[دنيازادة]

زمن الفرح

الغلاف إهداء من وحي الأعضاء

كما أنت الآن كنتُ أنا..
وكما أنا الآن ستكون أنت ..
فتمتع بالحياة لأنك فانِ ..
هذه الكلمات المنقوشة بلغة لاتينية على حجر رمادي في مدينة أم قيس الأثرية استعصت على فهمي، لكنه لم يمل بطول صبر من شرح معناها وتوضيح الرؤية الفلسفية الوجودية للشاعر الروماني القديم "آرايبوس " فحفظتها عن ظهر قلب..
يا الله كيف أتذكر الآن كل ذلك ..
أتذكر سحر منظر بحيرة طبريا الغافية بين قمم الجبال ..
أتذكر كيف كان يقرأني ككتاب مفتوح من غير حاجة إلى كثير تأويل، وكم كان يحلو له أن يجيب عن أسئلة لم أطرحها ..
أتذكر تفاصيلنا الصغيرة وأغيب عن الحدث الكبير الذي شرخنا لنصفين، وأبعدنا بين حياتين..
ما زلتُ اسمع صوته الذي لا يشبه أي صوت ينبعث عبر أثير الهاتف قائلاً بشغف:
- " السماء تثلج ببركات الحب فدعينا نمضي في درب اللهفة دون أن نهاب المنعطفات، حبنا عفوي غير محسوب على أي مصلحة.. ".

رأيتُ الحب في عينيه فخلعتُ جنازيري الذهبية التي تكبل عنقي ومعصمي غير أبهة، ركضتُ لاهثة وراء حب لم يقله قيس في ليلى ولم يرد بمعلقات جنونه، حب لم تسمعه عزة من كثير في آلامه الشعرية، حب أسطوري مشتق من اسمينا فأنا الدنيا وزادها وهو من يحيى بقلبها..
اقتسمنا الحلم الجميل في زمن الفرح، ظنناه مكتمل بلونه الأبيض وأن الوصول مسألة وقت أصلي، نزلنا البحر المالح ونزعنا عنا ما ورثنا من جيناتنا الثقيلة، عبرنا جسر الهوى وصعدنا الإدراج العتيقة لسماء المحبة ..
مشينا بخطوات لا تخطئ عبق الحب في شارع الأعمدة المرصوف بحجارة الأشواق، وجلسنا أمام بوابة الإمبراطور "هادريان " في مدينة جراسيا نتناقش بمنهج سقراط ومنطق أرسطو، نتجادل بخلاف صاخب في تفوق المعسكر الرأسمالي على نظيرة الاشتراكي، أزمات الشرق الأوسط السياسية التي لا تنتهي وقوة مضادات الصواريخ في حال استنفذت محاولات السلام واضطررنا لخوض حرب نووية.. لكن ما أن يشدو كاظم الساهر أحبكِ جداً نغيبُ في لهيب الحب ونبض القلب..
" أحبكِ جداً واعرف أن الطريق إلى المستحيل طويل
واعرف أنكِ ست النساء
وليس لدي بديل
واعرف أني أعيش بمنفى وأنتِ بمنفى
وبيني وبينكِ ريح وغيم وبرق ورعد وثلج ونار
واعرف أن الوصول لعينيكِ وهم
واعرف أن الوصول لشفتيكِ انتحار
ويسعدني أن أمزق نفسي لأجلك أيتها الغالية
ولو خيروني لكررتُ حبكِ للمرة الثانية .. "

يناديني بتوق :
- " تعالي .. "
أهز كتفي بأرستقراطية فيبتسم برقة قائلاً :
- " أحلى من العسل مُرك "
أضحك كطفلة صغيرة بلغت العشرين في غفلة عُمر، أخفي وجهي بكفي حين يستدرك بعذوبة:
- " كل عشقاً لم ينذر لعينيكِ يا دنياي لن يبلغ مرتبة الغرام "

آآآآآآآه كم تمنينا لو توقفت عق ارب الساعة ليتأخر الغروب ..
بوحنا بأسرارنا الكاملة وحلقنا إلى البعيد منتشين نكتب تاريخنا ونؤرخه لسباق الزمن .. لكن لم يكن لنا حجز مسبق مع الفرح فاضطررنا أن نرقص في عتمة العتمة ..
- " سأنتسب لعام بأرقام قليلة وتنتهي أقامتي على الأغلب في 2010م "
بهت لوني بصدمة كلمات لم أتوقعها، أردف بصوته العميق الشجي:
- " أحتاج إلى عام يخصني وحدي وأتمنى أن لا يصادف تاريخاً لذكرى نكبه أو نكسة، حصار أو سقوط مدينة، أو توقيع اتفاقيات سلام على بياض الصفحات.."

رفع يده بحزم مانعاً احتجاجي :
- " لا .. لا تشغلي بالك بسجالات تحديد مسار الموت ولا تقلقي فثمة إرسال بين الموتى ومن يعيشون في خاصرة الحياة .."

استعجل الرحيل حاسماً أي جدل مؤكداً :
- " ما دمتِ قادرة على الاختيار احذري من سلوك درب الإحزان.. لا داعي لزيارتي في مرقدي الرخامي البارد لأنه سيكون أجوف، وارتدي الأبيض لأجلي فالفرح يليق بكِ "

ثلاثة أعوام كاملة مرت كأنها لم تمر ..
ثلاثة أعوام تفصلني عن ذلك اليوم الذي قرر فيه رجال بلا قلوب يعاونون الشيطان أنه لم يعد في حاجة إلى الحياة، فعلوا فعلتهم واختبئوا كالأفعوان في جنح الظلام ..
ثلاثة أعوام وما زلتُ في كل ليلة أسهر مع رسائله وأنام على أمل أن يزورني بالحلم ليرشدني في درب المتاهات ..
أضيء شمعة في دير صغير يقع على إطراف مادبا لأمنيات عاجله بلقاء قريب...
أصعد لأعلى جبل القلعة واشرع كفيّ إلى السماء أقرأ الفاتحة واعترف من أعماقي المفجوعة :
- " أينما كانت روحك الآن فأنت في قلبي تحيا ".

أحيانا تدفعني رغبة مجنونة أن اكتب له فثقل الكلمات أحس بها في صدري تكتم أنفاسي.. كلمات تمنيتُ لو همستُ بها في ساعة مطر تشريني، سأقول إني اشتقتُ له كثيراً وافتقده بشدة، سأخبره كم اشعر بالوحدة بدونه وكأني في قارب وسط بحر هائج لا يبدو له نهاية واحلم بالوصول إلى شاطئ أراه واقفاً فيه على الرمال شامخاً بعنفوان وهيبة بوجه يدعوني للابتسام قائلاً:
- " أحلى من العسل مُرك "
على مدى سنوات ثلاث رفضتُ هذا الموت القسري ورحتُ أفتش عنه في كل مكان بصحبة كاظم الساهر مع موال طاعن بالألم، وباتت في ذهني فكرة عبثية أن أحمل سلامي إلية مع كل من يرحل قائلة بفيض من الحنين:
- " بلغوه سـلامي .. اخبـروه أني سأتمم مواعيدي مع الأيام وألحق به في عام مزدحم بالأرقام لأروي له كل ما فاته من مباهج الدنيا، وسأرتدي الأبيض .. نعم قريباً سأرتدي الأبيض لأجلـه".


بقلم ... دنيازادة.