عرض مشاركة واحدة
قديم 24-08-22, 10:30 PM   #20

ريحانة اليمن

? العضوٌ??? » 491868
?  التسِجيلٌ » Aug 2021
? مشَارَ?اتْي » 53
?  نُقآطِيْ » ريحانة اليمن has a reputation beyond reputeريحانة اليمن has a reputation beyond reputeريحانة اليمن has a reputation beyond reputeريحانة اليمن has a reputation beyond reputeريحانة اليمن has a reputation beyond reputeريحانة اليمن has a reputation beyond reputeريحانة اليمن has a reputation beyond reputeريحانة اليمن has a reputation beyond reputeريحانة اليمن has a reputation beyond reputeريحانة اليمن has a reputation beyond reputeريحانة اليمن has a reputation beyond repute
افتراضي

الجزء الرابع

بداية لم نستوعب اطلاقا ما يجري!
حاولنا فك وثاقنا.. نجح البعض بفكه بصعوبة فقاموا بفك وثاق الاخرين..
ما زلت اذكر شعاع الشمس الذي باغتني.. اغمضت عيناي بقوة ووضعت يداي فوق راسي احتمي من ضوء الشمس ، ظللت مغمضا عيناي لفترة حتى بدأت رويدا رويدا اعتاد الوضع الجديد
فتحتهما بصعوبة .. كانت عيناي تؤلمانني بشدة كما راسي فانا اعتدت الظلام لسبع سنين لدرجة اني نسيت الضوء وكيف يبدو
احتجت وقتا طويلا حتى تمكنت من الرؤية بوضوح .. كان الامر كاني ولدت للتو..
شمس وضياء ونور ورمال تحيطني من كل الجوانب.. لم اصدق نفسي .. سجدت طويلا وشكرت الله كثيرا ..كثيرا جدا ..ثم امسكت حفنة من الرمال بيداي.. كانت يداي ترتجفان بقوة والرمال الساخنة من لهيب الشمس تتسرب من بينهما.. رفعت الرمال الى وجهي ونثرتها عليه .. استنشقت رائحتها .. رائحة الارض.. الحرية .. لا اكاد اصدق نفسي .. بكيت، بكيت كطفل صغير .. كانت مشاعري غريبة وغير مفهومة .. خليط من الغبن والظلم وعدم التصديق.. احقا حر.. اخيرا.. ايعقل؟ سبحانك يا رباه ما اعظمك.. ضاقت فلما استحكمت حلقاتها فرجت!
كان وضع السجناء الاخرين لا يختلف عن وضعي.. حتى ان بعضهم جلس يتمرمغ في الرمال.. كما تعالت اصوات الصراخ الجنونية من بعضهم .. لا اظن اننا كنا فرحين بقدر ما كنا مصدومين وغير مدركين لما يجري !
بعد وقت طويل استفقنا من الصدمة وبدأنا رويدا رويدا ندرك اننا في الصحراء.. صحراء قاحلة مقفرة لا نعرف طريقها ولا كيف الخروج منها
في الايام الاولى كان حماس الحرية يجعلنا نذب السير، على غير هدى في الواقع، لكن كنا نسير متحمسين ولا مبالين فكل شيء يهون امام ما كابدناه في سنوات السجن ، كانت الليالي باردة جدا بل قارصة البرودة اما في النهار وخاصة الظهيرة فقد كنا نشوى من الحرارة ..لم يكن معنا زاد ولا ماء كنا كمن يموت ويعذب بالبطيء
بعضنا بدأ بالقول انهم ما تركونا هنا الا لنموت.. ميتة بطيئة بشعة.. بدأت هذه الفكرة بالتسلل الينا يوما بعد يوم حتى سيطرت علينا كليا وبدأ الياس يتسرب الينا
كنا قد نجحنا في اقتناص بعض الماء من بعض النباتات التي وجدناها، اما بمحاولة عصر النبتة لاستخراج عصارتها او بالحفر اسفل منها لبضع الأمتار، لكنه كان شحيحا هو الاخر والماء الذي كنا نجده كان بالكاد يكفي لترطيب حلوقنا ليس الا.. بعد ثلاثة ايام بدأ بعض الرفقاء بالانهيار .. توفي البعض .. دفناهم وصلينا عليهم .. صلاة حاضرة هذه المرة! وليست صلاة الغائب كما كنا في ايام السجن…
استبد الياس بنا وفقدنا الامل وبات كل منا ينتظر يومه كما اكلنا الجوع ونهش عظامنا .. ثم ومع بلوغنا اليوم السابع وكان اكثر من نصفنا بقليل قد قضوا ..وجدنا الطريق! كانت طريقا ترابية يبدو انها هيأت لمرور السيارات ومن جانبي الطريق تناثرت بعض اشجار الصبار.. ولحسن حظنا كانت بعضها مثمرة.. كانما بعثنا من جديد.. هكذا شعرنا… تقاسمنا الثمار فيما بيننا ولم نبالي بالاشواك التي وخزتنا .. جلسنا على جانبي الطريق نترقب مرور اي احد .. كنا 15 شخصا نراقب باعين كانها الصقور .. كان لتناول الطعام الاثر الكبير في تحسن نفسيتنا.. اصبحنا نتندر ونتبادل الاحاديث وقد كنا في الايام الماضية ممتنعين كليا عن الكلام..
ثم في اليوم التالي جاء الفرج والحمد لله.. كان مزارعا يسوق شاحنة لنقل الخراف.. اقتطعنا طريقه .. 15 شخصا يسدون الطريق ويصرخون رافعين ايديهم.. لقد اكل رعبة مرتبة! ولكنه رغم هذا وافق على اخذنا معه الى العاصمة.. لا يمكنني اخباركم بسعادتنا وقد اصطففنا جنبا الى جنب برفقة خواريفه .. تزكم انوفنا رائحتها فنراها أطيب رائحة وقد يتغوط بعضها فلا يضيرنا الموضوع او يضايقنا البتة.. بل حتى ان خالد -أحد الرفاق- قام باحتضان احدها وتقبيلها قائلا
ما احلاك وما ألذك مشوية فوق الفحم .

…..

قام المزارع بانزالنا في العاصمة .. قمنا بتوديعه بشكل حار اكثر من اللازم امتنانا لانقاذه حياتنا.. بعضنا قام باحتضانه والاخر بتقبيل راسه بل وقام البعض بتقبيل يديه وخالد مثلا قام بالتسليم عليه بحرارة فائقة ثلاث مرات!
وبعدها قمنا بالتفرق نحن ايضا كل الى وجهته بعد ان ودعنا بعضنا .. وقد قمت انا وأمجد رفيقي الاخير في الزنزانة بتبادل العناوين لعلنا نزور بعضنا يوما ما …
….
سرت في العاصمة على غير هدى لا وجهة لدي.. كنت متفاجئا بحجم التغييرات.. كانت الارصفة غير الارصفة والشوارع غير الشوارع بل وحتى الناس بدو لي مختلفين .. كنت احاول ان افكر في طريقة لاصل الى قريتي وأنا الذي لا املك فلسا واحدا.. وللوصول للقرية على اخذ القطار ثم الحافلة … فكرت في قيامي بالاستجداء لكن كرامتي وعزة نفسي ابتا علي ذلك.. فكرت بالعمل لكن أي عمل يمكنني ان اجد ومن يقبل بتوظيفي عنده.. ربما اعمل في العتالة .. بدت لي فكرة ممكنة.. لكن بالنظر إلى جسمي وهزالته فانني انا نفسي احتاج الى من يحملني!
لم يطل التفكير بي طويلا.. فقد وجدت أبا عمار .. صاحب البقالة في قريتي يقوم بتحميل بضاعة له في شاحنته .. هرولت اليه مسرعا غير مصدق
-ابو عمار .. كيف حالك يا جار
نظر إلي باستغراب شديد
-عذرا يا سيد فأنا لم أعرفك
-انه انا عبيد الله .. ابو حمزة ابن الإمام محمود
تفرس في ملامحي بشدة كانه غير مصدق لما يرى مما اثار ريبتي انا الاخر لاقول:
-ما بك يا ابا عمار ألم تعرفني
-سبحان الله،سبحان الله ..يحيي العظام وهي رميم
ثم قام باحتضاني بقوة


