شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   روايات عبير المكتوبة (https://www.rewity.com/forum/f202/)
-   -   107 غفرت لك- مارجري هيلتون- روايات عبير القديمة(كتابة /كاملة**) (https://www.rewity.com/forum/t100287.html)

أمل بيضون 23-01-10 04:16 PM

107 غفرت لك- مارجري هيلتون- روايات عبير القديمة(كتابة /كاملة**)
 
https://lh5.googleusercontent.com/-c...6620381462.gif

107 - غقرت لك - مارغريت هيلتون- روايات عبير القديمة
الملخص


الاخلاص فضيلة كالذهب, نبحث عنها ونادرا نجدها .ولكن الاخلاصايضا بوصلة عمياءوسط البحار قد تقود صاحبها الى شواطئ غير مرغوب فيها, كأية فضيلةأخرى يساء فهمها.


كارين رادكليف تفاجأ بعودة زوجها آرثر من جنوبي امريكا بعد غيابوانفصال طويلين, يغير حياتها رأسا على عقب بشخصيته الحازمة المسيطرة, واعتيادة علىالقاء الاوامر.


ذات ليلة تكتشف من حديث آرثر ومحاولته مغازلتها انه ما زال يكن لهارغبة دفينة كانت تظنها ماتت الى الابد, ولكن لوحة الشك بألوانها السوداء مازالت تقف بينهما كالقدر, تحيل حياتهما الى اكذوبة كبيرة,فهل تستمر هذه الاكذوبة حتى النهاية ...ام تجد البوصلة مرفأها المنشود, وتقودهما الى شاطئ الامان أخيرا؟

https://www.alsada.org/gallery/images/fa/0014.gif

يجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفي

أمل بيضون 23-01-10 04:18 PM

1- عودة المتاعب

يجب أن أراك .....
راحت كارين راد كليف تحملق في البطاقة التي كانت كلماتها تتردد في رأسها بلا أنقطاع , وأنصرفت عن كل ما ألفته من حولها في شقتها الصغيرة , ولم تعد تشعر الا بالصدمة التي أنتابتها وبالبطاقة البيضاء التي دفعت من تحت بابها تنتظر عودتها من جولتها السريعة في السوق التي لم تستغرق أكثر من نصف ساعة , لا بد أنه جاء أثناء ذلك , لقد عاد آرثر وكان هنا!
غاصت كارين بأعياء في أقرب مقعد ,وأرتجفت ساقاها ويداها فجأة حتى كادت البطاقة تسقط من بين أصابعها الواهنة , فماذا يريد؟ ولماذا؟ بعد كل هذا الوقت الذي قارب السنتين من الصمت .
قرأت الجمل الثلاث الموجزة : يجب أن أراك , من الواجب أن تتصلي بي خلال الأربع والعشرين ساعة المقبلة , ( فيستا ) "عيد" حلبة الرقص الشعبي حتى الساعة التاسعة , وبعدها الى البيت: آرثر .
كان الألحاح لمتناهي جليا في هذه الجمل , فتملكها الغضب .
تلك كانت طبيعة آرثر , لا كلمة رجاء في تلك الأسطر السوداء الصارمة , ولا حتى الكلمة التقليدية (من فضلك) , مجرد أستدعاء متعجرف , عاد الى البيت بعد سنتين , بعد كل ما حدث متوقعا أن يجدها مستعدة لأن تهرع لتلبية دعوته.
أنتصبت كارين واقفة تتجلى في عينيها القسوة ,عليها أن تتجاهل هذه الدعوة وتمزق البطاقة , مشت الى النافذة وأخذت تحملق في الحديقة المكسوة بالغبار وقصاصات الشاش حيث الأطفال يتدافعون ويتعاركون أثناء لعبهم , وفجأة فطنت الى أنها كانت تعبث بخاتم زواجها.


وراحت ترتعش من جديد , ليس من الصدمة أو الغضب , ولكن من الخوف ,فهل كانت هذه الدعوة تعني أن آرثر غيّر رأية وقرر أن ينشد حريته على الرغم من كل الأيمان التي أقسمها ؟ هل ألتقى بأمرأة أخرى؟
فجأة طرق الباب فأستدارت كارين مجفلة , وتدفق الدم عنيفا في عروقها ,هل هو آرثر ؟ هل عاد؟ ووجدت نفسها عاجزة عن الوصول الى الباب , وطرق الباب ثانية , ثم سمعت صوتا مألوفا يقول متبرما:
" هل أنت هنا يا سيدة راد كليف أنني وحدي على الباب ".
أسرعت كارين الى الباب وفتحته للمرأة السمراء ذات الوجه النحيل التي كانت تقف في الخارج , نظرت السيدة الى كارين وقالت:
" عرفت أنك رجعت يا عزيزتي , فأردت أن أعلمك أن زائرا حضر أثناء غيابك".
" أعلم ذلك ".
وأبقت كارين يدها على الباب دون أن تفسح مجالا لدخول جارتها , فلو فعلت لما خرجت من عندها قبل ساعة .
" هل ترك رسالة؟".
" أظن ذلك, قال أنه من الضروري أن يراك , يا له من رجل فائق الوسامة".
ولمعت عينا السيدة بيجنز وركزت بمرفقها ذراع كارين .
" جسيم , أسمر ووسيم , له نظرة تجعل المرأة تشعر بالرغبة الى....".
ووكزتها ثانية:
" أنت تعرفين!".
لم تبتسم كارين وأكتفت بأن هزت رأسها قليلا , كانت أعرف النساء بما لنظرة آرثر من تأثير , ولكنها أحست بشيء من الأشمئزاز وهي تسمع السيدة بيجنز تصف نظرته بتلك التلميحات الخبيثة , وتنهدت السيدة بيجنز بعد أن فشلت مداعباتها بأن تثير لدى الفتاة الشاحبة المتوترة أية أستجابة ثم أردفت:
"من المؤسف أن أفتقدته طيلة هذه المدة , دعوته أن ينتظرك عندي لكنه أعتذر , لا بأس ما دام قد ترك لك رسالة تحت الباب ".
فأجابتها كارين ببرود:
" أشكرك سيدة بيجنز على مجيئك لأعلامي , وعلى دعوتك أياه للأنتظار عندك , أسمحي لي الآن فأمامي عمل كثير".
خطت خطوة الى الوراء وبدأت بأغلاق الباب , فتراجعت السيدة بيجنز ومعالم الحيرة تبدو على وجهها , أغلقت كارين الباب وهي تتمنى- وليس للمرة الأولى – لو أنها أفلحت في أيجاد سكن لها في أي مكان آخر غير شقتها هذه لدى السيدة بيجنز , صحيح أن الشقة الصغيرة كانت مقبولة , وأجرتها في حدود الميزانية وصاحبتها على قدر كاف من الطيبة , ألا أنها كانت فضولية الى حد لا يطاق , تراقب حركاتها وسكناتها وتسجل عليها بعين الريبة الزيارات القليلة التي كان يقوم بها بعض معارفها ومع هذا فأنها تعرف أن من يبحث في لندن عن مكان يعيش فيه كمن ينقب عن الذهب في الأرصفة , لذلك أعتبرت نفسها محظوظة أن وجدت لها ملاذا في منزل السيدة بيجنز على ما هو عليه من مظهر وضيع وطلاء مشوه.
ولم يكن خارج المنزل أفضل مظهرا من داخله , حيث كان ولدا السيدة بيجنز الشديدا الصخب يتعاركان ويتشاجران معظم الوقت , ولكن كارين كان بأستطاعتها أن تغلق بابها بوجه الضجيج ورائحة السمك والبطاطس المقلية التي كانت تنبعث من الأسفل , وكانت تعتبر نفسها محظوظة أيضا لكونها تسكن على مقربة من طريق النفق الأرضية التي كانت تصلها بمقر عملها في المدينة ,حيث بدأت تعيد بناء حياتها من جديد , بعد أن مرت بأعصب تجربة في سنواتها الأثنين والعشرين.
أخذت كارين تعد وجبة طعامها , يساورها شيء من القلق وهي تحاول أن تجد تفسيرا لتلك البطاقة الصغيرة البيضاء , التي بدت وكأنها تملأ أرجاء الشقة كلها , فماذا تعني عودة زوجها بعد غيبته الطويلة ؟ ليس هناك ألا جواب واحد على سؤالها , هو أنه ألتقى بأمرأة أخرى , أن السنتين اللتين أمضاهما بعيدا كافيتان ولا شك لأن يلتقي بالكثير من النساء , حتى ولو أنه أمضى الجزء الأكبر من هاتين السنتين في جنوب أميركا , فلكم كانت النساء تتجمع حوله كتجمع الفراشات حول اللهب.

أمل بيضون 23-01-10 04:24 PM

أطبقت كارين قبضتها تحاول جاهدة أقصاء شجونها القديمة التي ظنت أنها تغلبت عليها , على الرغم من وعيد زوجها وقسمه أنه سيضع كل العراقيل في طريق أستعادة حريتها , ولكن أذا كان قد بدل رأيه وعزم على أن يطلقها ويمنحها حريتها فلماذا يجشم نفسه عناء الحضور للأتصال بها؟ أليس بأمكانه تكليف أحد المحامين للقيام بالأجراءات القانونية اللازمة؟ بالتأكيد أنه لم يأت لمجرد أن يلقي بتلك البطاقة الجافة من تحت الباب.
بدأت كارين بتناول طعامها , ولكنها لم تستطع , فدفعت الطبق بعيدا , وحتى الشاي سيخنقها لو تناولت منه جرعة واحدة , ماذا عليها أن تفعل الآن؟".
طال بها الجلوس الى المائدة , ومشاعرها تتخبط في داخلها كالأرجوحة المجنونة , ستكون أحمق من حمقاء لو أنها فكرت في رؤية آرثر ثانية , فذلك يعني أن تحرك السكين في جرح أوشك أن يندمل , لو كان يريد منها أن توقع على أية وثيقة لأمكنه ذلك عن طريق شخص ثالث , فلماذا جاء بنفسه ليقابلها؟ هل يتوقع منها أن تعرض نفسها للمذلة من جديد ؟ كلا , لن تراه , بمقدورها أن تكتب له رسالة باردة قاسية كتلك التي كتبها لها عندما أسدل الستار على مشكلتها المخيفة , تلك الرسالة التي يعلمها فيها أنه هيأ لها نفقة يدفعها لها أثناء غيابه , يمكنها أعلامه أنه يستطيع الأتصال بها عن طريق محاميها العجوز السيد كولينز , الذي أدار شؤون والدها مدة طويلة , فهو لا شك سيهتم بالأمر , ما عنوانه يا ترى.؟
أسرعت الى صندوق صغير حيث كان والدها يحتفظ ببعض أوراقه لعلها تجد فيه ذلك العنوان , فوقع نظرها على بعض الصور القديمة الباهتة , صور لها ولأمها وللبيت القديم في كانتربري حيث عاشت طفولتها الهانئة التي لا رياء فيها ,عندما كان آرثر وليزا وفينس كاين بعيدين عن المستقبل المحجوب خلف سحابة لم تكن ملامحها قد تبدت بعد في أفق الأيام.
أحست بوخز الدموع في عينيها فدفعتها بأنفعال , لقد بكت ما فيه الكفاية من أجل آرثر , ولن تسمح لدموعها أن تنساب ثانية مهما حدث.
تابعت البحث عن العنوان ولكن دون جدوى , فقررت الذهاب في اليوم التالي الى دائرة البريد لتبحث عنه في دليل الهاتف.
وقع نظرها ثانية على البطاقة البيضاء , فصبّت على آرثر اللعنات , لماذا لم يوضح سبب مجيئه ؟ لماذا عاد ثانية ليظهر في حياتها ؟ ولتقابله في الفيستا بالذات؟ وبدت عيناها هذه المرة خاليتين من أي أثر لدموع الذكريات , الفيستا , المكان الذي يرتاده عشاق الرقص الشعبي , المكان الذي أخذها اليه آرثر في لقائهما الأول , ذلك اللقاء الذي ما كان لينقضي عليه شهر واحد حتى أنقلب واقع دنياها الى دنيا العجائب حين طلب منها الزواج , والآن فأنه يتوقع منها أن تقابله في ذلك المكان نفسه , ليبحث معها الفصل الأخير لقصة بدأت هناك في تلك الأمسيات الساحرة الفاتنة........

أمسكت كارين بالبطاقة البيضاء ومزقتها أربا , ثم حملت حقيبتها ومعطفها وخرجت تسير في الليل , أمضت ساعة ونصف في أحدى دور السينما , ثم عادت الى شقتها بعد التاسعة بقليل , نسيت كل ما شاهدته في جولتها , ولكنها شعرت بشيء من الراحة لأنها تمكنت من أن تتحداه.
لم تجد بطاقة تحت الباب هذه المرة , ولم تهرع اليها صاحبة البيت تحمل لها بعض الأنباء , فأرسلت تنهيدة ضعيفة , لم تكن تتوقع أن يعود آرثر ,وبهذا الشكل المفاجىء , أرخت كارين الستائر وقد أستولى عليها أحساس بالوحدة , وأخذت تشعر ببعض الأعياء وهي تقوم بترتيب ما يلزم للمحافظة على أناقة الشقة , وبعدها أحست بحاجتها الى حمام , فحملت ما يلمزمها من ثياب ولم تنس أن تضع حذاءها بالقرب من الباب ومفتاح الشقة في حقيبتها الأسفنجية , ثم أطفأت النور وأغلقت الباب خلفها وعبرت الممر , هبطت درجات السلم الثلاث الى غرفة الحمام , وهناك أسلمت نفسها بأسترخاء تام للماء المنعش الدافىء , مكثت ساعة وخرجت بعدها لتجد الدار تقبع في ظلمة دامسة , لم تعجب لذلك فلاشك أن أحدهم قد أطفأ نور الممر , كانت قد ألفت مسالك المنزل فلم تجد صعوبة في تلمس طريقها , فتصعد الدرجات الثلاث وتعبر الممر الى باب شقتها , تريثت هناك قليلا لتنشر المنشفة ثم أدارت المقبض وأخذت تدفع الباب , وأذ بها تندفع خطوة حذرة الى الوراء وتجمد في مكانها , وجدت الشقة مضاءة وهي التي أطفأت النور بنفسها ,ولم تجد أثرا للحذاء الذي تركته قرب الباب.
بدأ قلب كارين يخفق بشدة من الخوف, فهل أقتحم أحد المتطفلين شقتها ؟\لا , لا يمكن لأي متطفل أن يدخل الدار دون أن تلحظه عين السيدة بيجنز الحادة.فلم تر قدمي رجل يختبىء خلفها.
دخلت كارين مترددة ال وسط الغرفة مستعدة للهرب فورا أذا لزم الأمر ,وأستبدت بها الحيرة عندما وجدت حذاءها ملقى على بعد أقدام من الباب , تساءلت هل هي قطة؟ لكن السيدة بيجنز لا تقتني قططا في منزلها , وفجأة سمعت صوت حركة من داخل غرفة النوم التي رأت بابها مفتوحا على مصراعيه , فقفزت الى الخلف وقد أنطلقت من فمها صرخة فزع وأصطدمت بأحد المقاعد , وأمتدت يدها الى عنقها من الخوف عندما شاهدت جسما طويلا يسد باب الغرفة , كان يقف هناك ينظر اليها , أنبعثت من فمها كلمة مخنوقة :
" أنت!".
تقدم آرثر بخطوات ثابتة الى الأمام كما لو أن له الحق في وجوده هناك وقال:
" نعم أنا, هل أخفتك؟".
" كيف تجرأت على دخول منزلي كما لو أنك...".
"وجدت الباب مفتوحا".
قال ذلك وأتجه نحو باب الشقة ودفعه بيده فأغلقه , فأستدارت كارين صائحة:
" ماذا تفعل؟".
" أغلقت الباب ".
وقف أمامها , يداه في جيبي معطفه والتحدي ظاهر على كل عضلة من عضلات جسمه , وقال:
" عرفت أنك لن تحضري فحضرت أنا".
تلعثمت كارين وهي تصيح:
" هل كنت تتوقع حقا أن أركض تلبية لدعوتك؟ يا للوقاحة!".
تجلت أبتسامة مرح ساخرة على فم آرثر وقال:
" أراك لا زلت تتلعثمين , فأنت بعد كما عهدتك لم تتغيري".
فثارت صائحة:
" وأنت أيضا لم تتغير , متعجرف وبغيض كما كنت , ما أشد غبائي , لا أدري كيف وقعت في حب واحد مثلك , أنك...".
فقاطعها ببرود:
" دعينا من الحب الآن , فلم أحضر الليلة لنبدأ قصتنا السابقة من جديد , لقد أستغفلتني مرة , وثقي أنني لن أدعك تعيدين ذلك مرة أخرى".
أشتعلت عينا كارن غضبا وصاحت:
" أخرج من نا , فليس لدي ما أقوله لك".
" لكن لدي الكثير لأقوله لك , ولن أخرج من هنا قبل أن أقول كل شيء".
كان الغضب البارد جليا في عينيه , فأرتجفت كارين وهي تصيح:
" أذن قله بسرعة وأنصرف! لم تكن بحاجة للمجيء الى هنا الليلة كي تطلب الطلاق , عرضت عليك ذلك منذ سنتين عندما أوضحت لي بأنك تكرهني".
فضم فمه بمرارة وقال:
" أتظنين أن هذا هو سبب مجيئي الليلة ؟ يا لك من خسيسة".
أسرعت كارين الى الباب وأمسكت بمقبضه وصرخت:
" هل هذا ما جئت تقوله لي ؟ حسنا فقد قلته, هل أكتفيت؟".
وفتحت الباب بعنف ووقفت تنتظره ليخرج , ولكنه وقف مكانه دون أن يتحرك , أصطدمت نظراته المريرة بنظراتها , وأطبق فمه بقوة محاولا أن يكظم غيظه , ثم تحرك ببطء عبر الغرفة وقال:
" لم أحضر الى هنا من أجلنا نحن , ولكن من أجل أليزابيث".
حدقت كارين في وجهه وقد ظهر عليها الخوف:
" أليزابيث ؟ ماذا حدث؟ هل أصابها مكروه؟".
" أنها مريضة".
" آسفة لسماع لذلك , هل الأمر خطير؟".
" أنها على أبواب الموت".
أغلقت كارين عينيها تحاول ألا تصدق ما سمعت , أليزابيث تلك المرأة اللطيفة , المرأة الكريمة التي أحبتها بمقدار حبها لأمها خلال الأشهر القليلة التي عرفتها فيها , المرأة التي يدين لها آرثر بالكثير , المرأة التي أقسمت أكثر من مرة بأن آرثر على أستعداد لأن يضحي بكل ما يملك ليجلب السعادة والهناء لكارين ,كلا, لا يمكن أن يكون ذلك صحيحا , نظرت الى آرثر فرأت معالم الألم المبرح على وجهه تكاد تهزم رباطة جأشه , فتأكدت من صدق الأمر.
سألت كارين بصوت منخفض:
"ماذا حدث؟ متى علمت؟".
" عندما عدت البارحة".
وأرتفعت كتفاه وهو يتابع :
" هل لديك شيء للشرب يا كار؟".
ناداها بأسم التدليل الذي أعتاد أن يناديها به من قبل دون أن ينتبه لذلك , فهزت رأسها بأسى وأسرعت الى الخزانة حيث تحتفظ ببعض الشراب وقالت:
" ليس لدي ألا شراب الكرز, تفضل".
وأقترب منها ليتناول الكأس من يدها وسألها:
" وأنت, ألا تشربين؟".
" كلا, شكرا".
أحست بقربه الشديد منها , وفطنت فجأة أنها ترتدي الثوب الذي أعتادت أن ترتديه عند خروجها من الحمام ,فشدته عليها وأحكمت حزامه ثم تابعت كلامها:
" أفضل أن أتناول الكاكاو مع قطعة من البسكويت قبل أن آوي الى السرير , ولكن دعنا من هذا يا آرثر وحدثني عن أليزابيت".
جلس على أحد المقاعد وقال متجهما:
" لا أعلم الكثير عن مرضها , أذ لم ألتق بأحد أطمئن منه عليها , ألم تشاهديها أنت؟".
فأجابت بمرارة:
":لا! بالطبع لم أرها , ألم نتفق بأنه من الأفضل أن نتركها تعتقد.... ولكنني لا أدري لماذا أتفقنا على ذلك , فأنها سوف تعلم ما حدث بيننا عاجلا أم آجلا".
" كلا يجب ألا تعلم , ليس الآن أطلاقا , أذا سولت لك نفسك أن تنكثي بالعهد-".
كان التهديد جليا في لهجته , فأشاحت بوجهها عنه كي لا يرى الألم والمرارة في عينيها ,وقالت بصوت حاولت أن يكون هادئا:
" أليزابيت لن تعرف الحقيقة مني أبدا , لكنني أود زيارتها , أشتقت اليها كثيرا".
نظر اليها بأزدراء وقال:
"هل حقا ما تقولين؟فاجأني قولك هذا , فات الأوان ولا حاجة لأظهار عواطفك".
أنتفضت كارين ورفعت رأسها بكبرياء وصاحت:
" أسمع يا آرثر , لا أنوي أن نبدأ الأتهامات القديمة التي لا طائل منها من جديد , صدقني أنني لشديدة الأسف لسماع خبر مرضها , وأذا كان بمقدوري أن أفعل شيئا , فما عليك الا أن تسأل , ولكن-".
فقاطعها بحدة:
" بالتأكيد يوجد ما يمكنك فعله ,ولسوف تفعلينه ولو مرة واحدة في حياتك الطافحة بالأنانية والغرور".
فأنفجرت صائحة:
" كيف تجرؤ! أظن أنه من الأفضل لك أن تنصرف قبل...".
وتوقفت فجأة عندما أطبق بيديه على كتفيها , وأجفلت متألمة أذ أحست بأصابعه تنغرس في بشرتها الناعمة , وأنبعثت منها صرخة خافتة عندما حملقت في عينيه الملتهبتين , ثم أفلتت منه مبتعدة.
سقطت يداه الى جانبه ولاح الشحوب في وجهه , وفارقها خوفها عندما لمحت حزنه العميق خلف ثورته العارمة.
قال لها بعد لحظة صمت:
" جئت أطلب هدنة ولكنني أرى أنني لم أحسن صنعا".
" هدنة! ماذا تعني يا آرثر".
أجاب من غير أن ينظر اليها:
" يجدر بي أن أشرح لك بعض الأمور , قبل بضعة أشهر كتبت اليّ أليزابيت تعلمني بأنها باتت تشعر ببعض التعب, وعزمت على قضاء عطلة طويلة عند عائلة ميتشلز- لا أظن أنك ألتقيت بهما- وهما صديقات قديمان لأيزابيت أستقرا في مارييلا بعد تقاعدهما , ويملكان دارا هناك , ثم بعثت الي برسالى ثانية تعلمني فيها بأنها سافرت الى صديقيها , وهي تتوقع منا أن نعود قريبا الى البيت لأنها في غاية الشوق لرؤيتنا".
أزدردت كارين لعابها بجهد , أذن فقد كتم آرثر الأمر كما وعد أن يفعل طيلة السنتين اللتين أمضاهما في أميركا الجنوبية تاركا لأليزابيت تعتقد بأن الأمور بينهما على ما يرام وأن كارين مع زوجها هناك...
وتأوه آرثر قائلا:
" يا الله ,كنت على حق , كان يجب أن نخبرها الحقيقة في حينها , لا شك كانت ستتألم وينتابها غم قاتل , لقد أحبتك وكنت شغلها الشاغل يا كارين , ومع ذلك فأنها كانت ستجتاز الصدمة مع الأيام , أما الآن فقد فات الأوان".
تنهدت كارين وظلت صامتة , هناك حقيقة لا مفر من أن تبينها لآرثر , لكن الفرصة لم تكن مناسبة لتواجهه بها الآن ,وهي أن خداع أليزابيت كانت فكرته هو وفكرته وحده , لأنه يدرك تماما لو أنها علمت حقيقة ما حصل بينهما لحاولت بكل الوسائل التي تملكها أن تسوي الخلاف بين الرجل الذي تعتبره بمثابة ولدها, وبين الفتاة الت أختارها عروسا له.
أرتعدت كارين من جراء ما راودها من أفكار , وأيقنت أن آرثر على صواب بسفره البعيد ,لأنه لو لم يفعل لعلمت أليزابيت بالحقيقة , لا شك أن معرفة الحقيقة تحررا من الوهم , ولكن فيها أبضا كثيرا من الحزن والأسى ... كلا , الأفضل ألا تظهر الحقيقة , لقد أختار آرثر السبيل الأكثر حكمة , مع أن تلك السبيل لم تجلب لنفس كارين شيئا من الراحة.
وتنهدت ثانية وقالت بهدوء:
" نعم فات الأوان , أظن ذلك, مسكينة أليزابيت!".
رفع آرثر رأسه بحدة ولمع التصميم في عينيه وهو يقول:
" ولكن لم يفت الأوان بعد لأن نجعل أيامها المتبقية سعيدة قدر المستطاع".
وخزتها كلماته التي تحمل معنى الأتهام وقالت:
" بالطبع لا! وبالنسبة لي , أذا كان هناك شيء بمقدوري أن أفعله لأجلها فعليك أن تسألني أياه , بحق السماء يا آرثر ألا تصدقني؟ صحيح أنني لم أعرف أليزابيت مدة طويلة , ولكنها كسبت أحترامي في المدة الوجيزة التي عرفتها بها وأصبحت أحبها حبا جما , وما حصل بيننا لم ولن يؤثر أبدا في مدى أحترامي وحبي لها".
هب آرثر من مقعده متجهما , وأتجه نحوها وعيناه لا تتحولان عن وجهها ,ووقف أمامها وقال:
" حسنا هذا ييسر السبيل أمامي لأقول ما يجب أن أقوله".
أنتظرت كارين حازمة أمرها ألا تذعن لوعيده , وأن تصمد بعناد أمام ألاعيبه القديمة التي لا يزال يتقنها لأستثارة العواطف , وأخيرا قال:
" جرى بيني وبين أليزابيت حديث طويل بعد ظهر اليوم , أبدت لي رغبتها بالعودة الى دلرسبك مسقط رأسها الذي أمضت فيه معظم حياتها الزوجية كما تعرفين , وبعد وفاة زوجها العم جيمس أذعنت لضغط العائلة وأنتقلت جنوبا حيث أشترت لها شقة في كرانتن بليس.
ليتنا تركناها تعيش حسب رغبتها في دلرسبك , لكن ليزا كانت بعيدة عنها بحكم عملها , وكان يستحيل علي! بسبب ألتزاماتي الكثيرة أن أعيش في دلرسبك , بالأضافة الى أن البيت كان كبيرا جدا , موحشا جدا , مليا بالذكريات , مما يجعلها لا تحتمل العيش فيه بمفردها بصحبة الخدم فقط , لكنني أتساءل , هل كانت أليزابيت مع ذلك سعيدة راضية بحياتها بعيدا عن دلرسبك ؟ لا أظن ذلك".
" لكنك أجّرت البيت , هل بعته؟".
" كلا , لم أترك أليزابيت تبيعه , لقد أجرناه فعلا , لكن المستأجرين أخلوه منذ بضعة أشهر , سأتةجه الى دلرسبك غدا لأجراء الأصلاحات اللازمة للبيت , وآمل أن آخذ أليزابيت اليه في الأسبوع المقبل".
طأطأت كارين رأسها , آرثر لم يتغير , فأذا عزم على أمر ما فأنه لا يتوانى عن أنجازه ولا يسمح لأحد أن يقف في طريقه ,ترى هل يعود ذلك الى كونه تحول من غلام فقير قدم من أحدى مدن الشمال , الى رئيس شركة هندسية ضخمة لها فروع في جميع أنحاء العالم؟
أنفرجت أسارير كارين وهي تنظر الى آرثر , كانت عادلة يتقييمها لسلوكه من غير أن تسمح لمشكلتها الشخصية معه أن تحرفها عن ذلك , لقد أحبته بسبب أخلاصه المتفاني للمرأة التي منحته الفرصة ليحقق طموحاته ,وقالت برقة:
" لقد سرني ما تقول, وأعتقد أن ما تنوي عمله سيجعل أليزابيت في منتهى السعادة".
" نعم, ماعدا أمر واحد".
كانت لهجته تعبر عن معنى واضح , فألتقطت أنفاسها وهي تقول:
" وما هو هذا الأمر؟".
" عائلتها – أولئك الذين تحبهم".
أبتلعت كارين لعابها وقالت:
" أليس ذلك طبيعيا؟ أتريدني أن أذهب لزيارتها؟".
" أريد أكثر من ذلك يا كارين".
"ماذا تعني؟".
" أريدك أن تبقي معي في دلرسبك , ما دامت أليزابيت بحاجة الينا".
حملقت فيه لحظة ثم قالت:
" طبعا , سأذهب معك لرؤيتها , ولكنني لا أستطيع البقاء ويلا يا آرثر ... يمكنني التغيب عن وظيفتي هنا , سأطلب أجازة بضعة أيام ولربما...".
وتوقفت عن الكلام عندما رأته يهز رأسه قائلا:
" أنك لست معي يا كارين , أو أنك تتعمدين ألا تفهميني".
أنفرجت شفتاها فزعا عندما أدركت ما يريده منها وتمتمت:
"كلا يا آرثر! أنك لا تعني....".
فقال بصرامة:
" بل أعني أنك ستأتين معي الى دلرسبك كزوجتي".
" كلا كلا! لا أستطيع بعدما...".
" بل تستطيعين وسوف تفعلين".

أمل بيضون 23-01-10 04:35 PM

2- الصفعة"
لأول مرة خلال ستة أشهر وصلت كارين الى عملها صبيحة اليوم التالي متأخرين عشرين دقيقة , لأنها عندما أستيقظت في الصباح مرتبكة على غير عادتها , أرتدت ثيابها وأخذت تعد أفطارها ساهمة تفكر في أحداث الليلة السابقة , فتناثر رذاذ الحليب على ثوبها مما أضطرها الى تبديله , وعندما خرجت من منزلها وجدت أن القطار قد فاتها ,فأضطرت أن تقطع المسافة التي تفصلها عن مقر عملها سيرا على الأقدام.
خرجت من باب المصعد , مرهقة متقطعة الأنفاس , وعندما وصلت الباب الزجاجي لغرفة السيد دراموند , كادت تصطدم بمديرها الذي كان يخرج من غرفته في تلك اللحظة , أعتذرت له وأعتذر لها , ثم تراجع الى الوراء وقال:
" كنت أتساءل ماذا حدث فأنا.....".
فقاطعته:
" نعم, لقد تأخرت .... أنني في غاية الأسف".
فأبتسم أبتسامته اللطيفة المعهودة وقال:
" لا بأس , أنك نادرا ما تتأخرين , ولن أحاسبك على هذا التأخير بسبب ما حدث".
حملقت كارين بمديرها الذي تابع حديثه:
" أنني آسف جدا يا آنسة رادكليف لسماعي خبر مرض أحد أفراد عائلتك فأنا......".
قطع حديثه عندما رن جرس الهاتف , فأشار لكارين أن تجلس ورفع السماعة , جلست كارين على طرف المقعد قلقة أثناء المكالمة تسائل نفسها ,ترى هل أتصل آرثر بمديرها؟ لا يمكن أن يكون هناك جواب آخر , فكيف عرف أذن بنبأ مرض أحد أفراد العائلة؟ آرثر لم يضيع الوقت سدى كما يبدو...
أنهى السيد دراموند مكالمته ونظر اليها , كان يبدو على وجهه الشاحب أثر الخيبة , وظهر ذلك جليا في لهجته عندما قال:
" فهمت الآن بأنك تحتاجين اى أجازة مفتوحة".
صمتت كارين مترددة بين أخلاصها لمديرها الذي يقدر ظروف موظفيه , وبين طلبات آرثر التي لا تراعي مصلحة أحد , ثم قالت:
" هل من الممكن...... أعني أريد أن أقسم وقتي بين عملي هنا وبين.".
فقاطعها السيد دراموند:
" كلا ,كيف يمكنك في وقت واحد أن توفقي بين عملك هنا وبين أعتنائك بصحة المرأة المريضة؟كلا , خذي أجازتك , وتأكدي أنك ستجدين وظيفتك بأنتظارك عندما تشعرين بأنك أصبحت حرة مرة ثانية , لقد كنت موظفة شديدة اتفاني في عملك يا سيدة رادكليف".
وأنحنى قليلا يستمع الى كلمات الشكر التي قدمتها له ثم سأل:
" ولكن لماا لم تطلبي مني هذا الطلب شخصيا وأنا كما تعرفين لا أضع حاجزا بيني وبين الموظفين؟".
عضت كارين شفتيها حنقا على آرثر وتدخله السريع بشؤونها وقالت:
" كنت سأطلب ذلك بنفسي ولكنني لم أسمع النبأ الا الليلة الماضية".
نظر اليها نظرة متفحصة وقال:
" أن لك بنادق قوية تقاتل من أجلك , لم أكن أعرف أبدا أنك تحظين بأهتمام رادكليف أو على الأقل بأن لك صلة بالعائلة".
فأجابت متلعثمة وقد صعد الدم الى خديها:
" أوه... لم يخطر ببالي أن أذكر ذلك".
فأبتسم قائلا:
" بالطبع لا, فالمسألة شخصية جدا , حسنا يمكنك الذهاب , غريبة هذه الأيام كيف أصبح المرض يفاجىء الناس دون مقدمات! دعينا نسمع أخبارك دائما".
" طبعا سأفعل , وشكرا على تفهمك لوضعي".
أدركت أنها قد تركت عملها الآن , أرادت ذلك أو لم ترد , أستدارت وخرجت من مكتب السيد دراموند , ولأول مرة في حياتها شعرت بأنها باتت مسلوبة الأرادة , غير مخيرة بما تعمل , قال لها آرثر أنه سيتصل بها وأعرب عن رغبته في السفر ذلك اليوم , ولهذا فمن الأرجح أن لا تراه مدة يومين على الأقل , أذن كان من الأفضل لو بقيت في عملها حتى يحين موعد سفرها الى دلرسبك الذي قد يتأخر بضعة أيام أخرى.
وقفت خارج باب المدير تفكر في الرجوع اليه , طالبة البقاء حتى يوم سفرها ,وكانت على وشك أن تفعل عندما سمعت صوتا يناديها , ورأت فتاة المكتب تسرع نحوها قائلة:
" حسبتك أنصرفت! أليك هذه الرسالة , تركها أحدهم قبل دقائق معدودة".
دفعت الصبية الصغيرة قطعة ورق في يد كارين وتابعت قولها :
" أصحيح يا كارين؟ أنك ستتركين؟".
أكتفت كارين بأن هزت رأسها , وراحت تحملق في السطر الوحيد :
" أتصلي بي هاتفيا قبل العاشرة والنصف صباحا".
رسالة بلا توقيع , لكن ما الحاجة الى التوقيع؟".
وتابعت الفتاة كلامها:
" لشد ما أنا آسفة , سنفتقدك حتما ,هل أستطيع أن أقدم لك أية خدمة؟".
شكرتها كارين ودفعت الورقة في جيبها ثم ودعتها وأسرعت بأتجاه المصعد , كانت ترغب بالفرار من المكتب قبل أن يهرع اليها بقية الموظفين الذين ولا شك علموا بتركها العمل الآن , وينهالوا عليها بالأسئلة , كانت متحفظة طيلة مدة عملها , ولما تحدثت عن حياتها الخاصة , المعروف عنها أنها قد تكون أرملة.
تركت كارين ما يشاع عنها على حاله , لأنها لم تكن ترغب في كشف الحقيقة وأثارة الأقاوي.
لحسن حظها لم تجد أحدا في ردهة الطابق لأرضي عندما تركت المصعد , فخرجت مسرعة الى الشارع وذهبت الى غرفة هاتف كانت في زاويته , ترددت قليلا ثم دخلت , وعندما بدأت تدير قرص الهاتف أخذ قلبها يخفق بشدة من الضيق والقلق.
تناهى اليها من الطرف الآخر صوت عميق يقول قبل أن تتلفظ بكلمة:
" كارين؟ .... عرفت أنك هي".
وردت ببرود:
" أخذت رسالتك ... لماذا هذا التصرف؟ لماذا ذهبت الى المكتب؟ لقد أنقطعت عن عملي , وأصبحت الآن بلا وظيفة , وددت لو أنتظرت حت ......".
فقاطعها قائلا:
" لا تبالغي يا كارين ,كان ذلك ضروريا , أصغي الي الآن وألا فاتنا الوقت , أريدك أن تعودي الى منزلك وتحزمي حاجياتك , سأحضر بعد ساعة لأصطحبك الى بيتي قبل أن أتوجه دلرسبك".
فصرخت كارين:
" آرثر أنتظر لحظة! لا أستطيع أن أرتب أموري بمدة ساعة فقط ... وأذا كنت تعتقد أنني سأعود لأعيش معك فأن وقاحتك لا تطاق ,وافقت أن أذهب معك الى دلرسبك ولكن ليس....".
فقاطعها بصوت حازم:
" لا خيار لك في ذلك ,ولا حتى لي , سألتني أليزابيت لماذا لم تكوني معي البارحة , أنها قادمة لتراك بعد ظهر اليوم , والأفضل أن تكوني هناك".
وأنقطع الأتصال , همت أن تتصل ثانية ولكنها ترددت لأنها كانت على ثقة بأن آرثر لا يمكن أن يبدل رأيه.
خرجت من غرفة االهاتف الى الشارع, ثم وقفت مترددة يغالبها شعور بأن تتصل بأليزابيت , قد تكون طريحة الفراش الآن وقد لا تكون , ليتها لم تكثر من الجدال مع آرثر في الليلة الماضية , وأستعلمت منه أكثر عن أليزابيت ,وفجأة غيرت رأيها وعدلت عن الأتصال بها , لقد قال آرثر(ساعة) وذلك يعني بالدقة ساعة! ولن لن تكون الساعة كافية لحزم أغراضها ومحاسبة السيدة بيجنز والأيضاحات التي عليها أن تقدمها أجابة على أسئلتها الفضولية!
أسرعت الى شقتها وتنفست الصعداء أذ ألفت السيدة بيجنز غائبة عن المنزل , ذلك سيفسح لها مجالا لحزم حاجياتها بأسرع ما تستطيع , أخذت كارين تطوي ثيابها وتضعها في الحقيبة التي ما لبثت أن أمتلأت , أنتابها الفرع فالوقت يمر بسرعة وأغراضها كثيرة لا تستوعبها حقيبتها الثانية , وقد تتأخر السيدة بيجنز أن تبقي الشقة محجوزة بأسمها لمدة غير محدودة؟ ذلك يعني أن تصبح معتمدة كليا على آرثر.
أخذت أعصابها تخونها , كانت قد أقسمت ألا تمد يدها الى النفقة التي خصصها لها آرثر , وشعرت الآن بأنه لن يكون أمامها أي خيار , آه لو أن هناك سبيلا آخر ! أطبقت غطاء حقيبتها الأولى وهي تغالب دموعها..
وفجأة فطنت الى شيء ... لكم هي أنانية! تفكر فقط في مشاكلها وتنسى أليزابيت , أرتعشت شفتاها من التأثر الشديد ,رباه! لماذا حصل لأليزابيت ما حصل؟ تلك المرأة الرقيقة الطيبة القلب التي لم تضمر الحقد ولا الكراهية في حياتها حتى لألد أعدائها .
فركت كارين عينيها ونظرت الى ساعتها ,حوالي العاشرة والنصف , سيكون هنا في أية لحظة , من الأفضل أن تخط كلمتين الى السيدة بيجنز تضمنها بعض النقود وتعلمها أنها ستتصل بها.
لم تكن أنهت رسالتها القصيرة حين سمعت أنصفاق باب سيارة في الخرج , أسرعت الى النافذة حيث شاهدت رأس آرثر المعتم وهو يتوارى داخل الباب الخارجي , تملكها دوار مفاجىء وراحت تبلل شفتيها الجافتين بطرف لسانها , أنتظرت متوقعة أن تسمع وقع أقدامه على الدرج , ولكنها سمعت رنين الجرس الخارجي يرن بألحاح , لم يكن أحد في البيت ليفتح له الباب! نزلت تركض بأتجاه الباب الخارجي , وراحت أصابعها ترتجف وهي تتلمس مقبضه ,نظر اليها آرثر نظرة أتهام وهو يقول:
" ظننت لحظة..".
قاطعته قائلة:
" لا يوجد أحد في الدار , يبدو أنها خرجت الى السوق وكنت....".
خطا الى الداخل مقاطعا كلماتها المرتبكة:
" أستلمت رسالتي , ذلك هو المهم , هل أنت مستعدة؟".
فأستدارت تسرع أمامه وهي تقول:
" كلا لم أنته بعد , عليّ القيام بكثير من الترتيبات ,وحزم الكثير من الأمتعة ..... ولم.".
" أتركي كل شيء , سأتدبر أمر أمتعتك فيما بعد , أحزمي فقط بعض الحاجيات الضرورية".
وصلا باب الشقة وعندما فتحته لمحت على وجه آرثر علائم الأمتعاض , وهو يجول بعينيه يتفحص ما في الداخل:
" أهذا أفضل ما أستطعت أن تفعليه؟ بيت رث في شارع خلفي وضيع ... يا ألهي لن أستطيع سبر غورك يا كارين".
فرمقته بنظرة باردة وقالت:
" قد يبدو لك رثا , لكنه نظيف ومحترم , ومريح بالنسبة لعملي وهذا كل ما يعنيني ,ويظهر أنك نسيت بأنه كان من المفروض أن أكون خارج البلاد السنتين الماضيتين , ألم يخطر ببالك أنني لو أقمت في مكان قريب من منطقتنا لكنت عرضة لأن يراني بعض معارفنا؟".
" ليس من الضروري أن تقيمي في مكان قريب من منطقتن ,لندن مدينة كبيرة!".
" والدنيا صغيرة!".
دخلت أمامه الى الشقة وتبعها , وحاولت أن تحمل حقيبتها الكبيرة ولكنها كانت ثقيلة , فمد آرثر يده القوية وحملها عنها , وحملت هي حقيبتها الصغيرة , وخرجا من الشقة وهو يقول:
" حسنا تذكري دائما الأتفاق الذي عقدنا بيننا ,وحاولي ألا تنسيه".
وبصمت نزلا الى السيارة , وبينما كان آرثر يضع الحقائب في صندوقها , تركت كارين الرسالة الصغيرة الى السيدة بيجنز في مكان من مدخل الردهة بحيث تستطيع رؤيتها عند عودتها الى البيت , ثم أغلقت الباب خلفها ...... أخذت مكانها على مقعد السيارة بالقرب من آرثر , وفجأة أنتابها أحساس غريب , فوجودها بالقرب منه بعد هذا الأنفصال الطويل أيقظ في داخلها طل الذكريات النائمة.... وبحركة سريعة أدارت رأسها وراحت تنظر من النافذة , لقد قررت المحافظة على أستقلاليتها , فالماضي هو الماضي , أختطت طريقها ولن تسمح لنفسها أن تتراجع عنها مهما كانت الظروف.
لم يقطع عليها آرثر تأملاتها وأستمر يقود السيارة بصمت حتى بلغ السوبر ماركت حيث أوقفها في مكان شاغر وقال بأيجاز:
" تعالي ........ خزائن الطعام فارغة".
وكما أعتاد آرثر سابقا , أخذ يجر العربة الصغيرة بين الصفوف المتراصة بأنواع الأطعمة ويعبئها بما يشاء من المواد الغذائة وكارين تراقب ما يفعل شاردة الفكر , لقد عاشت سنتين كاملتين وحيدة, تتسوق حاجياتها بمفردها وتدبر أمورها بنفسها , والآن فقد تلاشت السنتان بأقل من يوم واحد.
أخذ آرثر قائمة الحساب من المحاسبة , وتمتم متذمرا من الأسعار التي أزدادت كثيرا عما كانت عليه قبل سنتين , وكارين الى جانبه تتأرجح بها العاطفة بين تيارات أفكارها المضطربة , أذن فقد أصبحت متزوجة من جديد.
أنبعثت من داخلها همسة ساخرة تناهت الى مسامعها : ولكنك متزوجة ولا يزال آرثر زوجك ... وأستمر الصوت يهمس والسيارة تنطلق بهما من جديد ,جعلتها تلك الهمسات تجلس متشنجة في مقعدها الى جواره , جعلتها تلك الهمسات تجلس متشنجة في مقعدها الى جواره , وبينما الأمكنة والطرقات المألوفة التي تقود الى فالنتين كريف تعبر أمام عينيها , أخذت تشد يديها على حقيبتها تمنعهما من الأرتجاف , رأت الوميض القرمزي المنبعث من عامود العلبة البريدية في زاوية الشارع , ثم الخضرة الداكنة للطريق المحفوفة بالأشجار والتي تحجب جزءا من الدار المهيبة القائمة وسط الحدائق.
شعرت كارين بأنها تعود الى ما قبل عامين ونصف , عندما عادت برفقة آرثر من شهر العسل بالسيارة التي تباطأت عند البوابة الخامسة , ثم مرت تصرصر على الممر المغطى بالحصى لتقف أمام العتبة التي تنتظر العروس , منذ عامين ونصف , أرتفع أصوات الضحك والمزاح لأستقبالهما , وصدحت الموسيقى في أجواء الدار تتخللها أصوات شغب المستقبلين وهم يأكلون ويشربون ... أما الآن فلم يكن هناك سوى عصفور دوري يراقب من فوق أحد الأغصان قطعة صغيرة من الخبز تلاشت تحت دواليب السيارة الغاشمة , نزلا من السيارة ودفع آرثر الباب الذي أنفتح الى الداخل , حيث الصمت والبرودة , كأن الدار ذاتها كانت تنتظر بشيء من الشك , أن تعود كما كانت بيتا معمورا.

أمل بيضون 23-01-10 04:37 PM

وقف آرثر وأومأ لها بالدخول بشيء من نفاذ الصبر , ودخلت كارين ببطء.
كان صندوق السنديان المعتم , هدية زواجها , لا يزال في مكانه من الفاعة بالقرب من كوة الهاتف التي صنعها آرثر بنفسه من الزجاج وخشب السنديان.
والباب في نهاية القاعة مفتوح جزئيا , ومن خلاله أستطاعت كارين أن ترى رفوف الأواني البيضاء والسوداء اللامعة في المطبخ العصري الكبير.
دخلت كارين المطبخ يتبعها آرثر الذي راح يتفقد الخزائن , وقال:
" سأجلب ما تسوقناه من مواد وستتولين ترتيبها في أماكنها".
أستدار ليخرج ولكنه توقف عندما سمعها تنادي:
" آرثر ... لا يوجد في المطبخ أي شيء على الأطلاق... ألم تكن هنا ليلة البارحة؟".
" كلا.... ذهبت الى الفندق".
قطبت حاجبيها قليلا وقالت:
"ولكنك ذكرت في رسالتك أنك ستكون في البيت!".
فنظر الى وجهها وقال:
" لم أجد ذلك ضروريا بعدما رأيتك ,أنبأت أليزابيت بأننا أقمنا في الفندق بضعة أيام , لأن مستأجري البيت لم يغادروه الا اليوم".
" ولكن لماذا؟".
بدا عليه نفاذ الصبر وهو يقول:
" بالله عليك كفي عن هذه الأسئلة , أليزابيت ستتصل بنا هاتفيا الآن وتريد أن تكلمك , أخبرتها بالأمس أنك ذهبت الى مكتب الشحن لتستفسري عن فقدان أحد الصناديق الذي كنا قد شحناه قبل مجيئنا , وهي واحدة من سلسلة الأكاذيب التي كان عليّ أن أشرح بواسطتها سبب عدم وجودك معي البارحة".
أبيض وجه كارين وهي تقول:
" لا تنظر اليّ نظرة أتهام, أنت تعرف أنها ليست فكرتي".
فأجابها عابسا:
" أنا أعرف ذلك, ولكنني أريدك أن تعتادي على هذه الفكرة , وما دمنا نتكلم في هذا الموضوع , فقد كتبت بعض النقاط التي عليك أن تذكريها جيدا".
حملقت كارين في وجهه بينما أخرج دفتر مذكراته من جيبه وأنتزع منه ورقة ناولها أياها وقال:
" العنوان الذي كنا نقيم فيه... أي العنوان الذي من المفروض أنك كنت تقيمين فيه معي في سان باولو , وأسماء بعض معارفي , وكذلك موقع مشروع العمل ,وبعض التفاصيل القليلة الأخرى , ولقد أحضرت مع أمتعتي دليلا سأعطيك أياه لتدرسيه بأمعان , وسأساعدك على تفهمه عندما أعود ,يجب أن يبدو عليك معرفة الأماكن والأشخاص الذين من الممكن أن يمر ذكرهم في أحاديثنا , عندما نجتمع جميعا مرة ثانية".
أدركت بوضوح ما كان يعنيه , فأجابت واليأس يتجلى في عينيها:
" ولكنني لم أكن قط في أميركا الجنوبية , ولا أعرف عنها أية معلومات أولية , فكيف أستطيع التحدث عن مدينة وبلاد كأنني عشت هناك مدة سنتين ؟ لا أستطيع ذلك يا آرثر".
فقال بفظاظة:
" لا أتوقع منك ذلك , فقط أسكتي وأومئي برأسك موافقة على ما أقول, سأجعل الأمر سهلا بالنسبة لك بقدر أستطاعتي , وعليك أن تستمري في هذه اللعبة ما دامت أليزابيت بحاجة الينا وسأجزل لك العطاء , وبعد ذلك.... وبعد ذلك لا يعنيني لو ذهبت الى الشيطان".
تراجعت كارين لاهثة أمام قسوة كلماته , وأمتلأت عيناها بالدموع وصاحت بصوت مختنق:
" كيف تستطيع أن تقول كلمة( بعد ذلك) كأنك تقيس الزمن المتبقي من عمر أليزابيت؟".
" ولماذا لا؟ هي الحقيقة التي يجب أن نواجهها ".
فصرخت:
"أنك عديم الأنسانية! وقولك أنك ستجزل لي العطاء , يعني أنك تريد أن تستأجرني لتنفيذ فكرتك!أنك.....".
فقاطعها صائحا:
"نعم, ذلك صحيح أيضا أذا رغبت في تفسير ما قلته على هذا النحو , فأنا على أستعداد أن أستأجرك , أستطاع ذلك رجل آخر , فلماذا لا يستطيع زوجك؟".
هزتها كلماته هزة أودت بكل أثر للون في خديها , ومن غير أن تدري ما تفعل عبرت الغرفة ورفعت يدها كأنها عصا السوط, وصرخت:
" كيف تجرؤ........".
ودوت صفعة راحة يدها على خده كالطلقة ثم خيّم الصمت , وبحركة بطيئة كرجل أصابه الدوار , رفع آرثر يده يتلمس أثر الصفعة على خده, ثم أستجمع قوته وأطلق ذراعه بأتجاهها وهو يصيح:
" أيتها الثعلبة الماكرة! أيتها الكلبة الحقيرة! أستطيع أن أقتلك.".
وأمسكت أصابعه بعنقها والشرر يتطاير من عينيه.
وفجأة رن جرس الهاتف فقطع الجو المشحون وأعاد شيئا من الهدوء , سقطت يدا آرثر الى جانبه , وتراجعت كارين مرتجفة الى الوراء واضعة يديها على عنقها , أستمر الرنين فهرع آرثر الى القاعة , سمعت كارين صوته خشنا غير متزن ثم بدأ يهدأ تدريجيا وهو يقول:
" نعم, نحن هنا , لقد وصلنا منذ قليل..... نعم يا عزيزتي , هي هنا..".
راقبته كارين وهو يعود صامتا , ينظر اليها ويمد يده بالسماعة , أحست بساقيها تكادان أن تخذلاها وهي تتجه نحوه , وأستندت الى الطاولة , أخذت منه الآلة وهمست:
" هالو!".
وتناهى اليها صوت أليزابيت الناعم :
" كارين يا عزيزتي . أخيرا! ما أجمل أن أسمع صوتك ثانية , كيف حالك؟".
راحت كارين تبحث عن الكلمات وهي تشعر بجسم آرثر الطويل , الممشوق الى جانبها , وكادت تلعت نفسها لكلماتها الجافة المتكلفة التي خرجت من بين شفتيها:
"أنا بخير , كيف حالك أنت؟".
وبدا أن أليزابيت لم تلاحظ التكلف في كلماتها فأجابت بحيوية:
" أحسن بكثير بعد عطلت الطويلة , ولكن عودتك أفضل من أي منشط أتناوله , هل أنت سعيدة بعودتك الى البيت يا حبيبتي؟".
وكأنما سمع آرثر ما كانت تقول , فتحرك من مكانه محذرا , وردت كارين بنفس همستها المختنقة:
" أوه نعم , لقد أفتقدتك كثيرا ... وأشتاق لرؤيتك , وكذلك آرثر".
فقالت أليزابيت بصوت حاد:
" باركك الله , لن أطيل الحديث معك فأمامك عمل كثير , في الواقع أتصلت بك لأن آرثر طائش ,كيف يرى أن نذهب جميعا الى يورك شاير؟ لا أرى ذلك عدلا , تشرعين بالرحيل ثانية قبل أن يتسع لك الوقت لأن تلتقطي أنفاسك , أخبريه أن هذه العجلة ليست ضرورية , أنه لا يسمع مني!".
" لا يسمع منك ؟".
وتنهدت كارين تحدث نفسها:
" ... ولا مني أيضا....".
ثم أزدردت لعابها وتبعت:
" لا تقلقي ...... سنعتني بك وبنفس الوقت نمنح نفسينا قسطا من الراحة , فلماذا لا نترك كل شيء الى آرثر يتصرف حسب رأيه؟".
فأجابت أليزابيت وفي صوتها لهجة أحتجاج طفيفة:
" نعم يا عزيزتي, حاولت أن أفهمه بأنني لم أعد بحاجة للعناية , ولكن أستحالة عليه فهم ذلك , أنا أحسن حالا الآن , صدقيني , وعلى الأنسان ألا يعتبر كل كلمة يقولها الأطباء صحيحة , هم أنفسهم يعترفون بأنهم يخطئون أحيانا , حقا حذروني بأنني لست على ما يرام, ولكن لن أدع هذا الأمر يزعجني , وأريد منكما , أنت وآرثر أن تعداني بألا تقلقا من أجلي ,على أية حال فأن ما يهم هو ما أشعر به أنا شخصيا , ألا تعتقدين ذلك؟".

أمل بيضون 23-01-10 04:39 PM

لم تستطع كارين ألا أن تهز رأسها وتعبر عن موافقتها بصوت مكبوت.
تكلمت أليزابيت بصوت أكثر حدة:
" هل أنت بخير يا كارين؟ يبدو صوتك متوترا , هل أنت مريضة يا عزيزتي؟".
"كلا...كلا لا شيء , أنا.....".
أختطف آرثر السماعة من يدها وقال بصوت حاول أن يجعله هادئا:
" أمي , المرض الوحيد هو أن فاتولاة الهاتف التي سوف نستلمها ستكون مرتفعة أرتفاع البرج أن لم تكفي عن هذه الأحاديث الصبيانية , ستحضر كارين لتراك حالما ترتب أمورها , وسأراك أنا بعد يومين أو ثلاثة , هل هذا حسن؟".
من خلال غشاوة الدموه رأت كارين عبوسا غريبا على وجه آرثر وهو يستمع الى ما كانت تقوله أليزابيت , ثم ودعها ووضع السماعة ونظر الى كارين فشاهد دموعها التي لم تحاول أخفاءها , فتأوه بصوت ناعم:
" كفى بالله , يجب ألا تستسلمي".
هزت رأسها دون أن تنطق بحرف واحد, وهمت أن تتحرك مبتعدة , فأحست بيده تمسك بكتفها , حاولت أن تتملص فقال:
" كلا...... كلا يا كارين.......".
وشدها بعنف لتواجهه وتابع كلامه:
" أنني آسف , ما كان يجب أن أتفوه بما قلت قبل قليل.. كان ذلك...".
توقف عن الكلام ونظر اليها وعلائم العذاب تلوح في عينيه المظلمتين:
" وأنا آسفة أيضا ... آسفة أنني صفعتك, أنا لم.".
أشتدت قبضته على كتفها وقال:
" لا تقولي أي كلمة أخرى, علينا أن نحاول نسيان خلافاتنا. لن يكون ذلك سهلا ولكن يجب أن نحاول من أجل أليزابيت".
أرخى يديه وأستدار بحركة مفاجئة , ثم سار بخطى متثاقلة الى القاعة الخارجية , ووقفت كارين تراقب قوامه الطويل وهو يفتح الباب الخارجي ويتجه نحو السيارة , وعندما عاد بحقيبتها الأولى كانت قد تمالكت شيئا من رباطة جأشها ,ولكنها كانت تحس داخلها بقلق غريب , لقد ظنت منذ لحظات وهي تقف قرب الهاتف , بأن آرثر على وشك أن يضمها بذراعيه , ولكنه لم يفعل .... لم تكن تتوقع ذلك الفيض من الشوق المفاجىء .... لقد كانت قريبة منه وما كان عليه ألا أن يميل قليلا الى الأمام......
أخمدت جاهدة تلك الأفكار المزعجة , وأندفعت بحماس لتساعد في أدخال الأغراض من السيارة , لم يستغرق ذلك وقتا طويلا , وفي غمرة نشاطها راحت تبحث في صندوق المعلبات عن القهوة وعلبة الحليب , دخل آرثر الى المطبخ لا يبدو عليه أي أثر من آثار العاصفة العاطفية التي مرت قبل قليل , ورأها منحنية تجاهد لتفتح حنفية الماء فقال:
" دعيني".
أستقامت تاركة أياه يفتح الحنفية المستعصية بأصابعه القوية وقالت:
" سوف أعد قدحا من القهوة".
نفض الغبار من يديه وأصلح ربطة عنقه وقال:
" في الحقيقة لم يعد أمامي متسع من الوقت, علي أن أصل الى دلرسبك في الرابعة لتفقد المكان هناك, وأقوم ببعض الأتصالات الضرورية قبل أقفال الحوانيت".
" وماذا عن العشاء؟".
" سأتناول شطيرة في الطريق".
بدت عليه الرغبة في الأنصراف فرضخت على مضض , كانت تتوق الى تزويده ببعض الطعام يتناوله في الطريق , ولكنها آثرت الصمت , قاومت رغبتها في تجاوز حدود الكلفة بينهما , ما زال الوقت مبكرا , أو لعله فات الأوان ... ولاحت على وجهها علائم الحسرة وهي تفكر في ذلك , فجأة قال:
" هل تريدين شيئا قبل أن أذهب؟".
" لا أظن ذلك".
فرفع حاجبيه بأستخفاف وألقى على الطاولة بعض الأشياء وقال:
" لا تظنين ؟ وماذا عن هذه؟ مفاتيح أضافية للبيت .... في حال مفاتيحك لم تعد بحوزتك , بعض النقود , رقم هاتف دلرسبك ..... لقد غيروا الأرقام مؤخرا , وذلك الدليل!".
نظرت الى الأشياء الملقاة أمامها وألتقطت منها الأوراق النقدية وقالت:
" لست بحاجة الى هذه".
هز كتفيه وقال:
" ألقيها في الدرج أذن , ستجدينها هناك عند اللزوم".
بدا أنه لم يعد هناك ما يقال , وأحست بالألم من حاجتها الى بصيص من التفاهم , جسر واه للقاء في هذه العلاقة المنفصلة الغريبة التي أختار القدر أن يقحمها فيها.
خطا آرثر الى السيارة بعد أن ذكّرها بلهجة فاترة , أنها تستطيع الأتصال به على رقم دلرسبك أن جد شيء ما , والآن بعد أن أنهى المرحلة الأولى من خطته , لم يظهر عليه أنه يكترث بمشاعرها وهواجسها , ولكن لماذا يكترث؟ سألت كارين نفسها بعد أن أقفلت الباب , وأستدارت ببطء لتواجه الصمت الفارغ للدار التي كانت بيتها يوما ما , أن الأهتمام والمراعاة يتأتيان عن الحب , وآرثر لم تبدر منه أية بادرة عن شيء من ذلك , أنه لم يعد يحبها ,وتساءلت أن كان قد أحبها أصلا....

أمل بيضون 23-01-10 04:41 PM

3- زيارة في الليل
دخلت كارين المطبخ وأعدت لنفسها فنجان قهوة , المشهد العاصف مع آرثر هزها وأوهى قواها , أستندت الى أحد المقاعد الصفراء وراحت تهز الفنجان بأصابعها , كيف تواجه هذه المحنة؟ تعيش الكذبة من أجل أليزابيت , تددعي أنها وآرثر ما زالا يتقاسمان نشوة السعادة المفرطة التي عرفاها لفترة قصيرة , وتنتبه لكل صغيرة أو كبيرة من تصرفاتها خشية أن تفضح زواجهما المهشم على حقيقته .
أحست بحرارة القهوة تصل الى أصابعها , فتركت الفنجان ليبرد وراحت تحملق بعينين شاردتين في النقوش الشهباء والخضراء والصفراء على آجر الحائط , الجزء الوحيد الذي لم تحبه , كانت ترى عيونا متوارية في تلك النقوش الحلزونية الغريبة تبعث ومضات من الشر , ليزا هي التي أختارتها تقدمة منها للبيت , وأحبها آرثر لأنسجام ألوانها مع الألوان الأخرى , لذلك فأن ليزا عندما حضرت ذلك الصباح تحمل قطعة من ذلك الآجر , نموذجا للهدية التي أصرت على أن تقدمها ,وافق آرثر بقوله أنه لا يمكن أن يوجد بديلا أجمل منها .
ليت الزمن يعود الى الوراء , الى ذلك الصباح , الى ثلاثة أيام قبل يوم الزفاف..
أرتجفت كارين وأخذت جرعة من القهوة , ما فائدة العودة الى ليت والى المرارة؟ الى الترجي بأن معجزة بشكل ما , قد تبطل ذلك القرار المأساوي الخاطىء الذي شاء القدر أن يوقعها في شركه , لقد أعطت وعدها , ولو أنها عرفت ما سوف يقود اليه وعدها الصامت....
هبت كارين منسلة من المقعد وغسلت الفنجان الذي بيدها , لقد صممت على أن تكف عن التفكير في أستعادة ذكريات الماضي التي لا جدوى منها , فطالما ستقضي الأيام القادمة وحيدة عليها أن ترتب غرفة لها , وترى ما يجب عمله للبيت الذي كان مشغولا من قبل مستأجرين لمدة سنتين.
عند أسفل الدرج أحست بمقاومة غريبة للصعود , أطياف مسرات الماضي وأشباح التعاسة كانت تنتظرها في ذلك البيت الصامت , كا خطوة تبعث ذكرى , فهناك الدلفين الفضي الذي جلباه معهما عند رجوعهما من شهر العسل في فلوريدا , لا يزال محفوظا في كرته الزجاجية ذات اللون الأزرق الموشح بالأخضر , على رف مقوس صغير , ذكّها ذلك الرف يوم قام آرثر بتثبيته في الحائط فجرح يده بالأزميل جرحا عميقا , وكيف أصابها الهلع عند رؤية الدم في كل مكان , ولم تعد تدري أتستدعي الطبيب أو تقوم بتضميد الجرح , وكيف ربطت منشفة حول الجرح وأخذت آرثر بالسيارة رغم أحتجاجاته الى طبيب , كانت في غاية القلق عند رجوعهما الى البيت , أذ أخذت تذكر قصص العجائز عن الأصابة بمرض الكزاز أذا أصيبت قاعدة الأبهام بجرح , مما أثار ضحك آرثر , فسخطت عليه وعندهاسحبها اليه قائلا بأنه يستطيع منحها الحب بيد واحدة...
رجعت كارين بتفكيرها ثانية الى حاضرها ,وتابعت جولة التفتيش , لقد ترك المستأجرون البيت نظيفا للغاية , والشيء الوحيد الذي خلفوه وراءهم هو صرة نظيفة على ظهر صندوق البياضات تحوي كيسي وسادة , ولحافا مزدوجا وزوجا من المناشف , كانت رسالة صغيرة مثبتة بالمنشفة العلوية وورقة نقدية مطوية من فئة الجنيه , مكتوب في الرسالة :
" جزيل الشكر لتأمينكم أيانا على بيتكم , حاولنا جهدنا أن نتركه بالشكل الذي نرغب على أن نجد بيتنا بعد رجوعنا اليه , عفوا لتركنا هذا الجنيه , آملين أن يغطي نفقة الغسيل , سوجلبرن".
شعرت كارين بالشكر لأولئك المستأجرين , وهبطت بالأشياء فوضعتها في الغسالة , لم يكن أمامها عمل كثير , أذ لا حاجة لأعداد البيت بشكل كامل , حيث أنهما على وشك أن يغلقاه ثانية لأمد غير محدود.
بعدما نشرت الغسيل ليجف في الحديقة الخلفية , أعدت لنفسها غداء خفيفا , ثم صعدت الى غرفة النوم الصغيرة التي قررت أن تنام فيها لتهيء بعض البطانيات , كانت أشد غرف البيت برودة , ولكنها أختارتها لتتجنب فيها ذكريات غرفة النوم الرئيسية.
تنهدت , ولم تستطع مقاومة أنفتاح خيالها على فيض الذكريات , لقد عاشت هناك فترة غرام عنيف , قبل يوم واحد من زفافهما تم توقيع عقد شراء البيت الذي غادروه فورا الى شهر العسل , وعند عودتهما ألفيا البيت في فوضى من الطين وكسارة الحجارة ,كانت أشرطة الكهرباء متدلية في كل مكان , وحنفيات الماء معطلة , وفي غمرة تلك الفوضى أقاما حفلة صاخبة , وتمثلت أمام عينيها أحداث تلك الحفلة التي حضرها بعض الأصدقاء ,كانت ليلة حافلة بالمرح والبهجة والنكات , وكم ضحكت هي وآرثر....
ولكن ما كانت تلك الليلة السعيدة الا مقدمة للكارثة! في تلك الليلة قابلا طوني فوستر , ذلك الغريب الذي كان يرافق أحد أصدقاء آرثر , الغريب الذي وضع الحلقة الأولى في السلسلة التي قادت الى لقاء فينس كاين الفنان الشهير , وكان بداية الأنحدار الى المأساة التي حطمت سعادة فتاة بريئة , وهمست كارين : سعادتي أنا!
أمتلأت عيناها بالدموع , فكفكفتها ساخطة , وصاحت بصوت كاد أن يكون عايا طالبة من نفسها أن تكف عن التفكير : كل شيء أنتهى وفات الأوان , ولكن كيف يمكنها أن تكف عن التفكير وقلبها يصرخ من المرارة والعذاب ضد ظلم القدر؟ لماذا يجب عليها أن تعاني تلاشي أحلامها ؟ وثقت بحب آرثر لها , ولكنها بعد حين أكتشفت عدم ثقته بها , لقد صدّق عنها أسوأ الأمور ولم يعطها فرصة واحدة كي تدافع عن نفسها ما أتهمها ... آلمها ذلك أكثر بكثير من كلماته الجارحة التي صبّها عليها عندما...
أفاقت من ذكرياتها على رنين جرس الباب الذي عكّر السكون من حولها , من يكون القادم يا ترى؟ هل.؟ وفجأة تشنجت مفاصلها , فهل يمكن أن يكون آرثر؟
أستخفت كارين بنفسها للرعشات الصغيرة المجنونة التي أنتابتها وهي تهبط الدرج , لا بد أن يكون الطارق أحد البائعين , أو قارىء عداد الكهرباء ... لا أحد يدري أنها عادت الى البيت , وعندما فتحت باب البيت صاحت وقد تملتها الدهشة , فهناك كانت تقف أليزابيت.
حملقت كارين طويلا بشيء من الشك في القوام النحيل الجذّاب لوالدة آرثر بالتبني , ثم فتحت أليزابيت ذراعيها وضمت كارين اليها بقوة وهي تقول:
" أرجو ألا أكون قد أزعجتك , لكنني لم أستطع ألا أن آتي لرؤيتك , أن كنت مشغولة فقولي ذلك يا حبيبتي!".
" كلا! سوى أنني .... أنا.........".
فضحكت أليزابيت وقاطعتها :
" لم تتوقعي حضوري؟ شكرا للسماء فأنا ما زلت قادرة على الحركة".
شهقت كارين شهقة عميقة , فلم تكن تعرق كيف سيكون لقاؤها الأول مع أليزابيت بعد سنتين من الفراق , بالطبع لم تكن تتوقع أن ترى أليزابيت تختلف كثيرا عن المرأة التي عرفتها , ربما أنحف قليلا ,والشعر الناعم الأشقر غلب عليه البياض , أما عيناها الزرقاوان فلا زالتا صافيتين لامعتين , وبشرتها الوردية البيضاء لا زالت بضّة ناعمة , وشخصيتها الدافئة لا زالت في تمام حيويتها ,ولكن أذا دقق المرء النظر أليها , يستطيع أن يلمح ظلال الألم تحت عينيها , وعلائم الضعف تبدو أكثر جلاء مما كانت عليه.
وتابعت أليزابيت كلامها:
" ظننت أن بأستطاعتي مد يد المساعدة , أن الأبتعاد عن البيت مدو سنتين , يجعله محتاجا الى عمل كثير لأعادته الى ما كان عليه".
أستمرت أليزابيت في حديثها وقد غلبتها عواطفها التي ظهرت واضحة في عينيها :
" أنه لرائع أن تعودي الينا ثانية , فالمدة التي غبتها عني كانت أطول سنتين في حياتي".
أحست كارين بغصة في حلقها , ولكنها تمكنت من الأبتسام , وأفسحت المدخل بلطف وشدت أليزابيت الى الداخل وهي تقول:
" رائع أن أراك ....أدخلي وسأعد الشاي".
قادت أليزابيت الى غرفة الجلوس وأسرعت تعد الشاي , وأعطاها هذا العمل البسيط الفرصة لأستعادة رباطة جأشها ,وعندما عادت بالصينية كانت قادرة أن تقول بلهجة عادية لا تكلف فيها :
" خرج آرثر منذ قليل , لو كنت بكرت قليلا لرأيته".
أخذت أليزابيت قدح الشاي وقالت:
" لم أكن أريد رؤيته , أريد التحدث اليك, وهذا في الواقع سبب قدومي الآن".
هوى قلب كارين بين جنبيها , ماذا حدث؟ هل عرفت أليزابيت الحقيقة؟ وجلست قبالتها تنظر اليها في شيء ن القلق وسألت:
" لماذا ... هل هناك خطأ ما؟".
أخذت أليزابيت تحرك السكر في كأسها وقد غلب عليها التفكير ثم نظرت الى كارين وقالت:
"كلا يا حبيبتي , ليس تماما , ولكنني قلقة عليك بسبب مشروع الأنتقال هذا , أنا لست مسرورة أبدا من فكرة آرثر هذه , عن أنتقالنا جميعا الى دلرسبك , وطبعا لست بحاجة لأخبرك عن آرثر , فهو أذا عزم على أمر لا تستطيع أية قوة أن تغير رأيه , ولكن ما أخشاه هو أن تشعري بأنك مكرهة على هذا الأنتقال".

أمل بيضون 23-01-10 04:43 PM

تنفست كارين الصعداء , وقالت بسرعة:
" كلا بالطبع! أعتقد أنها فكرة رائعة".
فقالت أليزابيت بهدوء:
" أتعتقدين ذلك؟ حسنا , أما أنا فلا , هذا منتهى الظلم , أنه لا يعطيك فرصة للنزول من الطائرة حتى يطلب منك الأستعداد للرحيل من جديد".
أجابت كارين بحزم:
" هذا أقل ما يزعجني , أرجو ألا تعطي هذا الأمر شيئا من أهتمامك".
تنهدت أليزابيت وقالت:
" أخشى أن ليزا لن توافقك على هذا الرأي ,فأنت تعرفين كما أعرف أنا أنها ستتبرم من الضجر قبل أن تمضي عليها خمس دقائق في دلرسبك , وهذا يعني أن على كليفورد تبديل وجهته الى يورك شاير في عطل نهاية الأأسبوع , وهذا متعب جدا بالنسبة له , كما عليه أن يعود الى شقة لا أنسان فها خلال الأسبوع ,والمشكلة أن آرثر يرفض أن يصغي , وأنا أتساءل أن كان بوسعك أنت أن تثنيه عن فكرته ".
كادت كارين أن تنفجر ضاحكة , لوأن أليزابيت ندتدري! فلقد أكرهها آرثر هي نفسها على أن تتخلى عن شقتها , أن تفقد عملها الجيد , وتركب متن خديعة تحمل بين طياتها تهديدا دائما بكارثة مدمرة , قالت بصوت عال:
"أنا؟ لقد عقد آرثر عزمه وأنتهى".
فقالت أليزابيت منزعجة:
" نعم , كنت أخشى ذلك , ولكن المشكلة هي أنني لست متأكدة من أن رأيه هو الأفضل , أعلم أنه يفعل ذلك من أجلي , وأنني أشكره من أعماقي على ذلك , ولكن الغريب أنه لم يحدث أن تدخل من قبل بهذه الصورة للعمل على أسعاد أمه!".

تقوّس فمها الجميل وتابعت بسخرية:
" دعينا نواجه الموضوع , فلو أنك مكاني , هل تشعرين بالحماس الشديد لأن يتجمع أهلك حولك ينتظرون موتك؟"
أرتفعت يد كارين الى عنقها وتمتمت:
" كلا, كلا! أنا متأكدة أن آرثر لا يقصد.......".
فقاطعتها أليزابيت بصوت جاف:
" لا يقصد؟ ولكن تلك هي الحقيقة , أليس كذلك؟ آرثر لا يريد أن يرى الأمر على هذا النحو , أنه يعتبره أجتماعا جميلا حميما لشمل العائلة , الجميع يتقرب من الوالدة محاولا أن يجعل ما تبقى من عمرها هانئا وسالما معافى بقدر الأمكان".
توقفت أليزابيت عن الكلام وعيناها تشعان بالعاطفة الصادقة , أفترت شفتاها عن أبتسامة خفيفة وهي تنظر الى الأسى الذي تجلى على وجه كارين , وقالت:
" لا تتألمي يا عزيزتي , لن أسمح بمستقبل بارد سلبي كهذا , أنني أعرف الأمور التي يجب أن أتغلب عليها , وما يهمني الآن هو أن أقنع الناس بأنني في تمام الصحة وأفضل بكثير مما كنت عليه قبل بضعة شهور , ولن أسمح لأي أنسان بعد اليوم أن يلفني بالقطن الطبي حتى ولو كان هذا الأنسان أحد أفراد عائلتي الحبيبة , لا شك سينهكهم التعب قبل مدة طويلة من تحقق ما يخشونه".
لم تدر كارين ما تقول , كان في وجه أليزابيت الشجاع أمل متوهج يصعب أخماده , فهل أخطأ الأطباء؟ وهل يمكن تخمين ذلك؟ كانت أليزابيت قد طلبت من آرثر أن يعلمها حقيقة رأي الأطباء بصدق , وجاء قرارهم تكهنا مغايرا لذلك التخمين , لو أن أليزابيت أختارت طريقها الخاص للتفاهم مع القدر , فما على الجميع ألا أن يحترموا رغباتها.
سكبت أليزابيت لنفسها كأسا ثانية من الشاي وألتفتت الى كارين قائلة:
" لقد أعلمت آرثر بأنني أحب دلرسبك في الربيع والصيف وحتى في الخريف , ولكنه أذا كان يتصور بأنني سأقضي الشتاء القادم هناك فالأجدر به أن يحرر نفسه من هذا الوهم , أنا ذاهبة الى ماريبللا في شهر تشرين الثاني( نوفمبر ) أن شاء الله".

أمل بيضون 23-01-10 05:37 PM

عضت كارين شفتيها وقالت:
" يعتقد آرثر أنك غير سعيدة في تلك الشقة ".
"حسنا , أنا لست سعيدة هناك , ولست أدّعيأنني لم أكن أعاني من الشوق اللاهب لرؤية دلرسبك , ولكنني بدأت أشعر بالندم الآن لأنني لم أكن أحس نحوها بمثل هذه اللامبالاة من قبل , لقد أنطلق بي آرثر اليها بسرعة البرق , وفي خلال ساعات جعل الحركة تدب في كل شيء".
نعم بوسع آرثر أن يفعل ذلك , حدّثت كارين نفسها بمرارة وقد شرد ذهنها , على الرغم من الوحشية التي عاملها بها , وعلى الرغم من قساوة عمله , فقد كان يكن أحتراما وأخلاصا بالغين للمرأة التي منحته حبها وعنايتها في الوقت الذي حرمه العالم من أي عطف....
كثيرا ما أنتابها شيء من الفضول لمعرفة ذلك السر.. الجزء المغلق من حياة آرثر المبكرة ... ما لم يتحدث عنه ولو بكلمة واحدة حتى في أكثر الأوقات قربا ومحبة , الشيء الوحيد الذي كانت تعرفه هو أنه كان يتيما , وأن أليزابيت وزوجها أدخلاه بيتهما عندما كان في الحادية عشرة من عمره , وأن تلك اللحظات كانت المرة الأولى التي أحس بها بالحب والحنان في حياته , وفجأة هبّت كارين واقفة وأتجهت نحو أليزابيت , أنحنت وأحاطت كتفيها بذراعيها وقالت:
" أرجوك يا أليزابيت , حاولي ألا تشغلي بالك بهذه المسألة , وأتركي كل شيء لنا , وأنني أعدك ألا أدخر وسعا في جعل آرثر يتركك تعالجين الأمور بالطريقة التي تريدينها , سترين أن كل شيء يجري على ما يرام , أنا متأكدة من ذلك".
أبتسمت أليزابيت أبتسامة مرتعشة وقالت:
"باركك الليه , أنني أمرأة محظوظة أن يكون لدي أبن وكنة رائعان مثلكما".
وتناولت قفازيها وحقيبتها وتابعت:
" والآن يجب أن أعود وألا فأن ماجدا ستثور كالدجاجة العجوز".
" ماجدا لا زالت معك؟".
" نعم , بالطبع , لقد آن لها أن تتقاعد وترتاح , ولكنها ترفض أن تتركني ".
رافقتها كارين الى الباب وهي تؤاخذ نفسها لأنها أكتفت بسؤال لا مبال عن (ماجدا)تلك المرأة الأمينة التي بقيت في خدمة أليزابيت منذ زواجها قبل أربع وثلاثين سنة.
فجأة أستدارت أليزابيت وقالت:
" على فكرة يا عزيزتي , أود أن أشكرك على رسائلك الطويلة الجميلة التي كتبتها لي أثناء غيابك , أمتعني جدا أن أتلقى أخباركما بأستمرار , كانت مطبوعة بشكل أنيق , لا أدري لماذا يعتقد الناس أن طباعة الرسائل تجعلها أقل خصوصية وأقرب الى الرسمية , أنا أرى عكس ذلك , فهي أسهل للقراءة وخصوصا أن البعض تصعب قراءة خطهم".
أحست كارين بشيء من الحرج وهي تتلقى الثناء على شيء لا تستحقه , فماذا كان آرثر يكتب في تلك الرسائل يا ترى؟".
وقفت تراقب أليزابيت حتى توارت في سيارتها عن الأنظار ثم أغلقت الباب , أخيرا كانت قادرة أن تنزع قناع الحذر عن وجهها , لم يعد لديها أدنى شك بعد لقائها بأليزابيت في صحة ما أخبرها به آرثر , لقد أجتازت تجربتها الأولى بنجاح مع أليزابيت , ولكن ما يخبئه لها الأيام القريبة القادمة سيكون ولا شك أشد خطورة , ففي الأسبوع المقبل سيجتمعون جميعا في دلرسبك مع شبح المرض الماثل أبدا في وجه أليزابيت , ومع شظايا الزواج المحطم التي عليها أن تخفيها, وذلك بالأضافة الى ليزا ...
أحست كاترين بالبرودة تتسرب الى قلبها المتوجس خيفة من المستقبل ,ولكن هل من مفر؟ لقد أعطت وعدا وهي تشعر في قرارة نفسها أن ليس لديها الرغبة بأن تنكث بوعدها ,وهناك أمر آخر , فأنها شعرت بما كانت تقنع نفسهابه من أنها لم تعد تبالي بآرثر غير صحيح , وهذا معناه أنها ستعيش كذبة أخرى...
كانت الأيام الثلاثة التالية أشد أثارة للقلق من كل ما مر عليها من أيام , لم تسمع كلمة من آرثر ... وهذا طبيعي فهو لا يكلف نفسه بالأتصال الا أذا كان هناك شبب جديد.... ولا سؤال من ليزا ,وهذا لم يدهشها لأنها كانت تحس بالحاجز الذي يمنعهما من التقرب أحداهما الى الأخرى لتصبحا صديقتين حميمتين.
أتصلت أليزابيت مرتين أو ثلاثا , وفي المكالمة الثانية أعلمتها أن ليزا وزوجها سيحضران للعشاء معها في ذلك المساء , وتود لو أنها تحضر أيضا , شعرت كارين بهلع لا مبرر له ,وأعتذرت بأنها مرتبطة بموعد آخر , وقبلت أليزابيت أعتذارها : أرخت كارين السماعة من يدها وهي تشعر بحرارة خديها للكذب الذي بدأ ت تألف ممارسته , ومع ذلك كانت مرتاحة الباب لتأجيل أجتماعها بليزا الى أمد أبعد , ولكنها أحست بسخف عملها أذ ليس هناك سبب يحدوها الى تجنب ليزا .
قامت كارين بجولة أشترت أثناءها بعض الحاجيات ,وما أن عادت الى المنزل حتى فوجئت برنين جرس الهاتف , هرعت الى السماعة يخامرها شعور أنه آرثر , فسمعته يصيح متبرما:
" أين كنت؟ هذه المرة الثالثة التي أحاول فيها الأتصال بك".
فأجابته لاهثة:
" آسفة ,كنت في السوق , وكنت أتوقع أن تتصل بي في وقت متأخر من هذا المساء , هل الأمور تسير حسب الخطة؟".
" لا بأس , سأرجع الليلة , وأنا لا أرى سببا يحول دون أن نأخذ أليزابيت الى هناك غدا".
عبست كارين وقالت:
" هذا لا يعطيها وقتا كافيا لتستعد للأنتقال الى هناك يا آرثر , والساعة الآن قد جاوزت السابعة".
أجاب ببرود:
"يمكن أن نبدأ بعد الغداء ,والآن أسمعي , لديّ موعد في الثامنة , لا تنتظريني.... سأتأخر بعض الوقت , لهذا أستعدي أنت لأننا سنذهب صباحا الى أليزابيت لمساعدتها , أتصلي بها الآن وأعلميها , أن ذلك يوفر عليّ بعض الوقت".
أجابته كارين بالأيجاب وهي تسمعه يودعها ويضع السماعة .
أتصلت بأليزابيت وأعلمتها بما طلبه آرثر , ثم أخذت حوائجها اللازمة للأنتقال , وراحت تفكر , من الذي سيؤخر آرثر هذه الليلة؟ من المحتمل أن تكون أمرأة! ولكن هل هذا معقول؟ لا يمكن أن يكون أمضى السنتين بعيدا عن الجنس الآخر , لكنه لم يعد الا منذ أسبوع فقط, أمضى منها ثلاثة أيام في يورك شاير , وهي مدة غير كافية لأن يبني علاقة مع أحداهن.
هدأت أرجوحة عواطفها قليلا , ثم ما لبثت أن بدأت تتأرجح من جديد , أن مدة سنتين كافية لأنشاء علاقات كثيرة , ولكن لماذا تناقش نفسها بمثل هذه الأمور؟ حقا أن آرثر لا يزال زوجها ولكن أسميا فقط , وهذه العلاقة الجزئية ما هي ألا لمصلحة أليزابيت , ولهذا فكلما أسرعت في أثبات هذه الحقيقة , كلما كان أملها أكبر في الوصول الى راحة البال.
لم يجد النوم سبيلا الى عينيها مع أنها أطفأت النور , وأظلم البيت وخيم السكون خارج البيت , وعندما أنتصف الليل أشعلت النور وأخذت تقرأ في أحد الكتب , ولما أتمت قراءته كانت الساعة الواحدة وعشر دقائق , فركت عينيها المتعبتين وأستلقت تحاول أن تنام , وأذا بها تسمع الصوت الذي كانت تنتظره , صوت سيارة تدخل المرآب .المفتاح يدور في قفل الباب , ولكنها لم تر نورا ولم تسمع صوتا , كانت متأكدة من أنها لم تعد وحيدة في البيت , مرت خمس عشرة دقيقة وتلتها خمس أخر ,وبدأت أعصابها تخونها , لماذا لا يبدي آرثر أية حركة؟ لماذا لا يذهب الى سريره وينام حتى تتمكن هي أن تنام بسلام ؟
وفجأة نهضت من سريرها وهبطت بهدوء الى القاعة الخالية , لم تشاهد نورا في المطبخ ولا في غرفة الطعام , فأتجهت الى غرفة الجلوس ودفعت الباب بلطف , وهناك وجدته مستلقيا على أحد المقاعد , مستغرقا في النوم قرب الطاولة ,كان قدح الشرلب قريبا من مرفقه , وخصلة من سعره تتدلى على أحدى عينيه.
وقفت مكانها لحظة تتملكها الحيرة , أتتركه نائما هناك؟ وأن فعلت فقد يستيقظ في الصباح متشنج العضلات من البرد في حالة لا تسمح له بقيادة السيارة مسافة طويلة الى الشمال.

أمل بيضون 23-01-10 05:57 PM

خطت خطوة مترددة الى الأمام , ثم قفزت مجفلة , رأت عينيه مفتوحتين تحملقان فيها وعلائم خفيفة من السخرية تشع من أعماقهما.
أبتسم لها وقال:
" حسنا يا كارين لم أمن أتوقع ترحيب الزوجة في هذا الوقت من الصباح".
فتلعثمت قائلة:
"ظننتك نائما".
" كنت كذلك حتى تسللت كالقطة الى الداخل , وتأكدت أنني لم أكن أحلم , ماذا بك؟ أتشعرين بشيء من أهتمام الزوجة؟".
تجاهلت اللهجة الساخرة وقالت:
" آرثر , أتعرف ما الوقت الآن ؟ أن كنت تنوي السفر غدا الى دلرسبك , أليس من الأفضل أن تأوي الى سريرك؟".
جلس وهو يعبث بربطة عنقه المتدلية أسفل ياقة قميصه المفتوحة وقال:
" أذا فأنت قلقة ! أو أن لديك أفكارا أخرى؟".
حملقت فيه لحظة ثم فهمت ما يعنيه , فتراجعت خطوة الى الوراء وبشكل غريزي شدت قميص نومها على جسمها النحيل وقالت:
" أفكار أخرى ؟ حقا أنك مغرور بنفسك".
هب من مقعده وأمتدت يده وأمسكت برسغها تمنعها من الفرار , فأحست أنه طويل جدا ,وقوي جدا ويكاد يلتصق بها .
وأنطلقت منه الكلمات ناعمة :
" أخبريني يا كارو , ماذا تقولين لو أخبرتك بأنني أكتشفت في نفسي فجأة رغبات كنت أظنها ميتة بالنسبة اليك؟".
" أقول بأن تنساها".
أخذت خفقات قلبها تتسارع , كان وجهه محتجبا في الظل وأنفاسه الحارة تلفح وجهها , وراح يشدها اليه , فبعث ذلك في نفسها ذكريات الحب , ذكريات الوعود ...
حاولت التملص منه قائلة:
" آرثر ,كن عاقلا بحق السماء , لم يكن هذا جزءا من الأتفاقية وأنت تعرف ذلك".
لم يبد عليه أنه يرغب في أن يخلي سبيلها وقال:
" أنا أعرف ذلك؟ أظن أننا عقدنا هدنة".
قالت وهي تناضل للمحافظة على أتزانها:
"نعم , ولمن تذكر أنها كانت من أجل أليزابيت فقط".
أنطلقت منه شهقة وفجأة أحست بأنها أصبحت طليقة ... أبتعد عنها وهو يصلح ربطة عنقه , وسمعته يقول بصوت مكبوت:
" نعم أنا أذكر ذلك , بالله, لقد تعبت".
أجابت وهي تحكم الحزام حول قميصها:
" وأنا تعبت أيضا, أتريدني أن أعد لك شرابا , شوكولا أو حليب , لعل ذلك يساعد على تهدئتك".
أدار لها ظهره وأمسك كأس الشراب الذي كان بجانبه وجرع منه جرعة كبيرة , أنتظر لحظة ثم صب ما تبقى في فمه , وأستدار , وأذ رآها ما زالت واقفة وعلائم القلق بادية في عينيها , قال وقد ضاقتعيناه:
" أذهبي الى فراشك وأتركيني لوحدي , وألا...".
لعقت كارين شفتيها الجافتين , كان ما تعنيه كلماته واضحا وشعرت بأن ما يمنعه عنها خيط رفيع سرعان ما ينقطع , فأختنقت الكلمات في حلقها وأتجهت كالعمياء الى الباب , وأنسلت خارجة وأغلقته خلفها ,وعندما وصلت الى غرفتها دسّت نفسها في سريرها الضيق البارد وهي ترتعش من رأسها الى أخمص قدميها.
أخذت تراجع نفسها ... ما أشد غباءها! كيف نزلت اليه بهذا الشكل ...؟ وأي شيء آخر يمكن أن تتوقعه عندما تتصرف بنزوات الطفل الساذج؟
لم يكن ثملا , لكنه كان متعاطيا شيئا من الشراب , وأذ بها تدخل عليه كالشبح , تغزوه وهو في غفوته ... حمقاء! ولكمت وسادتها غاضبة وهي تحاول حبس الدموع التي تجمعت بين أجفانها المغلقة , وأحست بشيء من العزاء لأن كبرياءها وقوة أرادتها تمكنتا من كبح ذلك الدافع الطاغي المحموم الذي كان يعتمل في أعماقها , يحضّها على الأستسلام له عندما حاول أن يعانقها , وعندها يكون الأوان قد فات....


الساعة الآن 04:02 PM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.