عرض مشاركة واحدة
قديم 07-03-13, 09:12 PM   #13

Gege86

مراقبةعامةوقائدة فريق الترجمة ومشرفة أقسام الروايات الرومانسية المترجمة وعبير والمكتبة الإنجليزية وقلوب احلام وقسم التسالي المصورةوقاصة بقصص من وحى الأعضاءو كاتب في فلفل حار وكبيرمصممي قلوب أحلام و

alkap ~
 
الصورة الرمزية Gege86

? العضوٌ??? » 92533
?  التسِجيلٌ » May 2009
? مشَارَ?اتْي » 62,311
?  مُ?إني » بغداد
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Iraq
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » Gege86 has a reputation beyond reputeGege86 has a reputation beyond reputeGege86 has a reputation beyond reputeGege86 has a reputation beyond reputeGege86 has a reputation beyond reputeGege86 has a reputation beyond reputeGege86 has a reputation beyond reputeGege86 has a reputation beyond reputeGege86 has a reputation beyond reputeGege86 has a reputation beyond reputeGege86 has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   pepsi
¬» قناتك mbc4
?? ??? ~
I'm not BeAuTiFuL like you I'm BeAuTiFuLl like me
افتراضي

الفصل العاشر

من خلال النوافذ الضيقة للطائرة لا يرى جوشوا سوى مساحات بيضاء لا منتهية، بدأ يقلقه صرير المحركات و اهتزاز الآلة الطائرة الذي يزداد حدة، اعاد حاسوبه إلى مكانه بينما يشعر بالجاذبية تسيطر اكثر على الطائرة وتجرها نحو الأسفل... القبطان لا يعلق بكلمة عما يحدث، ترك مقعده ليحصل على إجابة لتخوفاته... من أصطدم به في طريقه للمقصورة كان رجل يضع على ظهره حقيبة تخص الباراشوت... في ظرف ثانية فهم الشرك الذي سقط فيه بينما يقول القبطان الذي أستلم عمله حديثاً في شركة عائلته:
"ثلاثة ملايين تستحق التضحية سيدي..."
"من يريد التخلص مني؟؟" سأل بهدوء رغم الرعب الذي يلفه بينما الطائرة تتوجه رأساً إلى قمة جبل مجهول، وضع القبطان يده على مفتاح باب الطائرة يستعد للقفز في اية لحظة.
"سوف تموت في جميع الأحوال ولن يغير شيء أخبارك الحقيقة..." لكن المفاجئة صعقت الرجل الذي رمى بنفسه في الفراغ عندما تعلق به جوشوا وسقطا معاً.
جلس جوشوا على سريره فجأة بأنفاس ثائرة وجسد متصبب من العرق، ألقى نظرة دائري حوله ليتأكد من مكان وجوده.. رويداً عاد إحساسه بالألفة لما تلتقطه نظراته من أشياء بسيطة في خيمته، وعادت نبضات قلبه بالتباطء ثم زفر بارتياح وألقى رأسه إلى الوراء لتحتضنه الوسادة وكأنها تسانده.
"هل أنت بخير؟؟"
عاد ليفتح عينيه مجدداً وأعتدل في جلسته وقد استند على كوعه وبابتسامة مطمئنة رد على الدخيلة:
"أنا بخير..."
"كل القبيلة سمعت صراخك... هل عاودك الكابوس؟" جلست بالقرب منه ووضعت يدها الرقيقة على جبينه المشتعل ثم همست بقلق "أنت محموم"
كانت يدها باردة على بشرته المحمومة، تتطلع إليه بعينيها الكبيرتين السوداوين كما آلفت منذ أن قاده القدر إلى هنا، بشرتها السمراء النقية وملامحها الجميلة المألوفة تشير إلى أصولها الهندية الأمريكية، خلال أشهر توطدت علاقتهما، هي من اهتمت بجراحه ومن أمضت ليالي طويلة بجانبه، تركت عالمها في العاصمة لتنزوي معه في هذه القبيلة المنعزلة من أجل سلامته... لكن منذ أن أخبره 'هاكان' منقذه وشقيقها الأكبر بحقيقة حياته قبل حادث الطائرة أدرك بأن الامتنان الذي تحول إلى إعجاب نحو هذه الفاتنة السمراء عليه أن يتوقف حالاً... يدعي هذا الأخير بأن له زوجة في لندن، بأنها هي ووالده يقلبان الأرض بحثاً عنه منذ أشهر... والده؟ منذ متى توطدت علاقته مع الكونت ديكاتريس؟ منذ متى استغنى عن حريته ليقترن بثرية بريطانية شقراء؟ منذ متى أصبح جوشوا ديكاتريس وليس جوشوا فرنانديز؟؟ وأين والدته من كل هذا؟ أخبره هاكان بأنه لا يعرف عنها شيئاً... لابد بأنها ستجن من القلق عليه... هناك علامة استفهام شاسعة تقف بين ماضيه وحاضره... من يتذكرها حقاً هي سوزان... عشيقته التي تعمل لدى 'برادا' وبنفس الوقت يلتقط لها صوراً لصالح مجلة موضة معروفة... لكن التاريخ العالق في رأسه يعود لسبع سنوات للوراء... هل فقد سبع سنوات من ذاكرته؟؟ يكاد لا يصدق... للأسف إنه عالق في زواج مع امرأة لا يعرفها وتقف حاجزاً بينه وبين انجذابه لنيرفلي.
"أنا بخير... 'نيرفلي' " رد بإقتضاب ثم غادر مفرشه البسيط، أدارت رأسها بعيداً بينما يرتدي بنطاله وملابسه الثقيلة من فراء الدببة، ارتجفت النار في قلب الخيمة عندما فتح بابها وظهر رجل ضخم الجثة، لا يختلف حقاً عن ذئاب المنطقة بنظراته الصارمة ولا ملامحه الباردة المنحوتة من رخام...
"متى عدت 'هاكان' ؟؟" سأله ما إن أصبح في قلب الخيمة، وقفت نيرفلي من مكانها وتطلعت نحوه بذلك المزيج من التعابير الذي آلفه منذ أشهر مضت، نيرفلي منجذبة له كما الحال معه، يتقاسمان شيئاً مميزاً ورائعاً... مطلقاً لن ينسى فضلها عليه ولا كرم أخلاقها معه.
"هل نستطيع الجلوس قرب النار في الخارج بعد أن تنتهي من الكلام مع 'هاكان'؟"
هز رأسه موافقاً، ابتسمت له بإمتنان وضمت معطف الفرو حول جسمها الصغير قبل أن تنسحب خارج المكان.
"لا نستطيع إخفائك أكثر جوشوا..." بدأ الهندي بلكنة عملية دون أن تفارق عيناه تعابير وجهه ولا ردات فعله "والدك يملك الكثير من النفوذ والأموال، وضع فدية عملاقة لمن يعثر على أثرك والمنطقة كلها في هيجان حقيقي..."
"سأكون فريسة سهلة بالعودة حالياً قبل استرجاع ذاكرتي كلياً... ما أعرف إن أحدهم يريد بشدة ألحاق الأذى بي..." ضغط على صدغيه وكأن رأسه سينفجر في أية لحظة.. "أحدهم دفع الكثير من المال للقبطان كي يسقط الطائرة وينجو هو بالمظلة"
"لكنك أنت من تم إنقاذه وهو من مات متأثراً بجروحه..." رد الهندي بهدوء.
جوشوا لا يتذكر حقاً ما حدث تلك الليلة سوى ما أخبره به هاكان أو شقيقته، كلب هذا الأخير من أعلم سيده بمكانه، كان يحتاج إلى وقف نزيف فوري وطبيب القبيلة أهتم بخبرة بجروحه بالاضافة إلى الجدة 'سورا' وأسرار تطبيبها الغريبة... أخبرته قبل مدة بأن يحذر... بأن الشر يلاحقه... وقد يتمكن منه.
فكر جوش قليلاً ثم هز نظراته الخضراء المثقلة بالحمى التي لا تنفك عن الارتفاع في كل ثانية:
"كم سيدفع الكونت ديكاتريس مقابل الحصول علي أو حتى على جثتي؟؟"
"ثروة حقيقة..." رد هاكان دون أن يرمش:
"أنت من يستحق هذه النقود يا صديقي... أسمع... أدرك ما ستقول لكنني أعرف بشأن نشاطاتك المكثفة في سبيل المحافظة على المنطقة وأيضاً توفير سكن للهنود المعوزين... ثم... الفندق الوحيد الذي تديره بحاجة كبيرة للدعم... هل تعرف بأن الكونت ديكاتريس يملك سلسلة فنادق تحمل اسمه في الأركان الأربع للأرض؟؟ ما اتذكره بشأن هذه الرحلة المأساوية إلى هنا بأنه مهتم لتوسيع نشاطاته في المنطقة..."
لم يرد هاكان، يعرف جوشوا بأن كل ما فعله معه طيلة أشهر لا ينتظر منه مقابلاً، بأنه ربما يعتبر اقتراحه جارحاً وربما إهانة، هاكان يفيض غروراً وكبرياءاً ولا يريد جرحه بل مساعدته كما سبق وساعده جميع أفراد هذه القبيلة.
"تعال معي إلى لندن..." أقترح جوشوا وهو يدنو منه ليتطلع مباشرة في عينيه.
"هل أنت جاد؟"
"أخبرتني الجدة 'سورا' بأن مصير كلينا سيتغير... أشعر بأن هذه الرحلة معاً ستجلب الحظ لنا..."
أطلت السخرية من عينيه البندقيتين وعلق:
"هل بدأت بتصديق خرافات العجوز وتكهناتها للمستقبل؟؟"
"أنت هندي كيف تتكلم بهذا الشكل عن 'سورا'؟"
ابتسم هاكان... تلك الابتسامات النادرة التي تنير وجهه المميز الجاذبية:
"أنا نصف هندي جوشوا... والدتي كانت عارضة أزياء من نيويورك زواجها من أبي كان مجرد حماقة... نزوة... عادت لعالمها بعد والدتي وأخذتني معها إلى أن بلغت الثانية عشر، عدت بعد ذلك إلى الآلسكا وإلى جذوري الهندية، والدي أعاد ترميم حياته وزواجه من هندية تجاوز كل أحلامه وأحلامي فقد صار لي شقيقة، شعرت بثقل جذوري الهندية عندما عدت إلى لوس انجلس لأدرس الاقتصاد في الجامعة... لا مكان لي في حياة أمي الشقراء ولا في حياة صديقتي البيضاء البشرة... عودتي إلى هنا كانت بشكل أو بآخر مريحة... أحاول التأقلم مع معتقدات أجدادي وأبي وأفراد قبيلتي... لكنني أحذر من تكهنات 'سورا'..."
ابتسم جوشوا، وألقى نظرة حوله وكأنه يتأكد بأن لا أحد حقاً يسمعهما:
"فلنقل بأنني أستعمل كلامها للتأثير عليك بمرافقتي إلى لندن... كما قلت بنفسك، لن يتأخر الكونت بإيجادي... أمنحك فرصة تحقيق أحلام الكثير من أفراد قبيلتك هاكان... مقابل أن تساعدني بالعثور عمن يهدد حياتي في لندن..."
لوهلة ظن بأنه سيرفض، وجهه المبتسم أختفى خلف ملامحه الجدية التي أعتاد عليها جل لقاءاتهما معاً، لراحته دفع هذا الأخير يده السمراء نحوه:
"أتفقنا جوشوا ديكاتريس... سوف أفك معك لغز لندن مقابل مساعدتي بتطوير الميدان السياحي في هذا المكان النائي... إن تراجعت عن كلمتك ما إن تتجاوز حدود التلال البيضاء للآلسكا... فسأكون أول من يلوي عنقك هناك"
اتسعت ابتسامة جوشوا وهو يصافح صديقه
"لن أخلي أبداً بوعدي لك... لابد أن انتظار 'نيرفلي' قد طال... "
خرجا في العتمة من الخيمة، اعتاد جوشوا مشهد الجموع من الناس بأزياء هندية تقليدية حول النيران كل مساء، كانت هناك طقوس غريبة أعتادها، بالنسبة لـ'سورا' فهو ينتمي للماء والعقبان، عكس هاكان المصنف من الدرجة الأولى من الذئاب والنار... بالتأكيد تصنيف يليق به.
وكأن 'نيرفلي' شعرت بقدومهما، كانت تجلس قرب 'والدهما' هي و'هاكان' اشرق وجهها وأشارت له إلى مكان فارغ قربها... شعر فجأة بالحزن لهذه المسافة التي خلقها ماضيه بينهما... قبل بضع أسابيع كان يفيض حقاً شوقا لرؤية وجهها كل يوم وإمضاء وقته في تعلم مبادئ الصيد وغيره مع اصدقائه الجدد من القبيلة... من الغريب ألا يفتقد حياته القديمة وأن يتأقلم مع حاضره بكل كيانه... وكأن هاكان قرأ في أفكاره:
"سوف تتألم عندما تعرف بأنك متزوج وأب لطفلين..." أشار بدوره للهندية الجميلة التي تتراقص ألسنة اللهب على وجهها كالسحر...التفت نحوه يرمقه بإستغراب:
"غريب أن أرزق بأطفال بعد المبادئ التي آمنت بها منذ صغري... لا أعرف حقا ما دفعني لتغيير رأيي خلال السبع سنوات..."
"تعرف بأن التوصل بمعلومات عبر الانترنيت مستحيلة هنا، استغليت سفري للعاصمة كي أجمع أكبر عدد ممكن من المعلومات، أنجبت زوجتك أبنها بعد اختفائك مباشرة يدعى 'أندريس جوشوا ويليام جينيور'... لا صور متاحة لطفليك... ولم أتمكن من معرفة أكثر... لديك عائلة تحبك بشغف جوشوا... بقائك هنا لا جدوى منه... ما حدث خلال السبع السنوات الضائعة من ذاكرتك إيجابي بالتأكيد... لأنك خالفت مبادئك وصرت زوجاً وأباً"
هز جوشوا رأسه وعاد يرمق نيرفلي بينما قلبه يعتصر بشعور غريب، سوف يفتقدها ويفتقد كل ما يحيط به الآن، لما يشعر بالخطر للعودة مجدداً إلى ذلك المكان الذي تعتبره 'سورا' وكر الشياطين؟؟.. من الذي دفع ثلاثة ملايين كي يتخلص منه في حادثة طائرة؟؟ الغموض يلف حياته التي فقد منها ذكريات سبع سنوات... يشعر بأنه على حافة هاوية خطرة.
"لا أريد إيلامها... لو كنت أعرف بأنني مرتبط بأخرى لما زرعت في كفها أحلاماً دون قصد... أنا ممتن لها"
"'نيرفلي' أقوى مما تظن... إذا كنت متردد في مصارحتها فسأفعل..."
"آه بلى..." قاطعه جوشوا بهدوء وهو يتوجه نحوها بخطوات مصرة "هذا أقل ما يمكنني فعله من أجلها... المصارحة"
توقف على بعد خطوة بينما كلمته الأخيرة تتردد بعنف في متاهة عقله الفارغ..
"يجب أن تصارح آنجلا فوراً... أنا وثقت بك ومنحتك فرصة التصرف لكنك تهدر الوقت" صوت ثمل بشتى أنواع المشاعر جاء من حقبة لا يتذكرها حقاً ولا يعرف صاحبها، آنجلا... أليس هذا اسم المرأة التي تحمل اسمه منذ ست سنوات؟ بما كان عليه مصارحتها؟؟ بحق الله لما لا يتذكر حتى ملامح المرأة التي رزق منها بطفلين؟؟ لو كانت تعني له شيئاً لما نسيها... أليس كذلك؟؟
"هل أنت بخير؟" صوت نيرفلي أعاده إلى الواقع، كانت قد تركت مكانها ووقفت أمامه تتطلع إليه بقلق، أبعد يده عن رأسه وحاول الابتسام:
"ما رأيك لو نتمشى قليلاً... أرغب بالتحدث معك"
أشرق وجهها أكثر وتأبطت ذراعه بدفء:
"وأنا أيضاً لدي ما أخبرك به..."
***
أغمضت ديامانتي عينيها متلذذة بطعم الشوكولا الفاخر داخل فمها..
"أمممم..." انفلتت تنهيدة نشوة منها بينما أصابعها الطولة تحتضن العلبة المستطيلة الأنيقة التي أتت على فك رباطها الذهبي قبل بضع لحظات.
"هل أنت ماسوشية بطبعك؟؟"
فتحت ديامانتي عينيها وأطلت التسلية من نظراتها الرمادية بينما تلتقط التعبير المبرطم لسبيروس ليونيداس، هذا العجوز الماكر الذي تجاوز السبع والثمانين وما يزال يتمتع بعقل حاد الذكاء ولامع تماماً كشاب يافع، وهذا العجوز الذي أرعبها في بداية قدومها إلى جزيرة القمر منذ أشهر أصبح أقرب أصدقائها.
"أصبح سادية فقط عندما يتعلق الأمر بشوكولا فرنسية لا تقاوم... أممممم"
رمت بقطعة أخرى في فمها وتكاسلت في مقعدها متلذذة أكثر بنكهة الفراولة والشامبانيا... سبيروس مصاب بالسكري ونفسها الساهرة على حميته الصارمة، لكنه فضل إهدائها هذه العلبة المكلفة بمناسبة عيد مولدها اليوم... فليتحمل نتائج اختياراته.
"لو كنتُ شاباً لإتهمتكِ بإغرائي ديام..."
فتحت عين واحدة ورمقته بسخرية لطيفة:
"لو كنتَ شاباً لما توانيت عن إغرائك 'دون سبيروس'... تملك من الخصال ما يروقني في رجل..."
هز سبيروس حاجبيه الكثين البيضاوين بفضل سنوات عمره المتقدمة وارتسمت على وجهه ملامح جادة نوعاً ما:
"غريب أن تقولي هذا بينما تفرين كأرنب مذعور كلما تواجد حفيدي في محيطك..."
تلاشت ابتسامة المتعة من وجهها رويداً كما أنسحب الدم من وجهها، التكلم عن نيوس هو آخر ما ترغبه حقاً في هذه اللحظة، استعادت جديتها، لعقت أصابعها قبل أن تُغلق العلبة وتضعها جانباً، النكهة الراقية على لسانها أختفت ليحل محلها مذاق مر.
" 'دون نيوس' لا يشبهك في شيء..." ثم غادرت مقعدها ومسدت على هندام التمريض الذي أصرت عليه خطيبة سيد المكان بوحشية في أول يوم لها... عداء 'ليز ليونيداس' تعدى خطوط التعقل، للأسف إن نيوس معمي بخطيبته الإنجليزية كي لا ينتبه للحرب الباردة التي تعلنها إلى اليوم عليها... حسناً... ما يحدث ليس ذنب نيوس ففي النهاية هذا الأخير يغيب طويلاً جداً عن الجزيرة ولا تراه إلا نادراً لا يعرف بشأن التعذيب النفسي الذي تطبقه ليز عليها، منذ إحضاره لها يعاملها كغريبة مثلها مثل بقية الموظفين... خطيبته تسافر إليه في أغلب الأوقات بسبب غيابه... والعجوز سبيروس يجد هوس حفيده بالعمل شيء طبيعي... أما فيما يخصها... حسناً... لا تريد التذمر ولا الحكم على أحد، بغض النظر عن معاملة سيدة المكان لها فهي حقاً تستمتع بحياة هانئة جداً في الجزيرة، عندما تتمم ساعات عملها وتأخذ الممرضة اليونانية مكانها إلى جانب المريض مساءاً، تستمتع بحمامات الشمس وتقرأ كتبها المفضلة تحت أنغام الأمواج الموسيقية وزقزقة الطيور، سعادتها كبيرة في الجزيرة وصداقتها مع الخدم الأجانب تطورت خلال الشهور المنصرمة، مثلاً قبل أسابيع أبحرت برفقة شابتين مكلفتان بتعليم الإنجليزية والإسبانية لولدي ليز إلى الجزيرة القريبة... مطلقاً لم ترقص أو تضحك كما فعلت ذلك المساء، كانت منطلقة ومنشرحة وللمرة الأولى منذ زمن تشعر بأنها حرة... حرة حقاً.
هدير طائرة مروحية أخترق الجدران المنشرحة الألوان لغرفة سبيروس، أقطبت ديامانتي بينما علق العجوز:
"لا بد إنه حفيدي، أنتهت دورتك صغيرتي... لديك مشاريع لهذه الليلة المميزة اليس كذلك؟؟"
عدلت ديامانتي قبعتها البيضاء وشعرت بيديها رطبتين من شدة العصبية، هل نيوس من عاد إلى الجزيرة في المروحية حقاً؟؟ لقد غاب لأكثر من خمس وأربعين يوماً، أخر مرة رأته فيها منحها أخبار مقتضبة عن مارك أنطونيو وعن جوشوا ديكاتريس، لم تتجرأ على طرح أسئلة أخرى بشأن قريبها المفقود لأن ليز اقتحمت المكان كالعاصفة وأخدته منها.
"نعم... دعوتُ 'جوستين' و'ماليكا' و'آندرو' إلى المطعم في الجزيرة المجاورة..." صمتت مرغمة بينما ارتفعت نبضات قلبها صاخبة حتى كادت تصم أذنيها، لم يعد بإمكانها التنفس بطبيعية ولا التركيز عما تقول، أحاسيسها متأهبة ومتيقظة، استدارت نحو الباب بعدما ترددت طرقتين حازمتين وظهر المتسبب بهيجان مشاعرها... نيوس... التقطت نظراتهما وشعرت بتخدير طفيف يشل أطرافها... الحنين والعواطف الشهوانية التي هاجمتها صعقتها لثوانٍ... رباه لقد مر وقت طويل جداً... قبل أن تراه مجدداً... مازال يطفح رجولة كما في خيالها، تسلل الدم إلى وجهها عندما حضنت نظراته وجهها ومنحنيات جسدها للحظة.
"نيوس..." عادت إلى الواقع على صوت العجوز الجاف.
"سبيروس... كيف حالك أيها العجوز؟؟" بالكاد وجه نحوها نظرة وألقى التحية بينما يمر بقربها ويتوجه نحو السرير الطبي للمريض مما أحبطها وهشم عزيمتها.
"سوف أترككما..." تدخلت بهدوء مصطنع وهي تتوجه نحو الباب، صدى خطواتها يتردد في صدرها الفارغ... رغبة شديدة في البكاء داهمتها... ماذا توقعت في النهاية؟ نيوس عاد لخطيبته وسيتزوجان خلال أسابيع قليلة.. هل توهمت حقاً بأنه اكتشف خلال اللقاءات القليلة بينهما انجذابها نحوه؟.. لم يسمع لحن قلبها ولا حنين الروح... فليذهب إلى الجحيم ببروده وجفائه.
"أمسية سعيدة كارا..." سمعت صوت الجد يرتفع فجأة "تستطيعين المبيت خارج المنزل الليلة إن كان هذا يروقك..."
"قد أفعل... شكراً لك" لا تعرف لما ردت بالموافقة. هل هي أمنية يائسة لإثارة اهتمام وغيرة الرجل الاسمر الذي يتعامل في حضورها وكأنها شفافة.؟؟
أقطب نيوس وتطلع إلى العجوز الماكر الذي اتسعت ابتسامته بينما تغادر ممرضته المكان وتغلق الباب خلفها بهدوء، أخيراً يستطيع التنفس بحرية... كانت بشرتها البيضاء قد فقدت شحوبها ونجحت الشمس الحارة وهواء بحر أيجه بصباغة لونها إلى ذهبي رائع، رغم زي التمريض وتسريحتها الصارمة لم يخفي شيء من إثارتها ولا أنوثتها، ملعونة هي بتأثيرها عليه، وملعون هو بإنجذابه إليها... بسببها فقط يجعل من زياراته للجزيرة نادرة... وبسببها... يعيش جحيم حقيقي.
"أرى بأنكما تتفقان .." علق نيوس بصوت أجوف.
"إنه عيد مولدها.." شرح جده "ستسهر مع أصدقائها خارج الجزيرة هذا المساء للاحتفال... قريباً عليك استبدال كل عامل رجل في هذا المكان لأن الجميع... يترك مقر عمله ليراقبها طيلة الوقت... معجبوها كثر وأخشى مجزرة"
أمام صمته تابع بوقاحة:
"لو كنت بعمرك لما ترددت بوضعها في سريري، ولما لا أسجنها إلى الأبد خلف قضبان صدري؟؟ إنها قطعة حلوى لذيذة ورائعة..." ثم استطرد بعد صمت وجيز "أنسى كل هذا وأخبرني عن تقدم الأعمال وعن رحلتك..."
لكن نيوس فقد كل اهتمامه في التكلم عن نتائج رحلته الموفقة وقال:
"لا يمكنها المبيت خارج الجزيرة لأنها تحت حمايتي..." قاطعه جده وهو يهز يده النحيفة أمام وجهه وكأن الأمر برمته لا يعنيه:
"لا تقلق على سلامتها لأن الكفؤ جداً آندرو سيكون معها للاحتفال بعيد مولدها..."
"آندرو.؟"
"بالتأكيد أنت تثق برئيس حرس الأمن ذاك، وبما إنهما يمضيان مؤخراً جل وقتهما معاً فكرت بتحريرها الليلة..." ثم غمز له بعينه بحركة ذات معنى "قد يرغبان بتمديد سهرتهما من يدري... حسناً... يكفينا التكلم بشأن الموظفين وحياتهم العاطفية... اخبرتني ليز بوعدك لها بالبقاء في الجزيرة هذه المدة التي تفصلكما عن حفل الزفاف لإنهاء آخر التجهيزات العالقة..."
فلتذهب ليز مع حفل زفافها إلى الجحيم... بلع هذا التعقيب الهائج ونجح بإخفاء مشاعره خلف قناع الصلابة، يعرف إلى ما يرمي العجوز سبيروس، إنه يتعمد غرس الخنجر في الجرح فهو لم يحب يوماً 'ليز' وزواج أبن عمه بها في الماضي زاد من تحفظه، ربما يشعر بإنجذابه إلى ديامانتي ويحاول إثارة غيرته بالإشارة إلى رئيس الأمن... حسناً... رئيس الأمن سابقاً لأنه سيدق عنقه قبل أن يتمادى مع قريبة صديقه... ثم... ألم يعد مارك انطونيو بالاهتمام بها؟
"لكن إلى أين تذهب؟" اعترض الجد ما إن غادر نيوس مقعده "ألن تخبرني عن الأعمال؟؟"
"يجب أن أجري اتصالاً عاجلاً... أسترح قليلاً ريثما أعود إليك..." استوقفه صوت جده مجدداً قبل أن يصل إلى الباب:
"خد علبة الشوكولا معك إلى مُمرضتي الحسناء... لقد تركتها خلفها ما إن سقطت عيناها عليك... مثل المعتاد تصيبها عاصفة من العصبية بوجودك..."
***
قربت فلور كأس عصير الطماطم من شفتيها وهي تلقي بنظرة رضى دائرية على الجموع الغفيرة والراقية التي أتت لإفتتاح معرض مجوهراتها في فندق بانسسولا بانكوك بتايلاند، مشروع خططت له منذ سنة وها هو يشهد النور أخيراً ويبشر بنجاح من خلال فلاشات كاميرات الميديا وهمهمات الإعجاب، ابتسمت لشقيقها دافيد الذي ترك كل شيء خلفه ليساندها في هذه الليلة المهمة، عندما تقف اللغة المحلية عاقباً بينها وبين أحدهم يأتي لنجدتها برصيده اللغوي الكبير، طالما سخرت منه واسمته في مراهقتهما بالحاسوب المركزي، لكنهما كبرا الآن ودافيد لا يتوقف عن إبهارها في كل مرة.
"فلنقل إن مُجمل مجموعتك بيعت يا شقيقتي..." همس في إذنها وهو يحيط خصرها بذراعه ويقبل وجنتها برقة... "أنت موهوبة عزيزتي"
تطلعت نحوه بإمتنان وشعرت بالحسرة بينما يصعقها الشبه بينه وبين والدها... حسناً... روبيرتو ريتشي لم يكن والدها يوماً، من يحمل جيناته هو دافيد، ورث شعره الاسود وزرقة نظرات آل ريتشي الشهيرة... غريب أن تلسعها الحسرة والغيرة حتى بمرور هذه الأشهر على اكتشفاها أصولها .. غريب ألا يتلاشى طعم المرارة من فمها وقلبها.
"موهوبة ومحظوظة بشقيق مثلك..." وضغطت على أصابعه بحب قبل أن تعود عينيها للتجول مجدداً بين الحلقات البشرية التي التفت حول التحف المصنوعة من الماس والروبي والسافاير من خلال الصناديق الزجاجية المتفرقة على طول ردهة الفندق حيث انتشر أعضاء الآمن بشكل مكثف... "هل حقاً مجمل مجموعتي تم بيعها؟؟"
"مما أنت مستغربة؟؟ رميت بنفسك في عمل مجهد ومجد منذ عودتك إلى لوس أنجلوس... كنت أتمنى لو تكون والدتي بيننا لتشهد هذا النجاح...لا أعرف إلى متى ستتجنبينها وترفضين التكلم معها؟؟"
"لا تفسد سهرتي دافيد..." حذرته بجفاف..
"ألا تظنين إن الوقت حان لتخبريني بما حصل في إيطاليا؟؟" تطلع نحوها بنظراته الشبيهة بوالدهما، بوسامة سكان البحر المتوسط الطافحة "لما أقسمت على ألا تطأ قدميك أرض إيطاليا مجدداً؟؟"
"اسأل فرجينيا..." ردت عليه بحمى وقد أنسحب الدم من وجهها، ثم تركت ذراعه فجأة وأشارت بذقنها بعيداً "هناك من يبحث عني في الزاوية، سوف أعود لاحقاً".
أعمى الحقد نظراتها بينما تتوجه نحو البوفيه لتخدم نفسها بعصير طماطم جديد بعيداً عن إلحاح شقيقها، نصف شقيقها في الحقيقة... لم تقطع ذلك القسم الذي تعنيه بكل روحها بسبب فرجينيا.. أه كلا... العار الذي يهتز به كيانها للآن لم تخف حدته... والفضل يعود بالتأكيد للأمير دراكو فالكوني.
رمت دفعة واحدة مشروبها الطازج في جوفها قبل أن تعيد الكأس الفارغ في مكانه وتأخذ نفساً عميقاً لمواجهة الواقع من جديد... إنها ليلتها... ليلة عملت على نجاحها بجهد وكد... وستفعل ما يتطلب منها من جهد لترغي الميديا بلا أنقطاع في صحف الغد... رسمت ابتسامة على شفتيها واستدارت على عقبيها عندما شعرت بأحدهم خلفها تماماً... فجأة... تبخر حشود الرجال بملابس السهرة والنساء بفساتين الكوكتيل من حولها وانتقل الزمن عند نقطة فراغ لبضع ثوانٍ بدت لها خالدة... نظرات سوداء قاتمة ومظلمة تثبتها بإصرار... نظرات مألوفة بشكل مرعب... قبل أن تفقه بأن سبب دوار رأسها المفاجئ هو حبس أنفاسها في رئتيها... تسلل إلى إذنيها صوته المنخفض والأجش الذي حفظت نوتاته عن ظهر قلب خلال ليلة من الليالي البعيدة التي تتمنى من قلبها نسيانها..
"الجميلة والجريئة فلورانس ريتشي... أي حظ هذا"
كل أمل بالتوهم أو الهلوسة تبخر... دراكو فالكوني... أمير كوابيسها منذ أشهر يقف حقاً أمامها.
***
أبعد أندريس عينيه عن الاوراق أمامه بينما يشعر بحركة طفيفة في محيطه، آنجلا أتت على أغلاق الباب الفاصل بين الصالون وغرفة النوم التي تستعملها مع طفليها، أعتاد هذا الشحوب الدائم على وجهها الذي فقد بريقه وشقاوته منذ اختفاء جوشوا، يستطيع أن يفخر أبنه بزوجته... لم تغادر الآلسكا منذ بدأ عملية البحث، أظهرت صبراً وقوة كان يشك بهما في شخصيتها المدللة.
"لقد نام 'أندريس جينيور'..." شرحت له بهدوء وهي تضم الكنزة الصوفية حول جسدها النحيل بشكل مقلق، فعل ما أستطاع ليدفعها للعودة إلى لندن بدون جدوى، ادواردو يتصل به يومياً كما تفعل كاثرين و... فرجينيا.
الكل يسانده في محنته... لكنه يعرف بأن لجهوده ثمن أكيد... جوشوا لم يمت، يشعر به حياً وقريباً في أعماقه... كما تؤمن به آنجلا وتقاوم معه إلى النهاية.
"أنت مرهقة عزيزتي..." تمتم بحنو وهو يترك مقعده ليأخذها بين ذراعيه كما فعل المئات من المرات منذ أشهر... ربما فرقتهما بضع تراهات في الماضي، لكنهما أقرب إلى بعضهما من أي وقت مضى، آنجلا برهنت له بأنها تعشق جوشوا بكل جوارحها وقتالها إلى جانبه مع طفليها في هذه المنطقة النائية تدفئ قلبه... توقع الكثير من الدموع والانهيارات العصبية وتفاجئ بامرأة صلبة تجتاز محنة ولادتها المبكرة بنجاح وترفض أن يتكلم أحدهم عن جوشوا بصيغة الماضي..
"إنه حي عمي..." قالت له بثقة دون أن تدمع عيناها عندما خرجت من غرفة الولادة وأنفرد بها "جوشوا لم يمت... وعدني أن نشيخ معاً وأنا أثق بكلامه"
"أنا بخير..." ابتسمت له مطمئنة وهي تشير إلى الأوراق "هل من جديد؟"
"استلمت هذه المعلومات لتوي..."
طرقات على باب الغرفة قاطعتهما، ظهر ويليام وفي يده فنجان فوار من الشاي منحه لآنجلا التي شكرته بدفء... على الأقل كان لاختفاء جوشوا بضع إيجابيات... عاد ويليام ليعيش في ستارهاووس منذ أنتشار الخبر وسانده كما ساند آنجلا بكل صبر وآناه، حتى إنه حل محل جوشوا في العمل وأتبع استراتيجيته بشكل جيد... يشعر أندريس بالفخر حقاً.
"تبدين مرهقة آنجلا..." علق ويليام بقلق.
"قلت لها الشيء نفسه..." قال أندريس، لكنها هزت كتفيها النحيلين ونفخت على شرابها الفوار.
"توقفا عن القلق بشأني أنا بخير..."
"لما لا تعودين إلى لندن؟؟" تدخل وليام بلطف "وجودك هنا مع الطفلين لا جدوى منه..."
"لا تقل ذلك..." نهرته آنجلا مقطبة الجبين "أريده أن يأخذ بين ذراعيه 'ليليان' و'أندريس جينيور' ما أن نعثر عليه... أريده أن يدرك بأن عائلته طالما كانت بجانبه طيلة الأشهر الماضية... لأنه... لم يمت ويليام... زوجي حي ولم يمت فلا تنسى هذا بينما تطلب مني الابتعاد عن الآلسكا وكأن أمره منتهي منذ زمن..."
"آسف عزيزتي... لم أقصد جرحك... يجب أن يفخر جوشوا بزوجة مثلك"
تراجعت عن عدوانيتها أمام كلماته وامتلأت عينيها بالإصرار بينما تهمس:
"وأنا فخورة به... لأنه قاوم من أجلنا"
"حسناً..." تدخل أندريس ليخفف من الضغط الذي أرتفع في المكان وأشار إلى الأوراق التي وصلته عبر الفاكس قبل قليل "توصلت بهذه المعلومات من قائدة حملة البحث.... ربما هناك أخبار عن الرجل الأبيض الذي يعيش مع قبيلة "التاكا" منذ مدة... غداً صباحاً سوف أذهب إلى هناك..."
"سوف آتي معك..." تدخلت آنجلا.
"آنجلا... الطفلين..." أعترض أندريس لكنها هزت ذقنها بتحدٍ.
"بالتأكيد سيسعد 'أندريس جينيور' التعرف على والده أخيراً..."
"لا شيء مؤكد" قال ويليام وهو يحيط كتفيها بذراعه "ربما الرجل الأبيض ضيف تلك القبيلة النائية ليس شقيقي..."
"وقد يكون هو ويليام... لا أريد تضييع فرصة لقائه أن تبث بأنه زوجي هل تفهم؟؟"
***
فتحت ديامانتي باب غرفتها ما أن ترددت طرقات جافة عليها، شعرت بقلبها يسقط تحت قدميها بينما المفاجئة تسلبها صوتها، كانت المرة الأولى منذ قدومها إلى جزيرة القمر يأتي نيوس إلى غرفتها، بلعت ريقها بصعوبة بينما تنزلق نظراته المظلمة على فستانها الأحمر البسيط الذي ارتدته لمناسبة الليلة، توقفت عيناه على كتفيها المكشوفتين قبل أن تتابع منحنيات عنقها صعوداً إلى وجهها مجدداً، شعرت بالدماء تكسو خديها لغضبها... ما الذي يفعله أمام غرفتها بهذه النظرات الكسولة والمتيقظة بنفس الوقت؟؟ ألم يتعمد تجاهلها عندما ألتقيا قبل ساعات في غرفة جده؟؟ كان قد غير طاقم العمل الكلاسيكي الأنيق ببنطال صيفي من الكتان وقميص متناسق لا يخفي شيئاً من روعة عضلاته القاسية المرسومة بإتقان، تتعجب حقاً من هذا الجسد الرياضي المتناسق، كيف يجد صاحبه المهووس بالعمل الوقت للقيام بتمارين رياضية؟؟
"نسيت هذا..." سمعته يقول أخيراً وتعرفت فوراً على علبة الشوكولا الفرنسية التي تركتها في غرفة مريضها، شعرت ببعض الخيبة بينما تمد يدها إلى العلبة مغمغمة بكلمات شكر جافة لم تتصور أن يكون سبب وجوده أمام باب غرفتها هدية سبيروس، لدهشتها لم يمنحها أياها، هزت عينيها إليه واصطدمت بجدار صلب من الجليد:
"لا تبيتي خارج الجزيرة ديامانتي... واستمتعي بوقتك..." ترك لها العلبة واستقام في وقفته مستعداً لهجر المكان، رؤيته يرحل عن عيناها المشتاقتين كان خارج حدود صبرها، هذا المتعجرف المغرور، يغيب ليالي طويلة ويعاملها بتنازل خلال وجوده... ما الذي فعلته لتستحق هذا التعذيب العاطفي من جهته؟؟
"سوف أفعل ما يحلو لي نيوس..." تحدته ببرود دون أن ترمش، هز حاجبيه الكثين ببعض التهكم وكأن ردها يسليه.
"عيداً سعيداً كارا... كم بلغت اليوم؟؟ الخامسة عشر؟؟"
هجرها بكل بساطة... هجرها وهي تهتز غيظاً وغضباً، تقسم أن تدفعه الثمن على السهم المسموم الذي صوبه إلى كبريائها قبل أن يرحل.
بعد جولته التفقدية في الجزيرة بدأ يشعر نيوس بأن غياب ديامانتي يثقل عليه، وجه كلمتين حازمتين لرئيس الأمن ويدرك على الأقل بأنهما ليس بمفردهما وإن ثمة موظفين آخرين معهما، لكن لا ضمانات أخرى يملكها... آندرو رجل وسيم وديامانتي فاتنة.
ارتمى بين أمواج بحر أيجه وغرق في ظلمته الحالكة إلى أن توقف عقله على التفكير، عاد بعد وقت طويل من السباحة... بعد أن تأكد بأنه أطفأ قليلاً النار التي تتآكل كيانه بوحشية...
كان حقاً بمزاج سيء للغاية عندما عاد أدراجه للفيلا البيضاء الشاسعة المتلألئة بألف لون وسط العتمة التي خلفتها الشمس الراحلة، حتى ليز التي تذمرت قليلاً لأنهما اعتذرا في اللحظة الأخيرة عن سهرة الليلة مع أصدقائهما في أثينا لاذت بالصمت أمام وجهه المتحجر ومزاجه الشيطاني، العشاء مر في جو متوتر تقريباً، لولا المواضيع المتنوعة التي تطرق لها نيقولا وليو أبناء ابن عمه الراحل لمرت الوجبة في صمت مميت... لسوء حظه، خلال التحلية، أخذ الحديث منحنى آخر.. لم يخفي المراهقين اعجابهما الجنوني بممرضة جده... ضاعت هباءاً تهديدات ليز المبطنة وعندما أصبحا بمفردهما وغادر المراهقين إلى غرفتيهما لم تخفي مطلقاً امتعاضها:
"إنها مثال سيء للرذيلة نيوس... منذ وصولها إلى هنا انقلبت موازين هذه الجزيرة، وكأنها لعنة صبت على كل رجل... بحركاتها المبتذلة و..."
قاطعها بتهكم وهو يصب لنفسه كأس آخر من البراندي:
"وحسنها المبالغ فيه..."
"لا أجدها جميلة بل مبتذلة..." ردت ليز بنزق "حتى جدك مهووس بها..."
وأنا أيضاً... كاد نيوس أن يعترف بلا تردد، لكن قلق ليز في محله، المراهقين مشدودين بشكل غريب إلى ديامانتي.. وكأنها لعنة كما اشارت ليز خطيبته التي من حقها أن تغار... لأن ديامانتي... الجميلة واللذيذة ديامانتي... لا تتركه من رخام للأسف ولا يظن إن هناك منافسة قادرة على مجاراتها والفوز عليها وتحريك غرائزه كما تنجح هي.
"سوف أذهب للمكتب..." قال بعد أن بلع محتوى كأسه دفعة واحدة، أمسكت ليز بيده وضغطت عليها برقة، التقت عيناه بنظراتها الزرقاء... أرملة ابن عمه لا تملك جمال ديامانتي ولا اشراقتها وشقاوتها... كانت إنجليزية محافظة ومتعلمة... جمالها البارد لديه جاذبيته... عندما سيتزوجان لن يمضي لياليه في الرعب أن يختطفها منه أحد... كما سيحدث مع الرجل الذي سيقترن ذات يوم بامرأة مثل ديامانتي سانتو بينيديتو.
"لما لا غرفتي نيوس؟؟ أرى بأنك متوتر ومتشنج الأعصاب... أنا خبيرة في التدليك"
الدعوة بدت صريحة ومباشرة:
"إنها مسألة أسابيع قليلة وسوف نتزوج... بعدها تستطيعين تدليك عضلاتي ما تشائين" حمل يدها إلى شفتيه وقبلها، سارعت ليز بالتعليق و كأنها تترجاه بقولها:
"هي لا تؤثر عليك مثل البقية صحيح؟؟"
تشنجت أعصابه بشكل سيء، رباه... آخر ما يريده هو التكلم عن ميوله للحسناء الايطالية، رمق خطيبته ببرود:
"إن أردتها رفيقة سريري فسأفعل ليز... لا تعنيك مشاعري تجاه أية امرأة هل أنا واضح؟؟ ليس الزي التمريض الواسع والبشع الذي أجبرتها على ارتدائه ما سيمنعني عنها إن أردتها عشيقة لي..."
"آسفة... لم أقصد... فبيننا اتفاق..." تلعثمت وقد احمر وجهها.
"لا تنسيه ليز... لا تنسيه أبداً" ثم تركها بمفردها تتقلب غيرة وحقد.
***
بعد أن ألقت بيلا الأغطية جانباً تطلعت بعجز إلى المنبه قرب السرير، الثانية صباحاً... هذا الأرق أصبح لها مألوفاً في لقاءاتهما هي وأليكس العاطفية.. وكأن مواعيدهما البالغة السرية لا تكفي هذا الأخير يتركها تتمم ليلتها بمفردها في السرير الذي يشهد عاطفتهما ليختفي بنفسه في غرفة وسرير آخر... لم ينم ليلة واحدة بالقرب منها... وهذا الوضع أستمر منذ رحلتهما الرائعة إلى جبال الألب... حيث أدركت بأن الحياة باهتة... بلا معنى... ومستحيلة من دونه... إنها مغرمة وبالتأكيد... ليست خائفة.
وضعت رجليها على الارض الخشبية وتمشت ببطء نحو النافذة لتزيح الستائر وتنبهر بأضواء العاصمة روما... هذا الرخاء بدأت بالاعتياد عليه ... شقق ومنازل ووجبات فاخرة، تتحول بين ليلة وضحاها إلى أميرة مدللة وهي معه، لكن ما أن تنتهي الليالي القليلة التي تجمعها حتى تعود إلى التوسكانا وتتسلل تحت جلدة الخادمة المطيعة... لا تجرؤ على تمني الاكثر... إنها سعيدة بهذا الدور الضئيل في حياة أليكس...
أليكس الذي أخذها إلى ملجأه الآمن بلا تردد في 'يونغرايوتش' في سويسرا، الشاليه الخشبي وسط تلال من الثلوج البيضاء الرائعة... ربما وعدها بتعلم التزلج لكنهما لم يملكان لا الوقت ولا الصبر... كانا مشتاقان لبعضهما وأمضيا وقتهما أمام ألسنة اللهب أو مراقبة الثلوج المتهاطلة من خلال الواجهات الزجاجية للشاليه... استسلمت له ولم يخيب ظنها... كان عشيقاً رائعاً وأحبها بطريقة خيالية... لم تعرف متى أنقضت أيام اجازتهما، العودة إلى الواقع وإلى إيطاليا كان قاسي ومؤلم... ضرورة الانفصال عن أليكس أشد قسوة... حياته في الولايات المتحدة تناديه.
بعد شهر مضنٍ من الانتظار اتصل بها ليخبرها بلقاء وجيز في روما خلال نهاية الاسبوع، كادت أن تجن من الفرح وركبت أول طائرة متجهة إلى هناك رغم اعتراضات جدتها المعتادة، لم تحصل على أكثر من ليلتين... طار اليكس إلى لندن وترك خلفه كلمة مختصرة فوق طاولة الشوفيه "سوف نلتقي قريباً"
ثم اقتصرت اللقاءات على نهايات الاسبوع المتباعدة، يرتمي كل واحد منهما في حضن الآخر ما إن يلتقيان وينسيها خططها بالتكلم عن علاقتهما... يفقدها عقلها بقبلاته ولمساته ولا يتركها سوى وهي مخدرة الأحاسيس وغائبة الوعي تقريباً... لكنها عازمة هذه المرة على مصارحته... تريده أن يدرك بأنها تعشقه، وإن هذه المسافة بينهما ترهق كيانها.
اجفلت عندما سمعت ضجيج عنيف في خواء الليل وهدوئه، تركت الستارة تعود إلى مكانها وارتدت روب - شمبر على قميص نومها قبل أن تهرع خارج الغرفة بإتجاه غرفة اليكس.
دفعت باب غرفته عندما لم تسمع رداً على نداءاتها المختنقة وتجمدت مكانها بينما تراه جالساً وسط سريره، الأنارة الطفيفة لأنوار الشارع تنعكس بشحوب على جسده المكشوف، بدى لها جسده متصلباً ومتشنجا بشكل مقلق..
"أليكس..." همست بتردد وبعض العصبية وهي تدنو ببطء من سريره لكنه لم يجبها... ولم يغير من وضعية جلوسه حتى عندما جلست على حافة سريره ولامست ذراعه المفتولة بتردد " 'آموري ميو' (حبيبي) هل أنت بخير..."
تهيأ لها فجأة وكأن موجات كهربائية عنيفة تهز جسده قبل أن تفقه لما يحدث أمسكت بها يده وهزتها بشكل مباغت وكأنها لا تزن شيئا بعد أقل من ثانية وجدت نفسها تطير في الهواء وترتطم بعنف بطاولة الزينة لتتحطم هذه الاخيرة تحتها إلى أشلاء، شعرت بسرعة بألم عنيف في وجهها وأسفل ظهرها أفاقت من صدمتها و ثبتت بعينين جزعتين الرجل الذي أخفق في قتلها اللحظة... كان ممدد على سريره يهتز بعنف ويتسبب بارتجاف في الغرفة يشبه الهزات الارضية التي تسبب الكوارث الضخمة... نسيت بيلا الألم في ظهرها والجراح في وجهها التي تسببت بها أشلاء المرآة المحطمة أمام المشهد المرعب والخيالي...
"أليكس..." صرخت بلا وعي عندما تجاوز جسده حدود السرير وسقط على وجهه أرضاً، تركت مكانها وركضت إليه تحاول السيطرة على نوبة الارتجاف العنيفة التي يمر بها، لم تتعرف يوماً على مرض الصرع لكنها على الأقل تتذكر بعض المعلومات عن الاسعافات الأولية، أعمت الدموع عينيها بينما تجاهد في إمالة رأسه ورقبته وأبعاد كل الادوات التي تشكل خطر عليه من قربه، انتزعت روبها وكورته لتضعه تحت رأسه ومسحت على بشرة ظهره المبتلة عرقاً بينما بدأت الهزهزات بالتباعد... لا تعرف كم بقيا في هذا الوضع إلى أن بدأ أليكس بإستعادة وعييه، لكنه لم يتحرك من مكانه رغم شعورها بعودة أنفاسه للانتظام، مدت يدها إلى شعره و حاولت لمس شعره لكنه أبتعد عنها بحركة جافة.
"عودي إلى غرفتك..."
"أليكس لماذا لم تخـــــ...ـــبرني؟"
بحركة خالية من الرقة دفعها عنها وغادر مكانه، وقفت بنفس الوقت ودنت منه عندما ترنح بشكل مقلق وهو يدنو من مفتاح الضوء ليشعل النور الرئيسي للغرفة.
"لا تلمسيني..." أمرها بصوت جليدي عندما وضعت يدها على ذراعه.
"لهذا ترفــــــض أن نتقــــــاسم نفس الســـــرير والغرفة ليلاً؟؟ لماذا لم تخبــــرني بمرضك..."
مرة ثانية ابتعد عن ملامسة يدها وتفقد الاضرار في غرفته وفي خدوشها المنتشرة في كل جسدها... أزداد شحوب وجهه لدرجة خشيت أن تعاوده نوبة أخرى من الصرع، تمتم بصوت عاجز:
"رباه... بيلا لقد أسأت إليك وأذيتك... كان من الممكن أن أخنقك أو أقتلك"
هزت رأسها بعنف لتلقي بكلامه عرض الحائط وأنسالت الدموع على وجهها:
"لماذا لم تخبــــرني بأنك مصــــاب بالصــــرع اليكس؟؟"
أزداد وجهه الجميل شحوباً ومسح بأطراف اصابعه دموعها قبل أن تتشكل نظرة حزينة داخل مقلتيه الرائعتين:
"أخبريني ما الذي كان ليتغير بالكشف عن سري؟ إيزابيلا... ما كنت أخشاه وقع وأذيتك... على هذا الوضع ألا يتكرر مجدداً... أنا خطر حقيقي عليك"
"أريد مـــ..مــــساعدتك..." تمتمت من خلال دموعها وهي تميل بخدها على يده لتشعر أكثر بلمسته "أنا أحبك..."
مرت ثوانٍ من الصمت الثقيل، عكس ما توقعت بدى وكأن اعترافها زاد من سوء مزاج الوسيم أمامها الذي تراجع إلى الخلف و كأن ملامسته لوجهها تقرفه، تحجرت ملامحه الجميلة ورمقها بنظرات جليدية:
"أرفض شفقتك إيزابيلا..."
"أنا لا أشـــفق عليك" اعترضت بضعف "أحبك بجنون..."
"توقفي عن هذيانك إيزابيلا تستطيعين الاحتفاظ بمشاعرك لنفسك لأنها لا تهمني..."
انسحب الدم من وجهها وشعرت وكأن الهواء أنسحب فجأة من رئتيها... وكأنها سقطت في جوف بئر عميق وتسللت المياه في جوفها وجهاز تنفسها... هجومه صعقها واحرقها حية:
"لكن ما الذي كنت تأملينه بحق الجحيم؟" صرخ بها بوحشية وهو يتوجه نحو السرير ليأخذ بنطاله الجينز ويرتديه على عجل ثم يخفي صدره وراء تي شرت اسود "هل صدقت حقاً أن ينمو ثمة شيء بيننا؟؟"
"بـ...بالتأكيد..." تلعثمت بصدمة... نعم هي آمنت بعلاقتهما... لم تكن تتوهم لطفه نحوها ولا شغفه... كل ما شعرت به حقيقي... أنساها كلياً بأنها نصف امرأة، أنساها إعاقتها والفرق الاجتماعي بينهما... أنساها بأن الجحيم موجود حقاً فوق الارض... وهذا الجحيم الذي يدفعها نحوه اللحظة بدون رحمة.
"استيقظي من توهانك إيزابيلا فأنا أليكسندر ريتشي وأنت... حفيدة السائس ومدبرة المنزل مثيرة للشفقة..." دنى نحوها، عيناه تتطايران شرراً وأمسك بعنف بذراعها: "جمعتنا علاقة سرير وانتهت... حققت رغبتك باكتشاف لغة الجسد وجعلت منك امرأة حقيقية... تجرأت على ما فر منه الآخرين خوفاً من مشاعرك السخيفة فلا تمنحي نفسك امتياز أكبر وأعلمي بأن ما حدث بيننا... لم ولن يعني لي شيئاً..."
"لا أصــــدقك..." تأوهت بيلا بعذاب "لماذا تــــتعمد إيلامي بكلمات جارحة؟ أعرف بأنك منجذب لي .. أشعر بحبك"
"أي حب..." قاطعها بقسوة وهو يحيط وجهها بيديه ويثبت رأسها كي يتمكن من النظر مباشرة في عينيها المعميتان بالدموع "عندما أقرر ذات يوم الوقوع في الحب إيزابيلا فلن تكون امرأة مثلك... انتهى ما بيننا... لا أريد مطلقاً رؤيتك"
هل يعقل أن يكون العذاب بهذا الشكل المريع؟ أن تشعر بأحشائها تتمزق ببطء شديد بشفرة حادة... حتى بعد استيقاظها من الغيبوبة التي عقبت الحادثة لم تشعر بألم مماثل..
"أليكس..." اعترضت بضعف مرتعبة من الواقع الذي هي بصدد عيش جحيم لحظاته، أمسكت بذراعه لتمنعه من منحها ظهره وتعلقت به متوسلة "أنت لست جاداً"
"آه كلا 'بليسما'... عودي إلى التوسكانا وعائلتك وأنسي أمري" تمكن من التحرر بسرعة البرق من قبضتها... شعرت بأن روحها تسلب منها دون القدرة على التصرف أو حتى انقاذها... من المستحيل أن تنتهي سعادة الأشهر الصارمة بهذا الشكل... من المستحيل أن يهجرها بهذه الطريقة...
"... أتوسل إليك لا تفعل هذا بي" لا تدري متى جثت على قدميه ولا متى تشبثت بساقه وكأنه قابض روحها على خطوة وحسب منها ينتظر لينهي أجلها "أن تركتني سوف أموت"
"لا تكوني سخيفة..." بحركة خالية من الرحمة أبعدها عنه غير مهتم بدموعها ولا بالمعاناة التي تعكس روحها الممزقة والمحطمة في هذه اللحظة "تصرفي بنضج إيزابيلا بدل التذمر كطفلة صغيرة... تقبلي الواقع ففي النهاية لم تكوني تأملي بأن اضع خاتم الزواج في أصبعك؟؟..."
ثم بدأ بلملمة أغراضه القليلة وكأن مصيبتها لا تهمه... توسلاتها ترتطم عرض الحائط وتعود إلى وجهها تصفعه بلا رحمة... ثم رأته يلقي نظرة باردة نحوها قبل أن يغادر الغرفة... وحياتها.
***
"منذ متى تفر الشياطين من الجحيم دراكو فالكوني؟؟"
لغضبها أنفجر هذا الأخير في الضحك لكلامها وكأنه يتسلى، الحقير يجد كلامها مضحكاً بينما أمضت أشهر طويلة في محاولة مسحه كلياً من عقلها وحياتها التي تسممت بسببه.
"سؤال وجيه 'كارا'... أتساءل عما تفعلينه هنا في هذه الحالة؟" وبرقت عيناه السوداوين في وجهه الاسمر الوسيم، الاهانة نجحت بجرحها، رباه لما تهتم الآن؟ سبق وقذفها بكلمات أشد قسوة بينما يرميها كالقمامة من سريره، رغم حذرها الشديد بالظهور بمظهر كامل من الثقة والهدوء يكاد قلبها أن يتوقف من شدة الخفقان... عصبيتها تهدد بإفقادها وعيها... بحق السماء ما الذي يفعله هذا الشيطان هنا؟
"أي مواهب جديدة تخفينها كارا؟؟ إلى جانب خبرتك المثيرة في الفراش أعترف بأن تصميمات مجوهراتك راقتني..."
"ما الذي تفعله هنا دراكو؟؟" سألته ببرود متجاهلة تجريحه ومجاملته.
"اطمئني فلور أنا لا ألاحقك... فقد... نسيت أمرك ما إن تجاوزت عتبة اليخت ذلك اليوم..." ثم لوت ابتسامة جوفاء زاوية شفتيه "لقائنا صدفة فحسب..."
"صدفة سيئة..." علقت بجفاف "وبما أنك آخر شخص في العالم أتمنى تبادل أطراف الحديث معه سوف أنسحب..."
"ليس بهذه السرعة 'كاريسما'... أتركي لي فرصة التعبير عن أعجابي..." شعرت بنظراته تنزلق بشكل مزعج على فستان سهرتها الذي تعمدته فضفاضاً الليلة تملكها الرعب بينما يعود مقطب الجبين إلى وجهها و يرمقها بنظرات هزت كيانها رعباً. "بهذا الفستان مثلاً..."
زمت شفتيها وتمنت لو تقفز على وجهه لتخدشه وتشوه وسامته التي يختال بها، كالمعتاد لا يرتدي طاقم سهرة مثل البقية، متشح بالسواد من رأسه إلى أخمص قدميه، تشع منه هبة لا تقاوم... خالف تعرف... مقولة يؤمن بها هذا الشيطان الوسيم.
"دعني أمر..."
"هل أنت حامل؟؟"
السؤال فاجئها وأجفلها... أختفى الدم من وجهها وأبقت فمها فاغراً لثوانٍ تتأمله وكأن رأساً آخر نبت له، هز دراكو حاجبيه الكثين وفقدت نظراته المظلمة صبرها وكأن انتظار اجابتها فوق طاقته... هذا كثير... هذا كثير رباه كم تمقته وتكرهه:
"أذهب إلى الجحيم..." نعم.. هذا بالفعل ما تتمناه في هذه اللحظة أن يحترق في العذاب الذي تلذذ بإحراق قلبها به طيلة أشهر.
قبل أن تبتعد شعرت بقبضته الحديدية على ذراعها، ألقت بخوف نظرة حولها تبحث عن شقيقها بلا جدوى، شوهت القسوة وجه الإيطالي أمامها وزمجر بصوت خالٍ من الدفء.
"عندما أطرح سؤال أتوقع إجابة فورية"
"أبعد يديك القذرتين عني..." قذفت من بين أسنانها بينما دموع الغضب والحقد تبلع مقلتيها الزمرديتين خلفها.
"أجيبي هل أنت حامل؟؟"
"لا..." حتى قبل أن تقذف بالكلمات التي هيئتها وتلفظت بها بكل ما أستطاعت من كراهية أدرك دراكو بأنها تكذب، تعابير وجهها المرتعبة وأصفرار وجهها لحظة مفاجئته لها بالسؤال فضحا أمرها تلعثمت بشدة بينما تستطرد "منذ... منذ متى يعتبر فستان سهرة فضفاض فستان حمل؟؟..." قاطعها ببرود
"منذ أن أمضينا ليلة كاملة بتبادل الغرام بشتى الطرق وبدون حماية..." بدون ثانية تأخير قطع المسافة بينهما وتسللت يده إلى التدويرة المختفية وراء ثنيات قماش السهرة الفضفاضة، تستطيع أن تخدع كل من في هذه المكان بإتباعها موضة الفساتين الفضفاضة لكنه يدرك بأن شكوكه في محلها... فلور تملك أجمل جسد سقطت عيناه عليه، خطوط خصرها النحيل أختفت ومن السهل الوصول إلى سرها... عندما ارتطمت يده بالبشرة الدافئة والمشدودة للبطن الشبه بارز فقد فجأة توزان أفكاره...
أصبحت كلوح من الرخام بين ذراعيه، الصدمة شلتهما معاً وتطلع إلى عينيها اللتان ضاقتا فجأة وأنسحبت الحياة منهما، هزت بعد لحظات ذقنها الصغير المرتجف وبصقت بكراهية:
"لا تتوهم ولو واحد في المليار بأنك الأب دراكو... لأنني كنت لأتخلص من طفلك كي لا يربطني شيء بحقير كريه مثلك"
أبعدت يده عن بطنها بعنف وركضت مبتعدة، لكنه لم يمنعها... راقبها تتأبط ذراع شقيقها دون أن يتأثر حقاً بالكلمات القاسية التي قذفته بها.. سؤال واحد تبادر إلى عقله... هل حملها منه؟ وإذا أثبت عكس إدعائها... متى كان ليدرك بأن وريث آل فالكوني ينمو في أحشاء فلورانس ريتشي لو لم يسقط أنفاً بأنف معها الليلة؟؟..
"دراكو؟؟"
استدار فوراً نحو الملاك الاسود الشعر الذي غاب الأرهاق عن محيا وجهها الجميل وشعت عيناها البنيتين بإثارة وسعادة... من الرائع رؤية ابتسامتها مجدداً... ملاكه الصغير.
"بيانكا... هل وجدت ما يعجبك؟؟"
"هل تمزح؟؟ أعشق كل تصميمات فلورانس..." اتسعت ابتسامتها وتأبطت ذراعه وهي تشير نحو النمرة التي لم تهدأ بعد من انفعالاتها الثائرة "رأيتك تتكلم إليها ببعض الحميمية... هل تعرفها معرفة شخصية؟؟"
"نوعاً ما..." قاطعته بحماسة
"رائع... عرفني عليها إذاً... وهيء دفتر شيكاتك لأن هناك طاقمين من الزمرد والالماس سلبا لبي..."
***
دفعت ديامانتي باب غرفتها الغارقة في الظلام إلا من النور الشاحب للقمر المتسلل من الشرفة المنزاحة الستائر، كانت ليلتها سيئة... سيئة بحق.. وكأن أمنية نيوس لها بالتوفيق جلب لها الحظ السيء...
قذفت بحقيبة يدها بعصبية فوق السرير قبل أن تبحث عن زر النور وتشعله، تسللت يدها إلى رأسها وحررت شعرها من المشبك الذي أحتفظ به مسجوناً لساعات طويلة... توقعت كل شيء عدا عرض زواج آندرو...
إن بدأت بعد عدد عروض الزواج التي تلقتها في حياتها فلن تكفيها الساعات التي تفصلها للفجر.
رجل واحد فقط من وافقت على عرضه، رجل أنجذبت نحوه وظنت بأنه الفارس الذي طالما انتظرته، لكنه خذلها... بسبب دراكو تجد نفسها مسجونة في جزيرة ساحرة مع أكبر كذبة نسجها صمتها والأيام حولها... كذبة زواجها الذي يجهله الجميع... حتى نيوس.
لماذا لم تخبر الحقيقة لمارك انطونيو ونيوس؟ أكثر رجلين ساعداها ومنحاها الحماية؟
"هل ستسهمين طويلاً أم تنهين عرض التجريد المغري؟"
انفلتت شهقة مفاجئة من بين شفتيها واستدارت نحو مصدر الصوت لتكتشف نيوس يستعمر المقعد الجلدي للطاولة التي تستعملها كمكتب خاص.
"لقد ارعبتني.." تمتمت من خلال لهاثها ويدها على صدرها "ثم... ما الذي تفعله في غرفتي؟"
"اطمئن على عودتك سالمة... ولو إنني أثق بكفاءة آندرو... هل كانت سهرتك موفقة؟"
هناك شيء ما غير طبيعي في صوته الأجش ونظراته الشرسة، بدى وكأنه أسرف في الشرب، بالكاد تصدق في نيوس العظيم الذي لا يتبنى هذا الأسلوب... بلعت ريقها ببعض العصبية، بما تجيبه؟ بأنها امضت سهرتها ساهمة تفكر به وتتحرق للعودة كي تشعر بوجوده في محيطها وتدرك بأنها تتنفس نفس الهواء الذي يستنشقه في كل ثانية؟؟
"هل يعقل أن تنتظر عودتي حتى..." ثم ألقت نظرة جافة إلى ساعة يدها وتابعت "الثالثة صباحاً كي تطمئن على سهرتي؟؟ ألم يمكنك الانتظار حتى الصباح؟؟"
اكفهر وجه نيوس وهو يغادر المقعد الذي بدى صغيراً وضيقاً مقارنة بجسده، تراجعت إلى الوراء بينما ملامحه تزداد تصلباً وقساوة، كان قد غير الملابس المنشرحة التي رأته وسطها في زيارته لغرفتها، غير بنطال الكتان بآخر جينز ضيق وقميص أسود حل محل الأبيض، بالتأكيد... مزاجه لا يبدو أكثر مرحاً من هذه الألوان التي تذكرها برعب في دراكو فالكوني.
"ما الأمر ديامانتي؟ ألم تعتادي على حضور ذكري في كل مكان تتواجدين به؟؟ الكل مستعد للفت انتباهك وربما... الحصول على عطفك..."
هزت رأسها بتحدٍ... نيوس ثمل إنها متأكدة الآن... لم تكن لتصدق إن لهذا المتغطرس مشاعر كبقية الناس ونقط ضعف...
"لكنك لست كالبقية 'دون نيوس'... فقد نسيت أمري ما إن جلبتني إلى هذه الجزيرة... لم تفعل شيئاً للفت انتباهي ولا للحصول على اهتمامي"
"نسيت أمرك؟؟" ردد بخفوت وكأنه يدرس الكلمة في عقله، عاد يثبتها بنظرات مشتعلة شعرت ببعض الكراهية في هذه النظرات الغامضة التي تسجنها في أعماقها "ضقت ذرعاً بتجاهلك..."
بحركة خالية من الرقة سحبها من ذراعها إلى صدره، ارتفعت ضربات قلبها بعنف بين ضلوعها عندما أخذ وجهها بين يديه يتطلع إليها وكأنها أحدى عجائب الدنيا السبع فقدت السيطرة على جسدها الذي بدأت أطرافه ترتجف بحدة، اغمضت عينيها عندما احنى رأسه نحوها ولامس بالكاد شفاهها.
شلال من الأحاسيس الرائعة تدفق في شرايينها بسخاء وشل عقلها من التفكير كلياً، كم انتظرت هذه اللحظة؟ منذ دهر وأمد بعيدين... تسللت يديها تلقائياً إلى كتفيه العريضين، الشعور بعضلاته القاسية تحت أصابعها زاد من تسارع الدم إلى شرايين دماغها وأصابها الدوار... دوار حقيقي من الرغبة والنشوة...
"تشبهين الحوريات اللواتي يغرين الصيادين للقاء حتفهم..." سمعته يتمتم أمام شفاهها قبل أن يعود ويأخذهما في قبلة برية وعميقة، قبلة سلبت آخر ما تبقى بينها وبين الواقع...
تعرف بأن ما تقوم به خطأ... وربما... أكبر غلطة قد ترتكبها في حياتها...
لم تنسى يوماً الوعد الذي قطعته على نفسها منذ مراهقتها، لكنها للمرة الأولى لا تهتم..
عندما تحول جمالها إلى نقمة حيث ابتعدت الفتيات عنها خوفاً على اصدقائهم الفتيان وتحرش بها العديد من رؤسائها في كل عمل التحقت به... ضغط زملائها الرجال دفعها لأكثر من مرة لتغيير مكان عملها وأقامتها... الاغراءات والضغوطات كانت كثيرة فأقسمت أن تمنح نفسها للرجل الذي يرى ما خلف قشرة وجهها وبالتأكيد أن يكون هذا الرجل زوجها.
في هذه اللحظة بين ذراعي نيوس الذي يقبلها بشغف حسي خرافي وتوقظ لمساته براكين الرغبة في جسدها الذي يهدد بالانفجار كالمفرقعات في سماء الجزيرة النائمة تجد مبادئها باهتة... ولا قيمة لها.
فتحت عينيها عندما شعرت بفستانها الأحمر ينزلق كالهمس عليها ويتكوم تحت قدميها، ألتقت نظراتهما... نعم هي بصدد ارتكاب غلطة عمرها... غلطة ستندم عليها بمرارة لاحقاً... لكنها لا تملك الرغبة للتوقف... وهي تعرف في هذه اللحظة بأنها ستجن لامحالة إن قرر هو الرحيل دون اكمال ما بدأ... وكأنه قرأ ما يجول في خاطرها، وضع يده على خدها وتمتم بصوت أجش بالرغبة :
"أطلبي مني التوقف ' أغابامو' ... أطرديني خارجاً..."
يجب أن تعيش جنون اللحظة دون التفكير في الغد، الكثيرات من الفتيات بعمرها طبقن الأمر منذ سنوات، لكن الغد مع نيوس مؤلم... لأنه سيتزوج قريباً أما فيما يخصها... فلم تتحرر بعد من زواجها.
لكنها مريضة بإنجدابها نحوه، مهووسة بصورته التي تأبى مفارقة مخيلتها، إن طلبت منه التوقف فلن تعرف يوماً ما يعنيه الغرام معه... لن تتعرف على ذوق الجنة... وربما طعم النار... لكل مغامرة جوانبها سواء السلبية أو الإيجابية أليس كذلك؟؟
النار المتقدة في عيناه الجمت لسانها، مطلقاً لم ترى هذه النظرة الاستثنائية في عيناه يوماً... وهذه النظرة الشرسة والجائعة، هذه النظرة التي تعدها بالفردوس بلعت آخر مقاوماتها ومنحتها الجرأة... فلتذهب مبادئها للجحيم، إنها تموت رغبة في رمي نفسها تحت قدمية وتوسله أخذها بقوة كي تنتمي إليه كروح بديلة، وتذوب في شرايينه تماماً مثل الدم.
"لا تتوقف..." بالكاد تعرفت على صوتها المرتجف والثمل من الإثارة، تسللت يديها إلى قميصه تحرر أزراره بلا صبر "لا تعطيني سبب آخر لأكرهك أكثر نيوس ليونيداس"
شعرت بابتسامته تحت بشرة عنقها، ازدادت ضربات قلبها عنفاً بينما تنزلق شفاهه نحو إذنها "أكرهك أيضاً كارا... أمامنا الليل بكامله كي أبرهن لك عمق كراهيتي..."
سقطت ضحية الضجة العابثة داخلها، علقت في ثقب زمن فارغ للكثير من الوقت، نسيت تحفظها وجارت جرأة العشيق الرائع الذي لم يتردد أمام كل ما هو مباح لنيل أكبر كم ممكن من تجاوبها وتنهداتها، لكن أظافرها خرجت طوع أمرها عندما كشفت سرها بالانغراس بلا رحمة في بشرة ظهره المبللة بالعرق، كتمت أنفاسها داخل حنجرتها وهربت منه بعينيها، لحسن حظها إنه لم يفقه لشيء وأمتلكها كما لم يفعل رجل من قبله... نيوس هو أجمل هدية عيد ميلاد حصلت عليها يوماً.
***
"متى طائرتك؟؟"
سأل روبيرتو بصوت يكاد يكون طبييعياً، ابتسمت فرجينيا بهدوء وهي تنهي لملمة آخر أغراضها.
"بعد ثلاث ساعات..."
"سوف أوصلك إلى المطار..."
تجهمت ملامحها الجميلة قليلاً واستعادت جديتها ثم واجهته بحزم
"أفضل لو نقول وداعاً هنا..."
بلع اعتراضه وهز رأسه موافقاً، ففي النهاية لا يوجد ما يقولان... انتهى وقت الكلام والعتاب.
شعرت ببعض الضياع مجدداً لكنها عادت واستجمعت شجاعتها، عليها ألا تشعر مجدداً بالذنب لهذه النظرات الزرقاء التي يثبتها بها زوجها... أو... زوجها السابق؟؟
فعلت ما آمنت به رغم معارضته، وقفت إلى جانبه طيلة الخمسة أشهر المنصرمة ونامت على الصوفا بالقرب من سريره الطبي ولم تفارقه لحظة بعد العملية الدقيقة الذي أجراها له ذلك الطبيب الياباني المعجزة في التايوان، لحسن حظ الكل... انتهى تهديد الموت وهي سعيدة من أجله.
والآن حان دورها لتتحرر، انتهى كل شيء بينهما وخذلانه لها وخيانته لن تغفرهما له مطلقاً... بسببه فلور قطعت أي صلة معها، وحان دورها لتكسب ولو القليل من العطف منها... عليها مواجهة أندريس وتصفية الماضي إلى الأبد... ألم تعد نفسها بذلك ما إن تنهي مهمتها بشأن روبيرتو؟؟
"أحبك فرجينيا..." سمعته يهمس بصوت منفعل مثقل بالحزن "آسف أن ينتهي زواجنا بهذا الشكل..."
"أنا أيضاً آسفة روب..." ابتسمت له برقة ودنت نحوه لتأخذه بين ذراعيها طويلاً "اهتم بنفسك... لا تنسى بأنني سأكون بقربك إن احتجتني..."
"أحياناً... أقول بان مقاساتي السابقة مع السرطان أهون من رؤيتك ترحلين..."
"أحب أندريس..." ذكرته برقة "طالما أحببته ولن أقول أكثر مما اكتشفته أنت في مذكراتي... ما كان يجب أن أقحمك في كل هذه القصة... أعرف بأنه لن يسامحني يوماً بسبب إخفاء فلور عنه.... لكنني أرفض الانعزال مجدداً في ركني وانتظار الخلاص من السماء.."
ابتعدت عنه مجدداً لتأخذ حقيبتها الجاهزة وتضع نظارتها الشمسية.
"سوف يبقى محامينا على اتصال إلى النطق الرسمي بالطلاق... أرجوك اهتم بنفسك"
تجاهلت منظره التعيس والدموع المتجمدة في عمق عينيه، عليها التوقف بالشعور بالذنب... حباً بالله لقد منحته شبابها وأجمل أيام عمرها بينما حرمت أندريس وابنتها أن يكونوا عائلة طبيعية.
"وداعاً روبيرتو"
لكنه لم يرد وهي لم تنتظر الاجابة، لقد شفي من سرطانه، رفضت الطلاق خلال مرضه لكنها أصرت عليه بعد شفائه، تتركه حالياً في أتم صحته في مزرعة اكسفورد وستطير إلى الآلسكا لتساند أندريس... حبيبها أندريس ووالد ابنتها... إنه بحاجتها بالرغم من يقينها الأكيد بأنه سيرميها خارجاً ما أن تسقط عيناه عليها.. ابتسمت بحزن وهي تترك حقيبتها لسائق التاكسي الذي سارع بوضعها في صندوق السيارة.
القت نظرة على نافذة غرفة روبيرتو وكما توقعت وجدته واقفاً هناك، ينظر نحوها وكأنه واثق من تبديل رأيها بشأن السفر والالتحاق بأندريس... لكنها لم تطلب من السائق التوقف بينما تنطلق السيارة مغادرة ممتلكات آل ريتشي.
لم يخسر كل شيء، فكر روبيرتو بحقد وهو يتوجه إلى الهاتف ويركب رقماً.
لقد أهداها عمره بأكمله وقاوم في سبيل الأحتفاظ عليها، لن تعود وبكل بساطة إلى ذلك الحقير الذي آلمها طول عمرها... عليه المقاومة إلى النهاية.
فرجينيا مخطئة... كان عليها تركه يموت بدل معالجته عند أقوى الاطباء، ربما كانت لتحظى بأندريس بعد موته... مخطئة إن ظنت بأنها ستعيش سعيدة مع رجل غيره بينما هناك نفس يجري في صدره.
"أندريس ديكاتريس؟؟" تمتم عندما تردد صوت الكونت في إذنه.
"أنا..." أنغلق الخط
هز عينيه بغضب ودهشة نحو الوجه المكفهر لإدواردو، كان يزم شفتيه بحنق وعيناه ترميان سهام من نار:
"لا روبيرتو... لن أسمح لك بزيادة معاناة أندريس... انتهت اللعبة"
***
"عادت لتناول حبوبها المهدئة بعد أن تخلت عنها منذ سنة... 'بير ديو' لا أعرف ما الذي يصيب صغيرتي"
الصوت المهموم 'لسنيورا بينا' أثار استعطاف البقية في المطبخ.
تركت ماريا ما في يدها لتدنو من مدبرة القصر التي اخطأت هذا النهار أكثر من مرة في اشغالها، بيلا تغيرت بالتأكيد والكل لاحظ انشغال عقلها منذ عودتها قبل يومين من بيت صديقتها... حتى إنها لا تختلط بهن في المطبخ كما السابق، فقدت روحها المرحة وصارت شبح نفسها.
"لما لا ترسليها عند والدتها في استراليا؟؟ ربما هي بحاجة لرؤية أفراد آخرين من عائلتها"
"لكن متى منعتها من السفر ماريا؟؟" اعترضت سنيورا بينا وامتلأت عيناها بالألم "بالرغم من أن هذه الأسفار المفاجئة وراء تغير تصرفاتها... لا أعرف إن كانت على علاقة بأحدهم وحطم قلبها... لكنه لم يكتفي في هذه الحالة بتحطيم قلبها بل دمرها كلياً"
"فكرت بالشيء نفسه ولم أتجرأ على البوح به" اعترفت جوليا بأسى
"آه ديو..." زمجرت فاليريا بقوة "فكرت بالشيء ذاته... وراء حالة بيلا علاقة فاشلة... أحدهم بالفعل تجرأ على تحطيم قلبها الرقيق..."
"فقط لو يكون من الجرأة بأن يظهر رأسه السافل..." هددت ماريا بغضب حقيقي وهي تخرج مدلكها الذي استعملته قبل لحظات "كان ليسعدني تكسيره بهذا"
لكن لا أحد منهن يرغب بالضحك أو حتى الابتسام، تركت سنيورا بينا مكانها متنهدة
"سوف اتفقدها في الغرفة الجانبية... تركتها بصدد قراءة بعض الجرائد... عادة جديدة منذ عودتها... لا أعرف بالضبط عما تبحث"
عندما غادرت مدبرة القصر تبادلت النسوة نظرات ذات معنى قبل أن تتنهد جوليا
"هل يعقل إن حبيبها معروف لذا تبحث عن أخباره في الجرائد؟؟"
"ربما صحفي في جريدة فضائح ..." علقت ماريا وهي تضرب براحتها المدلك الخشبي "فقط لو أعرف اسمه..."
"كما قالت سنيورا بيا..." همست فاليريا وعينيها دامعتين "بيلا مدمرة كلياً... لم تعد نفسها تلك الفتاة التي تشرق قلوبنا بضحكاتها ومداعباتنا... فليلعن الرب كل رجل موجود على وجه الأرض"
"رباه لما كل هذه القسوة؟؟" صوت مارك انطونيو المسلي فاجئهن، أحمر وجه فاليريا وصار بلون الطماطم بينما ماريا وجوليا عدن لعملهن، ابتسم مارك لحرج الخادمة السمراء:
"آسف لمقاطعة ثرثرتكن لكنني وددت التكلم مع 'سنيورا بينا'"
"سوف تعود حالاً دون مارك أنطونيو..." قالت فاليريا بصوت مهتز بينما وجهها يزداد أحمراراً.
أهتز فجأة المكان بالصراخ والولولة، ظهرت فجأة المرأة البدينة التي طالما كانت رمز الرزانة ورباطة الجأش أمام عتبة الباب الخاص بفريق الخادمات، وجهها شاحب شحوب الاموات
"إيزابيلا... إيزابيلا..."
ترك مارك ما بين يديه من حسابات المطبخ والتحق فوراً بالمرأة التي ركضت ما سمح له به وزنها في رواق منتهي بغرفة نوم خاصة بالخدم، انتبه اول ما وطئت رجلاه عتبة الباب إن السجاد غارق في الماء، اشارت سنيورا بينا إلى باب آخر وهي تصرخ وتبكي في آن واحد
"إنها في الداخل، أغلقت باب الحمام ولا ترد... دون مارك انطونيو أكسر الباب"
دون أن ينتظر طلبها كان قد بدأ فعلاً بخلع قفل الباب، كل احاسيسه متيقظة ومتأهبة، عندما نجح أخيراً بتكسير القفل اندفعت ورائه النسوة وتصلب الجميع أمام المنظر المريع.
في قلب بانيو الاستحمام -حيث صنوبر الماء يصب بلا توقف- تمددت بيلا بلا حراك بالكاد يظهر أنفها وفمها على سطح الماء البارد، شعرها الطويل منتشر حولها كأعشاب بحرية.
"رباه... بيلا..." تمتم بغير تصديق وهو يسرع لانتشالها من الماء وإيقاف المياه الهائجة، أسرعت إليه سنيورا بينا بمنشفة بينما صرخ هو أمراً في النسوة اللواتي بقين متسمرات مكانهن من الصدمة
"فلتتصل أحداكن بالإسعاف فوراً..."
أخفى جسدها الصغير خلف المنشفة واحتفظ بها بين ذراعيه، إذنه على أنفها وفمها، لم تكن تتنفس، شتم بصوت منخفض قبل أن يبحث عن نبضها الذي وجده ضئيلاً وضعيفاً...
"هل ماتت؟" سمع صوت الجدة متكسراً وضعيفاً.
"لا..."
أخذها إلى السرير الجاف ووضعها عليه، بسرعة جلست الجدة بالقرب منها وتجمهر البقية عليها، ليس الغرق سبب حالة بيلا... مارك كان متأكداً، الحظ حالفها بالبقاء خارج الماء رغم كمياته التي أغرقت المكان، عاد إلى الحمام يبحث عن أي دليل يفك به لغزه بحثت عيناه بين قنينات الشامبو والصابون وأثار انتباهه عدة قنينات طبية فارغة.
"آه... كلا بيلا... بيلا"
ثم على طبقة الماء العائم جريدة صفراء إيطالية يعرفها جيداً... حتى قبل أن ينتبه إليها أدرك بأن شقيقه الصغير خلف مأساة اليوم.
"أليكسندر ريتشي يجد السعادة أخيراً..." الصورة المرفقة في 'لامبيدوزا الايطالية'... أليكس بوضع حميمي جداً مع إيطالية سمراء حصلت على لقب ملكة الجمال قبل ثلاثة أشهر فقط... عليها تاريخ اليوم.
"سوف أقتله.." تمتم مارك وقد أعمت دموع الغضب عينيه "سوف أقتل الحقير"


Gege86 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس