الفصل الأول
قبل شهرين..
تسير بخطوات مهرولة نوعًا ما ترفل في قفطانها المخملي الأخضر، وفي يدها هاتفها يتعالى برنين متواصل ملحّ كإلحاح المتصل يعكس تلهفه وشوقه الذي لا ينضب..
تبتعد عن القاعة بضوضائها واكتظاظ المدعوين فيها وهرجهم ومرجهم، لتبحث عن ركن منزوٍ بعيد تركن فيه لنفسها وتستقبل صوته العميق الأجش، متسربلًا إلى أعماقها وناشرًا دفئًا وأمانًا تفتقدهما في بعده..
" وفاء.."
صوت تعرفه جيدًا بنبرة آمرة تكرهها يستوقفها ويُخمد لهفتها وفرحتها المنتفضة على وجهها، فتمنح لنفسها لحظة تستعدّ فيها للمواجهة بينما لم تتوقّف شفتاها عن إطلاق لعنات وشتائم ساخطة..
تستدير بتروٍّ ترسم على وجهها كل علامات البرود والازدراء لتقول ممتعضة:
" هل تراقبني؟"
يتحرك جابر نحوها وعيناه تبتسمان بوقاحة مجيبًا بفتور:
" لمحتك وأنت خارجة من القاعة فلحقت بك"
" ولماذا تلحق بي؟ هل يجوز لك أن تختلي بي في مكان خالٍ بهذا الشكل؟..ألا تراعي حرمة البيت الذي هو بيت خالك بالمناسبة؟"
يرتفع حاجباه عاليًا بينما لم تهتز ثقته بنفسه قيد أنملة، وهو يقف أمامها بغطرسته المعهودة، يديه في جيبي بنطاله يطالع المكان حوله وهو يقول بتهكم:
" اختلي بك في مكان خالٍ؟ يا له من اتهام خطير..نحن في قاعة أفراح كبرى كما تلاحظين.. ولسنا وحدنا"
زفرة حانقة نافذة للصبر تنفثها وهاتفها يعاود الرنين، فتغمض عينيها يأسًا تتمنى أن يختفي فقط بفعل تعويذة ما لتتمكن من الرد على أليف روحها..
غافلة عنه وعن خيالاته المتلاعبة به وعيناه تطاردان تلك الخصلات الخفيفة المحيطة بوجهها تتطاير بفعل زفراتها المتتالية، قبل أن تعودا وتتركزان على تلك الالتواءة المثيرة لكل حواسه في شفتيها، بينما يجذبه ذاك العبوس الذي يعقد حاجبيها والذي توجهه نحوه دومًا دونًا عن غيره، وهو راضٍ به وكالمخبول يجذبه.. لم يحظى يومًا بنظرة لطيفة منها تروي ظمأه..أو كلمة تطفئ نيران الغيرة المستعرة في صدره بها، لكنه يظل هائمًا يدور في فلكها ينحي كل منطق في هواها..فالمنطق في عرف العاشق ظلم للمعشوق وسلب لحقوقه..
تنهيدة مجهدة تتصاعد بثنايا روحه وعيناه تتماديان في عذابه وتنسابان على طول قدها، تلتهمان روعة ذاك القفطان المحتضن له بفتنة وسحر، ثم تتوقفان بأنفاس لاهثة منصهرة عند فتحته الأمامية، حيث بزغ من خلال ستارتها بياض ساقها المتوارية خلف القماش..
حرارة مذيبة تصاعدت إلى وجهه حتى بات متوهجًا حارقًا بينما ينهر نفسه ويغض ببصره حانقًا منفعلًا، وحقد وغلّ مسيطران يجتاحانه ويدفعان به لبؤرة صراع مع أقدار تلاوعه وتفني كل ثباته..
تضع الهاتف على وضعية صامت قبل أن تنظر للواقف أمامها تهتف بحنق ونفاذ صبر:
" ماذا تريد جابر؟ اختصر فلدي اتصال مهم أريد الرد عليه"
تضيق عيناه يخفي وميض الشر الذي انتفض في قتامتهما، بينما اعترى جسده اهتزاز عابر سيطر عليه سريعًا ليسألها وهو محتفظ بهدوئه:
" من المتصل؟.."
ترفع عيناها للسماء بقنوط بينما اتخذت وقفتها المتحفزة وراحت تهز جسدها بضجر عازمة على عدم الرد، ليضيف بنبرة فاحت خطورة واجرامًا:
" هو من يتصل بك.. أليس كذلك؟"
" وما شأنك؟.."
هتفت بغيظ ليعالجها فورًا بالقول بتصميم مخيف في عينيه:
" بل شأني يا وفاء.. شأني..أنا ابن عمتك وأحق بك منه.. كيف تفضلين ذلك الغريب علي؟ ما الذي يميزه عني؟..هو لا يستحقك.. ليس أهلًا لك "
رجفة خوف تملكتها من نبرة التهديد التي فاح بها صوته وجاهدت ضدها، وتجلدت لتبدو بالقوة التي تجابهه بها دائمًا، هناك شيء في عينيه يثير ذعرها.. تخشى نزعة الشر تلك المطلة منهما فهو لم يتوانى عن التسبب بالمشاكل لها مع عائلتها..
ترطب حلقها وتدّعي الثبات لترد عليه بحزم وحدة:
" وأنا أخبرتك وأخبرك أنني لن أكون لك.. حتى وإن انطبقت السماء على الأرض فلن أفكر فيك أبدًا.. ألا تفهم؟ ألا تملك ذرة كرامة وعزة نفس عندما أخبرك أنني أرفضك؟ أرفض مجرد التفكير باحتمالية ارتباطنا..مراد بمثابة خطيبي وقريبًا جدا سيأتي لنعلن ارتباطنا للجميع"
جسده يتحفز بخطورة بينما اكفهرت ملامحه وأربدت بقتامة، وبدا مستعدًا لارتكاب جريمة وهو يهدر بانفعال:
" ليس خطيبك..حبًّا بالله! ثماني سنوات وأنت معلقة تنتظرينه وهو مسافر.. كيف ترضين على نفسك هذا؟ إن كان غير مستعد للزواج فليحرّرك وليترك الساحة لمن هو مستعد وجاهز وينتظر اللحظة التي تقولين فيها كلمة نعم ليحظى بك"
" لن أقولها..هل تسمع؟ لن تسمعها مني أبدًا..مراد سيأتي ويخطبني وتلك الشماتة والتشفي اللذين ألمحهما في عينيك سيختفيان وتحل محلهما الهزيمة.. مراد لا أحد سيأخذ مكانه لأن جذور حبه ضاربة وثابتة بهذا القلب لن تتزحزح رغم كيد الأعادي.. وأنا سأبقى وفية له وانتظره حتى آخر يوم في حياتي.."
تنهي كلامها ثم تتحرك بخطوات غاضبة محتدة تتجاوزه وتتجه إلى القاعة وقد أفسد عليها لحظاتها مع حبيبها، بينما لاحقتها نظراته وعيناه تقدحان شررًا وتتوعّدان بالشر.
***
في اليوم التالي..
اختناق مفاجئ ودموع قهر تداهمها وهي جالسة مكانها تستمع لتأنيب والدتها وكلماتها الجارحة لها، تصفها بالغبية وهي تضيع أجمل سنين عمرها في الانتظار، تقف وتتفرج على بنات العائلة كيف يتزوجن واحدة تلو الأخرى، حتى اللواتي يصغرنها بأعوام عديدة تزوجن، وليلة أمس أكبر شاهد على أنها معلقة بحبال مهترئة ستتقطع بها وتلقي بها في هوة سحيقة لا ترحم..
ابنة خالها التي تصغرها بثماني سنوات كان عرسها ليلة أمس، بينما هي لا تزال تنتظر أن يعطف عليها العريس المزعوم الذي قيّدها به دون أي رباط شرعي، فقط وعد وعهد عاهدها بهما على أن يجعلها من نصيبه بعد تحسن ظروفه..
" بالله عليك أمي! ألا تسأمين من تكرار هذا الموشح الذي لا تملكين غيره منذ سنين؟! متى ستتوقفين عن هذا التجريح والتعذيب اللذيْن تمارسينهما علي؟..ارحميني أمي أرجوك"
تهتف أخيرًا بقهر تقاطع سيل النعات والصفات السيئة من فم أمها بحق حبيبها مراد، لتنتفض هذه الاخيرة وقد ازدادت قسوة وتجبرًا وهي تهتف بدورها بغلظة وحدة:
" عندما تتوقفين عن تعنتك وغبائك هذا سأتوقف عن تأنيبك وتوبيخك.. إلى متى يا وفاء؟.. أنت تقصمين ظهري بتهاونك والتفريط في حق نفسك.. أنت على أعتاب الثلاثين..بالله عليك! إلى متى ستنتظرينه؟ هل تظنين أنه سينظر إليك عندما يذبل جمالك ويذوي شبابك؟ أفيقي يا وفاء.. الوغد يربطك بكلمة فقط.. ماذا يضمن لك أنه سيفي بها ولن يغدر بك؟"
" كفى أمي.. كفى أرجوك.. أنت تظلمينني كما تظلمينه.. الرجل يعمل ليل نهار وقد تغرّب من أجلي.. من أجل أن يوفر لي الحياة الكريمة التي أستحقها.. ويوفر كل تلك الطلبات التعجيزية التي فرضتموها عليه.. مراد لن يخون عهدي أبدًا كما لن أخونه أنا.."
تتأوه أمها بكمد ويدها على صدرها تطبطب على جرح غائر امتد إلى قلبها وأدماه، ابنتها الوحيدة تكاد تتسبب لها بجلطة بعنادها وصلابة رأسها، وصحتها المعتلّة لا تسمح، فتهتف بلوعة وكسرة:
" آهٍ عليك يا وجع قلبي.. لا أصدق سذاجتك..أية حياة كريمة تلك التي سيوفرها لك ويجتهد بها وكل أمواله تذهب لعائلته أولًا بأول؟..ألم يجهز كل أخواته البنات اللواتي يصغرنك بأعوام واجتهد في تزويجهن واحدة تلو الأخرى؟ بينما يربطك به ويماطل كمن لا أهل لها ولا عزة نفس ولا كرامة تملكها.. أليس الأجدى أن يسترك أنت ويفي بوعده لك أولًا قبل أن يقوم بواجبه مع أخواته؟..ثم إذا كان غير مستعد وظروفه لا تسمح فليحلّك من وعد عرقوب ذاك لتلتفتي لحياتك وتعطي الفرصة لغيره.."
نفس تلك الجملة التي سمعتها ليلة أمس من ذلك البغيض الذي لا ينفك يبحث عن منافذ للإيقاع بحبيبها مراد، غيرته منه أوصلته للتصرف بنذالة واستغلال الفرصة لـ يصطاد في المياه العكرة على حسابها هي ومراد، اللعنة عليه.. الآن فقط فهمت سبب هذا الموشح الذي تستمع له منذ الصباح من أمها وهي متأكدة من كان يدعمه..
" هل كلمكم ذلك السمج اللجوج مرة أخرى بشأن تقدمه لخطبتي؟ هل هو السبب في ما تفعلينه بي الآن أمي؟"
تسأل أمها وهي تمسح دموعها بخشونة وقوة، بينما انتفضت عيناها بنظرات حازمة قوية تردع بها كل معتدٍ ينوي المساس بإيمانها ويقينها من صحة موقفها، لترد عليها أمها باندفاع وحزم:
" جابر رجل لا يعيبه شيء، يكفي أنه متشبث بك رغم صدّك وتمنّعك، ما الذي يمنعك من الارتباط به؟ هو من دمك وأحقّ بك من ذلك المستهتر غير المسؤول"
" رجل لا يعيبه شيء؟ أية رجولة يملكها وقد سمح لنفسه بالطمع في من هي مخطوبة لغيره؟.."
"أية خطوبة؟ لم تكن سوى كلمة وطلب وعد بالانتظار لأجَل غير مسمّى.."
تهتف أمها بحرقة وانفعال لترد عليها بالمثل:
"أنتم من رفض إعلان خطبتنا، ورفضتم حتى توثيق ارتباطنا بقراءة الفاتحة عندما تقدم وفاتحكم بطلبه.. فعلى ماذا تلومينه الآن؟"
" ولا زلنا نرفض.. كيف نسمح له بتقييدك بهذا الشكل؟.. لقد وافقنا على تقدمه فقط تحت إلحاحك أنت، فلم نكن راضيين عن هذه الخطوة، لكننا قررنا منحه الفرصة على أمل أن تتحسن ظروفه لكنها لا تبدو أبدًا أنها ستتحسن، فالسنين تتوالى دون أن يبذل رغبة حقيقية في إنهاء ما بدأه"
" كفى أمي أرجوك كفى"
تهتف بلوعة وقهر ثم نهضت تكتم آهاتها وتطبطب على جراحها تواسي نفسها وتحثّها على الجلد..
أكثر ما يؤلمها ويحزّ في نفسها أن كلام أمها يحمل بعض الحقائق..كيف يفرط مراد بسعادتهما بهذا الشكل لأجل سعادة أخواته؟ هل يستحقن السعادة أكثر منها؟..
دخلت غرفتها وارتمت على سريرها تدفن وجهها في وسادتها التي تضم دموعها ليالي طويلة، لا تنكر أن كل مخاوف أمها سبق وانتابتها.. بل إنها تعايشها كل يوم.. هل سيطول انتظارها لسنوات أخرى؟ وهل سيفي مراد بكلمته ويتزوجها؟ أم أنه فقط يتلاعب بها؟..
كم نسجا هي ومراد الحكايات وشيدا قصورًا زمردية لأحلامهما، منذ أن منحت الإذن لفراشات الحب لمداعبة وجودها لم يسكن القلب غيره، عاهدته على الانتظار.. وعاهدها على الوفاء لحبهما.. عهد انكتب في صك موصوم بالدموع..كان ثمنه الغربة والابتعاد عن الاحباب والوطن.. سنوات قضاها هناك يبني مستقبلًا مزهرًا لهما لينعما بالحياة الرغيدة لزواجهما.. يطوّعان الظروف القاهرة -التي تدفع بالشباب للعزوف عن الزواج بسبب الاكراهات والغلاء الذي اكتسح المجتمعات في ظل تدني الأجور والبطالة- بالعزم والمثابرة والسعي الجاد لتحقيق الذات..
كان يحارب هناك ويقاتل باستماتة لتذليل كل الصعاب، وهدم كل الحواجز والحدود للوصول إليها، ولم تكن أقل منه نضالًا، فإن كان يقاتل من أجل توفير حياة كريمة لهما هناك، كانت هي تقاتل وتناضل بشراسة تدافع عنه أمام عائلتها ومحيطها الذي كان يصفها بالهبلاء والمجنونة، إذ تنتظر وتشاهد أجمل سنين عمرها تمضي أمام أعينها وهي عاجزة لا تملك إلا الانتظار.. وثقتها بحبيبها لا تهتز.. كانت مضطرة لسماع عدة عبارات وتحمّل اللّوم والتقريع من الجميع، حتى أن والدتها بدأت ترعبها بشبح العنوسة الذي بدأ يطرق بابها في مجتمع كمجتمعها، وفي وضعية كوضعيتها وهي الفاشلة التي لم تكمل تعليمها الجامعي والعاطلة عن العمل، لم تكن تملك أحلامًا أخرى غير أحلام الزواج والاستقرار وانجاب الاطفال..
وبـ اقترابها من سن الثلاثين بدأ الضغط عليها يصبح مكثّفًا، وبات من كل أفراد عائلتها حتى شقيقها الذي كان مكتفيًا بإبداء النصح، بينما تسمعها والدتها من التقريع واللّوم كل ليلة قبل النوم، ما يدفع بالدموع للانسكاب مدرارًا مخلّفة وسادة مبتلة عند كل صباح..
لكن كل هذا لم يكن ليضعف من عزيمتها وحبيبها لم يتوقف عن مراسلتها وطمأنتها إلى أن حلمهما سيتحقق قريبًا.. لكنها تجد نفسها الآن قد فاض بها ولم تعد تملك صبرًا لتحمل كل هذا بمفردها ولابد لها من معين..
طرقات على الباب تصلها فتعتدل وتنهض جالسة وهي تمسح وجهها بيديها، قبل أن تسمح للطارق بالدخول وهي متأكدة من هويته، ملاذها الدائم والحضن الذي يحتوي كل حالاتها المتعاقبة ما بين حزن واحباط وألم..
يفتح لقمان الباب ويدخل بهدوء..يقف للحظات عنده يمنحها الوقت لتستعيد ثباتها وتعتاد وجوده، قبل أن يتحرك بنفس الهدوء والتريث ويقفل الباب ويقترب منها..
عيناها تتهربان من مواجهته.. حتى وجهها تأبى أن تريه إياه حتى لا يرى ما أحدثه به نحيبها ودموعها..
يتوقف للحظات أمامها يستغفر ربه بخفوت عقب تنهيدته الحارة، ثم يدنو ليتخذ مكانًا له على الفراش أمامها ويلتقط يديها المرتجفتين بين كفيه يغمرهما بدفئه وهو يسألها بحنو:
" هل أنت بخير يا صغيرتي؟"
تبقي وجهها مطرقًا وقد انسدل شعرها يغطيه ويحجبه عنه، بينما تحرك رأسها بإيماءة صغيرة وأنة خافتة تصدر عنها..
يحرّر إحدى يديها ليزيح خصلات شعرها ويلتقط بإبهامه دمعة عالقة على أعتاب رموشها، ثم يقول بصوته الحاني العميق:
" لا تغضبي من والدتنا، أنت تعلمين أنها تبحث عن مصلحتنا معًا، إنما تقسو عليك من خوفها فقط، ولا دافع آخر لديها"
تأخذ وقتها في تسكين انفعالاتها والتخلص من حشرجة صوتها قبل أن تجيب بحزن وشقاء:
" إنها لا تكفّ عن لومي وتأنيبي يا لقمان، لا تريد أن تصدّق أن مراد يبذل كل جهده ليتقدم ويطلبني للزواج.. فقط يحتاج لبعض الوقت"
يسحب لقمان أنفاسًا طويلة ويزفرها وعدم الرضى مرتسم على محياه بينما يقول بلطف:
" أنت تعلمين رأيي بهذا الموضوع يا وفاء، لم أكن يومًا راضيًا عن هذا الذي يجمعكما أنت ومراد تحت أي مسمى كان.. الرجل الحقيقي لن يرضى على نفسه أن يربط بنات الناس ويستغلهن بهذا الشكل..لا يجوز له أن يقيدك كل هذه السنوات دون رباط شرعي "
" أنت تظلمه أخي.. ماذا فعل لتتهمه في رجولته؟ يشهد الله أنه لم يتجاوز معي أي حدود.. ألا يكفي أنه بعيد بآلاف الاميال؟ "
يحوقل لقمان بخفوت ثم يستغفر ربه وسريرته تقوده للتحلّي باللّين واللّطف معها حتى لا تتأزم حالتها أكثر مما هي عليه، فيقول بصوته الأجش العميق:
" أنا لا أحمل أي ضغائن لمراد يا وفاء، افهميني.. أنت أعلم الناس بطبيعة شخصيتي وبمبادئي وأفكاري.. عندما اخترت الارتباط بآية قصدت بيتها ولم أحاول مشاغلتها أو التودُّد إليها قبل أن أعقد النيّة لأتزوجها، ويشهد الله علي أني حرّمت على نفسي مجرد النظر إليها رغم علمي بمشاعرها الغالية نحوي، لم استغل أيًّا من كل تلك المعطيات التي كانت متاحة لي لأفصح عما في قلبي، بل انتظرت ومنّيت نفسي طويلًا بتحقيق الغاية والوصول إليها، حتى تيسرت أموري وأصبحت قادرًا على تحمل مسؤولية إنشاء عائلة، وقادرًا أكثر أن أصونها عندي وأحفظها حتى لا أحاسب عليها إذا ما قصرت معها..لقد اتقيت الله فيها من أجلك يا وفاء.. أردت أن تلاقي نفس التقدير ممن سيرتبط بك "
تنتصب في جلستها وتتحفز كليًا استعدادًا للدفاع عنه كما اعتادت دائمًا وقالت:
" ظروفك ليست كظروف مراد أخي، أنت منّ الله عليك ومنحك من نعمه الجزيلة.. أنهيت تعليمك وتخرجت واشتغلت وعملك ولله الحمد يوفر لك تغطية كل احتياجاتك واحتياج عائلتك، بينما هو وجد نفسه مسؤولًا عن أمه وأخواته الصغار وهو صبي يافع، وكان مضطرًا للعمل ولم يجد أمامه إلا الهجرة للغرب ليحسن أوضاعه ويخرج عائلته من العوز والحاجة بعد وفاة والده.."
يمرّر لقمان كفه يمسح بها على وجهه ويمررها على لحيته المشذبة، وقد زرعت بضع شعيرات بيض فيها متخلّلة لونها العسلي، تحكي نضجًا ووعيًا خلقا معه منذ الصبا، وتزايدا مع تزايد سنين العمر المنحسر عن ربيع الثلاثين ليقف على أعتاب الأربعين بعامين أو ثلاثة..
حلمه وأناته تقودانه لوضع ألف عذر وعذر وعدم إصدار أحكام متسرعة، قد يكون تفكيره عتيقًا ولا يواكب هذا العصر الذي باتوا يعيشونه، وقد يكون الموضوع كما قالت وفاء اختلاف الظروف، لهذا كان يجب أن يضع نفسه مكان مراد، الذي ألفى نفسه مطحونًا في دوامة الحياة التي لا ترحم، وقسوة العيش في زمن كزمانهم الجائر..ومحمّلًا بأعباء أثقلت كاهله.. أدرك أنه سيقضي أعوامًا قبل أن يتخلص منها، حينها تكون الفتاة التي ملكت قلبه وأكنن حبها في قلبه قد طارت وخطفت من أمام ناظريه..
ماذا كان عليه أن يفعل؟ أن يغامر ويسافر مراهنًا على أن تكون هي كذلك تبادله نفس المشاعر وتنتظره رغم أنه لم يبح بشيء؟ أم يتشبث بها ويطلب وعدها بأن تكون له ولو بعد حين؟ ماذا كان سيفعل لو كان مكانه؟..
يتنهد باستياء وأفكاره تكدّر روحه وهي تأخذه لمنحى لم يخطر بباله مسبقًا، كان دائمًا ينظر لقصة وفاء ومراد من منظوره هو، وهو واقف في موقعه حيث كل الأمور كان يجد الطريق إلى تذليلها وتطويعها لتتماشى مع قناعاته، لكنه لم يجرب أبدًا أن يغير ذلك الموقع الذي يحتلّه ويختبر موقعًا غير موقعه ليعرف كيف كان سيتصرف..
لطالما كان متأكدًا من أن حبه المكنون في قلبه تجاه آية سيتكلّل في الأخير بالزواج، فقد كان متأكدًا من مشاعرها البادية للعيان، كما أن أحواله المادية لن تكون سببًا أو حائلًا بينه وبين الوصول إليها، غير أنه الآن من خلال معايشته لقصة وفاء ومراد -وموقف هذا الأخير بالخصوص والذي يصفه الجميع بالأناني- يجد نفسه يتخذ وقفة مراجعة مع ذاته ويتساءل:
هل كان سيتصرف بأنانية مثل مراد؟ أم أنه سيبقى محتفظًا بمبادئه وقناعاته التي يؤمن بها ولا يحيد عنها؟
" قد تكونين محقة يا وفاء، لا أحد سينكر أن مراد يمتلك نصيبه من الشهامة والرجولة، وأنا بداخلي أُكنّ له احترمًا مطلقًا، فقد أثبت تحمله للمسؤولية برعايته لوالدته وأخواته وكان جديرًا بذلك المقام الذي يحتله في بيتهم، وربما هذا ما يشفع له عندي ويزيد له الفرص التي أمنحها إياه، مذعنًا وراضيًا أمام وفائكما لبعضكما، لهذا سأمنحه فرصة أخرى يا وفاء وأتمنى أن يكون جديرًا بها"
يرى الترقب مرتسمًا في عينيها وانتظارًا لما سيقوله، فيتنفّس عميقًا قبل أن يقول برزانة وهدوء:
"فليتقدم لخطبتك رسميًا، أخبريه أني سأنتظره لنعلن خطبتكما ونخرس كل الألسن التي لا تكف عن النهش بسيرتكما معًا"
"لكن يا أخي.. أنت تعلم بظروفه..والبيت الذي سنسكن فيه لا يملك بعد ثمنه"
تهمس بانشداه لتقابلها نظرته الصارمة والحازمة والتي عكست اصراره وتوصله لهذا القرار الأخير، فيعززه بالقول الجاد والذي لا رجوع عنه:
" الحياة لا تمضي كما نريد بل علينا بذل بعض التنازلات الصغيرة لنحقق الأحلام الكبيرة..بيت عائلته سيفي بالغرض.. ألا تذهب كل أمواله لإعادة اصلاحه وبناء طابقين فوق الطابق الذي يسكنون فيه؟ وتلك الاصلاحات لم تنتهي بعد.. وهي تحتاج لاموال طائلة أخرى، إذن فالبيت الذي تنويان شراءه لن تملكا ثمنه ولو انتظرتما لثماني سنوات أخرى، توكلّا على الله واعقدا زواجكما واسكنا مع والدته واختيه المتبقيتين، وعندما ييسر الله اشتريا بيتًا مستقلًّا وانتقلا إليه"
تزدرد ريقها وحالتها المشدوهة لا تزال تتملكها والتخبط يفعل بها أفاعيله..
تجمدها الجدية والحزم المرتسمين في وجه لقمان ويقينه من كل كلمة نطق بها جعلتها تراجعها وتسترجعها ..
" هل هذا رأيك أخي؟"
تسأله بحذر وبعض الشك لا يزال يراودها من جدية تلك الخطوة، لينهض لقمان واقفًا يجيبها بثبات ويده تملس على لحيته:
" ويجب أن يكون رأيك أنت أيضًا ولا رأي آخر بعده..ما يحدث بينكما لا يجوز شرعًا ولا دينًا فلا رباط شرعي يجمعكما حتى مع وجود نية الزواج، اتصلي به وأخبريه أن هذه فرصته الأخيرة ويجب أن يستغلها"
ثم انسحب بهدوء تمامًا كما دخل..
تنهض جالسة وتلتقط هاتفها لتمرّر الاتصال إلى الاسم المحفور في قلبها قبل عقلها، ولم يطل الرنين ولا انتظارها إذ سرعان ما جاءها صوته الدافئ العميق، يتسربل إلى أعماقها فيُسكن كل هواجسها ومخاوفها التي أثارتها والدتها..
" اشتقت إليك.."
تغمض عينيها تصارع تلك الغصّة التي استولت على حلقها ترفض السماح لصوتها بالخروج.. أنة خافتة تصدر عنها قبل أن تهمس بحشرجة غلفت صوتها:
" وأنا أيضًا.."
" ما بك يا وفاء؟ صوتك مختنق..هل كنت تبكين؟"
تكتم أنة أخرى تصاعدت بثنايا روحها تغمض عينيها وتعصرهما تمنع انهمار دموعها لكنها تفشل، فيطول صمتها ويزداد قلقه ليسألها مجددًا بلطف وحنوّ:
" وفاء.. هل أنت بخير؟ ..أنت تثيرين خوفي وقلقي عليك"
تسحب أنفاسًا طويلة تحاول التحكم بمشاعرها ونفسها، لتهمس بضعف وهي تمسح دموعها بكفها:
" لا تقلق.. أنا بخير.."
" صوتك يقول العكس.. قولي لي ماذا يبكيك؟..ومن هذا الذي تسبب بالحزن لهاتين العينين الجميلتين لأمحوه عن الوجود؟ "
تسحب أنفاسًا متقطعة تحاول التحكم بذلك النحيب المكتوم الذي يخنقها، قبل أن تهمس والقلب يئن بجرح غائر مُدمى:
" لم أعد أتحمل يا مراد..هذا الضغط يفني روحي"
كل حواسه تتيقظ من البحة المجروحة المغلفة لصوتها، وروحه تتأهب للدفاع والتصدي لمن تسبب لها بهذا الشقاء المتجلي من نبرتها..يعرفها جيدًا.. لا تشكو أو تعلن استسلامها إلا عندما تكون قد فاض بها واستهلكت كل طاقتها على النضال..
" احكي لي ياروح مراد.. فأنا هنا لأحمل عنك ما يُثقل كاهلك"
تعود لوصلة نحيبها الخافت تأخذ وقتها كاملًا لتهدأ بينما يسايرها ويعطيها ما تريد..
تهدأ قليلا فتعود وتمسح دموعها بيدها وهي تقول:
" لم أعد أستطيع الوقوف في وجه هذا الذي أتعرض له.. أمي لا تتوقف عن اللوم والتقريع.. والجميع لا يتوقفون عن انتقادي، ولتكتمل الصورة فإن ابن عمتي جابر يستغل كل هذا ليظهر في الصورة ويدفع الجميع إلى الوقوف بصفه بدناءته وقلّة مروءته..عليك أن تجد حلًّا وتنقذني مما أنا فيه"
يتنهد مستغفرًا ربّه وكلامها لم يكن خافيًا عليه، كان مدركًا للضغط الذي تتعرض له ولكنها لم تكن تشتكي، وأنانيته تجعله يتمادى أكثر ويدفعها لتحمل المزيد، وهو مدفون هنا غارق حتى أذنيه في بناء ذلك المستقبل الذي يطمحان إليه معًا ويجمعهما..
" أنت تعلمين أنه لا أحب علي من جعل يوم اجتماعنا أنا وأنت في بيت واحد اليوم قبل الغد، ولكنك أيضًا أعلم الناس بظروفي.. أنا أتحمل الغربة ومرارتها لأجلك..لأجل أن أكون جديرًا بك "
تنتصب في مجلسها بعزم وقد أفضى بها كل ما تمر به إلى قرار لن تتراجع عنه لتجنب نفسها مهانة تحمل كل ذلك اللوم والتقريع.. تسحب أنفاسًا طويلة لتقول بحزم:
" تقدم لخطبتي في أقرب وقت يا مراد.. على الأقل لنجعل خطوبتنا رسمية ونسكت أفواه من يسعون لتفريقنا عن بعضنا..لقد بدأت أفقد طاقتي على النضال والدفاع عن علاقتنا.."
" لكن يا وفاء.."
حاول قول شيء لكنها تقاطعه بحزم أكبر:
" اسمعني مراد.. لا أريد شيئًا مما تسعى للحصول عليه.. حتى ذلك البيت الذي تسعى لشرائه من أجلي لنستقل به عن السكن مع عائلتك أنا أعفيك منه.. سأرضى بالسكن معهم إلى أن ييسر الله لك وتشتري لي بيتًا يضمنا أنا وأنت.. لا أطلب شيئًا سوى خاتم خطبة وتجمع عائلي صغير نحتفل خلاله بارتباطنا .."
ترقب من جهتها وصمت في الجهة المقابلة.. تدرك أنها تتنازل عن أشياء تعتبرها أساسية في عرفها..ذلك البيت الذي حلمت به معه يضمهما يشع بحبهما واهتمامهما ببعضهما..كان أقصى أحلامها..بيت لا تتشارك به مع أحد تكون فيه سيدة نفسها.. مملكة خاصة تديرها بمفردها..لكنها لا تجد أمامها سوى التنازل قليلًا لتتخلص من الضغط المحاط بها من كل جهة..
" هذا رأي لقمان أيضًا "
همستها الخافتة تصله وتزيد من حيرته وقلقه.. كان يظنها مجرد انتفاضة راودتها عبّرت بها عن يأسها واحباطها، لكن بذكر اسم لقمان فالموضوع قد بات جدّيًا ووصل لنقطة اللارجوع ولا مجال للتحايل والمراوغة..
"ماذا عن السكن هنا يا وفاء؟ أنت تعلمين أنني في سكن جماعي مع مغتربين مثلي، ولن أستطيع احضارك إليه.."
"سنؤجل سفري حتى تتيسر كل الأمور.. المهم الآن هو أن نعلن ارتباطنا رسميًا وأي شيء آخر سيأتي مع الوقت"
زفرة حارة تحكي عذابًا واشتياقًا يضاهيان ما لديها تصلها عبر الأثير، يتبعها صوت مراد يهمس بلوعة واستياء:
"ذاك الزواج الذي يعتبر زواجًا مع وقف التنفيذ وأنت في مكان وأنا في أبعد بقاع العالم عنك لا يعد زواجًا ولا يستهويني يا وفاء.. لقد انتظرنا كثيرًا وتحملنا ولا أريد أن أتزوجك بعد طول عذاب وأنأى عنك بهذا الشكل..أريد أن أتنعم بقربك وأعوضك على كل ما قاسيناه وأدلّلك وأنت معي بين أحضاني..تركك هناك وسفري وحدي يعد عذابًا لن أطيقه"
تغمض عينيها ووقع كلماته تجد صدى داعمًا بداخلها.. كلما قاله تشاطره الاحتياج إليه.. لكنهما مرغمان على التنازل وإخفاض رأسيهما لتلك العاصفة التي تواجههما حتى تمضي..
يتحشرج صوتها ببحة مجروحة وهي ترد:
" أنا أريد كل هذا أكثر منك يا مراد.. إنه الحلم الذي زرعنا بذرته معًا ورويناه بصبرنا وأشواقنا وراقبناه يكبر..لكننا مرغمان على إبداء تنازلات لنستطيع تحقيقه "
تنهيدة أخرى حارة مفعمة بالإحباط من جهته، تلتها واحدة أخرى تحكي عذابًا ويأسًا واستسلامًا من جهتها، ليحزم أمره وغريزة الدفاع عنها تتحرك بداخله نحوها فيقول بحسم:
" فليكن إذن كما قلت يا وفاء.. لن أرضى أن تنامي دامعة العين وأن أردك خائبة بعد أن لجأت إلي..فلتقرّي عينًا فلن يكون إلا ما أردته"