عرض مشاركة واحدة
قديم 04-07-24, 12:03 PM   #9

سعيدة أنير

? العضوٌ??? » 473919
?  التسِجيلٌ » Jun 2020
? مشَارَ?اتْي » 178
?  نُقآطِيْ » سعيدة أنير is on a distinguished road
افتراضي الفصل الثاني


الفصل الثاني

في حمامها الصغير وأمام مرآتها كانت تقف، بينما تصلها ثرثرة ابنة خالتها من خلف الباب دون توقف، فتتنهد بإنتشاء وهي تلتقط منشفتها وتبدأ بتجفيف جسمها بعد أخذها لحمام دافئ بعث الاسترخاء والراحة لكل أوصالها، وقد نال منها التعب مبلغه هذا اليوم..
كان يومًا حافلًا متعبًا..تعبًا لذيذًا مثيرًا.. تلك الابتسامة المتألقة والمشعة لا تزال تحتّل شفتيها.. دليلها الدامغ على أن أحداث يومها ليست من نسخ خيالها الجامح.. أو حلمًا من الاحلام التي راودتها لسنين طويلة..
ثماني سنوات كانت أشبه بثماني عقود بالنسبة لها.. لا تزال غير مصدقة أن اليوم كان خطبتها..ترفع يدها تطالع الخاتم المرصع المزين لخنصرها والانبهار والتأثر لا يزال يحتلها..
تدير كفّ يدها لتعرض صورته المبهرة أمام المرآة، فينعكس فيها بريقه ويغشي بصرها بتلألئه الفاتن..
ليس حلمًا..بل حقيقة .. كالحرير تخشى أن يتسرب نسيجه من بين يديها وتسقط في هوة ستكون محطمة لكل آمالها..
ترتجف ابتسامتها بسعادة وهي ترمي المنشفة جانبًا وتبدأ بارتداء منامتها القطنية المريحة، بعد أن غيرت قفطانها الملكي الذي ارتدته في هذا اليوم المبارك، وتوّجت به ملكة على عرش السعادة..كم كانت كل الامور متيسرة هذا اليوم دون عقبات.. كان كل شيء على أحسن ما يكون.. تكاد تختنق من فرط السعادة وقلبها سيتوقف لا محالة..
عيناها تغيمان بالعشق وصورته تقتحم خيالها وهو بكامل أناقته ووجاهته، يجلس برجولة وهيمنة بجانبها يغمرها بحرارة قربه، ويرسل رجفات متتالية مدغدغة إلى قلبها الولهان..
لمسة أصابعه لكفها وهو يلبسها خاتمه ويربطها بحبه بثّت الدفء إلى أوردتها.. همساته الحارة المتغزلة بها تذيبها خجلًا وتشعل حمرة خديها.. وأخيرًا ذلك التهور الوقح والجرأة الواثقة وهو يدنو منها يبارك لها، ويلثُم جبينها مغرقًا إياها بكتلة أنفاس حارة ألهبت كيانها، ويده المتسلّلة الجريئة تضغط على خصرها خفية بعيدًا عن أعين الجميع، يبثها احتراقًا وشوقًا فاضا بالروح فأطلق سراحهما وأغرقاها..
" أمازلت تتمنعين علي ولن تمنحيني شيئًا هذه الليلة؟.."
همسه الجريء الحار قرب أذنها ألهب حواسها، لتنصهر بالحرارة التي نشرها بها وهي تزجره بالهمس الخجول، وتعض على شفتها السفلى تحاول اخفاء امتقاع وجهها عن أعين المراقبين:
" ألا تستحي أبدًا يا مراد؟"
تأوه خافت يصدر عنه يكتمه سريعًا فيعض على طارف فمه بلوعة وهو يهمس باحتراق:
" ويح مراد وهو يغار من حروف اسمه كيف تنعُم بضمّ شفتيك"
ترتجف ابتسامتها وقد استطاع ككل مرة التأثير عليها بغزله المشبع لأنوثتها، فتسدل أهدابها تظلّل الخفر اللذيذ على الوجنتين، فتزداد تنهيداته الحارة وهو يرتدّ عنها ويستوي في جلسته محاولًا اخفاء تطلّبًا واحتياجًا خائنين، باغتاه وهاجما كل دفاعاته فجأة وتركاه عرضة لتيارات شوق عصفت به وأنهكت قواه..
بينما كانت هي تسترد أنفاسها المتثاقلة في صدرها وابتسامتها المتراقصة خجلًا تفضح ثورة المشاعر المحتدمة بداخلها..
تعود من تلك الذكرى المثيرة لأحاسيسها فترتفع يداها تلقائيًا تخففان من حرارة الوجنتين وكأنما تعايشها اللحظة.. لا تصدق كمية العاطفة المندفعة والمتدفقة التي يوجهها نحوها تضربها وتعصف بها.. كيف ستستطيع ردعه عنها بعد عقد قرانهما؟ وهي تقرأ في عينيه ذلك الوعيد والتهور الضاري الذي لا ينوي ترويضه، بل سينجرف معه ويجرفها ليغرقا معًا..
