عرض مشاركة واحدة
قديم 14-06-14, 02:52 AM   #9

❀| ℓįgнт sPįяįт ~
 
الصورة الرمزية ❀| ℓįgнт sPįяįт ~

? العضوٌ??? » 196100
?  التسِجيلٌ » Aug 2011
? مشَارَ?اتْي » 291
? الًجنِس »
My Facebook My Twitter My Flickr My Fromspring My Tumblr My Deviantart
?  نُقآطِيْ » ❀| ℓįgнт sPįяįт ~ has a reputation beyond repute❀| ℓįgнт sPįяįт ~ has a reputation beyond repute❀| ℓįgнт sPįяįт ~ has a reputation beyond repute❀| ℓįgнт sPįяįт ~ has a reputation beyond repute❀| ℓįgнт sPįяįт ~ has a reputation beyond repute❀| ℓįgнт sPįяįт ~ has a reputation beyond repute❀| ℓįgнт sPįяįт ~ has a reputation beyond repute❀| ℓįgнт sPįяįт ~ has a reputation beyond repute❀| ℓįgнт sPįяįт ~ has a reputation beyond repute❀| ℓįgнт sPįяįт ~ has a reputation beyond repute❀| ℓįgнт sPįяįт ~ has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   ice-lemon
افتراضي



بسم الله الرحمن الرحيم

03

أغمض عينه اليسرى،بينما أبقى الأخرى مفتوحة على وسعها محاولا التركيز على العصا الخشبية النحيلة التي يمسكها بيده،والكرة البيضاء التي تبعد عن نهاية رأس العصا بمسافة قليلة على الطاولة الخضراء،ولم يستغرق الأمر منه ثانيتين حتى دفع العصا بسرعة احترافية فدفعت الكرة البيضاء لتدفع بدورها العديد من الكرات الملونة إلى الحفرتين الموجودتين في أقصى زاويتي الطاولة.
استقام بوقفته راضيا بعدما رأى النتيجة،فبانت قامة جسده الرياضي الطويلة،لقد كان وحده في الصالة،يلعب البلياردو ضد نفسه من وقت ليس بقصير، لذلك قد شعر بالملل الآن،مشى مبتعدا عن الطاولة حتى خرج إلى الحديقة،اتّكأ على جدار الصالة،ومد يده إلى جيبه وأخرج علبة عصير بالفراولة،فتحها وما إن قربها إلى فمه حتى ارتشف كل مافيها دفعة واحدة،ثم رماها جانبا على العشب.رفع رأسه إلى السماء الليلية فلم يرَ إلا بضع نجمات يحطن بالقمر الذي اتخذ شكل هلال،وبقي وقتا يحدّق فيه بشرود.كانت حدقتيه بلون أخضر حادّ يخالطه لون عسليّ يضفي على عينيه تأثيرا ناعسا وكئيبا بعض الشيء،وقد انعكست على عدستيه صورة القمر فبدتا كما لو أنهما في عالم آخر.
استمّر مايقارب العشرة دقائق في وقفته هذه،دون أن يظهر على وجهه أي شعور يدل على ما كان يفكر فيه،ثم أطرق برأسه وأدخل يديه في جيبي سترته الرمادية القطنية الغامقة،وماكادت أنامل يده اليمنى تلامس طرف هاتفته المحمول حتى أفزعه برنينه واهتزازه المفاجئ،أخرجه فورا،وما إن وقع نظره على اسم المتصل"القطة سروب" حتى أعاده إلى جيبه وتركه يستمر بالرنين دون أن يرد.استعجال سَروبْ المهووس هو آخر شيء يحتاجه الآن.
لكن للأسف،بضعة دقائق مرت منذ انتهاء الرنين،ثم سمع صوت سَروب ينادي باسمه بينما يخرج من البوابة الرئيسية باحثا عنه دون أن يراه،فقد كان واقفا وسط الظلمة.تأففّ،وأدرك أن سَروب لن يتوقف عن النداء عليه حتى يجده،لذا تقدم ليريح نفسه من هذا التكرار الممل،وعندما أصبح خلف سروبْ مد قدمه وركله ركلة خفيفة على بنطاله الأسود الرسمي قائلا :
-" توقّف عن ندائي مثل جرو خائف،لقد أتيت"
سرعان ما التفت إليه سروب وقال له باستعجال ولوم وهو يحاول أن ينظر للمكان الذي ركله من بنطاله حتى ينفضه :
-" ميّال . .
رفع ناظريه إليه ليستوعب أنه مازال مرتديا بنطاله الأسود وسترته الرمادية :
-"بالله عليك ماذا كنت تفعل طوال هذا الوقت ؟ لقد تأخرنا كثيرا وأنت لم تغير ملابسك بعد !"
رمقه ميّال متفحصا ببرود هيئته المتأنقة بملابس السهرة السوداء وتسريحة شعره المعتادة،يقسم شعره إلى نصفين الأول يجنبه إلى اليمين ويرفعه عن جبينه قليلا،والآخر يعيده وراء أذنه ويملّسه،ثم أشاح ببصره عنه وتعداه ماشيا :
-" ومن أخبرك بأني سأغير ملابسي ؟ لستُ مهووسًا بالتّأنق والظهور بأفضل صورة مثلك"
لحق به سَروب قائلا بنفس نبرة صوته المستعجبة اللائمة :
-" أجننت يا أخي ؟ حفلة زفاف،أول ظهور لنا أمامهم،وتظهر بهذه الملابس . .
التفت إليه وابتسم ابتسامة خبيثة :
-" ثمّ إن مظهرك هذا لن يجلب الفتيات إليك أبدا . ."
ردّ عليه ميّال بسرعة دون أن يكلف نفسه عناء النظر إلى عينيه المتحمّستين :
- " لست أنا من يجذب الفتيات،بل هن من يتأنقن ليجذبن نظري "
ما إن سمع سَروب جملته هذه حتى حرك رأسه يمنة ويسرة يائسا منه.إنه يعرف منذ البداية أصلا أن ميال لن يستمع له مطلقا،لطالما كره الملابس الرسمية والتجمعات،وهو ليس مهتما من الأساس بهذا الزفاف واللقاء الأول بهم،فلولا إصرار السيد جلال،وترجيه لهم منذ آخر مرة رأوه فيها،وقد كانت قبل شهر ونصف،لما رضي بالمجيء أبدا،وعلى كلّ،فإن التّأنق لا يليق بمظهره اللامبالي ونظراته الناعسة الكئيبة أبدا.لكنه رغم هذا كله،لم يستطع من نفسه من أن يسأله بقلق حين ركبا في السيارة الفخمة :
-" ماذا ستكون ردة فعلهم برأيك ؟"
"- أيا كانت لا يهمني "
أجل،لقد كان سروب يعرف أن هذه هي الإجابة الوحيدة التي سيقولها ميّال ،لكنه واسى نفسه بأنه لا بأس من المحاولة.تأفف وأشاح بوجهه إلى النافذة الزجاجية ليحدق بعينيه الخضراواين الصافيتين في الشوارع المزدحمة.إنه لا يستطيع منع نفسه من القلق،لقد أمضى طوال هذه الشهر والنصف في التفكير ومازال غير قادر على التخلص منه منذ أخبره والده بقراره،إنه على العكس من توأمه ميال كان دائما يتوق لعائلة حقيقية وكبيرة بعد وفاة أمهما،حتى بعد تعديه لسنوات المراهقة،ووصوله للخامسة والعشرين من عمره،لم يتوقف عن تمنيه لذلك،صحيح أنه يحب أخيه ميال رغم اختلافه العظيم عنه،لكن أيضا،لكم تمنى أن يكون عنده إخوان صغار وأبناء إخوة يلاعبهم ويخرج معهم ويمتعهم.إن سروب من ذلك النوع العاطفي المليء بالحب،لا يستطيع أن يعيش دون أن يجد أحد يغمره بمشاعره هذه واهتمامه ورعايته،تماما كما لو أنه أم،حنون جدا،ولهذا السبب بالذات فإنه لم يكف طوال الوقت عن القلق إذا ماكانوا سيتقبلونه كأخ أم لا،لكن ما يطمئنه قليلا أن والده أخبره هو وميال بأنه سواء تقبلتهم العائلة أو لا،فإنهم سينتقلون للعيش معهم قريبا جدا،إن القصر واسع ويكفيهم جميعا،والسيد جلال يريد أن يرى جميع ذريته أمامه ويقضي معهم آخر سنواتٍ شيخوخته.
-" سروب،ياقطة،هي سَروب،استيقظ،لقد وصلنا"
فزع سروب إذا انتزعه الصوت من شروده،والتفت إلى جهة ميال فرأى القصر من نافذته :
-" حسنا،وصلنا،وصلنا"
وزفر قلقا وهو يفتح باب السيارة هاما بالخروج،بينما بقي ميال في السيارة،حتى إذا خرج سَروب،مد يده وأخرج عطرا من درج صغير،ورش الكثير منه،ثم رفع بصره إلى المرآة المستطيلة التي لا يظهر فيها إلا انعكاس لصورة شعره الأشقر القاتم الغير مرتب تماما،والذي ينسدل على عينيه ويتوقف من الخلف عند بداية رقبته،لمسه بيده وعدل بعض الخصلات النافرة ثم أقفل السيارة وخرج دون أن يحتاج لأن يصلح هندامه.

استقبلهما الخادم الخاص بوالدهما،والذي اعتادا رؤيته مرافقا له في زياراته القليلة لهما،لقد كان بطبيعة الحال الوحيد الذي يعلم بهويتهما الحقيقية،قال لهما بعد أن تعديا بوابة السور الحديدية ببضعة خطوات،ولم يريا أحدا غيره فإن الجميع كانوا متمركزين في بداية الحديقة بعيدا عن بوابة السور :
-" لقد أمرني السيد جلال بأن آخذكما إلى الحديقة الخلفية ريثما تنتهي حفلة الزفاف ويفرغ المكان من الغرباء "
تفاجئ سروب فاعترض غير راضٍ :
-" ألن نحضر الحفل ؟"
ابتسم الخادم برفق فبانت تجاعيد وجهه أكثر :
-" معذرة،لقد قال لي السيد جلال أنه لا يريد أن يشك أحد غريب عن العائلة أو منها نفسها في هويتكما،فأنتما في الحقيقة تشبهان والدكما وبعض إخوتكما الكبار في ملامحكما شبها طفيفا لكنه غير عصي على التمييز "
لم يفارق عدم الرضى ملامح سَروب،أما ميّال فإنه تبع بلا مبالاة الخادم الذي التفت وقادهما عبر طريق يتفرع من مكان وقوفهما إلى جانب السور ويمتد على طوله في عمق الحديقة،ثم يلتف ثانية إلى اليمين ويمتد حتى يصل إلى الانعطافة الأخيرة التي تقود إلى ما وراء القصر.


- بعد ساعتين

سكنت الضجة أخيرا إذ لملمت الفرقة الغنائية أغراضها ورحلت،صار النسيم الليلي يمشي حرا وهادئا ويلاعب بيده الرقيقة أشجار وزهور الحديقة التي خلت من المدعوين،غير الجد جلال وعائلته لم يبقَ أحد جالسٌ إلى الطاولات البيضاء المزينة بالدانتيل الموشّى بالشّيفون البنفسجي،والمليئة بأصناف الحلوى التي بدا واضحا أنها وضعت للتو مكان التي استنفذها المدعّوون الراحلون.كان الجد جلال يترأسهم بجلوسه إلى الطاولة الأولى قرب بوابة القصر الداخلية ويقف وراء كرسيه خادمه الخاص،بينما تناثرت طاولاتهم قريبا منه حتى يتسنى له رؤيتهم جيدا كما طلب،وحتى يستمعوا لحديثه بوضوح.على الكرسي الذي بجانبه جلست زوجته فاتنْ،والملل يلوح على وجهها المزّين بأناقة،بينما في الطاولة الأقرب لهما،جلس العمّ عِصام وبجانبه أخته منال ونهلة،وعلى الكرسي الأخير جلس إياس بِكر عِصام.أمّا الطّاولة الثالثة والرابعة فقد توزّع عليها الباقون من أبناء السّيد جلال من مختلف الزوجات،وأبناء الكِبار منهم،ضِمنهم إليان ابن منال البكر،وراهب ابن نهلة الوحيدْ الذي لم يكن في هذا الوقت سوى مراهق.
تفحّصهم الجدّ جيدا بعينيه الزرقاواين من خلف نظارته الطبية،لقد كانوا جميعا صامتين،ينتظرون اللحظة التي يتحدث فيها،هذه هي العادة،عندما يكون الكبير موجودا فإن أحدا لا يسبقه بالحديث.التفت الجد إلى يمينه حيث كان ابنه الأوّل عِصام،وسأل بغية أن يطمئن :
-" هل خرجت العروس جيداء مع زوجها بعد وداعها لي فورا ؟"
-"نعم خرجت"
-"حسنًا"
وجه الجد أنظاره إليهم جميعا،ثمّ تكلم دون أن يرفع صوته الرخيم كثيرا وهو يمد يده المعروقة المتجعدة ليمسك بها يد فاتن التي لم تكن خالية من التجاعيد تماما :
-" أبنائي وبناتي وأحفادي،زوجتي فاتن . . بالتّأكيد لا يخفى عليكم أني جمعتكم لأمر مهم جدا،هذه الليلة بالذات،فإنها إضافة لكونها ليلة زفاف أولى حفيداتي،فإن لتاريخها ذكرى لها مكان عميق جدا في صدري،فقبل سنوات عديدة،مايقارب الثلاثين سنة،قبل أن أتزوج فاتن،اقترنت في نفس هذا التاريخ،بامرأة "
ما إن انتهى الجد من لفظ الكلمة حتى عاجلهم قائلا متجاهلا قدر استطاعته ريح الدهشة التي صفعت وجيههم و الشهقة التي خرجت من ثغر زوجته فاتن والتي جعلتها تسحب يدها فورا من تحت يده :
-" لا يقاطعني أحد،استمعوا إلى النهاية " إلا أنه لم يقل شيئا لهم بعد هذه الجملة،بل التفت إلى خادمه الخاص الذي أحنى رأسه ليسر إليه الجد،ثم مالبث أن أسرع وذهب تاركا جلستهم بعد أن سمع أمره.
تنحنح الجد ليوقف همساتهم التي اندلعت في وقت قصير كالشرارة،ورغم صدمتهم القوية منه إلا أنهم لم يفقدوا احترامهم لأبيهم بعد،أمّا فاتن،فقد كانت على قدر من الذكاء جعلها تدرك أن انهيارها وغضبها الآن لن يفيد،فالصرامة التي تراها الآن على وجه الجد تفيد أن كلمة واحدة منها لن تؤثر فيه وتجعله يندم،بل ربما حتى تخلى عنها هي،ومن الحماقة أن تغضب لأنه تزوج امرأة قبل أن يعرفها حتى،فإنه لم يمضِ على زواجها منه أكثر من تسعة عشرة سنة،لذا تحاملت على نفسها وأخذت تلهيها عن الغضب بإصلاح زينتها وتفقد شعرها ذا اللون الأحمر وهي تستمع إلى الجد الذي استئنف قوله بعدما صمت الجميع والشجن الذي يشعر به في صدره المتعب يتراقص شبحه على صفحة وجهه وفي عينيه :
- " هذه المرأة،شاء الله أن يأخذها أجلها بعد انقضاء سنتين فقط من زواجنا،لكن ومن رحمته بي أيضا،رزقني منها وقت موتها بذرية،لقد ماتت بعد الولادة،فورًا "
أيّ أحد كان قريبا من الجد وقتها،كان ليلاحظ الدمعة التي تجمعت في طرف عينه وكادت تنزل،إنه عجوز،وحاضر العاطفة،لم يستطع منع نفسه من الحزن الشديد،الآن وقتما تعصف الذكريات القديمة في رأسه،ولهذا بالذات،احتراما لذكرياته وشجنه الخاص،فإن أحدا من ذريته وقت سكوته وإطراقته،لم يتكلم،إنما أخذت الدهشة الحزينة بقلوب الصغار منهم من هذا الأمر الذي لم يتوقعوه أبدا،أمّا الكبار،عِصام،ومنال،ونهلة، وكريم،وفادية،وأسودْ،فإن حزنا ضئيلا،مختلطا بخيبة أمل قسرية لم يقدروا على صدها،قد ماج وهاج في صدورهم.خيبة أمل من والدهم لأنه لم يفكر يوما بأن يخبرهم،وكأنهم كانوا سيلومونه،إنه أبوهم الذي يكادون يسجدون شكرا لله كل يوم لأنه مازال حيا بفضل الله،حتى رغم هذا التعب والمرض الشديد الذي يتمكن ببطء منه،شيئا فشيئا،حتى يصبح غير قادر ربما على مغادرة سريره،إذا شاء الله.
رفع الجد رأسه وأبعد كفه عن عينيه،ممتنا رغم كل شيء لهذا السكوت الذي أحاطه به أبناؤه،والذي لم يكن ليدل على شيء في نظره سوى تقديرهم له واحترامهم المستمر له،أبدًا.
ثمّ عاود الكلام،وقد كان التّوأمان وقتها قد شارفا على الوصول إلى مكانهم :
-" والآن،جمعتكم تحديدا،لتروا إخوتكم،وإن كان في قلبكم من معزة لي،فإنكم ستحبونهم كما أحبهم"
ربما لم يكن مطلب الجد هذا مستحيلا على البعض،إلا أنه في رأس فاتن،وسط أفكارها العاصفة المتساقطة كالمطر،كلمة واحدة "مستحيل" كانت حية ومليئة بالدم تغطيها النوايا.وعلى الفور بحثت عن ابنتها،فوجدتها جالسة بجانب راهب،تتهامس معه.نظرت إليها بحدّة،لا سيّما أنها لا تطيق جلوسها المستمر مع هذا المراهق التافه،حتى ولو كانت خالته،لكن المشكلة أن هذا الصبي من النوع المدللّ الذي لا يستمع إلا لخشخشات رأسه وأوامره ولا تؤثر فيه نظرة،على العكس من آماليا التي انتبهت لأمها،وللأمر الصاعق في عينيها،فأطرقت برأسها والفهم لقصد أمها يكمد قلبها الذي كان فرحا للتو ومتشوقا جدا للقاء.لكنّ كمدها هذا لم يستمر،إذ سرعان ما لكزها راهب بمرفقه وهو يهمس لها :
-" ارفعي رأسك،لقد قال الجد أنهم سيأتون الآن"
رفعت رأسها،سكت الجميع يصغون لصوت الخطوات القادمة من الطريق الجانبي الذي يتفرع وينعطف حتى يلتف على بناء القصر بأكمله.أول من ظهر كان سَروبْ،كل الأعين كانت مترقبة،لكن فقط،حتى ظهر ميّال،انمسخ الترقب في أعين الكبار تماما،واستعمرها تعبير متأمّل مرتجف . .
- توأمان !
منال،كانت أول من صرخ،أما نهلة،فإن الذعر الذي تملكها كاد يسقطها مغشيًا عليها لولا أن لحقها إياس وأمسك بها ليسندها على كتفه هامسًا بقلق "خالتي".
هبط السكوت الملبد بالتساؤل والجهل على رؤوس الصغار البقية " وإذا ماكانوا توأمين ؟ ماذا في ذلك " فكّروا مستغربين.وفقط،الأقربون من جهة فاتن،استطاعوا رؤية الابتسامة المنتشية،وتعبير الغبطة الهائلة في وجهها الذي ولّته بعيدا عن التوأمين بعد أن لمحتهم مرة واحدة.
بدون سابق إنذار،انفجرت نادية بكاءً،ولفّ الأخوين عِصام وكريم جوّ قاتم حزين،لم يتجرأ أحد على الكلام سوى منال التي بكت بعد صرختها بصمت وهي تحدق بذعر في التوأمين المتصلبين بجانب طاولة الجد جلال :
- لماذا تعيد الماضي يا أبي ؟ لماذا فعلت ذلك ؟
دخل صوتها الحزين اللائم إلى أذن الجميع،لكنّ أحدا منهم لم يتأثر ولم تتخبط دواخله مثل التوأمين،ووالدهم الذي انهار رأسه على يديه بشكل يجسد خيبته الكبيرة،لقد توقع أن هذا ماسيحصل،لكنه رغم ذلك تكلّم مجيبًا وهو يحاول قدر استطاعته جعل صوته يطغى على البكاء والجو الكاتم :
-" هذا قدر الله،أتلومينني على شيء حصل بدون إرادتي ؟"
-" لكنْ لماذا الآن ؟ لم تفسد فرحتنا ؟"
لا،ليس هذه الجملة،هذا أقوى من أن يتحمله العجوز المسكين،لكن نادية كانت قد قالتها،بشكل سيجعل أي محاولة لتطييب أثرها تذهب هباءً أدراج الرياح.لكن كريم لم ييأس،وسرعان ماتعجل قائلا لأخواته الثلاث بصوته الذي لا يفقد تأثيره المهدئ أبدا مهما كانت الكلمات التي يقولها،بينما بقي عصام وأسود على هيئتهما المتحجرة وقد استغرقا في تفكير عميق :
-" حسنًا،هلّا هدأتنّ رجاءً ؟ إنني بالفعل لا أرى أحدا يفسد الفرحة سواكنّ،بدلًا من أن ترحبنّ بأخويكنّ تنغمسون في البكاء،انظروا إلى وجهيهما،وستدركنّ ماذا فعلتنّ !"
ولم يكن كريم كاذبا أبدا،إنّ التوأمين،وبالأخص سَروب،شلّتهما الصدمة،مرارة عظيمة وغير متوقعة أكلت توق عيني سروب الخضراواين،أمّا ميّال،فإنّ غمامة سوداء كست عينيه اللتين غلب عليهما اللون العسلي،وكاد اللون الأخضر فيهما أن يكون من الماضي.
نهلة كانت أول من استجابت لكلام كريم،تنهدت قليلا وبدا عليها الحياء،وعندما همّت بأن تقف وتمشي إلى حيث أبيها والتّوأمين سرعان مالحقت بها منال،أمّا نادية فإنها بقيت تجفف دموعها وقلبها يعجن أفكارها عجنًا دون أن تستطيع تقبّل المفاجأة أو التراجع عن ردة الفعل هذه.
مشت نهلة ومن وراءها منال،توقفت أمام كرسيّ والدها الذي مازال محنيا رأسه بأسى،بل إنها قلقت أنه ربما بكى مجددا حتى،مدت يدها إليه وهمست بندم :
-" أبي . .
انحنت أكثر وقبّلت رأسه معتذرة :
-" آسفة "
رفع الجد يده وحركها قليلا مشيرا لها بالابتعاد،كادت نهلة تفزع ظانة بأنه لم يسامحها،لكن نظرة منه طمئنتها،فذهبت قاصدة التّوأمين،كان سروب أول من لفتَ نظرها وجعل الندم من الداخل يحرقها،فتقدمت إليه واحتضنته،وسرعان ما لانَ بين أحضانها وهي تقول له :
-" سامحني يا أخي،سامحني،آه لو أنّك فقط تعلم "
في هذه الأثناء كانت منال قد اعتذرت من والدها أيضا،وما إن ذهبت من أمامه حتى اتجه نظره تلقائيا إلى نادية التي جلست وهي صالبة ظهرها بشكل يوحي أنها باقية على رأيها ولن تهتم،إنه يعرفها،ابنته هذه،لها رأس أصلب من الصخر،مثل أمها تماما،وبما أنها أصغر من أختيها،فإنها لم تعتد أو تتعرف على أهمية التنازل بعد.
أشاح ببصره عنها،وعمّ الجميع بنظرة تقول لهم "تعالوا"،ودقيقتين فقط،والتمّ الجميع على التّوأمين،ما عدا نادية التي بقت على عنادها،وأسود وعِصام،أمّا كريم فقد أسرع ليحتضنهما ويعتذر معللّا استقبال الكِبار الفظيع هذا بأن هناك سببًا قويّا جدا،ولا أحد يعرفه غيرهم.



- عِصام
نادى الجدّ ابنه الأكبر بعدما سحب البقية التوأمين معهم إلى الداخل،ولم يبقَ بالحديقة إلا هو وعِصام وأسود ونادية،أمّا فاتن فقد وقفت لتلحق بالجمع مدّعية أن الفضول أصابها وتريد أن تتعرف على التوأمين.لبّى عِصام نداء أبيه وذهب فلحق به أسود،أمّا نادية فعندما رأتهما يذهبان إليه وقفت وأسرعت إلى الداخل.وجلس الاثنان حوله،فتكلّم الجد وهو يسند رأسه على كف يده :
-" اسمعاني "
سرعان ما أومآ له مأكدين إصغائهما له فأكمل :
-" هناك أمر مهم آخر بخصوص التوأمين . .
امتلأت مداركه بالشجن ثانية :
-" لم تعش أمهما لتربيهما جيدا،ولم أستطع جلبهما إلى هنا وقتها،فإن مجيئهما ذلك الوقت يعني صنع مصيبة،فقد كانت أمهاتكم على قيد الحياة ذلك الوقت،ولم تكونا لتسامحانني . .
- وذلك يعني أن التوأمان سيعيشان منبوذين،لذلك كنت مضطرا لجلب مربية لهم . .
- مربية بريطانية تتقن اللغة العربية،ولكنها . .
- ليست مسلمة . ."
قطّب عِصام حاجبيه،أهذا يعني . .؟
ولم يتسنى لتساؤله أن يكتمل،إذ أكمل الأب :
-" ولهذا . .
اعتصر الألم وجهه رغما عنه :
-" فإنهما لم يتربيا كمسلمين حقيقين . .
أطرق برأسه :
-إنهما مسلمان بالاسم فقط،حتى الآن بعدما كِبرا واشتدّ عودهما،مازالا لم يعتادا على الالتزام بجميع الواجبات الدينية،لقد استهوت الدنيا قلبيهما قبل أن يستعمرهما الإيمان . .
تمعّر وجهه :
- حتى الصلاة،فإنهما لا يصليان إلا الجمعة وبعض الفروض المتناثرة إذا ألححت عليهما !"
وبالكاد أمسك نفسه عن البكاء مجددًا،لقد أخطأ،يعرف هذا،أخطأ كثيرا،لكن هذه النتيجة لخطأه،هي الوحيدة التي تهلك قلبه بالندم وتمرّه إمرارًا فظيعا،خصوصًا وأن لا شيء هنالك ليواسيه،لا في الأفق البعيد،ولا القريب،سوى أنّهما سينتقلان إلى هنا،وربما،ربما يتأثران بأخوتهم الشباب الحريصين على صلاتهم،رغم أنه يعرف في قرارة نفسه،أنهم قليل،ويعدّون على الأصابع،أولئك الحريصين !
منذ سكت الجد جلال،غرق أسود وعِصام كعادتههما في تأمل عميق وساهم،قطعه عليهم والدهم إذ تكلّم مجددًا وهو ينظر إلى نقطة بعيدة في الحديقة :
-" لهذا،أريد منك يا أسود أن تجعلهما رفيقان لك،وتسحبهما معك إلى أداء الصلوات قدر استطاعتك،أمّا أنت ياعِصام،فكلّم أولادك ووصّهم أن يفعلوا نفس الشيء،أرجوكم لا تتركاهما وحيدين،خصوصًا سَروب،ربّما بل من الممكن جدّا أن يحتمل ميّال الوحدة،بل ويسعى إليها قدر استطاعته،لكن سَروبْ،اجتماعي ومحبّ للناس ورقيق الحاشية،لا تدعوهما وحدهما،أبدًا،هذه وصيّة من وصاياي."
أجل،لقد كان واضحًا تماما من حديثه أنه يحب ابنيه هذين حبّا لم يحبّ مثله أحدًا من أبنائه الكثيرين من قبل،وفكّرا مندهشين،من كانت أمهما،حتّى يكنّ لها هذه المحبّة والمعزّة،حتى بعد موتها،يفضّل ابنيها عن أكثر أبنائه ؟
لا شكّ في أن حقيقة كونهما أول توأمين يولدان في هذه العائلة منذ وقت طويل لم تغب عن أذهانهما،لا ولا كون هذا يعني أن خطرا عظيما قد يحدق بالعائلة بسبب هذا،لكن احتراما لشجن والدهما،لم يفكرا بفتح الموضوع أمامه،أبدًا،وأجّلا النقاش فيه لوقتٍ لاحق،اتفقا على هذا عبر نظرة تبادلاها للتّو.
مضت دقائق من السكون،ثم قال الجد لأسود :
-" أعدني إلى الداخل"
قام أسود،وأمسك بمقبضي كرسي الجد جلال المتحرك،لفه بسهولة ليجعله أمامه ويوجهه إلى البوابة،ثم دفعه إلى الداخل بهدوء.


❀| ℓįgнт sPįяįт ~ غير متواجد حالياً  
التوقيع