وكمكافأة على مجهودها الكبير ، كان مايسون يقرأ لها عدة صفحات من أحد الكتب السميكة لديه . إنه يملك صوتا رائعا ، قويا وواثقا ، ما جعل القصة تنبض بالحياة . إنهما يقرأن الآن قصته المفضلة " آخر الهنود الحمر " التى كتبها جايمس فينمور كوبر .
أرخت روز ذقنها على راحتى يديها وهى تضع مرفقيها على المكتب ، وسألته : " هذه الحادثة وقعت فى نيويورك . أليس كذلك ؟ "
- أجل ، لكن بريطانيا بنت حصونا فى ميتشيغن أيضا . هل ذهبت يوما إلى حصن ماكيناك ؟
عندما هزت رأسها بالنقى ، قال : " سنذهب إلى هناك فى وقت ما"
قال مايسون ذلك ببساطة بنبرة توحى بالصداقة الحقيقية . احتاجت روز إلى كل ما لديها من إرادة وقوة كى لا تفتح فمها مستغربة كالبلهاء . تساءلت متعجبة كيف يمكنه أن يفعل ذلك ؟
لدية مقدرة وبراعة فى أن يجعلها تبدو مميزة ، وهى تعلم أنها ليست كذلك . مع ذلك ، عندما يتكلم ينظر مباشرة إلى عينيها ، وعندما تتكلم ، تعلم أنه يصغى إليها بالفعل . أمضت روز معظم حياتها غير مرئية ، فلا ينبه الاخرون لوجودها إلا عندما يعتقدون أنها تسبب مشكلة ما . كما أنها مجهولة الهوية أيضا ، فهى مجرد رقم فى سجلات مؤسسات رعاية الأيتام . لكن مايسون يراها ، وهويجعل الوقت الذى يمضيانه معا ممتعا ومريحا ، هذا إذا لم تحسب تسارع دقات قلبها عندما يضع يده بلا قصد منه على كتفها او عندما يبتسم لها . كما أنها تستمتع برفقته ، تماما كما يحصل أثناء تعلم القراءة وهى مهمة يفترض أن تشعرها بالملل .
مع تحسنها الواضح فى القراءة وتصالحها مع ماضيها ، شعرت روز أنها غدت أكثر قدرة على تبادل الأحاديث والمناقشة . من جهة أخرى ، وبغض النظر عن وسامته التى تجعله شبيها بممثلى هوليوود وماضيه المثير وولعه بالموسيقى الرومنسية ، يبدو مايسون كموسوعة من المعارف متنقلة ، لا سيما عندما يتعلق الأمر بالطبيعة . إنه كريم جدا بالمشاركة فى معلوماته ، فهو يعرف أنواع الأشجار من لحائها ، ويخبرها عن نوع الحيوان الذى مر على الثلج ، كما انه مجنون بحب الطيور . فبين الحين والآخر يقف فجأة فيما هما يتزلجان ويميل برأسه إلى ناحية ما ليضعى إلى زقزقة عصفور أو صفير خافت لمخلوق ذى جناحين . وجدت تلك الصفة محببة جدا ، كما أنها معدية . بينما كانا يتزلجان هذا الصباح فكرت بذلك وهما يقطعان طريقا يبعد قرابة الميل عن المنزل ، فقررت أن تفاجئه بمعلوماتها المحدودة .
- أصغ ! أسمعت هذا ؟
توقف تماما أمامها ، واستدار لينظر إليها . سألها : " ماذا ؟ "
انتظرت حتى سمعت الصرخة العالية مجددا . أشارت نحو غراب أسود كالليل طار من فوق رأسيهما عبر السماء الواسعة .
- إنه غراب . هو يقتات على النفايات والحيوانات الميتة . هذا النوع من الطيور موجود فى كل أنحاء البلاد ، ويمكن معرفته من خلال صوته الغريب وطريقه أكله المزعجة .
حاولت أن تبقى ملامحها جدية ، لكن ارتجاف شفتيها فضحها .
- ملاحظة ذكية ً!
رفعت كتفيها وعلقت : " لست الوحيد الذى يعرف عن الطيور "
- توقعت أن تكونى خبيرة بيمام الصخور .
- يمام الصخور .
ابتسم مايسون ، وعلمت أنها ستضيع فى ابتسامته من جديد .
- ربما يعرف أكثر بالحمام . ديترويت مليئة به . يقال إنه جالب الحظ للمدينة .
كو ! كو ! استقر الغراب على رأس شجرة قريبة منهما ، وعلا صياحه فى البرية الهادئة الباردة .
علقت روز باستياء وهى تشير بعصا التزلج : " الريف لا يختلف كثيرا عن المدينة ، فهنا أيضا يثير هذا الطائر الضجيج ط
- هذا صحيح . سمعت أحدهم يقول اننا لو استطعنا ترجمة نداء الطيور ، لعلمنا أن معظمها ينشد الأشعار باستثناء الغراب فهو يطلق اللعنات .
زعق الطائر الاسود الكبير بقوة مرة ثانية ، فقررت روز أن مايسون على حق .
* * * *
سالتها مارنى وهما تنظفان الطاولة الكبيرة بعد الانتهاء من العمل فى احدى الليالى : " هل فكرت مرة فى البحث عن والديك ؟ "
رفعت روز كتفيها بلا اكتراث وأجابت : " لا "
لكنها كاذبة فى الواقع . ربما أصابها اليأس من إمكانية العثور على والديها ، لكنها تعلم أنها ما زالت تبحث عنهما باستمرار فى كل مكان جديد تزوره . إنها تحدق فى الوجوه الغريبة باحثة عن شئ ما مألوف ، أى شئ يعطيها هوية مختلفة عن الاسم الذى أعطتها إياه المؤسسة .
علقت مارنى : " لوكنت مكانك لما توقفت عن البحث حتى أجدهما وأعرف لماذا تخليا عنى ط
قال مايسون من ورائهما : " كفى كلاما ، مارنى "
لكن بالطبع ، نبرته الآمرة لم تدفع شقيقته إلى التراجع مطلقا .
- بإمكانك مساعدتها ، مايس .
استدارت لتواجه روز وهى تتابع : " مايسون كالكلاب المعدة لمطاردة اللصوص . بإمكانه إيجاد إبرة فى كومة من القش . هل أخبرك أنه عمل لفترة تحريا خاصا ؟ "
- ذكر ذلك لى .
قالت روز ذلك ، ثم ألقت لمحة سريعة على رئيسها فوجدته يحدق بتجهم فى وجه شقيقته ظ
- ما زال لديك علاقات فى ديترويت مايسون ، وكل ما تحتاجه عدة اتصالات هاتفية لتصل إلى طرف القضية الأساسي .
- مارنى !
حملت نبرة صوته تحذيرا واضحا .
- إن كنت ستختبئ فى تشينس هاربور يمكنك أن تقوم بعمل مفيد فى وقتك الضائع هذا ، مثل إيجاد عائلة روزى .
- تبا ، مارنى ! لماذا تحاولين دائما أن تدفعى الأمور بقوة ؟ ربما لا تريد روزى إيجاد عائلتها ، وربما لا أريد أنا أن أتذكر .
توقف عن الكلام ليحف كتفه كأنها تؤلمه ، وكأن الرصاصة التى تلقاها ما زالت هناك .
- غادرت ديترويت نهائيا لسبب واضح ، كما تعلمين . وأنا لست أختبئ هنا . عدت إلى هنا لأننى أردت أن أعيش بين الناس الحقيقيين الذين يمكنك الوثوق بهم لأنهم يقولون فقط ما يقصدون.
وافقته مارنى قائلة : " هذه ميزة رائعة "
لكنها لم تتراجع مطلقا بسبب سوء طبع أخيها ، بل تابعت : " الصدق والنزاهة صفتان قديمتا الطراز لكنهما لا تفقدان رونقهما مطلقا "
ابتسمت لنفسها ، وبدا من الواضح أنها سعيدة بما قالته لأنهما أكملت : " هذه الجملة تصلح لأن تكون شعار حملتك "
قال مايسون بصوت كالرعد : " يا إلهى ! مارنى ، أنت لا تتراجعين مطلقا . اولا تحاولين إجبارى على التدخل فى ماضى روزى ، والآن أنت تخططين للحملة الانتخابية "
قالت شقيقته بهدوء : " تعتقد دينا سوترلاند رئيسة الحزب الديمقراطى فى ميتشيغن أنك الشخص المطلوب للنجاح ط
- وكيف تعرفين ما الذى تفكر فيه دينا سوترلاند ؟
رفعت مارنى كتفيها ، وأجابت : " تحدثت إليها الليلة الماضية بينما كنت منشغلا بسكب الشراب للزبائن "
تبدلت ملامح وجه مايسون وأصبحت جامدة كالحجر ، وقال : " أنا لم ادعها إلى هنا . أنا صاحب مقهى ، ولدى عمل أقوم به ، لست . . . "
أكملت مارنى :
- . . . موظفا حكوميا ؟
قال مايسون بسخرية : " إنهم مجرد مجموعة من الأوغاد ، وأنت تعلمين ذلك . السياسة لعبة ، وهى ترتبط باهتمامات معينة وبالمال الذى يستطيعون تأمينه للحملة الانتخابية التى تهدف إلى إعادة انتخاب مرشحهم . حتى الحزب يصبح فى المرتبة الثانية بعد المصالح الشخصية . أما الناخبون فانسى أمرهم . هؤلاء لا أهمية لهم غلا يوم الانتخاب ، ولا علاقة مطلقا لذلك كله بمساعدة الناس "
قالت مارنى باصرار : " لكن يجب أن يكون كذلك . هذا هو معنى التشريع الذى يجب أن تسعى إليه . ستكون مشرعا بكل معنى الكلمة مايسون . لن تكون مجرد سياسى "
- هل يمكنك أن تتوقفى الآن ؟ قلت لك كفاك دفعا للاخرين .
- حسنا ! على أحدهم ان يدفعك قليلا .
قالت ذلك بنبرة حادة ، ثم استدارت لتقول لروز : " وأنت أيضا يجب دفعك "
عندما فشلت فى جر روز نحو الطعم ، تابعت مارنى : " لابد أنك ستنتخبينه . اليس كذلك ، روزى ؟ "
آه ، لا ! لا يمكن أن تجرها إلى مثل هذا الموضوع .
- أنا لست مسجلة كناخبة . فلم أمكث فى مكان ما المدة الكافية لأفكر فى الأمر .
- أرايت ، مايس ؟ يمكنك أن تكون نصيرا لأشخاص أمثال روزى . . . للناس الذين لا صوت لهم فى مجتمعنا .
تمتم مايسون شتيمة ، ثم رمى المنشفة التى كان يستعملها لمسح الطاولة أمامه ، وسار مبتعدا نحو مكتبه . بعد أن سمع صوت صفق الباب بقوة ، استدارت مارنى نحو روز وغمزتها .
قالت : " سيبدل رأيه ، ويوافق . أنا متأكدة أنه سيوافق على مساعدتك أيضا "
قالت روز وهى تتنهد بقوة : " لا أريد مساعدته ، ولا أريد غيجاد أى شخص "
لم تترك لالمجال لمارنى كى تجيب على ما قالتنه ، بل خطفت الممسحة والدلو وغادرت إلى المطبخ ، مفضلة البلاط الوسخ واهانات بارغن غير الخبيثة على مضايقة مارنى المتعمدة .
* * * *
فى تلك الليلة ، فكرت روز بكل ما قالته مارنى . بقيت مستيقظة على الفراش المتكتل الموضوع فوق الأريكة تراقب أنوار المنارة فى السماء الداكنة ، وتتساءل ما الذى ستقوله إن وجدت حقا والدتها .
اتتذكريننى ؟ ما الذى كنت تفعلينه فى السنوات العشرين الماضية ؟ هل اشتقت إلى ؟ أما السؤال الأهم الذى يحرق فؤادها فهو : لماذا لم تريدينى فى حياتك ؟