عرض مشاركة واحدة
قديم 21-12-09, 06:16 PM   #3

جيرمون111

? العضوٌ??? » 104307
?  التسِجيلٌ » Dec 2009
? مشَارَ?اتْي » 112
?  نُقآطِيْ » جيرمون111 is on a distinguished road
افتراضي

الفصل السادس
الآنسة هافيشام

حين كبرت , عُهد بي إلى جو للتدرب لديه , وحتى ذلك الحين كنت غريباً في دكان الحداد , وعلاوة على ذلك , فكلما احتاج الجيران إلى صبي إضافي لتخويف الطيور أو جمع الحصى أو القيام بمثل هذه المهام , كان الاختيار من نصيبي على الدوام .
خلال هذه الفترة , كنت أحضر مدرسة ليلية تديرها عمة والد السيد ووبسيل . كان لها أسلوب غريب في التعليم , إذ كان من عادتها أن تذهب للنوم من السادسة حتى السابعة كل مساء , فتترك التلاميذ يجتهدون بمراقبتها وهي تفعل ذلك .
إضافة إلى هذه المؤسسة التربوية , كان لدى العمة ـ في نفس الغرفة ـ دكان عام صغير . لم تكن لديها فكرة عما لديها في الدكان من بضاعة , أو عن أسعار السلع في الدكان , بل هناك سجل ملوث بالزيت , تحتفظ به في أحد الأدراج وتستخدمه كدليل للأسعار , فكانت بيدي , لاتي تربطها قرابة بعيدة بالسيد ووبسيل ؛ تستعين به لتدبير كافة عمليات الدكان . كانت يتيمة مثلي . وكمثل حالي قد أنشئت على اليد .
وبمعونة بيدي , أكثر من معونة يد عمة والد السيد ووبسيل,مررت في كفاح مع الأحرف الأبجدية , ولقيت القلق الشديد من كل حرف . لكنني بدأت في النهاية , بطريقة عشوائية عمياء , أقرأ وأكتب وأحسب على أقل المستويات .
لم يسبق لجو أن ذهب للمدرسة في طفولته . وفي إحدى الأمسيات , فيما كنا جالسين سوياً قرب النار , كتبت له رسالة على لوح حجري قدمته له . ورغم أنه لم يستطع أن يقرأ سوى اسمه , قال إنني عالم كبير , وأفصح عن إعجابه بما لدي من علم ومعرفة . ثم أخبرني عن فترة من تاريخ حياته . فقد كان والده مدمناً على الشراب , وغالباً ما كان يضرب جو ووالدته , وقد هربا منه عدة مرات , وكان عليهما العمل لكسب قوتهما , لكنه كان يعيدهما إليه في كل مرة . كان على جو العمل حداداً مكان والده الكسول , وأعال والده إلى أن وافته المنية , وما لبثت والدته أن لحقت بزوجها .
ثم تعرف جو إلى شقيقتي وطلب يدها للزواج , ورجاها أن تحضرني معها إلى المنزل , قاءلاً إن هناك مكاناً يتسع لي في دكانه . وقال جو في ختام روايته : " فأنت عترى يا بيب , ها نحن الآن ! فحين تساعدني في التعلم يابيب ( وأخبرك سلفاً بأنني بليد للغاية ) , لا ينبغي أن تلاحظ السيدة جو ما نقوم به . بل ينبغي أن يتم ذلك , إذا جاز لي القول , في الخفاء . ذلك أن شقيقتك تحب التحكم , ولن تقبل بوجود مثقفين في البيت ,ولن ترضى على الأخص أن أصبح مثقفاً , خشية أن أقف في وجهها ."
كدت أسأله " لماذا " حين قاطعني جو قائلاً : " تمهل قليلاً , أعرف ما ستقوله , تريد أن تعرف لماذا لا أقف في وجهها . حسناً , إن لشقيقتك عقلاً فذاً , لكنني لست كذلك . إضافة إلى ذلك يا بيب , إنني أرى كثيراً في والدتي المسكينة كامرأة تستبعد وتحطم قلبها الشريف دون أن تحصل على قدر من الطمأنينة في حياتها , حتى إنني أخشى أن أخطئ بعدم انتهاج ما تراه المرأة صحيحاً . وأفضل كثيراً أن أعاني شخصياً من التضايق بعض الشيء . حبذا لو أنني بمفردي أعاني من ذلك , حبذا لو لم يكن هناك إزعاج لك يا صديقي , ليتني أستطيع تحمل الأمر كله بنفسي , لكن هذا هو الحال يا بيب . آمل أن تتغاضى عن العيوب . "
رغم صغر سني , أظن أنني سجلت تقديراً جديداً لجو ابتداءً من تلك الليلة .
كانت السيدة جو تقوم بالتجول مع العم بامبلتشوك أيام التسوق لمساعدته في شراء حلجات المنزل التي تتطلب حكمة المرأة . كان ذلك يوم التسوق , وقد خرجت السيدة جو في إحدى هذه الجولات .
وها قد وصلا . قالت السيدة جو : " والآن . " وهي تخلع أغطيتها بسرعة وشيء من الإثارة , فتلقي بقبعتها إلى الوراء على كتفيها حيث تتدلى بسلاسل . " إن لم يكن هذا الفتى , شكوراً هذه الليلة , فلن يكون كذلك أبداً . "
بدوت شكوراً بأفضل ما يستطيعه فتىً , دون أن يعلم بعد لِم يجب أن يكون كذلك .
فقالت شقيقتي : " لنأمل فقط ألا يطاله الفساد , لكن لدي مخاوفي . "
قال السيد بامبلتشوك : " من غير المحتمل أنها ستفسده , سيدتي . فهي تعرف أكثر . "
هي ! نظرت إلى جو وأنا أحرك شفتي وحاجبي متسائلاً , " هي ؟ " فنظر جو إلي وهو يحرك شفتيه وحاجبيه .
قالت السيدة جو بطريقتها الفظة : " حسناً , بماذا تحدقان ؟ هل المنزل يحترق ؟ "
فأشار جو بأدب قائلاً : " هناك شخص ما ـ ذكرها . "
فقالت زوجته : " وهي هي , على ما أعتقد ! إلا إذا كنت تدعو الآنسة هافيشام هو . وأشك أنك ستذهب إلى هذا الحد . "
قال جو : " الآنسة هافيشام في المدينة ؟ "
قالت شقيقتي : " وهل يوجد في المدينة آنسة هافيشام؟إنها تريد من هذا الفتى أن يذهب ويلعب هناك . ولا شك سيذهب . فالأفضل له أن يلعب هناك . " وأضافت وهي تهز رأسها لي تشجعني أن أكون خفيفاً ورياضياً : " وإلا فسأتدبر أمره . " ... كنت قد سمعت أن الآنسة هافيشام في المدينة ـ والجميع على بعد أميال سمعوا أن الآنسة هافيشام في المدينة ـ سيدة في غاية الثراء والحزم , تعيش في منزل فخم كئيب وتحيا حياة منفردة .
فقال جو مندهشاً : " حسناً , أستغرب كيف لها أن تعرف بيب ! "
صاحت شقيقتي : " أيها الأحمق ! ومن قال إنها تعرفه ؟ "
أشار جو بأدب ثانية : " هناك من ذكر أنها تريده أن يذهب ويلعب هناك . "
" ألا يمكنها أن تسأل العم بامبلتشوك إذا كان يعرف فتى ليذهب ويلعب هناك ؟ ألا يحتمل أن يكون العم بامبلتشوك مستأجراً لديها , وأنه يذهب إلى هناك أحياناً لتسديد إيجاره ؟ وألا يستطيع العم بامبلتشوك , كونه طيباً تجاهنا دائماً ,أن يتكلم عن هذا الفتى الذي كنت منذ زمن خادمة مطيعة له؟ "
فصاح العم بامبلتشوك : ط أحسنت ثانية , أسلوب جيد . حسناً عبرت ! جيد حقاً ! والآن يا جوزيف فإنك تعلم بالأمر . "
فقالت شقيقتي : " كلا يا جوزيف , فأنت لا تعلم أن العم بامبلتشوك , علماً منه أن مستقبل الفتى سيتحقق بذهابه إلى الآنسة هافيشام , قد عرض أن يأخذه إلى المدينة هذه الليلة , وفي عربته الخاصة , وأن يستبقيه لديه هذه الليلة ثم يأخذه إلى بيت الآنسة هافيشام في الصباح التالي . "
بعد أن أوضحت هذا , أمسكت بي فجأة , فوضعت رأسي تحت حنفيه وغسلت رأسي بالصابون , ونشفتني حتى بدوت غير نفسي . ثم ألبستني ثياباً نظيفة من أجمد الأنواع , ثم ارتديت أضيق بذلاتي , وعُهد بي إلى السيد بامبلتشوك الذي ألقى علي خطاباً كنت أعلم أنه يحترق لإلقائه : " يا بني , كن مستحباً أبداً للأصدقاء , وخاصة الذين أنشؤوك على أيديهم . "
قلت : " وداعاً يا جو . "
" ليباركك الله يا بيب , أيها الصديق القديم . "
لم يسبق أن افترقت عنه من قبل , وماذا بشأن مشاعري وماذا بشأن رغوة الصابون , ولم أستطع رؤية نجمة من خلال العربة المكشوفة . لكنها راحت تلمع واحدة إثر أخرى , دون أن تلقي ضوءاً على التسائل : لماذا بالله أنا ذاهب لألعب عند الآنسة هافيشام , وماذا تراني ألعب ...


الفصل السابع
زيارات المذلة

تناولت الفطور مع السيد بامبلتشوك عند الساعة الثامنة في الرواق خلف دكانه , وعند العاشرة , توجهنا إلى بيت الآنسة هافيشام ووصلناه بعد ربع ساعة . كان منزلاً قرميدياً كئيباً , فيه الكثير من القضبان الحديدية , وقد سُدّت بعض النوافذ , أما النوافذ الباقية , فقد أحاطت القضبان الصدئة بالمنخفض منها . وكانت هناك ساحة أمامية مسيجة , فكان علينا الإنتظار بعد قرع الجرس ليأتي من يفتح لنا . وفيما كنا ننتظر أمام البوابة , استرقت النظر ورأيت أن إلى جانب المنزل مصنع كبير للجعة .
فُتحت نافذة ونادى أحدهم بصوت واضح يسأل : " ما الاسم ؟ "
أجاب دليلي : " بامبلتشوك . "
فقال الصوت : " بالتمام ؟ "
أُغلقت النافذة ثانية , وجاءت صبية عبر الساحة تحمل مفتاحاً بيدها . فقال بامبلتشوك : " هذا هو بيب . "
رددت الصبية بالقول : " هذا هو بيب , أليس كذلك ؟ "
كان السيد بامبلتشوك يدخل البوابة عندما اعترضته بالبوابة وقالت : " هل تريد أن تقابل الآنسة هافيشام ؟ "
أجاب بامبلتشوك : " إذا كانت الآنسة هافيشام تريد مقابلتي . "
قالت الفتاة : " آه , لكنك ترى أنها لا ترغب في ذلك . "
قالتها بحزم , حتى أن السيد بامبلتشوك لم يتسنى له الاحتجاج . لكنه رماني بنظرة حادة - وكأنني اقترفت شيئاً بحقه - ثم رحل وهو يقول : " أيها الفتى ! ليكن مسلكك مفخرة لمن أنشؤوك على أيديهم . "
أقفلت الصبية البوابة , وذهبنا عبر الساحة . كانت مرصوفة ونظيفة , لكن العشب كان ينمو بين الحجارة . أما أبنية مصنع الجعة فقد كانت مشرعة , وجميعها خالية ومهملة .
رأتني أنظر إلى المصنع , فقالت : " بإمكانك أن تشرب جميع أنواع الجعة التي تصنع هناك دون أن يصيبك ضرر أيها الفتى . "
قلت بشيء من الحياء : " أظن باستطاعتي ذلك سيدتي . "
" يفضل ألا تخمّر الجعة هناك الآن , وإلا فسدت , ألا تعتقد ذلك أيها الفتى ؟ "
" يبدو الأمر كذلك سيدتي . "
أضافت تقول : " ليس بمعنى أن يحق لأي إنسان المحاولة . فقد توقف كل ذلك , وسيبقى المصنع متوقفاً كما هو الآن , إلى أن ينهار . أما بالنسبة للجعة المركزة , فهناك منها في الأقبية ما يكفي لإغراق المزرعة . "
" هل هذا هو اسم المنزل سيدتي ؟ "
" أحد أسمائه أيها الفتى . "
وهل له أكثر من اسم سيدتي ؟ "
" اسم آخر . إنه ساتيس , وهو يعني باليونانية أو اللاتينية كافٍ . "
فقلت : " بيت كافٍ ! اسم غريب سيدتي . "
أجابت : " أجل , لكنه يعني أكثر مما يبدو . يعني أنه متى يتم تركه , فالذي يملكه بلن يحتاج لشيء آخر . لابد أنه كان يسهل إرضاؤهم في تلك الأيام على ما أعتقد , لكن لا تتلكأ أيها الفتى . "
رغم أنها كانت تدعوني (( فتى )) , مراراً ودون أي اكتراث , فقد كانت في مثل سني تقريباً . بدت أكبر مني بكثير طبعاً كونها فتاة جميلة تفاخر بنفسها . كانت تهزأ بي وكأنها في الواحدة والعشرين من عمرها , وكأنها ملكة .
دخلنا المنزل من باب جانبي , وأول ما لاحظته هو أن جميع الممرات مظلمة , وأنها تركت شمعة مضاءةً هناك . فتناولتْها وسارت في المزيد من الممرات ثم صعدنا درجاً كان بدوره شديد الظلمة , ولم تنر طريقنا سوى تلك الشمعة . في نهاية المطاف وصلنا باب غرفة , فقالت : " أدخل . "
ثم رحلت والشمعة معها .
أزعجني ذلك كثيراً وانتابني شيء من الخوف . لكنني قرعت الباب , فأوعز إلي صوت من الغرفة بأن أدخل . دخلت ووجدت نفسي في غرفة فسيحة تفيض بأنوار الشموع . لم يكن فيها أثر لضوء النهار . كانت هناك طاولة أنيقة للتجميل , وفي كرسي وثين تجلس أغرب امرأة رأيتها أو يمكن أن أراها في حياتي , وقد أراحت بكوعها وأناخت برأسها على تلك اليد .
كانت ترتدي ثياباً فاخرة كلها بيضاء , وكان حذاءها أبيض اللون , ويتدلى على شعرها غطاء طويل أبيض , وقد غرست في شعرها أزهاراً عرائسية , لكن شعرها كان أبيضاً . كانت بعض الجواهر المتلألئة تلمع حول عنقها ويديها , فيما كانت بعض الجواهر الأخرى تتلألأ على الطاولة . لم تكن قد انتهت من اللبس بعد , إذ لم تكن في قدمها سوى فردة حذاء واحد ـ فالأخرى كانت على الطاولة قرب يدها ـ ولم ترتد سلسلتها وساعتها بعد .
كل شيء حولي , مما يفترض أن يكون أبيض اللون , كان أبيضاً منذ زمن بعيد . وقد فقد بهجته , فبُهت واصفر لونه . العروس في ثوب العرس كانت ذابلة كثوبها , ولم يبق فيها بريق سوى بريق عينيها الغائرتين . كانت كتمثال شمع أو هيكل عظمي شاحب . نظرت إلي , وكنت سأصرخ لو استطعت ذلك .
قالت : " من هناك ؟ "
" بيب , سيدتي . "
" بيب ؟ "
" صبي السيد بامبلتشوك , سيدتي . جئت ـ لألعب . "
" اقترب , دعني أنظر إليك . اقترب أكثر . "
عندمل وقفت أمامها متجنباً نظراتها , لاحظت الأشياء المجاورة بالتفصيل , فوجدت أن ساعتها متوقفة عند التاسعة إلا ثلثاً . وأن ساعة الحائط كذلك متوقفة عند التاسعة إلا ثلثاً .
قالت الآنسة هافيشام : " انظر إلي , هل تخاف من امرأة لم تر الشمس منذ ولادتها ؟ "
أجيتها قائلاً : " كلا . " لكنها كانت كذبة .
" هل تعرف ما ألمس هنا ؟ "
" أجل , سيدتي . "
" ماذا ألمس ؟ "
" قلبك . "
" محطم . "
" نطقت الكلمة بنظرة شوق , ونبرة حازمة , وابتسامة غريبة بها شيء من المباهاة.
قالت الآنسة هافيشام : " إني متعبة وأريد شيئاً يسليني . لقد سئمت الرجال والنساء . إلعب . لدي هوى عليل في أن أرى البعض يلعب , هيا , هيا . "
وأشارت بأصابعها بتبرّم : " العب , العب . "
وقفت أنظر إلى الآنسة هافيشام في موقف أعتقد أنها اعتبرته أسلوباً معانداً . فقالت : " هل أنت حرون وعنيد ؟ "
" كلا , إني في غاية الأسف تجاهك , وآسف كثيراً لأنني لا أستطيع اللعب الآن . إن تذمّرت مني , سأقع في مشكلة مع شقيقتي . لذا سأفعل ذلك إن استطعت . لكن المكان هنا غير مألوف وغريب جداً . كما أنه في غاية الرهافة والكآبة . "
فتمتمت قائلة : " جديد للغاية بالنسبة له , وقديم للغاية بالنسبة لي . غريب جداً بالنسبة له , ومألوف جداً بالنسبة لي . وحزين للغاية بالنسبة لكلينا ! نادي على استيلا , نادي على استيلا عند الباب . "
فعلت ذلك , وعندما أتت هذه أشارت لها الآنسة هافيشام بأن تقترب . فتناولت جوهرة من على الطاولة لتجربها على صدرها الفتيّ الجميل قبالة شعرها البني اللطيف .
" ستكون لك ذات يوم يا عزيزتي , وستستخدمينها جيداً . دعيني أراك تلعبين الورق مع هذا الفتى . "
" مع هذا الفتى ! كيف ذلك , إنه فتى عامل عاميّ . "
أظن أنني سمعت جواب الآنسة هافيشام ـ لكنه بدا مقيتاً ـ " ماذا ؟ يمكنك تحطيم فؤاده ! "
فسألتني استيلا بازدراء بالغ : " ماذا تلعب أيها الفتى ؟ "
لا شيء سوى لعبة المتسوّل يا سيدتي . "
قالت الآنسة هافيشام لاستيلا : " افقريه . "
وهكذا جلسنا للعب الورق .
وفيما كانت استيلا توزع الورق , أومأت بنظرة ثانية إلى طاولة التجميل ورأيت أن الحذاء الذي عليها بات أصفر اللون بعد أن كان أبيضاً فيما مضى , ولم يرتده أحد . نظرت إلى القدم التي كانت بدون حذاء , فرأيت أن الجورب الذي يغطيها بات أصفر اللون بعد أن كان أبيضاً , فيما مضى وأصبح مهترئاً من كثرة الاستهلاك . قالت استيلا بازدراء قبل أن تنتهي من الدور الأول : " إنه يسمي ورقة الجندي شب , هذا الفتى ! تباً ليديه الخشنتين وحذاءه الغليظ ! "
لم يخطر لي أبداً أن أخجل من يدي من قبل ؛ لكنني بدأت أعتبرهما يدين كريهتين . كان احتقارها شديداً لدرجة أنه كان معدياً فاتقطته .
فازت بالدور , فقمت بتوزيع الورق . أخفقت في التوزيع , وكان ذلك طبيعياً , لعلمي أنها كانت تتربص لإخفاقي ودعتني بالفتى العامل الأحمق المرتبك .
توجهت إلى الآنسة هافيشام بالقول فيما كانت تراقبنا : " لم تقل عنها شيء , إنها تقول عنك أشياء جارحة , لكنك لا تقول عنها شيئاً . فما هو رأيك فيها ؟ "
فقلت متلعثماً : " لا أرغب في القول . "
قالت الآنسة هافيشام وهي تنحني : " اهمس في أذني . "
فأجبت هامساً " أعتقد أنها مغرورة . ط
" هل من مزيد ؟ "
" أعتقد أنها قاسية في التحقير . "
" هل من مزيد ؟ "
" أظن أنني أرغب بالعودة إلى البيت . "
" وأن لا تراها ثانية , رغم جمالها الفائق ؟ "
" لست متأكداً من أنني لا أريد رؤيتها ثانية , لكنني أود أن أعود للبيت الآن . "
ثم قالت الآنسة هافيشام بصوت مرتفع : " ستذهب بعد قليل , والآن أكمل اللعب . "
أكملت اللعب مع استيلا فهزمتني.ألقت بالورق على الطاولة بعدما فازت بها جميعاً, وكأنها تحتقر الورق بعدما كسبته مني . وتساءلت الآنسة هافيشام : " متى ستأتي ثانية ؟ دعني أفكر . عُد بعد ستة أيام . استيلا , خذيه إلى الطابق السفلي وقدمي له شيئاً يأكله . اذهب يا بيب . "
نزلت استيلا أمامي إلى الطابق الأسفل وهي تحمل شمعة , وحين فتحت البوابة الجانبية , أزعجني ضوء النهار المتوهج . فقالت : " انتظر هنا أيها الفتى . " ثم توارت وأغلقت الباب , وفيما أنا لوحدي في الساحة , نظرت إلى يدي الخشنتين وإلى حذائي الغليظ . لم يسبق أن تسببا بالإزعاج لي فيما مضى , لكنهما باتا مصدر إزعاج الآن . تمنيت لو أن جو نشأ على تربية ألطف , فأنشأ حين ذاك مثله .
عادت الفتاة بشيء من الخبز واللحم وإبريق صغر من الجعة . وضعت الإبريق على الأرض وأعطتني الخبز واللحم دون أن تنظر إلي , بما ينم عن بالغ الازدراء وكأنني كل حقير . شعرت بمذلة شديدة اغرورقت معها الدموع في عينيّ . رمقتني بنظرة فرح لأنها تمكنت من دفعي للبكاء . ثم انصرفت عني .
حين ذهبت , نظرت حولي أبحث عن مكان أخبئ فيه وجهي . وتواريت خلف أحد بوابات مصنع الجعة ورحت أبكي . في نهاية الأمر مسحت وجهي بكمي وخرجت من خلف البوارة . كان الخبز واللحم مقبولين وأثارت الجعة فيّ بعض الدفء .
وما لبثت أن جاءت تحمل المفاتيح لكي تفتح الباب. فتحت البوابة ووقفت تمسك بها. كنت أخرج من البوابة دون أن أنظر إليها حين لمستني تسأل : " لماذا لا تبكي ؟ "
" لأنني لا أريد ذلك . "
فقالت : " بلى . لقد كنت تبكي حتى غشي بصرك . وإنك الآن على وشك البكاء . "
ضحكت بازدراء ودفعتني إلى الخارج , ثم أقفلت البوابة خلفي . سرت إلى البيت في غمٍّ شديد وأنا أفكر بكل ما رأيت , وقد أدركت بالفعل أنني مجرد عامل عاميّ .




الفصل الثامن
المركبة المخملية

عندما وصلت إلى البيت , كانت شقيقتي في غاية التوق لمعرفة كل شيء عن الآنسة هافيشام , فطرحت عدداً من الأسئلة . وسرعان ما راح الضرب ينهال علي ومن الوراء ويرتطم وجهي بجدار المطبخ لأنني لم أجب على تلك الأسئلة بالتفصيل .
والأسوأ من ذلك كان قدوم السيد بامبلتشوك العجوز المزعج بعربته لتلقي التفاصيل . سأل السيد بامبلتشوك : " كيف هي الآنسة هافيشام ؟ "
قلت له : " إنها في غاية الطول والسمرة . "
فسألت شقيقتي : " هل هي كذلك يا عمي ؟ "
أومأ لسيد بامبلتشوك بعينيه موافقاً , مما جعلني أستنتج في الحال أنه لم يرَ الآنسة هافيشام أبداً , لأنها لم تكن كذلك على الإطلاق . سأل السيد بامبلتشوك : ط ماذا كانت تفعل حين ذهبت اليوم ؟ "
أجبت : " كانت تجلس في مركبة مخملية سوداء . "
حدق السيد بامبلتشوك والسيدة جو إلى بعضهما وكررا معاً : " في مركبة مخملية سوداء ! "
قلت : " أجل , وقد قدمت لها الآنسة استيلا الكعك والنبيذ من نافذة العربة , على طبق من ذهب . "
سأل السيد بامبلتشوك : " وهل كان شخص آخر هناك ؟ "
قلت " أربعة كلاب . "
" كبيرة أم صغيرة ؟ "
" ضخمة , وكانوا يتقاتلون على قطعة لحم في سلة فضية . "
حدق السيد بامبلتشوك والسيدة جو إلى بعضهما ثانية في دهشة كبيرة . ثم سألت شقيقتي : " وأين كانت تلك العربة بالله عليك ؟ "
" في غرفة الآنسة هافيشام . " وحدقا إلى بعضهما مرة ثانية . قلت : " ولكن لم تكن هناك جياد مربوطة فيها . "
فسأل بامبلتشوك : " وبماذا لعبت يا فتى ؟ "
" لعبنا بالأعلام , استيلا لوحت بالعلم الأزرق وأنا بالعلم الأحمر , ولوحت الآنسة هافيشام بعلم يتألق بنجوم ذهبية صغيرة . ثم لوحنا جميعنا بسيوفنا وأطلقنا الهتاف ."
فرددت شقيقتي : " سيوف , من أين أتيتم بالسيوف ؟ "
" من خزانة , وقد رأيت فيها مسدسات ـ مربى ـ وحبوب . ولم يكن هناك ضوء للنهار في الغرفة , بل كانت مضاءة بالشموع . "
حدقا ببعضهما ثانية , وشرعا يبحثان في تلك الأعاجيب التي نجوت منها . وكان الحديث ما زال قائماً حين عاد جو من عمله لتناول فنجان من الشاي , فأخبرته شقيقتي بتجاربي المزعومة .
والآن , حين رأيت جو يفتح عينيه الزرقاوين ويحركهما بدهشة شديدة , شعرت بالأسف لأنني لفقت الكثير من الأكاذيب . وبعد أن ذهب بامبلتشوك , تسللت إلى دكان جو وقلت له : " جو , هل تذكر كل ما قيل عن الآنسة هافيشام ؟ "
قال جو : " أذكر ؟ إنني أصدقك ! رائع ! "
" إنه أمر فظيع يا جو . كان كذباً . كله كذب . "
ثم أخبرته بأنني أشعر بتعاسة بالغة , وأنني لم أستطع التعبير عن نفسي للسيدة جو وبامبلتشوك , وأنه كانت هناك شابة جميلة , لدى الآنسة هافيشام , تعاني من غرور رهيب , وأنها قالت بأنني عامي , وأن الكذب قد جاء عن ذلك بشكل ما .
وبعد شيء من التفكير قال جو : " هناك أمر يمكنك التأكد منه , وهو أن الأكاذيب هي مجرد أكاذيب . فلا تنطق بالمزيد منها يا بيب . أما بالنسبة لكونك عامي , فإنك لن تستطيع أن تكون إلا عامي عبر الكذب والخداع . "
حين صعدت إلى غرفتي الصغير واستلقيت على سريري , رحت أفكر في كل هذا , لكنني فكرت كم ستعتبر استيلا والآنسة هافيشام جو عامياً , وهو مجرد حداد : كم حذاؤه غليظ , وكم يداه خشنتان .




الفصل التاسع
المحبة الزائفة

عدت إلى منزل الآنسة هافيشام في الموعد المضروب , وحضرت استيلا حين قرعت جرس البوابة . فسارت أمامي في الممر المظلم حيث كانت تضع شمعتها , فتناولت الشمعة وقالت : " عليك سلوك هذا الطريق اليوم . "
وأخذتني إلى قسم آخر من المنزل . وفيما نحن نسير في الممر المظلم , توقفت استيلا فجأة , وقالت بعد أن أدارت وجهها بالقرب من وجهي : " حسناً . "
فأجبت وأنا أكاد أقع فوقها , لكنني تمالكت نفسي : " حسناً يا آنسة ؟ "
وقفت تنظر إلى , فوقفت بالطبع أنظر إليها .
" هل أنا جميلة ؟ "
" أجل , أعتقد أنك جميلة جداً . "
" هل أنا أتسبب بتحقيرك ؟ "
" ليس كثيراً مثلما كنت المرة الماضية . "
" أليس كثيراً هذا ؟ "
" كلا . "
برقت عيناها غضباً حين طرحت علي السؤال الأخير , فصفعت وجهي بأقصى قوتها حين أجبتها . وقالت : " والآن , أيها الوحش الفظ الصغير , ما رأيك فيّ ؟ "
" لن أقول ذلك . "
" لأنك ستقول ذلك في الطابق العلوي , أليس كذلك ؟ "
فقلت : " كلا , الأمر ليس كذلك . "
" لماذا لا تبكي ثانية , أيها البائس الصغير ؟ "
" قلت : " لأنني لن أبكي بسببك ثانية . "
وكان ذلك كذباً , فقد كنت أبكي بداخلي بسببها . وأعلم مدى الألم الذي تسببته لي لاحقاً .
صعدنا إثر ذلك إلى الطابق الأعلى , إلى غرفة الآنسة هافيشام حيث تركتني استيلا عند الباب . ومكثت هناك إلى أن أشاحت الآنسة هافيشام بنظرها نحوي من طاولة التجميل.فقالت من دون دهشة أو استغراب :" هكذا ! فالأيام قد ولّت , أليس كذلك؟ "
" أجل سيدتي , اليوم هو . "
" رويدك , رويدك , رويدك ! "
وبحركة نافذة من أصابعها تابعت تقول:"لا أريد أن أعرف .هل أنت جاهز للعب؟ "
" لا أظن ذلك سيدتي . "
استوضحت تقول : " ليس للعب الورق ثانية ؟ " وهي تدقق بنظرة فاحصة .
" أجل سيدتي , يمكنني القيام بذلك لو كنتم بحاجة إلي . "
فقالت الآنسة هافيشام وقد عيل صبرها :"بما أن هذا البيت يجعلك حزيناً أيها الفتى, وأنت لا ترغب باللعب , فهل ترغب بالعمل ؟ "
قلت بانني أرغب في ذلك كثيراً .
" إذن اذهب إلى الغرفة المقابلة وانتظر حتى أجيء . "
فعلت ذلك , ورأيت أن نور الشمس قد حُجب عن هذه الغرفة كذلك , وأن الشموع لم يكن لها سوى ضوء باهت .
كان كل شيء في الغرفة يكسوه الغبار , وكانت هنالك طاولة طويلة فرش عليها غطاء , وكأن وليمة كان يتم الإعداد لها حين تجمد المنزل وتوقفت الساعات جميعها سوياً . في وسط الطاولة رأيت ما يشبه كومة ضخمة من بيوت العنكبوت , والعناكب تتسارع دخولاً وخروجاً .
سمعت الفئران كذلك تخشخش خلف الدرف , فيما الخنافس السوداء تجول حول الموقد .
وفيما كنت أراقب تلك الزواحف عن بعد , وضعت الآنسة هافيشام يدها فوق كتفي . وأمسكت باليد الأخرى عصا تتكئ عليها .
فقالت وهي تشير بالعصا الطويلة على الطاولة : " هنا سأُسجى حين أموت. سيأتون لإلقاء النظرة عليّ هنا . "
ثم قالت وهي تشير إلى خيوط العنكبوت : " ماذا تعتقد ذلك يكون ؟ "
" لست أدري سيدتي . "
" إنها كعكة عظيمة , كعكة زفاف , إنها لي . "
ثم جالت بنظرها حول الغرفة وقالت وهي تتكئ على كتفي : " هيا بنا , هيا بنا , هيا بنا . ساعدني على السير , ساعدني على السير . "
فهمت من قولها أن ما ينبغي فعله هو مساعدة الآنسة هافيشام على السير حول الغرفة , فبدأت بذلك على الفور , واتكأت على كتفي ورحنا نسير حول الغرفة . وبعد فترة قالت : " نادي استيلا . " فخرجت إلى مصطبة الدرج وناديت على استيلا . فجاءت هذه برفقة أربعة من أقارب الآنسة هافيشام , ثلاث سيدات ورجل . وقد جهد كل منهم أن يبز الآخرين في اللطف تجاه الآنسة هافيشام , وفي التعبير عن مشاعر الحب والغيرة تجاهها .
لكنهم لم يتمكنوا من خداع الآنسة هافيشام , لعلمها بأن تعابيرهم عن المحبة زائفة , وأنهم لم يأتوا إلا سعياً لأموالها التي كانوا يأملون وراثتها بعد موتها . لقاء ذلك , فقد كانت تسخر من جشعهم وتلقي عليهم الشتائم ما لم يتجرؤوا على الاستياء منها علناً. كل ذلك كان دون أن تتوقف لحظة عن السير بسرعة حول الغرفة .
ثم أمرتهم بالذهاب . وفيما ابتعدت استيلا وهي تنير لهم الطريق , قالت لي الآنسة هافيشام " إنه يوم مولدي يا بيب , ولا أسمح للذين كانوا هنا الآن , ولا لأي أحد , بالتحدث عن ذلك . إنهم يأتون في هذه المناسبة لكنهم لا يتجرؤون على ذكرها . "

عادت استيلا ، فأمرتنا الآنسة هافيشام بلعب الورق ، لذا عدنا لغرفتها ، ولعبنا
كالسابق . أخذت الآنسة هافيشام تراقبنا طوال الوقت , وتلفت انتباهي إلى جمال استيلا وتدفعني للتنبه بذلك أكثر بتجربة المجوهرات على صدر استيلا وشعرها , بعد أن لعبنا ستة أدوار , حدد يوم لعودتي , وتم اصطحاب إلى الفناء في الأسفل لإطعامي كالسابق . مما يشبه الكلاب . وهناك أيضاً , تُركت أتجول كما يحلو لي , صدف أن نظرت داخل إحدى النوافذ , فوجدت لدهشتي العظيمة , أنني أتبادل النظر مع فتى شاب شاحب اللون , أحمر الجفون , خفيف الشعر .
توارى هدا بسرعة , ثم ظهر ثانية بالقرب مني , وقال : " مرحباً أيها الصغير . "
فقلت : " مرحباً . "
" من أدخلك ؟ "
" الآنسة استيلا . "
قال الشاب الهزيل : " تعال نتقاتل . "
لم يكن بوسعي سوى اللحاق به , فقد كان أسلوبه جازماً , وكنت من الذهول حتى تبعته حيث سار وكأنني تحت تأثير سحر .
قال : " لكن توقف قليلاً , لابد ل ي أن أبرر لك سبب القتال أيضاً . فإليك به ! " وبطريقة مزعجة للغاية ضرب كفيه , ورفع بأحد ساقيه للخلف , ثم شد بشعري , وأحنى رأسه ونطح به معدتي .
فضربته وكنت على وشك ضربه ثانية حتى بدأ يترنح إلى الأمام والخلف . ثم قال : " تعال إلى الحلبة . "
لذا تبعته إلى طرف الحديقة . لم يخلع إذ ذاك سترته وصدرته وحسب , بل قميصه أيضاً .
ورغم أنه لم يبد ممتلئ العافية , لكن استعداداته المخيفة أرعبتني بالفعل . لكن , لدهشتي , ما إن ضربته حتى هوى على ظهره , وتمدد ينظر إليّ وأنفه ينزف .
لكنه نهض على قدميه في الحال , وبعد أن مسح أنفه , بدأ يقاتل من جديد . وأكثر ما أدهشني هو رؤيته ملقى على ظهره وهو ينظر إليّ بعين أصيبت بكدمة سوداء .
بدا في غاية الشجاعة والبراءة , إذ رغم أنني لم أعرض عليه القتال , لكنني شعرت بمتعة دفينة بانتصاري . فارتديت ثيابي وقلت : " هل أستطيع مساعدتك ؟ "
فقال : " لا , شكراً . "
قلت : " عمت مساءً . "
فقال : " عمت مساءً . "
عندما رجعت إلى الساحة , وجدت استيلا بانتظاري تحمل المفاتيح . كان وجهها يشعّ تورداً وكأن شيئاً حدث بما يدخل الفرحة إلى قلبها .
قال : " تعال هنا ! يمكنك تقبيلي إن أردت ذلك . "
فقبل خدها حين أدارته لي , لكنني شعرت أن القبلة قدمت للفتى العامي الخشن , مثلما يُعطى قطعة من النقود , وأنها لم تكن بذي قيمة .


الفصل العاشر
خمسة وعشرون جنيهاً

قلقت في شأن الشاب الهزيل , وكلما فكرت بالقتال وتذكرت الشاب وهو ممدد على ظهره , تأكد لي أكثر ضرورة القيام بشيء ما . حتى إنني لزمت البيت لبضعة أيام, وكنت أنظر إلى باب المطبخ بحذر شديد قبل الذهاب في مهمة , لئلا يكون رجال الشرطة يبحثون عني . وعندما حان موعد عودتي للمكان الذي حصل فيه العراك , بلفت مخاوفي ذروتها . إنما كان علي الذهاب إلى منزل الآنسة هافيشام ,ومع ذلك , فإن شيئاً لم يُذكر عن قتالنا , ولم يظهر أي شاب هزيل .
رأيت كرسياً بعجلات خارج غرفة الآنسة هافيشام , ومنذ ذلك النهار صارت لي مهمة نظامية هي دفع الآنسة هافيشام على هذا الكرسي ( حين تكون متعبة من السير وهي تستند بيدها على كتفي ) حول غرفتها , ثم مروراً بمصطبة الدرج , وحول الغرفة الأخرى .
وفيما بدأ كل منا يعتاد على الآخر , أخذت الآنسة هافيشام تتحدث معي أكثر , فسألتني عما تعلمته وعما سأكون . فأخبرتها بأنه سيعهد بي إلى جو لأتلقى المهنة على يده ؛ وبالغت بشأن جهلي بكل شيء , وبأنني أرغب في معرفة كل شيء , على أمل أن تقدم لي بعض المعونة لتحقيق ذلك . لكنها لم تفعل . كما لم تعطني من المال أو أي شيء آخر باستثناء غدائي اليومي .
كانت استيلا دائماً هناك , وكانت دائماً تقوم باصطحابي إلى الداخل والخارج , لكنها لم تقل أن بإمكاني تقبيلها من جديد . في بعض الأحيان , كانت تحتملني ببرودة ؛ أحياناً أخرى كانت حميمة ؛ وكانت في بعض الأحيان تخبرني بحماس أنها تكرهني. أما الآنسة هافيشام كانت دائماً تسألني بهمس , أو حين نكون على انفراد : " هل تزداد جمالاً يا بيب ؟ " وحين أجيب بنعم , كانت تفرح بتوق شديد . أحياناً حين يكون مزاج استيلا من التنوع والتضارب حتى كنت أحتار ماذا تراني أقول أو أفعل, كانت الآنسة هافيشام تعانقها بمحبة وتهمس بأذنها : " حطمي قلوبهم يا عزيزتي ويا أملي , حطمي قلوبهم دون أي رحمة ! "
في غضون ذلك , كانت المشاورات تدور في المطبخ بين شقيقتي وذلك الأحمق بامبلتشوك . فكان ذلك التعيس يجرني من مقعدي ( فيما يمسك عادة بياقتي ) حيث أكون منزوياً في سكينة , فيضعني قبالة النار وكأنني سأُطهى , ثم يبدأ يقول : " والآن سيدتي , هو ذا الفتى ! هو ذا الفتى الذي أنشأته على يدك . ارفع رأسك يا فتى وكن دائم الامتنان للذين قاموا بذلك , " ثم يشرع مع شقيقتي بالتأمل السخيف حيال الآنسة هافيشام , وعما ستفعله معي ومن أجلي و حتى اعتدت على الرغبة بالانفجار بالبكاء , والاندفاع نحو بامبلتشوك أضربه بقبضتي مرة تلو الأخرى .
لم يشترك جو بهذه النقاشات , ولكن شقيقتي شرعت بأنه لا يرغب بإبعادي عن دكانه و فغضبت منه ومني .
يقيناً على هذه الحال مدة طويلة . وفي ذات يوم , قالت لي الآنسة هافيشام : " إنك تزداد طولاً يا بيب ! "
لم تقل أكثر من هذا في ذلك الحين . لكنها قالت في المرة الثانية حين ذهبت لرؤيتها: " أخبرني ثانية , ما اسم الحداد الذي تعمل لديه ؟ "
" جو غارجري , سيدتي . "
هل هو المعلم الذي كنت ستتلمذ على يديه ؟ "
" أجل , آنسة هافيشام . "
" يجدر بك أن تتلمذ في الحال . حبذا لو يأتي غارجري إلى هنا ويصطحب الأوراق الضرورية . "
قلت لها بأن لا شك لدي بأنه سيشرَّف بهذه الدعوة .
" إذن , فليأت بالحال وكن برفقته . "
بعد يومين , ارتدى جو ثياب نهار الأحد لمرافقتي إلى منزل الآنسة هافيشام . وأعلنت شقيقتي على عزمها الذهاب معنا إلى المدينة , فنتركها لدى بامبلتشوك وتعود معنا بعد أن نتفق مع (( سيداتنا الأنيقات . ))
أُقفل دكان الحداد ذلك النهار , واتجهنا إلى المدينة , فذهبت مع جو إلى منزل الآنسة هافيشام مباشرة . فتحت استيلا البوابة . وحالما ظهرت , تناول جو قبعته ووقف يمسك بها بيديه .
أخبرتني استيلا بأنه يمكننا أن ندخل سوياً , فأمسكت بذراع جو واصطحبته إلى حيث تجلس الآنسة هافيشام . كانت تجلس إلى طاولة التجميل فنظرت إلينا في الحال, وقالت لجو : " أوه , أأنت زوج شقيقة هذا الفتى ؟ وقد أنشأته بهدف أن يتتلمذ على يديك , أليس كذلك يا سيد غارجري ؟ "
طوال المقابلة , كان جو يصر على مخاطبتي بدلاً من الآنسة هافيشام , فقال : " أنت تعلم يا بيب أننا كنا دائماً أصدقاء , ونحن نأمل بمساعدتك لي في الدكان . لكن إن كان لديك أي اعتراض يا بيب , أرجو الإفصاح عن ذلك , وسيهتمون بالأمر . "
قالت الآنسة هافيشام : " هل أبدى الفتى أي اعتراض ؟ وهل يحب المهنة ؟ "
فقال جو : " أنت تعلم يا بيب أنها كانت دائماً أمل فؤادك . "
لم أفلح في جعله يدرك أن عليه مخاطبة الآنسة هافيشام مباشرة . وكان كلما أومأت له ووجهت إليه الإشارات , يزداد إصراراً على مخاطبتي , معتبراً على ما يبدو أن من غير اللائق مخاطبتها .
سألت الآنسة هافيشام : " وهل أحضرت الأوراق معك ؟ "
فقال جو وكأن السؤال غير منطقي إلى حد ما : " عجباً يا بيب , تعلم أنك رأيتني أضعها في قبعتي , لذا لا بد أنك تعرف أنها هنا . "
ثم أخرجه من قبعته وسلمها إلي بدلاً من الآنسة هافيشام . أخشى أني خجلت من صديقي العزيز الطيب حين رأيت أن استيلا تقف وراء كرسي الآنسة هافيشام , وأن في عينيها ضحكة ساخرة . أخذت الأوراق منه وأعطيتها للآنسة هافيشام .
قرأتها الآنسة هافيشام , ثم قالت لجو :"لم تكن تتوقع أجراً لقاء تعليم الفتى مهنتك؟ "
فقلت له حين لم يأت بجواب : " جو ! لماذا لا تجيب ؟ "
فقال : " بيب , قصدت القول بأن السؤال لا يحتاج إلى جواب بيني وبينك , وأنت تعلم حق العلم أن الجواب هو كلا . "
تناولت الآنسة هافيشام كيساً صغيراً من الطاولة التي بقربها وقالت : " لقد كسب بيب بعض المال هذا , إليك به . يوجد حمسة وعشرون جنيهاً في هذا الكيس . أعطها لسيدك يا بيب . "
بدا بيب وكأنه فقد عقله تماماً من الدهشة حيال شخصها الغريب والغرفة الغريبة , فلم يشأ حتى الآن و إلا أن يخاطبني دون سواي . فقال : " هذا لطف منك يا بيب . إنه موضع ترحيب بالغ , رغم أنني لم أكن لأطلب ذلك . "
قالت الآنسة هافيشام : " وداعاً يا بيب ! اصطحبيهما إلى الخارج يا استيلا . "
فسألتها : " هل ينبغي أن أعود ثانية , آنسة هافيشام ؟ "
" كلا , غارجري هو سيدك الآن . غارجري ! كلمة من فضلك ! "
وفيما نادت عليه أن يعود ثانية أثناء خروجه من الغرفة , سمعتها تقول لجو : " كان الفتى طيباً هنا , وتلك هي مكافأته . ولا شك , بصفتك رجلاً شريفاً , فليس لك أن تتوقع المزيد . "
كيف خرج جو من الغرفة , لم أستطع التحديد ؛ لكنني أعلم أنه حين خرج فعلاً , شرع يصعد إلى الأعلى بدلاً من النزول على السلم , فتبعته وأمسكت به . بعد دقيقة كنا خارج البوابة , فتمَّ إقفاله وتوارت استيلا .
صاحت شقيقتي حين عدنا إلى العم بامبلتشوك : " حسناً , ما الذي أعطته للصبي ؟"
طلب جو منها ومن بامبلتشوك أن يحزرا . فاعتبرا أن عشرين جنيهاً هي مكافأة كريمة , لكن جو قال بحبور وهو يقدم الكيس لشقيقتي : " إنها خمسة وعشرون جنيهاً . "
فقال بامبلتشوك وهو ينهض لمصافحتها : " إنها خمسة وعشرون جنيهاً سيدتي . وهذا لا يتجاوز فضائلك , أتمنى أن تنعمي بالمبلغ . "
ثم أمسكني بذراعي وقال : " والآن , ترون يا جوزيف وزوجته , فأنا من الذين ينجزون دائماً ما يبدؤون به.ينبغي في الحال تسجيل الفتى قانونياً لدى مدرب مهني"
ذهبنا في الحال إلى دار البلدية لقيدي متدرباً لدى جو أمام القاضي . فتمَّ التوقيع على المستندات , وأصبحت (( ملزماً )) .
حين عدنا إلى بامبلتشوك , كانت شقيقتي في غاية النشوة بالخمسة والعشرين جنيهاً, حتى أنها أصرت على أن نتناول الطعام في مطعم (( البلو بور )) ( الخنزير الأزرق ) , حيث دُعي آل هابل والسيد ووبسيل .
كان يوماً أمضيته في كآبة بالغة , إذ لم يُسمح لي بالذهاب للنوم , بل كانوا كلما رأوني أغفو , يعمدون إلى إيقاظي ويطلبون إلي أن أمتع النفس .
عدنا في نهاية المطاف إلى المنزل , وحين دخلت غرفة نومي الصغيرة كنت أشعر بتعاسة بالغة , وغامرني اعتقاد راسخ بأنني لن أحب مهنة جو . لقد أحببتها فيما مضى , لكن الماضي هو غير اليوم .
كنت مكتئباً للغاية في أول يوم عمل من فترة التدريب , لكنني كنت سعيداً لأنني لم أتفوه بكلمة من هذا أمام جو . إنه الشيء الوحيد تقريباً الذي يسرني معرفته عن نفسي في ذلك الخصوص .
من يستطيع قول (( ما كنت أريده )) ؟ كيف لي أن أقول حين كنت أجهل الأمر تماماً ؟ ما كنت أخشاه هو أن أتطلع في ساعة مشؤومة , حين أكون في أشد الحالات اتساخاً وعامية , فأرى استيلا تنظر إلي من أحد النوافذ في الدكان . وتملكني الخوف من أنها ستجدني , عاجلاً أم آجلاً , بوجه أسود ويدين سوداوين , أقوم بأخن جزء من عملي , فتنتصر علي وتحتقرني .




الفصل الحادي عشر
أورليك العجوز
كان جو يستخدم عاملاً لقاء أجر أسبوعي اسمه أورليك . كان هذا شخصاً داكن اللون , عريض المنكبين , مرخي الأطراف , وصاحب قوة شديدة . لم يكن يحبني, وحين بدأت أتدرب لدى جو , ازداد مقتاً تجاهي , اعتقاداً منه بأنني سأحل مكانه .
رغبت بزيارة الآنسة هافيشام واستيلا , فطلبت من جو إعطائي نصف نهار عطلة . وفيما كنت أذكِّره بذلك في الدكان قال أورليك : " مهلاً سيدي , لن تميز بيننا بالتأكيد . إن حظِي بيب بنصف نهار عطلة , فافعل ذلك مع أورليك العجوز . " ( كان دائماً يطلق على نفسه اسم أورليك العجوز . )
" لِم ؟ وماذا ستفعل بنصف النهار إن حصلت عليه ؟ "
ماذا سأفعل به ؟ وماذا سيفعل به هو ؟ سأفعل به بقدر ما فعل . "
فقال جو : " أما بالنسبة إلى بيب , فهو ذاهب إلى المدينة . "
أجاب العامل : " حسناً إذن , بالنسبة إلى أورليك العجوز فهو ذاهب إلى المدينة . فاثنان يمكنهما الذهاب إلى المدينة . "
فقال جو : " لا تغضب . "
فتمتم أورليك متذمراً : " سأفعل إن شئت ذلك . والآن يا سيدي , كن عادلاً . لا تمييز في هذا الدكان , كن إنساناً ! "
قال جو : " حسناً , بما أنك تلتزم بعملك عامة مثل سائر الرجال , ليكن نصف نهار عطلة للجميع ! "
كانت شقيقتي تقف صامتة في الساحة بحيث كان يمكنها سماع الحديث , فتطلعت بسرعة عبر إحدى النوافذ , وقالت لجو : " هذا شأنك أيها الأحمق , تعطي العطل هكذا لأشخاص بلداء . لابد أنك رجل غني لتنفق الأجور على هذا النحو , ليتني كنت سيده ! "
فرد أورليك بسرعة : " حسبك أن تكونين سيد الجميع لو تسنى لك ذلك . "
قال جو : " دعها وشأنها . "
فأجابت شقيقتي وقد بدأت تستشيط غضباً : " سأكون ندة الجميع الحمقى وجميع الأشرار . "
همدر أورليك قائلاً : " أنت امرأة شريرة , أيتها الأم غارجري . "
قال جو : " دعها وشأنها , هلا سمحت ؟ "
فقالت شقيقتي وقد بدأت بالزعيق : " ماذا قلت ؟ ماذا قلت ؟ بيب , ماذا قال لي ذلك التافه أورليك ؟ ماذا دعاني فيما زوجي يقف أمامه ؟ آه , آه , آه ... بماذا نعتني برجل دنيء أقسم أن يدافع عني ؟ آه , أمسكوا بي ! آه ! "
وفيما هي في ذروة الغضب , اندفعت إلى الباب الذي أقفلته لحسن الحظ .
لم يتسن لجو المسكين الآن سوى مواجهة عامله وسؤاله عما يقصده من التدخل بينه وبين السيدة جو , وعلاوة على ذلك , إن كان من الرجولة بما يكفي القتال . وهكذا اندفع الاثنان نحو بعضهما البعض كعملاقين جبارين . لكنني لم أر رجلاً في الجوار يستطيع أن يقف في وجه جو . أما أورليك الذي بدا وكأنه لم يتجاوز شأن الشاب الهزيل , فسرعان ما بات وسط غبار الفحم . ولم يخرج منها إلا ببطء شديد . ثم فتح جو الباب ليلتقط شقيقتي التي سقطت فاقدة الوعي , فحملها إلى البيت وسجاها على الفراش .
صعدت إلى غرفتي لأرتدي ثياب العطلة , وحين نزلت ثانية , وجدت أورليك وجو يتشاركون وعاء من البيرة بمودة ومحبة .
حين وصلت إلى المدينة للقيام بزيارتي مررت ببوابة منزل الآنسة هافيشام عدة مرات قبل أن أصمم على قرع الجرس .
في داخل المنزل , وجدت كل شيء على حاله , باستثناء الآنسة هافيشام التي كانت بمفردها . فقالت : " حسناً ؟ آمل ألا تريد شيئاً . فإنك لن تحصل على شيء . "
" في الحقيقة كلا يا آنسة هافيشام . أردت فقط أن تعلمي أنني أحقق تقدماً في تدربي المهني , وأنني ممتن لك على الدوام . "
فقالت : " حسناً , حسناً . " وهي تشير بأصابعها الهرمة المتعبة . " تعال من وقت لآخر . تعال يوم ميلادك ــ أجل ! " ثم صاحت فجأة وهي تستدير بكرسيها نحوي :" أنت تبحث عن استيلا ؟ إيه ؟ "
في الواقع كنت أبحث عن استيلا , فتلعثمت بالقول إني آمل أن تكون بخير .
فقالت الآنسة هافيشام : " إنها في الخارج , في مدرسة جيدة , بعيدة عن المتناول ؛ وهي أجمل بكثير من السابق , وتحظى بإعجاب جميع من يروها . هل تشعر بفقدانك لها ؟ "
كنت مرتبكاً بما علي قوله , لكن الآنسة هافيشام أنقذتني من مشقة العثور على جواب بأن صرفتني . وحين أُغلقت البوابة خلفي , شعرت بالاستياء أكثر تجاه مهنتي ومنزلي وكل شيء . وكان هذا كل ما حصلت عليه بذهابي إلى منزل الآنسة هافيشام .
التقيت السيد ووبسيل في المدينة , فذهبت معه لرؤية العم بامبلتشوك . كان الليل شديد الظلمة حين سرنا عائدين إلى البيت . خلف المدينة , كنا نسير في ضباب رطب كثيف حين صادفنا رجلاً بدا وكأنه بانتظارنا . إنه أورليك . أخبرنا أن بعض المجرمين لا ريب قد فروا من سفينة الاعتقال , إذ كان يسمع طلقات نارية منذ هبوط الظلام .
في طريقنا إلى القرية , علمنا عند (( النوتيَّة الثلاث )) أن منزلنا قد تعرض للاقتحام أثناء غياب جو وأن هناك من تعرض للهجوم والإصابة .
هرعنا إلى البيت بأقصى سرعتنا , فوجدنا المطبخ يعج بالناس . كان هناك جراحاً , كما كان جو ومجموعة من النساء , والجميع على الارض في وسط المطبخ . فتراجعوا عندما رأوني , ورأيت شقيقتي مرتمية على الأرض فاقدة الوعي إذ تلقت ضربة على مؤخرة رأسها من قبل مجهول .
لم يسرق شيء من أي مكان من المنزل . ولا كانت في المطبخ آثار فوضى , باستثناء ما تسببته شقيقتي من جراء السقوط والنزف . إنما كان هناك دليل بارز وهو أنها تلقت الضرب على رأسها وعظام ظهرها بشيء ثقيل وغليظ . وكان بجانبها على الأرض قيد حديدي لمجرم قطعه بالمبرد .
فظننت أن القيد الحديدي يخص المجرم صاحبي ـ القيد الذي رأيته وسمعته فيما كان يعمل على قطعة بالمبرد في المستنقعات ـ لكن عقلي لم يتهمه باستخدامه للغاية تلك. فشككت بأورليك .
ومما أثار مخاوفي كان التصور بأنني قدمت السلاح , إنما تعذر علي التفكير بغير ذلك .وعانيت من مأزق رهيب فيما أخذت أفكر إن كان علي أن أبوح بسر طفولتي, وأخبر جو القصة كاملها . فقررت أن أقدم اعترافاً كاملاً حين تسنح الفرصة للمساعدة في اكتشاف هوية المهاجم .
بقي رجال الشرطة حول المنزل منذ أسبوع أو اثنين , وألقوا القبض على عدة أشخاص بريئين . لكنهم لم يقبضوا على المجرم أبداً .
بعد أن رحلوا بفترة طويلة , كانت شقيقتي طريحة الفراش وقد اشتد عليها المرض . فقد اختل بصرها , وتضرر سمعها وذاكرتها كثيراً , وغدا كلامها غير مفهوم . وحين شفيت في النهاية بحيث أصبحت تستطيع هبوط الدرج بمساعدتنا . كان من الضروري إبقاء لوحي الحجري إلى جانبها , لتشير بالكتابة إلى ما تعجز عن الإشارة إليه بالكلام .
لكن مزاجها تحسن كثيراً , وتحلت بالصبر . وقد احترنا في العثور على مرافقة لها, إلى أن توفقت عمة والد السيد ووبسيل , فانتقلت بيدي للعيش معنا . وكانت نعمة للأسرة , وخاصة لجو . فتولت مباشرة رعاية شقيقتي وكأنها درست طباعها منذ الطفولة , وصار بإمكان جو التمتع بحياة أهدأ , والذهاب إلى (( النوتية الثلاث )) من وقت لآخر , على سبيل التغيير الذي أفاده كثيراً .

يتبع ...


جيرمون111 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس