- أتفضلين البقاء حبيسة في الدير على الزواج مني ؟ قال " كريستوس " هذا غير مصدق . كيف تفضل هذه الفتاة , أو المرأة البالغة الخامسة والعشرين , كما يدعي أبوها , أن تعيش متقشفة في دير , على الزواج منه ؟ إنه ليس همجيا , بالمقارنة مع الرجال اليونانيين الذين نشأت بينهم , بل إنه على العكس من ذلك , متمدن كثيرا . ردت أليسيا ليموس ببرود : " سبق أن علمت جوابي , وما كان لك أن تضيع وقتك بالمجئ " أدار ظهره للراهبة الواقفة في الجوار , حتى لا تتمكن من الإصغاء . فقد كلفت رئيسة الدير أن يرافقها أثناء اجتماعها به , ولكن ذلك لايبيح لها الاستماع لحديثهما الخاص . - هل أخبرت أباك برفضي ؟ فأنت لم تخبريني , أنا بذلك حتى . كان نادرا ما يرفع صوته إذ لم يكن بحاجة لذلك , لأن حجمه وسلطته كانا عادة كافيين للإقناع . لكن أليسيا ليموس رفعت حاجبيها : " ربما يتملك الغرور بعض النساء لهذا الإلحاح منك . إنما ليس أنا " تزامنت ضحكة أليسيا المتشككة مع بريق عينيها السوداوين : " أنا أعلم أنك أميركي , ولكن من المؤكد أنك لست أحمق إلى هذا الحد " قد يؤذي كلامها هذا رجلا أقل غرورا منه , لكنه ليس مجرد رجل عادي , وأليسيا ليست مجرد فتاة عادية إنه بحاجة إليها , وهو لن يغادر " أونوساي " من دونها . - هذا حسن , وربما سيسهل هذا مهمتنا عندنا ننتقل إلى نيويورك . - تقابلت أعينهما وقد شحب لونها فجأة : " أنا لن أنتقل من هنا أبدا كما أننى لا أوافق أبدا على زواج مصلحة " لم يهتم بقولها هذا , وأجاب : " إذا كنت قلقة , فأنا أعتبر نفسي يونانيا , أبواي ولدا هنا , في "أونوساي" , وهما ما زالا يعتبران هذا المكان وطنا لهما " - آه , يا لهما من إنسانين سعيدين ! كاد يبتسم , فلا عجب فى أن أباها داريوس قد عاني من الإحباط , فهي لا ترغب أن تصبح عروسا يوما . أضاف : " لا أدري إن كان سيسرهما أن تكوني كنتهما , لكنهما سيتقبلان ذلك حتما " - أنا واثقة من أنك أمك شغوف بك . - بلا حدود , فالأمهات اليونانيات , يعشن غالبا لأجل أبنائهن . لم يبد عليه أنه لاحظ الألم فى صوتها , وهي تقول ذلك بمرارة . - ولكن بناتي سيكن مدللات . كان فى السابعة والثلاثين وبحاجة إلى زوجة , كما أن داريوس ليموس كان بحاجة إلى زوج لابنته العنيدة . ومثل هذا لم يكن زواج حب , بل صفقة هيأ لها , في بنك في سويسرا . - أنا ابن وحيد لوالدي , آخر فرد ذكر في فرع أسرتنا , وقد وعدتهما بأن يكون لهما حفيد قبل عيد ميلادي التسع والثلاثين وسألده . - لا , بل أنت ترجو أن أكون أنا التى سألد . عض شفتيه كيلا يبتسم : " أنا أحتمل أن يصحح لي الآخرون كلامي " تقبضت يدا أليسيا . وتمنت لو تصفع ابتسامته المغرورة فتمحوها عن وجهه المتغطرس . لم تعرف قط رجلا مثله ثقة بالنفس , سوى أبيها فقط . ابتلعت ريقها بتشنج وهي تحاول أن تفهم سبب عبوره المحيط الأطلسي ليبحث لها عن عريس . فقد كان أبوها يحتقر حديثي النعمة , ولابد أنه كان يشعر باليأس . حسنا , وكذلك هي . فقد كان يعرضها بالمزاد العلني . يعرض وريثته الوحيدة لمن يدفع أكثر . غالبت دموعا ساخنة اندفعت فى عينيها .. ما كانت أمها لتسمح لأبيها بأن يفعل هذا . - هناك عرسان أسوأ ، يا آنسة ليموس . شعرت بسخرية لكنها لم تبتسم : " الزوج هو الزوج ، وأنا لا أريد زوجا " - أكثر النساء يردن الزواج . إنه أمنية كل امرأة يونانية . ضحك بفظاظة : " هذا قولك أنت ، لكننى أسمع أن النساء متشابهات ، كلكن لديكن أحلام " - أحلامى أنا واضحة ، أريد أطفالا . أنا بحاجة إلى أطفال . وأخذ يتفحصها وكأنها فرس : " أنت شابة ، وستكونين أما ممتازة " قالت بجفاء : " لا أريد أن أكون أما " قالت هذا بجفاء . فهز كتفيه دون إهتمام : - يمكننا أن نتزوج اليوم . . هنا . وحدنا فأنا أخشى أن لا يكون والدك موجودا . فلوى شفتيه بدهشة وشئ من الفضول : " انت تتكلمين كالبحارة " - لأننى أقرب ما يكون من أعمال أبى . - هل تهتمين بإدارة الأعمال . ليس العمل الذى شغف به أبوها أكثر من أى شئ آخر . لم يسمح لشئ بأن يقف بينه وبين سفنه . لم يسمح لأحد أن يتدخل فى أعمال "ليموس" الكبرى حتى أمها . " أظن أن العمل سيصيبك بالسأم . مناقشاته ،عقوده ، أرقامه ، شحناته المملة . . " التمعت عيناه وابتسم للهجتها الساخرة ، وقال ببشاشة : - لا تضغى إلى كل ما يقوله أبوك . اصغى فقط للأشياء الجيدة التى يقولها عنى . كان بإمكانها أن تصفعه بسهولة ، فهى تعلم جيدا سبب رغبة "كريستوس باتيراس" فى الزواج منها . كان طامعا فى بائنتها وأعمال أبيها . عندما يموت ابوها داريوس ، فسيرث "كريستوس" إمبراطورية "ليموس" . قالت له : " أراك واثقا من نفسك أكثر مما ينبغى " أشاحت بوجهها وهى تصر بأسنانها . إنه يمزح ، دون ريب ، ويعبث بها كما تعبث القطة بالفأر . جاهدت أن تتحكم فى طبعها ، وتوتر فكها الناعم . - انت مجنون إذا كنت تفكر فى أننى سأتزوجك . - لقد وافق أبوك على الزواج ، وقد تسلمت البائنة . - لا يمكننى ذلك ، فأنا بحاجة ماسة إليك . التفتت إليه ، فألفت عينيها تلمعان فى عينيه : - بالرغم مما تظنانه ، انا لست مجنونة ولا ضعيفة الشخصية . وما دامت لديك صعوبة فى السمع ، دعنى أقلها مرة أخرى . أنا لنم أتزوجك ، يا سيد " باتيراس" ، ولن أتزوج أبدا يا سيد "باتيراس" . أفضل أن أكبر وأشيب فى هذا الدير على أن أحمل اسمك ، يا سيد "باتيراس" . كبح كريستوس رغبته فى الابتسام وهو يهنز فوق كعبيه . قال أبوها انها عنيدة ، لكنه لم يذكر شيئا عن ذكائها أو حيويتها ، هناك فرق بين العناد والحيوية . العناد شئ كريه ، أما الحيوية فيجد الرجل متعة أكيدة فلا شئ مثل حصان جامح ، وطريدة جاسورة ، ولعبة تنس مثيرة . . وليس هناك أكثر جاذبية من امرأة تنفجر بالحيوية . وتمتم بنعومة : " آه ! أظننى معجب بك جدا " لوى شفتيه وأخذ ينظر إليها وهى تلقى برأسها إلى الخلف ، وعيناها تنظرات إليه بتحد . وإذ وقعت أشعة الشمس على وجهها ، أدرك أن عينيها ليستا بنيتين أبدا بل زرقاوين . . زرقاوين داكنتين غامضتين كسماء فى ليل . مثل بحر "إيجه" عندما يكون ساكنا ، شعر بلون العسل وعينان بلون بحر "إيجه" ! . بدت اشبه بصور رآها لأمها التى كانت نصف يونانية ، نصف إنكليزية والتى كانت تعد إحدى أجمل جميلات عصرها المعدودات . - آمل أن تتمكنى من إحتمالى . فهذا يجعل الحياة الزوجية ناجحة . . . . . تصاعدت نبضاتها بشدة أسفل عنقها ، لكن عينيها أخذتا تقذفان حمما من الغضب والعنف والإستنكار . إنها ستواجهه بأسنانها وأظافرها . - سرعان ما أدعك بعد ذلك ، تضع لجاما فى فمى ، وسرجا على ظهرى . أصبحت وجنتاها بلون الشفق . . لقد اكتسبت لونها الرائع نتيجة امتزاج الدم الانكليزى باليونانى فى عروقها . عينان زرقاوان ، شعر قمحى ، بشرة ذهبية . وشعر برغبة عارمة فى التملك ، إنها له ولو كانت لا تدرى بعد . هربت أليسيا إلى زاوية بعيدة من الحديقة المسورة ، وعقدت ذراعيها على صدرها ، بينما كانت أنفاسها السريعة المتلاحقة تضطرم فى داخلها . تبعها ببطء ، فهو لا يريد أن يضغط عليها . ليس الآن على الأقل . . تحسس جيب معطفه العلوى فوقعت يداه على حافة صحيفة الصباح . لن تعجبها قصاصة الصحيفة هذه . إنه أول من أعترف أنها لعبة مخادعة بقصد السيطرة ، لكنه لا يريد أن يخسر الصفقة . لقد كان وعد والديه بثروة يجبر بها فرع أسرته المنهك ، ومنذ ذلك الحين ، كل قرار اتخذه كان لملاحقة ذلك الهدف . ومنذ تعهد بذلك ، نمت ثروة الأسرة إلى حد كبير . . . كبير جدا . ولا بد أنها شعرت به يقترب ، فقالت له بصوت منخفض ينبض بالمشاعر : " أليس لديك أخلاق ؟ كيف تتزوج امرأة دون رغبتها ؟ " - لن يكون الزواج دون رغبتك . إن لديك الخيار . - عودى إلى الداخل إذن وأستدعى الراهبة ، إنها متلهفة إلى سماع حديثنا . نظرت من فوق كتفها ، فرأت الراهبة . فضغطت شفتيها قائلة : " أنت مستمتع بهذا " - إنه يوم عرسى ، ما الذى لا أستمتع به ؟ ابتعدت عنه خطوة أخرى ، وجلست على مقعد رخامى . فسار حول المقعد ليواجهها : " أليسيا ، لقد أقسم أبوك على أن يتركك هنا حتى نتزوج ، ألا يقلقك هذا ؟ " - لا ، أنت لست أول رجل أرفضه ، ولن تكون الأخير ، أنا هنا منذ عام تقريبا . والراهبات رائعات معى ، وبصراحة ، ابتدأت أشعر بأن الدير بيتى . الدير بيتها ؟ إنه لا يصدقها . . . ولا للحظة . . رغم جمالها النقى ، ووجنتيها العاليتين وحاجبيها المقوسين الأنيقين ، وعينيها المليئتين بالأسرار . إنها لا تنتمى إلى ثوب الدير البسيط البنى اللون ، أكثر مما ينتمى هو إلى ثوب الكاهن ، والله يعلم ذلك . شعر كريستوس بموجة عطف مفاجئة نحوها ، لكتها لم تكن كافية لكى يبتعد عن مائدة اللعب . لا . . إنه لم يفعل ذلك قط من قبل ، وهذا لا يعنى أنه يلعب بالورق ، بل هو يقامر بطرق أخرى ، مقامرات جريئة تخطف الأنفاس فى صناعة السفن اليونانية . فيجنى من ورائها أرباحا هائلة . لقد حقق نجاحا بالغا بالنسبة لأى شخص من مستواه . - بيتك ، يا أليسيا ، سيكون معى . فقد أخترتك ، وأنت جزء من خطتى . وعندما أبدأ بتحقيق أى خطة ، فأنا لا أتخلى عنها ، أنا لا أهرب أبدا . - من الأفضل أن نستخدم هذه المزايا الرائعة فى مكان آخر . - ليس هناك مكان آخر ، ولا خيار آخر ، أنت وزواجنا هو المستقبل . قال هذا بنعومة . وهبت نسمة حركت خصلة من شعرها المعقود باحتشام . ولم تحاول هى ان تسويها فأخذت الخصلة البنية الذهبية تتحرك بخفة الريشة . أعجبه تماوج أشعة الشمس على كتفيها ووجهها . إذا تحول لون شعرها إلى ذهب ونحاس ، ولون عينيها إلى خضرة مياة البحر ، ورفعت حاجبيها : " أنا أعرف من أنت ، يا سيد باتيراس . أنا لست جاهلة بنجاحك . هل أخبرك بما أعلم ؟ " - أرجوك ، فأنا أستمتع بقصة نجاحى . - أنت يونانى أصلا ، ولدت ونشأت فى ضاحية للطبقة الوسطى فى نيويورك . تعلمت فى مدرسة أهلية مجانية قبل أن بقبلوك فى كلية عالية ذات أهمية . - وهذه جيدة جدا ، ولكن لماذا ليس جامعة "هارفارد" ؟ المفروض أن جامعة هارفارد هى الأفضل . - هذا صحيح . فقد ترك أبوك موطنه "أونوساى" مفلسا مهانا. - لم يكن مهانا ، بل فقيرا ، راجيا أن يجد حياة أفضل فى مكان آخر . - اشتغل أبوك فى بناء السفن وترميمها . قال هذا بهدوء , مخفيا مشاعره في الأعماق . فقد كان وفيا لوالديه كثيرا , وخصوصا لأبيه , أبيه التقي المتين الخلق والمكرس حياته لأسرته . فاستطاع أن ينأي بها عن الذل زمن الأزمات المالية الكبري . كان هناك أيام شدة , أيام بالغة الشدة , هذا عدا نبذ المجتمع الأميركي – اليوناني لهم . |