تتنهد وهي تقنع نفسها أن ذاك الاحتياج لبعضهما البعض يتقاسمانه معًا، لقد صبرا طويلًا والشوق قد بلغ منهما مبلغه وفاض وما عاد ممكنًا مداراته، وهي على يقين أن ذاك التهور نفسه الذي تقرؤه في عينيه سيكون رادعًا له، فهي مؤمنة أن خوفه عليها دافعه حتى لا تتعرض لأي أذى قد ينالها من تصرفاته بين عائلتها..
تنهيدة أخرى تتصاعد بداخلها وعيناها تنحدران بشرود عبر المرآة نحو جسمها تحت منامتها القطنية -وتحديدًا صدرها- وقد تذكرت شيئًا لمسته أثناء استحمامها..
تزيح المنامة جانبًا ونظراتها تعودان للإرتكاز على ثدييها، كان هناك شي غريب تلاحظه من خلال شكلهما.. ترفع ذراعها اليمنى فوق رأسها ثم تمد أصابع يدها اليسرى و تدور وتتحسس على جانب ثديها الأيمن، بحثًا عن شيء ناتئ كان ظاهرًا من خلال ملمس الصابون..
ينعقد جبينها بتركيز وأصابعها تتلمس طريقها حتى وجدته..
" وفاء!.. أين أنت؟! هل نمت في الحمام؟"
صوت ابنة خالتها يعلو من خلف الباب بتذمر ساخط مصاحب لطرقات عليه لترد عليها بشرود:
" سوف أخرج حالًا"
" إن لم تفعلي فسوف أغادر، خالتك لا تتوقف عن الإلحاح للمغادرة"
أسرعت ترتدي منامتها مجددًا ثم خرجت وهي تقول بحيرة علت ملامحها فجأة:
" نجاة.. أنت ممرضة، ربما أجد لديك تفسيرًا لهذا الذي وجدته تحت إبطي.."
سؤالها جاء مباغتًا لنجاة التي عقدت حاجبيها بتساؤل وهي تنهض من مكانها وتقترب منها متسائلة:
" ماذا وجدت يا وفاء؟ أنا لا أفهم"
تعود وفاء لـ اتخاذ نفس الوضعية التي جرّبتها في الحمام، تفحص تحت إبطها وهي تقول بوجوم:
" لا أعرف ما هو كأنه ورم صغير.. انتظري..ها هو! مدي يدك وتحسسيه"
تهتف فجأة عندما عثرت عليه أصابعها مجددًا، فتلتقط يد نجاة وتضع أصابعها على ذلك الموضع فتتجاوب معها هذه الأخيرة وتبدأ بالاستكشاف، فتشعر بشيء ناتئ صغير على جانب ثديها الأيمن..
تعقد حاجبيها باستغراب وهي تسألها باهتمام:
" أجل، هناك شيء أنا أشعر به.. منذ متى اكتشفت وجوده؟"
ترخي وفاء ذراعها وترتب منامتها وهي تجيب بحيرة لم تفارقها:
" اليوم فقط أحسست بوجوده لم أنتبه له سابقًا، كما أني لم أتعمد فحص ذلك المكان، لقد شعرت به مصادفة وأنا أدلّك جسمي بالصابون الذي ساعد على ظهوره..هل تظنينه شيئًا خطيرًا؟"
تبتسم نجاة تحاول تخفيف قلقها وهي تجيبها:
" بإذن الله لن يكون.. أخبريني.. موعد دورتك الشهرية متى تكون؟"
" بعد أربعة أيام"
عندها ربتّت نجاة على ذراعيها معًا مطمئنة إياها قائلة بلطف:
" إذن لا تقلقي، عادة ما تكون السبب في ظهور تلك الأورام الصغيرة، لكنها تختفي بمجرد انقضائها بأسبوع..لكن هذا لا يمنع من الفحص للتأكد"
تهز وفاء رأسها بشرود وأفكارها لا تزال تتقاذفها، بينما تضيف نجاة تؤكد عليها بحزم:
" غدًا سأمرّ عليك لـ اصطحبك إلى المستشفى حيث أعمل، توجد به طبيبة نسائية ممتازة ستفحصك وتطمئننا.. اتفقنا"
" حسنًا..كما تريدين"
ترد عليها وهي لا تزال واجمة وكأنها حاضرة بجسدها فقط بينما عقلها غائب..
***
يزفر نفسًا هادئًا وهو ينسحب بخطوات مكتومة بإتجاه الباب ثم يقف عنده..يلقي نظرة أخيرة يتأكد من استغراق الصغير في النوم قبل أن يسحب الباب خلفه ويغلقه بهدوء، ثم يكمل طريقه إلى غرفته..
يفتح الباب برفق خشية أن تكون آية قد استغرقت في النوم فيزعجها، فقد كان اليوم مرهقًا لها ولحالتها رغم أنه حثّها على الراحة وعدم إتعاب نفسها، لكنها أبت إلا أن تشارك بهذا اليوم المميز لصديقتها وأخت زوجها..
تترقّق نظراته بالحب والمودة وصورتها تطالعه وهي تتكىء على الفراش تنتظره وقد أنهكها التعب، والحمل هذه المرة يضنيها وقد أمرها الطبيب بالراحة وعدم بذل أي مجهود قد يضرّ بصحتها..
