الفصل السابع عشر
•معطف
من
أمان•
تحرك ريبال بسيارة سند التي هرست الأرض أسفلها وصولًا إلى الشارع الذي امتدت الأدخنة فيه وحجبت الأفق. اندفع سند خلفه يشجان الحشود المكتظة بالصراخ، ركض سلطان القاضي بصحبتهم وأوقف شابًا يملأ دلوًا ضخمًا من الماء، لهث سلطان يسأله:
-هل هناك أناس في الداخل؟
ترك ريبال الوقوف عن الإجابة وخطا نحو بوابة العطارة فيما استلم كمامةً من سند الذي هتف بحذر وهو يتجنب خرطومًا ضخمًا من المياه سلّطه أحد الشبان نحو السقف العلوي:
-لا أحد في الداخل يقول عيسى الحمصي.
رشق شابًا طنجرة ضخمة من المياه وصحح له:
-لا.. لا يوجد الآن سوى ابنة نجيب آرام، فوالدها استطاع الخروج من السَّقف العلوي.
تقطعت كلمات الشَّاب مع سُعاله فأخبرهم:
-دخل البعض لجلبها، هي غير موجودة في الصالة الأمامية.
شجَّ ريبال الطريق المفتوح وهرول سند خلفه، ارتطما بالناس التي تطفئ النيران التي همدت في صالة استقبال الزبائن، وتعبأت صدورهم بالأدخنة الفائرة التي غطّت المكان، تجاوزا الصالة بأكملها ووصلا الممر المشتعل الذي تعمل الناس على إطفائه، هرع رجل من الداخل يتجنب الزيوت التي تتزلج أقدامهم عليها، وأنجدهما:
-البنت في الغرفة الداخلية ويصعب الدخول إليها.
زفر ريبال بصعوبة وسارت خطواته حذرة بطيئة حتى وصل مقدمة الرواق الذي يربط الغرف الداخلية، جانبه سند الذي رأى الأمر صعبًا:
-رباه، كيف وصلت إلى هنا؟ الدخول خطر يا رجل.
تداعت أصوات الجميع وأنجزوا قدرًا من الرواق، دارت عينا ريبال بمخاطرة، وأوجز كل الحلول الممكنة والنيران تلتهم المكان حتى تعطّل شيء فيه مع وصول أنين خافت مستنجد. انضم قلبه إلى رجّة مهولة كادت تسحق عقله الذي كثّف الحلول برفقة سند الذي أخرجه لمكان يستطيعان التنفس فيه. اقترح عليه سند ومهند يصل لتّوه.
-دعونا نفتح الجدار الخاص بالغرفة من خلف المبنى ونسحبها.
أيَّد الجميع الفكرة وريبال يتحقق من شيء ما، أخيرًا أفرجت شفتاه سؤالًا بصوت أبحّ:
-هناك نافذة طويلة بالغرفة كما أذكر، هل ما زالت موجودة؟
تخبط مهند ومسح خصلاته بتوتر:
-أجل، أجل ما زالت موجودة.
سريعًا ما تبادل سند نظرة معه في حيز التنفيذ، وافترّ عن مخططه:
-نخلع النافذة ونخرج الفتاة.
ألقى ريبال نظرة نحو نجيب الممدد على كرسي، تخطاه فيما يفر من المكان مع بعض الشبان الذين قصدوا محل الفرج للعدة، وسحبوا فؤوسًا ومجموعة مهدّات للحفر والهدّ، وأمر القائمين على رش المياه أن يسلطوها على الغرفة المقصودة. شمّر سند عن بنيته العضلية والتفوا خلف العطارة من الشارع الخلفي وتسلقوا المكان بفضل سطح حمام ودواجن لإحدى محال الدجاج، باتت الغرفة بمحاذاة السطح الذين يقفون عليه، أوقفهم أحدهم:
-شباب لا يوجد أبدًا أي حسّ، أخشى أن يكون عملنا بلا جدوى.
كزَّ سند على أسنانه وهدر فيه فيما خلع ريبال سترته البولو وربطها بذراعه:
-هذا إن دلَّ على شيء، فهو أن نسرع وننقذ الفتاة يا رجل.
كان مكان الهدم محددًا إطار النافذة، تسلق ريبال وفكَّ داعمها الفوقي وثبت قدميه في حالة ركوع على الرافعة الإسمنتية لمعاينة القضبان، هجم يزن من العدم وتسلق جانب سند في فكّ الداعم الحديدي مع ضخ الحفر حتى تشققت وانفكت أول دعامة منه وارتدت مما سهَّل على البقية فك الثانية متحاملين على الأدخنة التي تفور وتسحب كل أنفاسهم، انشقت الدعامة الثانية فقفز ريبال بعيدًا عنها حين انفكت الثالثة وتدلت بشكل جزئي عن الحائط، ركعوا أخيرًا فيما تصلب جسد ريبال حين حاول يزن التسلل وأمره بصوت غليظ:
-ساعد سند وأنا سأسحبها.
زأر سند فيما يسحب الدعامة كاملة وخلفه الشباب الذين شدّوا عليه، زاحم ريبال الذي اتكأ على النافذة السوداء وعاين المكان:
-لقد وجدتها.
انزلق ريبال من فوره ومدّ ساقه لأسفل وألحقها بالأخرى، استكان جسدها في إغماضة على الأرضية أسفله بلا مؤشرات حيوية وقد عشش الدخان في كل زاوية من حجرات جسدها، تخطى الطاولة المشحمة بالكامل وقفز حتى بات فوقها، رمقها من علو وأخذ وقته في نظرة متأنية طالت عن حدّ الطوارئ واندمجت في السلامة، سكن في وجهه تعبير إجرامي وهو يركع على ركبتيه وينتشل جسدها كله في حركة واحدة. ارتج ثباته في ومضة جسدية خطرة وازنها بلمح البصر ورفع بصره لسند الذي مدّ ذراعيه كي يتناولها فتراجع سند حين احتشد رفض صريح في عيني ريبال:
-الأمر أشبه بمجازفة.
-الغرفة شبه مطفأة، اخرج بها من فورك.
تدلت كريشة خفيفة بين ذراعيه ينثر أنينها المتواضع نفحات مطمئنة مع حربها ضد صدرها الذي يطلق أنفاسه قصيرة متقطعة. تجمّد فكّه على وجهها المختلط بالزيوت والأدخنة، طالت نظراته عينيها وأهدابها الناجية من اللهب وملامحها النائمة هربًا، وارتطمت بذراعيها الموبوءة بالبقع الحمراء وجسدها الملفوف بمنامة بيتية فوقها وشاح التهمت النيران جزءًا لا يستهان به منه، قلّب جسدها بسهولة وأزاح الوشاح وأسقط السترة من ذراعه ورماها فوق خصرها. شد جسدها وانشق في الغرفة بحذر مع كل خطوة معرضة لمزلاج الزيوت. وتحرك مع أصوات الجميع الذين هتفوا:
-الدفاع المدني وصل، الدفاع المدني وصل.
اجتاز الممر بسهولة وساعده الناس في الانخراط بيسر على الأرض حيث رموا جوالات النسيج السالم أسفله كيلا يتعثر. نجت أخيرًا حين وصل بها الباب، اشتدت خطواته مع فتح جفنيها اللذين طالعانه وعادا للسكون من جديد، اهتز في صدره شيء أقوى، حاول هزّها لتستفيق وآذاه أن استسلمت للهرب ثانية. لم يدر بنفَسه الذي اخشوشن وتعالى مع حركتها الطفيفة، فأوقعت ثباته في حالة من الشد والجذب حتى أغرقها في حمالة الدفاع المدني الذين استلموها منه وسحبوها إليهم برفقة والدها.
انسحب من المكان بذراعيين فارغتين يطالع علب الأكسجين التي تم ربط وجهي الناجيين بواسطتها. خلع الكمامة عن وجهه ورماها أسفله فيما تنطلق سيارة الإسعاف من المكان وسند يجاوره بإنهاك وقميصه مشقق والحروف تسقط عن شفتيه:
-أقسم أن مهند هو السبب خلف ذلك. |