واخيرا ها أنا في شاحنة أبي عمار.. أجلس في المقعد المجاور للسائق راسي مستلقية على المقعد المريح وفكري مسافر بعيدا... حيث احبتي ..شوقي للقياهم لا يوصف.. شوق عاصف.. اشتاق لامي.. لرائحة طعامها يوم الجمعة … لابي والصلاة خلفه.. عائشة حبيبة القلب وروح الروح.. وحمزة مؤكد كبر كثيرا واصبح رجلا يعتمد عليه ،و طفلتي التي لم ارها.. انني حتى لست متاكدا ان كانت بنتا الى الآن.. يا ترى ماذا فعلت بهم الدنيا.. أغدرت بهم كما غدرت بي؟
كيف يا ترى سيكون اللقاء؟ كيف وقد اخبرني ابو عمار أن خبر وفاتي وصلهم منذ سبع سنوات.. تقريبا بعد ثلاثة شهور من ذهابي الى سجني المعزول .. كيف سيكون شعورهم بلقاء ميتهم حيا يرزق؟ أخشى عليهم من الصدمة .. طمأنني ابو عمار انهم بخير وهذا كان اهم شيء عندي كما حدثني عن حمزة
يشبهك تماما.. تبارك الله احسن الخالقين .. ادب واخلاق وجمال..
كنت اترقب بشوق مضي الوقت للوصول إليهم .. لا تفصلني عنهم سوى ساعات معدودة لكنني لا أطيق صبرا.. فقد شعرت ان هذه الساعات تمر علي بطيئة أكثر من سنوات سجني
كانت ذكراهم تعطيني دافعا قويا على الصبر في السجن وتحمل الأذى.. كنت اذكرهم كل يوم… أراجع ذكرياتي معهم.. لكي لا انسى ولا اقنط .. كانوا خير دافع بل واقوى مسكن مكنني من تحمل الاذى والصبر على المصاب
اتذكر امي، رائحتها، حنانها وابتسامتها ووجهها الابيض.. اذكر دعواتها وتبخيرها لي كل يوم جمعة قبل الصلاة
ابي .. حزمه وحنانه في الوقت ذاته.. علمه الغزير الذي استقيت منه الكثير
عائشة.. تخيلتها مرارا .. تخيلتها عروسي مرات ومرات.. اتذكر ضحكتها ابتسامتها كلامها الذي ينزل على قلبي كالبلسم .. حتى قبلاتي لها اذكرها..واتوق الى احتضانها واعادتها اخيرا الى صدري .. الى حيث تنتمي.. والى الأضلاع التي تصرخ مشتاقة اليها كل ليلة.. فقدتها في سنوات سجني جدا .. فقدت لمساتها الحانية وشعرت بالجليد يسكنني ..
وحمزة طفلي الحبيب .. كنت اتخيل شكله كيف يبدو وكيف بدلته السنين أراه في مخيلتي الطفل ذا الثلاثة اعوام .. أراني احضنه واحضر له الحلوى وكل ما يتمنى
وطفلتي الحبيبة اتخيلها عائشة الصغيرة .. ارى نفسي في سجني اداعبها واناجيها فيمتلئ قلبي حبا لها

لا اكاد اصدق انني اخيرا سألقاهم اخيرا ستكتحل عيوني بالنظر اليهم بعد ان بدأوا بالتسرب من ذاكرتي رغم كوني كنت اذكر نفسي بملامحهم كل ليلة في سجني خوفا من فقدانهم
ساقبل يد امي.. كثيرا كثيرا استنشق رائحتها اقبل راسها وابكي على صدرها كما كنت صغيرا
ساحضن والدي واقبل يده وراسه بل وقدميه
حمزة وانا الذي اتخيله طفلا في الثالثة.. كيف يبدو ماذا سيفعل حينما يدرك ان بابا عاد
وطفلتي الاثيرة ما اسمها ما شكلها
اما عائشة حبيبتي الأولى والأخيرة .. من أكاد أموت شوقا لاحتضانها .. لن ادعها تنام من اليوم فصاعدا إلا بين ذراعاي لعلي اعوض حرمان الايام التي مضت
لن اخبرها بما ذقته في سنوات سجني.. لن اخبر احدا.. لا داعي لنكأ الجراح ولا لإدماء القلوب.. سأترك لعائشة مهمة تطبيبي لوحدها وهي ستعرف .. كانت دائما تعرف.. ستقدر على مداواتي وازالة عناء السجن بلمساتها ومسحها على راسي لن احتاج للكلام عيناي ستخبرانها وعيناها ستقرئان وتعرفان كما دائما ..

اه ليت الوقت يمر سريعا فما عاد لي قدرة أكثر على الفراق!


…..

وصلنا القرية اخيرا واقلني ابو عمار الى بيتي، شكرته جدا وودعته
وقفت عند البيت وقلبي يطرق طرقا .. لا اقوى على السير أكثر .
وفجأة خرج من بيت اهلي غلام ، كان يشبهني جدا كانه انا في صغري، علمت أنه حمزة ، طفرت بعض الدموع من عيني فحاولت كبحها، كبر كثيرا .. لم يعد ذلك الطفل في الثالثة ، اقتربت منه قائلا بصوت أجش
-حمزة
التفت الي ناظرا باستغراب
-نعم يا عم
-انه انا والدك يا حمزة
تفرس في ملامحي ليقول بعد وقت
-والدي ميت و الأموات لا يعودون
-لم امت كنت فقط في السجن
-لكنك لا تشبه الذي في الصورة
هههههه لا اشبه الذي في الصورة؟ إنني لا أشبه نفسي، فسنين السجن شكلتني شخصا اخرا غريبا حتى عني انا، لأرد على حمزة
-انا هو والدك يا حمزة، فقط لحيتي نمت كثيرا هي وشعري ونحُل جسمي لكنني هو ألا تذكرني؟
كان ينظر الي بريبة ليدخل البيت مناديا جدته
-جدتي هنالك رجل غريب على الباب يقول انه والدي
آلمتني كلمة رجل غريب! أحقا هكذا صرت وهكذا أصبحت
أتت جدته مسرعة وهي تمسك بملعقة خشبية وتشد أزارها حول وسطها، يبدو أنها كانت تعد الطعام ، نظرت الي, أمعنت النظر, بدأت ترتجف بشدة لتشهق بقوة كمن لا يقدر على التنفس, سارعت خطواتي اليها لآخذها داخلي محتضنا إياها قائلا
- لقد عدت يا امي, عبيد الله عاد من الموت يا اماه عاد بعد ان تشبع قلبه كمدا وحزنا, عاد ليكحل عيناه بمرآك, عاد..عاد يا امي قلتها وانا ابكي دافنا اياها داخلي بقوة.. اعود إلى الحضن الذي فقدته وضعت عنه لتتشبث بي حينها بقوة هي الأخرى وتصرخ من الصدمة واللوعة والحنين
- ولدييي, ولدي عااد , عااد من الموت, هذا والدك يا حمزة والدك الميت قد عاد, عدت يا قلب امك عدت لتضيء عيني بعد ان انطفأت, قالوا لي انك مت, شيعنا جنازتك وعوضا عن دفنك دفنت قلبي, سألتهم مرارا أين هو أريد أن اراه.. إن كان ميتا فلم لا تأتوني به أدفنه, ان دفنتموه فلم لا تدلوني على قبره ازوره, قالوا لي مات دون قبر, بلا عنوان ولا دليل حالوا اقناعي بهذا وقلبي لم يقتنع, قلبي يا حبيبي لم يقتنع, قلت لهم هو حي داخلي حتى أرى جثته وعوضا عنها رأيتك امامي حيا ترزق.. يا رباه ان كان حلما فلا تجعلني افيق منه
- ليس حلما يا اماه, عاد ابنك أخيرا عاد بعد ان كان للموت أقرب, مت في سجني يا اماه مت شوقا إليكم, مت, واليوم قد عدت للحياة
- واليوم قد عادت لي الحياة برؤياك يا نور عيني, اليوم عيدي يا حبيبي لتتركني حينها وتقوم بالزغردة بأعلى صوتها ثم وفي نهايتها عادت تنتحب

احتضنتها بقوة حينها ننتحب كلانا، بكيت كطفل صغير ضاعت عنه أمه، بكيت سنوات سجني الطويلة، بكيت شوقي لامي .. ولم يقطع هذا العناق الا صوت أبي من خلفي
-عبيد الله
التفت لأراه فاذا به شيخا كبيرا هزيلا يتكئ على عكازه .. كأن الحياة زادته عشرين عاما فوق عمره..كان يمشي بصعوبة ودموعه تسبقه
ركضت اليه محتضنا إياه بقوة باكيا، لا ادري أأبكي شوقا اليه ام شفقة على حاله وما آل إليه؟ تركته كالجبل بكامل عافيته، فاذ بي أعود لأراه كهلا أثقلته السنين؟ اهي سنين غربتي يا ابي شيبتك قبل الاوان؟ ااه لحسرتي على نفسي وعليك، ولا حول ولا قوة الا بالله.

بعدها التفت إلى حمزة مجددا فاتحا له ذراعاي، كان مترددا جدا لكن امي شجعته بالذهاب ، اقترب مني بخطوات بطيئة مترددة لاقوم انا بانتشاله واحتضانه بقوة داخل صدري مستنشقا رائحته، رائحة الطفل ذي الثلاثة أعوام التي فقدتها وضاعت مني في سنوات السجن ، مااذا حدث لك بعدي يا حمزة؟ كيف كبرت دون أب تعتز وتحتمي به؟ هل ضربك الأولاد في الحي فما وجدت لك ظهرا يدافع عنك؟ لربما قاموا بايذائك ؟ وصفوك باليتم، يتمت وابوك حي يا حمزة، يتمت ويتموني معك انا كذلك!
كانت هذه الأفكار تعصف في رأسي لاحتضنه اقوى فاقوى ، لتقوم امي بالتربيت على كتفي بحنان وهي تبكي
-يكفي يا عبيد فقد اخفته
كان يبكي بقوة متشبثا بي هو الاخر، قمت بفكه بصعوبة ماسحا دموعي لاهتف لامي بشوق كبير
-وعائشة أين هي؟
عم صمت غريب لم أفهمه! لترد امي بعد حين
-لقد عادت الى بلدتها
نظرت لها باستغراب لتضيف
-ما يبقيها هنا وقد جاءنا نبأ موتك، لقد عادت الى اهلها فمكانها بينهم بالطبع
-ااه نعم نعم بالطبع فبقاؤها هنا لا يصح ، على أية حال لعلي اقوم غدا بزيارتها واعادتها معي
ولم انتبه حينها لنظرات امي المشفقة بل تابعت السؤال
-وطفلتنا معها صحيح؟ ما اسمتها؟
لتنظر امي لي باستغراب قائلة
-طفلة؟
-نعم امي، لقد اخبرتني انها حامل في طفلة ام انه كان صبيا؟
صمتت أمي قليلا وتغضنت ملامحها لتجيب بعد مدة
-عوضك في الجنة باذن الله يا حبيبي، فقد فقدت عائشة حملها بعد ان وصلنا خبر وفاتك
شعرت بالحزن يعتصرني، إذن فطفلتي التي تخيلتها لسبع سنوات كاملة كانت سرابا؟ البريئة التي عشت اتخيل شكلها لم يكن لها وجود؟ رحماااااك يا رب، ولكن لله في أمره شؤون ولا راد لقضائه باذن الله، ولن ادع اي شيء يعكر صفو عودتي وباذن الله يرزقنا الله أنا وعائشة بنين وبنات، إخوة لحمزة فأمامنا العمر كله.. قالت امي بعد ان طال صمتي وشرودي
-بني أأنت بخير؟
لأقوم برسم ابتسامة على شفتي وامسك بذراعها مقتادا إياها لداخل البيت
لا عليك يا امي فانا رجل مؤمن وهذا مصابي في الدنيا والحمد لله .. اللهم لا اعتراض ، باذن الله تكون شفيعة لي ولوالدتها، اممم رائحة ذكية جدا يا ترى ما الذي تقومين بإعداده؟
لتجيب امي بلهفة واضحة
-حمام محشي وفريكة, واذا كنت تشتهي اي شيء اخر أعده لك في الحال
-كل ما تعدينه لذيذ يا حبيبتي، لكني لا اظن ان معدتي ستكون قادرة على تقبل
هذا الطعام الان ، هلا أعددتي لي شيئا من المرق مع خبزك اللذيذ.
-من عيوني يا حبيبي ، ما إن تنهي استحمامك حتى يكون طعامك جاهزا
دخلت للحمام فتحت الماء فنزل الماء ساخنا، تحسسته بيدي، انتابتني مشاعر متداخلة، ماء ساخن نظيف ايعقل؟ وأنا الذي ألفت ماء السجن البارد العفن والذي كنا نستحم به مرة من كل شهر في غرفة قذرة تشاركنا فيها الحشرات والصراصير فلا ندري أكنا أكثر قذارة قبل الحمام ام بعده!
سبحان الله ، سنين السجن العجاف جعلتني أنظر إلى ابسط الاشياء على كونها نعمة عظيمة!
بعد حمامي الطويل، ارتديت الملابس التي احضرتها امي ، ملابس نظيفة مكوية! لا تشبه أسمال السجن البالية
خرجت من الحمام لاجد امي قد اعدت لي حساء العدس مع خبز طازج
جلست إلى طاولة الطعام وشرعت بالاكل مسميا بالله، كنت أغط الخبز بالحساء ليسهل علي ابتلاعه تماما كايام السجن، وشتان بين هذا وهذا، شتان بين خبز السجن اليابس الذي ابله بالماء فيقف في حلقي رغم ذلك وبين هذا الخبز الشهي الساخن الطري، والذي يصبح بطراوة الزبدة حينما ابله بالعدس .. تذكرت حينها رفيقا لنا مات في الصحراء كانت امنيته ان يأكل خبزا طريا، فكان الموت له اقرب! لم أشعر إلا بيد امي تربت على ظهري ودموعها تسبقها
-ما يبكيك يا قلب امك؟
لأنتبه لكوني اذرف الدموع انا الاخر ، قمت بمسحها لاجيب مبتسما
-لا عليك يا امي انني فقط غير مصدق اني رايتكم أخيرا
- احمد الله يا قلب امك فوالله لو جلسنا العمر كله شاكرين ما أوفينا كرمه معنا
-الحمد لله, الحمد لله حمدا ملؤه السموات والأرض
التفت حولي لاجد حمزة يرقبني من بعيد بريبة
-تعال يا حمزة اقترب
اقترب مني مترددا لاجلسه قربي
-لقد أصبحت رجلا يعتمد عليه، هل تقوم بمعاونة جدك
-نعم بالطبع
-هل تدرس بجد
-نعم ، جدي علمني الكثير من العلوم وانا احفظها جيدا
-ممتاز ممتاز، وماذا عن حفظ القرآن أين وصلت
-قاربت انهائه بقي لي جزئين
شعرت حينها بفخر كبير، يبدو ان أبي قام بتربية حمزة تماما كما رباني
-وماذا عن مدرستك
-انني الاول
-بطل يا حمزة، وأنا فخور بك
-وامك هل تعتني بها
هنا صمت قليلا ليقول بعد تردد
-لم اعد اراها
-ولم؟
-لا احب زوجها البغيض
-حمزة اذهب الى غرفتك الآن .. قالتها جدته بتوتر شديد
ليقوم حمزة بالذهاب من فوره
زوجها؟ كان وقع الكلمة كالنشاز على أذني فلم افهم ماذا تعني ،لذا عدت إلى طعامي اكمله، ثم فجأة بدأ عقلي بالادراك بشكل سريع
زوجها؟ زوج من؟ عائشة؟؟؟؟ هنا تركت ما بيدي ونظرت الى امي بصدمة حقيقية ونبضات قلبي تتعالى وتتعالى
-أماه ما هذا الذي يقوله حمزة؟ وماذا عنى بزوجها
-لا تلقي بالا لهذا يا حبيبي ..هو صغير لا يدرك ما يقول.. أكمل طعامك الآن
-اماه اناشدك بالله ان تصدقيني القول.. عائشة تزوجت بعدي؟
كان التردد جليا جدا على امي لأشعر بقلبي يهوي فأجيب بفزع
-ومتى حصل هذا؟ بل كيف يحصل
-بني هدأ نفسك ارجوك
-كيييييف؟ كييييف .. كيف تفعلها وتتزوج وتكون لاحد غيري، ما هذه الخيانة، أتبيعني لدى اول طارق
-لا تقل هذا يا بني، لقد كنا نظنك ميتا ثم لها ظروفها
-لكني هنا حي لم أمت، لم أمت يا امي.. فباي حق تتزوج؟ بأي حق تعطى لغيري وانا حي اتنفس
-عبييد!

كان هذا والدي
-ما عهدناك جزوعا هكذا! لم تفعل الفتاة شيئا محرما، ويحق لها الزواج وقد كنت في عداد الأموات لسبع سنين، ولا تقلق سنرى قول الشرع في المسألة ونحكم فيها وسنصل لحل يرضيك باذن الله
لم تفعل شيئا محرما؟ وقتلي هكذا بالبطئ ، أليس حراما؟ تمزيق قلبي ونهشه بأقسى الطرق؟ أليست خيانة ؟ شعرت بالمكان يضيق علي وبنبضات قلبي تفرقع في صدري و بدمائي تغلي وتغلي فلم اشعر الا وانا أخرج من البيت بعصبية واضحة أمام توسلات امي الباكية ومناداة ابي لي..
دخلت بيتي، بيتنا انا وعائشة، من كان يوما عشا دافئا أتوق للرجوع إليه، يبدو كما هو، كأن السنين لم تمر عليه، لكني وجدته باردا كالصقيع، لوهلة خيل لي أنني سأرى عائشة تطل علي بابتسامتها المحبة وانا احمل لها وردة ككل يوم، لكني صحوت على الواقع المرير بل وباتت حقائق جديدة تتساقط على رأسي كالمدافع:
متزوجة؟ أي أن لها زوجا اخر، يراها، يلاطفها، يداعبها ، يقبلها، ي… وأمام هذه الفكرة شعرت برأسي يكاد ينفجر وبالدماء الساخنة تغلي داخل عروقي، كنت أشعر برغبة عارمة في تدمير المكان ، كان كل شيء يضيق من حولي حتى جسدي كنت اتمنى لو امزقه واخرج منه، وقعت عيني على صورة زفافنا وكانت الصورة الوحيدة لنا ، قمت بضربها بقبضتي بقوة ليتحطم الزجاج الذي يحيطها،قمت بتكسير بعض الأواني لعلي أخفف من وطأة غضبي فزادني الأمر غضبا فوق غضبي، اردت الهرب بعيدا، لربما العودة الى السجن! فسنين سجني كانت ارحم من واقعي هذا! على الاقل في سجني كانت تزورني عائشة تمسح جروحي تضمدها ولربما قبلت بعضها فاشفى ! يا ليتني بقيت في السجن على عماي ولم أخرج لاذبح بابشع طريقة! كانت عائشة الضربة القاضية، الجرح الأعمق الذي لن يشفى ابدا، اريد الصرااااخ بأعلى صوتي، مقهوووووور مقهووووور واعوذ بالله من قهر الرجال! خرجت من البيت لا ألوي على شيء، امشي بغير هدى وعيوني محمرة من تجمع الدماء داخلها، كان منظري يوحي بهيئة رجل قادر على القتل، وقد كنت فعلا انوي قتل احدهم، لو كانت امامي لقتلتها هي والخائن الذي تزوجته ثم قتلت نفسي لنرتاح كلنا!
مشيت ومشيت على غير هدى، وجدتني اصعد الجبل، لم اشعر بنفسي الا وأنا أقف على الهاوية، كان المنحدر الصخري اسفل مني، وقفت على اقصى الهاوية لا تفصلني عن المنحدر الا إنشات بسيطة ، رغبت بالسقوط، بترك جسدي يتهاوى لعلي ارتاح! صرخت باعلى صوتي، صرخة مقهورة محملة باقسى انواع الألم، صرخة رجل مذبوح،ذبحوه في أغلى ما يملك، صرخت مرة اخرى فثالثة فرابعة ثم وجدتني اتهاوى…..


ريحانة اليمن غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس