عرض مشاركة واحدة
قديم 04-10-10, 01:41 AM   #1

taman

نجم روايتي

 
الصورة الرمزية taman

? العضوٌ??? » 62057
?  التسِجيلٌ » Nov 2008
? مشَارَ?اتْي » 6,430
?  نُقآطِيْ » taman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond repute
Icon24 191-الماس لو بكى (احلام القديمة)- كتابة كاملة((رووووووعة))



المـــــــــــــاس لو بكـــــــــــــــــى
الملخص:
لماذا لاتبتعدين مع خمسة ملاين دولار؟
حددى المبلغ الذى تريدين, فهل هناك ما هو أكثر؟
أنا أريدك فليكس ولن اقبل بشىء آخر.........
لامال ولا الماس .....لا اريد الا انت.
كانت اصابعة تحطم عظام موصلها:لن تستطيعى ابدا ان تفعلى بى ما فعلتته امى بأبيك...
لن اسمح لاية امرأة ان تؤثر فى حياتى أو تغيرها .....ولن احارب من اجلك ابدا,ولن اموت من اجلك بكل تأكيد. . .فهل تفهمين ذلك.
لقد فهمت - - - فيلكس ويستون رجل يختبىء وراء رداء المد نية.
لكن هذا لايخفى الجانب المتوحش منه.انة لايحترم النساء ابدا بل يستغلهم لما يشاء
ولا يقبل ان يقيدة شىء،لسوف ينتقم منها...............................
والسؤال هو اى نوع من الاسلحة سوف يستخدم.
محتوى مخفي يجب عليك الرد لرؤية النص المخفي


1- بأى ثمن
سألت هيذر رايدال بسخط: لماذا تريدين العودة إلى أستراليا؟ .. أنا لاأفهمك هولي.وهنا تكمن المشكلة كما تظن هولي.. إذ لن تصل هي وأمها إلى التفاهم فالشرخ القائم بينهما بدأ منذ زمن طويل، والرابط الوحيد بينهما هو رابط الدم. فرغم كل مايقال وما يجري، تبقيان أماً وابنتها. ولهذا فقط تحاول هولي المحافظة على السلام.
ردت بهدوء:أريد العودة، أمي.. هكذا بكل بساطة . سبق أن قلت لك وقت الميلاد عندما عدت إلى هنا إنني سأبقى لستة أشهر فقط. زرعت هيذر رايدال غرفة النوم ذهاباً وإياباً بينما ابنتها تتابع توضيب ثيابها في الحقيبة قديمة شهدت كثيراً من السفر.
الواقع أنها لم تشخ أبداً .. فتموجات شعرها الأسود مصففة بعناية وجسمها النحيل أنيق الثياب . على وجهها نظرات النضوج ، لكن بشرتها لم تتأثر بسنواتها الست والأربعين ، فلاخطوط تعب ، أو إجهاد ... وهي قادرة على ترك كل هذا خلف ظهرها حتى وهي متكدرة ، كماهي حالها الآن .. آه! ماذا تفعل؟ ستبقيان دوماً على طرفي نقيض ، وهولي تفهم الدافع الذي أوصل أمها إلى قمة النشاط الاجتماعي ، فالاندفاع والهوس اللذان تتصف بهما أمها ، صفتان موجودتان لديها أيضاً.
قالت الأم بمرارة :
_إنه .. ذلك الشيء .. الذي تشعرين به نحو أبيك . أليس كذلك ؟.. ماذا تريدين أن تعرفي أكثر بحق الله؟
فكرت هولي : كل شيء ! لكنها لم تقل هذا . حتى سنة مضت ، لم تكن تعرف شيئاً عن والدها الحقيقي .. ولولا الرسالة التي وصلتها ، تعلمها بالإرث الذي تركه لها ، لكانت على حالها تجهل أي شيء عنه .. ساعتئذ فقط ،قيلت لها الحقيقة .. وعلى مضض.
لو كان الأمر ممكناً، لمحت هيذر رايدال زواجها الأول من كل السجلات .. ولتظاهرت أن ايرول ماكنافش غير موجود أبداً، وأنه ليس أباًلابنتها .. كرهت كل شيء يذكرها "بغلطة الشباب "، فمنذ ثلاثين سنة ، لم يكن من المسموح لفتاة زرقاء الدم من بوسطن تريد الحفاظ على سمعتها ،أن تنجب طفلاً خارج نطاق الزوجية .. ووجدت أن الطلاق مقبول أكثر أمام المجتمع .
_ بعد زواج قسري لم يدم إلا فترة قصيرة طلق والد هولي زوجته التي تزوجت فيما بعد برجل فيه صفات الرجل الصالح للزواج ..
خجول من عائلة بوسطنية قديمة .. وهو مصرفي محترم ، وعماد من أعمدة المجتمع .. بعد الزواج تبنى هولي رسمياً لئلا يضطر أحد الى ذكر اسم ماكنافش . وما كان هذا ليحدث ،لولا الرسالة .. ساعتها فقط ،خرج كل شيء إلى العلن ، وسافرت هولي الى اسراليا بحثاً عن أب لم تعرفه قط . ولأن أمها تعتبر ايرول ماكنافش غير مناسب اجتماعياً، ثارت في نفس هولي مشاعر التعاطف والتضامن معه .. وما عرفته عن حياته أثار اهتمامها كثيراً بجيث لن تستطيع أن تستريح قانعة ، حتى تعرف السبب الذي دفعه إلى مافعله سابقاً ، وعليها أن تعود .. كان في تلك اللوحة الغريبة التي أورثها إياها مفتاح اللغز .. وهي متأكدة من هذا .. وبما أنها ستذهب الآن إلى أحد المعارض .. شخص ما ، من مكان ما ، قد يعرف ماتعني .
عرفت أن الأمل ضعيف والقرار الذي اتخذته جاثم على ضميرها، فوالدها حمل معه أسراره الى القبر. وربما يجب أن تتركها تستريح هناك.. لكن مافعلته لايمكن أن يضره الآن .. وتريد أن تعرف ! تحتاج أن تعرف! يجب أن تعرف!
قالت الأم بغضب: وماذا عن اليكسيس فالكنر؟
_ ماذا عنه ؟ تنهدت هيذر راندال، منهزمة بسبب لااكتراث ابنتها، وجلست على السرير الى جانب الحقيبة في محاولة لإجبار ابنتها على إعطائها الاهتمام الكامل .
_ هولي.. أنت في الثامنة والعشرين .. ألم تضجري من التجول في العالم؟ ومن العيش في أماكن غريبة؟.. أعرف أن على الشابات ألا يتسرعن بالزواج، لكن الرجال لاينتظرون الأبد لاختيار زوجاتهم.. واليكسيس فالكنرواحد من مشاهير العزاب في بوسطن.. وهو مهتم بك.. رفعت هولي عينين ملؤهما التهكم : انه يريدني حلية اجتماعية لحياته .. وما كان ليفكر في هذا منذ بضع سنين . أليس كذلك ؟
_أجفلت هيذر رايدال : لقد نسي الجميع هذا الأمر هولي . لكن هولي لم تنسه .. ولن تنساه أبداً. فما مرت به في مراهقتها غير أموراً كثيرة لديها .. ففي فترة مراهقتها انتشر حب الشباب على وجهها بشكل قبيح فأفسد حياتها . يومذاك لم يرغب أحد في مصادقتها فكان أن علمتها تلك الفترة معنى أن يكون المرء منبوذاً. كانت القسوة التي عاملها بها أترابها من المراهقين، خبيثة بما فيه لجعلها تتقوقع على نفسها بشدة وهذا ما دفع هيذر لاصطحاب ابنتها الى طبيب نفسي للعلاج.. ولكن لم يكن للدواء علاقة بأي مرض عقلي بل جاء من علاج عصري بأشعة اللايزر حرق كل الخلايا التي سببت لها التشوهات وسببت لها الحرج الاجتماعي .
بشرتها الآن رائعة، ناعمة كبشرة الطفل ، ليس فيها أي بثرة أو بقعة. وجسمها المترهل الذي كان يفتقر للرشاقة، امتلاء وأصبح متناسقاً مع بنيتها بطريقة أنثوية مذهلة .. وتعلمت كيف تقف منتصبة رافعة ذقنها . وأخذت العينان الرماديتان تردان نظرة أي شخص كان ، بجد وثقة بالنفس .. ولم تعد تخاف أحداً أو شيئاً . إنها الآن مقبولة احتماعياً .. ومرغوبة . حلية اجتماعية قد تشرف حياة أي رجل. قسمات وجهها الجذابة الصافية ، متوازنة كل التوازن.. ولكن هيذر رايدال كانت تفضل تعبيلااً أكثر مرحاً وحيوية على الجمال الهادئ الذي كان يبدو أحياناً أشبه بقناع يبعد عنها الناس. بينها وبين نفسها كانت تتمنى لو تفعل هولي شيئاً لشعرها الأسود الكثيف الذي تتركه طويلاً مستقيماً ومربوطاً خلف عنقها.. هذا الطراز المتزمت كان يناسبها ولكنه لايخضع للموضة التي تحسب لها هيذر حساباً كبيراً . لكنها تعرف أنها لو قالت شيئاً عن مظهر هولي ، فلسوف تمتلئ العينان الرماديتان بذلك التهكم اللطيف الذي تكرهه..
قالت متعبة: عم تبحثين؟ ماذا تريدين؟
_ ربما أبحث عن حقيقة الحياة.. من يعرف؟ما أعرفه الآن أنني لا أريد اليكسيس فالكنر، ولاأريد الحياة التي يريد مني أن أعيشها
_ لكنه حياة جيدة هولي .
وهذا موطنها .. فلماذا لايمكن أن تكون سعيدة هنا؟ ترى هيذر رايدال أن بوسطن وأهلها المميزين هي العالم الوحيد الذي يستحق أن يعرفه الإنسان، ولاترى أن هناك في العالم ماهو أفضل . أما هولي فتجد أن الحياة لاتستحق العيش، إن لم يكن هناك ماهو أفضل. لقد عاشت فترة المراهقة ببؤس كامل فهذا المجتمع الضيق التفكير يضع الأولوية للمظاهر ويفضلها على الإنسان.
ما إن أنهت دراستها الجامعية، حتى اتجهت إلى السفر. واستفادت من الامتيازات والحسومات التي يستفيد منها الطلاب الجامعيين وبهذا شقت طريقها حول أكثر أقطار العالم وكان أن تعرفت إلى طرق الحياة المختلفة وإلى العادات والقيم والأولويات المختلفة، التي كان بعضها أفضل وبعضها الآخر أسوأ . ولم تكن بوسطن بالتأكيد في أسفل الميزان، بل كانت أفضل بكثير. ولكنها لم تكن بالنسبة إلى هولي سوى سجن يجب أن تتخلص منه. وبعدما انسلخت عن مجتمعها لم تعد قادرة على الانسجام معه ، ومع الحياة التي تعيشها أمها قانعة راضية.
رفعت رأسها ، والتوى قلبها لخيبة الأمل والحزن الباديين في عيني أمها.. فقالت برقة: آسفة.. يؤسفني ألا أكون البنت التي أردت أن أكونها.. لكن ماهو مناسب لك قد لا يناسبني.. ويجب أن أسير في طريقي الخاص أمي.
هزت هيذر رأسها: لقد بذلت جهدي... ولايمكنك القول إن جول لم يكن أباً طيباً إذ بذلنا ما بوسعنا من أجلك.
قاطعتها هولي بسرعة : أرجوك.. لا تظني أنني غير ممتنة، أحبكما معاً ولا أريد منكما أن تتألما.. لكن الأمر.. رفعت يديها بعجز، إذ يستحيل أن تشرح لها الأمر دون أن تؤلمها ، وحاربت الإحساس بالذنب وصممت على عدم الاستسلام للابتزاز العاطفي.
_ أمي .. لقد اخترت طريقك.. فدعيني أختار طريقي.
صاحت الأم بمرارة: لقد تخلى عنك دون أن يلقي ولو نظرة إلى الوراء.
تستطيع هولي أن تتصور كيف أُجبر ايرول ماكنافش على الهروب من الزواج، دون أن يترك له المجال ليقف على قدميه بالنسبة لحضانة طفلته.. فلاشك أنه آمن أنها ستكون أفضل حالاً بدونه.. ولاشك أن هيذر رايدال هي التي أفهمته هذا. لكن ايرول ماكنافش لم ينس ابنته.. ولاتستطيع هولي أن تشرح لأمها هذا التعاطف الغريب الذي تحس به معه ، مع أنه الآن ميت.
قامت بجهد أخير للسلام: أمي.. لن أدير ظهري لك، بل سأبقى على اتصال، كحالي دائماً .. وأنا آسفة إن كان ذلك لايكفيك .. إنما يجب أن أعيش حياتي الخاصة كما أراها مناسبة.. ألايمكن أن نترك الأمر على هذا؟
عرفت هيذر أنها هزمت فالنظرة البادية على وجه هولي حذرتها من أنها تدفعها كثيراً .. ويجب أن تبقي الباب مفتوحاً حتى تعود ففي يوم ماقد ترى ما هو الأفضل لها.. على أي حال، هولي ابنتها هي أكثر مما هي ابنة ايرول ماكنافش.
لكن هيذر رايدال لم تكن تعرف، ولن تعرف أبداً ، الإحساس بالحرية الذي رفع روح هولي المعنوية وهي تطير من بوسطن في الصباح التالي، في طريقها إلى بلد آخر في الجهة الأخرى من العالم. ولايمكن لها كذلك أن تتعاطف مع المشاعر التي كانت ثائرة في نفس هولي بعد خمسة أيام من هذا ، وهي تقف في معرض الفنون في " نيو ساوث ويلز" تنظر إلى لوحة "أيرل ماك".. المختلفة عما تبقى من اللوحات.
الشوق إلى المعرفة اختلط مع الشعور بالذنب. ومنذ اللحظة التي شاهدت هولي اللوحة ، أحست أن فيها معنى خاصاً ومشاعر كثيرة عصرت قلبها بطريقة لايمكن وصفها.. فما كان يجب أن تضعها في معرض عام.. ومع ذلك تغلب الاندفاع لمعرفة ماتعنيه، على أي اعتبار آخر.. ليت المزيد من الناس يشاهدونها وليت أحداً يجيب عما تتساءل به داخل نفسها!
وهل من الخطأ أن ترغب في معرفة كل شيء عن أبيها؟ كانت صورة غريبة.. متوحشة، لكنها مذهلة. فيها الشمس تغرب من وراء سلسة تلال كلسية حمراء، وبقايا أشعة المرجان الوردي تختفي رويداً رويداً.. مقدمة الصورة عبارة عن سهل منبسط من القش الشاحب، محاطة بلون أزرق شاحب تندفع منه أشجار " الباوبات" الاستوائية العملاقة... في الزواية اليسرى العليا وجه امرأة
مندمج بشكل غامض مع السماء ، كجزء منها ، ومع ذلك فهو منفصل عنها .. بشكل يترك فيك حنيناً مؤلماً لا يمكن إشباعه .
_ لم يعط والدها الصورة اسماً ، ولم يوقعها . لقد قال لجيوفري هامينغر إن اللوحة يجب ألاتباع ، مهما كانت الظروف .. ومع أن اليد التي رسمتها كانت دون أدنى شك يد أبيها ، فقد كانت اللوحة مختلفة كل الاحتلاف عن سائر أعماله .. ليس في الشكل فقط ، بل في الموضوع .
أحست هولي أن هذه الصورة مفتاح للسنوات الضائعة . والمفتاح للغز سبب تحول ايرول ماكنافش عالم الجيولوجيا ، إلى "ايرل ماك " الفنان المتوحد المنطوي . المنعزل الشاذ ، الذي أمضى السنوات العشرين الأخيرة من عمره في أقصى شمال ساحل "كوينزلاند " في "بورت دوغلاس " .. وطول هذه السنوات لم يكلم أحداً عن ماضيه ، ولم يعرف أحد في "بورت دوغلاس " أن له ابنة حتى ظهرت هولي مطالبة بإرثها .. ولكم كان قدومها مفاجئاً للجميع ! فالمعروف أن ايرل ماك يبتعد عن النساء بشكل خاص .
_ ماالذي جرى له في تلك السنوات ، ما بين نهاية زواجه القصير من أمها ووصوله إلى بورت دوغلاس ؟ ماالذي غير حياته بهذا
الشكل الجذري ؟ ولماذا لم يتصل بها قط ؟.. لابد أنه فكر فيها .. فكر في ابنته التي تخلى عنها .. وإلا ، لما ترك لها منزله
ولوحاته .
جاءها شخص من ورائها وشرع يقرأ من كتيب الإرشاد : الأحلام الضائعة .
علقت امرأة : غير عادية .. أليس كذلك ؟ مذهلة .
تعرف هولي خير معرفة أنها مذهلة وغير عادية . المنظر المرسوم هو لمكان ما في "كيمبرلي " وهي زاوية بعيدة من غربي استراليا . وهو آخر مكان استقر فيه الرجل المتمدن ، الأرض التي هي من الناحية الجيولوجية ، أقدم أرض في العالم .. وقد تعرفت إلى سلسلة التلال الكلسية في خلفية الصورة على أنها سلسلة تلال الملك ليوبولد ... ولكن ويا لسوء الحظ ! لم تجد أجوبة أخرى في رحلتها إلى هنالك . ولم ترض وكالة السفر بإيصالها إلى أبعد من الطرق السياحية المألوفة ، والمعتبرة آمنة .
قيل لها : هذه قمة النهاية سيدتي .. لايمكنك طلب العون من أحد .. هذا إذا ضعت !
_ كان السكان قلائل ، وبعيدين جداً عن بعضهم . يعيشون أساساً في مزارع المواشي ، حيث أصغر مزرعة لاتقل مساحتها عن
بضع مئات من الأميال .. هكذا رأت المغيب فوق جبال الملك ليوبولد ، وكان المشهد مذهلاً كما هو مرسوم في لوحة "الأحلام الضائعة " وهو الاسم الذي أطلقته هي نفسها عليها من أجل المعرض . ورأت سهول التبن الأصفر الشاحب ، أشجار الباوباب الغارقة في القدم .. ورأت كذلك سطحاً واسعاً من الصخر الرملي العتيق ذي الصخور المقطعة كقفير النحل ، ثم الوديان الضيقة
التي لاترى الشمس أبداً .. إنها ما من أحد تحدثت إليه ، استطاع أن يتذكر ايرول ماكنافش ، والمكان الذي رسمه بالضبط لم تستطع العثور عليه . مالذي حدث هناك؟ تنهدت محبطة وارتدت مبتعدة عن اللوحة.. كانت تشعر عرض اللوحة قد لايحمل إليها الردود التي تريدها فالأمل ضعيف، ضعيف... ولكن ماذا بإمكانها أن تفعل غير هذا؟ فرغم مساعيها الكثيرة للاستفسار عن أخبار والدها بقيت أمام حائط مسدود. لكن عندما طلب منها عرض مختارات من فن أبيها في معرض الفن الأسترالي، أتتها الفكرة.. فالمجموعة ستعرض في كل عاصمة ولاية في وهذه ليلة الافتتاح لمعرض سيدني .. وعدد الحضور البارز يدل على أن الكثيرين سيرون اللوحة .. وربما ستثير مشاهدتها نقداً قد يساعدها. جالت أنظارها بين الحضور .. حتى رأته!.. كان في الغرفة الملحقة بالمعرض ، لكنه كان يتجه نحوها الآن.. إنه أكثر الرجال لفتاً للأنظار .. لم يكن جميلاً أو وسيماً بالمعنى الكلاسيكي... لكن حضوره آسر ويصل إلى حد السيطرة . كان طويلاً ، يرتدي بزة قاتمة اللون مؤلفة من ثلاث قطع زادت من رشاقة قوامه الرياضي.. أما بشرته فشديدة السمرة ، وأما شعره فأشقر لوحته الشمس ، ليصبح بلون " الكاراميل" وهو أملس.. وجهه آمر صارم قوي،وقسمات جبينه وخديه وخطوط فكيه صارمة ، غير مكتنزة ، وليس فيها خطوط ضعف . وكانت العينان غائرتين عميقتين .. أنفه معقوف تقريباً .. وشفتاه ممتدتان بحدة ومكتنزتان، ولكنهما تدلان أن صاحبهما لايصرف وقته كله على العبث .
كان بعيداً بُعد الأرض عن السماء عن اليكسيس فالكنر . أحست هولي نحوه بجاذبية شديدة تبعث على الاضطراب. تصورت هذا الرجل يقود عربة خيول إلى مناطق " الهنود الحمر" أو يقود فرقة جنود رومانية، أو يركب جواداً ويسير إلى جانب قائد كبير.. إنه قادر على وضع قوانينه الخاصة..
صرفت هولي عنها الأفكار الخيالية.. لقد سبق أن سألتها أمها: ماذا تريدين؟ وتساءلت هولي عما إذا كانت ستريد يوماً رجلاً مثله! سيكون من المثير حقاً أن تعرف الرد .. وابتسمت لتخيلاتها. لم تعرف هولي ما إذا أحس بنظرتها المتفرسة، أم لمح ابتسامتها .. لكنه عندما وصل إلى الغرفة، توقف ونظر إليها مباشرة .. طالما نظر الرجال إليها منذ أصبح وجهها نقياً من " حب الشباب" البغيض ..لكن لم يحدث قط أن نظر إليها أحدهم بهذا التوجه المباشر المدمر.
عادة ، كانت تصرف النظر عن مثل هذا الاهتمام بإظهار التسلية الساخرة .. لكن هذه النظرة هي أكثر من تقويم عابر لشخص مرغوب .. وأكثر من إبداء إعجاب بوجهها الخالي من العيوب ، وبجسدها الرائع التكوين .. إنه يقومها برباطة جأش وكأنه واثق أنه يستطيع الحصول عليها لوأراد . والسؤال الوحيد الذي يطرحه على نفسه ما إذا كانت تستحق العناء.
ورغم الثياب الأنيقة التي ارتدتها للمناسبة: البلوزة الأورغانزا البيضاء ذات الأطراف المزينة بالأسود، والتنورة الضيقة الحريرية السوداء، أحست هولي وكأنها عبدة تقف في معرض للجواري تنتظر سقوط المطرقة معلنة رسو المزاد على مشتريها. كان جسمها متوتراً ، وقلبها مرتجفاً .. لذلك حين لامس شخص ذراعها، كادت تقفز.
_ آسف لأنني أجفلتك.
إنه جيو فري هامينغز، تاجر اللوحات الفنية الذي اكتشف ايرل ماك، منذ سنوات .. ومنذ ذلك الوقت وهو يتعامل مع أعمال أبيها.. ابتسم لها .. إنه رجل أعمال، ممتلئ الجسم، دمث الأخلاق، لكنه شديد المكر، في أواخر الأربعينات من عمره. كان مسروراً لأنه يتعاون مع زبونة سيجلب له إرثها عمولة ضخمة.
سأل:" هل أنت راضية عن ترتيب لوحات أبيك؟ لقد أشرفت على الإضاءة بنفسي".
_ رائع.. حقاً رائع. لو كان والدي على قيد الحياة وشاهد المعرض الآن لشعر بسرور عظيم .. اللوحات جيدة.. أليس كذلك؟
_ إنها فعلاً جيدة ، وأنا مستريح لأنك لا تريدين البيع بسرعة .. فرسومات ايرل سيرتفع ثمنها كثيراً الآن وهو .. ميت.. وأتوقع أن يثير هذا المعرض المزيد من الاهتمام .. وكلما تماسكنا أكثر..
التفتت هولي نحو الممر ولكن الرجل كان قد أدار اهتمامه بعيداً عنها. كان يقف في المكان عينه ، لايتحرك وكأنه تحول إلى تمثال من حجر . ثم تحرك إلى الأمام وكأنه ملاكم يستعد لتسديد ضربة، أو على الأكثر كصاعقة تستعد للانقضاض.
اخترقت الصدمة قلبها لأنها أدركت أنه يحدق إلى لوحة الأحلام الضائعة، وماهي إلاثوان وخطوات قليلة حتى أصبح وجهاً لوجه مع اللوحة .. وأخذ يهز رأسه وكأنه لايصدق . بعد عدة لحظات، فتح كتيب التعريف الذي يحمله وأخذ يتصفحه باحثاً عن الشروحات.
قرأ ما كان مكتوباً ، ثم درس اللوحة مجدداً . وفي هذا الوقت تجعد الكتاب في يد اشتدت حتى أصبحت قبضة مغلقة .. ارتد وفي وجهه تصميم وعزم على البحث بين الناس في الغرفة . مرت عيناه بهولي بشكل عابر .. إنهما .. عينان خضراوان برقتا بوحشية إشارة إلى أنه لايتحمل أحداً أو شيئاً يقف في طريقه .
_ تحرك بسرعة في الغرفة قبل أن تستجمع هولي نفسها لتتساءل عما جذبه إلى اللوحة .. ولماذا بدرت عنه ردة الفعل هذه ؟ هل خاطب المنزل البدائي الغريب شيئاً ما في أعماق روحه ؟ لا... لأنه على ما يبدو صرف النظر عنها فجأة كما صرف أي اهتمام بهولي .
لاجدوى من بقائها في المعرض ، تنتظر ردات فعل الناس نحو اللوحة .. يجب أن تقوم بما هو إيجابي أكثر .. ابتسم بواب "الشيراتون "لها مرحباً وهي تدخل البهو .. كان الفندق في قلب المدينة ، والموظفين جميعاً ودودين .. ولقد نصحتها أمها : إذا كنت ستسافرين لامحالة ، فأقيمي في الشيراتون .. لأنه آمن .
نظرت هولي إلى الثريات المتلألئة ، وابتسمت لنفسها وهي تتذكر الفنادق والموتيلات الرخيصة التي أقامت فيها في السنوات الماضية . أما الآن فقد أصبح لديها المال الكافي لتدلل نفسها .. فلوحة ايرل ماك الأخيرة بيعت بما يزيد عن خمسين ألف دولار ..
وإذا كان جيوفري هامينغز على حق بشأن ازدياد الطلب على أعمال أبيها ، فقد لاتضطر إلى العمل ثانية أبداً .
_ أتتها فكرة وهي تستعد للنوم . إنها غير معتادة أن تكون صاحبة مبالغ كبيرة .. وهي لم تفكر في هذا في المرة الأخيرة التي ذهبت فيها إلى "كيمبرلي " لكنها تستطيع الآن استئجار طائرة هليكوبتر لتطير بها فوق المنطقة كلها .. وسيكون معها الصور التي التقطتها للوحة .. إذا تمكنت من تحديد أي مكان معقول ، يمكن للهليكوبتر الهبوط فيه . لكن ماذا يمكنها تحقيقه من هذا ، إنها لاتدري ..كانت هولي رغم التعب الذي بدا أنه يسيطر على كل عظامها، مستيقظة حين رن جرس الهاتف بعد ساعة.. نظرت إلى الساعة الرقمية الموضوعة على الطاولة الصغيرة قرب السرير، فأضافت فكرياً تسع ساعات إلى الوقت.. فلاشك أن والديها في بوسطن قد أنهيا فطورهما.. استندت هولي إلى الوسائد، ورفعت سماعة الهاتف ، لكن المكالمة لم تكن دولية.
قال جيو فري هامينغز: آسف لأنني أزعجتك، هولي .. ولكنني تلقيت عرضاً لإحدى لوحات أبيك ، وقد ضغط علي المشتري لإنهاء الصفقة بأسرع مايمكن.. هذا إذا وافقت .
تسلل شعور غريب من الترقب إلى ظهر هولي .. لماذا يتصل بها هذه الليلة ؟ ماسبب هذه العجلة وهذاالإلحاح؟
سألت:" ماهي اللوحة التي يريدها هذا المشتري"؟ لكنها عرفت الرد قبل أن تسمعه...
تمتم جيوفري:ـ الأحلام الضائعة. خفق قلبها بسرعة ثم توقف عدة ضربات . إنها على حق! تابع جيوفري على عجل بطريقة تدل أنه ملهوف للرد الذي سيسمعه منها.
ـ لقد أبلغنا الزبون أن اللوحة غير مخصصة للبيع.. مع ذلك، كان العرض الذي تقدم به.. المال ليس بعائق.. هولي. ولم أرغب أن أحمل على عاتقي رفض الأمر دون استشارتك .
ـ تعرف أنني لاأستطيع أن أبيعها.. سبق أن قلت بنفسك ماقاله أبي.
ـ أعرف.. أعرف.. لكنه ليس شيئاً نص عليه والدك في وصيته، وليس هناك من قانون يلزمك به.. وأنا واثق أنه ماكان ليلزمك بمثل هذه الأمانة لو عرف..
سحب نفساً عميقاً، وأردف: هولي.. المبلغ ضخم..
ـ ليس هناك مبلغ ضخم كاف جيوفري.
لقد طلب والدها عدم بيعها.. وكان يفضل إتلأفها على بيعها. ولاشك أن لها أهمية خاصة.
ـ ألاتظنين أن خمسة ملايين دولار مبلغ كاف؟ لم تكد تصدق أذنيها، وهزت رأسها وكأنها لم تسمع بشكل صحيح .
ـ لابد أنني أصبت بالصمم جيوفري.. أتسمح بأن تكرر هذا؟
ـ خمسة.. ملايين.. دولار! لزم هولي المزيد من اللحظات لتتمكن من استيعاب الأمر: لاأصدق أن هذا يحدث.
ـ ولا أنا.
لكنها أحست باللهفة التي يكبتها، فعمولة الملايين الخمسة تتدلى أمام عينيه. أخيراً تحرك عقل هولي بانطلاق. هناك من يريد هذه اللوحة بشكل ملح.. والسؤال هو: لماذا؟ هولي تريد معرفة هذا إلى أبعد الحدود .
ـ من المشتري؟
ـ لا أعرف.. تأتي العروض عادة عن طريق طرف ثالث .. فالناس لا يرغبون في الظهور تحت الأضواء. لكنني أؤكد لك أن العرض صادق، لا خداع فيه.
سحبت هولي نفساً عميقاً ، إذ عليها التفكير في هذا الأمر بحذر لاتخاذ القرار الصحيح ، وللوصول إلى ماتريد .. ثار الألم في قلبها فهذا ما كانت تأمل به من وراء عرض اللوحة .. عليها أن تكون حذرة لئلا تنسف الفرصة . كبتت انفعالهاوقالت: جيوفري.. قل للوسيط إنني بخصوص هذه اللوحة بالذات ، لن أتعامل إلا مع الأصيل .. وشخصياً، دون وكلاء.
ـ مهلك لحظة، سأتصل بهم على الهاتف الآخر.
انتظرت .. وكان توترها يزداد كلما مرت الدقائق. عشر.. خمس عشرة.. وخف أملها وهي تنتظر.. أحست أنها متعبة، لكن عقلها ظل يفكر بشكل محموم، والواضح أن طلبها يتلقى مقاومة.. مقاومة كبيرة..من هو الذي أن يعرفه أحد؟ كم شخصاً في أستراليا لديه مثل هذا الكم من المال ليرميه من أجل لوحة؟ هل هناك لائحة بأصحاب الملايين حتى تراجعها لتربط أحدهم بوالدها؟ أخيراً عاد جيوفري إلى الخط: هولي.. الأصيل يقول إنه لايريد إلاشراء اللوحة، وإنه غير مستعد لمناقشة المسألة أبداً .. ولهذا برأيي رفع الثمن بشكل غير عادي.. إنها مسألة قبول أو رفض.. الموافقة أو لا. يجب أن تقرري، فإذا تخليت عن هذا العرض فلن تستعيديه.
فكرت في الأمر بموضوعية.. ووجدت أن عليها المقامرة.. لم تلعب قط في رهانات باهضة كهذه من قبل.. لكن المبدأ واضح: إن لم تعرف من هو المشتري، فلن تعرف شيئاً عن والدها.. وإذا كان هناك شخص مستعد لعرض مثل هذا المبلغ، فهي لاتصدق أنها مسألة قبول أو رفض.. قد يكون الموقف هو القبول ، لكن ليس الرفض أبداً . ولاشك أن هذه خدعة للحصول منها قرار سريع.
على كل لن يقنعها شيء بالتخلي عن اللوحة.. إنها تعرف الآن ، ودون شك، أن " للأحلام الضائعة" ماهو مميز وخاص لشخص آخر غير أبيها.. سحبت نفساً عميقاً لأنها تريد التخفيف من انغعالها ونبضات قلبها قبل أن ترمي قفاز التحدي.
ـ لا..الرد هو لاجيوفري. لابيع بناء على هذه الشروط.. لكن.. إذا غير رأيه ، وأعتقد أنه رجل، فسأناقش المسألة معه.. يمكنه الاتصال بي إلى هنا، أوترك رسالة .. وحتى يكون على استعداد لإعطائي ماأريد جيوفري، فالرد هو لا!
سمعت هسيس أنفاسه وهو يكتم احتجاجه: هولي .. كما ترغبين.. هل تودين الانتظار لأنقل إليه ردك.
ـ أنا متعبة جيوفري.. اتصل مرة ثانية. الواضح أن جيوفري كان منفعلاً لم يصدق معه ردها.. لكنه ابتلع أي تعليق: متعبة؟ كما تشائين.وعلق السماعة.
انزلقت هولي جموداً عن الوسائد، محاولة الاسترخاء .. هذا مستحيل .. أتراها لعبت الورقةالمناسبة؟لن تستطيع التخطيط للحركة
التالية حتى يرد المشتري .. لكن هذا لم يمنعها من التفكير في الاحتمالات. كان الانتظار أطول هذه المرة ، لكن هولي لم تمانع .. فكل دقيقة تمر كانت تزيد من أملها في ملاقاة المشتري .. وهي لاتشك أن جيوفري يقوم بأفضل ماعنده لإبقاء الصفقة على قيد الحياة. ورن جرس الهاتف ، فانتزعت السماعة .
ـ هولي.. رنة الراحة في صوت جيوفري ردت البسمة إلى شفتي هولي: إنه يطلب ضمانات.. الأصيل مصر على أن يكون اللقاء سرياً .
وافقت بسرعة:" بكل تأكيد".
ـ ويجب أن يكون صباح الغد ، وفي أبكر وقت ممكن . هولي بحاجة إلى أطول وقت ممكن معه ، والرجل نافد الصبر وهذا يعني أنه سيرفض مناقشة أي شيء معها .. وبما أنها الآن في موقع القيادة ، تستطيع إملاء شروطها .
ـ وجه له دعوة لتناول الفطور معي في فندقي.. مطعم " غاردن كورت" في الثامنة والنصف.
بعد توقف قصير عاد جيوفري يكلمها: موافق.
ـ عظيم! مااسمه جيوفري؟
ـ لم يعطني إياه.. ولكنني أعطيته اسمك..فهل ستبيعين هولي؟
أمسك الحذر لسانها لأنها لاتريد جدالاً بشأن الصفقة.
ـ سأصغي إليه.. أشكرك جيوفري.. ستعرف قريباً ماذا يحصل.. ومهما كانت النتيجة فسأعوضك تعبك.
قال بسرعة: أفضل أن أكون موجوداً غداً هولي.
ـ لاجيوفري .. أنا آسفة.. أقبل بهذا في أية صفقة ماعدا هذه .. إن لها ميزة خاصة في نفسي.
تنهد مستسلماً :" حسن .. وحظاً سعيداً".
علقت السماعة بسرعة.. لكن انفعالها الشديد حرمها من النوم، حتى انتهى بها الأمر إلى الاستيقاظ باكراً في الصباح لتكون بحالة جيدة ، ولتكون مستعدة كل الاستعداد لما هو قادم . ربما يعرف هذا الرجل أباها ولعل لهذه اللوحة مكانة خاصة عنده .. ولكن خمسة ملايين دولار دليل على أنه يريدها بأي شكل من الأشكال .. ويجب أن يكون السبب وراء ذلك أقوى وأعلى من مجرد الإعجاب العادي بالفن . فهذا السعر ليس أبداً استثماراً ... إذن .. فهذا لايترك سوى .. ماذا ؟

يتـــــــــــــــــــــــ ــبع
2_ في وجه المحارب

كانت xxxxب الساعة تعلن أزوف الثامنة والربع، حين غادرت هولي غرفتها، مستقلة المصعد هبوطاً إلى الدور الخامس.
هناك كان القسم العلوي للفندق حيث تلف سطحه أشجار مغروشة في أحواض ضخمة، وشجيرات شائكة.. حيث يمكن للمرء استراق النظر حتى حدود" ماين بارك" المكان الذي يوجد فيه معرض " نيو ساوث وايلز" للفنون.
عرفت هولي النادل بنفسهافحياها وأخبرها أنه من المتوقع وصول رجل أعمال لينضم إليها لاحقاً .. طلبت الجلوس إلى طاولة قرب المدخل الزجاجي ، ليتسنى لها مراقبة القادمين من جهة المصعد ، للتعرف إلى المشتري المنتظر قبل أن يتعرف إليها .. كانت تتوقع أن يكون بعمر والدها وإلاكيف له أن يعرف شيئاً ؟
كانت ثيابها لائقة ..شعرها الطويل الكثيف معقوص إلى الأعلى، وكانت ترتدي بزة وردية من الكتان الناعم ، وبلوزة بيضاء ملساء . ولكنها تخشى أن يكون الرجل صعب المراس.. فالأستراليون مشهورون بصراحتهم التي تبلغ حد الإزعاج .. والواضح أن الرجل لايريد إضاعة وقته.. وهي بحاجة بكل تأكيد إلى شجاعة وجرأة للبدء بالحوار وقيادته إلى حيث تريد.
أوصلها النادل ، بكل ترحاب ، إلى أقرب طاولة لشخصين.. فاختارت الكرسي الذي قدم لها منظراً واضحاً للبهو الخارجي .. وهناك قدمت لها القهوة ، فتقبلتها شاكرة .. أثناء الدقائق العشر التي مرت لم يخرج من المصعد إلا شخصين ..
لم تستطيع هولي تصديق عينيها حين رأته.. إنه الرجل الذي صدمتها رؤيته بقوة وبشكل مثير للإزعاج ليلة أمس في المعرض .. وهي بالتأكيد لن تخطئ شخصيته لأنه يريدي البزة نفسها.
نظرت إليه دهشة ونبضات قلبها تخفق بسرعة .. لايعقل أن يكون هذا هو الشخص الذي ستلتقيه.. فهو في أواسط الثلاثين وليس كهلاً كم ظنت. ومن هو بمثل عمره لايمكن أن يعرف شيئاً عن والدها وسيرته.. لاشك أنه كان صبياَ صغيراً حينذاك. سحبت نفساً عميقاً وحاولت تهدئة أعصابها، وعدت إلى العشرين ثم تفحصت ساعتها .. إنها الثامنة والنصف تماماً.
ـ آنسة رايدال؟
صرت على أسنانها.. إنه هو، لابد أنه هو. إذ لايمكن لأحد أن يدخل من دون أن تنتبه له، وهاهو يسأل عنها، ثم يتقدم إلى الطاولة..الصوت صوته هو والنبرة نبرته.. لم تعتد هولي أن تتورد وجنتاها.. لكن الحرج بث دفعة من الدفء إلى عنقها الطويلة فأحست بالحرارة تخترق مسام خديها فتورد !!
لابد أن وجهها تورد ولكن حاجتها الملحة لإبقاء هذا الرجل على مسافة منها، جعل عينيها تبدوان طبيعيتين غير مكترثتين. على أي حال ، حين التفتت ترفع نظرها إليه، لم يشر إلى أنه تسلم الرسالة.
سألها بكل تهذيب: هل لي أن أتشرف بالانضمام إليك؟
لم يكن في عينيه الخضراوين دليل تسلية أو عبث .. بل كانتا هادئتين ، هادفتين .
أجابت ببرودة تامة: أنا آسفة.. في وقت آخر، ربما .. أنا أتوقع .
لكنه سرعان ما قاطعها: أنا.. تتوقعينني أنا ، آنسة رايدال.. لدينا عملية بيع نناقشها .. إذا كانت لديك رغبة في هذا؟
ـ أنت ؟أفلتت منها الكلمة قبل أن تستطيع كبتها .. وكانت غلطة .. فقد أحست بابتسامة رضا خفيفة تبرز على وجهه المحارب الذي يشبه وجه الصقر.
مد لها يده قائلاً: اسمي فليكس ويستون .. إذا كان الاسم يعني لك شيئاً !!
سببت لها قبضته على يدها رجفة .. فسحبت يدها بسرعة : لا.. كما أخشى .. فأنا لاأهتم بالأمور المالية كما أنني لست أسترالية!
آه !! ردها أرضاها وهو أيضاً رد خاطىء .. إنه يتعرف إلى أمور كثيرة عنها . وهي هنا لتستقي المعلومات منه وتتسقط أخباره ..
والاستعداد للقاء كهذا ، يتطلب الاهتمام بكل شيء ويستلزم مراجعة الأفكار والتحلي بإرادة صلبة ، تستطيع بها الحفاظ على رباطة جأشها .. هزت رأسها تومىء إلى الكرسي المقابل .
_تفضل بالجلوس سيد ويستون .. أرجو المعذرة على سوء الترحيب بك ، أعترف أنني توقعت شخصاً أكبر سناً بكثير .
_وأنا أيضاً.. لكنني لاأمانع في مفاجأة لطيفة . لهجتك تنبئني أنك أميركية .. وأخشى أن تكون هي المشكلة في عرضي لك !
_ليس لدي مشكلة في كوني أميركية سيد ويستون . هل تطلب الطعام الآن ؟
ابتسمت واستدعت النادل الذي كان لايزال ينتظر الرد ... وقدم إليهما لائحتي طعام .. في هذه الأثناء كان فيلكس ويستون يرمق هولي بنظرة ساخرة قبل أن يخفض عينيه إلى لائحة الفطور .. انتظر بعدما طلب مايريد أن ينسحب النادل .
كنت أتساءل عما إذا كان تحويل العملة هو العائق . أعرف أن تبديل العملة قد يسبب المتاعب ولكنني أؤكد أننا نستطيع تجاوز هذه المسألة . سألت : " أوه.. ومن " أنتم "؟ من أنت ؟ " . برق شيء خطير في عينيه :
_أنا وأنت آنسة رايدال .. نحن . إننا هنا لمناقشة المسألة ، بالنسبة إليّ إن تصنيفي المالي ... من الصنف الأول .
_شكراً لك . لن يكشف لها عن شيء . لكنها شرعت تتمتع بالتحدي الذي يلائمه ، فلن تكون عقبة يسهل عليه تجاوزها .. ابتسمت :
أريد معرفة ما هي التسهيلات التي تمكنك من اجتياز صعوبة التحويل المالي الدولي .
_ شركتي تمتلك شبكة علاقات في كل أنحاء العالم. لدينا مكتب في نيويورك.. من أين أنت بالتحديد في أمريكا؟
_ بوسطن، " ماساتشوستس"ليست بعيدة عن نيويورك، أو عن سيدني.
_ أعرف بوسطن آنسة رايدال .. والآن بوسعنا أن نتكلم في العمل؟
_ أتمانع أن تقول لي أولاً، ماهي طبيعة عملك، سيد ويستون؟
قال ساخراً: أنبش الأشياء من الأرض. إنه عمل جيد لك. لكن ماهو نوع الأشياء التي تنبشها؟
_ النوع الذي تعتبره أجمل النساء، مثلك، أفضل صديق لهن.. الألماس آنسة رايدال.. أفخم أنواع الألماس الملون في العالم.
منجم " بندنير" للألماس في كيمبرلي؟ لقد قرأت عنه. تأسس في السبعينات، أي بعد وقت طويل من وصول والدها إلى " بورت دوغلاس" وهذا يعني أن لاعلاقة له به.. لكن ربما تكون هي المخطئة.. فوالدها عالم جيولوجي.. فكم من الوقت يستغرق إنشاء منجم بعد اكتشاف الألماس؟ لكن، لماذا رحل والدها إن وجد ألماساً؟
قال فيلكس ويستون: أنا هنا لمناقشة الصفقة.. فلنناقشها. ابدأي أنت.. السيدات أولاً.. كم تريدين بالضبط آنسة رايدال؟
ترددت هولي.. لو قالت له بالضبط ماتريد.. تريد معرفة السبب الكامن وراء رغبته في شراء اللوحة التي يريدها بقوة والدليل المبلغ الهائل الذي يدفعه ثمناً لها.. لم تعجبها الملاحظة الساخرة التي تفوه بها، بأن شملها بين الجميلات من النساء اللواتي يعتبرن الألماس فوق أي شيء آخر.. لكنها لن تقول له الآن إنها امرأة لايمكن شراءها.. لابخمسة ملايين، ولابخمسة مليارات من الدولارات.. ولسوف تدعه يكتشف هذا بنفسه.
قالت بصراحة: في الحقيقة، ياسيد ويستون.. لست واثقة من رغبتي في بيع " الأحلام الضائعة" لك.. لماذا تريد أن تشتريها؟
عاد النادل ليقدم كوبين من عصير البرتقال الطازج، فأسرع فيلكس ويستون يتجرع كوبه دفعة واحدة ، ثم رفع نظره إليها وقال :
_أنا أصنع لنفسي اسماً في الدوائر الفنية ، كجامع للأعمال الفريدة من نوعها .. وأرمي أن تكون هذه اللوحة صفقة هذه السنة .. وسأحاول أن أحل لك مشكلة الضرائب آنسة رايدال .. وهذا هو أقصى حد أصل إليه . العرض يبقى على ماهو ، لن يستمر .
نظرت إليه متفرسة ، محاولة فهم ما يكمن وراء الكلمات ، ثم ردت بثبات : لقد أسأت فهمي سيد ويستون .. المسألة ليست مسألة مال ... ولن يؤثر هذا في قراري حين أتخذه . المسألة تتعلق بالسبب الذي يجعلك تطلب هذه اللوحة بالذات . وإن لم تقل لي السبب من وراء شرائك اللوحة فلن تحوز على " الأحلام الضائعة " ... إما أن تقبل وإما أن ترفض .. وبعد اليوم لن يستمر العرض كذلك .ارتد رأسه إلى الوراء .. وعرفت هولي أنها لعبت اللعبة التي لم تكن بحسبان فيلكس ويستون وأنها فاجأته .
_" الفضول قتل القطة " .. آنسة رايدال .. لديك خمسة ملايين سبب لئلا تقضي على هذه الصفقة ، فما الذي يدفعك إلى وضع علامة الاستفهام هذه ؟
_قد تعطيني خمسة ملايين سبب يرد على سؤالي ، سيد ويستون .. أخشى أن تكون المعلومات التي تسأل عنها سرية . تفرس فيها للحظات طويلة قبل أن ينطق : يبدو أننا وصلنا إلى طريق مسدود .. لكن أمامنا يوماً كاملاً للتفكير .. وبما أن هذا قد يستغرق اليوم كله .. سأطلب ، وكبادرة حسن نية منك ، أن تسحبي اللوحة من المعرض مدة أربع وعشرين ساعة .
صدم الطلب هولي لأنه غير عادي .. إنه طلب غريب ولايختلف عن وقائع كل هذه الصفقة ، بدءاً من العرض غير المعقول ،
وصولاً إلى إصراره للحصول على الرد ليلة أمس .. مروراً بالإصرار علىاللقاء معها في وقت مبكر جداً .. وانتهاء الآن، وبعد المزيد من التأخير ، بطلب سحب اللوحة من المعرض !!
فكرت هولي أنه لايريد أن يرى أحد اللوحة ! ولايحتمل عرضها علناً . هذا هو كل ما في الأمر . وليس السبب رغبته في امتلاكها
بل إخراجها من التداول .
_أنا آسفة سيد ويستون ، لكنني لن أفعل هذا حتى تخبرني لماذا تريد سحبها ؟
وكأن صبره بدأ بالنفاد ، قال : أخبرتك السبب !!
_لكنه ليس كافياً . هز رأسه : أعطيتك أسباباً ، ولم تقبلي بها . فكيف أثبتها لك ؟ ربما بدأنا بداية غير صحيحة .. هل أسأت إليك بالمعرض ليلة أمس ؟
_أسأت إلي ؟ وكيف يمكنك هذا ؟
_لا ؟ .. إذن سأقوم بما أغرتني به نفسي عندما رأيتك . ولكن التوقيت الآن غير جيد ، تبدين متوترة جداً .
وأشار إلى النادل طالباً المزيد من العصير ، ثم ارتد إلى هولي وعيناه الخضراوان تتراقصان بسيل من الاقتراحات : أتحبين العصير وقت الفطور آنسة رايدال ؟
إنه يحاول السيطرة عليها ! ويظهر لأنه معتاد على تحديق النساء إليه ، لامتلاكه مزيجاً من جمال الطلعة والثراء .. لاشك أنه معتاد
على احصول على المرأة التي يريدها ، ولكن إذا ظن أنها واحدة منهن فقد أخطأ أي خطأ ..
_العصير من اختصاص أمي .. أسرة رايدال أسرة عريقة في مجال المصارف في بوسطن ، سيد ويستون .
لكن هذا الرد لم يحبطه ، بل برقت عيناه سخرية . قلت لي إن الأمور المالية لاتعنيك .. هذا عيب يا آنسة رايدال !
هزت كتفيها بازدراء : أنا لاأهتم بالمصرف . لا..بالتأكيد لا ..أتصور أنك من المعجبين بالفن . ابتسمت له ابتسامة غامضة ، لاتؤكد
ولاتنفي .. وتركته يتساءل عما إذا كان مخطئاً أم لا !
_أنت جميلة مغرية .. لكنني متأكد أنه سبق أن قيل لك هذا كثيراً . كان المديح بالنسبة لهولي أشبه بماء متطاير عن ظهر بطة .
_ووجهك أيضاً مثير للاهتمام سيد ويستون . وهذا ما فكرت فيه ليلة أمس .. وأظنك تعرف هذا جيداً .. ولكن ما هو أكثر إثارة للاهتمام ،الوجه في اللوحة . ضاقت عيناه ، لكن ليس قبل أن ترى النظرة الحادة فيهما .. أهو الغضب ؟ أم الامتعاض ؟
_ أجل.. إنه مثير غامض، وهو عمل يشير إلى عبقرية فنية.. لم أشاهد قط نظيراً له.. وهذا أحد الأسباب التي دفعتني لشرائها. شعرت هولي أنه يتحدث بصدق لكنه لم يكشف لها عن شيء بعد..وصل العصير فسكبه النادل في كوبيهما، رفع فيلكس كوبه محيياً:
_ إلى تفاهم أفضل بيننا .
إنه فعلاً جذاب.. وحاولت هولي بشدة مقاومة جاذبيته الشديدة .. لن تستطيع تحمل تأثيره فيها ولكن من يعرف أكثر منها أن الشخص في الداخل هو أهم بكثير من الخارج الجذاب.أخذت تراجع الموقف، فيلكس ويستون لن يقع في حبائل الإدلاء بأي شيء لايريد قوله.. إنه حاد الذكاء، بارع.
لكنها أدركت شيئاً واحداً فقط: إنه يريد إخراج اللوحة من المعرض. ولايعقل أن يكون منظر كيمبرلي هو الذي يعنيه.. إذن السبب هو وجه المرأة .. وهذا يعني أنه وجه معروف، وليس معروفاً فقط، بل إنه لامرأة موجودة لايريد فيلكس ويستون أن يتعرف إليها أحد.. الآن، وقد عرفت من هو، تصورت أنها قادرة على معرفة من هي المرأة .. لكن، هل ستكون صريحةأكثر من فليكس ويستون؟
سألها فجأة: " منذ متى تمتلكين اللوحة"؟.
رفع نظرها بحدة.. لكنها لم تجد سوى نظرة متسائلة على وجهه: منذ السنة الماضية.
_ لاحظت من الدليل، أن الفنان توفي في السنة الماضية.. فهل امتلكت اللوحة قبل موته أم بعده ؟!
ردت باختصار: " بعده". هل حان الوقت لتقول له إن الفنان هو والدها؟
_ إذن أنت لم تمتلكيها منذ زمن طويل؟
مرت أخرى أحست برضاه عن ردها.. فالفنان مات، ودفن سره معه.. هذا مايظنه فيلكس.. وقالت:لا.. لاأملكها منذ وقت طويل.. لكنني لن أتخلى عنها سيد ويستون. إن لها.. قيمة شخصية عندي.. وأتساءل عما إذا كان لها عندك أيضاً قيمة عدا قيمة اللوحات الفنية النادرة.
رسم ابتسامة تساهل على شفتيه: رأيتها للمرة الأولى ليلة أمس آنسة رايدال.. وأريدها.. وهذا أمر شخصي بقدر ماأشعر به تجاه أية لوحة أخرى.
تممت:"هكذا إذن"!?".
وتابعت تناول الطعام.. لن يفصح عن شيء. يجب أن تمارس ضغطاً أقوى، وهناك طريقة واحدة لهذا.. الضغط عينه الذي حمله على المجيء إلى مائدة الفطور هذا الصباح. لم يعد ألى موضوع اللوحة بل أخذ يسألها عما شاهدت في أستراليا، وعما أعجبها فيها.. حديث جريء.. لكنها تابعت لعب لعبته حتى انتهاء الفطور ثم وقفت ومدت له يدها: كان اللقاء بك ساحراً سيد ويستون.. شكراً لك على الوقت الذي أمضيته معي.
قام عن كرسيه وعلى وجهه نظرة قلق: هذا من دواعي سعادتي آنسة رايدال.. هل ستعطين التعليمات إلى وكليك للمضي قدماً في إتمام الصفقة؟
ارتسمت ابتسامة أسف صغيرة على شفتيها: أنا آسفة..قررت ألا أبيع!
انتابه ذهول حقاً! وكادت أصابعه تسحق أناملها: آنسة رايدال.. لاوقت لدي للعب.. لم أر قط من يدير ظهره إلى صفقة كالتي أعرضها عليك.. ولاأصدق أنك تفعلين هذا الآن.
واجهت نظرته بمثلها: سيد ويستون.. لقد تعلمت العيش من دون مال أو ناس، منذ أمد بعيد.. وسأكون ممتنة لو تركت يدي.
أربك الإحباط شفتيه.. وتطاير شرر الغضب من عينيه ونظر إليها ثم ترك يدها وسأل بقسوة: لماذا وافقت على مقابلتي إذن؟
أجابت ببرودة كلية: لمناقشة أمر اللوحة ، لكنك لم تُرض فضولي ولم ترد على الأسئلة التي طرحتها.. فكر ملياً في الأمر سيد ويستون.. وإذا رغبت في المناقشة مجدداً فاتصل بي هنا.. علماً أن الموعد النهائي هو اليوم!
عندما سارت مبتعدة أحست بعينيه تخترقانها كأشعة اللايزر، وهذا ما أعطى دفعاً منعشاً لكل خطوة تخطوها وتساءلت عما كان يخطر له.. فهو ينتصر عليها وهذا بدون شك تجربة جديدة له..لم تستطع هولي إلا الابتسام لنفسها على نصرها الصغير عليه.
استغلت وصول أول مصعد فاستقلته دون تردد..وقبل أن يغلق الباب، استرقت نظرة إلى فيلكس.. لم يكن قد تحرك من مكانه.. بل كان مايزال متسمراً ينظر إليها.. لكن لم تبدُ آثار الهزيمة عليه.. وهنا شعرت هولي بأمر مريب، وبخطر غريب.. وكأنها أثارت وحشاً مفترساً سيلاحقها حتى أقاصي الدنيا.. وخامرتها تخيلاتها عنه ليلة أمس: محارب يجرؤ على أي شيء، ولا يدع شيئاً يقف في وجهه.
هرولت بسرعة في الردهة وطلبت من الحاجب أن يستدعي لها سيارة أجرة، وهي وسيلة الهرب السريعة التي تريد اختيارها.
سألها السائق: إلى أين؟
كان الباب قد أوصد .. ولن يتسنى للحاجب أن يسمع .. فقالت بهدوء: إلى الميناء.
بدت لها رحلة في زورق حول ميناء سيدني فكرة جيدة.. ستكون أية عبارة مفيدة لأنها ستبعدها عن المنال فترة.

الهجوم الأخير

سارت هولي فوق رصيف الميناء وراحت تلقي نظرة على وجهات العبارات ومواقيتها .. لفت نظرها ملصق إعلاني عن حديقة حيوان " تارونغا بارك" فاتخذت قرارها باندفاع.. موعد إقلاع العبارة يشير أن عليها الانتظار عشر دقائق .. ألقت نظرة سريعة على منصات بيع السواح المركزة قرب الرصيف ، ولمحت منصة بيع قبعات قش.. عليها أن تحمي بشرتها من الشمس لئلا تتعرض إلى الأذى.
طافت كلمات فيلكس ويستون إلى رأسها : " أنت جميلة مثيرة".. تساءلت عما إذا كان يعتقد أنها هكذا فعلاً .. أمر واحد مؤكد : من السهل أكثر أن تكون جميلة ، لابشعة.. مع أنها لا تعتبر وجهها مميزاً وهي تحمد الله لأنها عادية الجمال .. ولكنها كلما نظرت إلى المرآة كانت ترى معجزة العلاج باللايزر.
كان الركاب يتدفقون إلى المركب بعدما أنهت شراء قبعتها ، فسارعت لتنضم إلى صف المسافرين . وما إن صعدت حتى اختارت البقاء على السطح في الخارج لأنها لاتريد أن يفوتها أي شيء من المنظر. لم تكن حديقة حيوانات " تارونغل بارك" اختياراً صائباً لإبعاد تفكيرها عن الرجل الذي أدارت له ظهرها..
الحيوانات الخطرة كانت في مستوعبات آمنة، لكن الكثير منها كان يذكرها بفيلكس ويستون الذي هو غير محبوس في قفص أبداً والذي ليس من النوع الذي يقبل أن يقيده شيء .. ولسوف يعود لينتقم منها.. السؤال الوحيد هو أي نوع من الأسلحة سيستخدم في لقائهما المقبل.. كان سلاحها الوحيد علاقتها بالرجل الذي رسم " الأحلام الضائعة" فهل تبقي هذا لمفاجأة فيلكس، ودفعه للكشف لها عما تريد؟ إنه رجل ما للكلمة من معنى.. صنف من الرجال كانت تظن أنه مفقود في العالم الغربي.. إنه يختبئ وراء رداء المدينة.. لكن هذا لا يخفي تماماً الجانب المتوحش في طبيعته.. إنه لايحترم النساء أبداً ، بل يستغلهن كما يشاء . ومع ذلك .. لم تستطيع منع نفسها من التساؤل عن الإحساس بقوته ورجولته؟
هزت رأسها.. إنها لا تريد التفكير فيه .. أو بغيره فالرجال ، عامة، ليسوا من بين أولويات اهتماماتها.. منذ ثلاث سنوات وقعت في الحب. أو أحبت فكرة أن تحب ويومذاك اكتشفت أن بإمكان الرجال أن يفسخوا أية علاقة في سبيل المضي في حياتهم كما يريدون .
وهي متأكدة أن فليكس ويستون هو من الصنف ذاته.
لابد أن هناك خطأ ما فيها .. لماذا تريد إقامة علاقة دائمة مع أشخاص مثل الذين مروا بحياتها؟ فكلهم كانوا يرغبون في الزواج إنما بعد أن يكونوا مستعدين له ولكنهم يبقون خليلاتهم إلى جانبهم .. أما بما يتعلق بفيلكس ويستون فهناك أكثر من هذا وكأنه سيقف على دوام بعيداً عن كل شيء .. لا تستطيع تصوره وهو يغير مبادئه لتتلاءم مع صورته التقليدية..
غريب أنها تفكر فيه بهذا الشكل الدائم فلم يكن لها إلا حبيب واحد انتهت علاقتها به منذ ثلاث سنوات حتى معه لم تستطع إلزام نفسها .. ولعل ما أزعجها أنه كان راغباً في جسدها وليس في شخصها .. وقد آلمتها نتيجة علاقتهما كثيراً . لذا .. لم تعد ترغب قط في تكرار التجربة. مع ذلك في فيلكس ويستون شيء مايشعرها بأنها امرأة.. امرأة لها احتياجات. لم يكن لديها أية أوهام بشأن الرجل ولو أظهرت له أي ضعف لاستغلها دون أن يشعر بوخز الضمير.. لكن ماذا لو..؟
زأر أسد في وجهها ، وقالت لنفسها إنها مجنونة لأنها تفكر فيه على هذا النحو .. فرجل مثل فيلكس سيمزقها إرباً .. وحملت نفسها
إلى مقهى داخل الحديقة لتناول الغذاء ، ثم عادت نحو حديقة الأسماك .. وما إن رأت سمك "القرش " حتى تذكرت الرجل الذي تحدته هذا الصباح . فتابعت سيرها إلى حيث ترسو العبّارة وهي تفكر في أنها أمضت الوقت الكافي بعيداً عن فندقها . وربما هناك رسالة تنتظرها . كان الوقت عصراً عندما عادت هولي إلى الفندق .. ومع أنها وجدت رسالة من جيوفري هامينغز يطلب فيها أن تتصل به ، إلا أنها لم تفعل ، فهي لاتريد أي جدال بشأن الصفقة وهي متأكدة أنه سيتصل بها قبل نهاية النهار .
جعلها حدسها تدرك أن فيلكس ويستون لن يكون مسروراً أبداً إذا خسر صفقة .. خاصة هذه الصفقة بالذات ! فسيحاول أن يضغط كثيراً لذا عليها أن تكون مستعدة للتعاطي مع رده . فلتحصل على الأقل احترامه !
_تلقت المكالمة الهاتفية في تمام الخامسة والنصف وسرعان ما تعرفت إلى صوته حتى قبل أن يعطي اسمه . ولم يضيع أي وقت ليدخل صلب الموضوع . يجب أن تسمحي لي برد مجاملة وجبة الطعام آنسة رايدال ... شاركيني العشاء الليلة !
_شكراً لك سيد ويستون . ضحك ضحكة خافتة من أعماق حنجرته . أتطلع شوقاً إلى لقائك مرة أخرى .. سأزورك في السابعة ،
أذا كان هذا مناسباً . عظيم .. قرب المطعم مقهى فيه صالون . لاأظن هذا آنسة رايدال .. فعلى المرء ألا يتذوق الأطايب من المكان
ذاته .. دعي الخيار لي آنسة رايدال . أراك في السابعة .
أقفل الخط قبل أن تسأله إلى أين ينوي اصطحابها ... لقد عادت المعركة ، ولكن هولي انزعجت لأن نبضاتها عادت تتسابق .. تساءلت عما إذا كانت تثيره بالطريقة التي يثيرها فيها .. ثم قررت أن التفكير في هذه الطريقة خطير بكل تأكيد .. ويجب أن تعرف ماذا يعرف عن اللوحة قبل أن .. قبل أي شيء آخر .
استحمت ، وأطالت الوقت بغسل شعرها الذي جففته حتى أصبح ناعماً برّاقاً . فتشت قي ثيابها القليلة وقررت ارتداء بزة لها سروال وردي وأبيض مصنوعة من الحرير الناعم الذي لايجعد . كان للسترة المتسعة من الأسفل ثلاثة أرباع الكم يحدها تطريز أبيض وللبزة وشاح طويل من القماش عينه يمكن ربطه حول الخصر أو تعليقه حول العنق ، لكنها اختارت أن تربط به شعرها وتركت طرفيه يتدليلن على ظهرها .. وفكرت أن من الحكمة عدم إبراز معالم أنوثتها الليلة .. وضعت أحمر شفاه خفيف ولكنها لم تتزين بأي حلي أو تتعطر . فالليلة ليلة عمل .. واليوم ينتهي عند منتصف الليل .. لذا يجب تسوية شيء ما حتى ذلك الوقت .
في تمام السابعة سمعت القرع على بابها ، ولم تتركه ينتظر بل سارعت تلتقط حقيبة يدها البيضاء التي حضرتها وسحبت نفساً عميقاً مهدئاً . كان فيلكس ويستون يرتدي بزة سوداء رسمية .. بدا وسيماً بشكل مدمر . وأحست هولي أنها تلقت ضربة على قلبها .. من حسن الحظ أنها فرضت النظام على نفسها منذ زمن بعيد لئلا تُظهر أية ردة فعل أمام الناس .. لأنه حين ابتسم صعب عليها المحافظة على وجه غير متجاوب .. فسمحت لنفسها بابتسامة صغيرة .
قال : " اللون الوردي يناسبك "
_شكراً لك .
مد ذراعه ، وبعد تردد قصير شبكت يدها معه وسارا في الممر نحو المصاعد . كانت عضلات ساعده تحت كم البذلة قاسية كالصخر . ولاحظت هولي أن قمة رأسها كانت على مستوى فمه ... وهذا ما يجعله أطول بإنشين من الستة أقدام .. علقت متسائلة وهما ينزلان بالمصعد إلى الطريق : لم تخبرني إلى أين ستصحبني . التوى فمه ممازحاً : أنت شخص يصعب التأثير فيه آنسة رايدال . لقد اخترت مكاناً مميزاً بشكل خاص .. وأظنك مديتة لي بمفأجاة .
تدل بزته على أنه اختار مطعماً من الدرجة الأولى ، هكذا قررت هولي أن لا داعي للقلق.. إضافة الى هذا ، معها مايكفي من مال في حقيبتها لتغطية تكاليف أي تاكسي، لو أرادت أن تتركه .
استقلا سيارة أجرة و شاركته المقعد الخلفي .. وبدلاً من قول العنوان الذي يقصده ، أعطى السائق بطاقة ، ثم ارتد إلى الخلف يحدثها : هل كان يومك لطيفاً ؟
ـ أجل .. كان لطيفاً.
لاحظت أن السيارة تتجه الى الميناء..تابع السؤال: ألم تفعلي ماهو مثير؟
نظرت إليه بجفاء : ذهبت إلى حديقة حيوان" تارونغا بارك" وتحدثت إلى الحيوانات .
ضحك بصوت منخفض أجش ، ضحكة مثيرة. وقال: وماذا قال لك حيوانا الكولا و الكانغرو؟
ـ فكرت أن من المفيد أكثر ، التواصل مع الأسود و النمور.
ثم ندمت على الرد حين لم يضحك مجدداً . وقال بجد: أنا لا أؤمن بأسر أحد ضمن قفص ، والواقع أنني أكره هذا .. أفضل رؤية الحيوانات في البرية حيث تنتمي .
أشاحت هولي بوجهها وهي تشعر بموجة مربكة من الحرارة تقتحم بشرتها . وعرفت أن ماقاله صحيح .. فهو من النوع الذي يفتح كل الأقفاص ليترك الحيوانات حرة . ولاحظت أن السيارة تتجه إلى الميناء .
سألت : " وكيف أمضيت نهارك"؟
ـ عملت بنصيحتك وفكرت لبعض الوقت ولكنه كان وقتاً صعباً .
نظرت إليه ، فوجدته يبتسم لها، فقالت بخفة: وهل كان تفكيرك مثمراً?
ـ ليس بالضبظ بل كان أشبه بالبذار وقت العاصفة.. إنما سنرى إلى أين ستهب العاصفة الليلة!
ومض شيء في عينيه ، وأحست هولي مرة أخرى بقشريرة خوف وخطر تسري إلى ظهرها. حاولت صرفها، لكنها لم تستطع.. في هذا الوقت توقف التاكسي أمام مبنى مكاتب ناطحة للسحاب، وخرج فيلكس الذي أعطى السائق أجرة ، قبل أن يتاح الوقت لهولي أن تسأل شيئاً .
أمسك مرفقها وأدارها نحو أبواب زجاجية لمدخل كبير .. من الداخل، تحرك رجل أمن ففتح الأبواب: مساء الخير سيد ويستون.
ـ شكراً لك جورج.
ثم قاد هولي إلى مصعد فتحه بمفتاح خاص.. إما أنهما ذاهبان إلى ملهى ليلي فخم يقع في قمة المبنى، وإما هي مخطوفة، إذ لم يكن هناك سوى زر واحد في المصعد.. بذلت جهداً كبيراً لتبقى هادئة.
حين رافقها إلى شقة في أعلى البناء تطل على مرفأ سيدني، كادت تركل نفسها لأنها لم تتوقع هذا.. فهو بكل تأكيد لا يرغب في وجود أحد حولهما .. وبهذا لا يحتفظ بالخلوة لنفسه فقط، بل يسمح لنفسه فقط، بل يسمح لنفسه بالسيطرة على تقدم مفاوضاتهما..والرد على هذا واضح المعالم .. يجب أن تظهر عدم اكتراث كامل .
تحركت في غرفة الاستقبال الواسعة : ما أجمل هذا! إذا كان هذا منزلك سيد ويستون فلا شك أنك تفخر به.
ـ إنه لي .. وأنا أعمل بكل جهد لأحصل على ماأمتلك آنسة رايدال .. وسيكون من الحكمة جداً ألا تتغاضي عن هذا العامل في حساباتك.
نظرت هولي إليه متهكمة: العمل هو عماد الحياة لأشخاص مثلك سيد ويستون..هناك دائماً صيد قاتل يجب إتمامه في السوق .. أليس كذلك ؟ شيء تهزمه.. شيء تجعله لك ..دائماً أفق جديد .. تحد آخر .. لا.. أنا لن أتغاض عن هذا . .أدارت نظرها إلى المنظر مرة أخرى وأردفت بهدؤء : أتساءل كم مرة توقفت لتنظر جيداً إلى ماتمتلك؟
انعكست صورته بوضوح على زجاج الباب ، وراقبته هولي خلسة على أمل أن تصيب فيه وتراً حساساً قد يزعزع ثقته المتعجرفة بنفسه. وعندما اشتدت عضلات فكه ابتسمت هولي لنفسها. قد تكون لغة الجسد كاشفة، خاصة حين يظن المرء أنه غير مراقب..أحست أن ماسيقوله الآن بغاية الأهمية فركزت لتصغي إلى كل معنى متوار في كلماته: المسألة التي نبحثها ..هي ماذا تريدين أنت ..؟ إلام تسعين؟
كان يرمي كلماته بقسوة ، ولايزال يسيطر على نفسه بتجهم .. لم ترد هولي .. ففي ذهنه شيء آخر .. شيء يكاد يقوله .. وتريد منه أن يقوله .. مع ذلك، حين جاء الرد، ماقاله كان مفاجئاً بحيث أنها لم تكن قد تحضرت له.
ـ فلندخل فوراً إلى صلب الموضوع آنسة رايدال . لكنك لست الآنسة رايدال بل أنت الآنسة ماكنافش ابنة ايرول ماكنافش!

ـ ليلة القبض على الصياد



بقيت هولي جامدة في مكانها حتى توقف قلبها عن الخفقان.. لقد انتزع فيلكس ويستون عامل المفاجأة منها، واستخدمه بنفسه. ولكن على هذا ألا يؤثر فيها! ارتدت ببطء، عيناها الرماديتان صاحيتان ثابتتان.
_ اسمي رايدال.. لقد تبناني زوج أمي رسمياً .. لكن والدي الحقيقي هو ايرول ماكنافش.
ابتسمت ابتسامة جافة.
ـ يبدو أنك شغلت نفسك اليوم بهذا.
وكادت تضيف أنها استغرقت العمر كله تقريباً لتعرف هذه المعلومات الدقيقة ، ثم أمسكت لسانها على أمل أن تسمع ماذا تعني هذه المعلومات له. لكن تعابيره المتجهمة لم تلن، بل بقيت قاسية لارحمة فيها .
ـ لم يكن صعباً علي أن أعرف الأمر من جيوفري هامينغز، فهو يحب المال. كان عليك إعطاءه تعليمات صارمة ليكتم هويتك.
ـ لم يكن هناك داع لهذا ..كنت سأخبرك على أي حال عاجلاً أم آجلاً .
ـ أجل .. بالتأكيد .. يجب أن يظهر هذا، أليس كذلك؟ لابد أنك كنت تتيهين ابتهاجاً وغروراً ليلة أمس حين ابتعلت الطعم .. ولقد جررتني هذا الصباح إلى ماتريدين .. لكن، الليلة.. الليلة سنسوي الأمور بطريقة أو أخرى.. لمرة واحدة وإلى الأبد، أو ماتبقى من الأبد! لم يكن لدى هولي فكرة عما يتكلم عنه.. مع أنها أملت أن تظهر اللوحة شيئاً عن ماضي أبيها، وردة فعل فيلكس توحي بأنها مهمة كثيراً بالنسبة له.. لكنها لاتزال تجهل المسألة.. وعليها بطريقة ما المضي باستفزازه حتى يتكلم.
قالت بخفة: أنا لا أعارض تسوية كل شيء الليلة لأنه يناسبني. التوى فمه سخرية : إذن نحن نفكر معاً على الموجة ذاتها.
غمغمت دون اكتراث: همم..ربما. حركت نظرها ببرود متعمد إلى اللوحات الموضوعة على الجدار خلفه.. وعلقت: ذوقك رفيع.
عندما لم يرد ، أعادت نظرها إليه وحاجبها مرتفع تساؤلاً .. برقت العينان الخضراوان بإعجاب ساخر.
ـ سأقول لك شيئاً ..لذلك أعصاب من فولاذ.
سار ببطء نحوها وكانت كل خطوة تجربة لرباطة جأشها.. في هذه اللحظات عرفت هولي ما يشعر به الحيوان حين يتسمر بأرضه خوفاً .. لم تتكن من انتزاع عينيها من عينيه ، وبدأ قلبها يرعد في أذنيها .. لكنه لن يهددها جسدياً.. توقف نصف خطوة بعيداً عنها، وارتفعت يده إلى خدها وراحت أطراف أصابعه تمر برقة على بشرتها وهو يتكلم : أعترف أنني أقدر مامررت به.. بل أنا معجب كثيراً بالطريقة التي تتعاملين بها..وأنا مستعد للوصول معك إلى اتفاق . هناك دائماً اتفاق يجب التوصل إليه بين من هو مثلي ومثلك، أليس كذلك؟ عم يتكلم؟ هل هو جاد؟ أم تراه يتلاعب بها، بغية اختراق الأسوار التي حصنت نفسها؟
قال بصوت ملؤه التحدي، وكأنه قرأ الشكوك في عينيها : ربما .. لا.
أجبرت صوتها بكل ماأوتيت من قوة إرادة على البرودة والحدة: ماذا تريد سيد ويستون؟
ـ في هذه اللحظات.. هولي ما كنافش، لست واثقاً ما إذا كان علي أن أكرهك أم أن أعانقك بجنون.
شكت هولي في أنه قادر على الأمرين معاً ..وقالت: ليس الأمر حكيماً في هذه المرحلة الحاسمة.
ـ قد تجدين شيئاً ما بين الاثنين.. ولكنني غير واثق مما إذا كنت سترمين ذراعيك حول عنقي وتبادلينني عناقي المجنون أم ستخرين على ركبتيك لتتوسلي.. لذا أردت أن أعرف .
ـ للأسف أنه لن يبدر عني أي أمر من الأمرين اللذين ذكرتهما.
قهقة بصوت أجش ولكن أصابعه تابعت جولتها على خدها وفمها وصولاً إلى خدها الآخر .. فجعلتها لمسته هذه ترتجف.. وللمرة الثانية استقطبت كل مالديها من قوة إرادة وتركيز لتبقى جامدة ، على الأقل ظاهرياً .. لكنها لم تكن مسيطرة على مافي داخلها.
كؤفي جهدها بالإعجاب الذي تسلل إلى عينيه .. وأحست أنها تكاد تصاب بالدوار جذلاً لهذا الدليل الواضح على الاقدام الذي ظهر عند مثل هذا الخصم المهيب .
ثم قال بغموض: ستكونين رائعة.. رائعة.
أحست أنها انتصرت.. فللتو كشف عن شيء هام.. لكن ماهو؟ ليس لديها فكرة. كل ما عليها أن تفعله هو الانتظار . وفي النهاية ماذا يشمل نصرها هذا؟
قررت أن تحاكيه في لعبته ، دون الكشف عن أي شيء: ربما ستكون أنت أيضاً رائعاً.
وثب شيء خطير متوحش إلى وجهه وسرعان ماارتد خطوة إلى الوراء: إذن فلنبدأ العمل.
جذبها إلى إحدى الأرائك الجلدية الموضوعة حول طاولة زجاجية السطح. الواضح أن فيلكس كان ينوي تقديم بعض الطعام والشراب لها. فعلى الطاولة صينية عليها أكواب أنيقة من الكريستال، وإبريق من عصير. أجلسها على الأريكة، ثم ركز اهتمامه على سكب العصير.. ثم لوح لها داعياً إياها إلى تناول ماتشاء من الطعام الشهي: أنصحك بتذوق الكافيار الذي هو من نوع " بيلوكا" وأنا أستيغيه أكثر من نوع " السفرون". وضعت بكل حذر ، قليلاً من الكافيار على خبز محمص، وقضمت قضمة فهي بحاجة إلى مايهدئ معدتها. جلس فيلكس إلى الأريكة المقابلة لها ، وأخذ يرتشف العصير، وعيناه تدققان بها بشكل لايلين .
ـ أنت تقامرين.. أتعرفين هذا؟ أنا لا أصدق أن علي أي دين أو مسؤولية في هذه المسألة .. ومن غير المجدي لك المضي بما بدأت به.
لم تصدقه هولي، إنها تقامر.. لكن المشكلة أنها لاتعرف عما تتكلم : ..ألا تظن أننا معاً ضحيتان لآرائنا الخاصة؟
سأل : " لماذا لاتبتعدين بخمسة ملايين؟".
هزت رأسها: " معظم الناس يحلمون بأقل من خمسة ملايين دولار..لكنني لا أستطيع القبول بها، فثمة مسؤؤلية وأمانة.. وأنا أنوي الحفاظ على تلك الأمانة مهما بدت المسألة غباء.. وثانياً ، لأن هذا ليس ما أسعى إليه".
التوى فمه تهكماً : اقترحي .. وأنا سأقبل اقتراحك مهماً كان.
دار عقل هولي في دوامة من التفكير.. إنها لاتعرف ماذا تقترح .. التقطت كوبها الذي ارتشفته ببطء وحاولت التفكير في المشكلة. الحل الوحيد لهذه العقدة هو ألا تقترح شيئاً. ارتفعت عيناها فالتقتا بعينيه بتحدٍ جريء..
ـ اقترح أنت.. وسأفكر في الأمر.
بدأ أن ردها كتم أنفاسه ، فقال بشدة: أنت بغاية القسوة.
ـ في هذه المسألة ، أجل.
ـ أليس هناك تسوية أخرى تقترحينها؟
ـ أبداً.
نظر إليها وكأنه لا يستطيع تصديق موقفها. ووضعت هولي كأسها من يدها ، واختارت قطعة معجنات مليئة باللحم المتبل.. أكلتها بشهية. يبدو أن وجودها مع فيلكس يزيد من أحاسيسها كلها.
سأل:" وهل فكرت في كل الخيارات؟".
ردت بصدق: " نعم".
غريب كيف يأخذ هذا كله بجد في الوقت الذي لاتملك فيه أية فكرة عما يبحثان. في هذه اللحظات، لها اليد العليا بكل تأكيد.. فقد أحست بقلقه.
ـ وهل هذا موقفك النهائي؟
ـ هذا ما يبدو لي.
إنها تجود في هذا اللعب المزدوج على الكلام، فقد أصبح ينزلق الآن دون تفكير: ولن أقول إنني لم أفكر في الأمر، كملجأ أخير..
فتشت عيناه في عينيها عن أي شرخ في دروع دفاعاتها وقررت هولي أن الجهل في هذا السياق نعمة.
قال:" خلتك ستتراجعين".
استخدمت الصمت من أجل رد أفصح.. فالتوى فمه وأضاف: هذا يوفر علينا التغاضي، ويدفع عنا الخلاف العلني .
لزمت هولي الصمت وأخذت تدير كلماته في رأسها.. وتتساءل عما هو العمل القانوني الذي يفكر أنها ستقوم به ضده.. كانت متأكدة من أنهما لايتكلمان عن اللوحة، ولابد أن يكون كلامهما عن منجم الألماس.ربما كان لوالدها يوماً حق بالمنجم.. على أي حال يتصور فليكس ويستون أن مقاضاته أمام المحاكم ستكون دعاية علنية سيئة ولكنها لاتعرف شيئاً عما يتحدث عنه. والظاهر أن فيلكس يأخذ المسألة بجد كبير والملايين الخمسة شاهد على هذا!
قال بقسوة شريرة: "لن أتحمل عنادك".
ـ ولا أظنني سأ تشبث بعنادي.
وانسلت الكلمات منها قبل أن تتمكن من استرجاعها.. وكانت مشغولة بمحاولة التفكير في الموقف، بحيث ردت آلياً دون فهم ماكان فليكس يقوله.. لكن عقلها تمسك أخيراً بكلمة " عناد"، ونظرت بتردد إلى فيلكس وهو يقف .
قال بصوت متجهم: لعبت دور البرودة طوال الطريق إلى هذا الموقف.. فلتتفحص هذا.
دار من حول الطاولة، وجذبها لتقف عن الأريكة بينما كانت تحاول أن تفهم ماذا يقصد..ما شأن عنادها بما يقول؟ لكنها لم تبق على عنادها عندما شدها ببطء إلى عناق جعلها تعي بشكل غامر قوة جسمه.. وتسارعت الحرارة تغزو شرايينها، ووجدت هولي عناقه أكثر فتنة من أن تقاومه.. ومع أنها علمت أن هذا سيضعف موقفها مضت فيه .. ولكن ألم تتساءل طوال النهار عما سيكون شعورها لو عانقها فيلكس ويستون؟ والآن بعدما حدث ماحدث لن تفوت الفرصة لتعرف.هكذا دست ذراعيها حول عنقه، تشجعه بشكل متعمد على احتضانها أكثر.. والظاهر أنه سارع ليستغل الفرصة..
فيما بعد، لم تعرف هولي ماذا حدث فقد تفجر شيء مابينهما.. مشاعر عطشى إلى مزيد من الارتواء.. اندفاع لاسيطرة عليه، يجمع بينهما حتى لا يعود هناك سبيل إلى الفراق.
ولكن الفراق جاء وعندما حدث كان متوحشاً عنيفاً . فقد انتزع ذراعيها عن عنقه، وأرجع رأسه إلى الوراء لينظر إليها.. وكانت عظلات عنقه بارزة متوترة ، قوية لاتلين.. وأحست بالحرج.. لأنها لم ترد منه أن يبتعد عنها.. وهو أيضاً رغم ابتعاده عنها كان يجاهد بكل طاقته ليقاوم.. إذن فهو ليس منيعاً ضدها! أشعرها هذا الأمر بالانتعاش والقوة، فلا مجال لإنكار ردة فعله نحوها. عندما أخذ يقوم تعابير وجهها رأت في عينيه نظرة حذرة وابتسمت متسلية بقدرتها على تحديه.
ـ حسناً .. قد يكون الدفاع فولاذياً ، لكن الجسد جسد امرأة.
ردت ساخرة: لكنني لم أشك قط في رجولتك.. إنما لابأس بمعاينة الأمر.
ـ اعتبري المسألة منتهية.. متى تريدين أن يتم الزواج؟
الزواج ؟ لم يكن لدى هولي جواب جاهز. ولم تعرف بماترد.. وتوجه تفكيرها إلى المعاني المزدوجة التي ذكرها .. لقد قال : اقترحي وسأقبل.. وطلبت أن يقترح هو..لم تفكر قط أنه قد يقترح شيئاً كالزواج ولكن الواضح أنه ظن هذا.
هذا سخيف! لكن كيف تشرح الأمر له؟ إنه ينتظر ردها.. لقد تصورت أنها قد تقع في حبه، لكن زوجته؟ كان للفكرة سحر غريب.. وبعد ذلك العناق لن تقول لا.. إنما ليس في الحال.
ـ وماذا يناسبك؟
ـ يناسبني أن يتم الأمر في أسرع وقت ممكن.. فساعتئذ، أستطيع التأكد أنك لن تلجئي إلى أي خداع. فلنتم الزواج غداً .
فكرت بتهور: ولم لا؟ لم يجعلها رجل قط تحس بأنها حية فكرياً وجسدياً، حتى " صديقها" الأول الذي خططت لتتزوجه. فلماذا لاتجرب مع فيلكس ويستون؟ وقبل أن يسيطر المنطق البارد أكثر على نفسها، قالت : " أجل.. ليس لدي ماهو أفضل من هذا أفعله غداً..".
ليس لديها ماهو أفضل لتفعله لما تبقى من حياتها.. وزواجها هذا سيكون تغييراً .. نحو الأفضل.. أو الأسوأ.
قال بصوت ملؤه الرضا: اتفقنا إذن .. سأقوم بالترتيبات اللازمة.
أحست هولي بالتردد.. ومع ذلك قالت بتبجع ثابت: هذا يناسبني.
على أي حال، لو غيرت رأيها فسيكون بمقدورها ركوب أول طائرة إلى بوسطن، بينما هو ينتظرهافي الكنيسة .. لكن حتى في هذه المرحلة، لاتظن أن هذا سيحدث.
في ماتبقى من الأمسية تساءلت هولي عما إذا أخذت إجازة من عقلها.. لقد جاءت إلى هنا بحثاً عن معلومات عن والدها، وإذا بها تندفع إلى قرار لم تكن لتتوقعه حتى في أكثر أحوالها جنوناً . لكن معرفتها بأنها ليست في خطر خفف من الضغط على أعصابها، وأدركت أكثر أن قبول فيلكس لهذا الزواج المجنون، سيبلغها بكل تأكيد شيئاً ما عن والدها، وحياته.
لكن كيف السبيل لإيجاد الوقائع الصحيحة خاصة وهي تجهل كل شيء؟ ولكن فيلكس على مايبدو يدين لوالدها بشيء، وهو مستعد للمضي حتى الزواج ليصلح هذا الأمر الذي جرى مع والدها في الماضي.. سيكون زواجهما بلاشك علاقة مريرة، لأن فيلكس سيظنها مجرد امرأة مندفعة تحسب حساب كل شيء ببرود، قد انطلقت لتحصل على ماتستطيع الحصول عليه .. من ناحية أخرى، هو ببرودة كان يقوم بشيء من الحسابات ليوفر على نفسه إجراءات قانونية يعتقد أنها ستكلفه الكثير.
ولكنه لايبدو غير سعيد بالصفقة التي عقداها.. بالمعنى الذي قصده هو. ساد الحديث بينهما جو من عدم الواقعية .. وانطلق فيلكس يحدد التفاصيل العملية لما يحتاجه زواجهما.. وقالت هولي نعم لكل شيء اقترحه.. من زواج خال من أي مراسم إلى صرف النظر عن كل ادعاء زائف بشهر عسل. وحين قال إنهما سيسافران إلى " بندنير داونز" في الصباح الذي سيلي زفافهما، لم تسأل أين يقع هذا المكان، أو ماهو.. ووافقت دون سؤال.. مع أنها لاحظت أن موافقتها حملت بريقاً من الرضا الماكر إلى عينيه الخضراوان القاتمتين . هذا ماشدها من تفاؤلها لتعرف أن فيلكس لا يتقبل هذا الزواج بإرادة طيبة منه.. ربما وجدها مرغوبة لفترة.. لكن، بطريقة أو أخرى كان عازماً على هزمها في هذه اللعبة التي يعتقد أنها تلعبها.. إنها الآن تمسك نمراً من ذيله، لامجال لترويضه في الوقت الحالي.. والغريب أنها لم تشعر بالانزعاج من هذه الفكرة، بل على العكس أثارتها الفكرة أكثر.. لاشك أنها مجنونة حقاً أو أن فيها خطباً ما .. مع ذلك فقد استمرت تلاعبه.
أعادها رنين جرس الهاتف إلى أرض الواقع، وبوضوح كامل.. كانت هي وفيلكس قد أنهيا الطعام وعادا إلى غرفة الاستقبال يشربان القهوة، حين وصلت المخابرة.. توتر لهذه المقاطعة، لكنه التقط السماعة..
لم تستطع سماع سوى ما يقوله هو من الحديث.. لكن هذا أفادها بأن استطاعت تركيز تفكيرها بحدة.
قال:" لا.. يجب أن تتدبر الأمر بنفسك جاك.. لاأستطيع المجيء.. لدى هنا ما هو أهم"
صمت فيلكس فترة قصيرة جادله المتصل خلالها.. والتوى فم فيلكس بابتسامة ساخرة: سأتزوج غداً .. بالنسبةلي، لهذا الأولوية القصوى.. فافعل ما تعتقد أنه الأفضل .. مزاجي لايسمح لي أن أهتم الآن .. خطيبتي معي.
تراقصت التسلية الساخرة في عينيه وهو يصغي لردة فعل المتكلم.. ثم: ـ هي ليست أسترالية.. إنها أميركية، من بوسطن ، ماساتشوسيتس ولا أنوي انتظار أي شيءجاك..هذا شأني الخاص.
عندما طرح سؤال آخر قست عينا فيلكس فجأة وهما ترتفعان لتلتقيا عيني هولي المتسائلتين: اسمها هولي رايدال.. لكن مساء الفد سيصبح الاسم هولي ويستون. لقد قررنا أنا وهولي أن زواجنا شأن خاص بيننا فقط.. وهذا أمر نهائي جاك.. سأتصل بك حين أكون مستعداً .. وليس قبل ذلك.

أعاد السماعة إلى مكانها بحدة، وكأنما ينهي أي جدال آخر.. في تلك اللحظة، قررت هولي شيئاً ، فيلكس ملتزم بزواجهما، وهي لن تتراجع أبداً .. مهما ثبت غباء هذا، فهي مغامرة يجب أن تخوضها، أو ستندم!
أعادها إلى فندقها، وأوصلها إلى غرفتها. كانت قد أعطته جواز سفرها لتسهيل المعاملات القانونية المطلوبة للزواج، ولم يكن هناك شيء تفكر فيه لاستبقائه معها .. فتحت الباب وتوقفت تنظر إليه،آملة أن يعانقها عناقاً سريعاَ لتقتنع أكثر بصواب قرارها.
كانت تعابير وجهه جامدة ومخيفة بطريقة ما،وهذا ما جعلها تتساءل عما إذا كان يعيد النظر بقراره المتعلق بزواجه بها..
قالت بسرعة ملهوفة لإبقاء الحال على ماهو عليه: " ليلة سعيدة"


يتـــــــــــــبع
لكنه أوقفها وهي تحاول الخطو داخل غرفتها ويده تمسك ذراعها بقسوة. قال وعيناه تحترقان بحدة آمرة: شيء واحد آخر.. هولي.. تلك اللوحة يجب سحبها من المعرض في الصباح الباكر.. أبلفي هامينغز أن يغلفها ويخزنها.. ضعي مكانها شيئاً آخر. لاأهتم بالترتيبات التي قد تتخذينها طالما لن تبقى معروضة علناً.. هل هذا مفهوم؟ اللوحة! طبعاً.. هي صلب كل شيء..هي السبب الذي دفع فيلكس إلى هذا الزواج غداً. اشتد ضغط أصابعه على ذراعيها بشكل مؤلم، وزادت نظرته القاسية من حدة الأمر: ستحصلين على ماأردت.. والآن سأحصل على ماأريد .. من الآن وصاعداً، انتهى اللعب . لاتشكي في هذا للحظة واحدة.
ولم تكن لتشك.. وصممت ألا تكشف له أبداً كيف تم الوصول إلى هذا الموقف، مهما حصل:هذا الشيء الأول الذي سأهتم به في الصباح.
لقد أحست دوماً بالذنب لأنها عرضت اللوحة على كل الأجوبة التي تسعى إليها ولكنها واثقة أن الزمن كفيل بكشفها.. نظر فيلكس إليها متفرساً، وكأنه ليس واثقاً إن كان قادراً على الثقة بها.. ثم هز رأسه وترك ذراعها: أنت لست غبية.. يمكنني تأكيد هذا عنك.. هولي ماكنافش ـ رايدال.
لامس خدها بتحية ساخرة وأضاف: حتى الغد.
أطلقت هولي أنفاسها متنهدة تنهيدة خيبة.. فالواضح أنه غير راغب في كشف أي شيء لها، مع أنها أحست بأنه أراد معانقتها.. فهل أعاد التفكير في الأمر مرتين لأنه خشي أن يفقد سيطرته على نفسه. فيلكس ويستون، رجل متكبر، مكتف بنفسه. بعد الغد سيكون زوجها وساعتئذ لن يدير لها ظهره.
لوت ابتسامة صغيرة فم هولي وخطت إلى غرفتها وأقفلت الباب.. غداً سيأتي بالسرعة الكافية

ـ عينان تبحثان عن الألم


كان على هولي القيام باتصالين هاتفيين في الصباح التالي.. وبدأت باتصال العمل أولاً. ارتفع صوت جيوفري هامينغز بانفعال: بعتها!
ـ لا.. ولن أبيعها أبداً جيوفري..كل مافي الأمر أنني أريد سحبها من المعرض.. لقد قررت أنني لاأريد إظهارها بعد الآن .. لذا سأكون ممتنة لك لو خزنتها لي، حتى إشعار آخر.
ـ لكن..
قاطعته:" اللوحة التي رسمها أبي عن الغابة الاستوائية ذات القياس.. واسم الأحلام الضائعة ينطبق عليها أيضاً .. فلو علقت هذه مكان تلك لملأت الفراغ ، وعندئذ لن يلاحظ أحد شيئاً ..".
بدأ صوت سمسار اللوحات يشبه صوت أسطوانة مكسورة: لكن..لكن.. بالتأكيد بعتها؟
ـ أعتقد أنك عقدت صفقة مربحة بالأمس مع فيلكس ويستون.. ولكنني.. لم أبعها.
ساد صمت قصير.. جيوفري هامينغر بعيد كل البعد عن الغباء، تصورت هولي كيف يشغل عقله في هذه اللحظات فلاشك أنه يقلب في فكره العواقب المحتملة.. حين تكلم كان صوته قلقاً: كيف عرفت بما جرى الأمس؟ ابتسمت هولي لنفسها.. لن يجادلها بعد الآن بشأن اللوحة.. وسيكون تاجر اللوحات أكثر حذراً في التعامل معها مستقبلاً.
قالت:" جيوفري.. أنت ثرثار.. وماقلته لفيلكس ويستون عن هذا، هذه المرة.. كل ما ستخسره، هو عمولة خمسة ملايين دولار.. من ناحية أخرى.. لدى فيلكس ويستون مجموعة فنية عظيمة، وفي السنوات القادمة قد يشتري الكثير من اللوحات منك.. لقد وجدت كنزاً محترماً جيوفري".
صمتت قليلاً ثم سددت ضربتها: ستتأكد بنفسك من استبدال اللوحة هذا الصباح، أليس كذلك؟ أظنك غير قادر على إتمام الأمر بالسرعة الكافية. سمعت تفجر أنفاسه: بل أقدر، بل.. أقدر.. سأباشر هذا على الفور.
ـ شكراً جيوفري.. أقدر لك هذا. أنت وكيل رائع.
تنهدت هولي وهي تعيد السماعة إلى مكانها، واستعدت للمخابرة التالية.. فأمها لن تسامحها أبداً لو تزوجت دون إعلامها.. ومن السوء بما فيه الكافية ألايكون العرس مناسبة اجتماعية ضخمة في بوسطن. لكن الأكثر سوءاً ألاتخبرها مسبقاً عن زواجها، وبما أن هذا الزواج سيتم بهذه السرعة فلن يكون بمقدور هيذر وجول رايدال الحضور.. وهذا أفضل.. فالموقف مخادع.
ـ ستتزوجين من أسترالي؟
ماكانت صدمة هيذر رايدال وسخطها ليكونا أكثر وضوحاً ، لوكانت ابنتها واقفة أمامها.
أردفت:"عرفت أن سفرك لن يجلب لك أي خير"..
قدمت هولي المواساة التي يمكن أن تكون الأفضل لتسكين ثورة أمها: فيلكس أوسم رجل يمكنك أن تتصوريه، أمي.
ـ وهكذا كان والدك.
هذا خبر جديد لها وهذا يشير إلى السبب الذي جعل أمها تولع به. الوسامة والجمال هما تقريباً كل شيء بالنسبة لهيذر رايدال.. فتشوه وجه ابنتها مثلاً كان أمراً لم تستطع تحمله وهذا مازاد هولي ألماً ولكن الوقت حالياً غير مناسب لنبش الجروح القديمة..
أردفت:" وهو كذلك عظيم الثراء".
ـ من أين؟
إنها تعني هل ورث ماله عن أبيه أم جناه بنفسه.. ولكن التبجح المتكبر الضمني في هذا السؤال جعل هولي تغضب..
ـ من الألماس أمي.. لا أدري ما إذا سمعت بألماس كيمبرلي الملون، لكنه أروع ألماس في العالم.. وفيلكس يمتلك مناجم منها وهو من مشاهير العزاب بل هو الملك بينهم.
ـ لاتكوني سوقية الألفاظ هولي.. أعتقد أنه قد يكون مقبولاً .
ـ أنا تقبلته على أي حال.
ـ أجل ..حسناً أعتقد أن علي أن أكون ممتنة لأنك أعطيتني علماً .. ولماذا الاستعجال؟ لا يعجبني هذا.. هلا أخبرتني الحقيقة كلها؟
ـ أمي!
ـ إذن لماذا لا تتزوجين بشكل ملائم؟
تنهدت هولي.. فمخاوف أمها طبيعية: أنا لست متورطة معه أمي.. فيلكس ببساطة لايريد الانتظار.
ـ النساء يجعلن الرجال ينتظرون.. من غير اللائق..
ـ أمي! سأتزوج اليوم! أرجو منك أن تتقبلي الأمر!
ران صمت قصير بعد مقاطعة هولي الحادة لأمها.. ثم جاء القبول بشكل بارد: أتوقع أن يتمكن جول من الحصول على ملف عن فيلكس ويستون هذا، لنتمكن من إطلاق الخبر هنا. لكنني سأكون شاكرة إن أرسلت لي صورة زفاف.. وأشك أن يرضي هذا صفحات المجتمع..
ـ أشك في أن يرغب قيلكس بالدعاية على أي حال.
ـ هولي .. أنا لا أفهمك.
ـ لا أظنني أفهم نفسي.
وسمعت تنهيدة ثقيلة عبر الهاتف: متى سنلتقي به؟
ـ سأدعك تعرفين في الوقت المناسب أمي .. سأرسل لك العنوان الكامل حين أراسلك.
فجأة، كان في صوت هيذر رنة إلحاح: هولي .. هولي.. منذ متى تعرفين هذا الرجل؟
ـ أعرفه مدة تكغي لأعرف أنني أريد الزواج به.. أمي.. أرجوك لا تقلقي. أعدك..
ـ هولي هذا ليس رداً .. أنت تتجنبين الرد..
أطلقت نفساً متحشرجاً : ـ هولي.. لقد عرفت أباك مدة أربع ساعات حين.. حين وقعت في حبه بجنون.. ورغم ما شهرناه نحو بعضنا بعضاً، تبين أنها كانت غلطة رهيبة. لم نعرف بعضنا معرفة جيدة.. صدقيني أنني أعرف قوة الجاذبية الجسدية.. لكن.. عزيزتي.. غريب.. إنها لا تذكر متى آخر مرة سمعت مثل هذا الاهتمام والقلق العميق في صوت أمها: أمي..
ونفرت الدموع من عينيها: الأمر أكثر من هذا .. حقاً .. أنا لست صغيرة كما كنت أنت .. أمي .. أرجوك.. تمني لي الحظ.
ارتجف صوت الأم:" ألن تنتظري؟".
ردت هامسة:"لا".
ـ أتمنى.. أتمنى فعلاً لك السعادة هولي.. ماكنا يوماً على تواصل لكنني أردت لك دوماً كل ماهو أفضل.. تعرفين هذا.. أليس كذلك؟
ـ أجل.. أجل أعرف أمي.. بالتأكيد..
كانت الغصة في حلقها وبدا لها أن من السخف أن تكون عاطفية إلى هذا الحد.. مع ذلك.. ربما في الزواج ما يقرب الأمهات والبنات معاً ، مهما كانت المسافة بينهما بعيدة.. لم تكن غلطة أية واحدة منهما لأن نظرتهما إلى القيم والحياة مختلفة..
ـ شكراً لك أمي.. أشكرك لكل مافعلته من أجلي..
تنهدت:" هولي.. أتمنى أن تكوني عارفة بما تقدمين عليه".
ـ وأنا كذلك.. يجب أن أنهي المكالمة الآن أمي. سأتصل بك في القريب العاجل.
أحست هولي براحة كبيرة لإنهاء المكالمة التي لم تتصور للحظة أنها ستكدرها.. ربما حين تلتقيان مرة أخرى تعودان إلى ما كانا عليه من التباعد.. كقطبين متناحرين.. لكن، كان من الجيد، ولو لمرة واحدة، أن تطمئن أنها ليست ابنة اللايزر بالنسبة لأمها.. وأنها تهتم فعلياً بها.. مسحت عينيها وسحبت نفساً عميقاً ..ثمة أمر واحد يمكنها القيام به لإسعاد أمها وهو أن ترسل لها صورة عن الزفاف ولتكون الصورة جيدة عليها ارتداء ثياب تعجب أمها.. وبما أنها لن تسمع من فيلكس شيئاً إلى مابعد الظهر فهذا يعني أن لديها الوقت الكافي للخروج ولشراء بزة العرس.. وشيء مميزمعاً . على أي حال، الزواج مناسبة مميزة بحياة الإنسان.. مهما كانت الترتيبات غير طبيعية. استمتعت فعلاً بفترة الصباح وجابت فيها ثلاث دور للعرائس قبل أن تجد ماتريده. أعجبت بعدة أثواب رومانسية، ولكنها فكرت في النظرة الساخرة التي ستظهر في عيني فيلكس الخضراوين.. تلك البذلة الحريرية البيضاء التي اختارتها كانت رائعة، بسيطة، وأنيقة، وغالية الثمن. أبرز طرازها الكلاسيكي، ثنايا جسدها. وهذه السترة، وهذه التنورة ما كانتا أكثر تناسباً مع جسدها، لو أنها طلبت تفصيلهما على مقاسها.. ثم اعتمرت قبعة صغيرة أنيقة تتناسب مع البذلة، مصنوعة من القماش الحريري ذاته، ثم اشترت حذاء وحقيبة لتتم زيها. أخيراً عادت إلى الفندق مسرورة بما اشترته.. نشرت كل شيء فوق السرير، لتستمتع بالتطلع إليها.. ثم طلبت غداء خفيفاً إلى غرفتها. ما إن وضعت الهاتف من يدها، حتى بدأ يرن مرة أخرى.. فالتقطته ثانية، ولكم أدهشها سماع صوت فيلكس الذي اتصل قبل وقت مما اتفقا عليه.
قال بلهجة ماكرة: حاولت الاتصال بك طوال الصباح..
ردت بصراحة مماثلة: لقد أبعدت اللوحة من المعرض.
ـ أعرف هذا .. أردت فقط أن أتأكد ما إذا كنت بحاجة لشيء.. ثياب أو ماشابه..
ـ أنا على مايرام.. شكراً لك.
رد ساخراً :" عرفت أنك ستكونين منظمة.. ولم أتوقع ماهو أقل من هذا".
ردت بتحد: بإمكانك التراجع ساعة تشاء فيلكس.
قال بصوت: " ثلاث ساعات على العد العكسي".
ردت بحدة:" عظيم"!
ـ لسوء الحظ ثمة مشكلة إضافية علينا الاهتمام بها . فأمي تطالب بمقابلتك، ولقد وصلت هذا الصباح.. ولأنك العروس العتيدة، يجب أن تظهري بهذا الدور.. وأعتقد أن الملابس التي عندك تغطي هذا الأمر غير المتوقع! .
إذن لهذا كان يتصل بها! ابتسمت هولي.
ـ أمي تطالبني بشيء أيضاً فيلكس، صورة عن الزفاف. لذا اشتريت بزة مناسبة هذا الصباح. فهل ترتب أمر المصور، أم أرتبه أنا؟
تمتم بشيء من بين أنفاسه قبل أن يرد: اتركي الأمر لي. هل بمقدورك أن تكوني جاهزة في الساعة الثانية؟
ـبكل تأكيد.
ـ أمرت رئيس مصممي الجواهر أن يأتي من " بيرت" ومعه مجموعة مناسبة لعروس من الماس.. وأظن الفكرة ستعجبك. وإذا سار كل شيء كما يجب سأجلبه معي إلى غرفتك في الساعة الثانية.. بعض القطع قد تتطلب بعض التجربة.
ـ كما تشاء..
لايعني الألماس لها شيئاً .. لكن لم يعد هناك شك أنها الأساس في هذا الزواج.. ولاتستطيع إحباط فيلكس بهذا الخصوص.
قال بصوت متهكم: أيتها الآنسة الصغيرة الباردة.. هل لديك فكرة كم من المثير.. ؟ لا.. لاتردي على هذا.. أنا واثق أنك على علم بما أنت مقدمة عليه.
وانقطع الخط فجأة . فيما كانت تضع السماعة مكانها، لم تستطع إلا الابتسام لنفسها ابتسامة عريضة.. لقد زل لسان فيلكس.. وكشف أنه يجد واجهتها الباردة، مثيرة. ربما توصلت إلى نفسه كما توصل هو إليها.. وإذا كان الأمر هكذا.. حسن جداً ، فقد تكون عروس الماس، لكنها ستكون زوجة لن يسهل على فيلكس ويستون التخلص منها.
أفقدها انفعالها شهيتها، لذا عندما وصل الغداء لم تستطع إلا تناول السلطة.. وهمس لها التعقل أن إحساسها بالبهجة والترقب غير مبرر في مثل هذه الظروف.. لكنها مسرورة كثيراً بالاستعداد للزفاف.
استحمت واعتنت بأظافرها وتعطرت، وارتدت قبل الثانية بخمس دقائق.. ولم يبق أمامها. غير اعتمار القبعة ولكن عليها ألاتعتمرها إلابعد زيارة الجوهري.. وضعت شيئاً من التبرج الأنيق على عينيها فعليها أن تظهر أجمل مايمكن أن تكون، فثمة صورة تريد إرسالها إلى أمها.. لم تكن هولي ممن يهتم بالتوافه التي تهتم بها النساء عادة ولكنها عرفت أنها تبدو كأفضل ما يمكن أن تبدو.
وعندما رآها فيلكس بعدما فتحت له الباب برقت عيناه علامة الرضا.. فخفق عندئذ قلبها بقفزة مثيرة ولم تستطع غير رسم ابتسامة مهذبة على شفتيها.. انتزعت عينيها عن الزوج العتيد إلى الرجل الذي يرافقه. كان رجلاً صغير الجسم، تجاوز منتصف العمر.. كتفاه منحيتان قليلاً ، وشعره رمادي.. ولكن عينيه كانتا حادتين من فرط الفضول وهو يقوم هولي.
قدمهما فيلكس بسرعة: أريك تانر.. هولي هل لنا أن ندخل؟
ـ كيف حالك سيد تانر؟
ومدت له يدها فسارع الرجل ينقل حقيبته من يد إلى أخرى ليصافحها وقال مبتسماً ابتسامة مشرقة: تسرني مقابلتك آنسة رايدال.
أصدر فيلكس صوتاً فيلكس صوتاً ينم عن نفاد الصبر.. فنظرت هولي إليه نظرة فوقية، مع أن نبضها كان يتسارع بسببه.. تراجعت إلى الوراء ولوحت للرجلين ليدخلا إلى الغرفة. أسرع أريك تانر إلى الطاولة الموجودة تحت المرآة ووضع حقيبته عليها، ثم أخذ يفتح أقفالها المتعددة.. ووقف فيلكس إلى جانب هولي وعيناه الخضراوان تومضان بإعجاب متهكم.
قال بصوت منخفض: لقد كسبت إعجاب السيد تانر.. لكنك أبرع ما يكون في الكسب.. أليس كذلك؟
ردت بسخرية مماثلة:"أعرف كيف يكون الخاسر.. والواقع أنني لم أجد الخسارة تجربة سعيدة".
ثم توجهت نحو الجواهري الذي فتح الحقيبة، وسألها الرجل: أتعرفين مقاس خاتمك آنسة رايدال؟
ـلا.. سيد تانر.. لا أعرفه.
ـ هل لي بيدك اليسرى.. أرجوك؟
جرب سلسلة من الخواتم على إصبعها الثالث حتى عرف القياس.. بعد ذلك، نظر إلى أذنيها فلاحظ القرط الذي تضعه.
ـ عظيم، إنهما مثقوبتان.. لا مشكلة إذن .
أعطى فيلكس علبة متمتماً : هذا هو القرط.
ثم رفع علبة أخرى من حقيبته وفتحها دونما اكتراث.. عندما شهقت هولي شهقة ملؤها عدم التصديق ابتسم الرجل، وقال لها بفخر: نجمة الشرق.
كانت القلادة فعلاً أشبه بنجمة في وسطها الألماس النفيس وكان حجمها ولونها الوردي الأخاذ يسلب الأنفاس.راقب فيلكس عن كثب و الجواهري يثبت السلسلة البلاتينية حول عنقها، ثم قال: سنرفعها قليلاً .. أجل هذا ممتاز.
أزيلت القلادة عن عنقها، وعادت إلى حقيبة الجوهري الذي قال لفيلكس: لن يستغرق الأمر وقتاً طويلاً فيلكس.
ـ عظيم سنكون هنا.
ورافق الرجل إلى خارج الغرفة.
حاولت هولي استجماع شيء من رباطة جأشها.. لاتظن أن في مجوهرات أسرة رايدال مايشبه ولو من بعيد" نجمة الشرق" ، وتشك كثيراً أن يكون هناك ما يماثلها في أي مكان. إلا ربما، بين جواهر التاج البريطاني. لقد قالت لأمها إن فيلكس فاحش الثراء.. وهذه الألماسة الوردية تساوي بمفردها عشرات الملايين!
قال فيلكس ساخراً وهو يعود إليها: راضية؟
ردت بجفاء:" إنها جميلة جداً ".
التوى فمه:" بل هي فريدة من نوعها هولي.. والخاتم مع القرط يشبهانها.. ستحسدك نساء العالم أجمع عليها ".
رفع يده يداعب تجويف عنقها.. ووجدت هولي من الصعب إبقاء تنفسها طبيعياً ، وأملت أن لا يشعر بنبضاتها المتسارعة.
أردف:" ولديك الجمال الذي سيزيدهن غيظاً .. آمل أن تكوني راضية؟".
ـ راضية كل الرضا.
ـ بما أننا اخترنا هذا السبيل لتسوية المسألة بيننا، فلاداعي أن تعرف أمي أنك ابنة ايرول ماكنافش.. أنت هولي رايدال من بوسطن، ماساتشوستس، وسنترك ألم الماضي للماضي.. وإلى الأبد هولي.. فهل هذا مفهوم؟ أنا أدفع الكثير، وأنت لم تفعلي إلا القليل القليل.
إذن الفريق الآخر كان يتألم أيضاً ، وليس أبوها فقط هو الذي تألم.. لكن هذا غير مهم الآن .. قالت تذكره: كما قلت أنت ليلة أمس.. أنا لست غبية.. ثم لدي كرامتي.
بحثت عيناه الخضراوان عن عينيها بنظرة إمعان ثم قال ببطء: ماكنت لأظن هذا.. لكن لابد من مجيء وقت نعرف هذا، جميعاً .
قالت:" أنت ستعرف وحدك".
لم يكن هناك جدوى من القول له إنها لاتنوى أبداً إيذاء أحد.. ولكن لو أظهرت له أي ضعف لداسها.. ولو عرف يوماً ماذا فعل بنفسه.. لقتلها على الأرجح.
انتزع الرضا البرودة من عينيه.
ـ هل أطلب منك الكثير؟. أتظنين أنك تستطيعين التظاهر بأنك تحبينني بجنون من أجل أمي؟ أفضل أن تكون سعيدة.. لاتعيسة.
ـ شرط أن تمثل ذلك أيضاً من أجل أمي. بضع لقطات للزفاف المبارك؟ أتظن أنك قادر على تحملها؟
ارتفع حاجباه لسخريتها: ألاتعرف أمك ماكنت تنوين عليه؟
ـ أمي لاتعرف أكثر مماتعرف أمك. وهي تكره ماقد يذكرها بزواجها الأول، بل يؤلمها مجرد ذكر اسم أبي.
ـ إذن .. نحن في صدد خدعة كبيرة.. على الأقل، لن يكون الأمر مملاً.
وضحك ضحكته المثيرة الأجشة.
ردت لتخفي سرورها ببسمة جافة: هذا بالضبط ما أفكر فيه.
التقط يدها ووضع علبة الأقراط في كفها: هذه هي الأقراط.. من الأفضل أن تضعيها الآن.
جلس مشيراً إليها أن تتوجه نحو المرآة: هيا.. ألا تموتين شوقاً لتريهما في أذنيك؟
قالت بسرعة:" لم أطلبهما فيلكس".
أمرها وعيناه تقسوان:ضعيهما.. كنت أنوي دوماً أن أهديهما إلى عروسي عندما أتزوج.
تسلل الشعور بالذنب إلى قلب هولي فهو كان يريد تقديم القرطين إلى المرأة التي يحب.. ولكنه ليس صغيراً .. أتراه لم يستطع أن يحب امرأة؟.. كما أنه لم يكن مجبراً على الموافقة على الزواج بها.. وهو اختارها هي عروساً له.. ويريد منها تدعي حبه أمام أمه.
دنت من المرآة دون جدال.. كانت تشعر به يراقبها وهي تفتح العلبة.. وتألق القرط مشعاً في وجهها .. توسطت كل ألماسة وردية مجموعة من الألماسات البيضاء الصغيرة.. أصغر بكثير من ماسات القلادة، ولكنها رائعة مثلها.. ارتجفت يداها قليلاً وهي تأخذ الزينتين الذهبيتين وتعلق ثروة في أذنيها.
قال ساخراً :إنها تناسبك.. وهذا ما ظننته.
ـ يسرني أنك راض.
برقت عيناه خطيراً لكنه سيطر على نفسه، وهز رأسه مشيراً إلى السرير: هل هذه القطعة الجميلة قبعة؟
ـ أجل.. وهل تحب رؤيتها على رأسي كذلك؟
ـ ولم لا؟
كانت تضعها بدقة على رأسها حين عاد الجوهري.. رد فيلكس على الباب لكنه لم يتركه يدخل بل سمعته هولي يشكره ثم عاد إليها ليقول معلقاً على القبعة: ذوقها رفيع.
ثم فتح إحدى العلبتين اللتين كان يحملهما، وأخرج منها القلادة. وعندما وضعها حول عنقها اقشعرت بشرتها ولكن عيونهما تلاقتا في المرآة، وللحظة قصيرة تبادلا النظرات.. فهما غريبان على وشك الدخول في أقدس العلاقات بين المرأة و الرجل.
تمتم فيلكس:" والآن، الخاتم".
واشتد وجهه توتراً وكأن هذه اللحظة أزعجته بطريقة ما.. ثم دس الخاتم في إصبعها.. كانت الألماسة الوردية أكبر بقليل من تلك التي في القرطين، لكن التصميم واحد.. جمع فيلكس العلب الثلاثة، ورماها في حقيبة ملابسها، وقال وهو يتوجه نحو الهاتف: إن انتهيت من توضيب حقائبك فسأستدعي الحمال.
بعد ثلاثين دقيقة خرجت هولي من الفندق، وتوجها إلى شقة فيلكس، وعندما وصلا استقلا مصعده الخاص.. شعرت وهما في المصعد بتوتر فيلكس.. وبعدما توقف المصعد، لم يسارع للخروج منه، بل مال إلى الأمام وضغط زر إغلاق الباب.. ثم بدا أنه يستجمع شجاعته قبل أن يستدير نحوها.
ـ تذكري أن أمي وزوجها لا يعنيان لك شيئاً .. تظاهري أنك لا تعرفين شيئاً عنهما..
هزت رأسها تسخر من سخرية القدر فهي فعلاً لا تعرف شيئاً عن امه وزوجها! حتى أنها لاتعرف اسميهما!
ـ إذا كان هذا ماسندعيه، فلاتنس القيام بالتعارف الرسمي، فيلكس.
التوى فمه: وبإمكانك كذلك الادعاء أنني أنا وأنت.. حبيبتي.. زوجان سعيدان.. فابتسمي. وابتسمت
ـ ابتسامة غير سيئة ولكن أضيفي إليها بعض الدفء و التألق، وعندئذ ستكون ابتسامتك أكثر إقناعاً.
ـ أعطني الدفء ، أعطيك إياه.
أحست أنه يسترخي وهو يضحك: سأقوم بما هو أكثر.. كوني متأكدة من شيء واحد .. ستعرفين الليلة مامعنى تكون زوجتي . ليس عليك إلا التفكير في هذا ومامن أحد سيشك بشعوري نحوك.
اجتاحت موجة من الحر هولي، بينما عيناه تجولان في جسمها بتفجر ملتهب. إنه يسعى إلى تخفيض قيمتها لتكون امرأة أخرى في حياته. المسألة ليست رغبة بقدر ماهي حاجة ملحة للانتقام منها بأقدم طريقة عرفها الزمن وهي طريقة سيطرة الذكر. برق وميض التسلية و النصر في عينيه، عندما لاحظ ارتفاع اللون الأحمر إلى وجنتيها. ابتسم وتلمس بشرتها المحترقة بأطراف أصابعه.
ـ لديك الآن الحرارة و الدفء.. فلاتنسي الابتسامة. حبيبتي.. القليل من الإشراق مطلوب. فكري في الألماس.
ثم حرك أصابعه نحو زر المصعد مجدداً، وفتح الباب. لم تكن مستعدة للصدمة التي عصفت بها حين دخلت إلى غرفة الاستقبال، ونهض الزوجان المنتظران عن الأريكة.. في هذا الوقت احتاجت هولي إلى كل الانضباط الذاتي الذي تملكه لتحافظ على ابتسامتها في مكانها. دل وجه المرأة على الكبر.. لكن جماله لم يتغير.. فما زالت تانك العينان الهائمتان كما كانتا عندما رسمهما أبوها في اللوحة.. تسعيان إلى شيء ما.. تتذكران شيئاً ما .. تشتاقان بألم إلى شيء ضاع إلى الأبد.. وهاتان العينان تعلقتا بوجه هولي وكأنهما تريان منظراً يعذب روحها.
قدمهما فيلكس لها: هولي.. هذه أمي وزوجها، دونا و جاك ويستبرون.
سمعت هولي القلق في صوته مع أنه حاول ادعاء الاسترخاء. دونا. رنة صوت ناعمة تتردد عبر جبال كيمبرلي، وتهمس في الحقول التبنية الشاحبة لتبقى متواجدة في زوايا الشغف الزرقاء.. دونا.. العينان الشاردتان بقيتا معلقتين بوجه هولي تسببان لها توتراً حاداً. مد جاك ويستبرون يده نحو هولي ليبعد نظرة زوجته الشاردة، لكن يده أمسكت بيد المرأة إلى جانبه.. لأن تلك المرأة همست بصوت أجش متقطع: إنه هو.. لاشك أنك تراه جاك.. فيلكس يخدعني.. يخدعنا معاً.. إنهما عينا ايرول.. ولون شعره.. وليس هذا صدفة مجنونة.. لا يمكن أن تكون أي شخص آخر.. إنها ابنة ايرول.
الماضي.. الذي أراد فيلكس إخفاءه لم يعد في طيات النسيان بل أصبح هنا.. حياً ينتفض ويضج بالألم في هذه الغرفة.
ـ لن أموت من أجلك




جمال وجه دونا ويستبرون، توتراً كرباً وحزناً كبيراً.
صاحت : " متى سيتوقف العقاب؟".
اغروقت عيناها بالدموع وارتدت كالعمياء إلى زوجها طلباً للمواساة: ألن ينتهي أبداً جاك؟.
التفت ذراعاه حولها، تحميانها بلطف. واستندت إليه بشكل غريزي وهو أمر اعتادت عليه منذ سنوات.. وهذا الدعم يقدمه لها جسم الرجل الضخم الذي وقف صلباً قوياً .. لكن وجهه كذلك كان متألماً ولم تعرف ما إذا كان ذلك مجرد حنان وحب تجاه زوجته أًم ألم عميق في داخله.
كان تقريباً رجلاً بشعاً تقريباً فقسمات وجهه مركزة فقسمات وجهه مركزة فوق عنق أشبه بعنق ثور..بشرته الدكناء التي يغطيها النمش تدل على أن الشعر الأبيض كان يوماً أحمر.. لكن كان في العينين الرقيقتين البنيتين سحر إنساني يتعارض بشدة مع مظهره الخشن.
سأل بهدوء:" ماالذي يجري فيلكس"؟.
سأل فيلكس بحدة:"ولماذا أنت متأكدة إلى هذه الدرجة ياأمي؟".
ـ الاسم..المكان.. أخبرها ايرول عن زواجه الأول.. وعن الابنة التي تخل عنها وكم كلفه هذا من عذاب شخصي. لقد أثقل ذلك ضميره كثيراً .. طفلته.. الابنة التي لن يحصل عليها أبداً .. ويريدها. لقد تحدث كثيراً عنها.. كان والدها يريدها.. أحبها.. وأحست هولي بالدوار.. لم تكن مخطئة بشأنه.. لقد فعل ماظن أنه الأفضل لها. وكان ذلك على حساب نفسه..
تابع جاك كلامه: أملت أن يكون هذا مجرد مصادفة، وأن تكون هولي رايدال مختلفة من بوسطن..
كانت تكشيرته متوحشة: لكن هذا ليس سبباً يدعوك للتضحية بنفسك من أجل خطايا الماضي، فيلكس.
بذلت هولي جهداً لتخرج من الصدمة التي جعلت عقلها وجسمها يتجمدان في الدقائق الأخيرة. لقد صدمها الأثر الذي تركه ظهورها، والآن أدركت أن هذا ما أراد فيلكس تجنبه وأنه ظنها تعرف أن لوحة أبيها .. الماضي .. قد تترك هذا التأثير الرهيب..يجب أن توقف هذا.. بأية طريقة..أو تصلح الضرر الذي سببته بشكل لا إرادي وعن جهل مسبق منها.. وقبل أن يستطيع فيلكس قول شيء.. قول شيء خاطئ.. سارعت تتكلم: سيد ويستبرون.. أنا لست من تظنها زوجتك.
اندفعت إلى الامام ومدت يدها إلى المرأة التي تبكي على كتف زوجها.. وضغطت على ذراعها: أرجو منك ألاتبكي.. فلم يرغب فيلكس في تكديرك.. وأنا أيضاً لا أرغب بذلك.. لا أستطيع ألا أكون ابنة أبي، بقدر مالا يستطيع فيلكس ألا يكون ابنك.. وكلانا نريد نسيان الماضي وتركه للزمن.. أرجوك لا تدعيه يؤلمك ..هكذا!
ارتد الوجه المغسول بالدموع ببطء نحو هولي.. كانت العينان الزرقاوان مغرورقتين بألم التردد.
ـ لماذا.. لماذا.. تتزوجين ابني؟
ردت دون تردد: لم أستطع منع نفسي عن الوقوع في حبه.
عرفت أن هذا هو الرد الوحيد الذي يقدر على تسكين مخاوف دونا ويستبرون.. وابتسمت مطمئنة: أنا آسفة.. لكنني أحبه وهو يحبني.
هزت دونا ويستبرون رأسها بعدم تصديق: فيلكس؟ كيف استطعت؟
كان وجه فيلكس متجهماً . فغار قلب هولي خشية أن ينكر ما قالت، وتصبح حقيقة ترتيبات زواجهما مكشوفة.. هذه هي اللحظة الحاسمة.. إما المضي قدماً أمام ماحدث للتو جنون مطبق.. طبعاً .. هذا كله يحدث بسبب اتخاذهما قرارات سريعة. لكن الآن وقد وصلا إلى هذه المرحلة، لم تشأ هولي التخلى عن اتفاقهما. فهي تعرف أن تراجع بالنسبة لها.. ومهما تكن النتيجة، ستتزوج فيلكس ويستون..لكنها أدركت أن هذا لن يكون دون تعاونه.
رد بحدة:" لا يستطيع أحد لوم هولي على ماحدث، أمي".
لاشيء ملزم في هذه الكلمات.. وليس في كلماته مايدل على الاتجاه الذي تسيرفيه أفكاره. تقدم خطوة ووضع ذراعه حول هولي، يضمها إليه ليدعمه ويحميها.
ـ لم أخطط للوقوع بحبها.
سرعان ماأحست بالامتنان لاستنادها إليه، فساقاها تحولتا إلى سائل..فهو عازم على المضي قدماً في ما اتفقا عليه.. وتهلل قلبها ولكنها نبهت نفسها إلى أن عليها أخذ الحذر لتتمكن من إتمام ماهو مطلوب منها في هذا الخداع.
أردف فيلكس:"لم أعرف من هي حتى تقابلنا عدة مرات لأن اسم رايدال لا يعني لي شيئاً".
أضافت هولي بسرعة: وأنا أيضاً لم أعرف من هو فيلكس في البداية. بدا لنا كل شيء غير معقول. كنا مجرد غريبين، نظرنا إلى بعضنا عبر غرفة مكتظة بالناس..
أضاف فيلكس بصوت مقنع: وكان التجاوب فورياً ..عفوياً .. لايقاوم. انظري إلى هولي أمي! لا تنظري إليها على أنها ابنة ايرل.. بل المرأة التي ستكون الزوجة التي أحتاجها.. شد بأصابعه على ذراع هولي، ونظرت إليه بسرعة مبتسمة، فتلقت نظرته الولهى التي يصبها عليها.. أو على الأقل، مايمكن تفسيره بنظرة ولهى. كان فيها شيئاً حارقاً أرجف قلبها.. وللمرة الأولى رأت فم فيلكس يلين ويبتسم.. ثم أعاد نظرته إلى أمه متوسلاً: لاشأن لما حدث بينك وبين ايرول وأبي بنا أمي.. إنه من الماضي.. فأنا وهولي نريد المستقبل، معاً. فإذا صعب عليك تقبل الأمر فأنا آسف.. لكن هذا ما سيكون.
بدا الوجه الجميل معذباً شارداً ، مضطرباً من جراء الذكريات التي لا تعرف هولي عنها شيئاً.. والدها.. دونا.. والد فيلكس.. ربما هذا هو الثالوث الذي عمره عمر الزمن؟ ترى ماذا حدث لوالد فيلكس؟ لا، لا تستطيع التفكير في هذا كله الآن. دفعتها الحاجة لإبعاد شبح الماضي لدعم فيلكس بكل قوتها العاطفية.. مدت يدها نحو الأم
متوسلة للفهم: أملنا أن تكوني سعيدة من أجلنا، وليتك لم تتعرفي إلي! وماأشد أسفي لأنك انزعجت إلى هذا الحد.. أردنا.. فكرنا..
ارتفعت عيناها بتوسل إلى جاك ويستبرون الذي ينظر إليهما مشفقاً: هل من الخطأ لي ولفيلكس أن نتزوج؟
أجاب بثبات: لا.. قد يكون هذا هو الذي يسوي كل الأمور. وهذا جيد.. ولكن ما يحدث أمر لا يصدق وهذه الصدمة غريبة فمن المستحيل أن نأمل..
تنهد تنهيدة عميقة، وهز رأسه: أن يحدث بشكل طبيعي، لأمر رائع!
وبخته دونا:.. المخاطرة كبيرة. إذا فيلكس سيتعذب..
جالت عينا جاك ويستبرون على هولي.
ـ لن يعاني فيلكس شيئاً..وطالما شعرت بالذنب لأنني تركت ايرول يرحل. لكنني كنت أهون على نفسي قائلاً إنه هو من اختار الرحيل.. مع ذلك، كان يجب أن أتركه يأخذ.. ماله الذي له الحق به.
إذن جاك جزء مما حدث.. ثلاثة رجال.. وامرأة جميلة.. وصبي.. ومنجم ألماس. لكن هولي لاتستطيع التفكير الآن .. فيما بعد.. ففي الوقت الحاضر فيلكس وحده المهم.. يجب أن تبقيه إلى جانبها..وأن تبقى يقظة لتفعل أو تقول ماهو مطلوب. سحب جاك ويستبرون نفساً عميقاً ، ثم أدار زوجته لتواجهه.. داعبت يداه ذراعيها وتوسلتها عيناه حتى تصغي: دونا.. لقد سرنا شوطاً بعيداً.. كلانا.. دعي عنك الأمر الآن.. دعيه.. هذا زمان آخر.. جيل آخر. لاتحملي الأبناء وزر خطايا الآباء.
صاحت يائسة بصوت متكسر: أوه.. ياإلهي.. جاك! ماذا كنت سأفعل بدونك؟
ضمتها ذراعاه بلطف إلى قلبه: لن تضطري للقيام بشيء بدوني ما دمت أنا على قيد الحياة.
مرر خده على شعرها يطمئنها برقة لكن عينيه كانتا على هولي وفيهما سؤال.. لم تعرف ماذا سيسأل ولكنها لم تدر لماذا قالت له هذه الكلمات: مات والدي السنة الماضية.. لقد توقف قلبه.. وانتهى الأمر..بالنسبة له.
كاد ارتياح جاك يكون ملموساً .. ومع ذلك كان الاعتذار في عينيه.. وقال بهدوء: لم يكن هناك مجال للإصلاح هولي ولاشك أنه أخبرك بذلك.. ولو كان هناك طريقة، لفعلناها.
لم يقل والدها لها شيئاً .. لكنها صدقت جاك.. فحوله هالة من الوقار والصدق وعلى مايبدو أن ماحدث كان مأساة أثرت في حياة أبيها وفي حياة آخرين أيضاً..
قال فيلكس:" في سنواته الأخيرة أصبح ايرول فناناً معروفاً.. وبعض لوحاته معروضة الآن في معرض نيو ساوث وايلز للفنون، وقعها باسم ايرل ماك.. ربما ترغبين في رؤيتها أمي".
عرفت هولي لحظتئذ لماذا طلب نزع اللوحة عن الجدار، فلو دخلت دونا إلى المعرض ورأت اللوحة.. ارتجفت هولي.
قال جاك:" أنا مسرور لأنه وجد طريقة أخرى للنجاح. هل سمعت هذا دونا؟".
أبعدها قليلاً عنه، وأمسك وجهها بيديه مجبراً إياها بلطف على النظر إلى عينيه. ثم أضاف: حياة ايرول لم تتدمر، ولن ندمر حياة هولي وفيلكس بل سنتمنى لهما كل السعادة الممكنة مابين رجل وامرأة.. غداً سنذهب إلى المعرض لرؤية لوحات ايرول. وهذا سيبعث السعادة إلى نفسك.. أليس كذلك؟
هز اهتمام جاك ورقته عواطف هولي، فهو يتصرف كما يتصرف يتصرف الأب تجاه ابنته الخائفة يحاول أن يهدئ مخاوف ابنته.فذكرهه هذا المشهد بالضياع الذي رسمه والدها في لوحته.
جاء الرد الأجش:" أجل..".
ارتفعت كتفاها النحيلتان ثم هبطتا وهي تسحب نفساً عميقاً لتهدأ.. بعد ذلك ارتدت تواجه هولي وفيلكس: آسفة..وكان في عينيها التوسل للغفران. خطت هولي ؟إلى الأمام تشبك يديها بيدي دونا الممدودتين.. وتضغط عليهما بدفء.
ـ إنها الصدمة، لست مضطرة للاعتذار سيدة ويستبرون.. أرجوك.. فلنجلس كلناو.. أليس لديك قهوة جاهزة حبيبي فيلكس؟
ـ بكل تأكيد.. القهوة قادمة.
كان الحديث جافاً ملؤه الارتباك في البداية. لكن جاك بذل ما بوسعه لخفيف التوتر إذ راح يسأل هولي عن حياتها في بوسطن.. ومن حديث إلى حديث انتقل الموضوع للحديث أكثر، عن أسفارها المختلفة.
ـ وهل ستكونين سعيدة بالعيش في بند نير؟
لقد اعتادت هولي في هذه الفترة على الرد على أسئلة ذات علاقة بأمور لا تفهمها بحيث أنها لم تجد صعوبة في الرد على هذا السؤال. مع أنها لا تعرف شيئاً عن بندنير داونز أو ماهي.
ـ لقد عشت سعيدة في إنكترا، وفي فرنسا..
تدخل فيلكس:" تقصد هولي.. أو تحاول القول.. إنها ستكون سعيدة أينما عاشت".
ابتسمت له بمحبة:" شكراً لك".
قالت دونا:" لا أستطيع القول إنني كنت سعيدة هناك".
إنها المرة الأولى التي تشارك دونا بالحديث ولكن جملتها حملت في طياتها الكثير من القلق.. أمسك جاك بيدها يربتها.
ـ عزيزتي.. بعض الناس لا يناسبها سوى بيئة واحدة.. وآخرون يحتاجون إلى أماكن مخلتفة .. وأنت مكانك في المدينة.
هزت رأسها:" لم أحبها قط فهي بلاد الرجال ولا مكان فيها لامرأة".
فقدت عيناها التركيز، وانخفض صوتها إلى الهمس.
ـ وتقع فيها أمور رهيبة.
قال فيلكس:"لن يحدث مثل هذا.. هذه المرة".
تسمرت عينا دونا الزرقاوان على هولي: إذا واجهت أية صعوبات فالجئي إلينا ولا تنتظري طويلاً ولاتجعلي شيئاً يتآكلك، أهربي قبل..قبل..
ـ دونا..
شد جاك على يدها بقوة، يعيد اهتمامها نحوه: الأمر الآن مختلف عما كان.. لقد أصبح في بندنير داونز كل وسائل الراحة العصرية.. كل الوسائل.. وطائرة هليكوبتر في متناول اليد.. ولم تعد معزولة.. ثم، بإمكان فيلكس أن يعتني بهولي. فتوقفي عن القلق عزيزتي.
ارتجفت دونا، وعادت إلى الصمت. يبدو أن بندنير داونز مستوطنة سكنية قرب منجم الألماس. ربما حيث يعيش عمال المنجم، إنها بلاد الرجال.. لكنها ذهبت إلى كيمبرلي وأرهقتها الأرض الغربية الموغلة في القدم. بإمكانها أن تعيش هناك..بإمكانها العيش في أي مكان.. ربمالا يعرف فيلكس مدى صدق هذا حين تكلم.
وبعد كلام أمه، بدا فيلكس منطوياً على نفسه مع أنه شارك في الحديث. ولكنه بدا كمن يضع جزءاً من أفكاره تحت قيادة آلية.. كان تركيزه الأكبر متجهاً إلى شيء آخر، وأحست هولي بتعاظم توتره الذي بدأ يشتد بسبب اقتراب ساعة الصفر لزواجهما.. هل يعيد التفكير؟ مازال أمامه الوقت لتفيير رأيه.
سحبت هولي نفساً متقطعاً ووصلت جماعة من الرجال إلى الشقة: محامي فيلكس، مصور، ومأذن الزواج وشاهدين تبين أنهما مديران في مؤسسة فيلكس. ظل الجميع واقفين، وكأنهم عند مذبح كنيسة. ثم حين ظنت هولي أنها أصبحت آمنة، وأن الزواج لابد منه، دس فيلكس ذراعه وأعلن: هلا عذرتمونا لبضع دقائق.. فلدي أنا وهولي بضعة أمور خاصة نفعلها.. سنعود حالاً.
لم يعط هولي خياراً، فهو يمسك ذراعها بقوة، واضطرت إلى الادعاء أن هذا ماتريده أيضاً .. لكنها لم تكن تعرف ماذا ستفعل لو تراجع. قادها إلى غرفة النوم و أغلق الباب خلفهما، ثم أمسك بكتفيها ينظر إليها بإمعان فكان أن ركزت عينيها على وجهه العابس.
ـ أولاً، أريد أن أشكرك على الطريقة التي عالجت فيها الموقف مع أمي وجاك ، لقد قمت بذلك بروعة ومحبة.. لذا علي أن أحييك على هذا.
كيف تقول له إنها لاتؤذي ولاتؤلم أحداً؟ وكيف تبرهن له ذلك بعدما وضعت اللوحة للعرض؟ كان هناك رد وحيد لتحافظ على زواجهما.
ـ لقد فعلت ما اتفقا عليه فيلكس.. طلبت مني أن أتظاهر أنني أحبك، ولقد نفذت ماطلبت.. وبما أنني بدأت بهذا، فسأحافظ على المظاهر في أي مكان تتواجد فيه عائلتك.
ابتسمت ساخرة، وأضافت: إنها مسألة.
ازداد عبوسة عمقاً وهز رأسه وتركها وارتد عنها وسار في الغرفة متوجهاً إلى نافذة كبيرة تطل على المدينة.. وقف هناك عدة لحظات، ولم تتصور هولي أنه يفكر بالمنظر.. فظهره كان متشنجاً من فرط التوتر.
ثم قال بحدة:" مهما كان السبب..لقد قمت بما لا يمكن لأحد سواك القيام به، ولم أعد أشعر بأي مبرر للمضي فيما كنت أنويه".
ضربت الهزيمة قلبها بمطرقة.. فراح عقلها يعمل ويعمل للبحث عن طريقة لإقناعه بإعادة النظر..
قالت بحدة:" إذن.. أنت تتهرب من اتفاق".
ارتد وقد التوى فمه سخرية: لا.. بل سأطلق سراحك من هذا المأزق.. سأحرر لك شيكاً مفتوحاً لتكتبي عليه المبلغ الذي تريدين.. بإمكانك الخروج من هذا وأنت تحملين كل ماتريدين دون ألم أبداً.
قالت بلهجة ملؤها التحدي: وإن لم أرغب في الخروج بعيداً؟
توتر وجهه:" قلت لك حددي المبلغ الذي تريدين، فهل هناك ماهو أكثر لأعرضه عليك".
اقتربت منه حتى لم تعد بعيدة عنه إلا خطوة واحدة وتذكرت ماذا فعله بها ليلة أمس.. رفعت يدها تمرر أصابعها على خده.. فلما ارتجفت عضلة تحت لمستها الناعمة شعرت بالقوة تسري في شرايينها، وابتسمت لعينيه الخضراوين الغاضبتين، وكان طيشها يملي عليها هذه المغامرة الأخيرة.
قالت بصوت هامس: أنا أريدك فيلكس.. ولن أقبل بشيء آخر. لامال ولا ألماس، أو أي شيء تفكر فيه.. لاأريد إلا أنت.
ارتفعت يده تمسك معصمها وتجبر يدها على للابتعاد: لن تكسبي شيئاً بهذه الطريقة.
ارتجفت شفتاها قليلاً لجرأة ماستقدم عليه: أنت لا تفهم.. ليس لدي ماأخسره.
ابتلع ريقه، وقال بصوت أجش: هولي.. أحذرك.. توقفي عن هذا الآن. خذي أرباحك وارحلي.
تحدته مرة أخرى عيناها ببرود: لا.. بل سأذهب فقط إذا أردت أنت هذا.. لكنني لن آخذ شيئاً معي.
كادت أصابعه تحطم معصمها: لن تستطيعي أبداً أن تفعلي معي، مافعلته أمي بأبيك.. لن أسمح لأي امرأة أن تؤثر في حياتي أو تغيرها. فليس الجمال شيئاً .. والجسد جسد. ولن أحارب من أجلك أبداً .. ولن أموت من أجلك بكل تأكيد.. ولن أركلك كطفلة! بل ستكونين فقط مجرد زوجة ملائمة لي.. فهل تفهمين ذلك؟
ـ أجل!
ولقد فهمت.. يومذاك كان مجرد صبي صغير، ولكن مأساة الماضي حفرت في أعماقه حفرة في أعماقه حفرة كبيرة. وهذا ما يتضح مع الوقت وهاهو يضع اللوم لكل شيء على جمال أمه.. فهل استغلت أمه جمالها؟ هذا ما لن تستطيع معرفته، لكنها هي لن تستغل مثل هذا الشيء الزائف.. فهي لم تحتج قط إلى رجل يقاتل من أجلها أو يموت.. إنها بحاجة فقط إلى فيلكس. ربما لن تدوم هذه الحاجة طويلاً . قد تتضارب الفروقات بينهما بشكل يائس وهذا يثبت أن الزواج كان غلطة رهيبة.. كما حذرتها أمها.. لكن حتى هذا بشكل مؤكد، لن يمنعها شيء من الحصول عليه. ماعدا هو بنفسه.
قالت، ترفع رأسها بعدوانية: عظيم!
لم يكن بريق عينيه عدائياً ، وتخيلت أنها رأت السرور الذي بعثه التحدي الذي رمته في وجهه.
أضاف:" إذن فلنتزوج".
لم يقل كلمة أخرى، بل وضع ذراعها في ذراعه مجدداً.. وسار بها إلى الخارج، نحو مأذون الزواج المنتظر.. وأمره بتنفيذ المراسم دون تأخير.







يتــــــــــــــــبع

ـ الساحرة السوداء تبتسم



" هل تقبلين أنت هولي رايدال هذا الرجل.."
فيما كانت تصغي إلى كلمات مراسم الزواج توترت أعصابها.. فأي نوع من الرجال ستقبل به؟.. إنه رجل لاتكاد تعرفه.. في هذه اللحظة تضعضت ثقتها بنفسها ورفعت رأسها إلى فيلكس ويستون، وفي عينيها سؤال حاد. كان رده على الضعف الذي بدا عليها وميضاً مماثلاً لكن فيه سخرية لا يمكن الخطأ فيها.. ساهمت نظرته بتقوية قرارها فعادت تنظر إلى المأذون بقرار ثابت.. وردت ببرود: ـ أقبل!
لقد قبلت وانتهى الأمر الآن.. وإذا كانت قد أمسكت الشيطان من ذيله فليساعدها الله.. لكنها لن تظهر له أبداً أي بارقة ضعف.
وقام بالرد.. ثم وقع الأوراق بهدوء.. بدا أشبه بشخص انتصر على لاشيء. وكأنه واثق في قرارة نفسه أنه لن يخسر أبداً ، فتصرفاته خلال الاحتفال ووقفة النصر التي وقفها أثناء التقاط الصور كانت وقفة رجل ربح للتو أكبر جائزة بحياته.
لكن هولي لم تكن واثقة ما إذا كانت منفعلة أم خائفة من البقاء مع هذا الرجل الذي أصبح زوجها، والذي لاتعرف بماذا يفكر أو بماذا يشعر.. ومن المستحيل أن تعرف ما إذا كان يمثل أم لا.. لكنها خيّرته فهل هي غلطتها؟ لم يصدق أنها ستبتعد دون أن تأخذ شيئاً .. إما أن يكون الإحساس بالذنب نحو والدها عميقاً وإما أنها رغم كل الاعتبارات الأخرى حركت شيئاً فيه بحيث أنه لم يعد قادراً على الابتعاد عنها..أرادت هولي أن تصدق هذا، وصدقته في أعماق قلبها.. وإلالما استطاعت أن تتزوجه.. لكن الجزء الثاني من التمثيلية سيكون حاسماً بشأن علاقتهما في المستقبل.. الانطباعات الأولى هي دائماً الأقوى.. وهولي تدوم طوال حياتهما. وعندما رافقا دونا وفيلكس إلى المصعد كانت تشعر بأن أعصابها متوترة إلى أقصى حد.
كانا آخر المغادرين.. أمامهما وضع فيلكس ذراعه حول خصر هولي مقدماً لهما صورة العريس المحب لآخر. بعدما رحلا اشتد ضغط أصابعه على خصرها الطري، فقفز قلبها إلى حلقها.. فهي بحاجة ماسة أن يأخذها بين ذراعيه، وأن يعانقها بجنون وأن يستحق ويدمر ويزيل من الوجود كل شكوك متعلقة بالقرار الذي اتخذته. وعندما رفعت بصرها إليه، أملت إليه، أملت أن ترى المشاعر التي ترد على ماتشعر به، ولكنه أبعد يده وتلاقت عيونهما بنظرة ساخرة.
ـ تكاد التمثيلية تنتهي.. انتهى المشهد الثاني ويجب أن أقدم لك التهنئة على أدائك الرائع.. ممتاز.. حقاً ممتاز! لكنني لا أريد منك أن تشعري بأنك انتصرت بهذه السرعة.
عاد إلى غرفة الاستقبال.. واتجه رأساً إلى الطاولة، ليصب كوبين من العصير المثلج. لم تلحق به هولي بل وقفت عند المدخل، تراقبه وتقاوم هذا الانقلاب في معدتها.. إذن كان يمثل.. ويكرهها لما فعلته. أتراه يكرهها أم يكره الشعور بأنه أجبر على أمر لا يريده. لكن حدسها أنبأها بأنه يريدها؟يريدها.. وكلما أرادها أكثر، كلما أنكر هذا ليثبت أنه يسيطر على نفسه.
يجب أن تحطم هذه السيطرة إذا أرادت أن تكون علاقتهما كما ترغب.. ولقد زل لسانه وقال لها إنه يجد برودة أعصابها أمراً مثيراً جداً.. عليها الآن أن تكون قوية أكثر من أي وقت مضى .. لن تقبل بشروطه، بل لن تستطيع، وإلا لن تكون شيئاً بالنسبة له.
قدم كأس العصير لها باحترام متهكم: قد يكون الجزء الثالث من التمثيلية قاسياً عليك.. فهل تفضلين غيرهذا الشراب لئلا تعي ماسيحصل؟
أنباتها غرائزها وقوة الإبداع التي تملكها أن هذه هي اللحظة الحاسمة للقرار.. فإن لم تعالج هذا الموقف بشكل صحيح، فلن يحترمها ثانية لأنه من الأشخاص الذين لا يحترمون سوى القوة. لايعرف ماينتظره.. ولا سبيل له أن يتوقع ماهو قادم.. سيطرت هولي على كل أحاسيسها، وعلى مشاعرها، ولم تعكس عيناها الرماديتان أي شيء مما يجري في أعماقها. كان الهدوء الذي طالما أحبط أمها قناعاً تدربت عليه طويلاً، ولايمكن اختراقه.. تقدمت إليه برشاقة بطيئة متعمدة، توحي بالثقة التامة.
استرعى هذا انتباهه.. وبدا القلق في عينيه.. وجمد جسمه جمود الحيوان البري الذي تنبهت كل حواسه لأنه شعر بما هو مريب.. انتظر حركتها القادمة.. حين وقفت على بعد نصف ذراع منه، ولم تأخذ الكأس المقدم لها انتظرها لتتكلم.لم تضربه هولي بقوة اندفاع جسمها كله.. بل كانت الفعة مدروسة الغرض منها أن تلسع، لا أن تؤلم.. أن تُعلم ، دون أن تجرح.. وأن تؤكد على وقارها.
قالت بلهجة الآمر الغاضب: لا تكلمني هكذا مرة أخرى! أنا ندك فيلكس ويستون.. وقد أصبحت للتو شريكتك لذا عليك أن تعاملني على هذا الأساس، لأنني لن أقبل شيئاً آخر.
لم يتحرك وأصبحت نظرة عينيه الخطيرة حيادية.. وكادت تحس بالتركيز الذي يبذله وهو يحاول السيطرة على نفسه..
التوى فمه في نصف ابتسامة، وقال: مهذب جداً! مهذب ومتمدن بحيث يكاد المرء يظن أنك تعكسين ثقافة مجتمع بوسطن. لكن كل هذا مجرد مظهر خادع .. أليس كذلك هولي؟ تحت هذا المظهر المخادع، نفس متوحشة تسعى إلى الدم.. ولكني سأقول لك شيئاً من دمي.
ردت بصوت متهكم: ربما لا أسعى وراء الدم فيلكس.. ربما أسعى إلى ماهو مختلف.. لكنني أشك أن تكتشف أبداً ما هو.
شرب كوب العصير دفعة واحدة، ثم رمى الكوب على الارض.. فاجأها تبدل حاله من السيطرة على النفس إلى العنف. وقبل أن تستطيع المرواغة أو القيام بحركة لتحمي نفسها، كان قد ضمها إليه بقوة ساحقة، وأصبحت ذراعاه قبضتين من فولاذ.
ـ اللعنة عليك! اكتفيت! فقد جربت صبري إلى أبعد الحدود.. وكلفتني شخصياً الكثير، ولن تتهربي من كل هذا. سأحطمك إن اضطررت، لذا من الأفضل لك الركوع هولي.. والآن.. عانقيني أيتها القطة المتوحشة.. عانقيني وسأعمد أنا إلى معانقتك حتى أعرف من أنت حقاً .. ثم سأحملك إلى أماكن لم تصلي إليها مع أي رجل من قبل.. وبعدما أنتهى منك ستسرعين إلى مشروع الطلاق القذر الذي تخططين له.
لم تلاحظ هولي الاتهام الذي وجهه إليها ولم يترك هو لها مجالاً للكلام.لذا لم تفعل إلا لشي الوحيد الممكن أمامها.. وهو الاستسلام. تحرك في أعماق هولي شيء متوحش بدائي هولي يدفعها للوصول إليه.. إنها تريد أن تأخذ وتعطي وتريد أن تنتقم منه بعنف بقدر ما يوقع العنف عليها. قابلت كل تقربه منها برغبة انتحارية، لا تعرف سوى هدف واحد.. أما الكلفة النهائية فلم تعد مهمة لها.
هذا ما أثاره إلى درجة أن أرخى عناقه الآسر وتحركت يداه لتضغطا على خصرها، أما هي فرفعت ذراعيها تلفهما حول عنقه وتضمه إليه بشوق..فراح يصدر همهمات هامسة تؤكد تأثيرها القوي عليه.
فجأة قهقة فيلكس فنظرت إليه هولي، تأمر عقلها أن يصحو من تشوشه الذي سببه هذا الموقف. برقت عيناه على شعرها الطويل الأملس.. وقال هامساً: أجل .. هذا هو لونك الحقيقي. أسود! أيتها الساحرة السوداء! ذات القلب الهمجي الذي يتماشى مع سحرك الأسود ! والآن دعينا نتخلص من كل الأفخاخ الخادعة.
كان يعاملها بجنون وعنف ونفاد صبر فتحركت كرامتها التي أصرت عليها أن تقاوم، وحين نظر إليها وإلى الألماس الذي كانت تتزيا به في عينيه نظرة رضا.
ـ كأنك ملكة همجية من الماضي.
ضحك ضحكة مجنونة ثم رفعها بين ذراعيه، وسار بها إلى غرفة النوم كالغازي القديم الذي يحمل من سباها في الحرب. رماها على السرير.. ولكنها تمكنت من اتخاذ وضعية تحد وصوبت نظرتها المباشرة إلى عينيه. كان قلبها يخفق بسرعة غير معقولة.. وكانت أحاسيسها حية.. ولم يكن هناك أي تعقل فيما يجري الآن، فبينهما الآن مبارزة للقوة.. رجل ضد امرأة.. امرأة ضد رجل.. ابتسمت لنفسها تفكر في أنها لن تكون امرأة يسهل نسيانها أو التعامل معها.
قال بصوت أجش متوحش: لا.. لن يكون لك ماتريدين معي.. ولن تبتسمي حين أفرغ منك..
همست:" حقاً ؟ ".
ولوت شفتيها بإثارة متعمدة..
ـ عانقني فيلكس.. أيمكنك محو الابتسامة عن شفتي؟
كان هناك خيط رفيع من التعقل فبل قولها هذا.. أما بعده فلم يعد هناك شيء. وفجأة فقد كل منهما السيطرة على نفسه.. نسيا كل ما له علاقة بالمبارزة فقد علقا وسط دوامة مجنونة من المشاعر. أخيراً، استلقيا دون أن يحاولا فك العناق ولم يتنازل أي منهما للآخر بشيء.. لكن الصمت الذي حافظا عليه، كان في طياته الهدوء والأمان، وكأن معاهدة وقعت بينهما وتم توقعيها.لن يكون هناك قتال بعد الآن.. فهما ندان متساويان.. وشريكان.. بل هما شخص واحد وكلاهما انتصر.
هل سيبقى فيلكس مكتف وراضٍ عن هذا؟.. هذا مالاتعرفه هولي، لكنها قانعة أنه لم يظهر أي ميل للافتراق عنها. لم تخدع نفسها بأن كل شيء سيكون على ما يرام بينها وبين فيلكس من هذه اللحظة وصاعداً . فما زالت أمامها عراقيل كثيرة قبل التوصل إلى تفاهم مشترك.. هذا إذا حصل.. فهي لا تستطيع أن تقول له إنها تحبه.. إنهما مناسبان لبعضهما بعضاً، بطريقة تتجاوز كل الخلافات، والفروقات. لكن قد لا يكون هناك ما يكفي لدفع مثل هذا الزواج إلى الأمام، لتكون هولي سعيدة به.
مع هذا، كانت مصيبة في قرارها. حين استسلمت للنوم لم تكن الابتسامة على شفتيها قد انمحت كما نوى فبلكس بل كانت ابتسامة المعرفة التي لايمكن لأحد أن ينتزعها منها.




التعديل الأخير تم بواسطة Just Faith ; 21-04-19 الساعة 07:42 PM
taman غير متواجد حالياً  
التوقيع











رد مع اقتباس