تبتسم له بوهن وجفونها تغالب النوم والتعب تأبى الاستكانة لهما، قبل أن تتكحل عيناها برؤيته والاطمئنان إلى أنه قد نام وخلد إلى الراحة..
" ألم تنامي بعد حبيبتي..اخلدي للراحة فجسمك لن يتحمل كل هذا الإرهاق"
يقول لها بحب ما فتئ يتزايد في قلبه لها، فترفع يدها إليه قائلة:
" كيف أنام وأنا أرى هذا القلق الذي يكدر ملامحك الحبيبة..ماذا يشغل بالك يا حبيب العمر؟.."
يحاول رسم ابتسامة رائقة يفك بها تلك التقطيبة المحتلّة لجبينه، بينما يقترب ملتقطًا كفها بين يديه يلثمها وهو يجلس بجانبها على الفراش قائلًا برقة ولطف:
" لا تشغلي بالك بأي شيء ما عدا صحتك وصحة هذا الجنين المشاغب الذي ببطنك.. كان الله في عوننا، منذ الآن يتعبنا بشقاوته وشغبه.."
ترفع كفه تبادله قبلته بواحدة أخرى تفيض امتنانًا للاهتمام والدلال الذي يغدق بهما عليها، فتقول تناور محاولته لـ الهائها عما يقلقه:
" إن لم أشغل بالي بك يا لقمان فبمن عسايا أشغله؟ ماذا يقلقك، ألم يمضي كل شيء على ما يرام؟ ومراد أثبت أنه رجل ووفى بكلمته معنا ونفّذ كل ما طلبناه منه"
يرفع ذراعه يلفّ بها كتفيها مريحًا رأسها على كتفه، يميل عليها يطبع قبلة على جبينها وهو يجيب بتنهيدة متعبة:
" الحمدلله مرّ كل شيء بسلام، ومراد أثبت تشبّثه بوفاء كما تمنينا.. لكن.."
" لكن ماذا يا لقمان؟.."
تسأله بعد أن ترك تلك الـ لكن معلقة وتقطيبة قلق ووجوم تعلو جبينه لـ يجيب:
" لقد طلب أن يعقد قرانه عليها الأسبوع المقبل.."
ترفع آية رأسها بتثاقل وإعياء عن كتفه لتنظر إليه تقرأ انزعاجًا وعدم اقتناع لتسأله باستغراب:
" وبماذا يضايقك هذا الامر يا لقمان؟ أنت تحيّرني.. ألست أنت من طلب من وفاء أن يسرِّع موعد ارتباطهما، درءًا لألسنة الناس التي لم تكف عن نهش سيرتهما وقصتهما التي اسطالت"
يبقى الوجوم معكرًا لصفحة وجهه الوسيمة والحبيبة إليها وقد ازدادت رجولة ووقارًا، وخط العمر بضع خطوط دقيقة عليها تحكي نضجًا ووعيًا أكسباه جاذبية مهيبة..
يستجيب لـ لمسة أصابعها المتحسسة لشعيرات لحيته المشذبة بعناية، فيسند جانب وجهه إلى راحة يدها يتلمس الاحتواء والتفهم الذي لا تبخل بهما عليه، فيتنعم بهما وهو يجيب بـ نبرة استياء رقيق غلفت صوته:
" سيعقد قرانه فقط يا آية بينما العرس لا يزال موعده مجهولًا ومرهون بظروفه التي ستتحسن..أنت تعلمين رأيي بموضوع كهذا، وأحبذ كثيرًا أن يتم عقد القران بنفس يوم العرس، أو على الاقل يكون بينهما فترة زمنية بسيطة
..كـ شهر أو شهرين مثلًا، وليس عام أو أكثر ربما.."
يزداد تكدر روحه فتترجمه ملامحه بتجلي واضح، وتحكي عنه تلك الزفرة الحانقة والحارة المنبعثة من صميم قلبه، فتسأله وهي تحيط وجهه بكفيها معًا تحاوره بالاهتمام الفياض من عينيها:
" أنت تخفي ما هو أكبر من هذا يا حبيب روح آية..احكي لي وأفرغ لي قلبك.. ألم أعد ذلك الصدر الذي يحتوي همومك ويشاركك بها؟"
يدير وجهه قليلًا ليقبل راحة كفها وعيونه تبادلان عينيها كلامًا لا يدرك عمقه سواهما..
" لا أحد يستطيع أن يفهمني كما تفعلين يا روح لقمان..أنت محقة..لم يعجبني ما قرأته في عينيه من نوايا متهورة.. ربما لم يظهر غايته من عقد القران، لكني أستطيع قراءة الدافع وراء هذا التسرع المفاجئ..وهذا لا يعجبني..أنا رجل ذو أفكار عتيقة وتقليدية ولا يلائمني هذا..قد أتهم بأني رجعي ومتخلف لكن.."
" تششش.."
تقاطعه برقة وهي تلامس شفتيه بأناملها تلاطفه وتهادنه هامسة بحب:
" أنت لست كذلك.. قطع الله لسان من يرميك بلفظ كهذا لا يرتقي لمقامك.. أنت رجل حرّ ذو دماء حارّة تغلي في عروقك وتفور لها رجولتك ونخوتك، وفاء شقيقتك، مسؤوليتك التي تقلّدتها بعد وفاة والدك، ويحق لك أن تخاف عليها ولن يحاسبك أحد على ذلك ..أنت ولي أمرها ولك الحق كاملًا في أن تقبل أو تعارض عقد القران ذاك، إن كنت غير مقتنع به فلا تقبل به.."
يطلق زفرة أخرى أشد حرارة وهو يشعر بنفسه أشبه بالمربوط بين نارين تلفحانه ليقول باستياء:
" أخشى أن تحزن وفاء إن فعلت، لقد باتت حساسة جدًا من كل ما يحدث "
تجذب إليها وجهه تلثم لحيته برقة قائلة بلطف:
" وفاء ستتفهم خوفك وقلقك عليها.. صارحها أولًا بما في صدرك من مخاوف، ثم اقترح عليها تأجيل عقد القران حتى يتحدّد موعد العرس"
ينظر لعينيها المشعّتان يقينًا عميقًا وثقة بوجهة نظره، فيتسرب الارتياح والاطمئنان إلى صدره يغزوه ويثلجه وقد وجد من يتفهم خوفه وقلقه ويشاركه إياه، لتشق فمه ابتسامة صغيرة خفّفت من تكدّر ملامحه وهو يقول:
" ماذا كنت سأفعل من دونك؟ أنت كالبلسم الذي يداوي كل همومي.."
تتأفف بتعب وهي تتراجع بظهرها وتتكئ على الوسائد بإنهاك، تعلن بانزعاج وضيق:
" أنا أشعر أني مقيدة وهذا الحمل يشلّ كل قدراتي، فخذ أنت المبادرة وتعالى قبلني قبل أن أنام"
يضحك من تعبيرات وجهها المتذمرة بينما يميل عليها هامسًا من بين شفتيها بإغواء:
" هل تنوين إثارة مواطن شوقي واحتياجي إليك لتتركيني بعدها أتعذب بينما تخلدين أنت إلى النوم؟ هذا ليس عدلًا.."
تضحك بوهن وهي تستسلم للخدر الخفيف المتسلّل إلى أطرافها جرّاء التعب، بينما يضيف وشفتاه تلامسان فكها وأنفاسه تتشبع بعطرها:
" قبلة واحدة لن تكفيني.. أنا أحذرك.."
ترفع يدًا كسولة لتغرز أناملها في نعومة شعره بينما ترد عليه بعبوس واستياء:
" وهل تراني راضية بهذا الوضع يا لقمان؟..أنا مستاءة ومتضايقة أكثر منك.. أشعر أني مقصرة معـ.."
يقاطع استرسالها المتذمر وهو يلثم شفتيها برقة ونعومة، وينتقل إلى خديها يوزع قبلات متفرقة على بشرتها هامسًا بحب:
" لست مقصرة بشيء.. وأنا لست بليدًا خاليًا من الاحساس حتى لا ألاحظ حالتك المتعبة من الحمل..تعالي إلي سأحتضنك حتى تنامي"
ينهي كلامه وهو يتخذ مكانه بجانبها، يستلقي ويجذبها إلى صدره يغرزها بين أحضانه فتستكين للدفء المشع والمنبعث منه، فتتنهد باكتفاء وابتسامة حالمة ترتسم على شفتيها لم تمنعها من التعليق بأول شيء خطر ببالها:
" ربما عليك أن تستحم قبل أن تنام"
يضحك وهو يشدّ ذراعيه من حولها وقد فهم ما ترمي إليه قائلًا بعتاب:
" لم تكن رائحتي تزعجك سابقًا"
همهمت بالإيجاب وهي تعلن باستياء وحزن:
" كنت مولعة بها في حملي الأول.. لا أعرف ما بي يا لقمان.. أنا أكره هذا الذي يحدث معي"
" تششش.."
يهادنها بلطف وهو يطبع قبلة حارة على شعرها هامسًا بحنو:
" لست مضطرة للتفسير..أنا لست غرًا حتى لا أتفهم ما يحدث معك يا قلب لقمان.. سأتحمل نوبات جنون هذا الصغير في بطنك تمامًا كما تتحملينها..نامي الآن أنت متعبة"
***
صوت نفير السيارة يصلها وهي تهبط الدرج في اليوم التالي، فتهرول في خطواتها نحو الباب مودعة والدتها الجالسة في صحن الدار تحتسي شاي الصباح، وتخرج لتجد نجاة قد ترجلت من سيارتها تنوي طرق الباب بعد تأخرها عنها..
" لقد كنت أنوي الدخول وجرّك من غرفتك.. ما هذا التأخر؟ ألا تتغيرين أبدًا؟.."
تأففت وفاء وهي مضطرة لسماع توبيخاتها ولن تسلم منها مهما حاولت التهرب لترد عليها بخشونة:
" بل أنت من لن يتغير.. دائمًا مستعجلة تركضين.. ستقضين حياتك كلها في الركض والهرولة.. ارحمي نفسك"
تنفرج شفتا نجاة استنكارًا غير مصدقة كيف قلبت عليها وفاء الطاولة لتغدو هي المخطئة، بل وتعاني من خلل أيضًا! لتهتف بسخط:
" يا لك من مدلّلة ومزعجة.. لكني أستحق ما يحدث لي، أنا من أزعجت نفسي بالاستيقاظ باكرًا والمجيء لأقلّك.. كان علي تركك تتدبرين أمورك بنفسك"
تنفخ وفاء أنفاسها ضجرًا بينما تتجاوزها وتتجه للسيارة وهي تقول بنزق:
" وكأنك كنت ستفعلينها.. أنت تتقمصين دور أمي وتمارسين علي جانبك الأمومي المتسلط ببراعة تفوقت فيها على أمي شخصيًا.."
تقف نجاة مشدوهة مصدومة غير مصدقة وقاحة ابنة خالتها، فتستدير إليها وهي تهتف بغير تصديق:
" أقسم أني أعاني فعلًا من خلل في دماغي لأني أقف هنا وأستمع لجحودك ونكرانك للجميل.. لساني عاجز عن الرد عليك يا جاحدة"
تهز وفاء كتفيها بلا مبالاة وهي تكمل سيرها وتفتح باب السيارة..
هدير سيارة تمرّ بموازاتها وتتوقف قريبًا منها، جعلت الفتاتان تنظران مباشرة نحوها تطالعان ذاك الذي ترجل منها بهدوء ورزانة، فتلوي وفاء فمها بامتعاض وانزعاج وهي تراقب تلك الخطوات المستفزة لها، كيف تسير بثقة وغرور تمقته ويثير بها كل مشاعر النفور الممكنة..
" السلام عليكم"
يلقي جابر التحية بأنفة وتكبر بينما يقف بشموخ عنده يطالعهما من خلف نظارته السوداء، لتسارع نجاة للرد ولمحة ارتباك مهيمنة تسيطر عليها سببها حضوره الطاغي:
" وعليك السلام ورحمة الله تعالى وبركاته..كيف حالك استاذ جابر؟"
يومئ برأسه متكلفًا ابتسامة صغيرة مجاملة لها وهو يرد بنبرته الباردة:
" الحمدلله بخير.. كيف حالك أنت آنسة نجاة؟"
تبتلع ريقها وهي تومئ برأسها جاهلة تمامًا لهذا الارتباك الذي يسببه..شخصيته تفرض وجودها على من أمامه بهيبة مسيطرة..
" الحمدلله بخير، سلمت من كل شر"
يرتدّ ببصره عنها ناحيتها هي.. وفاء التي كانت تنفخ أنفاسًا ضجرة حانقة ووجودها معه في مكان واحد يتنفسان نفس الهواء يسبب لها حالة اختناق لا إرادية..
جسمها ينتفض ويقشعّر نفورًا ورفضًا وهي تسمع اسمها كيف ينطقه يغلفه بنبرة خاصة مغيضة لها:
" كيف حالك وفاء..مبارك خطبتك، أتمنى أن تحظي بالسعادة التي تستحقينها "
حاجباها ينعقدان بعبوس وهي مضطرة لرد مجاملته فتومئ برأسها تتمتم بإيجاز:
" شكرا لك.. العقبى لك إن شاء الله.."
تشمخ بذقنها عاليًا بأنفة وتعال توصل له حجم المسافات بينهما، وتستكثر عليه مجرد نظرة منها حتى لا يعكر صفو يومها وفرحتها، يدها تدفع شعرها المسترسل الطويل عن كتفها بكل عنفوان، ودون أن تكلّف نفسها عناء الاستئذان للانسحاب تندس داخل السيارة، قبل أن تعطيه الفرصة لفتح باب حديث طويل معها..
يعقّب على هروبها بتنهيدة خافتة يستغفر الله على إثرها، بينما يصله سؤال نجاة المهادن مهوِّنًا عليه فعلتها:
" هل جئت لترى خالتي؟.."
يومئ برأسه إيجابًا وهو يجيب بنبرة شجن غلفت صوته فجأة:
" جئت لأودعها.. أنا مسافر بعد غد للشمال.. تلقيت عرض عمل أفضل وسأنتقل للعيش هناك بصفة دائمة.."
تنطفئ ملامح نجاة ويكسوها لمحة حزن وتعاطف وقد تأكدت من عمق مشاعره تجاه وفاء.. هل سيرحل كليًا بسبب رفض وفاء له؟..هل انكسر قلبه ليلة أمس عندما تأكد من أنها لن تكون من نصيبه كما كان يتمنى؟..
تتعثر الكلمات من فمها وهي تحاول إيجاد شيء ترد به وتجبر بخاطره:
" أتمنى أن تحقق النجاح في عملك وتحظى بالسعادة في حياتك"
" شكرًا لك.. بعد إذنك"
ثم بهدوء وبخطواته الواثقة ينسحب ويتجه للبيت، بينما تشيّعه نجاة بنظرات أسف وأسى يتصاعد في نفسها..
تنهيدة مفعمة بالضيق والانزعاج تصدر عنها وهي تفتح الباب وتدخل للسيارة، تأخذ بضع لحظات لها مع نفسها تستجمع ثباتها قبل أن تدير المحرك وتنطلق وهي تقول لوفاء بنزق:
" سيرحل إلى مدينة أخرى بعيدة، ولن تري وجهه بعد الآن.."
تزفر وفاء أنفاسها الحانقة وهي ترد بحدة وخشونة:
" كان عليه أن يفعل هذا منذ أمد بعيد ويريحني من سماجته وغروره"
تتنهد نجاة مرة أخرى وتستغفر ربها تناضل ضد ذلك الانزعاج الذي سببه لها ردها المجحف والخالي من أي تسامح:
" لا أعرف لماذا تعادينه وتحقدين عليه بهذا الشكل؟ حقًا لا أفهم"
" ألا تفهمين حقًا يا نجاة؟ بربك!"
تستدير نحوها وفاء وقد شعّت عيناها نقمة وهي تضيف:
" ألا يكفي كل ما فعله في سبيل التفرقة بيني وبين مراد؟"
" وما الذي فعله؟ أخبرني؟ أ لأنه كان متمسكًا بك حتى آخر لحظة؟ لم يتجاوز أية حدود معك ولم يتجاوز حدود الاعراف والتقاليد.. طلبك للزواج ما إن أصبح جاهزًا له ولم يستسلم من صدك ورفضك الدائم له"
يتسع فم وفاء استنكارًا واستهجانًا وهي تسمع كلمات ابنة خالتها المدافعة عنه، كيف جاءت هادئة ومتزنة وكأنها تتحدث عن شيء منطقي ومقبول، لتهبّ في وجهها معارضة بقوة وهي تقول:
" آه لا أصدق ما تقولينه!.. هل الزواج أصبح بالاجبار؟ أخبرته أنني لا أريده.. فلماذا ظل مصرًا على نيل رضايا عن شيء لن أرضى عنه مهما طال الزمن؟ ثم كيف تقفين بصفه هكذا يا نجاة؟ لقد كان يستغل ظروف مراد ليضغط على والدتي فتضغط علي بدورها لأوافق عليه.. كيف تتحدثين عنه بهذه الطريقة وكأنه حقًا شهم وذو مروءة وهو مفتقد لها؟.."
لم تقتنع نجاة بكلامها رغم ذلك التحفز الذي تحدثت به كأنها تثبت عليه تُهمًا لا يراها غيرها، لكنها تعذرها.. قلبها ممتلئ حد التخمة بحب رجل آخر وترفض اقتراب أي منافس له ..
ترفع أصابعها تدلّك جبينها بـ إرهاق وقصة جابر معها تحزّ في نفسها كثيرًا، لتطرح سؤالًا خطر ببالها بغتة:
" لو لم يكن مراد في الساحة يا وفاء، هل كنت ستقبلين بجابر زوجًا لك؟"
سؤالها المفاجئ جمّد الاخرى وبهتت على إثره..لقد سبق وطرحت هذا السؤال على نفسها ولكنها كانت تجد دائمًا ردًا واحدًا:
" لا.."
جاءت "لا" قاطعة جعلت نجاة تنظر إليها باهتمام بينما تكمل باندفاع لحظي:
" لم أكن لأوافق عليه أبدًا.. يكفي أنه يصغرني بعام كامل، كيف تريدين مني أن أتزوج بولد غرّ أنا أكبر منه في السن؟ من منا سيكون المسؤول عن الآخر؟ أنا أم هو؟ لا شكرًا، أنا أريد رجلًا مسؤولًا ناضجًا يهتم بي ويرعاني.. فأنا كما تعلمين مدلّلة لا أجيد الاعتناء بأحد"
تطالعها نجاة بدهشة قبل أن تنفجر ضاحكة متهكمة وهي تهز برأسها بقلة حيلة بينما تردد باستهزاء:
" ولد وغرّ وغير مسؤول؟ هل أنت جادة؟ كل هذه البنية الضخمة والرجولة والنخوة التي تنضح رزانة وجدية ترينها ولدًا غرًا؟..للعلم فقط.. الرجولة لا تقاس بالعمر يا ابنة خالتي.. أنت تفهمين الحياة بشكل خاطئ، وجابر لا تنقصه أيًّا من تلك المواصفات النبيلة التي تجعل منه رجلًا مسؤولًا، ولا يقل بـ إنش واحد عن حبيبك مراد الذي يكبره بعدة أعوام، على العكس، فقد برهن على أنه شخص يعتمد عليه وقادر على انشاء عائلة.."
تستدير نحوها وفاء كليًّا تطالعها وتدقّق النظر إليها بشك وتوجس، وهي لا تفهم سبب هيئة الدفاع هذه التي شكّلتها ضدها لتدافع عن شخص لا تعرفه جيدًا، ولم تتعامل معه إلا في مناسبات قليلة، لتقول لها فجأة باندفاع أهوج:
" أرى أنه يعجبك جدًا يا نجاة، لم لا تحاولين استمالته إليك؟ أنتما تليقان ببعضكما جدًا، إنكما بنفس العمر تقريبًا، ربما يكبرك بعام أو عامين.."
تشخر نجاة ساخرة وهي تنهرها بنزق:
" اخرسي يا وفاء، وانشغلي بمشاكلك مع خطيبك ودعي مشاكل غيرك .."
ربما كانت لتتأمل من إمكانية حدوث شيء كهذا، لكنها متأكدة أن قلبه ملك لهذه الغبية التي لا تقدر كل تلك المشاعر النبيلة التي يحملها إليها..
تستدير عنها وفاء تطالع الطريق من نافذتها الجانبية والعبوس والحدة يكتسيان ملامحها المتكدرة من الاساس، لم يكن ينقصها أبدًا أن ترى جابر اليوم ليزيد من تكدرها، بعد أن تنفست الصعداء وحمدت الله كثيرًا عندما تغيب عن حضور الخطبة ليلة البارحة، وكانت تتمنى أن يستمر في حرمانها من طلّته البهية حتى تغادر الوطن كله وتسافر إلى حبيبها مراد بعد الزواج، لكن أمنيتها اندحرت في أرضها قبل تحقيقها..
" ألا يكفي أنني كنت أضربه ونحن صغار؟.. لطالما كان متخاذلًا عن الدفاع عن نفسه ويستسلم بسرعة لواقع أنني أكبر منه "
تتمتم بتجهم وعبوس كأنها تكلم نفسها بينما ترمقها نجاة بنظرة جانبية تترفع عن الرد عليها، وتكتفي بإطلاق زفراتها الحانقة والمستاءة بطريقة لا تفهمها..
حقًا مدلّلة غبية وجاحدة لدرجة لا تطاق..
***
بعد أسبوع..
في غرفة الانتظار في المستشفى كانت تجلس رفقة مراد الذي كان يحاول تبسيط الأمور وتهوينها ليخفف من حدة قلقها، بينما تجلس نجاة إلى جانبها في الجهة الثانية تؤيد كل كلمة ينطق بها مراد وتقول:
" حاولي ألا تفكري في الاسوأ يا وفاء، لقد أخبرتنا الطبيبة أنه ربما سيكون ورمًا حميدًا لا خوف منه.."
ترفع وفاء عينيها المليئتان خوفًا وقلقًا رغم كل ما سمعته لتتمتم بابتهال:
" هذا ما أتمناه.."
غير أن داخلها يغلي وما مرّت به هذا الأسبوع المنصرم كفيل بأن يزرع الرعب والخوف في نفسها كما زرعه في نفوس عائلتها ومراد.. فبعد فحص الطبيبة لها أخبرتها أن ورمها مشكوك به ويجب عمل تشريح مختبري له للتأكد..كلامها أثار القلق في نفسها وجعلها تفكر في التراجع قبل الدخول في شيء مجهول لا تعرفه.. هل ستكون حِمل سماع خبر هو بمثابة نهاية حياة بالنسبة لها؟ كيف ستتقبل أنها تحمل ذلك المرض الخبيث في جسمها دون أن تفقد صوابها؟..
جبن وتهاون تملكّاها كانت على استعداد للتراجع على إثرهما، لولا تحفيز نجاة لها ووقوفها في طريق أي تراجع أو هروب قد تفكر فيه.. أخذتها فورًا للمختبر وأجرت لها التحاليل المطلوبة للورم..تحملت نوبات بكائها وكانت الصدر الذي احتوى الوجع الذي عانته وهم يأخذون العينة من الورم ليبعثوها للتشريح..ورغم أنهم قد قاموا بتخدير موضعي للمكان الذي أخذت منه العينة لكن الألم والوجع كان مصاحبًا له وخاصة بعد زوال مفعول التخدير ..ثم جاء بعد ذلك جحيم الانتظار والترقب.. أسبوع كامل من حرق الاعصاب والتفكير في اسوأ الاحتمالات والسيناريوهات..وجهل تام بحيثيات وكيفية التعامل مع المرض إذا ما حدث وتأكد وجوده..لم تكن تملك أية خلفية عن رحلة علاجاته ونسب النجاة منه.. كان كل ما تعرفه وما يصلها عنه أنه مرض خبيث فتّاك يقضي على صاحبه ولا أمل له بالشفاء منه..
أسبوع كامل كان المدة التي سيستغرقها الفحص والتشريح ونتيجته لن تظهر قبل مضيه..وها هي جالسة تنتظر كأنما يأبى هذا الانتظار أن يرحمها..
***
ينزوي في نقطة بعيدة نسبيًا متخفيًا عن الأعين يراقب الباب الذي دخلت إليه قبل دقائق رفقة خطيبها ونجاة..ملامحه المكفهرة بقتامة تحكي مشاعر حنق عارم متضاربة بداخله ..كانت حالتها الشبه محطمة تتمسك بجلد وثبات لا تملكه قد أثارت في نفسه رغبة ملحة في تحطيم كل تلك الحواجز التي تضعها بينها وبينه..كيف يستطيع الوقوف هنا مكانه يراقب خوفها وقلقها يكادان يفتكان بها وهو عاجز عن التخفيف عنها..تنفيه بعيدًا عن محيطها وهو مستسلم لنفيها الجائر له..اللعنة عليه وعلى قلبه الاخرق هذا الذي يسحبه قسرًا نحوها دائمًا.. كيف واتته الجرأة أن يأتي بنفسه ويطمئن على نتائج تحاليلها؟ وكان من الممكن أن يتصادم مع خطيبها ولن يتوانى هذا الاخير عن افتعال مشكلة لإثبات قوته وأحقيته بها..كيف يسمح لمشاعره أن تحركه بهذا الشكل وتجعله يتخلى عن كل منطق في سبيل الاطمئنان عليها؟..
يهبّ معتدلًا في وقفته وهو يلمح الباب يفتح وتخرج منه نجاة تسند وفاء المنهارة على كتفها تبكي بحرقة وقهر، بينما يتبعهما خطيبها بوجهه الشاحب مبهوتًا مذهولًا كأنما لا يعي أي شيء حوله، حتى أنه لم يرى استنجاد نجاة به ليحاول معها تهدئة تلك المنهارة بين ذراعيها..
جسده المشحون انفعالًا يتحفز وينتفض مبارحًا مكانه ليتقصّى ما حدث، لكنه عاد وتراجع وقد شعرها خطوة متهورة جدًا لن يؤيده فيها أي شخص من عائلته، ليلمح نجاة في تلك اللحظة تسحب وفاء معها إلى أحد المقاعد وتجلسها عليه ثم تقول شيئًا لمراد قبل أن تهرول مبتعدة..
وهنا استغل الفرصة ولحق بها إلى آلة بيع المشروبات حيث اقتنت قنينة مياه لتأخذها إليها.. شهقة فزع ودهشة تصدر عنها عندما رأته ماثلًا أمامها قاطعًا عليها الطريق بملامحه القاتمة وعيناه يعصف بهما القلق فتبوحان بالكثير..
تزدرد ريقها تحاول التحكم بتسارع أنفاسها من المفاجأة لتسأله بذهول:
" أهذا أنت حقًا؟ ماذا تفعل هنا؟ ألم تقل أنك مسافر؟"
يرفع يده يغرز أصابعه في شعره المشعث ولم تكن تلك المرة الاولى التي يقوم فيها بتلك الحركة، ليرد بوجوم واقتضاب:
" أجّلت سفري.."
ثم أضاف وعيناه تشتدّان قتامة:
" ما بها وفاء؟..ماذا كانت نتيجة التحاليل"
" ألهذا أجّلت سفرك؟..لتطمئن عليها؟"
تسأله مباشرة تواجهه فلم يتأثر بنظرات الاتهام المرتسمة في عينيها، دون أن يؤكد سؤالها كما أنه لم يحاول نفيه..
تطلق نجاة نفسًا منهكًا وحالة هذين الاثنين تستنزف قواها كليًا..لا تصدق أنه قد أجل سفره من أجل الاطمئنان على نتيجة التشريح.. ألهذه الدرجة قلبه متعلق بها؟..
" أنت تعلم أن تواجدك هنا لا يجوز.. لسنا بحاجة لصدامات ومواجهات لا تجدي ولا تنفع أحدًا في شيء.."
" فقط أخبريني ما بها وفاء؟ لماذا كانت تبكي؟"
يقاطع استرسالها في تأنيبها المبطن وعيناه تعكسان صرامة وحزمًا، تخبرانها أنه لن يتقهقر الآن قبل أن يطمئن..
ترفع أصابعها تدفع غرتها عن جبينها وتفركه بتعب وقنوط وقالت:
" نتيجة التشريح جاءت إيجابية.."
ألقت كلماتها تدعي الهدوء فلن تملك التصرف إذا ما أثارت حفيظته بتهويلها للأمور..
ليطالعها باهتمام وتقطيبته الواجمة على جبينه تحكي عدم استيعابه لمقصدها:
" إيجابية؟..ماذا يعني هذا؟.."
تطلق أنفاسها بتنهيدة مفعمة بالضيق والقهر، وطبيعة عملها تحتم عليها البقاء محتفظة بثباتها فلا فائدة من انهيارها:
" تم تشخيص حالتها على أنها سرطان في الثدي، ولك أن تتخيل حالتها كيف ستكون.. البكاء والانهيار الآن أبسط شيء قد تمر به.."
تحجر كامل استولى على ملامحه بينما اختفى اللون من وجهه وبات قاتمًا بتهديد مرعب.. عيناه تراقصتا بصدمة متجلية قرأت فيهما تحفزًا وتهورًا ردعتهما فورًا وهي توصيه بحزم وقوة:
" إياك أن تحاول الاقتراب منها الآن..خطيبها هنا والموقف لن يتحمل أي فضيحة.. فرجاء غادر المشفى قبل أن يلاحظ أحد وجودك.."
ثم رمقته بنظرة أخيرة شاملة تقرأ وقع الخبر الصادم على كل إنش فيه، قبل أن تهز برأسها يأسًا ويقينها يترسخ أكثر وأكثر أن هذا الشخص أمامها وفيّ لمشاعره.. إذا أحب.. أحب بصدق وبكل عنفوان الرجولة والشهامة..واستفحل حبه عشقًا يذوي به داخليًا حتى يفنيه..


سعيدة أنير غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس