عرض مشاركة واحدة
قديم 05-12-21, 12:25 AM   #228

روز علي
 
الصورة الرمزية روز علي

? العضوٌ??? » 478593
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 720
?  نُقآطِيْ » روز علي is on a distinguished road
افتراضي الفصل الثاني والثلاثون

الفصل الثاني والثلاثون..........
كان يحدق بالأوراق بعيون تجردت من المشاعر وهو يقلب بين كل ورقة واخرى ببرود اكتسح ملامحه بطبقة صخرية تخفي كل انفعالات صراعاته الداخلية والتي ما تزال تطوف بداخل عقله لهذه اللحظة ، ليحاول كل جهده منذ ايام تلبس إمارات صرامته المعتادة بحكم عمله الذي لا يقبل التهاون او الكسل بطريقته التي لا تسمح للزلات بتغيير نمط حياته ، وهذا ما اصبح يشعر به بالآونة الاخيرة وعبث بأوتار حياته وهو يتهاون ويتراخى بطريقة لم تسبق ان حدثت معه من قبل طول مسيرته بالعمل بالتدريس ! وكله بسبب طالبة صغيرة اتعبت عقله وقلبه المتصارعين نحوها بآن واحد منذ ان اوقع نفسه اسير قضبان قصفها المثير !

تجمدت اصابعه على اطراف الورقة وتركيزه يتوجه مباشرة للباب الذي كان يخرج منه صوت الطرقات الخافتة التي تكاد تذوي بين ثنايا الباب الخشبي الاصم ، ليعود بسرعة بالنظر للورقة وهو يتلبس نفس الملامح الصارمة قائلا بصوت جهوري آمر مع علمه بهوية الطارق بالفعل
"ادخل"

سمع صوت انفتاح الباب ببطء شديد يكاد يشعر بلمسات اصابعها على المقبض المتحرك ليتبعها الصمت المرافق لها مثل هالة رقيقة تحوم من حولها ، حرك اصابعه على طرف الورقة بجمود وهو يكاد يفقد ما تبقى لديه من صبر حافظ عليه على مدار ساعات ، لتتوقف حركات اصابعه كما صراعات عقله بلحظة غادرة ما ان تهادى صوتها الهامس بنغمة الحزن الساكن بها برقة جديدة تكاد تودي به
"اعتذر على التأخر حقا ، اتمنى ألا تكون تحمل شيء اتجاهي !"

زفر انفاسه بكبت وهو يقول بجمود جاف بدون ان يبعد انظاره عن الورقة امامه
"لا بأس بذلك فقد اعتدت على إهمالك واستهتارك بمثل هذه الأمور !"

ردت بسرعة بارتباك واضح تبرر موقفها
"لا غير صحيح ، الحقيقة لقد واجهت حشد مروري بطريق مجيئي وهو السبب بتأخري بالوصول اليوم ، لذا ارجو منك ان تسامحني فلم يكن بمقدوري ان اصل بوقت ابكر من هذا !"

شدد على الاوراق بين يديه لوهلة وهو يضعهم فوق المكتب بسكون ، ليقول بعدها بهدوء جاد بدون اي تعبير
"حسنا ، هيا اجلسي مكانكِ لتستعدي للاختبار"

ارتفع حاجبيها الصغيرين بدهشة وهي تهمس بانشداه متوتر بتوجس
"هل هذا يعني بأنك قد سامحتني على التأخير ؟"

ردّ من فوره ببرود وهو يمسك بالقلم بجوار الأوراق
"لا بأس المهم بأنكِ قد وصلتِ قبل انتهاء الموعد ، لذا قدمي الاختبار بسرعة بغضون دقائق فلدي امور اخرى عليّ فعلها بعدها"

زمت شفتيها بارتباك وهي تشعر بنطق كلماته تتخلل بمفاصلها ببرودة غريبة لم تسمعها منه من قبل ! لتقول بعدها بعبوس مرتجف وهي تعقد حاجبيها بحزن
"ولكنك لم تجبني على سؤالي ! هل سامحتني حقا على تأخري ؟ فأنا لم اقصد التأخر اليوم صدقني"

قطب جبينه بتصلب وهو يعود للكلام بجمود اكبر
"اخبرتكِ بأنه ليس بالأمر المهم لتقلقي بشأنه ، وبدل هذه الثرثرة الفارغة قدمي الاختبار بسرعة فكل هذا سيضيع من وقتك !"

قبضت على يديها بقوة وهي تحاول ابعاد هالة الحزن من تطويق عينيها الغائمتين ، لتقول بعدها بلحظات بقوة وبإصرار اكبر
"لن افعل قبل ان تخبرني بأنك قد سامحتني حقا ! فليس من العدل ان تعاملني بهذه الطريقة القاسية وانا لم اقترف اي ذنب !"

شدد على القلم بين اصابعه للحظات وهو يشيح بوجهه جانبا بنفاذ صبر اوشك على النفاذ ، لتتسمر ملامحه بلحظة مع عضلة فكه بجمود ما ان اصبح الصوت قريبا منه وهي تهمس برقتها المنغمة ببحة حزينة
"ما بك اليوم يا هشام ؟ هل انت بخير ؟"

ادار وجهه بسرعة ناحيتها وهو يصطدم بلحظة بنظراتها لأول مرة بعد ان تعمد تحاشي النظر لها طول فترة وجودها امامه ومنذ لحظة دخولها للمكتب ، وها هي تصيب توقعاته مجددا بنظرة واحدة لتلك العينين العسليتين بلون غروب مزاجها بمزيج ألوانها الفاتنة والتي تتقلب حسب الهالة المحيطة بصاحبتها ، كما الآن وهي تنظر له بحزن بكل هذا القرب بان بعينيها الحائرتين بأجمل هالة قد تمر عليها امام عينيه المتربصتين لها بدون ان يفلت من فنون سحرهما واللتين اصابتا هذه المرة اعماق روحه المأسورة بها والمجروحة بذات الوقت !

تصلب فكه بلحظة وهو ينزع نظراته غصبا بعيدا عنها ليضرب بعدها على سطح المكتب بقوة وهو يهمس بقسوة صارمة
"احترمي نفسكِ يا غزل ! فأنتِ الآن متواجدة بمكتبي وتتكلمين مع استاذك ، لذا تكلمي معه باحترام قبل ان اغير اسلوبي معكِ"

اتسعت عينيها العسليتين بذهول وهي تبتعد عن مكتبه برجفة طفيفة هامسة بارتباك واضح
"ولكني لم افعل لك شيء ! كنت فقط اسألك إذا كنت بخير ، فأنت بدوت لي متعبا....."

قاطعها بتصلب اكبر وهو يوجه لها نظرات قاتمة لأول مرة تظهر بكل هذه القسوة
"وماذا عن مناداتي استاذكِ باسمه مجردا ؟ أليس هذا من قلة الحياء والادب ان تناديه باسمه وكأنه زميلك او قريبك بنفس الدفعة وليس استاذك والذي عليكِ ان تكني له كل الاحترام والتقدير ؟ ام ان هذا عليّ تعليمه لكِ ايضا بجانب مهام تدريسك الاخرى !"

انفرجت شفتيها بارتعاش وهي ترمش بعينيها بصدمة احتلت محياها بانذهال وهي تتلقى اوجع ضربة من بين مسيرة إهاناته السابقة لها ، لتخفض بعدها نظراتها بسرعة للأسفل بخمول سرى على طول اطرافها المنقبضة وهي تهمس بخفوت شديد
"ولكنني ظننت بأنك لا تمانع ذلك ، لأنك كنت سابقا....."

عاد لمقاطعتها وهو يضرب مجددا على سطح المكتب قائلا بجمود صخري
"ومن الذي اخبركِ بهذا الكلام ؟ ليس اني كنت اتغاضى عن اخطائك سابقا يعني عليّ ان اسامحك دائما واغفر لكِ زلاتك ! فكل شيء له حد بالنهاية ، وانتِ قد تجاوزت كل حدودك بوقاحتك الا متناهية بدون ان تأخذي مهنة التعليم والتي اقوم بها من اجلك على محمل الجد !"

شددت اكثر من القبض على يديها حتى لم تعد تشعر بمفاصلهما وهي تهمس بصوت باهت
"لقد فهمت يا استاذ هشام ، واعدك بعدم اعادتها مجددا ، ارجو منك السماح"

حرك رأسه بجمود بدون ان يتأثر بهالة حزنها والتي يستطيع لمسها بصوتها الذي اختفى منه كل لمحة حياة لتبقى فقط نبرة الحزن معلقة بثناياه ، قال بعدها بقوة وهو يقدم ورقة الاختبار امامها بعملية جادة
"هيا إذاً تعالي وقدمي الاختبار ، فقد اضعنا الكثير من الوقت بهذا !"

اومأت برأسها بطاعة وهي تتقدم ببطء لتتناول الورقة منه بدون كلام ، لتتوجه بلحظة جالسة على الاريكة امام المكتب بصمت بانصياع تام ، بينما الذي كان يراقب حركاتها وهو يحرك القلم بين اصابعه برتابة ليقول عندها بدون ان يمنع نفسه بكبت
"هل تحتاجين للقلم ام معكِ واحد ؟"

تغضن جبينه بوجوم وهو يلمح القلم الوردي والذي اخرجته من جيب سترتها بصمت لتبدأ بالكتابة به بدون ان تعير سؤاله انتباه ، تنهد بوجوم وهو يوجه نظراته من جديد للأوراق التي ما تزال قابعة امامه بانتظار ان يكمل عمله بها ، ليحاول بعدها التركيز بقراءتها وهو يجد صعوبة شديدة بالعمل بعد ان تشتت تفكيره وتبعثر كيانه وعلق بمكان آخر بعيد عن الاوراق تماما .

زفر انفاسه بضيق وهو يعود بنظره لنفس المكان والمسبب بضياع افكاره ، لتتسع عينيه بصدمة شلت حركة عضلات وجهه لثواني وهو يتتبع حركة التي كانت تكتب بأصابع مرتجفة نحيلة وجسدها يرتعش بنشيج صامت وهو يكاد يسمع شهيق انفاسها الخافتة تصله واضحة ! وكل هذا يدل فقط على شيء واحد ! يا إلهي هل يعقل بأنه قد دفعها للبكاء ؟

نهض بسرعة باستقامة وهو يدور حول المكتب بلمح البصر ، وما ان اصبح امامها على بعد خطوة حتى قال بجمود بدون ان يخفي نبرة الارتباك بصوته
"غزل ارفعي رأسكِ وانظري لي"

تسمرت بمكانها للحظات وهي تحاول خنق شهقاتها بصمت ارسلت الرعشة لكامل جسدها ، ليزفر بعدها انفاسه بضيق وهو يزيح الطاولة من امامها بقدمه ليجثو عندها على ركبتيه بلحظة وهو ينظر لوجهها المنحني بدون ان تسمح له برؤيته .

قال (هشام) بصرامة اكبر وهو ينظر لها بتركيز حاد
"غزل انظري لي وانا اتكلم"

حركت رأسها بهزة طفيفة بالنفي بدون كلام ، ليطبق على اسنانه بقسوة وهو يقول من بينهما بعبوس صارم
"غزل لا تعاندي وانظري لي"

رفعت وجهها امامه ببطء فصلته بعيدا عن عالمه لثواني ما ان وقع اسر احداقها الدامعة ببركة عسلية هائمة ببريق ألوان الطيف وهي تحوم فوق محياها الذابل والذي تناسب مع هيئتها الحزينة وكأنها خلقت لتكوّن تعبير عن كل حالة تمر بها !

قبض على يديه بقوة وهو يمنعها باستماته من الاقتراب من منطقة الخطر بعد ان بدأت من الافلات من قضبان حصونها العالية ، ليتنفس بعدها بهدوء ظاهري وهو يقول لها بابتسامة جادة برفق
"ماذا هناك ؟ لماذا تبكين ؟ هل ضايقتكِ بكلامي لهذه الدرجة ؟"

حركت رأسها باهتزاز وهي تمسح دموعها بكفها بارتعاش هامسة بعبوس
"هذا لأنك اصبحت تعاملني فجأة بقسوة وانا لم اخطئ معك بشيء ! لماذا تحب ان تقسو عليّ هكذا ؟"

تنفس بجمود اكبر وهو يحاول ان يهدأ انفعالات صدره والذنب بداخله يكاد يؤكله حيا بشعور بالألم لم يذقه بحياته ، ليتمالك نفسه مجددا وهو يقول بابتسامة هادئة حاول جعلها عاتبة
"كله بسببكِ يا غزل ، انتِ من تضطريني دائما للتصرف على هذا النحو باستهتارك الدائم بكل شيء ، بالرغم من اني انبهكِ دائما لتصرفاتك ولكنكِ لا تصغين !"

ارتفع حاجبيها ببهوت وهي تخفض يديها بلحظة هامسة بتبرم مستاء
"ولكنني اعتذرت منك اكثر من مرة ، ودائما اصغي إلى كلامك واسير على اوامرك بدون اي تذمر ، انت الذي تثور عليّ دائما وتغضب بدون اي سبب !"

نظر لها للحظات بغموض وهو يضيق عينيه بذكرى سريعة مرت على خاطره لوهلة ليقول لا شعوريا بجمود سيطر عليه
"بل انتِ السبب بكل ما يحدث لي يا غزل ! كيف تريدين مني ان اسامحك او ان اتعامل معك بطبيعية بعد ما سمعت من كلام دمر صورتك تماما بنظري ؟ انتِ....."

ابتلع ريقه بجمود وهو يحيد بنظراته جانبا بعد ان فقد السيطرة على زمام اموره بلحظة غادرة بدون وعي منه ، ليسمع بعدها بلحظات صوتها الحزين وهو يمزج مع بحة بكاء خافتة
"انا لا فهم اي كلمة تنطق بها ! لما تتكلم معي هكذا ؟ بماذا اخطئت معك ؟ اجبني ارجوك !"

تنهد بتعب يشعر به لأول مرة بكل هذا الحمل يثقل على قلبه المنهك من كل هذه الاعباء بحياته الاجتماعية والشخصية والعاطفية ، ليخفض بعدها نظره للأسفل قليلا وهو يريح كفيه فوق ركبتيه هامسا بهدوء جاف
"لقد اخطئت مجددا واعدت نفس الخطأ السابق صحيح ! عندما جرحتكِ بأسلوبي بالكلام وكنت قاسيا معكِ كما فعلت الآن"

اتسعت مقلتيها الدامعة بتشنج واهي وهي تهمس بخفوت هادئ مالت معها ملامحها ببرود
"لا بأس يا استاذ هشام ، فقد تأقلمت بالفعل مع هذا النوع من القسوة ، فأنا بالنهاية فتاة متوحدة مثيرة للشفقة ولا استحق الحزن على الذات صحيح !"

انتصب رأسه عاليا وهو ينظر لها بذهول دام للحظة ، قبل ان تنقلب ملامحه بعزم طاف على محياه بإصرار وهو يقول باللحظة التالية بصوته الجاد العميق
"غزل اسمعي ، هل تقبلين الزواج بي ؟"

اخدت منها لحظتين قبل ان تتسع حدقتيها بأقصى اتساعهما وشفتيها تنفرجان ببطء مرتعش مكررة كلامه بهمس وجل خافت
"زواج ! ماذا ؟"

انتفض واقفا امامها بقوة ارهبتها ورجفت بدنها من رأسها حتى اخمص قدميها ، وهو يستدير بعيدا عنها امام مكتبه قائلا بهدوء جاد وبصوت حاسم كمن سلم امره للواقع
"لا بأس يا غزل ، انا سأعطيكِ وقتكِ بالتفكير على مهل بأمر عرضي المفاجئ لكِ ، وعندما تكونين مستعدة لا تنسي ان تخبريني بإجابتك ، سأكون عندها بانتظاركِ على احر من الجمر ، لا تتأخري"

تنفست بارتعاش وهي تراقبه بعينين مشدوهتين بصدمة اسرتها طويلا ، لتحاول بعدها النهوض بارتجاف وهي لا تقوى على الوقوف حتى كادت تقع اكثر من مرة على وجهها ، لتقف بالنهاية باتزان وهي تسرع بخطواتها باتجاه باب المكتب والذي لم تعد ترى غيره امامها وهي تهمس بآخر كلمة خرجت منها بشق الأنفس
"وداعا"

التفت (هشام) للخلف وهو ينظر للباب والذي تركته مواربا من خلفها ، لتحين منه التفاتة ناحية الطاولة وهو يلمح قلمها الوردي والذي يبدو قد نسيته بخضم الصدمات الاخيرة والتي تلقتها الواحدة تلو الاخرى !

تقدم نحو الطاولة بخطوتين وهو يلتقط قلمها الوردي بطرف اصابعه هامسا امامه بلحظة بابتسامة متسعة بانتشاء واضح
"ستعود على الاكيد ، تلك الشقية !"

______________________________
وزعت الملاعق فوق المائدة بترتيب مع الموائد والكؤوس الاخرى بطريقة توحي برقي وجمال صاحبته ، وما ان انتهت حتى تنهدت بشرود طاف على ملامحها لوهلة وهي تتأمل ترتيب السفرة بعين دقيقة وبتقييم سريع بعملها المنجز والتأكد بذات الوقت من عدم نسيان شيء ، لتتنفس بعدها براحة وهي تقف باستقامة عند رأس المائدة لتعتلي ابتسامة ناعمة محياها وهي تشرف على عملها بدون ان يغيب عن نظرها للحظة .

التفتت من فورها للخلف ما ان وصلها صوت التي تقدمت امامها وهي تهمس بانبهار مبتسم
"ما هذا الجمال الذي اراه ؟ ترتيب انيق وفخامة من اميرة جميلة صاحبة ذوق رفيع وايدي ساحرة بالعمل ! يبدو بأنني محظوظة حقا بالحصول على اميرة منزلية لا نراها كل يوم !"

اتسعت ابتسامتها بحياء وهي تتناول منها الطبق الاخير من السفرة هامسة برقة
"اعطيني هذا عنكِ يا عمتي"

وضعت الطبق بسرعة بمكانه المخصص له فوق المائدة لتكتمل صورة السفرة الحالمية امامها بدون ان تنقصها شيء ، لتربت (هيام) على كتفها برفق وهي تهمس لها بمحبة امومية
"احسنتِ عملاً يا عزيزتي ، بارك الله فيكِ"

اخفضت نظراتها قليلا وهي تهمس ببسمة خافتة
"شكرا لكِ ، هذا من لطفك"

اخفضت يدها عن كتفها بلحظة وهي توجه نظراتها بعيدا عنها هامسة بتفكير حائر
"ألم يخرج جواد من غرفته بعد عودته من العمل ؟"

غامت ملامحها لوهلة بحزن قيدها بهالته الساكنة وهي تقبض على يديها بصمت قاهر ، لتحرك بلحظة رأسها بالنفي بدون ان تنطق بحرف بعد ان التهمت المرارة لسانها الطويل المعتاد على الثرثرة والتي انعدمت من حياتها مؤخرا ، لتتابع (هيام) كلامها بحزن عميق تجلى بصوتها بعتاب موجوع
"ولكنه لم يعد يحضر مائدة الطعام معنا كما بالسابق ، حتى انه اصبح يتعمد دائما التأخر بالعمل وعدم رؤيتنا سوى نادرا ، وانا قلقة جدا على صحته بهذه الفترة ومن تصرفاته الغريبة والتي بدأت تخرج منه مؤخرا ، هل يعقل بأنه يخفي عنا سرا ما لا يريد البوح به ؟"

زمت شفتيها برجفة تخللت مفاصلها بقشعريرة على ذكر امر السر والذي يخفيه كليهما عنها بتلك الليلة الكارثية والتي انتهت بأبشع طريقة من الممكن ان تحصل بين زوجين ! لتنتفض لا شعوريا بوجل ما ان وجهت الحديث لها هامسة بلطف
"هل تعرفين سبب تغيره يا صفاء ؟"

نظرت لها بحدقتيها الواسعتين باهتزاز وهي تحرك رأسها مجددا بالنفي بقوة اكبر ، لتقول بعدها (هيام) بابتسامة هادئة بحنان تشربت بملامحها الشاحبة بلحظة
"حسنا يا صفاء ، انا سأذهب الآن لأطلب من جواد الحضور معنا على المائدة لنتناول العشاء سويا ، فأنا اعرف جواد جيدا بخصوص صحته فهو مهمل جدا بها بطريقة مستفزة تدعو للإحباط ، لذا يحتاج هنا لمن يهتم به ويقف فوق رأسه دائما ليعتني بصحته بدلا من ان يفعل ذلك بنفسه ! ولكنه سيبقى دائما شخص ميؤوس منه"

ارتفع حاجبيها بتوجس وهي تهمس بارتعاش لا إرادي
"تريدين منه ان يحضر معنا !"

عقدت حاجبيها ببطء وهي تهمس بابتسامة متسعة بعطف
"اجل هذا ما كنت اتحدث عنه"

تداركت نفسها وهي تلوح بيديها بتوتر هامسة بابتسامة ارتجفت على محياها
"اجل فكرة رائعة ! اتمنى ان يصغي إليكِ ويقدر قلقك عليه ، فنحن جميعنا نهتم بصحته هنا وخائفين من تدهورها ، والعمل لن يطير منه إذا تركه قليلا وحضر مائدة العشاء مع العائلة ، صحيح ؟"

اومأت برأسها وهي تربت على كتفها من جديد هامسة بحنان
"لا تقلقي يا عزيزتي ، فهو سيكون دائما بخير ما دمنا موجودين من حوله ونهتم به"

اومأت برأسها بشرود باهت بدون ان تعلق على كلامها ، لتغادر الاخرى بعيدا عنها لخارج قاعة الطعام بلحظات .

تنهدت بتعب تجلى على محياها بلحظة وهي تفكر بلحظة رؤيته امامها وهي لا تعلم بأي وجه ستنظر له وتواجهه بعد كل ما حدث ! فقد حاول كلاهما طول اليومين الماضيين تحاشي النظر كل منهما للآخر او مقابلته ولو بالصدفة ! فماذا ستفعل الآن بهذا الموقف العصيب والذي حوصرت به ؟

تأهبت حواسها وهي تستدير ناحية التي عادت بعد دقائق معدودة من مغادرتها ، لتتصلب بمكانها بأعصاب مشدودة ما ان وقفت الاخرى امامها بمعالم الحزن الظاهرة عليها ، لتحرك بعدها رأسها للأسفل بإشارة للخيبة وهي تهمس بأسى مضمور
"لم يوافق على الحضور ، وقد اصر على البقاء بمفرده بدون ان يتجاوب معي ، وكله بحجة العمل وكأنه لا احد يعمل بالعالم غيره !"

زفرت انفاسها ببعض الاسترخاء لوهلة وهي تحاول مواساة عمتها هامسة برقة وكفها تمسح على كتفها برفق
"لا داعي للحزن يا عمتي هيام ، فأنا متأكدة بأنه عندما يشعر بالجوع يمكنه تناول حصته من الطعام والتي ستكون جاهزة من اجله بالوقت الذي يرغب به بتناول الطعام ، فهو بالنهاية ليس طفلا حتى لا يعرف الوقت الذي يناسبه لتناول الطعام !"

عقدت حاجبيها بعزم وهي تمسك بذراعيها بحركة مفاجئة ارهبتها وهي تهمس لها بإصرار حازم
"صفاء ما رأيكِ ان تذهبي انتِ وتجربي اقناع زوجك بحضور المائدة وتناول الطعام معنا ؟ فقد يصغي إليكِ ويوافق إذا طلبت منه انتِ ذلك ! لذا ارجوكِ ان تذهبي وتحاولي معه فأنتِ املي الوحيد المتبقي بهذه المهمة"

انفرجت شفتيها بانذهال وهي تحاول التملص من يديها هامسة بتوتر مستاء
"ماذا ! لا اعتقد بأن هذا سيجدي ! إذا لم يصغي إليكِ انتِ لما قد يصغي لي انا ؟ هذا مستحيل....."

قاطعتها برجاء اكبر وبعيون سوداء مغمورة بالأمل وهي تشدد من القبض على ذراعيها بتمسك
"لا تقولي هذا الكلام يا صفاء ! فأنتِ تكونين زوجته واكيد مرتبتك تختلف عن مرتبتي بحياته ، وقد لا تدركين حقا مدى اهميتك بحياته والتي جعلتكِ تحصلين على لقب زوجته ، فأنا اعرف جواد اكثر من نفسي وهو ما يجعلني اثق واقول بأن هناك منزلة خاصة بكِ بحياته لم يصل لها احد من قبلك ولن يصل !"

كانت تحدق بها بانشداه اخذها على حين غفلة حتى كادت تصدق كلامها والذي لا ينطبق بأي شكل على ابنها الصخري ! لتهمس بعدها باضطراب مشتت معدوم المشاعر وكأنها تكلم نفسها
"اشك بأن يكون هناك شيء من هذا حقيقة !"

تغضن جبينها بوجوم وهي تشدد على ذراعيها هامسة بخفوت قلق
"صفاء ! هل تصغين لما اقول ؟......"

قاطعتها من فورها بابتسام طفيف بدون ان تصل لروحها
"حسنا ، اعتقد بأنني سأحاول ان اجرب !"

تهللت اسارير (هيام) بابتهاج وهي تفلت ذراعيها بلحظة لتمسح على شعرها هامسة بعطف وبرقة
"اجل هكذا اريدكِ يا عزيزتي ، وانا واثقة بأنكِ لن تخيبي ظني"

اومأت برأسها بابتسامة هاوية وهي تستدير بعيدا عنها لتسير من فورها باتجاه باب القاعة ، وبثواني كانت تجر قدميها بصعوبة ما ان اقتربت من اسوار باب الغرفة المقصودة والتي يقبع من خلفها الرجل الكاسر والذي لا يهاب شيء بجبروته العالي ، وتشك حقا بأن يكون يحتاج لمن يهتم بصحته ويعتني بغذائه وهو اقوى من ان يتأثر بمثل هذه الأمور !

تنفست بقوة عدة مرات وكأنها تجهز نفسها للمواجهة الحتمية والتي القت بها رغما عنها بساحة الحرب الطاحنة بين كبريائها وعاطفتها ، ابتسمت بخواء ساخر وهي لا تصدق لأي مرحلة وصلت بها حياتها الزوجية وكل هذا العناء والشقاء من اجل فقط مقابلة زوجها والذي لهذه اللحظة ما يزال يشكل خطر مهدد بحياتها العاطفية والمعنوية ؟!

زفرت انفاسها بتهدج وهي تمسك بمقبض الباب البارد بيد لترفع قبضة يدها المضمومة الاخرى وهي تطرق بها على سطح الباب بطرقات مترددة بخفوت غير مسموع ، وما ان نفذ صبرها من الانتظار بدون إجابة حتى ادارت المقبض وهي تفتح الباب ببطء شديد ، لتقول بعدها عند طرفه بدون ان تلقي نظرة للداخل وهي تحاول تمالك اعصابها المشدودة
"جواد هل تسمعني ؟ هل يمكنك المجيئ وحضور مائدة العشاء معنا ؟ فوالدتك مصرة على حضورك بشدة وتريد منك الاهتمام بصحتك وغذائك اكثر ! لذا......"

صمتت بوجل ما ان سمعت صوت ضجة طفيفة بالداخل بدون ان تحدد مصدرها ! لتدفع الباب بلحظة للداخل بدون ادنى تفكير وهي تنظر بصدمة شلت حركتها لثواني ما ان وقعت عينيها على الجالس خلف مكتبه بزاوية الغرفة ، وليس هذا ما سمرها عن الحركة تماما بل وضعية جلوسه الغريبة ورأسه مرتخية على ذراعه بدون اي حراك وصوت شخير خافت لا يترك مجال للشك بأن الجالس امامها نائم ! هل هو نائم بالفعل ام هي خيالات صحوتها ؟

غطت فمها بكفها بارتجاف منتفض عبث بنبضات صدرها المتخبط ببن لوعة ولهفة وخوف من اللحظة ، لتحاول بعدها الانسحاب ببطء شديد وهي تشكر ربها على الفرصة والتي اوهبها لها لينقذها من لحظة المواجهة ، قبل ان تتجمد بمكانها لبرهة وعينيها الواسعتين تتبع الملفات المتساقطة امام المكتب وسبب الضجة التي سمعتها عند باب الغرفة من لحظات !

ابتلعت ريقها بارتباك وهي تتقدم امامه بخطوات حذرة بذعر كان يزداد مع كل خطوة تقربها منه ، انحنت على ركبتيها ببطء وهي تلتقط الملفات من على الارض بحرص وبدون صوت ، لترتفع بعدها واقفة على قدميها وهي ترتب الملفات فوق سطح المكتب بأصابع خرقاء متعثرة .

حررت انفاسها براحة تسربت بعضلات اعصابها المشدودة لوهلة ، قبل ان تعلق عينيها على رأسه المستريح فوق ذراعه وهي تشرد بشعره الكثيف المبعثر بعض الشيء رغم نعومة خصلاته الواضحة ، لترفع بعدها كفها لا إراديا ما ان وصلت لنقطة لم تعد تستطيع التراجع بها ورغبتها بفعلها تفوقت على كل خوف كان يسيطر عليها فات الآوان على التفكير بعواقبها الوخيمة !

ابتسمت بلهفة غريبة وهي تمسح على شعره الناعم واصابعها الرقيقة تغوص بخصلاته بقوة لا شعوريا ، لتنزع يدها بعيدا بانتفاض استولى على كيانها بالكامل ما ان حدقت العيون السوداء بها بتركيز حاد شبيه بالصقور التي تستعد للانقضاض على فريستها بأي لحظة .

تشنجت بمكانها حتى كادت تغص بأنفاسها وهي تقبض على يديها خلف ظهرها بدون ان تستطيع ابعاد عينيها النديتين عن عينيه شبر واحد ، وما هي ألا لحظة حتى بدأت الرأس بالارتفاع بهدوء مهيب سلطها بمكانها للحظات وهو يلوي عنقه بيده بتأوه ليعدل من وضع جلوسه باستقامة ، وما ان انتهى من مهمة تصليب جسده المرتخي من النوم حتى عاد لجلسته المعتادة بشموخ وهو ما يزال يدلك على ذراعه التي كان ينام عليها ببعض الخدر .

عضت على طرف شفتيها بلوعة وهي تراقب كل حركات منحنيات جسده العضلي من تحت قميصه الداخلي باحمرار يكاد يودي بها بفرط شعورها ، لتتسع مقلتيها العسليتين بتوجس ما ان وصلها صوته الجليدي ببحة تعب اعطتها مهابة اكبر
"ماذا تريدين ؟ هل هناك من خطب ؟"

تعثرت بأنفاسها وهي تهمس بخفوت متخبط ما يزال يعلوها الاحمرار المفرط
"انا اتيت من اجلك ، اقصد من اجل ان اطلب منك ان تحضر مائدة العشاء معنا ، لأنك لم تعد تتناول طعامك معنا بانتظام وهذا قد يؤثر بصحتك !......"

قاطعها بنبرة صخرية ارتسمت بتقاسيم وجهه بلحظة
"لقد اخبرتكم من قبل بأني لا اريد تناول شيء ! لذا اخرجي من غرفتي حالاً واخبري التي ارسلتكِ ان تتوقف عن إلحاحها وتتركني وشأني"

ارتجفت بمكانها وهي تشدد من القبض على يديها خلف ظهرها هامسة بعبوس متشنج
"ولكن والدتك خائفة على صحتك ومن إهمالك بالاعتناء بنفسك ، لذا هي كل ما تريده منك ان تشاركنا بتناول الطعام معنا كما كنت تفعل بالسابق ، أليس هذا افضل من جعلها تقلق عليك وتفكر بك بكل وقت ودقيقة وانت غير مبالي بها ؟"

قطب جبينه بجمود وهو يخفض يده عن ذراعه قائلا بتصلب ساخر
"هل ترينني طفل امامكِ حتى لا استطيع رعاية نفسي والاهتمام بصحتي ؟ انا ما ازال بكامل قوتي وقادر على إدارة امور حياتي الصحية والمهنية بكل عقلانية ولم اصل للعجز بعد ليدفعكما لكل هذا الخوف عليّ !"

تبرمت شفتيها وهي تهمس بدون صوت ببعض الضيق
"لقد اخبرتها بذلك مسبقا !"

زمت شفتيها بارتجاف ما ان وجه نظرات حارقة نحوها تكاد تعريها بمكانها ، لتقول من فورها بعبوس محتقن بتلعثم واضح
"ولكنك كنت دائما تتناول الطعام معنا فيما مضى ! ما لذي غيرك هكذا حتى تتوقف عن حضور المائدة معنا ؟"

غيم الصمت الطويل بينهما بتنافر مشحون بالسلبية حتى اخرجت ذكريات تلك الليلة الكارثية بحياتهما الزوجية والعاطفية ، لتشيح (صفاء) بوجهها جانبا بارتعاش بعد ان تلاعبت الاجواء بمشاعرها بطريقة كتمت على انفاسها بصعوبة الصمت بينهما والذي تستطيع قراءة لغته .

نظرت امامها بسرعة باتجاه الذي اخفض رأسه بإنهاك واضح وهو يسعل بصوت مكتوم وكأن بلعوم قد علق بحلقه فجأة ، لتشتت انظارها من حولها بضياع وهي تقع بلحظة خاطفة على كأس الماء فوق المنضدة الجانبية ، اسرعت بخطواتها نحو المنضدة وهي تلتقط الكأس بلمح البصر وبلحظات كانت تقدمها للذي ما يزال يسعل بقوة ازدادت حدة .

ولكن ما ان حاول تناول الكأس منها حتى قبض تلقائيا على كفها بلسعة تخللت بين ايديهما مما ادى لدفع كفها بعيدا حتى اوقعت الكأس منها بلمح البصر ، اخفضت عينيها الواسعتين بحرقة الدموع للكأس المحطمة امام قدميها بذهول طاف على حياتها لوهلة ، ليرتجف بعدها بدنها برجفة انتفض كل جزء بها على مسمع صوت الذي وقف عن مقعده بقوة وهو يصرخ بأمر صارم جمد الدماء بعروقها
"ألم اطلب منكِ مغادرة الغرفة ! لما لا تفهمين الكلام هيا اخرجي من الغرفة حالاً ؟ وإياكِ ودخولها بهذه الطريقة مرة اخرى بدون إذن صاحبها ! فأنا اكثر شيء اكرهه بحياتي هو التسلل لغرفتي من وراء ظهري !"

زمت شفتيها بامتقاع الخزي وهي تحاول خنق شهقاتها بشق الأنفس لتذبح بها روحها والتي غارت بداخل هوة حياتها ، همست بعدها بقهر وبشفتين مرتجفتين ببحة صوتها الباكية
"لم اكن اعلم بأن دخول الزوجة لغرفة زوجها تعتبر متسللة ! ألم تقل بنفسك قبل يومين بأنك لا تطيق سماع كلمة بأنك محظور من حياتي ! إذاً ما هذا الذي فعلته الآن ؟ انت تحب ان تظلمني ولكنك لا تحب ان تنظلم !"

تغضن جبينه بوجوم غيم على محياه بلحظة صمتت معه كل الاصوات المحيطة بهما بعد ان وصل للمفترق بحياتهم ، وهو يراقب بعينين سوداوين ساكنتين التي غادرت لخارج الغرفة بأكملها بدون صوت بعكس الشحنات السالبة والتي انبثقت منها لتبثها بالأجواء من حوله رغما عن إرادته الحديدية بمنافسة امام طاقتها الخيالية والتي اطاحت به اكثر من مرة وما تزال تفعل ...

_____________________________
دخلت لقاعة الطعام بخطوات متخاذلة وهي تجر اذيال الخيبة معها بجرح دائما ما يتفنن بغرس سكين قسوته به بدون ان يدع له الفرصة ليندمل من جروحه السابقة ، تصلبت بمكانها ما ان اوقفت طريقها التي اندفعت امامها بلحظة وهي تهمس لها بابتسامة حانية بلهفة
"ماذا حدث معكِ يا صفاء ؟ هل وافق جواد على حضور مائدة العشاء معنا ؟ اخبريني بأنه سيأتي الآن بأي لحظة وترككِ تسبقينه اولاً !"

تنهدت بإنهاك خرج من صميم قلبها المطعون وهي تحيد بنظراتها جانبا بدون كلام ، لتعود (هيام) للكلام بتوتر تشرب بملامحها بلحظة خاطفة
"ما بكِ يا صفاء ؟ كلميني يا عزيزتي ماذا حدث ؟ هل جرحكِ بكلامه كما يفعل دائما ؟"

حركت رأسها بسرعة ناحيتها وهي تتصنع ابتسامة زائفة هامسة برقة
"لا يا عمتي هيام لم يحدث شيء من هذا ! فقط عندما طرقت باب الغرفة وجدت......"

ابتلعت باقي كلامها بداخل حنجرتها ما ان لمحت الواقف عند باب القاعة والذي سمرها بمكانها بقوة نظراته المسلطة عليها ، بينما عقدت (هيام) حاجبيها بوجوم وهي تلتفت للخلف باتجاه ما تنظر له ، لتنقلب ملامحها بلحظة بسعادة غامرة اخترقت ظلال روحها وهي تهمس بمحبة
"وصلت اخيرا ، لقد اشتقنا كثيرا لإطلالتك معنا على مائدة الطعام بعد ان حرمتنا من وجودك بيننا يا قاسي !"

حرك رأسه بعيدا عنهما بجمود بدون ان يعلق على كلامها الاخير وكأنه مجبر على مجاراة تصرفاتهما ليسير تماما على هواهما ، تسمرت (صفاء) بمكانها بصدمة وهي تلمح التي غمزت لها بعينها بمرح ويدها تمسح على ذراعها بحنان ، لتعض بعدها على طرف شفتيها بتوتر ممتعض بدون ان تستطيع مجاراتها اكثر وهي تظنها من احضره إلى هنا ! ولا تعلم بأنه قد اهانها وطردها من الغرفة قبل ان يسمعها جزء من سمومه المعتادة نحوها ! إذاً كيف تكون هي السبب بحضوره ؟ وكل ما هي متأكدة منه الآن وواثقة به بأنه لم يحضر المائدة اليوم سوى ليكمل تجريحها وإهانتها بقسوته التي لا تفارقه معها !

استدارت (هيام) بلحظات للجهة الاخرى وهي تتقدم باتجاه ابنها الذي ما يزال ساكن بمكانه بدون حراك ، لتقف بعدها امامه تماما وهي تهمس له بابتسامة عاتبة بمرح
"إذاً فقد اتيت بالنهاية ! كم كان علينا ان نرجوك ونتوسل إليك لتحضر المائدة معنا وكأننا نطلب من الملك الفرعوني ان ينزل عن عرشه ويشرفنا بحضور السفرة مع عبيده !"

ارتفع حاجبيها بدهشة وهي تعض على ابتسامتها البلهاء ما ان قالت تماما الذي كان يدور برأسها من لحظة ولم تستطع النطق به امامه ، لتموت الابتسامة بمحضرها ما ان امسكت بها النظرات الباردة والتي تكاد توديها قتيلا ، فيبدو بأنه قد قرأ افكارها بالفعل على سطح ملامحها والتي كشفت ما يعتمل برأسها !

اعاد نظراته لوالدته وهو يتمتم بجمود بارد
"لم يكن هناك داعي لفعل ذلك ، انتِ من اجبرني على كل هذا لأخضع فقط لرغبتك"

اتسعت ابتسامتها بحنان وهي تلوح بيدها هامسة بعبوس مزيف
"ولكنك لم تصغي لكل كلامي عندما طلبت منك ان تحضر المائدة معنا وتجاهلتني تماما ، وعندما طلبت منك صفاء وافقت بسرعة بدون اي مجهود يذكر ، يا لك من ظالم وغير منصف !"

اتسعت حدقتيها العسليتين بذهول وهي تحرك رأسها للأسفل بإحراج تتمنى معه ان تختفي من الكون بأكمله وليس من امامهم فقط ، بينما قال (جواد) بهدوء بابتسامة ملتوية بقسوة
"هل تعتقدين حقا بأني اميزها عنكِ ؟ يا لها من حجة مقنعة للفت الانتباه يا امي !"

ضحكت (هيام) بمرح خافت لم يدم سوى للحظتين برنة الحزن القابعة بروحها ، ليتحرك بعدها (جواد) وهو يتجاوزها بخطوات ثابتة وما ان وصل بطريقه للساكنة بمكانها حتى همس لها بكلمات موجزة ارسلت القشعريرة بمنحنيات جسدها بأكمله
"لن اسامحكِ على تلك الكلمات يا صفاء ، ولن امررها لكِ بدون عقاب"

انفرجت شفتيها بشهقة مكتومة وهي تحاول تهدئة فورات مشاعرها على مسمع تلك الكلمات التي تبين نيته المطمورة نحوها .

بلحظات اجتمعت العائلة حول المائدة وكل منهم يجهز طبقه من الطعام امامه ، بينما كانت (هيام) تجهز الطبق الخاص بابنها وهي تملئه من كل الاصناف الموجودة على الطاولة قائلة بمودة حانية
"عليك ان تأكل من كل شيء موجود على الطاولة ، وإياك وان تترك شيء بطبقك لأني عندها لن ارحمك ، فقد اصبحت نحيفا جدا بالآونة الاخيرة وتقضي وقتا طويلا بالعمل بدون ان تضع شيء بفمك ! وهذا ليس جيدا ابدا على صحتك"

ردّ عليها بجفاء وهو يحرك عينيه بملل
"هل عدنا لمحاضرة الصحة والتغذية ؟ فأنا لن اتأثر فقط من نقص طفيف بالطعام على جسدي والذي اعتاد على حرمان أيام من الطعام !"

وضعت الطبق امامه بقوة رجت محتويات الطاولة وهي تهمس بصرامة قاطعة
"ليس هناك داعي لذكر مثل هذه الأمور القديمة والتي ولى عليها الزمن ورحل ، فنحن الآن قد تحسن وضعنا المادي والمعنوي واصبح بإمكاننا العيش برفاهية وسعادة مثل كل العائلات بالعالم وافضل ! لذا اشكر النعم التي انت بها الآن وتوقف عن ذمها"

عبست ملامحه بتقاسيم طفيفة اعتلت محياه وهو يلتقط الملعقة ليتناول طعامه ببرود غير مبالي ، بينما كانت (صفاء) تشاهد المنظر امامها بهدوء بدون ان تشارك بالأجواء التي اختلقوها بينهما ، وهي تجلس بجوار عمتها لتحاول الابتعاد بقدر الإمكان عن مجال نظره وعن كل شيء يحيط به اصبح يرهقها ، بالرغم من إمارات الغضب التي ظهرت على وجه عمتها ورفضها لموقع جلوسها والذي اتخذته رغم ممانعتها الشديدة .

ارتفع نظرها قليلا ما ان علق ذهنها عند آخر حديثهم لتقول بلحظة بخفوت متردد
"هل كان الحصول على الغذاء صعبا جدا بالماضي ؟"

نظرت لها (هيام) وهي تبتسم بحزن تسلل لمحياها هامسة بأسى خافت
"لا يا عزيزتي ليس هذا ما حدث ! ولكن جواد اعتاد على العيش بعيدا عنا بسبب ظروف عمله ودراسته والتي تحتم عليه السكن بمنطقة اخرى وزيارتنا بفترات متقطعة ، لذا لم يكن بتلك الفترة يتناول طعامه بانتظام وكان يهمل صحته بأكثر الاحيان بسبيل الانفاق علينا وجلب المال لمنزلنا ، ولكن الحمد الله على كل حال فكل شيء قد سار للأفضل واصبح لجواد وظيفة مرموقة ومنزل جديد يؤوينا ، لذا لا داعي للحزن على الماضي فكل هذا من حكم ربنا ونعمه علينا"

ابتسمت بارتجاف بغلالة مظلمة تشعر بها اصبحت تحوم من حولها بكثرة ، وهي لا تجد ما تقوله سوى الهمس بخفوت باسم بثغرها الحزين
"الحمد الله على كل حال"

مرت لحظات قبل ان يخترق هالة الصمت المحيطة بهم الصوت الجليدي وهو يتمتم بهدوء
"من الذي اعد الطعام اليوم ؟"

اتسعت عينيها العسليتين بخوف خفي اصبح يحوم من حولها وهي تعلم جيدا مصير طعامها ما ان يعلم عن هوية الذي اعده ، لتجيبه (هيام) بلحظة بابتسامة متسعة بسعادة مفعمة بالحياة وكأنها تثني على عمل ابنتها
"ومن سيكون غير اميرة المنزل الطاهية ! فهي قد اصبحت تتولى اعداد الوجبات الثلاث بنفسها وبإتقان وحرفية لن تستطيع بها مقاومة التناول من تحت يديها الساحرة ، حتى انها من جهز المائدة ايضا ورتبت الموائد عليها ببراعة ارقى المطاعم بالبلد ، انا اقول بأنك قد اصبت حقا باختيارها زوجة وابنة مطيعة لمنزلنا والذي كان يحتاج لوجودها بشدة ، ولو كنت اعلم بأن هذا سيحدث مسبقا لطلبت منك الزواج منها بسرعة واحضارها لمنزلنا منذ زمن بعيد ! فهي منذ حضورها لمنزلنا وقد جلبت معها البهجة والراحة وما كنا نفتقده بشدة منذ سنوات"

غيم الصمت للحظات فاصلة والمقصودة بكلامها تنظر ليديها بحجرها بحياء مفرط ومشاعر اخرى متداخلة تشابكت معها ، لتسمع من كانت تنتظر رأيه بأعصاب منهارة وهو يقول بغموض منخفض
"حسنا لقد توقعت هذا ، ولكن شكرا على التوضيح"

قالت (هيام) من فورها بابتسامة ما تزال تحتل محياها بمحبة غامرة
"إذاً ما هو رأيك بالطعام يا جواد ؟ فأنت لم تخبرنا للآن رأيك به !"

حرك رأسه بهدوء وهو يدس لقمة اخرى بداخل فمه ليهمس بعدها ببرود وهو يلوك اللقمة بين اسنانه
"لا بأس به جيد ويترك اثر بالفم مثل السم والذي يتخلل بجسد صاحبه ليترك جزء منه ساكن بداخله مثل وصمة لن تزول بسهولة !"

فغرت شفتيها لوهلة بدون اي شعور وكأنه يتكلم عن شيء آخر بعيد كلياً عن الطعام بتعبير عبث بخفقات قلبها بموجة مشاعر متناقضة ، لتتدخل بعدها التي ضربته على مرفقه بكفها بهدوء وهي تهمس بوجوم مستاء
"ما هذا الذي تتكلم عنه ؟ هل هكذا يعبر الزوج عن رأيه بطعام زوجته والذي تعبت وهي تحضره له ؟ حقا معشر الرجال عديمين المشاعر ولا يقدرون المجهود المبذول من اجلهم لأنهم كائنات متكبرة لا يرضيهم سوى القليل ! انا اقول بأن الله يكون بعون زوجتك المسكينة على زوج بتفكير منعدم مثلك !"

اكمل طعامه وهو يتجاهلها تماما ليحيد بعينيه ناحية التي ما تزال تحدق به بذهول اخذها بعيدا ، لتخفض بسرعة عينيها لأسفل الطاولة برجفة شعر بها بوجهها المحتقن باحمرار مفرط ، بدون ان يعلم ما هو مدى تأثيره عليها والذي اصبح يثير اهتمامه بالآونة الاخيرة ؟ مثل كل شيء تحتل مكانا به كما فعلت بالمنزل الذي يعيش به والذي استحوذت على مساحة كبيرة به حتى تحول لعالمها الخاص تلهو وتلعب به كما تشاء بدور الزوجة والطاهية والابنة وجميعها بشخص واحد !

_______________________________
كانت تطرق بطرف اصبعها الطويل على سطح الطاولة وهي تتنقل بعينيها الداكنتين برواد المكان بتركيز بارد بدون ان تعطي ايً منهم اهتمامها ، لتخفض بعدها مسار نظرها قليلا وهي تحدق بالهاتف بيدها الاخرى والمفتوح على الرقم والذي حفظته عن ظهر قلب بلمحة خاطفة للرقم ليخزن بذاكرتها الحديدية .

تنفست بجمود وهي تزيد من الضغط بالنقر على سطح الطاولة حتى اصبح ينقر برأسها مثل دقات نهاية صبرها الحتمي ، لتخفض بعدها جفنيها بلحظة وهي تعود بعقلها لما حدث قبل دقائق فقط من الآن ، عندما كانت تضع الهاتف على اذنها وهي تستمع لصوت رنين مكالمتها ، وبلحظات كانت تبادر بالكلام قائلة ببرود عملي
"هل هذا رقم الآنسة وفاء شديد ؟"

مرت لحظتين قبل ان يجيب الصوت من الطرف الآخر بارتعاش واضح
"نعم هنا ! ماذا تريدين منها ؟"

ابتسمت بهدوء جليدي وهي تهمس مجددا بصوت اكثر جمودا
"مرحبا بكِ ، انا ادعى ماسة الفاروق وقد سبق وتعرفنا على بعضنا ، هل تذكرين ؟"

ارتجفت انفاسها بتعثر وهي تهمس بخفوت متوجس
"نعم اتذكر ، مرحبا بكِ زوجة شادي الفكهاني ، هل استطيع مساعدتك بشيء ؟"

انحنت ابتسامتها بغموض وهي تقول بسعادة مزيفة
"نعم يا عزيزتي اريد مساعدتكِ بأمر ضروري جدا ! هل تستطيعين مقابلتي الآن بمقهى السعادة بمنتصف البلد ؟"

انتظرت عدة لحظات قبل ان يخرج صوتها بارتباك اكبر يتخلل بها الخوف
"تريدين مقابلتي الآن ! ولكن لماذا ؟ ماذا حدث ؟"

اجابتها بهدوء شديد بدون اي مقدمات
"اريد مقابلتك وإجراء حديث ودي بيننا ، هل تمانعين بذلك ؟"

ردت عليها بسرعة بخفوت مرتجف
"لا لا امانع ، ولكن من الغريب ان تطلبي مني مثل هذا الأمر بعد كل ما حدث بيننا بآخر مقابلة !"

تجمدت ملامحها بتعبير قاسي لوهلة وهي تخفي كل انفعالاتها التي راودتها بعقلها بلحظة ، لتهمس بعدها بابتسامة باردة بخفوت
"هل ما تزالين تحملين الضغينة اتجاهي بسبب آخر حوار حدث بيننا ؟ لا تقلقي يا عزيزتي فهذه المقابلة ستكون مختلفة عن سابقتها فهي مجرد نقاش بين اي صديقتين تودان التعارف على بعضهما من جديد وفتح صفحة جديدة خالية من اي عداوات او حروب قد تؤدي عن هذه المقابلة ، فما رأيكِ بهذا ؟"

صمتت للحظات اطول قبل ان تجيب بشك خافت
"لا بأس بذلك ، ولكن هل انتِ متأكدة من كلامك ؟ فهذا القرار قد يؤثر من عدة نواحي !"

اتسعت ابتسامتها بسخرية لا شعورية وهي تهمس بلا مبالاة متعمدة
"وماذا قد يحدث مثلا اكثر مما حدث ؟ لا تقلقي فأنا متأكدة من كل كلمة قلتها لكِ الآن ، إلا إذا كنتِ انتِ غير متأكدة من صحة قراري ؟"

ردت عليها بسرعة بتوتر مبرر
"لا ليس هكذا الأمر ! ولكني لا اعتقد بأن الوقت الآن مناسب للمقابلة ، اعتذر حقا......."

قاطعتها بملامح باردة وهي تهمس بجفاء
"تقصدين بأنكِ لا تستطيعين الخروج من المنزل !"

زمت شفتيها بارتجاف وهي تهمس بحزن كاذب
"اجل هذا ما قصدته ، لو كنت املك الوقت لما تأخرت بإجابة طلبك....."

عادت لمقاطعتها بتفكير بدون ان تهتم لكلامها الاخير
"إذاً هل استطيع المجيئ لمنزلك ومقابلتك هناك بما انكِ لا تستطيعين الخروج منه ؟ ما رأيكِ !"

شحبت ملامحها وهي تهمس باندفاع لا إرادي
"لا هذا غير جائز ! اعني لا استطيع ! اعتذر"

اعتلت إمارات الجمود محياها وهي تهمس بأمر لا جدال به
"إذاً الخيار بيدكِ ! اما ان نتقابل بالمقهى الذي اخبرتكِ عنه من لحظة ؟ واما ان تخبريني بموقع منزلك لأستطيع القدوم لكِ ؟ ماذا قررتِ ؟"

اخذت عدة لحظات قبل ان تقول بخنوع من استسلم للأمر الواقع
"حسنا لا بأس ، انا موافقة على ان نتقابل بالمقهى الذي اخترته ، فهو افضل من الخيار الثاني"

انقلبت ملامحها بسعادة لحظية وهي تهمس بلهفة بالغة
"جيد ، سأكون بانتظاركِ هناك فلا تتأخري بالقدوم ، وتذكري بأنه لدي طرق اخرى للوصول لكِ هذا إذا فكرتِ بالهروب !"

حركت رأسها بشرود وهي تخرج من موجة الذكريات التي اخذتها من لحظات ، لتتوقف لوهلة عن نقر الطاولة وهي تلتفت بوجهها ناحية صوت الاقدام المتجهة نحوها بتردد واضح تستطيع تمييز وقعها على الأرض الرخامية ، لتعتلي بلحظة نفس الابتسامة الساخرة محياها وهي تهمس بخفوت واثق
"واخيرا وصلتِ ! ظننت بأنكِ بلحظة غباء قد ترتكبين حماقة وتفكرين بالهروب من مقابلتي ؟"

توقفت الخطوات بالقرب منها وهي تهمس بهدوء محرج
"اعتذر لقد جعلتكِ تنتظرين طويلا !"

حركت رأسها بلا مبالاة وهي تهمس ببرود ساخر
"لا بأس يا عزيزتي ، المهم عندي بأنكِ كنتِ عند كلمتك ولم تخذليني كما فعلوا الآخرون ! وهذا تصرف بالغ الأهمية بالنسبة لثقتي والتي اصبحت بعيدة المنال على بشر اكثر ما يجيدونه هو خيانتها !"

ابتلعت (وفاء) ريقها بتلجلج وهي تهمس بنفس الخفوت النادم
"اعتذر مجددا على جعلكِ تظنين السوء بي !"

زفرت انفاسها بملل وهي تدير وجهها امامها هامسة بأمر
"لا بأس ، اجلسي امامي الآن"

تقدمت بسرعة وهي تجلس على الكرسي المقابل لها بهدوء ظاهري ، لتضم بعدها قبضتيها فوق سطح الطاولة بتوتر وهي تنظر بعيدا عنها بخوف مما اقدمت عليه بدخولها لقفص الأسد ، لتبدأ بالكلام التي اعتدلت بجلوسها وهي تكتف ذراعيها بقوة
"إذاً يا وفاء اريد ان اطرح عليكِ بعض الأسئلة البديهية وما يتعلق بالأمور الشخصية ، وانتِ ايضا يمكنكِ ان تطرحي عليّ ما تشائين من الأسئلة ، وهذا سيكون مسار نقاشنا الودي ، فهل تريدين ان ابدأ انا بالكلام ام انتِ ؟"

حركت رأسها بتشوش للحظات قبل ان تهمس من فورها بابتسامة شاحبة
"لا بأس ، يمكنكِ انتِ البدء بالكلام بيننا بما انها فكرتكِ انت !"

اومأت برأسها بجمود وهي تتقدم بجلوسها قليلا هامسة بهدوء
"انتِ اسمكِ وفاء شديد ، صحيح ؟"

ضمت شفتيها بارتعاش من معرفتها باسمها الكامل بهويتها المزورة ، لتهمس من فورها بتأكيد متخبط
"اجل نعم"

عادت للكلام بلحظات بحاجبين معقودين بتحفز
"كم هو عمركِ يا وفاء ؟"

ارتفع حاجبيها بدهشة وهي تهمس بخفوت باهت
"عمري الآن اربع وعشرين"

اومأت برأسها بتفكير لثواني وهي تشيح بوجهها بعيدا عنها لوهلة ، لتسبقها الاخرى بالسؤال التالي قائلة مباشرة
"وانتِ كم هو عمرك ؟"

عادت بنظرها لها وهي تهمس بابتسامة هادئة
"انا ابلغ من العمر عشرون سنة"

ارتفع حاجبيها بدهشة اكبر وهي تحاول حسبان الفارق بينهما والذي يظهر بأن هناك اربع سنوات تفوقها بها ، وهي بالحقيقة تظهر دائما النقيض عن هذا وكأن تلك الفتاة هي التي تكبرها بأربع سنوات وليس العكس ! هل هذا يعني بأن العمر لا يتحدد بالسن الحقيقي للشخص بل بعمر العقل والذي يظهر من تصرفات هذه الفتاة والتي ما تزال بسن المراهقة ؟!

افاقت من افكارها ما ان تابعت المقابلة لها كلامها وهي تقول بحيرة جادة
"ولكن ما لذي دفعك يا ترى للحمل بطفل بدون زواج رسمي او هوية يثبتها ؟ هل هي ظروف قاهرة من دفعتك لفعل هذا !"

اخفضت رأسها بارتجاف احتل اطرافها وهي تهمس بوجوم خافت
"شيء من هذا القبيل !"

عقدت حاجبيها بضيق وهي تلوح بذراعها جانبا هامسة ببرود صخري
"حسنا سنتجاهل هذا السؤال وننتقل لغيره ، هل كنتِ تعيشين بالماضي خارج البلاد ؟ فلا يبدو عليكِ بأنكِ اجنبية !"

نظرت لها بسرعة بخوف تجلى على محياها بوضوح ، لتهمس من فورها بابتسامة هادئة باضطراب
"لا غير صحيح ! انا اقصد لست اجنبية بل عربية الاصل وقد كنت اعيش فيما مضى مع عائلتي بالخارج بسبب اعمال والدي ، ولكنهم قد ماتوا جميعا ولم يبقى لي احد الآن"

عبست ملامحها وهي تظهر امارات الاسى على وجهها هامسة بتعبير جاف بدون اي شعور
"هذا امر مؤسف حقا ! يا له من واقع قاسي ! ولكن يبقى افضل من ان يكونوا على قيد الحياة وتخلوا عنكِ ، أليس هذا صحيحا ؟"

شحبت ملامحها بصورة مخزية بدون ان تذكر امر وجود والدها وعائلته والذين ما يزالون يحملون نوايا القتل والموت نحوها ، ولو كانوا حقا قد تخلوا عنها لكان افضل بكثير مما تعاني به الآن !

انتفضت بمكانها ما ان تابعت كلامها بنبرة بعيدا عن الاسى والذي انقلب لشيء آخر
"ومتى توفيت عائلتك ؟ هل تستطيعين التذكر ؟"

عضت على طرف شفتيها اكثر من مرة وهي تهمس بعد عدة لحظات ببهوت خاوي
"توفيت امي وانا بعمر السادسة عشر ، وتوفي ابي وانا بعمر الحادية والعشرون"

عقدت حاجبيها بجمود وهي تتبع تعابير ملامحها والتي تدل على انعدام مشاعر الاسى والحزن عند ذكر امر وفاة والدها ! فهل تخفي شيء وراء وفاة والدها ؟

تغضن جبينها بهدوء ما ان طرحت عليها السؤال التالي بنفس النبرة الخاوية
"وماذا عنكِ ؟ متى توفيت عائلتك ؟"

ابتسمت بهدوء وهي تنظر بعيدا عنها هامسة ببرود بدون اي تعبير يعلو محياها
"توفي والدي عندما كنت بالرابعة ، وتوفيت والدتي عندما كنت بالعاشرة"

اتسعت عينيها بانشداه لوهلة وهي تهمس بحزن خافت
"يعني كنتِ صغيرة بوقت وفاتهما !"

نظرت لها للحظات وهي تهمس بابتسامة صغيرة بدون اي مرح
"اجل هذا ما حدث ، لقد كانت فترة وفاتهما بسنوات طفولتي ، لذا لا اذكر بأني قد شعرت بأي حنين لهما فقد فقدت هذه المشاعر منذ سنوات"

تلبدت ملامحها بالحزن وهي تشاركها بنفس المشاعر المجردة من العاطفة والحسرة على ذكريات واراها الزمن بدون ان تصنع اي شيء جميل معهما ، وخاصة بأنها قد عاشت بكنف عائلة صارمة ومتسلطة من طبقات المجتمع الثرية كل ما يفكرون به هو صناعة المجد لهم وسحق خصومهم ، وهذا هو ما انغرس بأفكار كلاً من والديها ليفكرا بالشهرة والمال على حساب التفكير بحياتهما الشخصية وإلى اين ادت بنهاية المطاف !

اتسعت عينيها بانتباه ما ان قطعت سير افكارها التي قالت بحدة جادة بسؤال غير محور الحديث
"لننتقل الآن للسؤال التالي والأهم بهذا النقاش ، اريد ان اعرف ما هو الرابط بين اسمكِ واسم عائلة مونتريال ؟ فقد لاحظت بأن اسمكِ لا يحمل بين مقاطعه كلمة مونتريال ! فبالأحرى السؤال سيكون ما هو اسمكِ الحقيقي يا وفاء ؟"

ابتلعت ريقها بانقباض مفاجئ احتل كيانها بلحظة وهي تنشج بمكانها بارتجاف مذعور ، فقد توقعت كل شيء من هذه الثعلبة الماكرة والذي لا يخفى عليها شيء كما يبدو ! ولكن ان تصل بسهولة لتخمين بأن لديها اسم حقيقي غير اسمها ؟ فهذا قد فاق قدراتها المحتملة بالتفكير وكأنها قد وقعت بقفصها بدون اي سبيل للفرار ! ولو استرسلت معها قليلا بالكلام فهي ستكتشف بلا شك كل ما هو مخفي بحياتها بدون ان تتكلف اي عناء !

رفعت عينيها فجأة باتساع للحظات قبل ان تهمس بابتسامة جافة شقت طريقها بشفتيها بذبول
"انا اعتذر على هذا ! سامحيني ارجوكِ !"

ارتفع حاجبيها بعدم استيعاب وهي تتمتم بعبوس حانق
"ماذا تقصدين يا وفاء ؟ ألن تجيبي على سؤالي ! ......."

تسمرت بمكانها ما ان اخترق حديثهما الصوت المألوف هامسا من خلفها بهدوء
"يمكنني ان اجيبكِ انا إذا اردتِ هذا !"

عقدت حاجبيها بارتجاف استبد بها برجفة خاطفة خدرت جسدها عن الحركة لثواني ، لتدير بعدها وجهها جانبا وهي تستشعر هالة وجوده تحيط بها بالقرب منها تماما ، عادت بسرعة بالنظر امامها وهي تحدق بالتي كانت تنظر للأسفل بسكون تام وهي تتحاشى النظر نحوها ، لتكتسح بلحظة ملامح الجليد محياها وهي تهمس ببرود خافت باحتقار
"يا للخيانة ! لقد فعلتها إذاً ؟"

نهضت عن الكرسي من فورها وهي تستدير بلحظة للخلف لتتقابل امام الذي اكتسح حياتها بوجوده المحيط بها على الدوام ، وبثواني كانت تلتقط حقيبتها لتسير امامه بدون ان تلقي نظرة اخرى نحوه وهي تتجاوزه بهدوء بعد ان شقت طريقها خارج هالته ورحلت عنها .

التفت (شادي) ناحية الساكنة بمكانها وهو يقول لها ببرود جليدي
"عودي للمنزل يا ميرا ، قبل ان يتأخر الوقت"

نظرت له بعيون متسعة وهو يغادر من خلفها لخارج المقهى ، لتتنفس بعدها الصعداء وهي تدعو ان لا تحقد عليها تلك الفتاة اكثر مما كانت عليه بالسابق ! فكل شيء قد فعلته حفاظا على حياة الجميع وأولهم حياتها هي والتي تملئها المخاطر من كل زاوية !

يتبع........


روز علي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس