عرض مشاركة واحدة
قديم 29-12-10, 06:49 PM   #5

taman

نجم روايتي

 
الصورة الرمزية taman

? العضوٌ??? » 62057
?  التسِجيلٌ » Nov 2008
? مشَارَ?اتْي » 6,430
?  نُقآطِيْ » taman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond repute
افتراضي

كنت عندما تأتيني الحياة بكلّ هذه المتعة، أخاف أن أعي أنني كنت قبل ذلك في عداد الأموات.
قُبلة واحدة، وإذا بي أكتشف الحياة دفعة واحدة. وأكتشف حجم خسائري السابقة.
كنت أودّ لو كان بإمكاني أن أملأ هذا الدفتر الأسود. وأنا أصف فقط هذه اللحظة الفاصلة بين عمرين. أن أوقفها. أن أحنطها داخل الوقت.
أود لو كانت لي يدا النحات الشهير رودان وموهبته، كي أخلد عاشقين، توقف بهما الزمن إلى الأبد في لحظة شغف، وهما منشغلان عن العالم، ومنصهران في قبلة من حجر.
لو كانت لي قدرة بروست في رائعته البحث عن الزمن الضائع على كتابة عشرين صفحة في وصف قبلة واحدة لا أكثر.
ألأنّ قبلة بروست لم تحدث حقاً، وانتهت بعد طول السرد على خدّ الحبيبة، استطاع أن يصفها إلى ذلك الحدّ؟
ولأن رودان لم يكن وفيّاً تماماً لكاميل كلوديل النحاتة التي أقامت معه علاقة عاصفة أوصلتها إلى مصحّ المجانين حيث ماتت، أراد منذ البدء أن يعوض عن غيابها الحتميّ في محترفه وفي حياته، بتمثال مربك في عريه يخلد به قبلة لن تتكرر بينهما.
هل وعى الخذلان المبكر شرط إبداعي؟ والعودة بسلال فارغة وحدها يمكن أن تملأ كتاباً؟
الجواب عن هذا السؤال لا يعنيني الآن.. وفي جميع الحالات أنا عاجزة عن الجواب عنه.
هذه الرغبة التي تسكنني الآن تمنعني من التفكير. تشعلني، تحرق أصابعي. تمنعني من الكتابة. بل ربما كانت أرغمتني على الكتابة، لو لم يكن أمامي هذا الهاتف، الذي يمنحك بأرقام سحرية وجبة حبّ فورية، تجعل من الحماقة الجلوس أمام ورقة لاستحضار حبيب بالكتابة!

أتّجه نحو الهاتف، لأطلب ذلك الرجل. وأنا أفكر في ما سبّبه هذا الجهاز من خسارة للأدب. فكم من نصوص جميلة.. وكم من رسائل حبّ لن تكتب، قتلتها كلمة "ألو"!
ولكن قبل أن أرفع السماعة، دقّ الهاتف وهزّني. كان زوجي على الخطّ. يحدث لكلمة "ألو" أن تقتل الوهم أيضاً!
جمل عجلى نتبادلها، وكأننا نتحدث على بعد قارات. أو كأن الهاتف الذي يتحدث منه ليس مدفوعاً من طرف الدولة.
فليكن! إنه دائماً على عجل. وربّما كانت الأحداث حوله هي التي تسرع، ما دام يأمرني بالعودة إلى قسنطينة، بعد غد، على متن الطائرة، لا في السيارة، نظراً إلى تدهور الوضع الأمنيّ في العاصمة.
أسأله ماذا أفعل بالسائق. يقول:
-
ليعد وحده بالسيارة. بعد أن يوصلك أنت وفريدة إلى المطار. لقد حجزت لكما على الرحلة الصباحية. الساعة التاسعة والنصف.
أغلق السماعة وأبقى للحظات جامدة.

كانت عودتي متوقعة، نظراً إلى حلول العيد بعد ثلاثة أيام. ولكن كنت أتوقع معجزة ما، أو حادثاً طارئاً ما، يجعل زوجي يطلب مني البقاء إلى حين عودة أمي من الحج. وهو ما سيمنحني فرصة لقاء ذلك الرجل ولو مرّة أخرى.
فكرة الوقت الذي بدأ بمطاردتي جعلتني أستعجل في طلبه، وكأنني أدخل فوراً في سباق مع الزمن.
ستة أرقام.. هاتف يدق دقتين لا أكثر.. وصوت يردّ، وكأنه هنا في انتظاري:
-
هل وصلت بسلامة؟
-
نعم.. وأنت؟
-
لم أغادر البيت. فضّلت أن أستفيد من ذاكرة الأمكنة. رائحتك ما زالت تسكن هذا البيت. إنها عقابك الجميل لي.
-
لم أقصد ذلك..
-
كان يمكن أن تفعلي، لو قرأت ما فعلت جوزفين بنابليون، عندما أجبرها على مغادرة القصر.
-
ماذا فعلت؟
-
رشت بعطرها غرفته، بما يكفي لإبقائه خمسة عشرة يوماً محاصراً بها، رغم وجوده مع أخرى. وقبلها كانت كليوبترا ترشّ أشرعة باخرتها بعطرها، حتّى تترك خلفها خيطاً من العطر حيث حلّت.
أقول ضاحكة:
-
حسناً.. سأستفيد من هذه المعلومات للمّرة القادمة.
ولكنّه يردّ بعد شيء من الصمت:
-
لن يكون هناك من مرة قادمة.
-
لماذا؟
يردّ دون أن يؤثر انفعالي في نبرة صوته:
-
لأنني مسافر غداً..
-
أنت ذاهب إلى قسنطينة؟
-
لا.. إلى فرنسا.
أصرخ من جديد بعجب:
-
إلى فرنسا! وماذا ستفعل هناك؟
يجيب ضاحكاً:
-
ما يفعله الآخرون عندما يسافرون إلى هناك.
-
ولكنّك..
يقاطعني:
-
ولكنني لا أشبههم.. أليس هذا ما تعنينه؟ أنا كائن حبريّ أسافر بين دفاترك ومعك فقط. ومن قسنطينة إلى العاصمة.. لا أكثر. وليس من حقّي أن آخذ تذكرة سفر لشخص واحد.. ولوجهة ليست وجهتك.
يصمت ثمّ يواصل:
-
ولكنني لست البطل الذي تتوهمين. أبطالك لا يمرضون ولا يشيخون، وأنا متعب ومريض يا سيدتي.
أقول بخوف مفاجئ:
-
ممّ تعاني؟
يردّ متهكماً، كما لفرط حزنه:
-
أعاني الوقوف.. لقد قضيت عمري واقفاً، لأنني لا أحسن الجلوس على المبادئ.
لا أريد أن أتعمق في فهم ما يقوله. سؤال واحد يعنيني:
-
ومتى تعود؟
-
لا أدري.. أنا رجل عابر.
-
ولكنني معنية بحياتك..
يجيب ساخراً:
-
أيّ حياتيَّ تعنيك؟
أصمت لا أفهم ما يقصد.
يواصل:
-
أنا لم أوفق في حياتي. ولذا أصبحت أمنيتي أن أوفق في موتي. أيمكن أن تهدي إليّ موتاً جميلاً.. إذا ما خذلتني الحياة في المشهد الأخير؟
أصرخ:
-
ما هذا الذي تقوله؟ لقد كنّا منذ ساعات قليلة سعيدين، نتحدث عن الحبّ. ما الذي أوصلك إلى هذا التشاؤم؟
يضحك:
-
ولكن لأن الحب يعنيك.. لا بد أن يعنيك الموت أيضاً. فالحب كالموت. هما اللغزان الكبيران في هذا العالم. كلاهما مطابق للآخر في غموضه.. في شراسته.. في مباغتته.. في عبثيته.. وفي أسئلته.
نحن نأتي ونمضي، دون أن نعرف لماذا أحببنا هذا الشخص دون آخر؟ ولماذا نموت اليوم دون يوم آخر؟ لماذا الآن؟ لماذا هنا؟ لماذا نحن دون غيرنا؟ ولهذا فإنّ الحبّ والموت يغذيان وحدهما كلّ الأدب العالمي. فخارج هذين الموضوعين، لا يوجد شيء يستحق الكتابة.

يستدرجني كلامه إلى حالة من التفكير، فأغرق في صمت يقطعه من جديد صوته:
-
أتدرين بماذا فكرت وأنا أقبلك اليوم؟
-
بماذا؟
-
فكرت.. أنه إذا كانت كلّ القبل مثلنا تموت، فالأجمل أن نموت أثناء قبلة.
-
عجيب.. هل تصدق أنني عندما عدت، كتبت على دفتري "ثمة قبل إن لم نمت أثناءها فنحن لسنا أهلاً للعيش بعدها".
يسجّل لحظة صمت وكأنه يتعمق في هذه الفكرة أو يتذوقها. ثمّ يقول:
-
لقد أدركت وحدك.. أنه دون ملامسة الموت. لا توجد حالة حبّ شاهقة بما فيه الكفاية لتسمّى عشقاً.
أصمت وكأنني تلميذة تحاول أن تحفظ كلّ ما يلقنها أستاذ. لا برنامج دراسياً له عدا مزاجه المتقلب، وعليها أن تستوعب في يوم واحد، درساً في الرغبة، وثانياً في الموت، وثالثاً في الحبّ، وآخر في فن التخلي عن امرأة، قبلناها بكلّ ذلك الشغف.. ونغادرها بهذا القدر من اللامبالاة!
هذا كلّ ما علق في ذهني من هاتفه.
لا أذكر أنه قال بعد ذلك كلمة حبّ معينة. أو أنه ترك لي رقم هاتف آخر. أو عنواناً بالتحديد.
قال فقط، إنه يحمل معه رائحة الوقت المسروق. وأضاف معتذراً أنه يريد أن ينام ليستريح استعداداً للسفر.
وفهمت أنه سيكون بإمكاني أن أطلبه غداً، حين أستيقظ، لنتحدث مرة أخيرة في هذه التفاصيل.
ولكن في اليوم التالي، كانت الساعة السابعة صباحاً. كنت أستيقظ من ليلة مضطربة، عندما طلبت ذلك الرقم وأنا نصف نائمة.
كان الهاتف يدقّ بطريقة شبيهة بالبكاء.. ولم يكن ثمة من أحد ليوقف بكاءه على الطرف الآخر للذاكرة. إنها ملهاة الحبّ الدائمة التكرار.
الآن فقط، يمكن للصمت أن يبكي.



حتمًا
ــــــــــ


نأتي الحب متأخرين قليلاً، متأخرين دومًا.
نطرق قلبًا بحذر، كمن مسبقًا يعتذر، عن حب يجيء ليمضي.بصيغ مغايرة، يعيد الحب نفسه، ببدايات شاهقة لأحلام.. وانحدارات مباغتة الألم. وعلينا أن نتعلم كيف ننتظر أن يوصلنا سائق الحب الثمل إلى عناوين خيبتنا.
حتمًا.. نضج الحلم. ولكن الزمن هو الذي لم يستو بعد. فما جدوى أن يبلغ القلب رشدًا سريعًا؟!
جاء العيد.. ولقسنطينة عيد آخر.
أعود إليها بقلب متعدد الانكسارات. ها أنا أنهض من تحت أنقاض الحلم. أتنفس من تحت ركام هائل من الأوهام.
وهاهي تفاجئني بوجه لا أعرفه . وقد تراكمت فيها القمامة على امتداد الشوارع بعد أن أضرب فيها عمّال البلديّة والتنظيفات الذين صادر الإسلاميون شاحناتهم المخصصة لنقل النفايات، لإرغامهم على الإضراب المفتوح.. مما جعل القطط هي المحتفلة الوحيدة بالعيد.
أستعجل العودة إلى بيتي. حيث أنا لا شيء يصلني سوى ضجيج المدينة التي تستعدّ لفرحها..و"ثغاء" الخرفان التي تنتظر فجرًا موتها.

أكره الأعياد. وهذا العيد كان أكثر الأعياد حزناً. كان عيد الغياب.
انتابني هذا الإحساس، وأنا أستيقظ ذلك الصباح، فلا أجد أحداً في البيت لأعايده عدا الشغّالة. ولا أحد يمكن أن أطلبه على الهاتف، عدا زوجة عمّي أحمد التي زادني سماعها حزناً. وأيقظ إحساسي بالذنب تجاهها.
زوجي كان قد غادر البيت باكراً. تحسّبًا لمظاهرات أو لأحداث طارئة قد تحدث بعد صلاة العيد. فريدة ذهبت كعادتها لقضاء العيد مع أهلها. " مّا " لم تكن قد عادت بعد من الحجّ.. وناصر لم يكن في البيت ليردّ على هاتفي. والخرفان نفسها التي كانت في البيت، لم تعد هنا. ولم يبق منها سوى آثار دمٍ على الأرض، وجثّة معلقة يتسلى الجزار بسلخ جلدها.

ماذا يفعل الناس صباح عيد الأضحى غير الانقضاض على لحوم الخرفان سلخاً وتقطيعاً.. وتقسيماً. فهنا لا يمكن لأحد أن يتصور عيد الأضحى دون أضحيّة. مهما كانت إمكانيّاته الماديّة، أو نوع البيت الذي يسكنه.
ولذا تعودت أن أراهم صباح العيد مسرعين جميعهم: الرجال نحو الذبائح..والنساء نحو المطابخ، يقسّمن أجزاء الشاة حسب حاجتهنّ ويتصدقن بما زاد عنهنّ.
هذا العام أتوقع أن تكون الحاجة إلى الصدقات قد زادت، بعدما تجاوزت أسعار الخروف، العشرة دينار جزائري. وهو ما جعل أضحية العيد تفوق ثمن الإنسان نفسه،الذي لا يكلّف هذه الأيام أكثر من رصاصة..

أطلب زوجي على الهاتف لأعايده. أشعر أن هاتفي يفاجئه وربما يسعده. أسأله إن كان أرسل شيئًا إلى بيت عمّي أحمد.. يقول أنه نسي ذلك، نظراً إلى مشاغله. أجيبه أنني سأتكفل بالأمر. وقبل أن أواصل كلا مي يدق في مكتبه هاتف آخر.. ويتوقف بيننا الكلام.
أطلب من السائق أن يأخذ نصف الشاة إلى بيت ذلك المسكين. ثمّ ألحق به.. وأطلب منه أن يوصلني قبل ذلك إلى المقبرة.
لم يحدث إلاّ نادرا أن زرت قبر أبي صباح العيد. كنت أحب أن أذهب إليه وحدي. كما نذهب إلى موعد حبّ.
أكره أن أزوره في المناسبات. ربما من كثرة ما تقاسمته مع الآخرين، كتلك المرات التي أعبر فيها شارعاً أو مدرسة تحمل اسمه، فأشعر باليتم يجتاحني، ويكاد يغطي على زهوي بحمل الاسم نفسه.
كان بيني وبين هذا الرجل، الذي يقيم تحت هذا الرخام، تواطؤ ما. ولذا صنعت له ضريحاً صغيراً داخلي، لا علاقة له بوجاهة مقامه هنا، ضريحا كان يكبر معي سنة بعد أخرى. وإذا به في غيابه، أكبر مما حولي من أحياء.
كنت أجلس إليه بين الحين والآخر، كما تجلس النساء إلى ضريح الأولياء، يشكون همومهن،ويستنجدن ببركات الأموات على مصائب الحياة.
وأحيانًا أغلق على نفسي باب غرفتي. وأفتح له ذاكرة حزني وأخطائي. وأدعوه إلى الجلوس على طرف سريري. أقص عليه بعض ما حلّ بي. أستشيره. وأتوقع أجوبته. وعندما لا يأتي جوابه، وتبقى صورته صامتة، أجهش بالبكاء.
أخاف أن أكون قد قلت له الكثير عني. أخاف ألا أكون عند حسن ظنه. فلا أصعب من أن نبقى عند حسن ظن الأموات.
اليوم أيضًا، ككل المرات التي كان يضيق بي فيها القدر، وتخذلني الحياة، تقودني خطاي نحو هذا الشبر من التراب ، أنبش فيه عن جواب لأسئلتي الكثيرة.
ولكني هذه المرة لم أعثر على جواب. وإنما عثرت على ناصر، وهو يهم بمغادرة المقبرة.
ومما زاد من اندهشي، ألا تكون زيارة قبر أبي في الأعياد إحدى عاداته. بل نقلت لي أمي منذ مدة ، أنه أفتى لها بأن زيارة القبور والأضرحة غير مستحبة.
وكعادتي، لم أجادله في معتقداته، ولا في وجوده هنا ، حيث لم أتوقعه.. كالعادة. اكتفيت بإبداء اندهاشي لوجوده، وفرحي بلقائه.
ولكنني لم أمنع نفسي وأنا أقبله، من أن أسأله عن مظهره الذي بدا لي قد تغير، دون أن أتمكن من معرفة ما تغير فيه بالتحديد.
رد بشيء من السخرية:
_
لقد فقدت كثيرًا من وزني في الفترة الأخيرة..
ثم أضاف:
_
كي لا أفقد معتقداتي!
لم أفهم ما يعنيه. أجبته بلهجة فرحة:
_
هذا أفضل.. أنت تبدو أكثر شبابًا هكذا..
أجاب بالسخرية نفسها:
_
وواش اندير بشبوبيّتي..؟
هوذا كعادته ، يستدرجني إلى موضوع لن يكون من السهل الخوض فيه. كتلك المرة التي طلبت منه فيها، منذ سنوات أن يأخذ الساعة الجدارية لإصلاحها، لأنها تتأخر عدة دقائق كل مرة، ولكنه رد هازئًا:
_
روحي.. يا بنتي روحي، إحنا رانا عايشين متأخرين على العالم بقرن. وأنت قاعدة عقاب الساعة، تحسبي لي في الدراج والدقائق. قرن كامل ما قلقكش.. وقلقوك الدقائق. حتى الراجل إذا نديها لو يموت من الضحك.. في هاذ البلاد.. الناس ما يأخذولو ساعة غير لما تحبس!
أتفادى الدخول معه في جدل سيهزمني فيه لا محالة. لأنه يرد على منطقي في الحياة، بمنطقه في معايشتها. وهو ما يجعل الحق دائمًا إلى جانبه.
أقول كمن يعتذر:
_
كنت على سفر. ولم أعد سوى منذ يومين. طلبتك هذا الصباح لأعايدك.. ولكنني لم أجدك.
ردّ:
_
أنا لا أقيم في البيت. كلنا على سفر كما ترين، وحدهم الأموات أصبح لهم عنوان ثابت هذه الأيام!
يواصل بعد شيء من الصّمت:
_
لأنه لم يعد لهم من شيء يخافون عليه.. أو يخافون منه.
أسأله مستفيدة من هذا السياق:
_
وممّ أنت خائف؟
يرد بثقة وكأني وجهت إليه تهمة:
_
من الله.. من الله وحده.
أرد:
_
كلنا نخاف الله..
يجيب:
_
كيف يخاف الله من يطيع أعداءه؟
أصمت. لا لأنني لا أقدر على جوابه. ولكن لأنني أجد جدلنا هذا، أمام مقبرةٍ ذات عيد، ضربًا من الجنون. فنحن لم نأت هنا لنتناقش ولا لنتشاجر.
جئنا لنقرأ الفاتحة على قبر والدنا، وهاهي ذي السياسة تطاردنا الآن في كل مكان، حتى في أسرتنا، وحتى في دفاترنا، وحتى في المقابر.
أقول:
_
ناصر خويا.. الناس تلتقي اليوم لتتعايد، وتتصالح، وتتسامح،وأنت لا أكاد أسلم عليك حتى تنفجر في وجهي.. كن أخي ولو صباح العيد.
يقول متذمّرًا:
أي عيد؟ أنظري حولك القبور كلها جديدة، كلها طريّة، تستقبل كل يوم دفعة جديدة من الأبرياء.
_
وما ذنبي أنا؟
_
ذنبك.. أنك تقتسمين مع الشيطان بيته وسريره.
أرد:
_
لا أدري إن كان هذا الرجل ملاكًا أو شيطانًا. لا أعتقد أنه يختلف عن الآخرين، سوى بكونه ضابطًا ساميًا تقع على أكتافه مسؤوليات الدفاع عن الوطن، هذا الوطن الذي أؤمن به أكثر من إيماني بالملائكة.. والشياطين.
_
ولا يزعجك أن يحتضنك بيدين ملطختين بالدم؟ بتعليمات منه يسجن الأبرياء، وتمتلئ هذه القبور، ما فائدة ما تعلمته إذن، عن حريّة الناس في اختيار مصيرهم؟
_
ما تعلمته لم يفدني في شيء. ولا حتى في اختيار مصيري، فكيف تريد أن أقرر مصير الآخرين؟ ثمة أكثر من ستين حزباً معترفاً بها رسميًا. ومهمتها تمثيل الشعب، والدفاع عن اختياره. أما أنا فلا يوجد حزب ليدافع عني. وحتى أنت.. لم تسألني قبل اليوم عن رأيي في شيء، فلماذا تعجب أن لا يكون لي اليوم رأي؟
يصمت. وكأنه لا يجد ما يقوله، أو لا يجد جدوى من الكلام. يستعيد لهجة أكثر حناناً. ويقول وكأنه يودعني سراً.
-
حياة.. انخاف عليك
أتمتم:
-
من واش؟
يجيب:
-
من كلّ شيء!
أرد بالحنان نفسه:
-
لقد خفت عليّ دائماً من كلّ شيء.
يجيب:
-
ولكن هذه المرة أدري تمامًا ما أقول. أتركي هذا الرجل، اطلبي منه الطلاق ما دام ليس لك أطفال منه.
أبتسم ثم أضحك لكلامه.
يسألني عاتباً:
-
ما الذي يضحكك؟
أقول:
-
تذكرت "ما" لو كانت هنا وسمعتك تنصحني بالطلاق لجنّت. هي التي تعتبر زواجي من هذا الرجل أكبر مفاخرها.
يردّ:
-
لا تهتمي بأمي. إنها تعيش حياة مستندة إلى حقيقة واحدة (الآخرين). في الواقع هي تستند إلى جدار من الوهم الكبير. استندي إلى الله في أي قرار تتخذينه فهو لن يخذلك.
أقول:
-
لقد استندت إليه دائماً.. وإلى هذا القبر. وقدري نتيجة هذا. وكنت أتمنى أن تكون أنت أيضاً سندي. إنك كلّ ما أملك في هذه الدنيا. ولكن ها نحن كالغرباء نلتقي مصادفة في المقابر.. لا تطلبني ولا تزورني، وعندما أزورك لا أجدك.
يقاطعني بشيء من المرارة:
-
ذات يوم.. لن تجدي صعوبة في العثور عليّ. سيكون لي أخيراً عنوان ثابت هنا.
أصرخ:
-
ما هذا الذي تقوله.. أجننت؟
يقاطعني:
-
الموت أقرب إلينا مما تتوقعين. أتريدين أن أدلك على قبر لصديق، قتل منذ أيام دون مبرر، سوى لأنهم اشتبهوا في أمره، وهو يضع يده في جيبه ويوشك أن يخرج منها شيئًا، على مقربة من شرطيّ. عندما قتلوه، اكتشفوا انه لم يكن يحمل في جيبه شيئاً. تصوري: الآن بإمكانك أن تموتي لا بسبب جريمة ارتكبتها، وإنما لأن هناك افتراضاً أن تكوني مجرمة. حسب المكان، أو الزمان، أو الهيئة التي يصادف أن تكوني عليها وقتها. أي أننا جميعاً متهمون مفترضون. يكفي أن تتوافر فينا إحدى هذه المصادفات.. وتتطابق مع "أعراض إرهابية"!
أقول:
-
لا أطن أن أحداً يحب إيذاء الآخر، أو قتله لمتعة القتل. ولكن كلّ واحد أصبح يعتقد أنه إن لم يكن القاتل، فسيكون القتيل. إنها قضية ثقة. لقد فقدنا الثقة ببعضنا بعضاً. إنه زمن الانجراف نحو الشر. يجب أن لا ننساق فيه إلى ركوب هذا القطار المجنون. الحياة جميلة يا ناصر، صدقني.. يكفي أن نضع فيها شيئاً من الحب.

يصمت ناصر. ثم يحتضنني ويقول:
-
أحياناً أتمنى أن أشبهك
-
وأنا أتمنى دائماً أن أشبهك. لقد باعدتنا الحياة أحياناً. ولكن لن يفرقنا شيء. أليس كذلك؟
يجيب:
-
لا.. لن يحدث هذا.
يمشي خطوات ثم يعود، وكأنه تذكر شيئاً. أو كأنه قرر أن يقول لي شيئاً، تردد في قوله. يهمس:
-
حاولي أن تأتي لزيارتنا في البيت خلال اليومين القادمين. إنّ أمي ستعود بعد غد من الحج. إنني أنتظر عودتها لأسافر. وأود أن أودّعك قبل سفري.
أسأله دهشة:
-
تسافر إلى أين؟
-
سأقول لك هذا في ما بعد. لا تخبري أحداً بهذا الأمر.
ما يكاد يختفي، حتى أجلس منهارة عند أقدام ذلك القبر. ويفاجئني البكاء.
أيّ زمن هذا الذي أصبح فيه الإخوة، يلتقون فيه مصادفة في المقابر صباح العيد. فيتشاجرون ويتصالحون على مسمع من الموتى. ثمّ يفترقون، دون أن يدروا متى سيكون لقاؤهم القادم.. وفي أي عالم!

* * *
أنا التي ذهبت يومها أبحث عن أجوبة، عدت بأسئلة أكثر، بعد أن قضيت نصف نهاري في مواساة عائلة عمي أحمد، والنصف الآخر في مواساة نفسي، عن رجال لا يأتون إلا ليرحلوا، ولا يسلمون علي إلا ليودعوني..ولا يتحدثون إلي إلا ليضعوا الموت طرفًا ثالثًا بيننا.
أثمّة في هذا البلد، عدوى انتشرت بين الرجال.. جعلتهم جميعهم يتكلمون الكلام نفسه، ولا يحلمون سوى بالرحيل؟
في المساء، جلست لياقةً لأشارك زوجي العشاء. في الواقع، كنت قد قررت منذ أيام أن لا آكل شيئًا من لحم تلك الخرفان، التي ظلت رؤوسها ترتجف لعدة أيام، بسبب ما عانته من دوار البحر، لقضائها شهرًا ونصفًا، محشورة في الطبقات السفلية لباخرة.
زوجي كان مرهقًا بدوره إلى درجة لم يلحظ معها غياب شهيتي. تبادلنا أحاديث عاديّة، عن أشياء عامة دون تحديد. وما أنهى عشاءه حتى رأيته يتجه نحو غرفة النوم ويخلع ثيابه. وكأنه يخلع عبئًا كان يحمله طوال النهار. ويلقي بنفسه على السرير.
قلت له وأنا أعلق ثيابه على المشجب:
_
كنت أتمنى لو قضيت هذا اليوم معي.. لا أفهم لماذا لا بد ان تقضي كل الأيام في مكتبك ..حتى الأعياد.
أجابني:
_
إذا قضيت معك العيد، فمن يضمن الأمن في مدينة يتجاوز عدد طلابها في جامعة واحدة 23 ألف طالب. أما مساجدها فلا أحد يعرف عددها.. إنها تنبت كل يوم..
قلت:
_
كنت أقصد أننا لم نعد نلتقي أبدًا. حتى العطل والأعياد، أصبحنا نقضيها كل على حده.
أوصلني هذا السياق إلى ناصر. تذكرته وتذكرت حديثي معه. احتفظت بمشروع سفره لنفسي. ولكنني وجدتني دون تفكير أخبر زوجي بلقائي به هذا الصباح في المقبرة، برغم علمي أن زوجي يتحاشى الحديث عنه، وكأنه يبادله مشاعر الكراهية نفسها.
ولكنه فاجأني هذه المرة، وهو يقول بشيء من الارتياح:
_
حسنًا أن تكوني قد التقيت به..
ثم يضيف:
_
كيف وجدته؟
أعجب لسؤاله.. أجيب:
كالعادة.. ربما نحف بعض الشيء، ولكنه بصحة جيدة.
يسألني :
_
ألم يخبرك بشيء؟
أصمت. أرتبك. يذهب فكري إلى كل الاحتمالات.
تراه يعلم بمشروع سفر ناصر؟ أكان هناك من يتنصت أثناء حديثنا؟ ولكنني لم ألحظ أحدًا. وماذا لو كان يستدرجني ليعرف مني ما يجهله؟
أجيب:
_
لا.. لم يخبرني شيئًا، عدا أن أمي عائدة بعد غدٍ من الحج.. كي أستعد لاستقبالها.
يسألني وهو يصلح من جلسته مستندًا على السرير:
_
ألم يخبرك أنه اعتقل؟
أصرخ دهشة:
_
اعتقل؟ لماذا؟ ومتى حدث هذا؟!
_
أثناء غيابك. لم أشأ أن أخبرك بذلك حتى لا أشغل بالك.
أصاب بحالة ذهول.
أهو منخرط في تنظيم خطر؟ هل وجدوا في حوزته وثائق أو أسلحة؟ ولكن من المؤكد أنهم لم يعثروا على حجة كافية لإدانته، و إلا لما كانوا أطلقوا سراحه.
أسأل:
_
ماذا فعل؟
يجيب:
_
إن كثيرًا من الشبهات تدور حوله، لإقامته علاقات مع جهات أصولية..
أجبت بعصبية:
_
ولكن أن يتعاطف مع هؤلاء لا يعني أنه إرهابي. لا يمكن لناصر أن يحمل السلاح ليقتل أحدًا. أنا أعرف أخي.
يقاطعني بلهجة صارمة:
_
إن أخاك يتكلم كثيرًا . ولولا لسانه لوفر عليّ وعليه كثيرًا من المتاعب. إنه يعتقد أن الاسم الذي يحمله يمنحه حصانة. ويعطيه حق شتم السلطة وتحريض الآخرين. لقد تدخلت هذه المرة لإطلاق سراحه، ولكن لا يمكنني أن أفعل هذا دائمًا. نحن نعيش حالة من التوتر الأمني يجب ألا يكون فيها استثناءات حتى لأقرب الناس إلينا.. لابد أن تشرحي له هذا!
ماذا أشرح لناصر؟ أنا التي لم أتوقع أن خبر سجنه سيحرك فيّ كل ذلك الوحل.
تركت لزوجي فرصة استعراض قوته أمامي، وإشعاري بأني مدينة له بالكثير.
لم تكن عندي رغبة في الدخول معه في أي جدل، ولا كنت مستعدة لأن أنهي يوم العيد بالتشاجر مع زوجي.. وقد بدأته بالتشاجر مع أخي.
رأيته فجأة يغرق في نوم عميق. فلم أملك إلا أن أنزلق جواره.
وأحاول بدوري أن أنام مذهولة من أمري.
لا أدري كيف مات غضبي.
الآن فقط اكتشفت أنه مات. وأنني فقدت ذلك الحريق الجميل، الذي كثيرًا ما أشعل قلمي وأشعلني في وجه الآخرين.
ألا تكون لك قدرة على الغضب، أو رغبة فيه، يعني أنك غادرت شبابك لا غير. أو أن تلك الحرائق غادرتك خيبة بعد أخرى. حتى أنك لم تعد تملك الحماس للجدل في شيء. ولا حتى في قضايا كانت تبدو لك في السابق من الأهمية، أو من المثاليّة، بحيث كنت مستعدًا للموت من أجلها!
كانت عودة أمي من الحج، هي كل ما يعنيني الآن . ولا أدري أي شعور بالتحديد جعلني أستعجل لقاءها: شوقي إليها؟ أم حاجتي إليها؟ أم رغبتي في لقاء ناصر، ومعرفة ما يخبئ لي من مفاجآت؟
وأنا التي تعودت رؤية أمي ذاهبةً أو عائدة من الحج، لم يفاجئني جلوسها في الصالون بزيها الأبيض، وغطاء رأسها الأبيض إياه. بقدر ما فاجأني وجودها لمرة دون حاشيتها من النساء، اللاتي يودعنها ويستقبلنها في كل ذهاب وإياب.
ولذا سعدت بالانفراد بها.. وربما الالتصاق بها، وكأنني أسرق منها بعض بركاتها، قبل أن تعود امرأة عاديّة.
لا تكاد تراني حتى تبادرني بالسؤال:
هيأتك لا تعجبني.. هل بك شيء؟
أرد:
_
لا
تواصل:
_
لم تستفيدي من سفرك إلى العاصمة.. لقد عدت أكثر شحوبًا.. ربما البحر لا يناسبك.
أرد:
_
بلى هو يناسبني.. ولكن هذه المدينة هي التي تتعبني.
فتعود إلى حديثها عن الحج، وقد اطمأن بالها أخيرًا لعدم وجود مشاكل في غيابها.
تحكي عن الحرارة التي لا تطاق هذا العام في مكة.. وعن الحجيج الذين ماتوا دعسًا.. وعن الدينار الجزائريّ الذي انهار.. وعن أسعار الذهب التي ارتفعت..
أستوقفها:
_"
مّا" .. هل رفعت لي دعاءً هناك؟
تجيبني متعجبة:
_
طبعًا يا ابنتي.. إنني أفعل ذلك دائمًا..
أقاوم رغبة جارفة في البكاء، وكأنني كنت أنتظرها لأنهار باكية. ولكنني لا أفعل؛ أواصل الاستماع إليها تحكي.. وأنا سرًا أبكي.
أثناء ذلك، تحضر إحدى الجارات ثم نساء أخريات. فأتركها لهن. وأذهب نحو ناصر.. كعادتي.
أحب ناصر في صمته. في رجولته الموروثه من قامة أبي وملامحه. واليوم بالذات يبدو لي أكبر من عمره.
أحسه رجلاً فوق العقد، فوق الشبهات. إنه لا يشترك في شيء مع أولئك الذين وجدوا في الأصولية حلاً لكل عقدهم الرجالية، أو مشاكلهم الأرضية. ووجدوا في تطرفهم ردًا على عجز عاطفي.. أو انتقامًا لذاكرة طبقيّة أو تنفيسًا عن عقدة وطنيّة.
لقد أثار هذا الطريق تاركًا كل شيء خلفه، بينما لحق ب الآخرون، لأنهم لم يكونوا يملكون شيئًا ليخسروه!
كان بإمكانه الحصول على أية بنت، وأية وظيفة، وأية ثروة، ولم يفعل. ولا أدري أين كان يجد ثروته الداخليّة. ومع أية قضية تزوج سرًا. إلى أي بلد كان يهاجر كل يوم، وهو جالس يحتسي قهوته بتذمر صامت، وأمي تحثه كل مرة على الكسب، واغتنام الفرص التي تتاح له وتستفزه بمقارنة حياته بحياة من هم أدنى منه، ونجحوا في حياتهم.
نجحوا في الحياة؟ في الواقع لا. هي تقصد من نجحوا في اختصار مشقة الحياة، ناهبين البلاد حيث وجدوا، مشهرين غنائمهم دون خجل، رافعين في بضع سنوات فيليات شاهقة، تقف عند بابها سيارات فخمة. وتسكنها امرأة تسافر إلى أوروبا في كل المناسبات لتجدد خزانتها.
لم تكن تعي أنها كانت تعمق فيه الشعور بالخيبة، ولا تحثه سوى على المزايدة عليها.
وكنت أراه يومًا بعد آخر يفقد صوته بالرد عليها، ويفقد أناقته، وكأنه أضرب عن الحياة وعن الأناقة، لأن الوطن لم يكن في أناقة أحلامه!
أكان يدخل هو أيضًا حزب الصمت، ويخلع صوته، تمامًا كما خلع الآخرون فجأة شعاراتهم، وحلقوا قناعاتهم، خوفًا من سجن يتربص بالملتحين.
جاء زمن شفرات الحلاقة إذن_أخيرًا أصبحت متوافرة_ نزلت الأسواق، مع نزول مفاجئ في القيم، وفي قيمة الإنسان. فهل هذا زمن الوطن التنازلي؟
نزلت ،ومعها نزلت الشعارات على الجدران، تعلن بدء الزمن الصعب. وامتلأت السجون بالملتحين..وبأولئك الذين أخذوا خطًأ بين نارين..كما في كل حرب.
أسأله بنبرة منخفضة:
_
أيجب حقًا أن تسافر يا ناصر؟ وهل فكرت في ما سيحدث لأمي في غيابك؟
يجيب:
_
إني أسافر كي أعود. ولكن إن بقيت فقد تخسرونني. أقول هذا الكلام لك. أما أمي.. فسأغافلها وأمضي بخديعة جميلة نحو قدري.
ستتحمل غيابي أكثر من تحملها خبر سجني أو موتي.
_
ولكن هل هذه الخيارات محدودة حقًا إلى هذا الحد؟
_
طبعًا..لقد انتهى ذلك الزمن الوديع في خيباته. جاء زمن السجون.. والموت المباغت.. والاغتيالات الملفقة.
أقول:
_
لقد أبلغني زوجي أنك اعتقلت أثناء غيابي.
يقاطعني:
_
وأبلغك أيضًا أنه تدخل للإفراج عني.
_
وهل هذا غير صحيح؟
_
نعم..ولكنها مراوغة سياسيّة متعددة الأهداف. إنه من جهة يجعلني مدينًا له بهذه الخدمة، ومن ناحية أخرى يثير حولي الشبهات، ويجعل رفاقي يشكون في مصداقية معاداتي للسلطة. مادمت لم أسجن سوى يومين ويبقون هم هناك لعدّة أشهر ، وربما لسنوات. ثم..إن يطلقوا سراحك فهذا لا يعني سوى بدء مشاكلك، خاصة مذ بدأوا بإطلاق سراح كل من يزعجهم، كي يتمكنوا بعد ذلك من قتله خارج السجن، تحت ستار الموت العشوائي. فماذا بقي لي من اختيار سوى الرحيل؟
استمعت إليه، كمن لا يصدق أمرًا لفرط غرابته، أو كمن يرفع الغطاء خطأ أمامك عن صندوق قمامة، دون أن يعتذر لك عن عفونة أحلامك.. التي كنت أودعتها مكانًا "آمنًا" أسميته الوطن!
فجأة، لم تعد لي من رغبة سوى الهروب به إلى أي بلد آخر.. أو أي قارة أو كوكب آخر، ريثما يمر قطار الجنون.
أنا التي لم أقتنع يومًا بمنطق رجل يتركني ويسافر. اقتنعت بمنطقه في مغادرة الوطن. ووجدتني ألفق معه أكاذيب وحججًا لإقناع أمي بذلك.
عدت يومها محملة بقبل ناصر.. وتعليماته. أما أمي فقد حملتني بعض ما أحضرت لي من هدايا. وعلى رأسها (ماء زمزم) ، الذي تعودت أن تأتيني به في كل حجة، تحسّبًا لذلك اليوم الذي قد أحبل فيه.. وأستنجد به عندما أضع مولودي!
في انتظار ذلك، أنا حبلى بذلك الرجل. إنه الشيء الوحيد الذي يكبر داخلي كل يوم. وإذا به يومًا بعد آخر يغطي حتى على رحيل ناصر، وعلى خيباتي الأخرى. ولا أفهم أن يستطيع هذا الرجل أن يفعل بي كل هذا، وأن يواصل برغم كل ما يحدث حولي من مآسٍ، الإقامة داخلي، ومنعي من التركيز على أي شيء عداه.
أكثر من كلماته، علقت بي رائحته الممتزجة بعطرٍ ما. وبرائحة تبغٍ ما. وبرائحة عرقٍ ما. لتشكل كلها هذا الحضور الذي يوقظ حواسي، والذي لا اسم له، أو ربما كان اسمه: هو.
وأذكر أن ديدرو الذي وضع سلمًا شبه أخلاقي للحواس، وصف النظر بالأكثر سطحية، والسمع بالحاسة الأكثر غرورًا، والمذاق بالأكثر تطيرًا، واللمس بالأكثر عمقًا. وعندما وصل إلى الشمّ. جعله حاسة الرغبة، أي حاسة لا يمكن تصنيفها، لأنها حاسة يحكمها اللا شعور، وليس المنطق.
المخيف مع هذا الرجل. أنه جعلني أكتشف حواسّي. أو على الأصح، خوفي النسائيّ من هذه الحواس.
بل إنه وضعني في حالة من فوضى الحواسّ أخاف أن يأتي يوم، لا أستطيع معها أن أصفه، أو أن أتعرف إليه، بعد أن خرجت معرفتي به عن المنطق.
ولذا قررت يومًا التفرغ لمطالعة ذلك الكتاب الذي أحضرته معي لهنري منشو، والذي وضع جوار مقاطعة إشارات أو ملاحظات. وكأنني وقد فشلت في اكتشاف ذلك الرجل في الحياة، رحت أحاول اكتشافه داخل سطوة حضوره. بهدوء من يطالع رجلاً في كتاب.
أن تعيش مأخوذا بلغز رجل غامضٍ حد الإغراء، وحد الإزعاج أحيانًا، قد تكون فرصتك في كتابة رواية جميلة. هذا إذا كنت روائيًّا. أمّا إذا كنت عاشقًا، فسيكون في لغزه عذابك ولعنتك. ذلك أن الحب سيحولك رجل تحرٍ. حتى ليكاد يصبح التحري مهنتك الأخرى.
ككل عاشق، أنت تريد أن تعرف كل شيء عنه. تريد معرفة ماضيه وحاضره، وأسماء من أحب ومن أحبوه، عناوين البيوت التي سكنها، والمدن التي زارها، والمهن التي مارسها، والأماكن التي يرتادها.
تطارده بالأسئلة لتعرف برجه، وهوايته، وانتماءاته.. حتى إنك قد تعود بكتاب من مكتبته، فقط لمتعة التجسس على قراءاته!
إن في الحب كثيرًا من التلصص والتجسس والفضول. والأسئلة لا تزيدك إلا تورطًا عشقيّاً. وهنا تكمن مصيبة العشاق!
سؤالي الأول كان. مالذي أوصل هذا الرجل إلى هنري ميشو؟ ولماذا اختار هذا الكتاب ليسجل عليه خواطره؟ ولم أجد من جواب سوى كونه كان رسامًا أيضًا. وعندما أصبح السؤال، كيف يمكن أن أفهم رجلاً من خلال شاعر وهو نفسه غامض. حتى إنه كان شاعر الأسئلة التي لا تفضي سوى إلى أسئلة أخرى. وكل حياته كانت مبنية على الانتهاكات الدائمة لوجاهة الحياة الظاهريّة فقد ظل يرفض الجوائز الأدبية، ويرفض أن تؤخذ له صور فوتوغرافية، ويرفض أن تصدر كتبه في طبعات شعبية، بل ظل يتمنى لو أصدر من كل كتاب له خمس نسخ فقط. ولم يفارقه طوال حياته إحساس دائم بالعبثيّة، يتّضح منذ الفكرة الأولى:
"
في ردهة روحك، ظنًّا منك أنك تجعل من الآخرين خدمًا لك، تكون على الأرجح أنت من يتحول بالتدريج خادمًا. خادم من؟ خادم ماذا؟ إذن فابحث، ابحث"
على هامشها كتب: " لا تبحث.. ستضع ذكاءك في خدمة الجنون"
ثم خاطرة أخرى:
"
في غياب الشمس تعلم أن تنضج في الجليد"
وأضاف باللون الأزرق أسفلها " أو في جريدة!" .
ثمّ:
"
إذا كنت الإنسان المقدم على فشل.. فلا تفشل كيفما كان" وواصل القلم " أما إذا كنت مقدمًا على الموت فلا تهتم!".
أن يطالع أحد هواجسك في كتاب، تركت عليه بعض آرائك، أو علّمت على بعض جمله، كأن يطالع شخصيتك في حقيبة يدك. أو يتلصص عليك من حيث لا تتوقع .
الأشياء الحميمة، نكتبها ولا نقولها. فالكتابة اعتراف صامت. ولذ أشعر بشيء من الحرج أمام كتاب لم يكن مهيأ لي.
بل لا أفهم، كيف تجرأ ذلك الرجل على إعارتي إياه دون تردد. وإذا بي أقرأ الكتاب قراءتين ، في وقت واحد.
أحب تلك النصوص التي تكتب بقلمين. والتي تشبه في وقعها تلك الموسيقى التي تعزف على البيانو بأربع أيدٍ، وبتناوب عازفين. كهذه الخاطرة التي تبدأ بعزف منفرد على إيقاع "هنري ميشو":
"
في استطاعتك أن تكون مطمئنا.لا يزال فيك بعض نقاء . في حياة واحدة .. لم تستطع أن تدنس كل شيء ! "
ويدخل العزف الآخر.ليضيف بنوتة مفاجئة " أحقا " .
أو هذه التي تأتي كما في عنف "بيرليوز" في سمفونيته المدمرة
"
ما الذي تهدمه عندما تكون هدمت ما أردت هدمه: السد المنيع لمعرفتك الخاصة ؟" .
وترد أصابع واثقـة.. بقلم أزرق "بل جدارا اسمه الخوف ". ثم ينغلق البيانو . ويواصل القلم الأزرق بصمت ، وضع سطر تحت أبيات و خواطر استوقفته.
"
لا تتعجل أخطاءك.لا تستخف بها وتعمل على إصلاحها..إذ ما الذى تضعه مكانها ؟ "
أو
"
لم ألبث أن انتبهت أنني لم أكن النمل فحسب وإنما كنت أيضا طريقه"
أو
"
النوم في النهاية، هو أكثر خيباتك ثباتا " وجوارها سؤال بالقلم بصيغة خيبة أكبر، تأتي كما لو أنها الجملة الأولى في السمفونية الخامسة لبتهوفن: "والحب إذن ؟".
ويصمت الأزرق.
قضيت أياما في العودة إلى "أعمدة الزاوية" من باب الفضول في البدء، ثم مأخوذة بتطابق هذين الرجلين في كثير من الأشياء. كحبهما للرسم، وحبهما للون الأسود الذي كان غالبا ما لا يرسم هنري ميشو إلا به، أو عليه ، لوحاته. إضافة إلى كراهيتهما للأسماء أو للأضواء. وهاجس الموت الذي يسكنهما معًا.
اكتشافي الآخر كان ، أن هذا الرجل يعمل في جريدة ، وأن في حياته خيبة عاطفية كبرى، وأنه يملك أسلوبًا على قدر كبير من السخرية ، التي تخفي مرارة وذكاءً حادين. وهو تمامًا .. النوع الذي أعشقه من الرجال .
ألأنني كنت مسكونة بهاجس ناصر، وجدتني أيضًا أطالعه، وأعود إليه من بين فكرتين ؟
ثمة كتب تضعك أمام اكتشافات مذهلة . تكتشف فيها نفسك ، و مساحات منك لم تكن تعرفها.
و أخرى شخصًا آخر، لم تكن تتوقعه . بل إنها قد تفضي بك من شخص إلى آخر. وها أنا أمام ناصر.حتى بدا لي أن بعض الخواطر هو قائلها. كذلك البيت :
"
لا اسم لي. اسمي تبذير للأسماء"
وهل كان ناصر عبد المولى إلا تبذيرًا لحلمين ولاسمين: اسم جمال عبد الناصر، واسم الطاهر عبد المولى؟
كيف يمكن أن تولد أثناء حرب التحرير الجزائرية، بتوقيت التواريخ الناصرية دون أن تشعر فيما بعد، بأن سلسلة من المصادفات التاريخية، ستغير حتمًا تاريخ حياتك.
قبل أي خطاب سياسي، تفتح وعي ناصر على اسمه، الذي كان نصفه منذورًا للقومية، والنصف الآخر للذاكرة الوطنية.



taman غير متواجد حالياً  
التوقيع











رد مع اقتباس