عرض مشاركة واحدة
قديم 13-11-21, 11:32 PM   #207

روز علي
 
الصورة الرمزية روز علي

? العضوٌ??? » 478593
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 712
?  نُقآطِيْ » روز علي is on a distinguished road
افتراضي

كان الطفل ذو السنوات الخمس يسير بخطوات صغيرة مترددة وهو يتابع بنظره المرأة الواقفة امام باب المنزل وبيدها تمسك مقبض حقيبتها الكبيرة وهي تنوي الرحيل ، لتتباطء بعدها خطواته الصغيرة بثواني ما ان اقترب من مكان وقوفها امام المدخل ، ليقف بعدها بصمت دام للحظات وهو ينظر لظهرها بعيون ضائعة بتشتت مشاعره المبعثرة بدون ان يحدد ترتيب شعوره الآن وما عليه التصرف به !

قبض على يديه الصغيرتين وهو يهمس بخفوت حائر وعينيه تنتقل لحقيبة السفر بجانبها بوجوم
"إلى اين تريدين الرحيل يا أمي ؟"

ساد الصمت بينهما طويلا بدون اي إجابة تريح بها الطفل الحائر وهو ما يزال ينتظر تفسير موضح لكل ما يجري امامه ، وعندما طال الصمت بينهما اكثر مما يحتمل عقل طفل حتى عاد للسؤال مجددا بنفس الصوت الحائر ممزوج بخوف اللحظة
"امي لما انتِ صامتة ؟ ألا تريدين ان تقولي لي عن المكان الذاهبة إليه !"

ضم شفتيه بارتعاش اكتسح ملامحه بلحظة ما ان شاهد التي تحركت من امامه باتجاه باب المنزل مباشرة ، لينتفض تلقائيا قاطعا المسافة بينهما بخطوتين وهو يمسك بحقيبتها بتشبث هامسا بعناد عابس
"امي !......"

قاطعته الكلمات الباردة بدون اي حياة جمدت قلب الطفل الواقف بقربها وكأنه لا صلة تربط بينهما
"اذهب يا شادي ، وارجع لوالدك الآن ، فأنا لم اعد اريدك !"

اتسعت عينيه بذهول الدموع الساكنة بهما وهو يخفض يديه بعيدا عن الحقيبة بجمود تحجرت معه كل الاشياء المتحركة بداخله ومن حوله ، ولم يسمع بعدها سوى صوت تحرك عجلات حقيبتها الضخمة على الأرض الرخامية المصقولة مثل مشاعرها والتي لم تحمل يوما اي حنين نحو طفلها الوحيد منذ ولادته لهذه اللحظة .

رفع ذراعه بعيدا عن عينيه وهو يرجعها لخلف رأسه بهدوء ساكن شبيه بلحظة اكتشاف مشاعر والدته الحقيقية نحوه ومكانه بحياتها ، ليخفض بعدها جفنيه فوق عينيه ببطء منهك ما يزال تأثير تعب السفر يؤثر على خلايا جسده المخدر وهو يعود لنفس الذكرى البعيدة ، عندما كان ما يزال يقف امام مدخل المنزل الفارغ بعد رحيل والدته ليشعر بلحظة بيد دافئة وهي تمسح على رأسه بحنان بعث الراحة والاستقرار بمشاعره المضطربة ، قبل ان يسمع ذلك الصوت الحنون وهو يهمس بعطف واطمئنان اخترق هالة قلبه الحزين
"لا بأس يا صغيري ، كل شيء سيكون على ما يرام"

اغمض عينيه على ضباب الذكرى والتي اسرته بلحظة ليحصرها بقضبان عقله المنيع ، كما جميع ذكرياته والتي تحاول دائما تعكير صفو حياته بدون ان يفتح لها السبيل ، فهو يؤمن دائما بأن الذي لا يستحق وجوده بحياته ليس له مكان بعقله ولن يكون .

تنهد بهدوء وهو يرفع كفه ليمسح على وجهه مستغفرا ربه عدة مرات ، لينهض بعدها عن السرير بخمول وهو يمسد على ذراعه بيده الاخرى بتشنج ما يزال يحكم عضلات جسده من طريقة نومه ، قبل ان يستقيم بمكانه لوهلة وهو يوزع نظراته ببرود بأنحاء الغرفة الفارغة ، ليهمس بعدها بابتسامة برزت بطرف شفتيه بوجوم
"لقد رحلت !"

تغضن جبينه بحيرة وهو يفتش بجيوبه بضيق بدون ان يجد هاتفه بأي منها ، ليتلفت بعدها من حوله بتخبط وهو ينفض فراش السرير بدون ان يجد اي اثر لهاتفه ، ضرب جبينه بقبضته بقوة وهو يحاول تذكر المكان والذي سقط منه الهاتف ، لتقع نظراته بالنهاية على الخزانة وهو يستمع لصوت طنين خافت يصدر منها بدون ان يتأكد من صدق سمعه !

تقدم بسرعة باتجاه الخزانة وهو يفتح جانبيها بقوة ليصدم برؤية الهاتف والذي كان ملقى بين الملابس الفوضوية بإهمال ، امسك بالهاتف بهدوء حذر وهو ينظر لهوية المتصل والذي دفعه ليتلبس ملامح العبوس بلحظة ، ليضع من فوره الهاتف على اذنه وهو يجيب على الاتصال بكلمات موجزة
"ماذا الآن ؟ ألم اخبركِ بعدم الاتصال بي وانا بالمنزل !"

اجابت من فورها بارتباك متعثر
"اعتذر بشدة ، ولكن الأمر ضروري جدا ! وانا احتاج لوجودك ، ارجوك"

عقد حاجبيه بضيق وهو يهمس بانفعال مكبوت
"ألم اكن متواجد عندكِ بالأمس وتكلمنا بكل شيء يخص حياتك القادمة وكل ما ستلتزمين به من الآن وصاعدا ! ماذا بقي الآن ؟"

تنفست باضطراب للحظات لتهمس بعدها بخفوت حذر
"اجل صحيح ، ولكنك نسيت بأن اليوم هو موعدي الأول عند الدكتورة الخاصة والتي وضعتني عندها ! وانا لا استطيع الذهاب بمفردي لأنني لا اعرف اساسا شيء عن تلك العيادة ومكانها ؟ وكيف عليّ ان اتصرف هناك ؟"

ارتفع حاجبيه بتجهم لوهلة وهو يهمس بخفوت حانق
"سحقا ! كيف نسيت مثل هذا الأمر ؟"

ردت عليه بالطرف الآخر بإحراج ما ان ضاق الوضع بها
"لا بأس يا شادي ، لن يحدث شيء إذا تجاهلت الموعد فأنا لا اعتقد بأنه سيكون هناك مانع !....."

