحيد وقطعة مني واول فرحة لي بهذه الحياة منذ ان ولدت ، وآخر امل تبقى لي بهذه الحياة لأعيش عليه وعلى تربية عائلتك المتبقي من عمري ، فقط توقف عن جرح قلب والدتك وهجرها وسأكون عندها اكثر من سعيدة وراضية"

تنهد بعمق للحظات وبراحة تجتاحه لأول مرة لم يشعر بها منذ زمن بعيد ، وهو ما يزال يريح وجهه بأحضان والدته الحانية هامسا بخفوت متأني
"اعدك يا امي ، فقط اريد منكِ ان ترضي عني"

مسحت دموعها التي ما تزال تهطل على وجهها الشاحب بغزارة ، لتريح بعدها كفها فوق رأسه وهي تهمس بابتسامة صغيرة بسعادة بدأت تطفو على ملامحها
"انا دائما راضية عنك يا بني لآخر يوم بحياتي ، وكل ما ارجوه ان تتوقف عن إيذاء الناس من حولك ، وان تزيل كل الحواجز بينك وبين شقيقك اوس ، وان ترحم قليلا زوجتك الصغيرة من قسوتك عليها ، فليس هناك ارق واجمل من قلوب النساء واللواتي يسامحن دائما بدون اي شروط ، وليس هناك اقسى من جرح قلوب النساء عندما يصل الأمر للخيانة من اقرب المقربين منهم ! تذكر هذا بني"

اومأ برأسه بحركة طفيفة بدون اي رد فعل وكأنه لا يأبه لكل كلمة نطقت بها بحق زوجته ، والتي نسي وجودها بالمنزل وبأنها كانت تتنصت على كل كلمة نطقوا بها عند باب الغرفة الذي تركوه مفتوحاً ، وهي تنشج بمكانها بدون صوت وبدموع غرقت وجنتيها المحمرتين باحتقان ويديها تغطي على شهقاتها المنتحبة من الخروج وروحها على وشك الاحتضار بمكانها بأية لحظة ، وبعد ان عرفت كل ما هو مستور ومدفون بهذه العائلة والتي كانت سبب فرعي بدمارها وهو ما سحق كل جمال كان ينبت بحياتها المثالية كانت تتوهم به يوما ....

يتبع..........


روز علي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس