شيء ما يدعوه للنفور عنها والذهاب بعيداً
يتألم لذلك فشعور سخيف كهذا
يحاول أن يفقدَه تسليته الوحيدَة
تسلية لطالما أحبها , بل وعشقها
شيء من الحنان يبحْث عنه
ربما لأنها تذكَره بمن أحب
ورحَل عنه
قد يكَون قدوم خالد تبرير كافِ له أمامها
لكَن الحقيقَة نابعة من داخله
../ السلام عليكم .. وش فيكْ يابو الشباب جالس هنا لوحدَك .. قوم قابل الناس موب تجَلس هنا مصّدق نفسكْ .. ضيف !
أخرجْ عُلبة سجائره الذهبية وألتقط عود أبيض طويل من داخله
بمهارة وتمّرس
دسّها بين شفتيه وهو يجيب
../ حنّا هنا أصلاً شكَلنا غلطْ .. وأغلبهم ناس مانعرفهم .
بتر جملته حينما أخرج خالد السيجارة من بين شفتيه
وألقاها أرضاً
وراحت قدَمه تدهسها بقّوة وهو يقول
../ لو تبطّل هالسم كان نحنا بخير .. بتقتلني إنت كُل ماشفتني طّلعت وحدَة مدري مكتوب على جبهتي " دخّن أحسن لك " ولا وش .. ؟ حرام عليكْ نفسَك يا صقر .. وش صاير عليكْ ؟
فرك بأصبعيه عينيه بتعَب وبدآ كأنه يجاهد ليبقيهما على إتساعهما
../ مشغــول عقلَــي ..! ومدري وش بإيدي أسّوي أكثَر ..!
ربّت على فخَذّة وهو يقول بجّدية
.../ لا تستهَم وأنا أخوكْ .. كّلنا معاك وبيدنا نمسَكهم إن كانوا بالفعل موجودين ونرميهم فأظَلم سجَن ..بس إنت التفت لنفسَك .. وبطّل هالبلا اللي تشّفطَ فيه أربعة وعشرين ساعة ..
مسحَة من الإرهاق علت صوته وهو يجيب
../ ربك كريم
../ إلا قولي .. متى ناوي تتزوج
عقد حاجبيه بدهشَة وهو ينظَر لوجهه صديقَة الجاد
أخذ يبحَث عن أي علامة للسخرية
لكَن الجدّية أحتلت ملامحه
ليتنّهد بتعب وهو يومئ بصَدق وابتسامة قلّما رُسَمت على محيّاه
.../ أبشّرك قريب .. يا خالد قريب
حلّق كيانه في كَبد السعادَة
أقصَى ما كان يحتاجَه الآن هو ذلك الشعور
شيء من الفرحْ يفكك عقَد الذَنب في داخَله
ومازال يصَنع خطوة الألف ميل
*
فجراً
في إحدى جبال مكَة شامخَة حول الحرم
حملت بين ثنايا صخورها بيوت بّنيَة قديمَة
تمّسكَ أهلها بها وظّلت شاهدَة على كُل تلك الأزمَنَة التي مّرت بها
ونُحت من الصخور سّلم للصعود للقمة
فكانت كالشق بين البيوت الصغيرة
هُناكْ
صَعدت سيّدة مُتشّحَة بالسواد تحمَل فوق رأسها قماش كبير ممتلئ
ملفوف بعناية حول ما يحتويَه
ويركض خلفها صبَي في العاشَرة من عمَره
انحرافا يميناً حتى أصبحا أمام منزَل
ونزَلا سّلم ذي الثلاث درجات تحت الأرضْ
ثم طرق الصغير الباب الأزرق الصدئ
ليفتَح في ثوآن وتختفي أجسادهم خلَفه
,
أغَلقت الباب خلفهما وابتسامة حُب كبيرة
تُرسمْ على شفتيها لتجَعل من وجهها هالَة من الطُهر والنورانية
../ صبّحكم الله بالخيَر
حمَلت ما قد أنزلق عن رأس والدتها
ووضَعته جانباً وأخذَت تساعدها في
خلع حجابها وهي تقول
../ كيف مّر عليكم اليووم ..؟
لتومئ الأخرى والأعياء بادٍ على محيّاها
../ الحمدلله .. جانا رزق يكفَينا يومين .. اللهم لكْ الحمد
ابتعدت عن والدتها وهي تذَهب نحو الغسالة الصغيرة داخَل حجرة ضّيقَة
وعيناها تتأمل ذلك الصغير النائم هُنـآك
.../ شكَلكم تعبَتوا اليوم .. فهّود نــآم
ليأتيها صوت والدتها وهي تدلف للحجرات الثلاث الداخلية
../ إي والله .. الله يرضَى عليه .. وأنا ما قصَرت شغّلته زيـن .. زهرة فديتكْ خلّصي إلي بيدَك وصّحي خوآتك وأخوكِ وخلّيهم ينزلون من بدري .. لا يتأخرون
../ إن شــاء الله
هكذا هو سناريو كُل يومْ يمّر عليهم
ربما يعيشون في فقَر
وأيديهم تقَبض أقواتهم ليوم واحد
لكَن قلوبهم وكأنها تُغَمس في الرضا غمساً
لتجعَل على وجوههم هالات من السعادَة وإن كـآنو في كَدر
تَحركَت أختَهم الكُبرى فأيقظَتهم
وبدأ مع بداية اليوم كالعادَة مشروع تذَمر حادْ سرعان مايخبوا
حينما يرون كم تعَبت أمهم مساءاً وحان وقتَ ركضَهم
كُل يوم يقسَمون أن يجمعن أكثر مما تجمعَ لهم والدتهم
ينهَض أخوهم إجباريَاً
فتقَسم البضاعة بينهم كُل فرد منهم
لا يفترقون أبداً من بعد تلك الجريمة
بل يبقون محفوفين بعضهم حول بعض
وعينا أخوهم لا تفارقهَم
فزمن الافتراق قد ولى
بعَد فجيعَة أختهمْ
وفي كُل يوم في طريقَهم
على الدرج الصَخرية
ومن ثم إلى ساحَة الحَرم
وألسَنتهم تلهَج بـ الدعاء لها
وأن يعيدها الله إليهم قريباً
واليوم ظهَر بوضوح صوت إحداهنّ
من خلف غطائها السميك
.../ ياربِ ردْ لنا .. نور العيـن
*
../ يالله هّدولَة أبتسَمي .. مين قدّك اللحيـن ..؟
رسمَت بيأس ابتسامة صفراء وهي تقول بهدوء
../ ربي كريم أدعي لي ..
../ ربنَـآ معاكِ .. أهم شيء مثَل ماقلت لكِ ..رقمي عنَدك إذا حصَل أي شيء
دقّي وحنّا بنصَرف
../ الله يعطيك العافيَة .. والله مدري وش أقول لكْ ؟
../ لا تقولي ولا شيء .. و يا لله مع السَلامة لا تلطعي إلا جاكِ
خَرجَت وشيّعَتها هي بنظَراتها حتَى أختفت خارج الباب الحديد الكبير
مسحَت على قميصَها وهي تتجه للداخل مجدداً
لتبدأ مشوار آخر
مع فتاة أٌخرى
,
استلمت الأوراق الرسمَية التي تحَوي كُل ما يخصَ تلك الفتاة أمامها
والتي ظَلت هاجسها في الفتَرة الأخيرة
ومن المفترضْ أن لا تكون لها
لكَن صَديقتها مريضَة حالياً
فأخذَت هي ملفّها حالاً
لم تقرأ حتَى أسمها المدون خارج الملف
بل أكتفت بالابتسام في وجهها وهي تبادرها
../ إسمَك .. صبـآ إيش ؟
جاءها صوتها شاحَباً وهي تجيب
../ صبا محمد ..
../ طّيب يا صبا بشريني .. كلامي أمس هل عليه أي ملاحظات
هّزت رأسها بالنفي كجواب
فيبدو بجلاء أنه تتهرب بالإيماءات من إي سؤال يجبرها على الكلام
تنهَدت ميسون براحة فقد قطَعت بذلك منتصَف الطريق
لتقول بعدها بهدوء
../ خلاص .. إنتي اللحين عارفَة وش لك وش عليك.. يعني كُلها يومين أو ثلاث أيام بالكثير وتخرجي من هنا .. وش أهم أهدآفك بعد الخروج ..؟
صَمت تلا سؤالها
ونظَرت صبا لعينيها مُباشَرة
لمَحت بها ميسون شيء من القوة
وصوتها بدا طبيعياً
../ ما عندي .. وعيشَتي بالسَجن أحَلى لي
أرتطم قلب ميسون بشيء من الألم في جوفها
وكأنها بذَلك أعلنت خسارتها
مسَدّت على بطَنها بتعَب
وهي تفتَح مّلفَها لتتهرب من عيني صبا
ولتقع عينيها على الأسم المكتوب في رأس الصَفحة
" صبا محمد الـ ... "
أسودّ وجهها بصَدمة عظيمَة
زلزلت على إثرها الصدَمة أطرافها
وشعور ما نبأ الأولى بخطَر محذق بها
وسيصيبها , جعلها ذلك تتساءل بسرعة في قلبها
ماذا قرأت يا تُرى ؟
*
نَزلت عتبات الدرج بهدوء واقتحمت البهو الكبير
لم يشَعر أي من الموجودين بدخولها
إلا حينما قالت بصوت مرتفع
../ السلام عليكم ..
استدارت الأعناق نحوها وثلاث أزواج من الأعين عُلقَت عليها
أحدها قال فوراً ../ أنا أستأذن يا يمّه .. أشوفكم بعدين
وخَرج , ليترك لها حُريّة التحرك
بهدوء جلَست على مقعد مجاور لعّمتها
لتقول الأخيرة بتوتر ملحوظ
../ أخلعي نقابك .. مافيه أحد
فترد عليها الأخرى ببرود .. وعيناها معلقَتان على شاشة التلفاز
ولا يبدو أبداً أنها تفهَم ما تشاهدَه
../ يمكَن يدخَل أحد ..
ثم ألتفتت وهي تنظَر لعيّنين عمّتها بقَوة
../ وتراني أنتظَر ..
انتفضَت العمّه بقوة
حين عَملت أي شيء هو القادم نحوهن
شيء من الضَيق أكتنفَ مشاعرهنّ فجأة
فالبقاء هكذا , يشَبه إنتظار الموت
بيدين مقّيدتين
وبلا حيلَة
ومَضت شاشة هاتف العمه المحمول لرنة واحدة
كانت هي الإشارة المتفقْ عليها
وثمْ خطوات على الممر
جعَل قلوبهمْ ترفرف في حناجرهم
كطائر حبيس
أعقَبه ظهور ذلك الجَسد النحيل
وصوتها ذاته يقول
.../ الســـلام عليـــكم
ليهوي كُل شيء