عرض مشاركة واحدة
قديم 26-06-22, 12:27 PM   #243

ريما نون

? العضوٌ??? » 484937
?  التسِجيلٌ » Feb 2021
? مشَارَ?اتْي » 802
?  نُقآطِيْ » ريما نون is on a distinguished road
افتراضي

الفصل السابع والثلاثون
سكب مساعد وسام لنفسه كأس من النبيذ وآخر لوسام ووضع بهما مكعبات ثلج ليخفف من حدة مذاقه اللاذع، وضع كأس وسام أمامه ثم عاد يجلس في كرسيه ليرتشف من شرابة باستمتاع
- إذًا ما هو الحل؟ كيف ستخرج من تلك المعضلة؟
شرب كأسه دفعة واحدة دون أن يجب أو يلتفت له حتى.
فتابع مساعده:
- تعرف أنك يجب أن تبلغهم ردك في خلال أربعة وعشرين ساعة، وإلا سوف يعتبر بأنك ترفض عندها تعرف ماذا سيكون الرد؟
نفث دخان سيجارته وقال بهدوء لا يتناسب مع الموقف:
- أعرف، لدي حل للمعضلة وعندها سوف أتأكد من وراء ذلك.
حك رأسه في تفكير ثم قال المساعد بنوع من الغباء بالنسبة له:
- وماذا عن زوجتك؟ والدتهم، هل ستسمح بذلك؟ أعنى سوف تقلب الدنيا إذا أخذتهم منها وقمت بتسفيرهم مثل باقي الأطفال؛ أعرف بأنك لا تهتم كثيرًا لهم وما يهمك منصبٌ في المنظمة لكنها أم! هل ستصمت؟
التفت لينظر له مطولًا قبل أن يجيب:
- لقد كثرت أخطاء سما وقلت فائدتها كما أن سميحة رفضت إعطائي المال بعد أن كُشف سرها.
عقد المساعد حاجبيه وهو ينتظر باقي الإجابة دون فائدة:
- ماذا تعني ماذا ستفعل؟
لم يجبه بل التفت للنافذة ينظر للنار التي أشعلها الحارس وقد تخيلها نارًا أخرى ستحرق كل من يقف في طريقه.
***********
دخل إياد للمكتب الذي أجره للعمل به مع غسق وسابين وقد أحضر معه طعام الغداء للجميع لكنه وجد سابين فقط جالسة خلف المكتب تتابع العمر بانهماك لدرجة جعلتها لا تشعر بقدومه؛ وضع أكياس الطعام فوق الطاولة وأقترب منها بخفة دون أن تشعر؛ كي يقوم بإفزاعها كما كان يفعل مع فرح دائمًا، قبل أن يفعل قالت وهي تكمل العمل على الكمبيوتر دون أن تزحزح عينيها عن الشاشة:
- لا تحاول.
عقد حاجبيه وقد ظهر عليه خيبة الأمل التي ظهرت في صوته:
- كيف عرفتِ لم أصدر صوت؟!
لفت كرسيها لتواجهه وهي تبتسم في مرح لتلتقِي عينيها بخاصته، كم تعشق هاتين العينين، لم تعتقد بأنها سوف تجرب هذا النوع من العشق في حياتها، بل هي حتى لم تكن تبحث عنه لتجده متمثلًا في إياد.
وضعت إصبعها في فمها وهي تبتسم بخبث مع تحريك حاجبيها للأسفل والأعلى:
- لدي أشقاء ذكور كانت كل مهمتهم إفزاعِي بكل الطرق، حتى تعلمت كيف أكشف خططهم.
ظهر الحزن في عينيه عندما ذكرت أشقائها فقد تذكر فرح، استشفت حزنه لتقف وتحتضن وجهه بين يديها، قالت باهتمام حقيقي:
- ألا زالت ترفض الرد على مكالماتك؟
أغمض عينيه في تأييد دون أن ينطق.
اقتربت تقبل عينيه وتضم رأسه لصدرها:
- سوف تجيب عليك لن تقدر على الجفاء كثيرًا، هي فقط مجروحة، الطلاق ليس سهلًا على المرأة خصوصًا وإن كانت تحب زوجها، فقد استمر في اتصالاتك حتى لا تظن بأنك نفضت يدك منها.
أبقى رأسه في حضنها يستمتع بالشعور الرائع بالحنان والدفء، سابين تعطيه شعورًا دائمًا بأنه مميز، تستطِيع تغير مزاجه من الغضب للهدوء في ثواني، لا يعرف كيف تخللت بداخله لتكسب هذه المكانة الكبيرة، أو ربما لأنه لم يشعر يومًا بأنه مهم لامرأة من قبل! حتى جميع النساء اللاتي صادقهن، كن يخرجن معه بسبب وسامته واسم عائلته وما يملكه من مال ليس لشخصيته، أما تالين التي ظن بأنها تحبه وقام بإبعادها عنه بكل الطرقة خاصةً عندما وجد أن فريدة قامت بوضعها تحت جناحها وتجهيزها له كعروس مستقبلية، لكنها لم تتحمل إهانته وتجاوزته بسرعة رهيبة لتذهب لغيره!
حكيم الذي تأكد من حبها بل عشقها له عندما زارهم في منزلهم، لوهلة شعر بالغبطة منهما بل الأصح من عشقهما لبعضهما ولذلك الصغير الذي يقسم كل من يراه بأنه نسخة من والديه، تلك الزيارة أكدت له شيئًا واحدًا، أن تالين لم تحبه يومًا.
نكزته سابين لتخرجه من أفكاره:
- ها، ما رأيك؟
نظر لها في غباء:
- رأيي في ماذا؟
قالت بحماس:
- في الحجاب! لقد قررت أن أتحجب مثل زوجة عمك وابنتها، فكرة بأن تعيش هنا وتظل محافظ على دينك وتقاليدك رغم كل الاغراءات رائعة بل تستحق الاعجاب والانبهار.
ابتعد عنها ليجلس في الكرسي المقابل لها وهو يتأملها ثم قال بعد فترة:
- المكان ليس له دخل بالأخلاق، البعض يعيشون في أكثر الأماكن المقدسة لكنهم يرتكبون جميع المحرمات، الأخلاق تنبع من داخل الشخص وليس من المكان الذي يعيش فيه.
هزت كتفيها في عدم اقتناع:
- قد تكون محق لكن ذلك لا يمنع بأن البيئة والمجتمع التي ينشأ بها الإنسان يكون لها أكثر كبير به، مثلًا معيشة روبين في فرنسا ووالدتها الأجنبية هو ما جعلها تتغاضى عن بعض التقاليد.
رفع حاجبه وقال في استهزاء:
- بعض!
حركت عينيها للأعلى بمعنى لا يهم، فتابع هو:
- دعك من زوجة عمي وابنتها فهما رغم أنهما أمضيتا كل حياتهما هنا إلا أنهما متقوقعتان في الجالية العربية، ولم تحاولا مخالطة الأجانب أبدًا؛ خذي غسق كمثال رغم أنها قضت طفولتها وفترة المراهقة هنا لكنها ظلت محافظة على قيمها وأخلاقها، لا أحد يمكنه المساس بأخلاقها أبدًا.
قاطعته بنوع من الغيرة:
- لكنها عادت للوطن في الوقت المناسب لتعديل أي سلوك سيء بها، فلا تأخذها كمثال للأخلاق والعفة.
لم يغفل عن غيرتها وقد دغدغ ذلك مشاعره لترضيه فتابع وقد قرر أن يزيد الجرعة:
- حسنًا لن أتناقش في صفات غسق التي لا تعد ولا تحصى احترامًا لصديقي فقط، ماذا عن زهراء هي ليست محجبة بل لديها عمل خاص يضطرها كثيرًا للسفر بمفردها، لكنها في قمة الاحترام ولا تسمح لاحد بالتجاوز معها، في الحقيقة أنا معجب بها جدًا فهي نموذج للمرأة العربية الناجحة في الغرب مع الحفاظ على قيمها وأخلاقها.
يكاد يقسم بأنه رأى دخان يخرج من أذنيها، اشتعلت عييها بلون الدم وعقدت حاجبيها حتى كادت تلتصق لتكون حاجب واحد بطول جبهتها، اما أنفها فقد انتفخ وهي تنفث بغضب واضح.
اقتربت وقد ضيقت عينيها وهي تضغط على أسنانها بقوة:
- من هي تلك التي تعجبك يا حبيبي؟ أسمعنِي كي أضعها معك في نفس الصندوق بعد تقطيعكما أو ربما يجب أن أرمِي جثتيكما للكلاب تأكلها!
صمتت قليلًا لتفكر بينما هو فاغر الفاه، ثم قالت:
- لا يمكن، فلا يوجد هنا كلاب شوارع للأسف، نعم وجدتها سوف أفقع عينيك حتى لا تنظر لها أو لغيرها أبدًا.
أخذت تبحث عن شيء فوق مكتبها دون أن تعلن عن ماهيته؛ أما هو فقد فغر فاه غير مصدق لما قالته للتو فهي لم تكن تمزح، بل كانت جدية في كل كلمة نطقت بها لدرجة أخافته قليلاً، تابعها بحذر حتى وجد ابتسامة شريرة ترتسم على شفتيها وقد أمسكت في يديها أداة تشبه السكين مخصصة لفتح الرسائل،
استقام من كرسيه واقترب منها يبعد الأداة من يديها ثم أخذها بين يديه ومال على ثغرها يقبلها برقة أنستها ما كانت تنوي فعله من ثواني.
ابتعد عن ثغرها بعد مدة وهي لازالت في حضنه ليقول بابتسامة زادته وسامة:
- لم ولن أحب غيرك فلا داعي لتلك النزعة الاجرامية التي لم أكن على دراية بها.
للعجب أحمرت وجنتيها واخفضت عينيها في حياء:
- انا أيضًا لم أكن أعرف بأنِي قد أغار وبشدة من امرأة أقل مني جمالًا.
رفع إياد حاجبه:
- أقل منكِ جمالاً!
عاد وجهها للغضب:
- هل لديك رأي آخر؟
جاءتها الإجابة على شكل قبلة شغوفه استغرقت وقتًا أطول من سابقتها، لكنها فصلتها وهي تلهث ثم وضعت رأسها على صدره تسمع دقات قلبه التي تسارعت لتعزف نغمة عشق لا يسمعها غيرها.
رفعت عينيها له متسائلة:
- إذًا ما رأيك في فكرة حجابي؟
تنهد وجرها ليجلسها على ركبته بعد أن جلس على كرسي المكتب:
- عزيزتي طبعًا سأكون سعيد بحجابك لكن يجب أن يكون القرار نابعًا منكِ وليس تأثرًا بالآخرين.
شاهد تغير وجهها فأخذ يخلل يده بشعرها برقة ثم تابع:
- مشكلتك هي التأثر السريع بغيرك؛ روبين تزوجت ساجي إذن يجب عليكِ أن تكونِي مع سراج.
شحب وجهها وحاولت أن تقاطعه لتدافع عن نفسها لكنه تابع وقد لف ذراعيه حولها يزيد من ضمه لها:
- غسق تعمل معي إذن يجب عليكِ ذلك، والآن بسبب زوجة عمي قررتِ أن ترتدي الحجاب؛ سابين أنا أعشق شخصيتك الحقيقة بعيدًا عن تأثرها بالآخرين، تلك الفتاة المرحة التي تعشق كرة القدم؛ تلك التي ترتدي ألوان غير متناسقة في المنزل تجعلها حديقة متحركة، أعشق حتى منظرك بدون مساحيق تغير ملامح وجهك لتصغر أنفك وتكبر اتساع عينيكِ، أحب مناقشاتنا التي لا تنتهي، لعبك معي الورق وكل أكلك للمخلل مع المشروب الغازي في الخفاء، تلك الاشياء التي تميزك عن غيرك هي سابين الحقيقة أما التي لا تعرف كيف تكون إلا بتقليد غيرها فلا أطيق النظر لها.
رغم أن كلامة كان قاسي في معناه لكنه صحيح بنسبة كبيرة جدًا، هي فعلا لا تعرف كيف تكون على طبيعتها أمام الغير كما أنها سريعة التأثر بغيرها، وذلك ما تسبب في كوارثها، بداية من جو ونهاية بسراج.
تنهدت ثم أخذت تتحسس أنفها بحذر:
- هل أنفِي كبير لهذه الدرجة؟
اطلق ضحكة رجولية ثم مال عليها وهو يغمز بعينه:
- ربما يجب أن أتأكد من حجمه بطريقتي الخاصة.
قبل أن ينفذ ما قاله سمع رنين جرس الباب وقام أحدهم بفتح الباب وكانت غسق بالطبع.
دخلت وألقت عليهما التحية ثم جلست خلف مكتبها دون أن تنظر لهما مباشرةً فقد كانت سابين لاتزال تجلس على فخذي إياد دون أن تتحرك كأنها نست نفسها، أبعدها إياد برقة فشعرت بالحرج الشديد، أما إياد فقد ذهب يحضر أكياس الطعام ووضعها فوق الطاولة.
- هيا لنأكل لقد أحضرت الطعام منذ فترة.
لم تنظر له غسق بل قالت وهي تتابع ما تفعله:
- كل أنت وزوجتك، أنا لست جائعة شكرًا.
نظر لسابين ليجد أن الحزن علا ملامحها فقد شعر كلاهما بأن غسق تتجنب التعامل مع سابين خارج إطار العمل.
- حسنًا نحن أيضًا لسنا جائعين، أريني ماذا تفعلين بهذه التركيز لعلي أستطِيع مساعدتك.
رفعت رأسها تلقى عليه نظرة مطولة ثم قالت:
- قاربنا على الانتهاء من خطة غوتشي.
قالت سابين بتوجس:
- لقد سمعتكم تتحدثون عن خطة غوتشي كثيرًا، ما هي هذه الخطة لم أسمع بها من قبل؟
نظرت لها غسق بدهشة كأنها قالت شيء في منتهى الغباء، لتشعر بالخجل من نفسها بشدة؛ صحيح هي عملت بشركتها الخاصة لكنها كانت دائمًا تحت إشراف والدها، لم تتخذ أي قرار بمفردها حتى لو أرادت ذلك، لذلك خبرتها تنحصر في تنفيذ الأوامر ومتابعة سير العمل.
لتقول غسق في استغراب حقيقي:
- ألم تدرسيها من قبل؟ أعني ظننت أنك تخرجتِ من جامعة أجنبيه؛ كيف لا تعرفين غوتشي؟
عقدت حاجبيها لتقول في غضب:
- طبعا أعرف غوتشي بل أملك العديد من الحقائب التي تحمل توقيعه، كذلك فساتين سهرة من تصميمه.
- حقائب؟!
كررتها غسق بتساؤل وقد اتسعت عينيها في ذهول من شدة غباء ما سمعته.
في محاولة منه لتدارك الموقف قال إياد بسرعة:
- سابين عزيزتي نحن نتحدث عن خطة استيلاء ماركة غوتشي في الثمانينات من القرن الماضي؛ من قبل ماريتسو غوتشي، بأن وظف أشخاص لشراء أسهم باقي الشركة من أقاربه دون أن يعرفوا بأن له صله بها هكذا كسب حق الإدارة والعلامة التجارية دون أن ينفق ثروة كبيرة، فإذا عرف أبناء عمه بأنه المشتري لرفضوا أو بالغوا في السعر المطلوب، كما أنهم كانوا يظنونه ضعيف ذلك جعل تحركاته أسهل دون مراقبة تذكر.
نظرت له بتركيز شديد:
- حقًا لم أكن أعرف ذلك؟ تعني بأنكم تقومون بشراء أسهم باقي المساهمين دون أن يعرفون من هو المشتري الحقيقي، بذلك تصبح الشركة تحت تصرفكم دون أن تدفعوا مبلغ خيالي هذا إن وافق المساهمين على البيع لكم.
قالت غسق بملل:
- أخيرًا وصلت الفكرة، أحمدك يا إلهي.
احتقن وجهه سابين وامتلأت عينيها بالدموع:
- حسنًا لا داعي للسخرية، لست معتادة على العمل في ظروف غريبة.
شعرت غسق بأنها وقحة:
- أعتذر لا أقصد إهانتكِ بالطبع، أنا فقط أعصابي متعبة هذه الأيام أرجوكِ اقبلِي اعتذاري.
مسحت دموعها وهي تومئ برأسها، ثم تابع كلٌ منهم عمله مع تبادل بعض الحديث.
جهزت غسق نفسها للرحيل بعد مدة فطلب إياد أن يرافقها لمنزلها بما أنه قريب حتى تنتهي سابين من غلق المكتب، وافقت؛ فقد عرفت بأنه يريد التحدث معها على انفراد.
خرج الاثنان من المصعد وبدءا في السير ليقول إياد بنبرة حاول أن تبدو عادية:
- كيف حالك غسق؟
شعرت بغرابة السؤال لكنها أجابت:
- بخير لماذا هذا السؤال الغريب؟
وقف؛ لتقف بدورها ونظر إليها مطولًا، لمحت لمعة حزن وأسف في عينيه لكنها أرجعت ذلك لخلافه مع فرح.
تنهد وقال وقد خانته نبرته هذه المرة:
- آسف غسق أنا السبب، ما كان عليَّ أن أوافق على طلبه، بل أنا من شجعتك لقبول عرضه، صدقينِي لم أكن أعرف بأنه بتلك الدناءة!
شهقت وتراجعت خطوه للوراء وقد شعرت بالخزي:
- يا إلهي أنت تعرف! كيف؟ من أخبرك؟
هزت رأسها بقوة وهي تتابع وقد امتلأت عينيها بالدموع:
- لا تقل لي بأنه يعرف أيضًا!
- اهدئي لقد عرفت عن طريق المحامي الذي أنهى إجراءات تنازل آدم عن المبلغ الذي دفع لدعم الشركة، شككت في الأمر عندها وبعد قليل من البحث عرفت أين يقبع آدم الآن وبأي تهمة.
سكت قليلًا ليتحكم بغضبه:
ـ كيف أخفيتِ عني شيء كهذا؟ كان يجب أن أقتله بيدي، لن أسمح له بالاقتراب منك بعد الآن! حتى لو سامحته أنت، ولا، ساجي لا يعرف لا تخافِي.
رغم كلماته إلا أنها جلست على حافة الطريق وهي تمسك قلبها في ألم.
قالت بعد أن استطاعت التحكم بدموعها:
- لا أريد أن أتكلم عن الموضوع من فضلك، الطلاق حدث بالفعل أما القانوني سيستغرق وقتًا كما تعرف، وهو الآن يقبع بالسجن، لا أريد شفقة من أحد.
ابتلع غصة ليقول:
- لطالما كنتِ قوية في تجاوز المحن، متأكد من قدرتك على تجاوز هذه أيضًا، لكن...
تابع وهو ينظر بعينها:
- هذا جيد، لكني أعتقد بأنه يؤثر عليكِ فلم تكونِي يومًا من الأشخاص الذين يجرحون غيرهم عمدًا أو يتسببون في إحراجهم.
عرفت إلى ماذا يلمح وهو محق فقد أصبحت فظة مؤخرًا في التعامل مع الجميع، لتزدري ريقها ثم تقول وهي تستقيم من جلستها:
- بدأت في العلاج النفسي، الأمر قد يستغرق مدة، أعرف بأن أعصابي لم تعد تتحمل مثل السابق، أعتذر لم أقصد إحراج أحد خصوصًا زوجتك.
تنهد ثم قال لها بنبرة تحمل نوعًا من الحنان الأخوي:
- غسق لن أدعِي بأن علاقتنا كانت دائمًا قوية أو أنك في مكانة فرح؛ لكنكِ مهمه لي لا أعرف كيف أشرح لكِ، لقد كبرتِ مع فرح وقضيتِ وقتًا طويلًا في منزلنا؛ أعتبرك من العائلة، الموضوع ليس سابين وما حدث في الأعلى، القصة إنك تخسرين نفسك، لطالما كان أكثر ما يميزك حلاوة طبعك وسماحة التعامل معك، هذا ما جعل الجميع يحترمك ويكن لك محبة خاصة حتى في العمل؛ لا تجعلي ما حدث يخسرك ذلك، من أجلك أولًا ومن أجل طفليك.
صمت قليلًا ثم تابع بابتسامة:
- ومن أجلنا أيضًا، أنتِ الوجه البشوش في تلك العائلة الباردة.
ابتسمت وهزت رأسها موافقة ثم تابعت السير لمنزلها وهي تفكر بأنه على حق.
****************
دخلت سما لحديقة منزل والدتها لتجد امرأة تستنجد بها وهي تبكي بحرقة، نظرت لها دون أن تذكر أين رأتها من قبل.
قالت المرأة بين دموعها:
- سيدتي أرجوكِ أتوسل إليكِ أين ابنتي؟ لقد كنت آخر من تحدث معها.
أبعدتها بعنف:
- من أنتِ ومن هي ابنتك تلك التي تحاولين أن تبلينِي بها، اذهبِي وابحثي عنها بعيدًا عني، لا بد بأنها قد هربت مع أحدهم.
عادت تقبل يديها وهي تبكي:
- ابنتي لم تتم العاشرة من ذلك الذي تهرب معه؟! اعتبريها ابنتك، فقط تذكري أين ذهبت بعد أن تحدثتِ معها.
صاحت بها:
- من تلك التي اعتبرها ابنتي هل جننتِ؟ أنا أنجب فتاة منحلة مثلها تذهب مع كل هب ودب! اذهبي من أمامي وإلا جعلت البواب يطردك هيا.
دفعتها لتقع أرضًا وهي تنتحب.
رفعت المرأة يديها للسماء:
- اطلب من الله أن يحرق قلب من أخذ ابنتي على أعز ما يملك كما حرق قلبي على ابنتي، اللهم عجل ولا تؤجل، يا رب احرق قلوبهم.
تراجعت سما في خوف وقد شحب وجهها بشدة، فهي من أخذت ابنتها، بل معظم أطفال الحي حتى كادت تنسي أشكالهم وعددهم، هل تتحقق دعوة المرأة وتحرم ممن تحب؟
قررت نفض تلك الأفكار السخيفة والدخول لمنزل والدتها، فهناك أمر أهم من دعوات تلك المرأة؛ تخطت الباب الرئيسي والردهة لتبحث عن والدتها وعندما لم تجدها صعدت لغرفتها في الأعلى، طرقت الباب ثم دخلت قبل أن تأذن لها، كانت سميحة تنظر إلى ألبوم صور قديمة يجمعها مع زوجها من دون أي تعبير على وجهها.
جلست سما وفكت حجابها بحركة عصبية، لتنظر لها سميحة ثم تغلق الألبوم واقتربت تتحسس وجهها في حنان.
- ماذا حدث صغيرتي؟ لماذا يبدو وجهك شاحب؟ هل الأطفال بخير؟
نظرت لها وقد اشتعل الغضب بداخلها وهي تتذكر تعنيف وسام لها فقالت بصوت عالي غاضب:
- هل صحيح أنكِ اعترفتِ بنسب غسق وقررتِ إعطائها إرث جدي؟
أغمضت عينيها وقد عرفت بأن وسام قد عرف لكنها عادت وفتحتهما وهي تقول بحنان ممزوج بصلابة:
- نعم فعلت؛ ما هي مشكلتك مع ذلك أم أن زوجك غضب لأن خطته لابتزازي قد فشلت؟
عقدت يديها ولم تتغير نبرتها:
- ليس ابتزاز بل هو يريد أن يضمن حق أطفالي، تعرفين أنه ليس لي معيل خصوصًا بأن اشقائي تخلو عني، كما أنهم يكرهون أطفالي، يجب أن نضمن مستقبلهم.
- توقفي عن أسلوبك ذلك، كلانا يعرف بأن كلامك غير صحيح، لو كنتِ طلبتِ مني المال لأطفالك لأعطيك عن طيب خاطر دون مناقشة، لكن وسام يريد المال لنفسه فقط، أما نغمة أن أشقائك تخلو عنك أعتقد بأنكِ تعرفين السبب جيدًا لا داعي لأن نخوض فيه من جديد.
هربت الدماء من وجهها وجحظت عينيها، لم تتوقع هذا الرد منها بل كانت متوقعه بأن تعود في قرارها بمجرد أن تخبرها أن المال يخص أطفالها.
مسحت وجهها وقررت أن تخفف من حدة نبرتها وتغير مجرى الحديث قليلًا:
- وماذا عن القضية التي رفعها طليق غسق؟ أعني لقد سمعت بأنه يتهمك بحادث خالي وعمته.
تحركت بكرسيها لتواجه النافذة:
- لا تخافِي لن يستطِيع إثبات شيء، كما أنه فتح التحقيق في قضية موتهم مع اتهامي بشكل غير مباشر، لن يجد أحد دليل ضدي، ليس بعد هذه السنوات كما أن مُنى أنكرت أنها تواصلت معي بأي طريقة، الزمن كان غير الزمن كيف سيجدون سجلات على مكالماتنا؟ ولن يجد حتى إثبات على دفعنا المال للرجل الذي نفذ، كل شيء كان نقدًا وقتها يتم في هدوء.
لمعت عينيها بخبث لم تستطع اخفاءه:
- فليقل ما يشاء هو فقط يحاول كسب نقطة عند غسق لتعود له، لكنه واهم بمجرد أن تطأ قدميها الوطن سوف آخذها في حضني لتنعم بدفء عائلتها الحقيقية؛ حتى شهادة سمر لن تنفعه بل سيقال بأنها ثكلى جُنت بعد وفاة ابنها أو ربما الغيرة هي ما تحركها لأني أخذت صفك بدلًا عنها، هذا إذا سمح لها يحيى بالشهادة من الأساس فقد سبق ومنعها من الشهادة في قضية سعد خوفًا على أعصابها، لن يسمح لها الآن بالطبع.
مطت شفتيها وهي تتابع:
- إنه يحبها جدًا أكاد أجزم بأنه يحبها أكثر من أولادها، لابد بأني دعوت لها من قلبي كي تحظى برجل مثله…
كانت سما تستمع لها بأعين متسعة مندهشة، حسنًا هناك من يضاهي وسام في التخطيط لا تصدق بأنها غفلت عن التشابه الشديد بين والدتها ووسام.
قالت سميحة لتقطع حبل أفكارها:
- أين أطفالك لماذا لم تحضريهم معكِ؟
- إنهم مع وسام أخذهم إلى السينما حسب كلامه، هذا الأيام وسام يدللهم كثيرًا ويجلب لهم الألعاب والملابس، لن تصدقي كيف أصبح متعلق بهم، كنت أشك أحيانًا في حبه لهم لكنِ كنت مخطئة على ما يبدو.
تابعت سما مديح زوجها والتهويل من ما يفعله مع أطفاله، لكن سميحة أحست بأن الأمر غير منطقي، كانت تتوقع أن يقلب الدنيا فوق رأس سما لا أن يدلل أطفالها!
لابد وأن هناك سر وراء هذا التغيير غير المنطقي! لن تصدق أبدًا أن وسام أصبح أب حنون فجأة، حسنًا لن تهدأ قبل أن تعرف ماذا يحدث بالضبط؟!
******
منذ أن ترك المنزل المؤجر وهو يقطن في شقة إياد بالعاصمة، يقضي معظم الليالي في مكتبه حتى أنه ينام هناك، فهو أكثر مكان أمضى به وقت مع غسق، قد يكون أكثر من منزل المزرعة؛ رغم مرور ما يقارب من سنه منذ فراقهما إلا أنه لم يشعر بها إلا بعد أن علم بزواجها، قبل ذلك كانت دائمًا بقربه لم تبتعد عنه أو هكذا تراءى له، فقد ضمن وجودها قربه منذ سنوات ولم يخف يومًا من بعدها أو حتى غضبها، لطالما وجد طريقة لمصالحتها دون أن يعتذر بطريقة مباشرة، ربما هي محقة فقد كان يعتبر وجودها أمرًا مفروغًا منه، من المسلمات لم يبدي لها أي تعب في كسب حبها ونيل رضاها.
مالا تعرفه بأنها لم تكن يومًا له كذلك بل العكس تمامًا لطالما سأل نفسه مرارًا ما إذا كان حب غسق له حقيقي أو فقط تعلق بسبب الظروف التي مرت بها؟
لو أن لها حق الاختيار هل كانت ستختاره؟ أم أنه كان الخيار الوحيد الذي قدم لها! ربما اغتصب حقها في ذلك عندما جعلها زوجته فعليًا، عندما قام آدم بخطبتها منه ود لو يقتله مكانه من شدة الغضب والغيرة، نعم غيرة فقد شعر بالغيرة عليها قبل أن يعترف بحبه لها بسنوات.
كم هو متناقض ألم تكن تلك الرحلة وحربه مع جده لإكمال دراستها فقط كي يبعدها عنه؟ ألم يرغب في تطليقها بعد أن تحصل على شهادتها وتجد عمل مناسب؟ لماذا إذن غير رأيه بمجرد معرفته بأن هناك من يرغب بها؟
ربما لو تركها بذلك الوقت لكانت حياتها أفضل!
انتفض من مكانه وهو يهز رأسه في عنف، لا لن تكون حياتها أفضل ولا حياته إنه يحبها لن يكذب على نفسه أكثر من ذلك، بل هو يعشقها منذ أن نامت تبكِ بين أحضانه ظلم جده لها؛ كل مرة يشعر بأنه قارب على الاعتراف بحبها لنفسه يقوم بإبعادها عنه بقوة، كل كلامه القاسي لها وربما إهانته المبطنة كانت بسبب ذلك.
يا إلهي لقد تجاوز معها كلمة خطأ ما فعله بها لا يغتفر! كيف سيكفر عن كل ذلك؟ والسؤال الاهم هل يستطيع؟
هل لديه فرصة لذلك، أخبرته تالين بطلاقها وهو ما أسعده لكن كيف يستعيدها؟
قرر بأن يبدأ بما لدية الآن، دخل إلى الحمام ليغسل وجهه ويعدل من هيئته، ثم توجه للمكتب وفتح حاسبه الشخصي ليتصل بالمربية فهذا وقت استيقاظ طفليه، لم تتأخر المربية في الرد وقد عدلت الكاميرا لتواجه الطفلين اللذان أصبحا يجلسان بمفردها بطريقة لطيفة جدًا، كم يود أن يجلس معها ويلاعبهما، صحيح بأنه منع غسق من الحمل طويلًا لكنه كان يُمني نفسه بإيجاد طريقة لإثبات نسبها أولًا ؛ ليته أخبرها وقتها، ولأنه منع غسق فعل الشيء نفسه مع روبين فقد طلب منها تناول حبوب منع الحمل منذ ليلة الزفاف لأنه لا يريد أطفال، رغم سعادته المزيفة بزواجه منها إلا أنه لم يريد الانجاب منها قبل غسق، يا له من مغفل عندما اعتقد بأن غسق سترضى بضره.
اقترب تيم من الشاشة يلمسها وكأنه يلمس وجه والده ليبتسم له ساجي في حنان وقد شعر بأن قلبه تضخم من شدة المشاعر التي تعتريه، لم يشعر في حياته بهذه الأحاسيس الرائعة، كان يبتسم ببلاهة وهو يلاعبه بأن يضع يديه على وجهه ثم يبعدهما فيضحك الصغير بشدة ويتبعه شقيقه بنفس الضحكة الملائكية.
مر الوقت دون أن يشعر به لتخبره المربية بأنه وقت أخذ قيلولة للصغار لكنه طلب بأن يحادث غسق في أمر هام قبل أن تغلق.
مرت الدقائق وهو ينتظر ردها مثل سنوات لتأتي أخيرًا وتروي عينيه العطشى بالنظر لها، لم يتحدث لبرهة بل ذابت عيناه عشقًا وهو ينهل من ملامحها، كم هي فاتنة مع شعرها القصير الذي بالكاد يلامس رقبتها وقد احتضن وجهها الطفولي، وجنتيها المرتفعتان اللتان تزينهما غمازة لا تظهر إلا عندما تبتسم، ذلك المبسم الذي ذاق حلاوته آلاف المرات دون أن يرتوي من شهده، حتى أنفها الذي يحمر عندما تخجل، أما عينيها فهما حكاية تسحر الناظر لها دون أن تحاول حتى، ورموشها التي تعطيهما كحلاً طبيعيًا.
مهلًا هناك شيء ناقص، نظرة عينيها جامدة؛ لا يظهر بهما شيء من الحب أو حتى الاشتياق! ألم تنفصل عن ذلك الذي حاول خطفها منه؟ لماذا ماتزال بنفس النظرة.
- نعم ماذا تريد؟
أفاقه صوتها الجامد من الغوص في أفكاره؛ ليجلي حلقه ويخلل شعره بيده ثم نظر لها مركزًا في عينيها لعلها ترى الحب في خاصته.
قال بخفوت:
- أهلًا غسق كيف حالك؟
لم تجبه فقد أعطته نظرة الملل، ليسرع في الحديث معها قبل أن تغلق الاتصال.
- لقد استخرجت لكِ شهادة ميلاد من هنا بعد أن رفعت قضية إثبات نسب؛ في الحقيقة لقد حاولت منذ مدة رفعها لكن...
- أعرف.
بنفس الجمود دون أي تأثير حتى ملامحها لم تتغير.
تابعت بملل واضح:
- أخبرني سامي ابن عمتي بالمستجدات.
أخذت نفسًا وتابعت:
- رغم أن الموضوع لا يهمني من الأساس فأنا لم أطلب منك أو من غيرك اثبات نسبي، أما الجنسية فكان يمكن استخراجها باعتباري زوجتك؛ لكنك لم ترد تلطيخ اسمك وربطه بي بالمحكمة، لذلك اخترت الطريق الأصعب.
شعر بأنها لكمته في معدته بشدة، اتسعت عينيه في دهشة وقال مدافعًا عن نفسه:
- غير صحيح، أنا لم أفكر في الموضوع من هذا الطريق أبدًا.
حرك يديه على وجهه بعصبيه وقال وقد تخلل الغضب نبرته:
- الموضع ليس شهادة ميلاد أو جنسية أبدًا، أصلا الجنسية التي تحمليها يحلم الكثيرين بنيلها، القصة رد اعتبار ورد كرامة، لم أكن أطيق كلام الجميع أنكِ ابنة ح...
قطع كلامه حتى لا يؤلمها لكنها فهمت ما يعني وقد شعرت بألم يحتلها.
كور قبضة وتابع وقد زاد الغضب في نبرته:
- افهميني غسق، الأمر أكبر من ذلك، كان عليَّ أن أجعل عائلة والدك من تعترف بكِ، ليس من أجل الإرث بل من أجلك أنتِ هذا مهم لك ولولدينا، صدقيني هذا السبب في عدم رغبتي في الإنجاب حتى..
قاطعته بصرامه:
- حتى توافق روبين على الزواج منك، أليس هذا سبب شرائك لمنزلك في العاصمة؟ من أجل زوجتك وأولادك.
رسم ابتسامة سمجة وهي تلقي عليه كلماتها ليشعر بها سكين يقطع أوصاله، نعم هو قال، هو من آلمها أولًا، عليه أن يتحمل.
ريح جبهته على كف يديه وقال في همس:
- المسألة… الأمر هو...
- ساجي لا يهمني ما مضى، ما بيننا هو العمل فقط وإذا أردت التحدث عنه تفضل، وبغيره لا.
أزاح يديه ونظر لها في صدمة لتتابع بنفس البرود:
- حتى الأولاد ليسا بيننا أنا من أجبرتك عليهما كما قلت سابقًا، كوني سمحت لك بالتواجد في حياتهما فهذا من أجلهم هما، لأن جميع الأطباء والاخصائي أجمعوا على أهمية وجود الأب في حياة أولاده، وهو للأسف المتمثل بك؛ لكن لا تتصور أو يخيل لك أني قد أرضخ وأتنازل من أجل ذلك، والآن من فضلك لدي أمور تشغلنِي لذلك يجب أن أذهب.
سارع قائلًا قبل أن تنهي:
- غسق أنا أحبك.
تجمدت لثواني ثم عادت لطبيعتها تنظر إليه بلا مبالة؛ بينما لم ينظر لها هو بل شعر بأنه مراهق يعترف لحبيبته أول مره بحبها.
تابع بسرعة كي لا يفقد الشجاعة وربما احترامه لنفسه بعدها:
- اعرف بأنه اعتراف متأخر لكنِي متأكد من مشاعري، كما أني أعرف بأنكِ تبادليني نفس الشعور.
عقدت يديها ورفعت حاجبها ببطء:
- من أين تعرف؟ ما هذه الثقة التي جعلتك تقول ذلك؟ هل نسيت بأني لازلت متزوجة قانونيًا من غيرك؟
شعر بأنه يتجرع السم وهو يسمعها تتفاخر بالزواج من غيره، فهو يحاول إسقاط ذلك من ذاكرته حتى لا يفتك بها، لا يريد التفكير بأن غيره امتلكها، سميت على اسمه وأصبحت له!
لو أن هناك دواء يمحي الذاكرة لأخذه وأجبرها على ابتلاعه، كي ينسيا تلك الفترة، ها هي تذكر بذلك بكل قسوة لتزيد الألم في قلبه.
أغمض عينيه بقوة ثم قال وهو يتذكر أيامهما معًا كما يفعل كلما جاءت سيرة زواجها من غيره وقد ارتسمت ابتسامة واثقة على شفتيه لا يعرف من أين استمدها:
- لا تكذبِي على نفسك، تعرفين أنك لم ولن تحبِي غيري، أنا من علمتك أصول العشق والغرام والغزل، وكنتِ تلميذتي منذ نعومة أظافرك؛ فلا تحاولي خدشِي بها الآن، إذا كنتِ تلميذة نجيبة فأنا الأستاذ.
أطلقت ضحكة عالية جعلته يتوه في جمالها، مسحت دموع وهميه ثم قالت وهي تنظر لعينيه مباشرة:
- أي غزل وعشق ذلك الذي تتغنى به، هل تعتبر نفورك الدائم غزل؟ أم ربما الاهانات، لا عرفت لا بد بأنها خيانتك والتبجح بحب غيري أمامي.
قست نبرتها لتقول:
- اعتبرتني عالة أو ربما تسلية تدفئ فراشك عندما ترغب في ذلك، لم تحترم حتى كونِي زوجتك أو ابنة عمتك بل أنكرت زواجك مني أمام الشركة إرضاءً لخطيبتك.
كان صدرها يعلو ويهبط في غضب واضح كما تحشرج صوتها وقاربت على البكاء، لكنها استطاعت أن تحبس دموعها، لا لن تجعله يراها ضعيفة.
أما هو فقد شعر بأنه يتلقى صفعات، لا، بل سهام مغموسة بسم زعاف تخترق جسده وروحة لتحدث به أعظم الضرر والأكثر إيلامًا.
تابعت وقد قصدت بأن تكون تلك هي الضربة القاتلة:
- إذا كنت تعني النوع الآخر من الغرام فأنت… بسطت يدها وأرجحتها في الهواء للأعلى والأسفل ومالت بشفتيها للجانب دون أن تنطق.
ثم قالت:
- لكن لابد وأن روبين أعطتك دروسًا لتتحسن فهي ذات خبرة.
لم تعطه الفرصة للرد فقد أنهت الاتصال على شكل وجهه الأقرب للموتى منه للأحياء!
********
بقيت تنوح وتدور في صالة المزرعة حيث قتل سعد وملاك وتقول كلام غير مفهوم وسميحة تحاول أن تهدئها تارة ثم تذهب للنافذة لتبحث عن وسام تارة أخرى.
عندما لم تجد حل صرخت بها:
- اهدئي وأخبريني ماذا حدث وماذا نفعل هنا وحدنا؟
استمرت سما في لطم خديها وهي تقول بحرقة:
- لقد أخذ أولادي، باعهم مثل الباقي! أخذهم مني يا أمي، تحققت دعوة المرأة لا يا إلهي أرجوك.
شحب وجه سميحة لتقول بخوف:
- من أخذهم؟ وماذا تعنين بأنه باعهم؟ عن أي امرأة تتحدثين؟
- تعني بأني بعتهم، ماذا لم تسمعي من قبل عن بيع الأطفال؟
التفت كُلًا من سميحة وسما لصوت وسام الذي لم يظهر عليه أي تأثر بمنظر سما، التي أسرعت لتقبل قدميه وهي تنوح:
- أرجوك أعد أطفالي لي، خذ ما تريده لكن أطفالي لا، أرجوك وسام من أجلي، إنهم أبناؤك كيف تفعل بهم ذلك؟
لم تستوعب سميحة ما يحدث لتقول في اندهاش:
- ماذا تعني؟ أنت بعت أبنائك فعلًا! هل جننت؟
- نعم فعلت وابنتك المصون كان تجلب لي الأطفال كي أبيعهم وأتاجر بأعضائهم.
صرخت سميحة وهي تغطي وجهها وقد استرجعت شريط الشهور الماضية، من ضياع الأطفال واختفائهم:
- كاذب، سما لن تفعل ذلك أي أم يطاوعها قلبها لفعل ذلك؟
قهقه ثم مال يجذب سما من شعرها:
- الأم التي تقتل طفل معاق بسبب الغيرة، الأم التي تفضل متعها على بكاء رضيعها جوعًا؛ هل تعرفين بأن سما كانت تترك الصغير وهو بعمر شهور يبكي جائعًا؛ كي تلبي رغبتي بها دون أن يرف لها جفن.
شهقت سميحة من وقاحته، رفع سما له وهو يقول بهدوء:
- هيا صغيرتي لا تمثلي دور الأم الآن، ليس عليَّ أنا من أعرفك جيدًا.
انحت تقبل يده وهي تترجاه:
- خذني أنا قم ببيعي لكن هم لا، تعرف ماذا يفعلون بالأطفال الذين يأخذونهم هناك.
- طبعًا أعرف فهذا عملي منذ سنوات، ثم كيف تطلبين مني أن أرحم أطفالك وأنتِ لم ترحمِي أطفال غيرك، حتى أطفال شقيقيكِ، هيا سما هذا الدور لا يليق بكِ.
رماها وابتعد قاصدًا الباب، فتحه فدخل منه أربعة من معاونيه يحملون براميل قاموا بصب ما داخلها حول سما وسميحة؛ لكن سما لم تركز في ما يفعلونه بل أخذت هاتفها ورفعته عاليًا وهي تصرخ:
- سوف أبلغ الشرطة بكل أعمالك القذرة، هل تعتقد بأني لا أعرف وأني جاهلة! سوف تتعفن في السجن قبل أن تلمس شعرة من أولادي.
صفق بيديه وهو يتابع عمل رجاله:
- شكرًا صغيرتي كنت سأشعر بتأنيب الضمير، لكن ما فعلته مسح أي ذرة لذلك.
نظره لرجاله وقال في صرامة:
- نفذوا.
قاموا بإنزال سميحة من كرسيها وهي تصرخ دون أن تقدر على مقاومتهم كما كبلوا سما بحبل خاص يذوب بالنار دون أن يظهر له أثر وأدخلوا جثث لثلاثة أطفال معدومي الملامح ثم سكبوا باقي البراميل وقام وسام برمي عود ثقاب ليشتعل المكان وتتعالى صرخات سما وسميحة، خرج دون أن يتأثر وركب سيارته مع المعاونين بعد أن فاحت رائحة شواء اللحم وتلاشت الأصوات.
أنتهى الفصل


ريما نون غير متواجد حالياً  
التوقيع
ريما معتوق رواياتي
غسق الماضي
س وس
سيل جارف
رد مع اقتباس