قاطعها بلحظة وهو يهمس من بين اسنانه بحدة صارمة
"اخرسي يا ميرا ، انا سأتكلم مع الدكتورة لتنقل موعدنا بعد ربع ساعة ، لذا استعدي بهذا الوقت حتى اصل لكِ ، فهمتِ ما اقول ؟"

صمتت للحظات قبل ان تهمس بخنوع
"حاضر"

فصل الخط بلحظة وهو يخفض ذراعه بعنف مستغفرا ربه من جديد بكبت مخنوق يكاد يودي به ، ليعود لفتح الهاتف مجددا وهو يلمح رسالة فائتة بصندوق الرسائل الواردة ، وما ان فتح الرسالة حتى انقلبت ملامحه بجمود صخري انبثق بروحه مثل البراكين الهائجة والتي فاضت عن الفوهة ، لينظر بعدها للخزانة المفتوحة امامه لبرهة قبل ان يغلقها بيده الحرة بعنف كادت تحطمها لأجزاء ، وهو يهمس بكلمة واحدة بفورة المشاعر الثائرة
"تلك المجنونة !"

بعدها بدقائق كان يخرج من الغرفة بعد ان انتهى من الاستحمام وتبديل ملابسه بخمس دقائق فقط ، ليصطدم بطريقه بكتف احدهم وهو يتراجع للخلف بلحظة قائلا بعبوس
"اعتذر بشدة ، لم انتبه"

توقف (احمد) امامه وهو يهمس بحاجبين مرفوعين بدهشة
"شادي ! متى عدت من السفر ؟"

ابتسم بصعوبة وهو يحرك كتفيه قائلا ببساطة
"لقد عدت بالأمس ، ونمت ليلتي هنا فور وصولي للمنزل مساءً ، ولم اكن ارغب بإزعاج اي منكم بهذا الوقت المتأخر"

تأوه (شادي) ما ان ضربه على كتفه بقبضته بخفة وهو يقول باستياء عابس
"كل هذا حدث ولم تخبرني يا مزعج ! كان عليك على الأقل ان تترك لنا خبر عن موعد عودتك لنستطيع استقبالك بالشكل اللازم ، ولكن يبدو بأنك لا تريد مقابلة اي منا ! صحيح ؟"

عض على زاوية ابتسامته وهو يربت على كتفه قائلا بمرح
"هيا لا تغضب يا شقيقي ، المهم بأني قد عدت لكم معافاً سليماً ، والامور الاخرى مثل العتاب والغضب ليس لها داعي"

عقد حاجبيه بدون ان تلين ملامحه وهو يهمس بتصلب
"مغرور"

اخفض يده بهدوء احتل محياه بلحظة ليهمس بعدها بعجلة ناظرا للساعة بمعصمه بإشارة
"حسنا انا سأذهب الآن ، فقد تأخرت على موعد مهم عليّ الذهاب له حالاً ، لذا عذرا !"

سكنت ملامح (شادي) ما ان قال المقابل له بنبرة تغيرت ببعض القلق الجاد
"هل تكلمت مع زوجتك ؟ اعتقد بأنها ليست راضية عن تصرفك الاخير وتركها بهذه الطريقة بعد زفافكما بأيام !"

اختفت ابتسامته بلحظة بدون اي تعبير ليرتسم البرود على ملامحه وهو يهمس بشرود واثق
"لا تقلق من هذا يا احمد ، فكل شيء تحت السيطرة !"

قطب جبينه بعدم رضا وقبل ان يعلق على كلامه كان يسبقه الآخر بالكلام وهو يتجاوزه بعجلة
"نتكلم عن هذا بوقت آخر يا احمد ، فأنا ليس لدي الوقت الآن !"

استدار (احمد) بسرعة وهو يقول من خلفه بقوة
"ولكن ماذا عن حضور مائدة الفطور ؟"

لوح بذراعه جانبا وهو يهمس بلا مبالاة
"لا بأس فأنا لا احضر مائدة الفطور عادةً ، ولن يشكل فارق إذا لم احضرها هذه المرة ايضا !"

عاد للكلام بسرعة بارتفاع ما ان وصل الآخر لأول درجات السلم
"هل كان سبب سفرك من اجل العمل ؟ سبب حقيقي !"

توقف عند اول درجة للحظتين فقط وهو يلتفت بنصف وجهه بشبح ابتسامة هامسا بجمود
"وهل هناك سبب آخر ؟"

وبعدها بلحظات كان يكمل طريقه بنزول السلالم بدون ان يعطي انتباه للساكن بمكانه ما يزال ينظر بأثره بغموض ، وهو يشعر بأمور كثيرة قد تغيرت بشقيقه الصغير منذ عودته من السفر بل بالأحرى منذ حفلة زفافه من ابنة عمته ؟ فهو لم يراه بتلك الحالة الغريبة سوى مرتين فقط واحدة عند وفاة والدته الروحية والثانية عند وفاة والدته الحقيقية...والتي يبدو بأنها تركت الأثر نفسه بروحه بطريقة مختلفة ادت لهذه الصورة التي وصل لها الآن !

_______________________________
خرج من السيارة بهدوء وهو يرفع نظره لهدفه المنشود اليوم ، ليزفر بعدها انفاسه عدة مرات بتأهب وهو يجهز نفسه لحرب مقابلة عائلة زوجته العزيزة والذين لا يعلم لما يبعثون دائما كل الاضطراب بكيانه منذ لحظة ارتباطه بهم ؟ ليحاول دائما بكل جهده وبكل مقابلة تحدث بينهم ليكون على الصورة الرسمية والتي عليه تقمصها امامهم بأكمل وجه وكما يريدون ان يكون زوج ابنتهم ! بدون ان يعلم إلى متى سيبقى هذا الهاجس المتمثل بتكوين صورته امامهم ملازم له بهذه الطريقة ؟

استغفر ربه بهدوء وهو يعزم امره بعد ان حوصر من كل الجهات ولم يعد هناك مهرب من زيارتهم الحتمية والتي كان يحاول كل جهده تجاهلها بالفترة الماضية بشتى الطرق ، وكل هذا من اجل ألا تعاود (روميساء) فتح الموضوع معه مجددا وإزعاجه به ولكي لا تعود لحزنها الشارد والذي اصبح يستحوذ على جزء مهم بحياتها ، وهو يتمنى حقا ان تفكر بنفسها وبابنها اكثر بعيدا عن كل مشتتات الحياة والتي تحوم من حولهما !

وصل امام مدخل المنزل وهو يرفع يده ينوي قرع الجرس امامه ، ليتوقف بآخر لحظة ما ان سمع هتاف خافت باسمه ، ليستدير من فوره وهو يقابل التي وصلت امامه بثواني وهي تهمس بابتسامة هادئة بلطف
"مرحبا بزوج شقيقتي ، لقد مر وقت طويل على آخر مرة رأيتك بها ! كيف حالك ؟"

تنفس الصعداء وهو يبتسم باتساع متزن ما ان قابل الفرد الوحيد بهذه العائلة والذي لا يشعره بثقل الزيارة عكس باقي افرادها وكأنها لا تنتمي لهم ، ليقول بعدها بلحظة برفق ممزوج بالعطف على هذه الطفلة الشبيهة بالنسمة الناعمة بحياة الآخرين
"الحمد الله كل شيء بأفضل حال ، وسعدت كثيرا بمقابلتك يا غزل ، اتمنى ان تكون كل امور دراستك بخير وما تزالين على نفس الاجتهاد والمثابرة !"

اومأت برأسها بشرود لوهلة وهي تهمس بابتسامة متسعة برقة
"شكرا لك على اهتمامك يا احمد ، انا بخير وما ازال اتابع دراستي الجامعية باجتهاد بدون ان يوقف شيء طريقي ، انت الذي عليك ان تبذل جهد اكبر بما ان هناك مولود جديد قادم على الطريق !"

ارتفع حاجبيه ببطء وهو يتمتم بتفكير غامض
"إذاً لقد اصبحتِ تعلمين بالأمر !"

عقدت حاجبيها بارتباك وهي تهمس بتردد
"ألم يكن من المفترض ان اعلم ؟"

حرك رأسه بسرعة بالنفي وهو يقول بمودة
"لا ليس هكذا هو الأمر يا صغيرة ، ولكن لم اتوقع ان ينتشر هذا الخبر بهذه السرعة ! ومع ذلك سعيد جدا بمعرفتكم بالأمر قبل ان اكون انا من اخبركم به"

ابتسمت برقة وهي تهمس بمرح لتعدل على صورة شقيقتها
"حسنا انت تعلم شقيقتي سلوى لا تعرف كيف تخفي اسرارها عن احد"

قطب جبينه بجمود وهو يهمس بخفوت جليدي
"وهذه هي المشكلة والتي تعكر علينا سير حياتنا"

زمت (غزل) شفتيها بوجوم وهي تحرك كفها تلقائيا هامسة بسعادة مغيرة مجرى تفكيره
"صحيح المهم مبروك حمل زوجتك ، واتمنى لها ولادة طبيعية وان يصل المولد بكامل صحته ، فهذه الفترة مهمة جدا بحياة كل عائلة وخاصة بأنه الطفل الأول لكم"

عاد بنظره لها وهو يبتسم بهدوء قائلا بامتنان
"شكرا على تفهمك يا غزل ، يبدو بأنكِ كنتِ عائدة من الخارج ! هل كل شيء بخير ؟"

عضت على طرف شفتيها وهي تهمس ببعض الامتعاض
"ماذا تقصد ؟ هل يجب ان يكون هناك شيء سيء لأخرج من المنزل ؟"

ارتفع حاجبيه بارتباك وهو يهمس بتعديل جاد
"لا انا اقصد بأنني لا اراكِ تخرجين من المنزل عادةً ، فقد ظننت بأن حالتكِ لا تسمح لكِ بالتواجد بالأماكن المكتظة بالناس وبمفردك بدون اي رفيق ! أليس كذلك ؟"

حركت رأسها بضحكة صغيرة وهي تقول بجدية مرحة
"لا يا احمد انا لم اصل بعد لهذه الحالة الميؤوسة منها ! وايضا لقد كنت بزيارة دورية عند الدكتورة الخاصة بحالتي ، ولم اذهب لأي مكان آخر كما تفكر"

ابتسم بهدوء متغضن وهو يتمتم براحة
"حقا هذا جيد ! واعتذر على سوء الفهم والظن الخطأ ، اتمنى ان تقبلي اعتذاري !"

اومأت برأسها بثغرها الباسم ببراءة وهو يراقب هالتها الدافئة مثل نسمة منعشة تنشرها ببرودة المكان المتناقض عنها ، وهو ما يزال محتار بأمر الاختلاف الرهيب بين الشقيقتين واللتين تبدوان النقيض عن بعضهما بكل شيء وليسوا من نفس الطبقة والتي نشئوا منها معا وهذا ما كان يراه ويشغل تفكيره منذ دخوله لهذه العائلة ؟!

افاق من افكاره على صوتها المنغم وهي تهمس بلطف
"وانت ايضا يبدو بأنك قد اتيت لمنزلنا للتو ؟ هل هذه زيارة عائلية فأنا نادرا ما اراك تزورنا بالمنزل لوحدك بدون زوجتك ؟ صحيح !"

تصلبت ملامحه بتجمد وهو يشعر بنفسه قد كشف امامها وكان عليه توقع هذا بسبب تصرفاته الواضحة للعين والتي لا يتكبد اي عناء بإخفائها ! ليبتسم بعدها بتوتر وهو يحاول تعديل صورته قائلا بجدية هادئة
"نعم مجرد زيارة ودية من اجل ان اطمئن على عائلة زوجتي ، وايضا لكي ارى كيف اصبحت حالة السيدة جويرية الآن ! فقد سمعت بأنها متعبة جدا وهو ما جعل سلوى تلازمها طول الاسبوع الفائت وعدم قدرتها على العودة لمنزلنا !"

ارتفع حاجبيها الصغيرين بدهشة لحظية وهي تحاول فهم كل كلمة نطق بها الآن وكأنها تتحدث مع شخص يهذي ! لتهمس من فورها ببهوت منذهل
"حقا !"

عقد حاجبيه بغموض غزت ملامحه بلحظة وهو يتمتم بوجوم
"اجل حقا ، هل تشككين بصدق كلامي يا غزل ؟"

ضحكت بارتباك ممزوج بالحياء المفرط استبد بها وهي تعض على طرف شفتيها ببؤس بحركة غير ملحوظة ، وهي تشتم بداخلها على الغباء المحدق بحياتها والمتمثل بتصرفات عائلتها والتي لا تستطيع التكهن بمخططاتهم والتي اصبحت جزء منها بدون ان تنتبه او يخطر على بالها ! فإلى ماذا يريدون ان يصلوا بهذه الكذبة السخيفة وسهلة الانكشاف ؟

عادت للنظر له بعينيها العسليتين الواسعتين ما ان قال المقابل لها بتوجس واضح
"ما بكِ يا غزل ؟ هل كل شيء على ما يرام ؟"

اومأت برأسها بارتجاف وهي تلوح بذراعها هامسة بابتسامة مزيفة
"اجل بخير يا احمد ، ولكني تذكرت بأنه عليّ اخبار العائلة بزيارتك المفاجئة لتستعد لاستقبالك ، ولكي اتأكد بأن الجميع متواجد بالمنزل ، اقصد من اجل القيام بواجب الضيافة على اكمل وجه ، تعلم جيدا عن ماذا اتحدث !"

تعقدت ملامحه لوهلة وهو يهمس بقوة
"لا ارى داعي لذلك !...."

قاطعته بعجلة وهي تتجاوزه باتجاه باب المنزل
"حسنا ، لن اتأخر عليك"

عبست ملامحه ما ان دخلت للمنزل بالفعل وبدون ان تمهله الوقت للتعقيب على كلامها الاخير ، وهو لا يعلم ماذا دهاها الآن لتنقلب هكذا بلحظة ؟ وهو الذي ظن بأنها تختلف عن عائلتها لتعود بالنهاية لأصلها الحقيقي ! ليهمس بعدها باستهجان خافت
"الجينات تحكم !"

شرد بعيدا للحظات لا شعوريا وهو يفكر فقط بما عليه التصرف به مواجهة تلك العائلة والتي تهتم بالمبادئ اكثر من تطبيقها ، همس بعدها بابتسامة تشنجت عند زاوية شفتيه بهدوء
"كل الذي يحدث معي بسببك يا روميساء ؟ هل انتِ سعيدة الآن ؟"

التفت بهدوء بمواجهة الباب ما ان فُتح بلحظة واطلت منه تلك الفتاة مجددا وهي تهمس بابتسامة صغيرة بترحيب يشوبها الارتباك
"حسنا يا احمد ، هيا تفضل بالدخول ، فأنت مرحب بك بأي وقت"

حرك رأسه بيأس للحظات وهو يسير للداخل امامها ما ان افسحت المجال له هامسا بجمود
"لقد كنت قد شككت لوهلة !"

ارتجفت ابتسامتها بشحوب وهي تغلق باب المنزل من خلفه برفق ، لتتبعه بسرعة لغرفة الجلوس قبل ان تتوقف عند إطار الباب وهي تهمس له ببهجة فشلت بتمثيلها
"انت يمكنك ان ترتاح قليلا ، وانا سأذهب لأحضر شقيقتي لتقدم لك الضيافة ، دقائق وتكون عندك ، استمتع بوقتك"

غادرت بسرعة بعيدا بدون ان تنتظر رده على كلامها الاخير فقد استنفذت كل طاقتها بهذه التمثيلية الغبية ، لتتوقف بعدها امام والدتها التي كانت تنظر لها بإمارات الغضب المعتادة وهي تتبعها بالهمس بعصبية خافتة بضيق
"ما لذي تفعلينه ؟ ألم اطلب منكِ....."

قاطعتها بنفاذ صبر وهي تكتف ذراعيها بقنوط
"ارجوكِ يا امي ، اعفيني من كل هذا ، فأنا ليس لي طاقة لأتحمل المزيد بشيء لم اعلم عنه سوى مؤخرا !"

زفرت انفاسها بيأس لوهلة وهي تمسد على جبينها بعصبية هامسة بسخط
"حقا ميؤوس منكِ !"

نظرت لها للحظات بشرود قبل ان تنقل نظرها باتجاه غرفة الجلوس لتهمس عندها بخفوت واهي
"ما لفائدة التي سوف تجنوها من هذه الكذبة ؟ انا ارى بأن افضل ما عليكم فعله هو تقبل الحقيقة والتوقف عن تكذيبها !....."

قاطعتها بملامح صارمة وهي تمسك خصرها بقوة
"اخرسي يا غزل ولا كلمة ، وإياكِ وان تتدخلي بأي شيء تفعله والدتك ، فأنا لم اطلب منكِ ان تبدي رأيكِ او ان تحاولي اعطاء النصح ! وانتِ نفسكِ تحتاجين إليه اكثر من سلوى !"

عبست ملامحها بلحظة وهي تستدير بعيدا عنها هامسة ببرود متعمد
"إذا كان هذا كلامكِ يا امي ! إذاً رجاءً افعلي ما تشائين بعيدا عني ولا تحاولي بأي طريقة ربطي بخططكم وكل شيء تفعلونه من وراء ظهري ، فأنا اُفضل البقاء خارجا على ان اشارك بمثل هذه الخطط الفارغة !"

اكملت طريقها باتجاه السلالم بدون ان تأبه بنظرات والدتها الغاضبة ولا ان تسأل عن تفاصيل خطتهم وما ينوين فعله بها ؟ مثلما لم تسأل عن سبب مبيت شقيقتها عندهم طول الاسبوع الفائت بدون ان تعود لمنزل زوجها ؟ ولا ان تعلم عن سبب انهيارها الاخير والذي لم يصدر عنه اي صوت عكس طبيعتها ؟ حتى موضوع حمل زوجته لم تعلم عنه سوى مصادفة عابرة ! وهي فقط تشاهد بدون ان تشارك بشيء وهذا اكثر ما اجادته بحياتها .

_______________________________
كان يسند ذقنه بقبضته بهدوء وهو ينتظر منذ ما يقارب النصف ساعة بغرفة الجلوس وحيدا بدون ان يعبره احد ، وهذا بعد مغادرة (غزل) المكان بدون ان يظهر لها اثر ولا الشخص الذي كان من المفترض ان يستقبله منذ لحظة قدومه للمنزل ! وهو يشعر بنفسه قد اصبح ضيف غير مرحب به بالمنزل ولا مكان له بهذه العائلة والتي يبدو لم تعد تطيق وجوده بينهم ! وقد فكر كثيرا بأن الهروب الآن هو افضل حل وجيه بموقفه هذا والذي لا يحسد عليه وقبل ان يتورط اكثر ويصبح وجبة سهلة المنال بنظرهم ليبثوا بها شرورهم .

وما ان كان على وشك النهوض بعد ان ضاق ذرعا من هذا الوضع المزعج حتى سمع صوت خطوات احدهم تقترب من باب الغرفة بهدوء مريب طال للحظات ، ليستقيم بعدها بوقوفه وهو يقول بضجر قبل ان يلمح هوية القادم
"اسمعي يا غزل ، انا سأرحل الآن وشكرا لكِ على هذا الاستقبال الكريم"

تجمدت ملامحه ما ان سمع صوت التي وقفت عند إطار الباب بلحظة وهي تهمس بحيرة خافتة
"لما كل هذه العجلة ؟ لم يكد يمر على وصولك شيء ! ألا إذا كنت لا ترغب اساسا بالبقاء ومجبر على المجيئ ؟"

تنحنح بصلابة وهو يعدل كلامه قائلا ببرود متجهم
"لقد ظننت بأنكِ غزل ! اعتذر على قلة ادبي وعدم الانتباه لكِ"

اشاحت بوجهها جانبا وهي تهمس من بين اسنانها ببؤس
"لا بأس يا احمد ، لم يحدث شيء"

ارتفع حاجبيه بتعجب وهو يدقق النظر بهيئتها العادية البعيدة عن التبرج والصخب والذي دائما ما تجلبه معها بصوت احذيتها العالية وبنبرة صوتها الرنانة ، فما لذي تريد ان تثبته بهذه التغيرات الجديدة عليها ؟ إلا إذا كانت جزء من مخططات جديدة تستعد لتصوبها ناحيته لتقضي على هدوء حياته مجددا !

قال بعدها بلحظات وهو ينظر لها بصرامة بدأت بالتجلي على محياه
"ولكن لما كل هذا التأخير ؟ أتعلمين منذ متى وانا انتظر هنا بدون ان يعبرني احد ! حتى غزل اخبرتني بقدومك وبعدها اختفت معك ؟ هل لهذه الدرجة كانت زيارتي ثقيلة عليكم ؟"

زمت شفتيها بحنق وهي تحيد بنظراتها جانبا هامسة بإيباء
"اعتذر على هذا ، ولكن تجهيز نفسي لاستقبالك اخذ مني وقت طويل ، وخاصة بأنني لم اكن اتوقع زيارتك هذه بدون سابق إنذار او موعد !"

عقد حاجبيه بجمود وهو يتمتم بجفاء
"وهذا هو المتوقع منكِ دائما ! حتى لو غبت عنكِ عدة سنوات ستبقين بنفس التفكير والمنطق"

امتعضت ملامحها وهي تعود بالنظر له بضيق عاد ليستولي على كيانها بلحظة ، لتتنفس بعدها بتهدج مشتعل عدة مرات وهي توبخ نفسها متذكرة كلام والدتها الصارم عن حسن ضيافة زوجها واستقباله بالصورة اللائقة وبتهذيب بالغ ، لتختلق بعدها ابتسامة مزيفة وهي تهمس بخفوت بارد
"مرحبا بك بمنزل عائلتي يا احمد ، ما سبب هذه الزيارة المفاجئة يا ترى ؟ هل شعرت بالاشتياق لزوجتك السابقة ؟"

تغضن جبينه بوجوم وهو يتمتم بتعجب ساخر
"زوجة سابقة ! تتكلمين وكأنني غبت عنكِ لأشهر وليس لأسبوع واحد ؟ لا اعلم متى ستتعلمين الاسلوب الصحيح بالكلام بدل التفوه بهذه الألفاظ القبيحة !"

عضت على طرف شفتيها بغضب لحظي وهي تهمس من بينهما باستياء
"تقصد بأنني لست المعنية بزيارتك صحيح ؟"

اومأ برأسه بجمود وهو يهمس بدون اي مواربة
"اجل بالطبع ، فقد اتيت لزيارتكم اليوم من اجل ان اطمئن على حالة السيدة جويرية وكيف اصبحت الآن وليس لشيء آخر ! لذا لا تدعي خيالك يأخذك بعيدا يا سلوى لكي لا يخذلك"

قبضت على يديها بقوة وهي تهمس من بين اسنانها بسخط
"عذرا على سوء الفهم ! ولكنك انت من طلب حضوري لاستقبالك ! بينما كان يمكنك الذهاب لمقابلة والدتي مباشرة بدون ان تعرضني لمثل هذه الإهانة...."

قاطعها بحاجبين مرفوعين باستنكار عابس
"اجل بخصوص هذا الأمر لم تعطني غزل الفرصة لأوضح لها سبب زيارتي وهي ذهبت من تلقاء نفسها لتحضرك إلى هنا ! وانا بالحقيقة لم استطع التصرف لوحدي والتوجه لغرفة والدتك لأن هذا سيكون قمة بقلة التهذيب وعدم احترام حرمة المنزل ، لذا انتظرت بمكاني حتى يأتي احد من العائلة ويصبح مرحب بي بالمنزل ، فهمتِ ؟"

فغرت شفتيها بارتعاش لثواني قبل ان تهمس بعبوس خافت
"منذ متى اصبحت تعاملني بكل هذه القسوة يا احمد ؟ هل السبب بكل هذا زوجتك والتي اخذت مكاني بحياتك بعد ان حملت بطفلك الحبيب ؟ أليس كذلك اجبني !"

ضيق عينيه لوهلة وابتسامة ساخرة شقت طرف شفتيه بلحظة ليقول عندها باستهزاء واضح
"اسألي نفسكِ هذا السؤال وستعرفين السبب الذي دفعني لأعاملك بهذه الطريقة ! فيبدو بأن كذبتك الغبية قد اخفقت بالنهاية ، لم اكن اريد التصرف على هذا النحو ولكنك من يدفعني بكل مرة يا سلوى بدون ان تفكري بالعواقب !"

تلجلجت بمكانها بارتجاف وهي تهمس بعدم فهم متعمد
"ماذا تقصد بكلامك ؟ هل تظن بأني سأفهم كل شيء بطريقة الألغاز هذه !"

دس يديه بجيبي بنطاله وهو يتمتم ببساطة
"كل هذه الفترة والتي قضيتها بمنزل عائلتك بحجة بأن والدتك متعبة ومريضة كانت كلها كذبة منكِ ، ولا اعلم حقا السبب لكل هذا الكذب والخداع ؟ ولكنني مع ذلك لم اتوقع غير هذا منكِ !"

انتفضت فجأة وهي تلوح بذراعها صارخة باستنكار مرتجف
"كذب ! هذا غير صحيح ؟ من اخبرك بهذا الكلام ! هل هي حيلة من زوجتك لتوقع بي....."

قاطعها مجددا بصرامة وبصوت جهوري نافذ
"اخرسي يا سلوى ! ألن نتوقف عن هذا الحديث الفارغ والذي لن نخرج بطائل منه ؟ لقد اخبرتكِ بها ولن اعيدها مجددا لسانك الطويل ابعدي سهامه الطائشة عن زوجتي فأنا لن استطيع ان اكبح غضبي عنكِ طويلا وعلى كل ما تتفوهين به بحقها ، لذا حاولي احترامها قليلا واخذ القليل من محاسنها بدلا من اتهامها دائما والنقمة عليها بموجة حقدك الاسود وغيرتك المريضة نحوها !"

شددت على يديها بغضب حارق حتى آلمت مفاصلهما وهي تهمس بعيون ما تزال تقدح بقهر موجع لم ينطفئ على مدى ايام
"لما لا تكون عادل معي لمرة واحدة ؟ لما عليك ان تقف بصفها دائما بكل موقف يحدث معنا ! ألستُ انا بنفس مرتبة زوجتك ولدي حقوق عليكِ مثلها تماما ؟ لما لا تنصفني وتعاملني مثلها ؟ لما لا تحبني مثلها ؟ لما لا استطيع ان احمل بطفلك ؟....."

قاطعها بلحظة بخفوت اجش صارم
"لأنكِ لا تشبهينها يا سلوى ، وتوقفي عن مثل هذا النوع من الكلام الساذج ! فأنتِ تستطيعين تغيير نفسكِ بيديك وتشويه صورتك بإرادتك ! لا احد يستطيع فعلها غيرك"

نظرت له للحظات بمقلتيها الدامعة بحرارة لتمسح بعدها خديها ببطء وهي تهمس بحزن بائس
"هل من المفترض ان يفرحني كلامك ؟"

تنهد بتصلب وهو يمسد على جبينه بإرهاق لوهلة ليهمس بعدها بلحظات وهو ينفض ذراعيه للأسفل بحزم
"حسنا يا سلوى ، انا الآن سأرحل من هنا فقد اضعت الكثير من الوقت بهذه الزيارة ، لذا لديكِ خيارين لا ثالث لهما ، اما ان تغادري معي وتعودي للمنزل وكأن شيء لم يكن ، واما ان تبقي بمنزل عائلتك بقدر ما تشائين وعندها سينتهي كل شيء كان بيننا ولن اصفح لكِ كذبتك تلك بل سأقولها لكل افراد العائلة لتكون درس لكِ ، والخيار بين يديكِ وانتِ من ستقرر مصير هذه العلاقة !"

اتسعت عينيها بانشداه مصدوم بدون ان تمنع الحزن من احتلال محياها ، لتهمس بعدها بعصبية فقدت صوابها
"كيف تتجرأ يا احمد ! انا لن اسمح......"

قطعت كلامها صاحبة الصوت الصارم والتي انضمت لهما بلحظة
"سلوى ستعود معك"

اتجهت الانظار نحو التي دخلت للغرفة وهي تسير امامهم بخيلاء قبل ان تقف بجانب ابنتها وهي تقول بابتسامة انيقة بثقة متكلمة عن الجميع
"حسنا يا احمد ، إذا كنت تريد من سلوى ان تعود معك الآن ! فهي ستجهز نفسها حالاً وتعود معك مثل اي زوجة مطيعة ، فنحن لا نريد ان نصنع اي مشاكل بين العائلتين بسبب خصام بين الزوجين يستطيعون حله بينهما ، صحيح ؟"

حرك (احمد) رأسه بجمود بدون اي تعبير وهو يتمتم بجفاء
"لا امانع فأنا ايضا لا اريد حدوث اي مشاكل بالعائلة وكله سيكون لصالح الجميع ، لذا ارجوكِ ان تفهمي هذا الكلام لابنتك فقد يأست حقا من مهمة شرح هذا لها ، والآن عذرا !"

استدار بعيدا عنهما بلحظة وهو يقول بأمر مسلط
"سأنتظركِ بالسيارة حتى تنتهي من تجهيز نفسك لنغادر ، لذا لا تتأخري كثيرا لكي لا اترككِ هنا وارحل"

غادر بعدها لخارج الغرفة لتلتفت بسرعة صاحبة الصوت الحزين وهي تهمس بأسى محروق
"امي لماذا فعلتِ هذا ؟ ألم تسمعي ما قال !...."

قاطعتها بملامح صارمة وهي تقول بأمر نافذ الصبر
"اصمتي يا سلوى ، ألم تفهمي بعد ما يحدث امامكِ وما يريد ان يوصله لكِ يا غبية ! لقد بدأ بخطة التخلص من العقبة الوحيدة بحياته وبعد ان يأس من مهمة تغييرك للأفضل بالمقارنة مع زوجته والتي تبدو النقيض عنكِ تماما ، لذا فكري اكثر قبل ان تقترفي اي تصرف قد يودي بحياتك للنهاية !"

تشنجت بمكانها وهي تنظر بعيدا عنها بحرقة تكاد تلتهم روحها المنتفضة بإيباء لتهمس بعدها بقلة حيلة وضعف
"وماذا تقترحين ان افعل يا امي ؟ فقط اشاهد واصمت وانا ارى الجميع سعداء بينما انا احترق بحزني !"

ربتت على كتفها برفق وهي تهمس بابتسامة قوية تحاول دعم ابنتها بكل ما تستطيع
"لا تقلقي يا ابنتي ، انا معكِ ولن اتركك لوحدك مهما حدث ، وكل شيء سيكون على افضل ما يرام ما دامت والدتك موجودة بحياتك"

_______________________________
كان يجلس فوق مقاعد الانتظار بصمت خيم على الاجواء من حوله بسحابة قاتمة اسرت حياته ، وهو يسند يديه فوق ركبتيه بهدوء بينما نظراته مسلطة على الأرض المصقولة من اسفل قدميه بدون اي تعبير او انفعال يعلو تقاسيم ملامحه الباردة ، ليتنفس بعدها بسكون ظاهري للحظات وكل وتر متصل بعقله متأهب بانقباض غريزي يكاد ينفجر من فرط الانتظار والذي زاد عن الحد المعقول بالنسبة لمدى صبره واحتماله والذي لا يتحمل دقيقة واحدة انتظار !

رفع يديه بسرعة وهو يمسح وجهه ببطء شديد تخلل به بعض الإنهاك والذي ما يزال يسيطر على اجزاء من جسده بسبب تعب السفر وقلة النوم بالأيام الماضية ، ليخفض بعدها يديه وهو يضم قبضته امام شفتيه ليردد على اصابعه دعوة الاستغفار عدة مرات كما يفعل دائما ليهدأ القليل من فورة مشاعره الثائرة وجموح الغضب المسيطر على تفكيره بالآونة الاخيرة من الوضع الذي ضاق ذرعا منه .

ارتفعت زاوية من ابتسامته بشرود غائم وهو يتأمل اصابع كفه المقبوضة بتصلب ، وهو يتوقف عن ترديد الكلمة بلحظة ساكنة طافت على ملامحه بغموض وما ان عادت كلمات والدته لتمر على خاطره بتدفق حنان مشاعرها الفائضة بين كل كلمة تنطق بها

(شادي لقد وجدت لك الحل المناسب لمشكلة فورات غضبك والتي لا تستطيع السيطرة عليها وهي تؤدي دائما للكوارث الغير محمودة ، لذا اخترت لك افضل طريقة قد تهدأ من غضبك ومن شعورك بالتشتت بالحياة بمراحل مراهقتك ، وهي بسيطة جدا ولا تحتاج لمجهود فكل ما عليك فعله هو ضم قبضة يدك امامك والترديد على اصابعك بالاستغفار عدة مرات حتى تشعر بالراحة التامة تسكن روحك واختفاء طبقة التشتت والضياع بحياتك ، عندها فقط يمكنك التوقف والتصرف برجاحة عقلك المعهودة ، وانا واثق بأنك اكثر من قادر على فعلها لأنك ابني !)

زفر انفاسه براحة لوهلة وهو يخفض قبضته ليرجع رأسه للخلف قليلا قبل ان يسنده بظهر الكرسي وهو يشعر بنفس الراحة والطمأنينة والتي تجتاح كيانه كلما تذكر شيء يخص طيف والدته الراحلة والتي كل ما يربطه بها هي تشابك ارواحهما ، بدون ان يدع جزء من الخراب بالوصول لتلك الذكريات المحفوظة برأسه والتي تنسيه دائما مرارة تخلي والدته عنه طفلا بسبيل عيش الحياة والحرية بدون اي قيود تمنعها وبعد ان اكتشفت بأن عمرها يضيع وهي تدفن نفسها بين رجل عجوز وزوجته الاكبر سنا منه ، بدون ان يمنعها وجود طفل يبدو بأنها لم ترغب به يوما !

نهض بقوة ما ان فتح باب الغرفة بجانبه وهو ينظر للتي خرجت منه بخطوات هادئة بصمت ، وما ان رفعت وجهها قليلا ناحيته حتى تعثرت بخطوة من خطواتها وهي تكاد تقع ارضا ، قبل ان يقف امامها بلحظة وهو يمسك بذراعيها بقوة ليثبتها بمكانها برفق شديد .

تنفست (وفاء) بوجل وهي تحاول تعديل وضع وقوفها بعيدا عنه بارتجاف طغى على حركاتها بضعف ، لتتمسك من فورها بذراعيه بتشبث ما ان شعرت بعودة الدوار يموج برأسها بلحظة ، لتنتفض برأسها عاليا ما ان قصف صوته بجمود وهو ما يزال يسند ذراعيها
"لما تأخرتِ بغرفة العناية ؟ هل كل هذا الوقت يأخذ الفحص ؟"

ابتلعت ريقها يتشنج وهي تهمس بخفوت محرج
"هذا لأنه اول تجربة لي بالفحص ، وقد احتاج الأمر وقت طويل حتى انتهينا منه"

عقد حاجبيه بجمود لبرهة وهو يشعر بارتجاف جسدها بدون ان تقدر على الوقوف بثبات ، ليقول بعدها بوجوم وهو يشعر بذراعيها النحيلين يكاد يشعر بعظامها البارزة منهما
"وما بكِ الآن ؟ لما لا تستطيعين الوقوف !"

اخفضت وجهها بحياء وهي تهمس بتشتت
"هذا لأني....."

تدخلت الطبيبة الخاصة بحالتها وهي تقول من خلفها بابتسامة بشوشة
"كل شيء على ما يرام سيد فكهاني ، فقط تحتاج لبعض الراحة بسبب تأثير المخدر والذي يبدو لم يتحمل جسدها مفعوله وخاصة بأنها اول تجربة لها ! وبعدها بغضون دقائق كل امورها ستكون بأفضل حال ما ان تأخذ قسط من الراحة"

اومأ برأسه بدون اي تعبير وهو يهمس بهدوء جاد
"إذاً وكيف كانت نتائج الفحص ؟ اتمنى ألا يكون هناك اي مشاكل بحالتها !"

اتسعت ابتسامة الطبيبة بعملية وهي تهمس باطمئنان
"لا داعي للقلق يا سيدي ، فقد تأكدت من حالة الجنين والسيدة وهما بأفضل صحة وعافية ، فقط هناك بعض الامراض الحيوية من سوء التغذية وفقر بالدم ، ولكن الحل بسيط جدا وهو ان يتغذى جسدها جيدا وتهتم اكثر بنظام طعامها"

شدد اكثر على ذراعيها ليدفعها لترفع وجهها نحوه بتوجس وهي تشعر بهالة جمود جسده الصلب على وشك تجميدها بمكانها ، لينطق بعد عدة لحظات بهدوء مريب عاد لتقمصه
"شكرا لكِ سنحاول العمل على نصيحتك ، هل هناك ادوية توصينا بشرائها من اجل حالتها ؟ فنحن لن نعود إلى عيادتك بوقت قريب كما تعلمين !"

حركت رأسها بتفهم وهي تهمس بخفوت عملي
"حاليا لن استطيع كتابة اي ادوية لها قبل ان اتأكد من صحة اخذها لها وعدم اضرارها بالجنين ، وعندما ارى الأدوية التي تناسبها سأخبرك بالأمر حالاً ويمكنك عندها شرائها من عيادتي"

ابتسم بجمود وهو يهمس بامتنان جاف
"إذاً شكرا لكِ على خدماتكِ ، والآن عذرا علينا الرحيل فقد تأخرت على عملي !"

ليستدير بعدها بلحظة وهو يمسك بذراعها ليلفها حول ذراعه وهو يدعها تتمسك بها بقوة قبل ان يسير معها خطوة بخطوة بحذر ، ليتسمر بمكانه قليلا ما ان عادت الطبيبة للكلام بهدوء حذر
"هل هذه زوجتك ؟"

قطب جبينه بتصلب قاتم اخذت منه لحظات قبل ان يهمس بعزم خافت
"نعم زوجتي ، وهذا الكلام لن يعرف عنه احد لأنكِ تعلمين جيدا ما ستكون عليه العواقب !"

ردت الطبيبة بسرعة بطاعة تخلل بها الخوف
"اجل اكيد سيد فكهاني"

اكمل سيره بهدوء وهو يسحب التي جمدتها الصدمة حتى كادت تقع اكثر من مرة ، ليلتفت بنصف وجهه بوجوم وهو يتمتم بحنق
"ماذا هناك ؟"

حركت رأسها بالنفي باهتزاز وهي تكمل سيرها معه بصمت رافقهما حتى نهاية الطريق خارج العيادة ، ليقف كليهما امام السيارة والتي فتح بابها بجانب السائق وهو يدخلها لتجلس على المقعد بعجلة ، قبل ان يدور حول السيارة بلمح البصر وهو يتخذ مكانه عند مقعد السائق .

نظرت امامها بهدوء وهي تضم يديها معا بارتجاف ما يزال يطغى على جسدها المخدر ، ليتحرك بعدها بالسيارة بعيدا قبل ان يهمس بأمر
"ضعي حزام الأمان يا ميرا"

رفعت رأسها بانتفاض وهي تضع الحزام حول جسدها بسرعة كما طلب ، لتنظر بعدها للنافذة بجانبها بشرود والطريق يسير معها بسرعة ثابتة بهدوء ، زمت شفتيها بلحظة وهي تهمس بخفوت بدون ان تمنع السؤال من القفز لشفتيها
"لماذا اخبرت الطبيبة بأني زوجتك ؟ لم يكن هناك داعي للكذب !"

شدد اكثر على عجلة القيادة لبرهة وهو يقول بتصلب قاسي
"لم اطلب رأيكِ بالأمر ! فأنا الذي احدد ما هو الصالح لي وما هو الذي لا يسبب اكثر الاضرار لي ، لذا اصمتي نهائيا لأنه لا ينقصني سماع رأيك بأمر انتِ المتسبب الرئيسي به !"

عضت على طرف شفتيها بتوتر وهي تخفض نظرها ليديها الساكنتين بحجرها وبعد ان خف ارتجاف جسدها من المخدر بدون ان يمحي صورة ارتجاف ملامحها الذابلة .

قال بعدها بلحظات اخرى برفق وهو يحيد بنظراته نحوها بجمود
"كيف اصبحتِ الآن يا ميرا ؟"

رمشت بعينيها بارتجاف بسعادة لحظية وهي تومأ برأسها هامسة بابتسامة خفية بخفوت
"اجل لقد اصبحت افضل"

التفتت نحوه لوهلة وهي تراقبه بابتسامة متسعة اعتلت ملامحها الذابلة ببهجة واضحة ، لينطق بعدها الذي ضاق ذرعا من هذه النظرات وهو يهمس بملل
"ما سبب الابتسام الآن ؟"

اخفضت نظراتها قليلا وهي تهمس بابتسامة ما تزال تطوف على ملامحها بحزن
"الحقيقة بأنك لم تعد تناديني بإسم ابنة جيهان فقد اصبحت تناديني بإسمي مجردا ، وهذا الأمر يسعدني كثيرا"

ارتفع حاجبيه ببهوت وهو يتمتم بلحظة بدون اي تعبير
"حسنا لم يكن الأمر يسعدني عندما اطلق عليكِ ذلك اللقب فهو يذكرني بأمور لا اود تذكرها ! وايضا لن استطيع تفادي اسئلة الناس عندما يسمعون بما اناديكِ به وهذا الأمر سيعرضنا للكثير من المواقف المزعجة ، لذا من الافضل ان اناديكِ بهذا الاسم والذي لن يجلب اي صخب لحياتي ، ولكنه مع ذلك لن يزيل حقيقتك ومن تكونين بنظري"

زادت من ضم يديها معا بارتعاش وهي تزفر انفاسها بحزن استولى على روحها بعد ان قضى على فرحتها الصغيرة بلحظة ، لتهمس بعدها لا شعوريا ببسمة حزينة طافت على شفتيها
"لقد ارادت رؤيتك بشدة ، لدرجة بأنها قاومت المرض لأيام لتعيش لليوم الذي تراك فيه"

ساد الصمت الثقيل على اجواء السيارة بينهما والتي لم يعد يُسمع منها سوى صوت محركها ، ولم تشعر بسرعة السيارة وهي تزداد تدريجيا بالثانية الواحدة وصوته يخرج هادئا بخشونة ساخرة
"ما هذا الهراء الذي تتفوهين به ؟"

امتقعت ملامحها وهي تتابع كلامها بهمس اخفت رغم الاجواء الغائمة من حولها
"صدقني يا شادي انا اقول الحقيقة ، لقد كانت تحبك وهي نادمة......"

قاطعها وهو يضرب المقود بقوة قائلا بازدراء واضح
"اخرسي يا ميرا ، لا تدعيني اصب جماح غضبي عليكِ الآن ! فقط اصمتِ وإياكِ وان تتفوهي بمزيد من هذا الكلام امامي مرة اخرى ، سمعتي ؟"

اومأت برأسها باهتزاز وهي تمسح دموعها المتسربة من مقلتيها بقبضتها بسكون ، لتعود للشرود مجددا بالنافذة بجانبها بدون ان تضيف كلام آخر .

وصلت السيارة امام البناية الفارهة والتي اصبحت تسكن بها مؤخرا ، وما ان فتحت باب السيارة بجانبها حتى قال الساكن بمكانه بهدوء جاد
"هل تستطيعين الوصول لشقتك لوحدك ؟ ام ان هذا صعب عليكِ كذلك !"

عبست ملامحها وهي تشعر بنبرة غضبه تنضح بصوته بعد ان فاض به الكيل من مسؤوليتها والتي تبدو اتعبت كاهله ! لتقول بسرعة بقوة خائرة باهتزاز طفيف
"لا انا بخير ، يمكنني الذهاب لوحدي ، وشكرا لك على تعبك معي"

مرت لحظات قبل ان يهمس بهدوء بارد
"هذا افضل ، وحاولي الانتباه على نفسكِ اكثر لكي لا اضطر للعودة لكِ مجددا ، فأنا ليس لدي الوقت بطوله لأقضيه معك"

اومأت برأسها مجددا بشحوب ممتقع وهي تخرج من باب السيارة بصمت ، وما ان اغلقت باب السيارة من خلفها بهدوء حتى تحركت من امامها بسرعة بعيدا عنها بلمح البصر ، وهي تنظر بعيدا بالغبار الذي اثارته من حولها بوجوم لتهمس بلحظة بحزن عميق
"هو لا يريد ان يدرك الحقيقة !"

رفعت نظراتها عاليا وكلام بعيد ما يزال يراودها بأفكارها كجزء من ذكرياتها المنسية والتي سبقت تحول كل شيء بحياتها

(يا ليت الزمن يعود بي يوما ، لما اقترفت كل هذا الكم من الاخطاء بحياتي ! وهذا من اجل ان يعلمك بأن الندم لن يصلح ما فات والتمني لن يعيد الزمن للوراء ، لذا إياكِ والانتظار لليوم الذي حتى الندم لن ينفع به ومع الذي رحل ولن يبقى لكِ سوى ماضيكِ يلوح امامكِ دائما ، تذكري هذا بكل لحظة ودقيقة تعيشين بها يا ميرا !)

نهاية الفصل يا حلوين........


روز علي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس