شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   روايات أحلام المكتوبة (https://www.rewity.com/forum/f203/)
-   -   191-الماس لو بكى (احلام القديمة)- كتابة كاملة((رووووووعة)) (https://www.rewity.com/forum/t132086.html)

روايات عبير و احلام 15-10-15 05:21 PM

رائعة عزيزتي :Ts_012:

ام الرووع 19-04-16 09:07 AM

شكراااااااارراالكم

رنى حلو 22-07-16 01:55 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة taman (المشاركة 3578478)
المـــــــــــــاس لو بكـــــــــــــــــى
الملخص:
لماذا لاتبتعدين مع خمسة ملاين دولار؟
حددى المبلغ الذى تريدين, فهل هناك ما هو أكثر؟
أنا أريدك فليكس ولن اقبل بشىء آخر.........
لامال ولا الماس .....لا اريد الا انت.
كانت اصابعة تحطم عظام موصلها:لن تستطيعى ابدا ان تفعلى بى ما فعلتته امى بأبيك...
لن اسمح لاية امرأة ان تؤثر فى حياتى أو تغيرها .....ولن احارب من اجلك ابدا,ولن اموت من اجلك بكل تأكيد. . .فهل تفهمين ذلك.
لقد فهمت - - - فيلكس ويستون رجل يختبىء وراء رداء المد نية.
لكن هذا لايخفى الجانب المتوحش منه.انة لايحترم النساء ابدا بل يستغلهم لما يشاء
ولا يقبل ان يقيدة شىء،لسوف ينتقم منها...............................
والسؤال هو اى نوع من الاسلحة سوف يستخدم.
1- بأى ثمن
سألت هيذر رايدال بسخط: لماذا تريدين العودة إلى أستراليا؟ .. أنا لاأفهمك هولي.وهنا تكمن المشكلة كما تظن هولي.. إذ لن تصل هي وأمها إلى التفاهم فالشرخ القائم بينهما بدأ منذ زمن طويل، والرابط الوحيد بينهما هو رابط الدم. فرغم كل مايقال وما يجري، تبقيان أماً وابنتها. ولهذا فقط تحاول هولي المحافظة على السلام.
ردت بهدوء:أريد العودة، أمي.. هكذا بكل بساطة . سبق أن قلت لك وقت الميلاد عندما عدت إلى هنا إنني سأبقى لستة أشهر فقط. زرعت هيذر رايدال غرفة النوم ذهاباً وإياباً بينما ابنتها تتابع توضيب ثيابها في الحقيبة قديمة شهدت كثيراً من السفر.
الواقع أنها لم تشخ أبداً .. فتموجات شعرها الأسود مصففة بعناية وجسمها النحيل أنيق الثياب . على وجهها نظرات النضوج ، لكن بشرتها لم تتأثر بسنواتها الست والأربعين ، فلاخطوط تعب ، أو إجهاد ... وهي قادرة على ترك كل هذا خلف ظهرها حتى وهي متكدرة ، كماهي حالها الآن .. آه! ماذا تفعل؟ ستبقيان دوماً على طرفي نقيض ، وهولي تفهم الدافع الذي أوصل أمها إلى قمة النشاط الاجتماعي ، فالاندفاع والهوس اللذان تتصف بهما أمها ، صفتان موجودتان لديها أيضاً.
قالت الأم بمرارة :
_إنه .. ذلك الشيء .. الذي تشعرين به نحو أبيك . أليس كذلك ؟.. ماذا تريدين أن تعرفي أكثر بحق الله؟
فكرت هولي : كل شيء ! لكنها لم تقل هذا . حتى سنة مضت ، لم تكن تعرف شيئاً عن والدها الحقيقي .. ولولا الرسالة التي وصلتها ، تعلمها بالإرث الذي تركه لها ، لكانت على حالها تجهل أي شيء عنه .. ساعتئذ فقط ،قيلت لها الحقيقة .. وعلى مضض.
لو كان الأمر ممكناً، لمحت هيذر رايدال زواجها الأول من كل السجلات .. ولتظاهرت أن ايرول ماكنافش غير موجود أبداً، وأنه ليس أباًلابنتها .. كرهت كل شيء يذكرها "بغلطة الشباب "، فمنذ ثلاثين سنة ، لم يكن من المسموح لفتاة زرقاء الدم من بوسطن تريد الحفاظ على سمعتها ،أن تنجب طفلاً خارج نطاق الزوجية .. ووجدت أن الطلاق مقبول أكثر أمام المجتمع .
_ بعد زواج قسري لم يدم إلا فترة قصيرة طلق والد هولي زوجته التي تزوجت فيما بعد برجل فيه صفات الرجل الصالح للزواج ..
خجول من عائلة بوسطنية قديمة .. وهو مصرفي محترم ، وعماد من أعمدة المجتمع .. بعد الزواج تبنى هولي رسمياً لئلا يضطر أحد الى ذكر اسم ماكنافش . وما كان هذا ليحدث ،لولا الرسالة .. ساعتها فقط ،خرج كل شيء إلى العلن ، وسافرت هولي الى اسراليا بحثاً عن أب لم تعرفه قط . ولأن أمها تعتبر ايرول ماكنافش غير مناسب اجتماعياً، ثارت في نفس هولي مشاعر التعاطف والتضامن معه .. وما عرفته عن حياته أثار اهتمامها كثيراً بجيث لن تستطيع أن تستريح قانعة ، حتى تعرف السبب الذي دفعه إلى مافعله سابقاً ، وعليها أن تعود .. كان في تلك اللوحة الغريبة التي أورثها إياها مفتاح اللغز .. وهي متأكدة من هذا .. وبما أنها ستذهب الآن إلى أحد المعارض .. شخص ما ، من مكان ما ، قد يعرف ماتعني .
عرفت أن الأمل ضعيف والقرار الذي اتخذته جاثم على ضميرها، فوالدها حمل معه أسراره الى القبر. وربما يجب أن تتركها تستريح هناك.. لكن مافعلته لايمكن أن يضره الآن .. وتريد أن تعرف ! تحتاج أن تعرف! يجب أن تعرف!
قالت الأم بغضب: وماذا عن اليكسيس فالكنر؟
_ ماذا عنه ؟ تنهدت هيذر راندال، منهزمة بسبب لااكتراث ابنتها، وجلست على السرير الى جانب الحقيبة في محاولة لإجبار ابنتها على إعطائها الاهتمام الكامل .
_ هولي.. أنت في الثامنة والعشرين .. ألم تضجري من التجول في العالم؟ ومن العيش في أماكن غريبة؟.. أعرف أن على الشابات ألا يتسرعن بالزواج، لكن الرجال لاينتظرون الأبد لاختيار زوجاتهم.. واليكسيس فالكنرواحد من مشاهير العزاب في بوسطن.. وهو مهتم بك.. رفعت هولي عينين ملؤهما التهكم : انه يريدني حلية اجتماعية لحياته .. وما كان ليفكر في هذا منذ بضع سنين . أليس كذلك ؟
_أجفلت هيذر رايدال : لقد نسي الجميع هذا الأمر هولي . لكن هولي لم تنسه .. ولن تنساه أبداً. فما مرت به في مراهقتها غير أموراً كثيرة لديها .. ففي فترة مراهقتها انتشر حب الشباب على وجهها بشكل قبيح فأفسد حياتها . يومذاك لم يرغب أحد في مصادقتها فكان أن علمتها تلك الفترة معنى أن يكون المرء منبوذاً. كانت القسوة التي عاملها بها أترابها من المراهقين، خبيثة بما فيه لجعلها تتقوقع على نفسها بشدة وهذا ما دفع هيذر لاصطحاب ابنتها الى طبيب نفسي للعلاج.. ولكن لم يكن للدواء علاقة بأي مرض عقلي بل جاء من علاج عصري بأشعة اللايزر حرق كل الخلايا التي سببت لها التشوهات وسببت لها الحرج الاجتماعي .
بشرتها الآن رائعة، ناعمة كبشرة الطفل ، ليس فيها أي بثرة أو بقعة. وجسمها المترهل الذي كان يفتقر للرشاقة، امتلاء وأصبح متناسقاً مع بنيتها بطريقة أنثوية مذهلة .. وتعلمت كيف تقف منتصبة رافعة ذقنها . وأخذت العينان الرماديتان تردان نظرة أي شخص كان ، بجد وثقة بالنفس .. ولم تعد تخاف أحداً أو شيئاً . إنها الآن مقبولة احتماعياً .. ومرغوبة . حلية اجتماعية قد تشرف حياة أي رجل. قسمات وجهها الجذابة الصافية ، متوازنة كل التوازن.. ولكن هيذر رايدال كانت تفضل تعبيلااً أكثر مرحاً وحيوية على الجمال الهادئ الذي كان يبدو أحياناً أشبه بقناع يبعد عنها الناس. بينها وبين نفسها كانت تتمنى لو تفعل هولي شيئاً لشعرها الأسود الكثيف الذي تتركه طويلاً مستقيماً ومربوطاً خلف عنقها.. هذا الطراز المتزمت كان يناسبها ولكنه لايخضع للموضة التي تحسب لها هيذر حساباً كبيراً . لكنها تعرف أنها لو قالت شيئاً عن مظهر هولي ، فلسوف تمتلئ العينان الرماديتان بذلك التهكم اللطيف الذي تكرهه..
قالت متعبة: عم تبحثين؟ ماذا تريدين؟
_ ربما أبحث عن حقيقة الحياة.. من يعرف؟ما أعرفه الآن أنني لا أريد اليكسيس فالكنر، ولاأريد الحياة التي يريد مني أن أعيشها
_ لكنه حياة جيدة هولي .
وهذا موطنها .. فلماذا لايمكن أن تكون سعيدة هنا؟ ترى هيذر رايدال أن بوسطن وأهلها المميزين هي العالم الوحيد الذي يستحق أن يعرفه الإنسان، ولاترى أن هناك في العالم ماهو أفضل . أما هولي فتجد أن الحياة لاتستحق العيش، إن لم يكن هناك ماهو أفضل. لقد عاشت فترة المراهقة ببؤس كامل فهذا المجتمع الضيق التفكير يضع الأولوية للمظاهر ويفضلها على الإنسان.
ما إن أنهت دراستها الجامعية، حتى اتجهت إلى السفر. واستفادت من الامتيازات والحسومات التي يستفيد منها الطلاب الجامعيين وبهذا شقت طريقها حول أكثر أقطار العالم وكان أن تعرفت إلى طرق الحياة المختلفة وإلى العادات والقيم والأولويات المختلفة، التي كان بعضها أفضل وبعضها الآخر أسوأ . ولم تكن بوسطن بالتأكيد في أسفل الميزان، بل كانت أفضل بكثير. ولكنها لم تكن بالنسبة إلى هولي سوى سجن يجب أن تتخلص منه. وبعدما انسلخت عن مجتمعها لم تعد قادرة على الانسجام معه ، ومع الحياة التي تعيشها أمها قانعة راضية.
رفعت رأسها ، والتوى قلبها لخيبة الأمل والحزن الباديين في عيني أمها.. فقالت برقة: آسفة.. يؤسفني ألا أكون البنت التي أردت أن أكونها.. لكن ماهو مناسب لك قد لا يناسبني.. ويجب أن أسير في طريقي الخاص أمي.
هزت هيذر رأسها: لقد بذلت جهدي... ولايمكنك القول إن جول لم يكن أباً طيباً إذ بذلنا ما بوسعنا من أجلك.
قاطعتها هولي بسرعة : أرجوك.. لا تظني أنني غير ممتنة، أحبكما معاً ولا أريد منكما أن تتألما.. لكن الأمر.. رفعت يديها بعجز، إذ يستحيل أن تشرح لها الأمر دون أن تؤلمها ، وحاربت الإحساس بالذنب وصممت على عدم الاستسلام للابتزاز العاطفي.
_ أمي .. لقد اخترت طريقك.. فدعيني أختار طريقي.
صاحت الأم بمرارة: لقد تخلى عنك دون أن يلقي ولو نظرة إلى الوراء.
تستطيع هولي أن تتصور كيف أُجبر ايرول ماكنافش على الهروب من الزواج، دون أن يترك له المجال ليقف على قدميه بالنسبة لحضانة طفلته.. فلاشك أنه آمن أنها ستكون أفضل حالاً بدونه.. ولاشك أن هيذر رايدال هي التي أفهمته هذا. لكن ايرول ماكنافش لم ينس ابنته.. ولاتستطيع هولي أن تشرح لأمها هذا التعاطف الغريب الذي تحس به معه ، مع أنه الآن ميت.
قامت بجهد أخير للسلام: أمي.. لن أدير ظهري لك، بل سأبقى على اتصال، كحالي دائماً .. وأنا آسفة إن كان ذلك لايكفيك .. إنما يجب أن أعيش حياتي الخاصة كما أراها مناسبة.. ألايمكن أن نترك الأمر على هذا؟
عرفت هيذر أنها هزمت فالنظرة البادية على وجه هولي حذرتها من أنها تدفعها كثيراً .. ويجب أن تبقي الباب مفتوحاً حتى تعود ففي يوم ماقد ترى ما هو الأفضل لها.. على أي حال، هولي ابنتها هي أكثر مما هي ابنة ايرول ماكنافش.
لكن هيذر رايدال لم تكن تعرف، ولن تعرف أبداً ، الإحساس بالحرية الذي رفع روح هولي المعنوية وهي تطير من بوسطن في الصباح التالي، في طريقها إلى بلد آخر في الجهة الأخرى من العالم. ولايمكن لها كذلك أن تتعاطف مع المشاعر التي كانت ثائرة في نفس هولي بعد خمسة أيام من هذا ، وهي تقف في معرض الفنون في " نيو ساوث ويلز" تنظر إلى لوحة "أيرل ماك".. المختلفة عما تبقى من اللوحات.
الشوق إلى المعرفة اختلط مع الشعور بالذنب. ومنذ اللحظة التي شاهدت هولي اللوحة ، أحست أن فيها معنى خاصاً ومشاعر كثيرة عصرت قلبها بطريقة لايمكن وصفها.. فما كان يجب أن تضعها في معرض عام.. ومع ذلك تغلب الاندفاع لمعرفة ماتعنيه، على أي اعتبار آخر.. ليت المزيد من الناس يشاهدونها وليت أحداً يجيب عما تتساءل به داخل نفسها!
وهل من الخطأ أن ترغب في معرفة كل شيء عن أبيها؟ كانت صورة غريبة.. متوحشة، لكنها مذهلة. فيها الشمس تغرب من وراء سلسة تلال كلسية حمراء، وبقايا أشعة المرجان الوردي تختفي رويداً رويداً.. مقدمة الصورة عبارة عن سهل منبسط من القش الشاحب، محاطة بلون أزرق شاحب تندفع منه أشجار " الباوبات" الاستوائية العملاقة... في الزواية اليسرى العليا وجه امرأة
مندمج بشكل غامض مع السماء ، كجزء منها ، ومع ذلك فهو منفصل عنها .. بشكل يترك فيك حنيناً مؤلماً لا يمكن إشباعه .
_ لم يعط والدها الصورة اسماً ، ولم يوقعها . لقد قال لجيوفري هامينغر إن اللوحة يجب ألاتباع ، مهما كانت الظروف .. ومع أن اليد التي رسمتها كانت دون أدنى شك يد أبيها ، فقد كانت اللوحة مختلفة كل الاحتلاف عن سائر أعماله .. ليس في الشكل فقط ، بل في الموضوع .
أحست هولي أن هذه الصورة مفتاح للسنوات الضائعة . والمفتاح للغز سبب تحول ايرول ماكنافش عالم الجيولوجيا ، إلى "ايرل ماك " الفنان المتوحد المنطوي . المنعزل الشاذ ، الذي أمضى السنوات العشرين الأخيرة من عمره في أقصى شمال ساحل "كوينزلاند " في "بورت دوغلاس " .. وطول هذه السنوات لم يكلم أحداً عن ماضيه ، ولم يعرف أحد في "بورت دوغلاس " أن له ابنة حتى ظهرت هولي مطالبة بإرثها .. ولكم كان قدومها مفاجئاً للجميع ! فالمعروف أن ايرل ماك يبتعد عن النساء بشكل خاص .
_ ماالذي جرى له في تلك السنوات ، ما بين نهاية زواجه القصير من أمها ووصوله إلى بورت دوغلاس ؟ ماالذي غير حياته بهذا
الشكل الجذري ؟ ولماذا لم يتصل بها قط ؟.. لابد أنه فكر فيها .. فكر في ابنته التي تخلى عنها .. وإلا ، لما ترك لها منزله
ولوحاته .
جاءها شخص من ورائها وشرع يقرأ من كتيب الإرشاد : الأحلام الضائعة .
علقت امرأة : غير عادية .. أليس كذلك ؟ مذهلة .
تعرف هولي خير معرفة أنها مذهلة وغير عادية . المنظر المرسوم هو لمكان ما في "كيمبرلي " وهي زاوية بعيدة من غربي استراليا . وهو آخر مكان استقر فيه الرجل المتمدن ، الأرض التي هي من الناحية الجيولوجية ، أقدم أرض في العالم .. وقد تعرفت إلى سلسلة التلال الكلسية في خلفية الصورة على أنها سلسلة تلال الملك ليوبولد ... ولكن ويا لسوء الحظ ! لم تجد أجوبة أخرى في رحلتها إلى هنالك . ولم ترض وكالة السفر بإيصالها إلى أبعد من الطرق السياحية المألوفة ، والمعتبرة آمنة .
قيل لها : هذه قمة النهاية سيدتي .. لايمكنك طلب العون من أحد .. هذا إذا ضعت !
_ كان السكان قلائل ، وبعيدين جداً عن بعضهم . يعيشون أساساً في مزارع المواشي ، حيث أصغر مزرعة لاتقل مساحتها عن
بضع مئات من الأميال .. هكذا رأت المغيب فوق جبال الملك ليوبولد ، وكان المشهد مذهلاً كما هو مرسوم في لوحة "الأحلام الضائعة " وهو الاسم الذي أطلقته هي نفسها عليها من أجل المعرض . ورأت سهول التبن الأصفر الشاحب ، أشجار الباوباب الغارقة في القدم .. ورأت كذلك سطحاً واسعاً من الصخر الرملي العتيق ذي الصخور المقطعة كقفير النحل ، ثم الوديان الضيقة
التي لاترى الشمس أبداً .. إنها ما من أحد تحدثت إليه ، استطاع أن يتذكر ايرول ماكنافش ، والمكان الذي رسمه بالضبط لم تستطع العثور عليه . مالذي حدث هناك؟ تنهدت محبطة وارتدت مبتعدة عن اللوحة.. كانت تشعر عرض اللوحة قد لايحمل إليها الردود التي تريدها فالأمل ضعيف، ضعيف... ولكن ماذا بإمكانها أن تفعل غير هذا؟ فرغم مساعيها الكثيرة للاستفسار عن أخبار والدها بقيت أمام حائط مسدود. لكن عندما طلب منها عرض مختارات من فن أبيها في معرض الفن الأسترالي، أتتها الفكرة.. فالمجموعة ستعرض في كل عاصمة ولاية في وهذه ليلة الافتتاح لمعرض سيدني .. وعدد الحضور البارز يدل على أن الكثيرين سيرون اللوحة .. وربما ستثير مشاهدتها نقداً قد يساعدها. جالت أنظارها بين الحضور .. حتى رأته!.. كان في الغرفة الملحقة بالمعرض ، لكنه كان يتجه نحوها الآن.. إنه أكثر الرجال لفتاً للأنظار .. لم يكن جميلاً أو وسيماً بالمعنى الكلاسيكي... لكن حضوره آسر ويصل إلى حد السيطرة . كان طويلاً ، يرتدي بزة قاتمة اللون مؤلفة من ثلاث قطع زادت من رشاقة قوامه الرياضي.. أما بشرته فشديدة السمرة ، وأما شعره فأشقر لوحته الشمس ، ليصبح بلون " الكاراميل" وهو أملس.. وجهه آمر صارم قوي،وقسمات جبينه وخديه وخطوط فكيه صارمة ، غير مكتنزة ، وليس فيها خطوط ضعف . وكانت العينان غائرتين عميقتين .. أنفه معقوف تقريباً .. وشفتاه ممتدتان بحدة ومكتنزتان، ولكنهما تدلان أن صاحبهما لايصرف وقته كله على العبث .
كان بعيداً بُعد الأرض عن السماء عن اليكسيس فالكنر . أحست هولي نحوه بجاذبية شديدة تبعث على الاضطراب. تصورت هذا الرجل يقود عربة خيول إلى مناطق " الهنود الحمر" أو يقود فرقة جنود رومانية، أو يركب جواداً ويسير إلى جانب قائد كبير.. إنه قادر على وضع قوانينه الخاصة..
صرفت هولي عنها الأفكار الخيالية.. لقد سبق أن سألتها أمها: ماذا تريدين؟ وتساءلت هولي عما إذا كانت ستريد يوماً رجلاً مثله! سيكون من المثير حقاً أن تعرف الرد .. وابتسمت لتخيلاتها. لم تعرف هولي ما إذا أحس بنظرتها المتفرسة، أم لمح ابتسامتها .. لكنه عندما وصل إلى الغرفة، توقف ونظر إليها مباشرة .. طالما نظر الرجال إليها منذ أصبح وجهها نقياً من " حب الشباب" البغيض ..لكن لم يحدث قط أن نظر إليها أحدهم بهذا التوجه المباشر المدمر.
عادة ، كانت تصرف النظر عن مثل هذا الاهتمام بإظهار التسلية الساخرة .. لكن هذه النظرة هي أكثر من تقويم عابر لشخص مرغوب .. وأكثر من إبداء إعجاب بوجهها الخالي من العيوب ، وبجسدها الرائع التكوين .. إنه يقومها برباطة جأش وكأنه واثق أنه يستطيع الحصول عليها لوأراد . والسؤال الوحيد الذي يطرحه على نفسه ما إذا كانت تستحق العناء.
ورغم الثياب الأنيقة التي ارتدتها للمناسبة: البلوزة الأورغانزا البيضاء ذات الأطراف المزينة بالأسود، والتنورة الضيقة الحريرية السوداء، أحست هولي وكأنها عبدة تقف في معرض للجواري تنتظر سقوط المطرقة معلنة رسو المزاد على مشتريها. كان جسمها متوتراً ، وقلبها مرتجفاً .. لذلك حين لامس شخص ذراعها، كادت تقفز.
_ آسف لأنني أجفلتك.
إنه جيو فري هامينغز، تاجر اللوحات الفنية الذي اكتشف ايرل ماك، منذ سنوات .. ومنذ ذلك الوقت وهو يتعامل مع أعمال أبيها.. ابتسم لها .. إنه رجل أعمال، ممتلئ الجسم، دمث الأخلاق، لكنه شديد المكر، في أواخر الأربعينات من عمره. كان مسروراً لأنه يتعاون مع زبونة سيجلب له إرثها عمولة ضخمة.
سأل:" هل أنت راضية عن ترتيب لوحات أبيك؟ لقد أشرفت على الإضاءة بنفسي".
_ رائع.. حقاً رائع. لو كان والدي على قيد الحياة وشاهد المعرض الآن لشعر بسرور عظيم .. اللوحات جيدة.. أليس كذلك؟
_ إنها فعلاً جيدة ، وأنا مستريح لأنك لا تريدين البيع بسرعة .. فرسومات ايرل سيرتفع ثمنها كثيراً الآن وهو .. ميت.. وأتوقع أن يثير هذا المعرض المزيد من الاهتمام .. وكلما تماسكنا أكثر..
التفتت هولي نحو الممر ولكن الرجل كان قد أدار اهتمامه بعيداً عنها. كان يقف في المكان عينه ، لايتحرك وكأنه تحول إلى تمثال من حجر . ثم تحرك إلى الأمام وكأنه ملاكم يستعد لتسديد ضربة، أو على الأكثر كصاعقة تستعد للانقضاض.
اخترقت الصدمة قلبها لأنها أدركت أنه يحدق إلى لوحة الأحلام الضائعة، وماهي إلاثوان وخطوات قليلة حتى أصبح وجهاً لوجه مع اللوحة .. وأخذ يهز رأسه وكأنه لايصدق . بعد عدة لحظات، فتح كتيب التعريف الذي يحمله وأخذ يتصفحه باحثاً عن الشروحات.
قرأ ما كان مكتوباً ، ثم درس اللوحة مجدداً . وفي هذا الوقت تجعد الكتاب في يد اشتدت حتى أصبحت قبضة مغلقة .. ارتد وفي وجهه تصميم وعزم على البحث بين الناس في الغرفة . مرت عيناه بهولي بشكل عابر .. إنهما .. عينان خضراوان برقتا بوحشية إشارة إلى أنه لايتحمل أحداً أو شيئاً يقف في طريقه .
_ تحرك بسرعة في الغرفة قبل أن تستجمع هولي نفسها لتتساءل عما جذبه إلى اللوحة .. ولماذا بدرت عنه ردة الفعل هذه ؟ هل خاطب المنزل البدائي الغريب شيئاً ما في أعماق روحه ؟ لا... لأنه على ما يبدو صرف النظر عنها فجأة كما صرف أي اهتمام بهولي .
لاجدوى من بقائها في المعرض ، تنتظر ردات فعل الناس نحو اللوحة .. يجب أن تقوم بما هو إيجابي أكثر .. ابتسم بواب "الشيراتون "لها مرحباً وهي تدخل البهو .. كان الفندق في قلب المدينة ، والموظفين جميعاً ودودين .. ولقد نصحتها أمها : إذا كنت ستسافرين لامحالة ، فأقيمي في الشيراتون .. لأنه آمن .
نظرت هولي إلى الثريات المتلألئة ، وابتسمت لنفسها وهي تتذكر الفنادق والموتيلات الرخيصة التي أقامت فيها في السنوات الماضية . أما الآن فقد أصبح لديها المال الكافي لتدلل نفسها .. فلوحة ايرل ماك الأخيرة بيعت بما يزيد عن خمسين ألف دولار ..
وإذا كان جيوفري هامينغز على حق بشأن ازدياد الطلب على أعمال أبيها ، فقد لاتضطر إلى العمل ثانية أبداً .
_ أتتها فكرة وهي تستعد للنوم . إنها غير معتادة أن تكون صاحبة مبالغ كبيرة .. وهي لم تفكر في هذا في المرة الأخيرة التي ذهبت فيها إلى "كيمبرلي " لكنها تستطيع الآن استئجار طائرة هليكوبتر لتطير بها فوق المنطقة كلها .. وسيكون معها الصور التي التقطتها للوحة .. إذا تمكنت من تحديد أي مكان معقول ، يمكن للهليكوبتر الهبوط فيه . لكن ماذا يمكنها تحقيقه من هذا ، إنها لاتدري ..كانت هولي رغم التعب الذي بدا أنه يسيطر على كل عظامها، مستيقظة حين رن جرس الهاتف بعد ساعة.. نظرت إلى الساعة الرقمية الموضوعة على الطاولة الصغيرة قرب السرير، فأضافت فكرياً تسع ساعات إلى الوقت.. فلاشك أن والديها في بوسطن قد أنهيا فطورهما.. استندت هولي إلى الوسائد، ورفعت سماعة الهاتف ، لكن المكالمة لم تكن دولية.
قال جيو فري هامينغز: آسف لأنني أزعجتك، هولي .. ولكنني تلقيت عرضاً لإحدى لوحات أبيك ، وقد ضغط علي المشتري لإنهاء الصفقة بأسرع مايمكن.. هذا إذا وافقت .
تسلل شعور غريب من الترقب إلى ظهر هولي .. لماذا يتصل بها هذه الليلة ؟ ماسبب هذه العجلة وهذاالإلحاح؟
سألت:" ماهي اللوحة التي يريدها هذا المشتري"؟ لكنها عرفت الرد قبل أن تسمعه...
تمتم جيوفري:ـ الأحلام الضائعة. خفق قلبها بسرعة ثم توقف عدة ضربات . إنها على حق! تابع جيوفري على عجل بطريقة تدل أنه ملهوف للرد الذي سيسمعه منها.
ـ لقد أبلغنا الزبون أن اللوحة غير مخصصة للبيع.. مع ذلك، كان العرض الذي تقدم به.. المال ليس بعائق.. هولي. ولم أرغب أن أحمل على عاتقي رفض الأمر دون استشارتك .
ـ تعرف أنني لاأستطيع أن أبيعها.. سبق أن قلت بنفسك ماقاله أبي.
ـ أعرف.. أعرف.. لكنه ليس شيئاً نص عليه والدك في وصيته، وليس هناك من قانون يلزمك به.. وأنا واثق أنه ماكان ليلزمك بمثل هذه الأمانة لو عرف..
سحب نفساً عميقاً، وأردف: هولي.. المبلغ ضخم..
ـ ليس هناك مبلغ ضخم كاف جيوفري.
لقد طلب والدها عدم بيعها.. وكان يفضل إتلأفها على بيعها. ولاشك أن لها أهمية خاصة.
ـ ألاتظنين أن خمسة ملايين دولار مبلغ كاف؟ لم تكد تصدق أذنيها، وهزت رأسها وكأنها لم تسمع بشكل صحيح .
ـ لابد أنني أصبت بالصمم جيوفري.. أتسمح بأن تكرر هذا؟
ـ خمسة.. ملايين.. دولار! لزم هولي المزيد من اللحظات لتتمكن من استيعاب الأمر: لاأصدق أن هذا يحدث.
ـ ولا أنا.
لكنها أحست باللهفة التي يكبتها، فعمولة الملايين الخمسة تتدلى أمام عينيه. أخيراً تحرك عقل هولي بانطلاق. هناك من يريد هذه اللوحة بشكل ملح.. والسؤال هو: لماذا؟ هولي تريد معرفة هذا إلى أبعد الحدود .
ـ من المشتري؟
ـ لا أعرف.. تأتي العروض عادة عن طريق طرف ثالث .. فالناس لا يرغبون في الظهور تحت الأضواء. لكنني أؤكد لك أن العرض صادق، لا خداع فيه.
سحبت هولي نفساً عميقاً ، إذ عليها التفكير في هذا الأمر بحذر لاتخاذ القرار الصحيح ، وللوصول إلى ماتريد .. ثار الألم في قلبها فهذا ما كانت تأمل به من وراء عرض اللوحة .. عليها أن تكون حذرة لئلا تنسف الفرصة . كبتت انفعالهاوقالت: جيوفري.. قل للوسيط إنني بخصوص هذه اللوحة بالذات ، لن أتعامل إلا مع الأصيل .. وشخصياً، دون وكلاء.
ـ مهلك لحظة، سأتصل بهم على الهاتف الآخر.
انتظرت .. وكان توترها يزداد كلما مرت الدقائق. عشر.. خمس عشرة.. وخف أملها وهي تنتظر.. أحست أنها متعبة، لكن عقلها ظل يفكر بشكل محموم، والواضح أن طلبها يتلقى مقاومة.. مقاومة كبيرة..من هو الذي أن يعرفه أحد؟ كم شخصاً في أستراليا لديه مثل هذا الكم من المال ليرميه من أجل لوحة؟ هل هناك لائحة بأصحاب الملايين حتى تراجعها لتربط أحدهم بوالدها؟ أخيراً عاد جيوفري إلى الخط: هولي.. الأصيل يقول إنه لايريد إلاشراء اللوحة، وإنه غير مستعد لمناقشة المسألة أبداً .. ولهذا برأيي رفع الثمن بشكل غير عادي.. إنها مسألة قبول أو رفض.. الموافقة أو لا. يجب أن تقرري، فإذا تخليت عن هذا العرض فلن تستعيديه.
فكرت في الأمر بموضوعية.. ووجدت أن عليها المقامرة.. لم تلعب قط في رهانات باهضة كهذه من قبل.. لكن المبدأ واضح: إن لم تعرف من هو المشتري، فلن تعرف شيئاً عن والدها.. وإذا كان هناك شخص مستعد لعرض مثل هذا المبلغ، فهي لاتصدق أنها مسألة قبول أو رفض.. قد يكون الموقف هو القبول ، لكن ليس الرفض أبداً . ولاشك أن هذه خدعة للحصول منها قرار سريع.
على كل لن يقنعها شيء بالتخلي عن اللوحة.. إنها تعرف الآن ، ودون شك، أن " للأحلام الضائعة" ماهو مميز وخاص لشخص آخر غير أبيها.. سحبت نفساً عميقاً لأنها تريد التخفيف من انغعالها ونبضات قلبها قبل أن ترمي قفاز التحدي.
ـ لا..الرد هو لاجيوفري. لابيع بناء على هذه الشروط.. لكن.. إذا غير رأيه ، وأعتقد أنه رجل، فسأناقش المسألة معه.. يمكنه الاتصال بي إلى هنا، أوترك رسالة .. وحتى يكون على استعداد لإعطائي ماأريد جيوفري، فالرد هو لا!
سمعت هسيس أنفاسه وهو يكتم احتجاجه: هولي .. كما ترغبين.. هل تودين الانتظار لأنقل إليه ردك.
ـ أنا متعبة جيوفري.. اتصل مرة ثانية. الواضح أن جيوفري كان منفعلاً لم يصدق معه ردها.. لكنه ابتلع أي تعليق: متعبة؟ كما تشائين.وعلق السماعة.
انزلقت هولي جموداً عن الوسائد، محاولة الاسترخاء .. هذا مستحيل .. أتراها لعبت الورقةالمناسبة؟لن تستطيع التخطيط للحركة
التالية حتى يرد المشتري .. لكن هذا لم يمنعها من التفكير في الاحتمالات. كان الانتظار أطول هذه المرة ، لكن هولي لم تمانع .. فكل دقيقة تمر كانت تزيد من أملها في ملاقاة المشتري .. وهي لاتشك أن جيوفري يقوم بأفضل ماعنده لإبقاء الصفقة على قيد الحياة. ورن جرس الهاتف ، فانتزعت السماعة .
ـ هولي.. رنة الراحة في صوت جيوفري ردت البسمة إلى شفتي هولي: إنه يطلب ضمانات.. الأصيل مصر على أن يكون اللقاء سرياً .
وافقت بسرعة:" بكل تأكيد".
ـ ويجب أن يكون صباح الغد ، وفي أبكر وقت ممكن . هولي بحاجة إلى أطول وقت ممكن معه ، والرجل نافد الصبر وهذا يعني أنه سيرفض مناقشة أي شيء معها .. وبما أنها الآن في موقع القيادة ، تستطيع إملاء شروطها .
ـ وجه له دعوة لتناول الفطور معي في فندقي.. مطعم " غاردن كورت" في الثامنة والنصف.
بعد توقف قصير عاد جيوفري يكلمها: موافق.
ـ عظيم! مااسمه جيوفري؟
ـ لم يعطني إياه.. ولكنني أعطيته اسمك..فهل ستبيعين هولي؟
أمسك الحذر لسانها لأنها لاتريد جدالاً بشأن الصفقة.
ـ سأصغي إليه.. أشكرك جيوفري.. ستعرف قريباً ماذا يحصل.. ومهما كانت النتيجة فسأعوضك تعبك.
قال بسرعة: أفضل أن أكون موجوداً غداً هولي.
ـ لاجيوفري .. أنا آسفة.. أقبل بهذا في أية صفقة ماعدا هذه .. إن لها ميزة خاصة في نفسي.
تنهد مستسلماً :" حسن .. وحظاً سعيداً".
علقت السماعة بسرعة.. لكن انفعالها الشديد حرمها من النوم، حتى انتهى بها الأمر إلى الاستيقاظ باكراً في الصباح لتكون بحالة جيدة ، ولتكون مستعدة كل الاستعداد لما هو قادم . ربما يعرف هذا الرجل أباها ولعل لهذه اللوحة مكانة خاصة عنده .. ولكن خمسة ملايين دولار دليل على أنه يريدها بأي شكل من الأشكال .. ويجب أن يكون السبب وراء ذلك أقوى وأعلى من مجرد الإعجاب العادي بالفن . فهذا السعر ليس أبداً استثماراً ... إذن .. فهذا لايترك سوى .. ماذا ؟

يتـــــــــــــــــــــــ ــبع
2_ في وجه المحارب

كانت xxxxب الساعة تعلن أزوف الثامنة والربع، حين غادرت هولي غرفتها، مستقلة المصعد هبوطاً إلى الدور الخامس.
هناك كان القسم العلوي للفندق حيث تلف سطحه أشجار مغروشة في أحواض ضخمة، وشجيرات شائكة.. حيث يمكن للمرء استراق النظر حتى حدود" ماين بارك" المكان الذي يوجد فيه معرض " نيو ساوث وايلز" للفنون.
عرفت هولي النادل بنفسهافحياها وأخبرها أنه من المتوقع وصول رجل أعمال لينضم إليها لاحقاً .. طلبت الجلوس إلى طاولة قرب المدخل الزجاجي ، ليتسنى لها مراقبة القادمين من جهة المصعد ، للتعرف إلى المشتري المنتظر قبل أن يتعرف إليها .. كانت تتوقع أن يكون بعمر والدها وإلاكيف له أن يعرف شيئاً ؟
كانت ثيابها لائقة ..شعرها الطويل الكثيف معقوص إلى الأعلى، وكانت ترتدي بزة وردية من الكتان الناعم ، وبلوزة بيضاء ملساء . ولكنها تخشى أن يكون الرجل صعب المراس.. فالأستراليون مشهورون بصراحتهم التي تبلغ حد الإزعاج .. والواضح أن الرجل لايريد إضاعة وقته.. وهي بحاجة بكل تأكيد إلى شجاعة وجرأة للبدء بالحوار وقيادته إلى حيث تريد.
أوصلها النادل ، بكل ترحاب ، إلى أقرب طاولة لشخصين.. فاختارت الكرسي الذي قدم لها منظراً واضحاً للبهو الخارجي .. وهناك قدمت لها القهوة ، فتقبلتها شاكرة .. أثناء الدقائق العشر التي مرت لم يخرج من المصعد إلا شخصين ..
لم تستطيع هولي تصديق عينيها حين رأته.. إنه الرجل الذي صدمتها رؤيته بقوة وبشكل مثير للإزعاج ليلة أمس في المعرض .. وهي بالتأكيد لن تخطئ شخصيته لأنه يريدي البزة نفسها.
نظرت إليه دهشة ونبضات قلبها تخفق بسرعة .. لايعقل أن يكون هذا هو الشخص الذي ستلتقيه.. فهو في أواسط الثلاثين وليس كهلاً كم ظنت. ومن هو بمثل عمره لايمكن أن يعرف شيئاً عن والدها وسيرته.. لاشك أنه كان صبياَ صغيراً حينذاك. سحبت نفساً عميقاً وحاولت تهدئة أعصابها، وعدت إلى العشرين ثم تفحصت ساعتها .. إنها الثامنة والنصف تماماً.
ـ آنسة رايدال؟
صرت على أسنانها.. إنه هو، لابد أنه هو. إذ لايمكن لأحد أن يدخل من دون أن تنتبه له، وهاهو يسأل عنها، ثم يتقدم إلى الطاولة..الصوت صوته هو والنبرة نبرته.. لم تعتد هولي أن تتورد وجنتاها.. لكن الحرج بث دفعة من الدفء إلى عنقها الطويلة فأحست بالحرارة تخترق مسام خديها فتورد !!
لابد أن وجهها تورد ولكن حاجتها الملحة لإبقاء هذا الرجل على مسافة منها، جعل عينيها تبدوان طبيعيتين غير مكترثتين. على أي حال ، حين التفتت ترفع نظرها إليه، لم يشر إلى أنه تسلم الرسالة.
سألها بكل تهذيب: هل لي أن أتشرف بالانضمام إليك؟
لم يكن في عينيه الخضراوين دليل تسلية أو عبث .. بل كانتا هادئتين ، هادفتين .
أجابت ببرودة تامة: أنا آسفة.. في وقت آخر، ربما .. أنا أتوقع .
لكنه سرعان ما قاطعها: أنا.. تتوقعينني أنا ، آنسة رايدال.. لدينا عملية بيع نناقشها .. إذا كانت لديك رغبة في هذا؟
ـ أنت ؟أفلتت منها الكلمة قبل أن تستطيع كبتها .. وكانت غلطة .. فقد أحست بابتسامة رضا خفيفة تبرز على وجهه المحارب الذي يشبه وجه الصقر.
مد لها يده قائلاً: اسمي فليكس ويستون .. إذا كان الاسم يعني لك شيئاً !!
سببت لها قبضته على يدها رجفة .. فسحبت يدها بسرعة : لا.. كما أخشى .. فأنا لاأهتم بالأمور المالية كما أنني لست أسترالية!
آه !! ردها أرضاها وهو أيضاً رد خاطىء .. إنه يتعرف إلى أمور كثيرة عنها . وهي هنا لتستقي المعلومات منه وتتسقط أخباره ..
والاستعداد للقاء كهذا ، يتطلب الاهتمام بكل شيء ويستلزم مراجعة الأفكار والتحلي بإرادة صلبة ، تستطيع بها الحفاظ على رباطة جأشها .. هزت رأسها تومىء إلى الكرسي المقابل .
_تفضل بالجلوس سيد ويستون .. أرجو المعذرة على سوء الترحيب بك ، أعترف أنني توقعت شخصاً أكبر سناً بكثير .
_وأنا أيضاً.. لكنني لاأمانع في مفاجأة لطيفة . لهجتك تنبئني أنك أميركية .. وأخشى أن تكون هي المشكلة في عرضي لك !
_ليس لدي مشكلة في كوني أميركية سيد ويستون . هل تطلب الطعام الآن ؟
ابتسمت واستدعت النادل الذي كان لايزال ينتظر الرد ... وقدم إليهما لائحتي طعام .. في هذه الأثناء كان فيلكس ويستون يرمق هولي بنظرة ساخرة قبل أن يخفض عينيه إلى لائحة الفطور .. انتظر بعدما طلب مايريد أن ينسحب النادل .
كنت أتساءل عما إذا كان تحويل العملة هو العائق . أعرف أن تبديل العملة قد يسبب المتاعب ولكنني أؤكد أننا نستطيع تجاوز هذه المسألة . سألت : " أوه.. ومن " أنتم "؟ من أنت ؟ " . برق شيء خطير في عينيه :
_أنا وأنت آنسة رايدال .. نحن . إننا هنا لمناقشة المسألة ، بالنسبة إليّ إن تصنيفي المالي ... من الصنف الأول .
_شكراً لك . لن يكشف لها عن شيء . لكنها شرعت تتمتع بالتحدي الذي يلائمه ، فلن تكون عقبة يسهل عليه تجاوزها .. ابتسمت :
أريد معرفة ما هي التسهيلات التي تمكنك من اجتياز صعوبة التحويل المالي الدولي .
_ شركتي تمتلك شبكة علاقات في كل أنحاء العالم. لدينا مكتب في نيويورك.. من أين أنت بالتحديد في أمريكا؟
_ بوسطن، " ماساتشوستس"ليست بعيدة عن نيويورك، أو عن سيدني.
_ أعرف بوسطن آنسة رايدال .. والآن بوسعنا أن نتكلم في العمل؟
_ أتمانع أن تقول لي أولاً، ماهي طبيعة عملك، سيد ويستون؟
قال ساخراً: أنبش الأشياء من الأرض. إنه عمل جيد لك. لكن ماهو نوع الأشياء التي تنبشها؟
_ النوع الذي تعتبره أجمل النساء، مثلك، أفضل صديق لهن.. الألماس آنسة رايدال.. أفخم أنواع الألماس الملون في العالم.
منجم " بندنير" للألماس في كيمبرلي؟ لقد قرأت عنه. تأسس في السبعينات، أي بعد وقت طويل من وصول والدها إلى " بورت دوغلاس" وهذا يعني أن لاعلاقة له به.. لكن ربما تكون هي المخطئة.. فوالدها عالم جيولوجي.. فكم من الوقت يستغرق إنشاء منجم بعد اكتشاف الألماس؟ لكن، لماذا رحل والدها إن وجد ألماساً؟
قال فيلكس ويستون: أنا هنا لمناقشة الصفقة.. فلنناقشها. ابدأي أنت.. السيدات أولاً.. كم تريدين بالضبط آنسة رايدال؟
ترددت هولي.. لو قالت له بالضبط ماتريد.. تريد معرفة السبب الكامن وراء رغبته في شراء اللوحة التي يريدها بقوة والدليل المبلغ الهائل الذي يدفعه ثمناً لها.. لم تعجبها الملاحظة الساخرة التي تفوه بها، بأن شملها بين الجميلات من النساء اللواتي يعتبرن الألماس فوق أي شيء آخر.. لكنها لن تقول له الآن إنها امرأة لايمكن شراءها.. لابخمسة ملايين، ولابخمسة مليارات من الدولارات.. ولسوف تدعه يكتشف هذا بنفسه.
قالت بصراحة: في الحقيقة، ياسيد ويستون.. لست واثقة من رغبتي في بيع " الأحلام الضائعة" لك.. لماذا تريد أن تشتريها؟
عاد النادل ليقدم كوبين من عصير البرتقال الطازج، فأسرع فيلكس ويستون يتجرع كوبه دفعة واحدة ، ثم رفع نظره إليها وقال :
_أنا أصنع لنفسي اسماً في الدوائر الفنية ، كجامع للأعمال الفريدة من نوعها .. وأرمي أن تكون هذه اللوحة صفقة هذه السنة .. وسأحاول أن أحل لك مشكلة الضرائب آنسة رايدال .. وهذا هو أقصى حد أصل إليه . العرض يبقى على ماهو ، لن يستمر .
نظرت إليه متفرسة ، محاولة فهم ما يكمن وراء الكلمات ، ثم ردت بثبات : لقد أسأت فهمي سيد ويستون .. المسألة ليست مسألة مال ... ولن يؤثر هذا في قراري حين أتخذه . المسألة تتعلق بالسبب الذي يجعلك تطلب هذه اللوحة بالذات . وإن لم تقل لي السبب من وراء شرائك اللوحة فلن تحوز على " الأحلام الضائعة " ... إما أن تقبل وإما أن ترفض .. وبعد اليوم لن يستمر العرض كذلك .ارتد رأسه إلى الوراء .. وعرفت هولي أنها لعبت اللعبة التي لم تكن بحسبان فيلكس ويستون وأنها فاجأته .
_" الفضول قتل القطة " .. آنسة رايدال .. لديك خمسة ملايين سبب لئلا تقضي على هذه الصفقة ، فما الذي يدفعك إلى وضع علامة الاستفهام هذه ؟
_قد تعطيني خمسة ملايين سبب يرد على سؤالي ، سيد ويستون .. أخشى أن تكون المعلومات التي تسأل عنها سرية . تفرس فيها للحظات طويلة قبل أن ينطق : يبدو أننا وصلنا إلى طريق مسدود .. لكن أمامنا يوماً كاملاً للتفكير .. وبما أن هذا قد يستغرق اليوم كله .. سأطلب ، وكبادرة حسن نية منك ، أن تسحبي اللوحة من المعرض مدة أربع وعشرين ساعة .
صدم الطلب هولي لأنه غير عادي .. إنه طلب غريب ولايختلف عن وقائع كل هذه الصفقة ، بدءاً من العرض غير المعقول ،
وصولاً إلى إصراره للحصول على الرد ليلة أمس .. مروراً بالإصرار علىاللقاء معها في وقت مبكر جداً .. وانتهاء الآن، وبعد المزيد من التأخير ، بطلب سحب اللوحة من المعرض !!
فكرت هولي أنه لايريد أن يرى أحد اللوحة ! ولايحتمل عرضها علناً . هذا هو كل ما في الأمر . وليس السبب رغبته في امتلاكها
بل إخراجها من التداول .
_أنا آسفة سيد ويستون ، لكنني لن أفعل هذا حتى تخبرني لماذا تريد سحبها ؟
وكأن صبره بدأ بالنفاد ، قال : أخبرتك السبب !!
_لكنه ليس كافياً . هز رأسه : أعطيتك أسباباً ، ولم تقبلي بها . فكيف أثبتها لك ؟ ربما بدأنا بداية غير صحيحة .. هل أسأت إليك بالمعرض ليلة أمس ؟
_أسأت إلي ؟ وكيف يمكنك هذا ؟
_لا ؟ .. إذن سأقوم بما أغرتني به نفسي عندما رأيتك . ولكن التوقيت الآن غير جيد ، تبدين متوترة جداً .
وأشار إلى النادل طالباً المزيد من العصير ، ثم ارتد إلى هولي وعيناه الخضراوان تتراقصان بسيل من الاقتراحات : أتحبين العصير وقت الفطور آنسة رايدال ؟
إنه يحاول السيطرة عليها ! ويظهر لأنه معتاد على تحديق النساء إليه ، لامتلاكه مزيجاً من جمال الطلعة والثراء .. لاشك أنه معتاد
على احصول على المرأة التي يريدها ، ولكن إذا ظن أنها واحدة منهن فقد أخطأ أي خطأ ..
_العصير من اختصاص أمي .. أسرة رايدال أسرة عريقة في مجال المصارف في بوسطن ، سيد ويستون .
لكن هذا الرد لم يحبطه ، بل برقت عيناه سخرية . قلت لي إن الأمور المالية لاتعنيك .. هذا عيب يا آنسة رايدال !
هزت كتفيها بازدراء : أنا لاأهتم بالمصرف . لا..بالتأكيد لا ..أتصور أنك من المعجبين بالفن . ابتسمت له ابتسامة غامضة ، لاتؤكد
ولاتنفي .. وتركته يتساءل عما إذا كان مخطئاً أم لا !
_أنت جميلة مغرية .. لكنني متأكد أنه سبق أن قيل لك هذا كثيراً . كان المديح بالنسبة لهولي أشبه بماء متطاير عن ظهر بطة .
_ووجهك أيضاً مثير للاهتمام سيد ويستون . وهذا ما فكرت فيه ليلة أمس .. وأظنك تعرف هذا جيداً .. ولكن ما هو أكثر إثارة للاهتمام ،الوجه في اللوحة . ضاقت عيناه ، لكن ليس قبل أن ترى النظرة الحادة فيهما .. أهو الغضب ؟ أم الامتعاض ؟
_ أجل.. إنه مثير غامض، وهو عمل يشير إلى عبقرية فنية.. لم أشاهد قط نظيراً له.. وهذا أحد الأسباب التي دفعتني لشرائها. شعرت هولي أنه يتحدث بصدق لكنه لم يكشف لها عن شيء بعد..وصل العصير فسكبه النادل في كوبيهما، رفع فيلكس كوبه محيياً:
_ إلى تفاهم أفضل بيننا .
إنه فعلاً جذاب.. وحاولت هولي بشدة مقاومة جاذبيته الشديدة .. لن تستطيع تحمل تأثيره فيها ولكن من يعرف أكثر منها أن الشخص في الداخل هو أهم بكثير من الخارج الجذاب.أخذت تراجع الموقف، فيلكس ويستون لن يقع في حبائل الإدلاء بأي شيء لايريد قوله.. إنه حاد الذكاء، بارع.
لكنها أدركت شيئاً واحداً فقط: إنه يريد إخراج اللوحة من المعرض. ولايعقل أن يكون منظر كيمبرلي هو الذي يعنيه.. إذن السبب هو وجه المرأة .. وهذا يعني أنه وجه معروف، وليس معروفاً فقط، بل إنه لامرأة موجودة لايريد فيلكس ويستون أن يتعرف إليها أحد.. الآن، وقد عرفت من هو، تصورت أنها قادرة على معرفة من هي المرأة .. لكن، هل ستكون صريحةأكثر من فليكس ويستون؟
سألها فجأة: " منذ متى تمتلكين اللوحة"؟.
رفع نظرها بحدة.. لكنها لم تجد سوى نظرة متسائلة على وجهه: منذ السنة الماضية.
_ لاحظت من الدليل، أن الفنان توفي في السنة الماضية.. فهل امتلكت اللوحة قبل موته أم بعده ؟!
ردت باختصار: " بعده". هل حان الوقت لتقول له إن الفنان هو والدها؟
_ إذن أنت لم تمتلكيها منذ زمن طويل؟
مرت أخرى أحست برضاه عن ردها.. فالفنان مات، ودفن سره معه.. هذا مايظنه فيلكس.. وقالت:لا.. لاأملكها منذ وقت طويل.. لكنني لن أتخلى عنها سيد ويستون. إن لها.. قيمة شخصية عندي.. وأتساءل عما إذا كان لها عندك أيضاً قيمة عدا قيمة اللوحات الفنية النادرة.
رسم ابتسامة تساهل على شفتيه: رأيتها للمرة الأولى ليلة أمس آنسة رايدال.. وأريدها.. وهذا أمر شخصي بقدر ماأشعر به تجاه أية لوحة أخرى.
تممت:"هكذا إذن"!?".
وتابعت تناول الطعام.. لن يفصح عن شيء. يجب أن تمارس ضغطاً أقوى، وهناك طريقة واحدة لهذا.. الضغط عينه الذي حمله على المجيء إلى مائدة الفطور هذا الصباح. لم يعد ألى موضوع اللوحة بل أخذ يسألها عما شاهدت في أستراليا، وعما أعجبها فيها.. حديث جريء.. لكنها تابعت لعب لعبته حتى انتهاء الفطور ثم وقفت ومدت له يدها: كان اللقاء بك ساحراً سيد ويستون.. شكراً لك على الوقت الذي أمضيته معي.
قام عن كرسيه وعلى وجهه نظرة قلق: هذا من دواعي سعادتي آنسة رايدال.. هل ستعطين التعليمات إلى وكليك للمضي قدماً في إتمام الصفقة؟
ارتسمت ابتسامة أسف صغيرة على شفتيها: أنا آسفة..قررت ألا أبيع!
انتابه ذهول حقاً! وكادت أصابعه تسحق أناملها: آنسة رايدال.. لاوقت لدي للعب.. لم أر قط من يدير ظهره إلى صفقة كالتي أعرضها عليك.. ولاأصدق أنك تفعلين هذا الآن.
واجهت نظرته بمثلها: سيد ويستون.. لقد تعلمت العيش من دون مال أو ناس، منذ أمد بعيد.. وسأكون ممتنة لو تركت يدي.
أربك الإحباط شفتيه.. وتطاير شرر الغضب من عينيه ونظر إليها ثم ترك يدها وسأل بقسوة: لماذا وافقت على مقابلتي إذن؟
أجابت ببرودة كلية: لمناقشة أمر اللوحة ، لكنك لم تُرض فضولي ولم ترد على الأسئلة التي طرحتها.. فكر ملياً في الأمر سيد ويستون.. وإذا رغبت في المناقشة مجدداً فاتصل بي هنا.. علماً أن الموعد النهائي هو اليوم!
عندما سارت مبتعدة أحست بعينيه تخترقانها كأشعة اللايزر، وهذا ما أعطى دفعاً منعشاً لكل خطوة تخطوها وتساءلت عما كان يخطر له.. فهو ينتصر عليها وهذا بدون شك تجربة جديدة له..لم تستطع هولي إلا الابتسام لنفسها على نصرها الصغير عليه.
استغلت وصول أول مصعد فاستقلته دون تردد..وقبل أن يغلق الباب، استرقت نظرة إلى فيلكس.. لم يكن قد تحرك من مكانه.. بل كان مايزال متسمراً ينظر إليها.. لكن لم تبدُ آثار الهزيمة عليه.. وهنا شعرت هولي بأمر مريب، وبخطر غريب.. وكأنها أثارت وحشاً مفترساً سيلاحقها حتى أقاصي الدنيا.. وخامرتها تخيلاتها عنه ليلة أمس: محارب يجرؤ على أي شيء، ولا يدع شيئاً يقف في وجهه.
هرولت بسرعة في الردهة وطلبت من الحاجب أن يستدعي لها سيارة أجرة، وهي وسيلة الهرب السريعة التي تريد اختيارها.
سألها السائق: إلى أين؟
كان الباب قد أوصد .. ولن يتسنى للحاجب أن يسمع .. فقالت بهدوء: إلى الميناء.
بدت لها رحلة في زورق حول ميناء سيدني فكرة جيدة.. ستكون أية عبارة مفيدة لأنها ستبعدها عن المنال فترة.

الهجوم الأخير

سارت هولي فوق رصيف الميناء وراحت تلقي نظرة على وجهات العبارات ومواقيتها .. لفت نظرها ملصق إعلاني عن حديقة حيوان " تارونغا بارك" فاتخذت قرارها باندفاع.. موعد إقلاع العبارة يشير أن عليها الانتظار عشر دقائق .. ألقت نظرة سريعة على منصات بيع السواح المركزة قرب الرصيف ، ولمحت منصة بيع قبعات قش.. عليها أن تحمي بشرتها من الشمس لئلا تتعرض إلى الأذى.
طافت كلمات فيلكس ويستون إلى رأسها : " أنت جميلة مثيرة".. تساءلت عما إذا كان يعتقد أنها هكذا فعلاً .. أمر واحد مؤكد : من السهل أكثر أن تكون جميلة ، لابشعة.. مع أنها لا تعتبر وجهها مميزاً وهي تحمد الله لأنها عادية الجمال .. ولكنها كلما نظرت إلى المرآة كانت ترى معجزة العلاج باللايزر.
كان الركاب يتدفقون إلى المركب بعدما أنهت شراء قبعتها ، فسارعت لتنضم إلى صف المسافرين . وما إن صعدت حتى اختارت البقاء على السطح في الخارج لأنها لاتريد أن يفوتها أي شيء من المنظر. لم تكن حديقة حيوانات " تارونغل بارك" اختياراً صائباً لإبعاد تفكيرها عن الرجل الذي أدارت له ظهرها..
الحيوانات الخطرة كانت في مستوعبات آمنة، لكن الكثير منها كان يذكرها بفيلكس ويستون الذي هو غير محبوس في قفص أبداً والذي ليس من النوع الذي يقبل أن يقيده شيء .. ولسوف يعود لينتقم منها.. السؤال الوحيد هو أي نوع من الأسلحة سيستخدم في لقائهما المقبل.. كان سلاحها الوحيد علاقتها بالرجل الذي رسم " الأحلام الضائعة" فهل تبقي هذا لمفاجأة فيلكس، ودفعه للكشف لها عما تريد؟ إنه رجل ما للكلمة من معنى.. صنف من الرجال كانت تظن أنه مفقود في العالم الغربي.. إنه يختبئ وراء رداء المدينة.. لكن هذا لا يخفي تماماً الجانب المتوحش في طبيعته.. إنه لايحترم النساء أبداً ، بل يستغلهن كما يشاء . ومع ذلك .. لم تستطيع منع نفسها من التساؤل عن الإحساس بقوته ورجولته؟
هزت رأسها.. إنها لا تريد التفكير فيه .. أو بغيره فالرجال ، عامة، ليسوا من بين أولويات اهتماماتها.. منذ ثلاث سنوات وقعت في الحب. أو أحبت فكرة أن تحب ويومذاك اكتشفت أن بإمكان الرجال أن يفسخوا أية علاقة في سبيل المضي في حياتهم كما يريدون .
وهي متأكدة أن فليكس ويستون هو من الصنف ذاته.
لابد أن هناك خطأ ما فيها .. لماذا تريد إقامة علاقة دائمة مع أشخاص مثل الذين مروا بحياتها؟ فكلهم كانوا يرغبون في الزواج إنما بعد أن يكونوا مستعدين له ولكنهم يبقون خليلاتهم إلى جانبهم .. أما بما يتعلق بفيلكس ويستون فهناك أكثر من هذا وكأنه سيقف على دوام بعيداً عن كل شيء .. لا تستطيع تصوره وهو يغير مبادئه لتتلاءم مع صورته التقليدية..
غريب أنها تفكر فيه بهذا الشكل الدائم فلم يكن لها إلا حبيب واحد انتهت علاقتها به منذ ثلاث سنوات حتى معه لم تستطع إلزام نفسها .. ولعل ما أزعجها أنه كان راغباً في جسدها وليس في شخصها .. وقد آلمتها نتيجة علاقتهما كثيراً . لذا .. لم تعد ترغب قط في تكرار التجربة. مع ذلك في فيلكس ويستون شيء مايشعرها بأنها امرأة.. امرأة لها احتياجات. لم يكن لديها أية أوهام بشأن الرجل ولو أظهرت له أي ضعف لاستغلها دون أن يشعر بوخز الضمير.. لكن ماذا لو..؟
زأر أسد في وجهها ، وقالت لنفسها إنها مجنونة لأنها تفكر فيه على هذا النحو .. فرجل مثل فيلكس سيمزقها إرباً .. وحملت نفسها
إلى مقهى داخل الحديقة لتناول الغذاء ، ثم عادت نحو حديقة الأسماك .. وما إن رأت سمك "القرش " حتى تذكرت الرجل الذي تحدته هذا الصباح . فتابعت سيرها إلى حيث ترسو العبّارة وهي تفكر في أنها أمضت الوقت الكافي بعيداً عن فندقها . وربما هناك رسالة تنتظرها . كان الوقت عصراً عندما عادت هولي إلى الفندق .. ومع أنها وجدت رسالة من جيوفري هامينغز يطلب فيها أن تتصل به ، إلا أنها لم تفعل ، فهي لاتريد أي جدال بشأن الصفقة وهي متأكدة أنه سيتصل بها قبل نهاية النهار .
جعلها حدسها تدرك أن فيلكس ويستون لن يكون مسروراً أبداً إذا خسر صفقة .. خاصة هذه الصفقة بالذات ! فسيحاول أن يضغط كثيراً لذا عليها أن تكون مستعدة للتعاطي مع رده . فلتحصل على الأقل احترامه !
_تلقت المكالمة الهاتفية في تمام الخامسة والنصف وسرعان ما تعرفت إلى صوته حتى قبل أن يعطي اسمه . ولم يضيع أي وقت ليدخل صلب الموضوع . يجب أن تسمحي لي برد مجاملة وجبة الطعام آنسة رايدال ... شاركيني العشاء الليلة !
_شكراً لك سيد ويستون . ضحك ضحكة خافتة من أعماق حنجرته . أتطلع شوقاً إلى لقائك مرة أخرى .. سأزورك في السابعة ،
أذا كان هذا مناسباً . عظيم .. قرب المطعم مقهى فيه صالون . لاأظن هذا آنسة رايدال .. فعلى المرء ألا يتذوق الأطايب من المكان
ذاته .. دعي الخيار لي آنسة رايدال . أراك في السابعة .
أقفل الخط قبل أن تسأله إلى أين ينوي اصطحابها ... لقد عادت المعركة ، ولكن هولي انزعجت لأن نبضاتها عادت تتسابق .. تساءلت عما إذا كانت تثيره بالطريقة التي يثيرها فيها .. ثم قررت أن التفكير في هذه الطريقة خطير بكل تأكيد .. ويجب أن تعرف ماذا يعرف عن اللوحة قبل أن .. قبل أي شيء آخر .
استحمت ، وأطالت الوقت بغسل شعرها الذي جففته حتى أصبح ناعماً برّاقاً . فتشت قي ثيابها القليلة وقررت ارتداء بزة لها سروال وردي وأبيض مصنوعة من الحرير الناعم الذي لايجعد . كان للسترة المتسعة من الأسفل ثلاثة أرباع الكم يحدها تطريز أبيض وللبزة وشاح طويل من القماش عينه يمكن ربطه حول الخصر أو تعليقه حول العنق ، لكنها اختارت أن تربط به شعرها وتركت طرفيه يتدليلن على ظهرها .. وفكرت أن من الحكمة عدم إبراز معالم أنوثتها الليلة .. وضعت أحمر شفاه خفيف ولكنها لم تتزين بأي حلي أو تتعطر . فالليلة ليلة عمل .. واليوم ينتهي عند منتصف الليل .. لذا يجب تسوية شيء ما حتى ذلك الوقت .
في تمام السابعة سمعت القرع على بابها ، ولم تتركه ينتظر بل سارعت تلتقط حقيبة يدها البيضاء التي حضرتها وسحبت نفساً عميقاً مهدئاً . كان فيلكس ويستون يرتدي بزة سوداء رسمية .. بدا وسيماً بشكل مدمر . وأحست هولي أنها تلقت ضربة على قلبها .. من حسن الحظ أنها فرضت النظام على نفسها منذ زمن بعيد لئلا تُظهر أية ردة فعل أمام الناس .. لأنه حين ابتسم صعب عليها المحافظة على وجه غير متجاوب .. فسمحت لنفسها بابتسامة صغيرة .
قال : " اللون الوردي يناسبك "
_شكراً لك .
مد ذراعه ، وبعد تردد قصير شبكت يدها معه وسارا في الممر نحو المصاعد . كانت عضلات ساعده تحت كم البذلة قاسية كالصخر . ولاحظت هولي أن قمة رأسها كانت على مستوى فمه ... وهذا ما يجعله أطول بإنشين من الستة أقدام .. علقت متسائلة وهما ينزلان بالمصعد إلى الطريق : لم تخبرني إلى أين ستصحبني . التوى فمه ممازحاً : أنت شخص يصعب التأثير فيه آنسة رايدال . لقد اخترت مكاناً مميزاً بشكل خاص .. وأظنك مديتة لي بمفأجاة .
تدل بزته على أنه اختار مطعماً من الدرجة الأولى ، هكذا قررت هولي أن لا داعي للقلق.. إضافة الى هذا ، معها مايكفي من مال في حقيبتها لتغطية تكاليف أي تاكسي، لو أرادت أن تتركه .
استقلا سيارة أجرة و شاركته المقعد الخلفي .. وبدلاً من قول العنوان الذي يقصده ، أعطى السائق بطاقة ، ثم ارتد إلى الخلف يحدثها : هل كان يومك لطيفاً ؟
ـ أجل .. كان لطيفاً.
لاحظت أن السيارة تتجه الى الميناء..تابع السؤال: ألم تفعلي ماهو مثير؟
نظرت إليه بجفاء : ذهبت إلى حديقة حيوان" تارونغا بارك" وتحدثت إلى الحيوانات .
ضحك بصوت منخفض أجش ، ضحكة مثيرة. وقال: وماذا قال لك حيوانا الكولا و الكانغرو؟
ـ فكرت أن من المفيد أكثر ، التواصل مع الأسود و النمور.
ثم ندمت على الرد حين لم يضحك مجدداً . وقال بجد: أنا لا أؤمن بأسر أحد ضمن قفص ، والواقع أنني أكره هذا .. أفضل رؤية الحيوانات في البرية حيث تنتمي .
أشاحت هولي بوجهها وهي تشعر بموجة مربكة من الحرارة تقتحم بشرتها . وعرفت أن ماقاله صحيح .. فهو من النوع الذي يفتح كل الأقفاص ليترك الحيوانات حرة . ولاحظت أن السيارة تتجه إلى الميناء .
سألت : " وكيف أمضيت نهارك"؟
ـ عملت بنصيحتك وفكرت لبعض الوقت ولكنه كان وقتاً صعباً .
نظرت إليه ، فوجدته يبتسم لها، فقالت بخفة: وهل كان تفكيرك مثمراً?
ـ ليس بالضبظ بل كان أشبه بالبذار وقت العاصفة.. إنما سنرى إلى أين ستهب العاصفة الليلة!
ومض شيء في عينيه ، وأحست هولي مرة أخرى بقشريرة خوف وخطر تسري إلى ظهرها. حاولت صرفها، لكنها لم تستطع.. في هذا الوقت توقف التاكسي أمام مبنى مكاتب ناطحة للسحاب، وخرج فيلكس الذي أعطى السائق أجرة ، قبل أن يتاح الوقت لهولي أن تسأل شيئاً .
أمسك مرفقها وأدارها نحو أبواب زجاجية لمدخل كبير .. من الداخل، تحرك رجل أمن ففتح الأبواب: مساء الخير سيد ويستون.
ـ شكراً لك جورج.
ثم قاد هولي إلى مصعد فتحه بمفتاح خاص.. إما أنهما ذاهبان إلى ملهى ليلي فخم يقع في قمة المبنى، وإما هي مخطوفة، إذ لم يكن هناك سوى زر واحد في المصعد.. بذلت جهداً كبيراً لتبقى هادئة.
حين رافقها إلى شقة في أعلى البناء تطل على مرفأ سيدني، كادت تركل نفسها لأنها لم تتوقع هذا.. فهو بكل تأكيد لا يرغب في وجود أحد حولهما .. وبهذا لا يحتفظ بالخلوة لنفسه فقط، بل يسمح لنفسه فقط، بل يسمح لنفسه بالسيطرة على تقدم مفاوضاتهما..والرد على هذا واضح المعالم .. يجب أن تظهر عدم اكتراث كامل .
تحركت في غرفة الاستقبال الواسعة : ما أجمل هذا! إذا كان هذا منزلك سيد ويستون فلا شك أنك تفخر به.
ـ إنه لي .. وأنا أعمل بكل جهد لأحصل على ماأمتلك آنسة رايدال .. وسيكون من الحكمة جداً ألا تتغاضي عن هذا العامل في حساباتك.
نظرت هولي إليه متهكمة: العمل هو عماد الحياة لأشخاص مثلك سيد ويستون..هناك دائماً صيد قاتل يجب إتمامه في السوق .. أليس كذلك ؟ شيء تهزمه.. شيء تجعله لك ..دائماً أفق جديد .. تحد آخر .. لا.. أنا لن أتغاض عن هذا . .أدارت نظرها إلى المنظر مرة أخرى وأردفت بهدؤء : أتساءل كم مرة توقفت لتنظر جيداً إلى ماتمتلك؟
انعكست صورته بوضوح على زجاج الباب ، وراقبته هولي خلسة على أمل أن تصيب فيه وتراً حساساً قد يزعزع ثقته المتعجرفة بنفسه. وعندما اشتدت عضلات فكه ابتسمت هولي لنفسها. قد تكون لغة الجسد كاشفة، خاصة حين يظن المرء أنه غير مراقب..أحست أن ماسيقوله الآن بغاية الأهمية فركزت لتصغي إلى كل معنى متوار في كلماته: المسألة التي نبحثها ..هي ماذا تريدين أنت ..؟ إلام تسعين؟
كان يرمي كلماته بقسوة ، ولايزال يسيطر على نفسه بتجهم .. لم ترد هولي .. ففي ذهنه شيء آخر .. شيء يكاد يقوله .. وتريد منه أن يقوله .. مع ذلك، حين جاء الرد، ماقاله كان مفاجئاً بحيث أنها لم تكن قد تحضرت له.
ـ فلندخل فوراً إلى صلب الموضوع آنسة رايدال . لكنك لست الآنسة رايدال بل أنت الآنسة ماكنافش ابنة ايرول ماكنافش!

ـ ليلة القبض على الصياد



بقيت هولي جامدة في مكانها حتى توقف قلبها عن الخفقان.. لقد انتزع فيلكس ويستون عامل المفاجأة منها، واستخدمه بنفسه. ولكن على هذا ألا يؤثر فيها! ارتدت ببطء، عيناها الرماديتان صاحيتان ثابتتان.
_ اسمي رايدال.. لقد تبناني زوج أمي رسمياً .. لكن والدي الحقيقي هو ايرول ماكنافش.
ابتسمت ابتسامة جافة.
ـ يبدو أنك شغلت نفسك اليوم بهذا.
وكادت تضيف أنها استغرقت العمر كله تقريباً لتعرف هذه المعلومات الدقيقة ، ثم أمسكت لسانها على أمل أن تسمع ماذا تعني هذه المعلومات له. لكن تعابيره المتجهمة لم تلن، بل بقيت قاسية لارحمة فيها .
ـ لم يكن صعباً علي أن أعرف الأمر من جيوفري هامينغز، فهو يحب المال. كان عليك إعطاءه تعليمات صارمة ليكتم هويتك.
ـ لم يكن هناك داع لهذا ..كنت سأخبرك على أي حال عاجلاً أم آجلاً .
ـ أجل .. بالتأكيد .. يجب أن يظهر هذا، أليس كذلك؟ لابد أنك كنت تتيهين ابتهاجاً وغروراً ليلة أمس حين ابتعلت الطعم .. ولقد جررتني هذا الصباح إلى ماتريدين .. لكن، الليلة.. الليلة سنسوي الأمور بطريقة أو أخرى.. لمرة واحدة وإلى الأبد، أو ماتبقى من الأبد! لم يكن لدى هولي فكرة عما يتكلم عنه.. مع أنها أملت أن تظهر اللوحة شيئاً عن ماضي أبيها، وردة فعل فيلكس توحي بأنها مهمة كثيراً بالنسبة له.. لكنها لاتزال تجهل المسألة.. وعليها بطريقة ما المضي باستفزازه حتى يتكلم.
قالت بخفة: أنا لا أعارض تسوية كل شيء الليلة لأنه يناسبني. التوى فمه سخرية : إذن نحن نفكر معاً على الموجة ذاتها.
غمغمت دون اكتراث: همم..ربما. حركت نظرها ببرود متعمد إلى اللوحات الموضوعة على الجدار خلفه.. وعلقت: ذوقك رفيع.
عندما لم يرد ، أعادت نظرها إليه وحاجبها مرتفع تساؤلاً .. برقت العينان الخضراوان بإعجاب ساخر.
ـ سأقول لك شيئاً ..لذلك أعصاب من فولاذ.
سار ببطء نحوها وكانت كل خطوة تجربة لرباطة جأشها.. في هذه اللحظات عرفت هولي ما يشعر به الحيوان حين يتسمر بأرضه خوفاً .. لم تتكن من انتزاع عينيها من عينيه ، وبدأ قلبها يرعد في أذنيها .. لكنه لن يهددها جسدياً.. توقف نصف خطوة بعيداً عنها، وارتفعت يده إلى خدها وراحت أطراف أصابعه تمر برقة على بشرتها وهو يتكلم : أعترف أنني أقدر مامررت به.. بل أنا معجب كثيراً بالطريقة التي تتعاملين بها..وأنا مستعد للوصول معك إلى اتفاق . هناك دائماً اتفاق يجب التوصل إليه بين من هو مثلي ومثلك، أليس كذلك؟ عم يتكلم؟ هل هو جاد؟ أم تراه يتلاعب بها، بغية اختراق الأسوار التي حصنت نفسها؟
قال بصوت ملؤه التحدي، وكأنه قرأ الشكوك في عينيها : ربما .. لا.
أجبرت صوتها بكل ماأوتيت من قوة إرادة على البرودة والحدة: ماذا تريد سيد ويستون؟
ـ في هذه اللحظات.. هولي ما كنافش، لست واثقاً ما إذا كان علي أن أكرهك أم أن أعانقك بجنون.
شكت هولي في أنه قادر على الأمرين معاً ..وقالت: ليس الأمر حكيماً في هذه المرحلة الحاسمة.
ـ قد تجدين شيئاً ما بين الاثنين.. ولكنني غير واثق مما إذا كنت سترمين ذراعيك حول عنقي وتبادلينني عناقي المجنون أم ستخرين على ركبتيك لتتوسلي.. لذا أردت أن أعرف .
ـ للأسف أنه لن يبدر عني أي أمر من الأمرين اللذين ذكرتهما.
قهقة بصوت أجش ولكن أصابعه تابعت جولتها على خدها وفمها وصولاً إلى خدها الآخر .. فجعلتها لمسته هذه ترتجف.. وللمرة الثانية استقطبت كل مالديها من قوة إرادة وتركيز لتبقى جامدة ، على الأقل ظاهرياً .. لكنها لم تكن مسيطرة على مافي داخلها.
كؤفي جهدها بالإعجاب الذي تسلل إلى عينيه .. وأحست أنها تكاد تصاب بالدوار جذلاً لهذا الدليل الواضح على الاقدام الذي ظهر عند مثل هذا الخصم المهيب .
ثم قال بغموض: ستكونين رائعة.. رائعة.
أحست أنها انتصرت.. فللتو كشف عن شيء هام.. لكن ماهو؟ ليس لديها فكرة. كل ما عليها أن تفعله هو الانتظار . وفي النهاية ماذا يشمل نصرها هذا؟
قررت أن تحاكيه في لعبته ، دون الكشف عن أي شيء: ربما ستكون أنت أيضاً رائعاً.
وثب شيء خطير متوحش إلى وجهه وسرعان ماارتد خطوة إلى الوراء: إذن فلنبدأ العمل.
جذبها إلى إحدى الأرائك الجلدية الموضوعة حول طاولة زجاجية السطح. الواضح أن فيلكس كان ينوي تقديم بعض الطعام والشراب لها. فعلى الطاولة صينية عليها أكواب أنيقة من الكريستال، وإبريق من عصير. أجلسها على الأريكة، ثم ركز اهتمامه على سكب العصير.. ثم لوح لها داعياً إياها إلى تناول ماتشاء من الطعام الشهي: أنصحك بتذوق الكافيار الذي هو من نوع " بيلوكا" وأنا أستيغيه أكثر من نوع " السفرون". وضعت بكل حذر ، قليلاً من الكافيار على خبز محمص، وقضمت قضمة فهي بحاجة إلى مايهدئ معدتها. جلس فيلكس إلى الأريكة المقابلة لها ، وأخذ يرتشف العصير، وعيناه تدققان بها بشكل لايلين .
ـ أنت تقامرين.. أتعرفين هذا؟ أنا لا أصدق أن علي أي دين أو مسؤولية في هذه المسألة .. ومن غير المجدي لك المضي بما بدأت به.
لم تصدقه هولي، إنها تقامر.. لكن المشكلة أنها لاتعرف عما تتكلم : ..ألا تظن أننا معاً ضحيتان لآرائنا الخاصة؟
سأل : " لماذا لاتبتعدين بخمسة ملايين؟".
هزت رأسها: " معظم الناس يحلمون بأقل من خمسة ملايين دولار..لكنني لا أستطيع القبول بها، فثمة مسؤؤلية وأمانة.. وأنا أنوي الحفاظ على تلك الأمانة مهما بدت المسألة غباء.. وثانياً ، لأن هذا ليس ما أسعى إليه".
التوى فمه تهكماً : اقترحي .. وأنا سأقبل اقتراحك مهماً كان.
دار عقل هولي في دوامة من التفكير.. إنها لاتعرف ماذا تقترح .. التقطت كوبها الذي ارتشفته ببطء وحاولت التفكير في المشكلة. الحل الوحيد لهذه العقدة هو ألا تقترح شيئاً. ارتفعت عيناها فالتقتا بعينيه بتحدٍ جريء..
ـ اقترح أنت.. وسأفكر في الأمر.
بدأ أن ردها كتم أنفاسه ، فقال بشدة: أنت بغاية القسوة.
ـ في هذه المسألة ، أجل.
ـ أليس هناك تسوية أخرى تقترحينها؟
ـ أبداً.
نظر إليها وكأنه لا يستطيع تصديق موقفها. ووضعت هولي كأسها من يدها ، واختارت قطعة معجنات مليئة باللحم المتبل.. أكلتها بشهية. يبدو أن وجودها مع فيلكس يزيد من أحاسيسها كلها.
سأل:" وهل فكرت في كل الخيارات؟".
ردت بصدق: " نعم".
غريب كيف يأخذ هذا كله بجد في الوقت الذي لاتملك فيه أية فكرة عما يبحثان. في هذه اللحظات، لها اليد العليا بكل تأكيد.. فقد أحست بقلقه.
ـ وهل هذا موقفك النهائي؟
ـ هذا ما يبدو لي.
إنها تجود في هذا اللعب المزدوج على الكلام، فقد أصبح ينزلق الآن دون تفكير: ولن أقول إنني لم أفكر في الأمر، كملجأ أخير..
فتشت عيناه في عينيها عن أي شرخ في دروع دفاعاتها وقررت هولي أن الجهل في هذا السياق نعمة.
قال:" خلتك ستتراجعين".
استخدمت الصمت من أجل رد أفصح.. فالتوى فمه وأضاف: هذا يوفر علينا التغاضي، ويدفع عنا الخلاف العلني .
لزمت هولي الصمت وأخذت تدير كلماته في رأسها.. وتتساءل عما هو العمل القانوني الذي يفكر أنها ستقوم به ضده.. كانت متأكدة من أنهما لايتكلمان عن اللوحة، ولابد أن يكون كلامهما عن منجم الألماس.ربما كان لوالدها يوماً حق بالمنجم.. على أي حال يتصور فليكس ويستون أن مقاضاته أمام المحاكم ستكون دعاية علنية سيئة ولكنها لاتعرف شيئاً عما يتحدث عنه. والظاهر أن فيلكس يأخذ المسألة بجد كبير والملايين الخمسة شاهد على هذا!
قال بقسوة شريرة: "لن أتحمل عنادك".
ـ ولا أظنني سأ تشبث بعنادي.
وانسلت الكلمات منها قبل أن تتمكن من استرجاعها.. وكانت مشغولة بمحاولة التفكير في الموقف، بحيث ردت آلياً دون فهم ماكان فليكس يقوله.. لكن عقلها تمسك أخيراً بكلمة " عناد"، ونظرت بتردد إلى فيلكس وهو يقف .
قال بصوت متجهم: لعبت دور البرودة طوال الطريق إلى هذا الموقف.. فلتتفحص هذا.
دار من حول الطاولة، وجذبها لتقف عن الأريكة بينما كانت تحاول أن تفهم ماذا يقصد..ما شأن عنادها بما يقول؟ لكنها لم تبق على عنادها عندما شدها ببطء إلى عناق جعلها تعي بشكل غامر قوة جسمه.. وتسارعت الحرارة تغزو شرايينها، ووجدت هولي عناقه أكثر فتنة من أن تقاومه.. ومع أنها علمت أن هذا سيضعف موقفها مضت فيه .. ولكن ألم تتساءل طوال النهار عما سيكون شعورها لو عانقها فيلكس ويستون؟ والآن بعدما حدث ماحدث لن تفوت الفرصة لتعرف.هكذا دست ذراعيها حول عنقه، تشجعه بشكل متعمد على احتضانها أكثر.. والظاهر أنه سارع ليستغل الفرصة..
فيما بعد، لم تعرف هولي ماذا حدث فقد تفجر شيء مابينهما.. مشاعر عطشى إلى مزيد من الارتواء.. اندفاع لاسيطرة عليه، يجمع بينهما حتى لا يعود هناك سبيل إلى الفراق.
ولكن الفراق جاء وعندما حدث كان متوحشاً عنيفاً . فقد انتزع ذراعيها عن عنقه، وأرجع رأسه إلى الوراء لينظر إليها.. وكانت عظلات عنقه بارزة متوترة ، قوية لاتلين.. وأحست بالحرج.. لأنها لم ترد منه أن يبتعد عنها.. وهو أيضاً رغم ابتعاده عنها كان يجاهد بكل طاقته ليقاوم.. إذن فهو ليس منيعاً ضدها! أشعرها هذا الأمر بالانتعاش والقوة، فلا مجال لإنكار ردة فعله نحوها. عندما أخذ يقوم تعابير وجهها رأت في عينيه نظرة حذرة وابتسمت متسلية بقدرتها على تحديه.
ـ حسناً .. قد يكون الدفاع فولاذياً ، لكن الجسد جسد امرأة.
ردت ساخرة: لكنني لم أشك قط في رجولتك.. إنما لابأس بمعاينة الأمر.
ـ اعتبري المسألة منتهية.. متى تريدين أن يتم الزواج؟
الزواج ؟ لم يكن لدى هولي جواب جاهز. ولم تعرف بماترد.. وتوجه تفكيرها إلى المعاني المزدوجة التي ذكرها .. لقد قال : اقترحي وسأقبل.. وطلبت أن يقترح هو..لم تفكر قط أنه قد يقترح شيئاً كالزواج ولكن الواضح أنه ظن هذا.
هذا سخيف! لكن كيف تشرح الأمر له؟ إنه ينتظر ردها.. لقد تصورت أنها قد تقع في حبه، لكن زوجته؟ كان للفكرة سحر غريب.. وبعد ذلك العناق لن تقول لا.. إنما ليس في الحال.
ـ وماذا يناسبك؟
ـ يناسبني أن يتم الأمر في أسرع وقت ممكن.. فساعتئذ، أستطيع التأكد أنك لن تلجئي إلى أي خداع. فلنتم الزواج غداً .
فكرت بتهور: ولم لا؟ لم يجعلها رجل قط تحس بأنها حية فكرياً وجسدياً، حتى " صديقها" الأول الذي خططت لتتزوجه. فلماذا لاتجرب مع فيلكس ويستون؟ وقبل أن يسيطر المنطق البارد أكثر على نفسها، قالت : " أجل.. ليس لدي ماهو أفضل من هذا أفعله غداً..".
ليس لديها ماهو أفضل لتفعله لما تبقى من حياتها.. وزواجها هذا سيكون تغييراً .. نحو الأفضل.. أو الأسوأ.
قال بصوت ملؤه الرضا: اتفقنا إذن .. سأقوم بالترتيبات اللازمة.
أحست هولي بالتردد.. ومع ذلك قالت بتبجع ثابت: هذا يناسبني.
على أي حال، لو غيرت رأيها فسيكون بمقدورها ركوب أول طائرة إلى بوسطن، بينما هو ينتظرهافي الكنيسة .. لكن حتى في هذه المرحلة، لاتظن أن هذا سيحدث.
في ماتبقى من الأمسية تساءلت هولي عما إذا أخذت إجازة من عقلها.. لقد جاءت إلى هنا بحثاً عن معلومات عن والدها، وإذا بها تندفع إلى قرار لم تكن لتتوقعه حتى في أكثر أحوالها جنوناً . لكن معرفتها بأنها ليست في خطر خفف من الضغط على أعصابها، وأدركت أكثر أن قبول فيلكس لهذا الزواج المجنون، سيبلغها بكل تأكيد شيئاً ما عن والدها، وحياته.
لكن كيف السبيل لإيجاد الوقائع الصحيحة خاصة وهي تجهل كل شيء؟ ولكن فيلكس على مايبدو يدين لوالدها بشيء، وهو مستعد للمضي حتى الزواج ليصلح هذا الأمر الذي جرى مع والدها في الماضي.. سيكون زواجهما بلاشك علاقة مريرة، لأن فيلكس سيظنها مجرد امرأة مندفعة تحسب حساب كل شيء ببرود، قد انطلقت لتحصل على ماتستطيع الحصول عليه .. من ناحية أخرى، هو ببرودة كان يقوم بشيء من الحسابات ليوفر على نفسه إجراءات قانونية يعتقد أنها ستكلفه الكثير.
ولكنه لايبدو غير سعيد بالصفقة التي عقداها.. بالمعنى الذي قصده هو. ساد الحديث بينهما جو من عدم الواقعية .. وانطلق فيلكس يحدد التفاصيل العملية لما يحتاجه زواجهما.. وقالت هولي نعم لكل شيء اقترحه.. من زواج خال من أي مراسم إلى صرف النظر عن كل ادعاء زائف بشهر عسل. وحين قال إنهما سيسافران إلى " بندنير داونز" في الصباح الذي سيلي زفافهما، لم تسأل أين يقع هذا المكان، أو ماهو.. ووافقت دون سؤال.. مع أنها لاحظت أن موافقتها حملت بريقاً من الرضا الماكر إلى عينيه الخضراوان القاتمتين . هذا ماشدها من تفاؤلها لتعرف أن فيلكس لا يتقبل هذا الزواج بإرادة طيبة منه.. ربما وجدها مرغوبة لفترة.. لكن، بطريقة أو أخرى كان عازماً على هزمها في هذه اللعبة التي يعتقد أنها تلعبها.. إنها الآن تمسك نمراً من ذيله، لامجال لترويضه في الوقت الحالي.. والغريب أنها لم تشعر بالانزعاج من هذه الفكرة، بل على العكس أثارتها الفكرة أكثر.. لاشك أنها مجنونة حقاً أو أن فيها خطباً ما .. مع ذلك فقد استمرت تلاعبه.
أعادها رنين جرس الهاتف إلى أرض الواقع، وبوضوح كامل.. كانت هي وفيلكس قد أنهيا الطعام وعادا إلى غرفة الاستقبال يشربان القهوة، حين وصلت المخابرة.. توتر لهذه المقاطعة، لكنه التقط السماعة..
لم تستطع سماع سوى ما يقوله هو من الحديث.. لكن هذا أفادها بأن استطاعت تركيز تفكيرها بحدة.
قال:" لا.. يجب أن تتدبر الأمر بنفسك جاك.. لاأستطيع المجيء.. لدى هنا ما هو أهم"
صمت فيلكس فترة قصيرة جادله المتصل خلالها.. والتوى فم فيلكس بابتسامة ساخرة: سأتزوج غداً .. بالنسبةلي، لهذا الأولوية القصوى.. فافعل ما تعتقد أنه الأفضل .. مزاجي لايسمح لي أن أهتم الآن .. خطيبتي معي.
تراقصت التسلية الساخرة في عينيه وهو يصغي لردة فعل المتكلم.. ثم: ـ هي ليست أسترالية.. إنها أميركية، من بوسطن ، ماساتشوسيتس ولا أنوي انتظار أي شيءجاك..هذا شأني الخاص.
عندما طرح سؤال آخر قست عينا فيلكس فجأة وهما ترتفعان لتلتقيا عيني هولي المتسائلتين: اسمها هولي رايدال.. لكن مساء الفد سيصبح الاسم هولي ويستون. لقد قررنا أنا وهولي أن زواجنا شأن خاص بيننا فقط.. وهذا أمر نهائي جاك.. سأتصل بك حين أكون مستعداً .. وليس قبل ذلك.

أعاد السماعة إلى مكانها بحدة، وكأنما ينهي أي جدال آخر.. في تلك اللحظة، قررت هولي شيئاً ، فيلكس ملتزم بزواجهما، وهي لن تتراجع أبداً .. مهما ثبت غباء هذا، فهي مغامرة يجب أن تخوضها، أو ستندم!
أعادها إلى فندقها، وأوصلها إلى غرفتها. كانت قد أعطته جواز سفرها لتسهيل المعاملات القانونية المطلوبة للزواج، ولم يكن هناك شيء تفكر فيه لاستبقائه معها .. فتحت الباب وتوقفت تنظر إليه،آملة أن يعانقها عناقاً سريعاَ لتقتنع أكثر بصواب قرارها.
كانت تعابير وجهه جامدة ومخيفة بطريقة ما،وهذا ما جعلها تتساءل عما إذا كان يعيد النظر بقراره المتعلق بزواجه بها..
قالت بسرعة ملهوفة لإبقاء الحال على ماهو عليه: " ليلة سعيدة"


يتـــــــــــــبع
لكنه أوقفها وهي تحاول الخطو داخل غرفتها ويده تمسك ذراعها بقسوة. قال وعيناه تحترقان بحدة آمرة: شيء واحد آخر.. هولي.. تلك اللوحة يجب سحبها من المعرض في الصباح الباكر.. أبلفي هامينغز أن يغلفها ويخزنها.. ضعي مكانها شيئاً آخر. لاأهتم بالترتيبات التي قد تتخذينها طالما لن تبقى معروضة علناً.. هل هذا مفهوم؟ اللوحة! طبعاً.. هي صلب كل شيء..هي السبب الذي دفع فيلكس إلى هذا الزواج غداً. اشتد ضغط أصابعه على ذراعيها بشكل مؤلم، وزادت نظرته القاسية من حدة الأمر: ستحصلين على ماأردت.. والآن سأحصل على ماأريد .. من الآن وصاعداً، انتهى اللعب . لاتشكي في هذا للحظة واحدة.
ولم تكن لتشك.. وصممت ألا تكشف له أبداً كيف تم الوصول إلى هذا الموقف، مهما حصل:هذا الشيء الأول الذي سأهتم به في الصباح.
لقد أحست دوماً بالذنب لأنها عرضت اللوحة على كل الأجوبة التي تسعى إليها ولكنها واثقة أن الزمن كفيل بكشفها.. نظر فيلكس إليها متفرساً، وكأنه ليس واثقاً إن كان قادراً على الثقة بها.. ثم هز رأسه وترك ذراعها: أنت لست غبية.. يمكنني تأكيد هذا عنك.. هولي ماكنافش ـ رايدال.
لامس خدها بتحية ساخرة وأضاف: حتى الغد.
أطلقت هولي أنفاسها متنهدة تنهيدة خيبة.. فالواضح أنه غير راغب في كشف أي شيء لها، مع أنها أحست بأنه أراد معانقتها.. فهل أعاد التفكير في الأمر مرتين لأنه خشي أن يفقد سيطرته على نفسه. فيلكس ويستون، رجل متكبر، مكتف بنفسه. بعد الغد سيكون زوجها وساعتئذ لن يدير لها ظهره.
لوت ابتسامة صغيرة فم هولي وخطت إلى غرفتها وأقفلت الباب.. غداً سيأتي بالسرعة الكافية

ـ عينان تبحثان عن الألم


كان على هولي القيام باتصالين هاتفيين في الصباح التالي.. وبدأت باتصال العمل أولاً. ارتفع صوت جيوفري هامينغز بانفعال: بعتها!
ـ لا.. ولن أبيعها أبداً جيوفري..كل مافي الأمر أنني أريد سحبها من المعرض.. لقد قررت أنني لاأريد إظهارها بعد الآن .. لذا سأكون ممتنة لك لو خزنتها لي، حتى إشعار آخر.
ـ لكن..
قاطعته:" اللوحة التي رسمها أبي عن الغابة الاستوائية ذات القياس.. واسم الأحلام الضائعة ينطبق عليها أيضاً .. فلو علقت هذه مكان تلك لملأت الفراغ ، وعندئذ لن يلاحظ أحد شيئاً ..".
بدأ صوت سمسار اللوحات يشبه صوت أسطوانة مكسورة: لكن..لكن.. بالتأكيد بعتها؟
ـ أعتقد أنك عقدت صفقة مربحة بالأمس مع فيلكس ويستون.. ولكنني.. لم أبعها.
ساد صمت قصير.. جيوفري هامينغر بعيد كل البعد عن الغباء، تصورت هولي كيف يشغل عقله في هذه اللحظات فلاشك أنه يقلب في فكره العواقب المحتملة.. حين تكلم كان صوته قلقاً: كيف عرفت بما جرى الأمس؟ ابتسمت هولي لنفسها.. لن يجادلها بعد الآن بشأن اللوحة.. وسيكون تاجر اللوحات أكثر حذراً في التعامل معها مستقبلاً.
قالت:" جيوفري.. أنت ثرثار.. وماقلته لفيلكس ويستون عن هذا، هذه المرة.. كل ما ستخسره، هو عمولة خمسة ملايين دولار.. من ناحية أخرى.. لدى فيلكس ويستون مجموعة فنية عظيمة، وفي السنوات القادمة قد يشتري الكثير من اللوحات منك.. لقد وجدت كنزاً محترماً جيوفري".
صمتت قليلاً ثم سددت ضربتها: ستتأكد بنفسك من استبدال اللوحة هذا الصباح، أليس كذلك؟ أظنك غير قادر على إتمام الأمر بالسرعة الكافية. سمعت تفجر أنفاسه: بل أقدر، بل.. أقدر.. سأباشر هذا على الفور.
ـ شكراً جيوفري.. أقدر لك هذا. أنت وكيل رائع.
تنهدت هولي وهي تعيد السماعة إلى مكانها، واستعدت للمخابرة التالية.. فأمها لن تسامحها أبداً لو تزوجت دون إعلامها.. ومن السوء بما فيه الكافية ألايكون العرس مناسبة اجتماعية ضخمة في بوسطن. لكن الأكثر سوءاً ألاتخبرها مسبقاً عن زواجها، وبما أن هذا الزواج سيتم بهذه السرعة فلن يكون بمقدور هيذر وجول رايدال الحضور.. وهذا أفضل.. فالموقف مخادع.
ـ ستتزوجين من أسترالي؟
ماكانت صدمة هيذر رايدال وسخطها ليكونا أكثر وضوحاً ، لوكانت ابنتها واقفة أمامها.
أردفت:"عرفت أن سفرك لن يجلب لك أي خير"..
قدمت هولي المواساة التي يمكن أن تكون الأفضل لتسكين ثورة أمها: فيلكس أوسم رجل يمكنك أن تتصوريه، أمي.
ـ وهكذا كان والدك.
هذا خبر جديد لها وهذا يشير إلى السبب الذي جعل أمها تولع به. الوسامة والجمال هما تقريباً كل شيء بالنسبة لهيذر رايدال.. فتشوه وجه ابنتها مثلاً كان أمراً لم تستطع تحمله وهذا مازاد هولي ألماً ولكن الوقت حالياً غير مناسب لنبش الجروح القديمة..
أردفت:" وهو كذلك عظيم الثراء".
ـ من أين؟
إنها تعني هل ورث ماله عن أبيه أم جناه بنفسه.. ولكن التبجح المتكبر الضمني في هذا السؤال جعل هولي تغضب..
ـ من الألماس أمي.. لا أدري ما إذا سمعت بألماس كيمبرلي الملون، لكنه أروع ألماس في العالم.. وفيلكس يمتلك مناجم منها وهو من مشاهير العزاب بل هو الملك بينهم.
ـ لاتكوني سوقية الألفاظ هولي.. أعتقد أنه قد يكون مقبولاً .
ـ أنا تقبلته على أي حال.
ـ أجل ..حسناً أعتقد أن علي أن أكون ممتنة لأنك أعطيتني علماً .. ولماذا الاستعجال؟ لا يعجبني هذا.. هلا أخبرتني الحقيقة كلها؟
ـ أمي!
ـ إذن لماذا لا تتزوجين بشكل ملائم؟
تنهدت هولي.. فمخاوف أمها طبيعية: أنا لست متورطة معه أمي.. فيلكس ببساطة لايريد الانتظار.
ـ النساء يجعلن الرجال ينتظرون.. من غير اللائق..
ـ أمي! سأتزوج اليوم! أرجو منك أن تتقبلي الأمر!
ران صمت قصير بعد مقاطعة هولي الحادة لأمها.. ثم جاء القبول بشكل بارد: أتوقع أن يتمكن جول من الحصول على ملف عن فيلكس ويستون هذا، لنتمكن من إطلاق الخبر هنا. لكنني سأكون شاكرة إن أرسلت لي صورة زفاف.. وأشك أن يرضي هذا صفحات المجتمع..
ـ أشك في أن يرغب قيلكس بالدعاية على أي حال.
ـ هولي .. أنا لا أفهمك.
ـ لا أظنني أفهم نفسي.
وسمعت تنهيدة ثقيلة عبر الهاتف: متى سنلتقي به؟
ـ سأدعك تعرفين في الوقت المناسب أمي .. سأرسل لك العنوان الكامل حين أراسلك.
فجأة، كان في صوت هيذر رنة إلحاح: هولي .. هولي.. منذ متى تعرفين هذا الرجل؟
ـ أعرفه مدة تكغي لأعرف أنني أريد الزواج به.. أمي.. أرجوك لا تقلقي. أعدك..
ـ هولي هذا ليس رداً .. أنت تتجنبين الرد..
أطلقت نفساً متحشرجاً : ـ هولي.. لقد عرفت أباك مدة أربع ساعات حين.. حين وقعت في حبه بجنون.. ورغم ما شهرناه نحو بعضنا بعضاً، تبين أنها كانت غلطة رهيبة. لم نعرف بعضنا معرفة جيدة.. صدقيني أنني أعرف قوة الجاذبية الجسدية.. لكن.. عزيزتي.. غريب.. إنها لا تذكر متى آخر مرة سمعت مثل هذا الاهتمام والقلق العميق في صوت أمها: أمي..
ونفرت الدموع من عينيها: الأمر أكثر من هذا .. حقاً .. أنا لست صغيرة كما كنت أنت .. أمي .. أرجوك.. تمني لي الحظ.
ارتجف صوت الأم:" ألن تنتظري؟".
ردت هامسة:"لا".
ـ أتمنى.. أتمنى فعلاً لك السعادة هولي.. ماكنا يوماً على تواصل لكنني أردت لك دوماً كل ماهو أفضل.. تعرفين هذا.. أليس كذلك؟
ـ أجل.. أجل أعرف أمي.. بالتأكيد..
كانت الغصة في حلقها وبدا لها أن من السخف أن تكون عاطفية إلى هذا الحد.. مع ذلك.. ربما في الزواج ما يقرب الأمهات والبنات معاً ، مهما كانت المسافة بينهما بعيدة.. لم تكن غلطة أية واحدة منهما لأن نظرتهما إلى القيم والحياة مختلفة..
ـ شكراً لك أمي.. أشكرك لكل مافعلته من أجلي..
تنهدت:" هولي.. أتمنى أن تكوني عارفة بما تقدمين عليه".
ـ وأنا كذلك.. يجب أن أنهي المكالمة الآن أمي. سأتصل بك في القريب العاجل.
أحست هولي براحة كبيرة لإنهاء المكالمة التي لم تتصور للحظة أنها ستكدرها.. ربما حين تلتقيان مرة أخرى تعودان إلى ما كانا عليه من التباعد.. كقطبين متناحرين.. لكن، كان من الجيد، ولو لمرة واحدة، أن تطمئن أنها ليست ابنة اللايزر بالنسبة لأمها.. وأنها تهتم فعلياً بها.. مسحت عينيها وسحبت نفساً عميقاً ..ثمة أمر واحد يمكنها القيام به لإسعاد أمها وهو أن ترسل لها صورة عن الزفاف ولتكون الصورة جيدة عليها ارتداء ثياب تعجب أمها.. وبما أنها لن تسمع من فيلكس شيئاً إلى مابعد الظهر فهذا يعني أن لديها الوقت الكافي للخروج ولشراء بزة العرس.. وشيء مميزمعاً . على أي حال، الزواج مناسبة مميزة بحياة الإنسان.. مهما كانت الترتيبات غير طبيعية. استمتعت فعلاً بفترة الصباح وجابت فيها ثلاث دور للعرائس قبل أن تجد ماتريده. أعجبت بعدة أثواب رومانسية، ولكنها فكرت في النظرة الساخرة التي ستظهر في عيني فيلكس الخضراوين.. تلك البذلة الحريرية البيضاء التي اختارتها كانت رائعة، بسيطة، وأنيقة، وغالية الثمن. أبرز طرازها الكلاسيكي، ثنايا جسدها. وهذه السترة، وهذه التنورة ما كانتا أكثر تناسباً مع جسدها، لو أنها طلبت تفصيلهما على مقاسها.. ثم اعتمرت قبعة صغيرة أنيقة تتناسب مع البذلة، مصنوعة من القماش الحريري ذاته، ثم اشترت حذاء وحقيبة لتتم زيها. أخيراً عادت إلى الفندق مسرورة بما اشترته.. نشرت كل شيء فوق السرير، لتستمتع بالتطلع إليها.. ثم طلبت غداء خفيفاً إلى غرفتها. ما إن وضعت الهاتف من يدها، حتى بدأ يرن مرة أخرى.. فالتقطته ثانية، ولكم أدهشها سماع صوت فيلكس الذي اتصل قبل وقت مما اتفقا عليه.
قال بلهجة ماكرة: حاولت الاتصال بك طوال الصباح..
ردت بصراحة مماثلة: لقد أبعدت اللوحة من المعرض.
ـ أعرف هذا .. أردت فقط أن أتأكد ما إذا كنت بحاجة لشيء.. ثياب أو ماشابه..
ـ أنا على مايرام.. شكراً لك.
رد ساخراً :" عرفت أنك ستكونين منظمة.. ولم أتوقع ماهو أقل من هذا".
ردت بتحد: بإمكانك التراجع ساعة تشاء فيلكس.
قال بصوت: " ثلاث ساعات على العد العكسي".
ردت بحدة:" عظيم"!
ـ لسوء الحظ ثمة مشكلة إضافية علينا الاهتمام بها . فأمي تطالب بمقابلتك، ولقد وصلت هذا الصباح.. ولأنك العروس العتيدة، يجب أن تظهري بهذا الدور.. وأعتقد أن الملابس التي عندك تغطي هذا الأمر غير المتوقع! .
إذن لهذا كان يتصل بها! ابتسمت هولي.
ـ أمي تطالبني بشيء أيضاً فيلكس، صورة عن الزفاف. لذا اشتريت بزة مناسبة هذا الصباح. فهل ترتب أمر المصور، أم أرتبه أنا؟
تمتم بشيء من بين أنفاسه قبل أن يرد: اتركي الأمر لي. هل بمقدورك أن تكوني جاهزة في الساعة الثانية؟
ـبكل تأكيد.
ـ أمرت رئيس مصممي الجواهر أن يأتي من " بيرت" ومعه مجموعة مناسبة لعروس من الماس.. وأظن الفكرة ستعجبك. وإذا سار كل شيء كما يجب سأجلبه معي إلى غرفتك في الساعة الثانية.. بعض القطع قد تتطلب بعض التجربة.
ـ كما تشاء..
لايعني الألماس لها شيئاً .. لكن لم يعد هناك شك أنها الأساس في هذا الزواج.. ولاتستطيع إحباط فيلكس بهذا الخصوص.
قال بصوت متهكم: أيتها الآنسة الصغيرة الباردة.. هل لديك فكرة كم من المثير.. ؟ لا.. لاتردي على هذا.. أنا واثق أنك على علم بما أنت مقدمة عليه.
وانقطع الخط فجأة . فيما كانت تضع السماعة مكانها، لم تستطع إلا الابتسام لنفسها ابتسامة عريضة.. لقد زل لسان فيلكس.. وكشف أنه يجد واجهتها الباردة، مثيرة. ربما توصلت إلى نفسه كما توصل هو إليها.. وإذا كان الأمر هكذا.. حسن جداً ، فقد تكون عروس الماس، لكنها ستكون زوجة لن يسهل على فيلكس ويستون التخلص منها.
أفقدها انفعالها شهيتها، لذا عندما وصل الغداء لم تستطع إلا تناول السلطة.. وهمس لها التعقل أن إحساسها بالبهجة والترقب غير مبرر في مثل هذه الظروف.. لكنها مسرورة كثيراً بالاستعداد للزفاف.
استحمت واعتنت بأظافرها وتعطرت، وارتدت قبل الثانية بخمس دقائق.. ولم يبق أمامها. غير اعتمار القبعة ولكن عليها ألاتعتمرها إلابعد زيارة الجوهري.. وضعت شيئاً من التبرج الأنيق على عينيها فعليها أن تظهر أجمل مايمكن أن تكون، فثمة صورة تريد إرسالها إلى أمها.. لم تكن هولي ممن يهتم بالتوافه التي تهتم بها النساء عادة ولكنها عرفت أنها تبدو كأفضل ما يمكن أن تبدو.
وعندما رآها فيلكس بعدما فتحت له الباب برقت عيناه علامة الرضا.. فخفق عندئذ قلبها بقفزة مثيرة ولم تستطع غير رسم ابتسامة مهذبة على شفتيها.. انتزعت عينيها عن الزوج العتيد إلى الرجل الذي يرافقه. كان رجلاً صغير الجسم، تجاوز منتصف العمر.. كتفاه منحيتان قليلاً ، وشعره رمادي.. ولكن عينيه كانتا حادتين من فرط الفضول وهو يقوم هولي.
قدمهما فيلكس بسرعة: أريك تانر.. هولي هل لنا أن ندخل؟
ـ كيف حالك سيد تانر؟
ومدت له يدها فسارع الرجل ينقل حقيبته من يد إلى أخرى ليصافحها وقال مبتسماً ابتسامة مشرقة: تسرني مقابلتك آنسة رايدال.
أصدر فيلكس صوتاً فيلكس صوتاً ينم عن نفاد الصبر.. فنظرت هولي إليه نظرة فوقية، مع أن نبضها كان يتسارع بسببه.. تراجعت إلى الوراء ولوحت للرجلين ليدخلا إلى الغرفة. أسرع أريك تانر إلى الطاولة الموجودة تحت المرآة ووضع حقيبته عليها، ثم أخذ يفتح أقفالها المتعددة.. ووقف فيلكس إلى جانب هولي وعيناه الخضراوان تومضان بإعجاب متهكم.
قال بصوت منخفض: لقد كسبت إعجاب السيد تانر.. لكنك أبرع ما يكون في الكسب.. أليس كذلك؟
ردت بسخرية مماثلة:"أعرف كيف يكون الخاسر.. والواقع أنني لم أجد الخسارة تجربة سعيدة".
ثم توجهت نحو الجواهري الذي فتح الحقيبة، وسألها الرجل: أتعرفين مقاس خاتمك آنسة رايدال؟
ـلا.. سيد تانر.. لا أعرفه.
ـ هل لي بيدك اليسرى.. أرجوك؟
جرب سلسلة من الخواتم على إصبعها الثالث حتى عرف القياس.. بعد ذلك، نظر إلى أذنيها فلاحظ القرط الذي تضعه.
ـ عظيم، إنهما مثقوبتان.. لا مشكلة إذن .
أعطى فيلكس علبة متمتماً : هذا هو القرط.
ثم رفع علبة أخرى من حقيبته وفتحها دونما اكتراث.. عندما شهقت هولي شهقة ملؤها عدم التصديق ابتسم الرجل، وقال لها بفخر: نجمة الشرق.
كانت القلادة فعلاً أشبه بنجمة في وسطها الألماس النفيس وكان حجمها ولونها الوردي الأخاذ يسلب الأنفاس.راقب فيلكس عن كثب و الجواهري يثبت السلسلة البلاتينية حول عنقها، ثم قال: سنرفعها قليلاً .. أجل هذا ممتاز.
أزيلت القلادة عن عنقها، وعادت إلى حقيبة الجوهري الذي قال لفيلكس: لن يستغرق الأمر وقتاً طويلاً فيلكس.
ـ عظيم سنكون هنا.
ورافق الرجل إلى خارج الغرفة.
حاولت هولي استجماع شيء من رباطة جأشها.. لاتظن أن في مجوهرات أسرة رايدال مايشبه ولو من بعيد" نجمة الشرق" ، وتشك كثيراً أن يكون هناك ما يماثلها في أي مكان. إلا ربما، بين جواهر التاج البريطاني. لقد قالت لأمها إن فيلكس فاحش الثراء.. وهذه الألماسة الوردية تساوي بمفردها عشرات الملايين!
قال فيلكس ساخراً وهو يعود إليها: راضية؟
ردت بجفاء:" إنها جميلة جداً ".
التوى فمه:" بل هي فريدة من نوعها هولي.. والخاتم مع القرط يشبهانها.. ستحسدك نساء العالم أجمع عليها ".
رفع يده يداعب تجويف عنقها.. ووجدت هولي من الصعب إبقاء تنفسها طبيعياً ، وأملت أن لا يشعر بنبضاتها المتسارعة.
أردف:" ولديك الجمال الذي سيزيدهن غيظاً .. آمل أن تكوني راضية؟".
ـ راضية كل الرضا.
ـ بما أننا اخترنا هذا السبيل لتسوية المسألة بيننا، فلاداعي أن تعرف أمي أنك ابنة ايرول ماكنافش.. أنت هولي رايدال من بوسطن، ماساتشوستس، وسنترك ألم الماضي للماضي.. وإلى الأبد هولي.. فهل هذا مفهوم؟ أنا أدفع الكثير، وأنت لم تفعلي إلا القليل القليل.
إذن الفريق الآخر كان يتألم أيضاً ، وليس أبوها فقط هو الذي تألم.. لكن هذا غير مهم الآن .. قالت تذكره: كما قلت أنت ليلة أمس.. أنا لست غبية.. ثم لدي كرامتي.
بحثت عيناه الخضراوان عن عينيها بنظرة إمعان ثم قال ببطء: ماكنت لأظن هذا.. لكن لابد من مجيء وقت نعرف هذا، جميعاً .
قالت:" أنت ستعرف وحدك".
لم يكن هناك جدوى من القول له إنها لاتنوى أبداً إيذاء أحد.. ولكن لو أظهرت له أي ضعف لداسها.. ولو عرف يوماً ماذا فعل بنفسه.. لقتلها على الأرجح.
انتزع الرضا البرودة من عينيه.
ـ هل أطلب منك الكثير؟. أتظنين أنك تستطيعين التظاهر بأنك تحبينني بجنون من أجل أمي؟ أفضل أن تكون سعيدة.. لاتعيسة.
ـ شرط أن تمثل ذلك أيضاً من أجل أمي. بضع لقطات للزفاف المبارك؟ أتظن أنك قادر على تحملها؟
ارتفع حاجباه لسخريتها: ألاتعرف أمك ماكنت تنوين عليه؟
ـ أمي لاتعرف أكثر مماتعرف أمك. وهي تكره ماقد يذكرها بزواجها الأول، بل يؤلمها مجرد ذكر اسم أبي.
ـ إذن .. نحن في صدد خدعة كبيرة.. على الأقل، لن يكون الأمر مملاً.
وضحك ضحكته المثيرة الأجشة.
ردت لتخفي سرورها ببسمة جافة: هذا بالضبط ما أفكر فيه.
التقط يدها ووضع علبة الأقراط في كفها: هذه هي الأقراط.. من الأفضل أن تضعيها الآن.
جلس مشيراً إليها أن تتوجه نحو المرآة: هيا.. ألا تموتين شوقاً لتريهما في أذنيك؟
قالت بسرعة:" لم أطلبهما فيلكس".
أمرها وعيناه تقسوان:ضعيهما.. كنت أنوي دوماً أن أهديهما إلى عروسي عندما أتزوج.
تسلل الشعور بالذنب إلى قلب هولي فهو كان يريد تقديم القرطين إلى المرأة التي يحب.. ولكنه ليس صغيراً .. أتراه لم يستطع أن يحب امرأة؟.. كما أنه لم يكن مجبراً على الموافقة على الزواج بها.. وهو اختارها هي عروساً له.. ويريد منها تدعي حبه أمام أمه.
دنت من المرآة دون جدال.. كانت تشعر به يراقبها وهي تفتح العلبة.. وتألق القرط مشعاً في وجهها .. توسطت كل ألماسة وردية مجموعة من الألماسات البيضاء الصغيرة.. أصغر بكثير من ماسات القلادة، ولكنها رائعة مثلها.. ارتجفت يداها قليلاً وهي تأخذ الزينتين الذهبيتين وتعلق ثروة في أذنيها.
قال ساخراً :إنها تناسبك.. وهذا ما ظننته.
ـ يسرني أنك راض.
برقت عيناه خطيراً لكنه سيطر على نفسه، وهز رأسه مشيراً إلى السرير: هل هذه القطعة الجميلة قبعة؟
ـ أجل.. وهل تحب رؤيتها على رأسي كذلك؟
ـ ولم لا؟
كانت تضعها بدقة على رأسها حين عاد الجوهري.. رد فيلكس على الباب لكنه لم يتركه يدخل بل سمعته هولي يشكره ثم عاد إليها ليقول معلقاً على القبعة: ذوقها رفيع.
ثم فتح إحدى العلبتين اللتين كان يحملهما، وأخرج منها القلادة. وعندما وضعها حول عنقها اقشعرت بشرتها ولكن عيونهما تلاقتا في المرآة، وللحظة قصيرة تبادلا النظرات.. فهما غريبان على وشك الدخول في أقدس العلاقات بين المرأة و الرجل.
تمتم فيلكس:" والآن، الخاتم".
واشتد وجهه توتراً وكأن هذه اللحظة أزعجته بطريقة ما.. ثم دس الخاتم في إصبعها.. كانت الألماسة الوردية أكبر بقليل من تلك التي في القرطين، لكن التصميم واحد.. جمع فيلكس العلب الثلاثة، ورماها في حقيبة ملابسها، وقال وهو يتوجه نحو الهاتف: إن انتهيت من توضيب حقائبك فسأستدعي الحمال.
بعد ثلاثين دقيقة خرجت هولي من الفندق، وتوجها إلى شقة فيلكس، وعندما وصلا استقلا مصعده الخاص.. شعرت وهما في المصعد بتوتر فيلكس.. وبعدما توقف المصعد، لم يسارع للخروج منه، بل مال إلى الأمام وضغط زر إغلاق الباب.. ثم بدا أنه يستجمع شجاعته قبل أن يستدير نحوها.
ـ تذكري أن أمي وزوجها لا يعنيان لك شيئاً .. تظاهري أنك لا تعرفين شيئاً عنهما..
هزت رأسها تسخر من سخرية القدر فهي فعلاً لا تعرف شيئاً عن امه وزوجها! حتى أنها لاتعرف اسميهما!
ـ إذا كان هذا ماسندعيه، فلاتنس القيام بالتعارف الرسمي، فيلكس.
التوى فمه: وبإمكانك كذلك الادعاء أنني أنا وأنت.. حبيبتي.. زوجان سعيدان.. فابتسمي. وابتسمت
ـ ابتسامة غير سيئة ولكن أضيفي إليها بعض الدفء و التألق، وعندئذ ستكون ابتسامتك أكثر إقناعاً.
ـ أعطني الدفء ، أعطيك إياه.
أحست أنه يسترخي وهو يضحك: سأقوم بما هو أكثر.. كوني متأكدة من شيء واحد .. ستعرفين الليلة مامعنى تكون زوجتي . ليس عليك إلا التفكير في هذا ومامن أحد سيشك بشعوري نحوك.
اجتاحت موجة من الحر هولي، بينما عيناه تجولان في جسمها بتفجر ملتهب. إنه يسعى إلى تخفيض قيمتها لتكون امرأة أخرى في حياته. المسألة ليست رغبة بقدر ماهي حاجة ملحة للانتقام منها بأقدم طريقة عرفها الزمن وهي طريقة سيطرة الذكر. برق وميض التسلية و النصر في عينيه، عندما لاحظ ارتفاع اللون الأحمر إلى وجنتيها. ابتسم وتلمس بشرتها المحترقة بأطراف أصابعه.
ـ لديك الآن الحرارة و الدفء.. فلاتنسي الابتسامة. حبيبتي.. القليل من الإشراق مطلوب. فكري في الألماس.
ثم حرك أصابعه نحو زر المصعد مجدداً، وفتح الباب. لم تكن مستعدة للصدمة التي عصفت بها حين دخلت إلى غرفة الاستقبال، ونهض الزوجان المنتظران عن الأريكة.. في هذا الوقت احتاجت هولي إلى كل الانضباط الذاتي الذي تملكه لتحافظ على ابتسامتها في مكانها. دل وجه المرأة على الكبر.. لكن جماله لم يتغير.. فما زالت تانك العينان الهائمتان كما كانتا عندما رسمهما أبوها في اللوحة.. تسعيان إلى شيء ما.. تتذكران شيئاً ما .. تشتاقان بألم إلى شيء ضاع إلى الأبد.. وهاتان العينان تعلقتا بوجه هولي وكأنهما تريان منظراً يعذب روحها.
قدمهما فيلكس لها: هولي.. هذه أمي وزوجها، دونا و جاك ويستبرون.
سمعت هولي القلق في صوته مع أنه حاول ادعاء الاسترخاء. دونا. رنة صوت ناعمة تتردد عبر جبال كيمبرلي، وتهمس في الحقول التبنية الشاحبة لتبقى متواجدة في زوايا الشغف الزرقاء.. دونا.. العينان الشاردتان بقيتا معلقتين بوجه هولي تسببان لها توتراً حاداً. مد جاك ويستبرون يده نحو هولي ليبعد نظرة زوجته الشاردة، لكن يده أمسكت بيد المرأة إلى جانبه.. لأن تلك المرأة همست بصوت أجش متقطع: إنه هو.. لاشك أنك تراه جاك.. فيلكس يخدعني.. يخدعنا معاً.. إنهما عينا ايرول.. ولون شعره.. وليس هذا صدفة مجنونة.. لا يمكن أن تكون أي شخص آخر.. إنها ابنة ايرول.
الماضي.. الذي أراد فيلكس إخفاءه لم يعد في طيات النسيان بل أصبح هنا.. حياً ينتفض ويضج بالألم في هذه الغرفة.
ـ لن أموت من أجلك




جمال وجه دونا ويستبرون، توتراً كرباً وحزناً كبيراً.
صاحت : " متى سيتوقف العقاب؟".
اغروقت عيناها بالدموع وارتدت كالعمياء إلى زوجها طلباً للمواساة: ألن ينتهي أبداً جاك؟.
التفت ذراعاه حولها، تحميانها بلطف. واستندت إليه بشكل غريزي وهو أمر اعتادت عليه منذ سنوات.. وهذا الدعم يقدمه لها جسم الرجل الضخم الذي وقف صلباً قوياً .. لكن وجهه كذلك كان متألماً ولم تعرف ما إذا كان ذلك مجرد حنان وحب تجاه زوجته أًم ألم عميق في داخله.
كان تقريباً رجلاً بشعاً تقريباً فقسمات وجهه مركزة فقسمات وجهه مركزة فوق عنق أشبه بعنق ثور..بشرته الدكناء التي يغطيها النمش تدل على أن الشعر الأبيض كان يوماً أحمر.. لكن كان في العينين الرقيقتين البنيتين سحر إنساني يتعارض بشدة مع مظهره الخشن.
سأل بهدوء:" ماالذي يجري فيلكس"؟.
سأل فيلكس بحدة:"ولماذا أنت متأكدة إلى هذه الدرجة ياأمي؟".
ـ الاسم..المكان.. أخبرها ايرول عن زواجه الأول.. وعن الابنة التي تخل عنها وكم كلفه هذا من عذاب شخصي. لقد أثقل ذلك ضميره كثيراً .. طفلته.. الابنة التي لن يحصل عليها أبداً .. ويريدها. لقد تحدث كثيراً عنها.. كان والدها يريدها.. أحبها.. وأحست هولي بالدوار.. لم تكن مخطئة بشأنه.. لقد فعل ماظن أنه الأفضل لها. وكان ذلك على حساب نفسه..
تابع جاك كلامه: أملت أن يكون هذا مجرد مصادفة، وأن تكون هولي رايدال مختلفة من بوسطن..
كانت تكشيرته متوحشة: لكن هذا ليس سبباً يدعوك للتضحية بنفسك من أجل خطايا الماضي، فيلكس.
بذلت هولي جهداً لتخرج من الصدمة التي جعلت عقلها وجسمها يتجمدان في الدقائق الأخيرة. لقد صدمها الأثر الذي تركه ظهورها، والآن أدركت أن هذا ما أراد فيلكس تجنبه وأنه ظنها تعرف أن لوحة أبيها .. الماضي .. قد تترك هذا التأثير الرهيب..يجب أن توقف هذا.. بأية طريقة..أو تصلح الضرر الذي سببته بشكل لا إرادي وعن جهل مسبق منها.. وقبل أن يستطيع فيلكس قول شيء.. قول شيء خاطئ.. سارعت تتكلم: سيد ويستبرون.. أنا لست من تظنها زوجتك.
اندفعت إلى الامام ومدت يدها إلى المرأة التي تبكي على كتف زوجها.. وضغطت على ذراعها: أرجو منك ألاتبكي.. فلم يرغب فيلكس في تكديرك.. وأنا أيضاً لا أرغب بذلك.. لا أستطيع ألا أكون ابنة أبي، بقدر مالا يستطيع فيلكس ألا يكون ابنك.. وكلانا نريد نسيان الماضي وتركه للزمن.. أرجوك لا تدعيه يؤلمك ..هكذا!
ارتد الوجه المغسول بالدموع ببطء نحو هولي.. كانت العينان الزرقاوان مغرورقتين بألم التردد.
ـ لماذا.. لماذا.. تتزوجين ابني؟
ردت دون تردد: لم أستطع منع نفسي عن الوقوع في حبه.
عرفت أن هذا هو الرد الوحيد الذي يقدر على تسكين مخاوف دونا ويستبرون.. وابتسمت مطمئنة: أنا آسفة.. لكنني أحبه وهو يحبني.
هزت دونا ويستبرون رأسها بعدم تصديق: فيلكس؟ كيف استطعت؟
كان وجه فيلكس متجهماً . فغار قلب هولي خشية أن ينكر ما قالت، وتصبح حقيقة ترتيبات زواجهما مكشوفة.. هذه هي اللحظة الحاسمة.. إما المضي قدماً أمام ماحدث للتو جنون مطبق.. طبعاً .. هذا كله يحدث بسبب اتخاذهما قرارات سريعة. لكن الآن وقد وصلا إلى هذه المرحلة، لم تشأ هولي التخلى عن اتفاقهما. فهي تعرف أن تراجع بالنسبة لها.. ومهما تكن النتيجة، ستتزوج فيلكس ويستون..لكنها أدركت أن هذا لن يكون دون تعاونه.
رد بحدة:" لا يستطيع أحد لوم هولي على ماحدث، أمي".
لاشيء ملزم في هذه الكلمات.. وليس في كلماته مايدل على الاتجاه الذي تسيرفيه أفكاره. تقدم خطوة ووضع ذراعه حول هولي، يضمها إليه ليدعمه ويحميها.
ـ لم أخطط للوقوع بحبها.
سرعان ماأحست بالامتنان لاستنادها إليه، فساقاها تحولتا إلى سائل..فهو عازم على المضي قدماً في ما اتفقا عليه.. وتهلل قلبها ولكنها نبهت نفسها إلى أن عليها أخذ الحذر لتتمكن من إتمام ماهو مطلوب منها في هذا الخداع.
أردف فيلكس:"لم أعرف من هي حتى تقابلنا عدة مرات لأن اسم رايدال لا يعني لي شيئاً".
أضافت هولي بسرعة: وأنا أيضاً لم أعرف من هو فيلكس في البداية. بدا لنا كل شيء غير معقول. كنا مجرد غريبين، نظرنا إلى بعضنا عبر غرفة مكتظة بالناس..
أضاف فيلكس بصوت مقنع: وكان التجاوب فورياً ..عفوياً .. لايقاوم. انظري إلى هولي أمي! لا تنظري إليها على أنها ابنة ايرل.. بل المرأة التي ستكون الزوجة التي أحتاجها.. شد بأصابعه على ذراع هولي، ونظرت إليه بسرعة مبتسمة، فتلقت نظرته الولهى التي يصبها عليها.. أو على الأقل، مايمكن تفسيره بنظرة ولهى. كان فيها شيئاً حارقاً أرجف قلبها.. وللمرة الأولى رأت فم فيلكس يلين ويبتسم.. ثم أعاد نظرته إلى أمه متوسلاً: لاشأن لما حدث بينك وبين ايرول وأبي بنا أمي.. إنه من الماضي.. فأنا وهولي نريد المستقبل، معاً. فإذا صعب عليك تقبل الأمر فأنا آسف.. لكن هذا ما سيكون.
بدا الوجه الجميل معذباً شارداً ، مضطرباً من جراء الذكريات التي لا تعرف هولي عنها شيئاً.. والدها.. دونا.. والد فيلكس.. ربما هذا هو الثالوث الذي عمره عمر الزمن؟ ترى ماذا حدث لوالد فيلكس؟ لا، لا تستطيع التفكير في هذا كله الآن. دفعتها الحاجة لإبعاد شبح الماضي لدعم فيلكس بكل قوتها العاطفية.. مدت يدها نحو الأم
متوسلة للفهم: أملنا أن تكوني سعيدة من أجلنا، وليتك لم تتعرفي إلي! وماأشد أسفي لأنك انزعجت إلى هذا الحد.. أردنا.. فكرنا..
ارتفعت عيناها بتوسل إلى جاك ويستبرون الذي ينظر إليهما مشفقاً: هل من الخطأ لي ولفيلكس أن نتزوج؟
أجاب بثبات: لا.. قد يكون هذا هو الذي يسوي كل الأمور. وهذا جيد.. ولكن ما يحدث أمر لا يصدق وهذه الصدمة غريبة فمن المستحيل أن نأمل..
تنهد تنهيدة عميقة، وهز رأسه: أن يحدث بشكل طبيعي، لأمر رائع!
وبخته دونا:.. المخاطرة كبيرة. إذا فيلكس سيتعذب..
جالت عينا جاك ويستبرون على هولي.
ـ لن يعاني فيلكس شيئاً..وطالما شعرت بالذنب لأنني تركت ايرول يرحل. لكنني كنت أهون على نفسي قائلاً إنه هو من اختار الرحيل.. مع ذلك، كان يجب أن أتركه يأخذ.. ماله الذي له الحق به.
إذن جاك جزء مما حدث.. ثلاثة رجال.. وامرأة جميلة.. وصبي.. ومنجم ألماس. لكن هولي لاتستطيع التفكير الآن .. فيما بعد.. ففي الوقت الحاضر فيلكس وحده المهم.. يجب أن تبقيه إلى جانبها..وأن تبقى يقظة لتفعل أو تقول ماهو مطلوب. سحب جاك ويستبرون نفساً عميقاً ، ثم أدار زوجته لتواجهه.. داعبت يداه ذراعيها وتوسلتها عيناه حتى تصغي: دونا.. لقد سرنا شوطاً بعيداً.. كلانا.. دعي عنك الأمر الآن.. دعيه.. هذا زمان آخر.. جيل آخر. لاتحملي الأبناء وزر خطايا الآباء.
صاحت يائسة بصوت متكسر: أوه.. ياإلهي.. جاك! ماذا كنت سأفعل بدونك؟
ضمتها ذراعاه بلطف إلى قلبه: لن تضطري للقيام بشيء بدوني ما دمت أنا على قيد الحياة.
مرر خده على شعرها يطمئنها برقة لكن عينيه كانتا على هولي وفيهما سؤال.. لم تعرف ماذا سيسأل ولكنها لم تدر لماذا قالت له هذه الكلمات: مات والدي السنة الماضية.. لقد توقف قلبه.. وانتهى الأمر..بالنسبة له.
كاد ارتياح جاك يكون ملموساً .. ومع ذلك كان الاعتذار في عينيه.. وقال بهدوء: لم يكن هناك مجال للإصلاح هولي ولاشك أنه أخبرك بذلك.. ولو كان هناك طريقة، لفعلناها.
لم يقل والدها لها شيئاً .. لكنها صدقت جاك.. فحوله هالة من الوقار والصدق وعلى مايبدو أن ماحدث كان مأساة أثرت في حياة أبيها وفي حياة آخرين أيضاً..
قال فيلكس:" في سنواته الأخيرة أصبح ايرول فناناً معروفاً.. وبعض لوحاته معروضة الآن في معرض نيو ساوث وايلز للفنون، وقعها باسم ايرل ماك.. ربما ترغبين في رؤيتها أمي".
عرفت هولي لحظتئذ لماذا طلب نزع اللوحة عن الجدار، فلو دخلت دونا إلى المعرض ورأت اللوحة.. ارتجفت هولي.
قال جاك:" أنا مسرور لأنه وجد طريقة أخرى للنجاح. هل سمعت هذا دونا؟".
أبعدها قليلاً عنه، وأمسك وجهها بيديه مجبراً إياها بلطف على النظر إلى عينيه. ثم أضاف: حياة ايرول لم تتدمر، ولن ندمر حياة هولي وفيلكس بل سنتمنى لهما كل السعادة الممكنة مابين رجل وامرأة.. غداً سنذهب إلى المعرض لرؤية لوحات ايرول. وهذا سيبعث السعادة إلى نفسك.. أليس كذلك؟
هز اهتمام جاك ورقته عواطف هولي، فهو يتصرف كما يتصرف يتصرف الأب تجاه ابنته الخائفة يحاول أن يهدئ مخاوف ابنته.فذكرهه هذا المشهد بالضياع الذي رسمه والدها في لوحته.
جاء الرد الأجش:" أجل..".
ارتفعت كتفاها النحيلتان ثم هبطتا وهي تسحب نفساً عميقاً لتهدأ.. بعد ذلك ارتدت تواجه هولي وفيلكس: آسفة..وكان في عينيها التوسل للغفران. خطت هولي ؟إلى الأمام تشبك يديها بيدي دونا الممدودتين.. وتضغط عليهما بدفء.
ـ إنها الصدمة، لست مضطرة للاعتذار سيدة ويستبرون.. أرجوك.. فلنجلس كلناو.. أليس لديك قهوة جاهزة حبيبي فيلكس؟
ـ بكل تأكيد.. القهوة قادمة.
كان الحديث جافاً ملؤه الارتباك في البداية. لكن جاك بذل ما بوسعه لخفيف التوتر إذ راح يسأل هولي عن حياتها في بوسطن.. ومن حديث إلى حديث انتقل الموضوع للحديث أكثر، عن أسفارها المختلفة.
ـ وهل ستكونين سعيدة بالعيش في بند نير؟
لقد اعتادت هولي في هذه الفترة على الرد على أسئلة ذات علاقة بأمور لا تفهمها بحيث أنها لم تجد صعوبة في الرد على هذا السؤال. مع أنها لا تعرف شيئاً عن بندنير داونز أو ماهي.
ـ لقد عشت سعيدة في إنكترا، وفي فرنسا..
تدخل فيلكس:" تقصد هولي.. أو تحاول القول.. إنها ستكون سعيدة أينما عاشت".
ابتسمت له بمحبة:" شكراً لك".
قالت دونا:" لا أستطيع القول إنني كنت سعيدة هناك".
إنها المرة الأولى التي تشارك دونا بالحديث ولكن جملتها حملت في طياتها الكثير من القلق.. أمسك جاك بيدها يربتها.
ـ عزيزتي.. بعض الناس لا يناسبها سوى بيئة واحدة.. وآخرون يحتاجون إلى أماكن مخلتفة .. وأنت مكانك في المدينة.
هزت رأسها:" لم أحبها قط فهي بلاد الرجال ولا مكان فيها لامرأة".
فقدت عيناها التركيز، وانخفض صوتها إلى الهمس.
ـ وتقع فيها أمور رهيبة.
قال فيلكس:"لن يحدث مثل هذا.. هذه المرة".
تسمرت عينا دونا الزرقاوان على هولي: إذا واجهت أية صعوبات فالجئي إلينا ولا تنتظري طويلاً ولاتجعلي شيئاً يتآكلك، أهربي قبل..قبل..
ـ دونا..
شد جاك على يدها بقوة، يعيد اهتمامها نحوه: الأمر الآن مختلف عما كان.. لقد أصبح في بندنير داونز كل وسائل الراحة العصرية.. كل الوسائل.. وطائرة هليكوبتر في متناول اليد.. ولم تعد معزولة.. ثم، بإمكان فيلكس أن يعتني بهولي. فتوقفي عن القلق عزيزتي.
ارتجفت دونا، وعادت إلى الصمت. يبدو أن بندنير داونز مستوطنة سكنية قرب منجم الألماس. ربما حيث يعيش عمال المنجم، إنها بلاد الرجال.. لكنها ذهبت إلى كيمبرلي وأرهقتها الأرض الغربية الموغلة في القدم. بإمكانها أن تعيش هناك..بإمكانها العيش في أي مكان.. ربمالا يعرف فيلكس مدى صدق هذا حين تكلم.
وبعد كلام أمه، بدا فيلكس منطوياً على نفسه مع أنه شارك في الحديث. ولكنه بدا كمن يضع جزءاً من أفكاره تحت قيادة آلية.. كان تركيزه الأكبر متجهاً إلى شيء آخر، وأحست هولي بتعاظم توتره الذي بدأ يشتد بسبب اقتراب ساعة الصفر لزواجهما.. هل يعيد التفكير؟ مازال أمامه الوقت لتفيير رأيه.
سحبت هولي نفساً متقطعاً ووصلت جماعة من الرجال إلى الشقة: محامي فيلكس، مصور، ومأذن الزواج وشاهدين تبين أنهما مديران في مؤسسة فيلكس. ظل الجميع واقفين، وكأنهم عند مذبح كنيسة. ثم حين ظنت هولي أنها أصبحت آمنة، وأن الزواج لابد منه، دس فيلكس ذراعه وأعلن: هلا عذرتمونا لبضع دقائق.. فلدي أنا وهولي بضعة أمور خاصة نفعلها.. سنعود حالاً.
لم يعط هولي خياراً، فهو يمسك ذراعها بقوة، واضطرت إلى الادعاء أن هذا ماتريده أيضاً .. لكنها لم تكن تعرف ماذا ستفعل لو تراجع. قادها إلى غرفة النوم و أغلق الباب خلفهما، ثم أمسك بكتفيها ينظر إليها بإمعان فكان أن ركزت عينيها على وجهه العابس.
ـ أولاً، أريد أن أشكرك على الطريقة التي عالجت فيها الموقف مع أمي وجاك ، لقد قمت بذلك بروعة ومحبة.. لذا علي أن أحييك على هذا.
كيف تقول له إنها لاتؤذي ولاتؤلم أحداً؟ وكيف تبرهن له ذلك بعدما وضعت اللوحة للعرض؟ كان هناك رد وحيد لتحافظ على زواجهما.
ـ لقد فعلت ما اتفقا عليه فيلكس.. طلبت مني أن أتظاهر أنني أحبك، ولقد نفذت ماطلبت.. وبما أنني بدأت بهذا، فسأحافظ على المظاهر في أي مكان تتواجد فيه عائلتك.
ابتسمت ساخرة، وأضافت: إنها مسألة.
ازداد عبوسة عمقاً وهز رأسه وتركها وارتد عنها وسار في الغرفة متوجهاً إلى نافذة كبيرة تطل على المدينة.. وقف هناك عدة لحظات، ولم تتصور هولي أنه يفكر بالمنظر.. فظهره كان متشنجاً من فرط التوتر.
ثم قال بحدة:" مهما كان السبب..لقد قمت بما لا يمكن لأحد سواك القيام به، ولم أعد أشعر بأي مبرر للمضي فيما كنت أنويه".
ضربت الهزيمة قلبها بمطرقة.. فراح عقلها يعمل ويعمل للبحث عن طريقة لإقناعه بإعادة النظر..
قالت بحدة:" إذن.. أنت تتهرب من اتفاق".
ارتد وقد التوى فمه سخرية: لا.. بل سأطلق سراحك من هذا المأزق.. سأحرر لك شيكاً مفتوحاً لتكتبي عليه المبلغ الذي تريدين.. بإمكانك الخروج من هذا وأنت تحملين كل ماتريدين دون ألم أبداً.
قالت بلهجة ملؤها التحدي: وإن لم أرغب في الخروج بعيداً؟
توتر وجهه:" قلت لك حددي المبلغ الذي تريدين، فهل هناك ماهو أكثر لأعرضه عليك".
اقتربت منه حتى لم تعد بعيدة عنه إلا خطوة واحدة وتذكرت ماذا فعله بها ليلة أمس.. رفعت يدها تمرر أصابعها على خده.. فلما ارتجفت عضلة تحت لمستها الناعمة شعرت بالقوة تسري في شرايينها، وابتسمت لعينيه الخضراوين الغاضبتين، وكان طيشها يملي عليها هذه المغامرة الأخيرة.
قالت بصوت هامس: أنا أريدك فيلكس.. ولن أقبل بشيء آخر. لامال ولا ألماس، أو أي شيء تفكر فيه.. لاأريد إلا أنت.
ارتفعت يده تمسك معصمها وتجبر يدها على للابتعاد: لن تكسبي شيئاً بهذه الطريقة.
ارتجفت شفتاها قليلاً لجرأة ماستقدم عليه: أنت لا تفهم.. ليس لدي ماأخسره.
ابتلع ريقه، وقال بصوت أجش: هولي.. أحذرك.. توقفي عن هذا الآن. خذي أرباحك وارحلي.
تحدته مرة أخرى عيناها ببرود: لا.. بل سأذهب فقط إذا أردت أنت هذا.. لكنني لن آخذ شيئاً معي.
كادت أصابعه تحطم معصمها: لن تستطيعي أبداً أن تفعلي معي، مافعلته أمي بأبيك.. لن أسمح لأي امرأة أن تؤثر في حياتي أو تغيرها. فليس الجمال شيئاً .. والجسد جسد. ولن أحارب من أجلك أبداً .. ولن أموت من أجلك بكل تأكيد.. ولن أركلك كطفلة! بل ستكونين فقط مجرد زوجة ملائمة لي.. فهل تفهمين ذلك؟
ـ أجل!
ولقد فهمت.. يومذاك كان مجرد صبي صغير، ولكن مأساة الماضي حفرت في أعماقه حفرة في أعماقه حفرة كبيرة. وهذا ما يتضح مع الوقت وهاهو يضع اللوم لكل شيء على جمال أمه.. فهل استغلت أمه جمالها؟ هذا ما لن تستطيع معرفته، لكنها هي لن تستغل مثل هذا الشيء الزائف.. فهي لم تحتج قط إلى رجل يقاتل من أجلها أو يموت.. إنها بحاجة فقط إلى فيلكس. ربما لن تدوم هذه الحاجة طويلاً . قد تتضارب الفروقات بينهما بشكل يائس وهذا يثبت أن الزواج كان غلطة رهيبة.. كما حذرتها أمها.. لكن حتى هذا بشكل مؤكد، لن يمنعها شيء من الحصول عليه. ماعدا هو بنفسه.
قالت، ترفع رأسها بعدوانية: عظيم!
لم يكن بريق عينيه عدائياً ، وتخيلت أنها رأت السرور الذي بعثه التحدي الذي رمته في وجهه.
أضاف:" إذن فلنتزوج".
لم يقل كلمة أخرى، بل وضع ذراعها في ذراعه مجدداً.. وسار بها إلى الخارج، نحو مأذون الزواج المنتظر.. وأمره بتنفيذ المراسم دون تأخير.







يتــــــــــــــــبع

ـ الساحرة السوداء تبتسم



" هل تقبلين أنت هولي رايدال هذا الرجل.."
فيما كانت تصغي إلى كلمات مراسم الزواج توترت أعصابها.. فأي نوع من الرجال ستقبل به؟.. إنه رجل لاتكاد تعرفه.. في هذه اللحظة تضعضت ثقتها بنفسها ورفعت رأسها إلى فيلكس ويستون، وفي عينيها سؤال حاد. كان رده على الضعف الذي بدا عليها وميضاً مماثلاً لكن فيه سخرية لا يمكن الخطأ فيها.. ساهمت نظرته بتقوية قرارها فعادت تنظر إلى المأذون بقرار ثابت.. وردت ببرود: ـ أقبل!
لقد قبلت وانتهى الأمر الآن.. وإذا كانت قد أمسكت الشيطان من ذيله فليساعدها الله.. لكنها لن تظهر له أبداً أي بارقة ضعف.
وقام بالرد.. ثم وقع الأوراق بهدوء.. بدا أشبه بشخص انتصر على لاشيء. وكأنه واثق في قرارة نفسه أنه لن يخسر أبداً ، فتصرفاته خلال الاحتفال ووقفة النصر التي وقفها أثناء التقاط الصور كانت وقفة رجل ربح للتو أكبر جائزة بحياته.
لكن هولي لم تكن واثقة ما إذا كانت منفعلة أم خائفة من البقاء مع هذا الرجل الذي أصبح زوجها، والذي لاتعرف بماذا يفكر أو بماذا يشعر.. ومن المستحيل أن تعرف ما إذا كان يمثل أم لا.. لكنها خيّرته فهل هي غلطتها؟ لم يصدق أنها ستبتعد دون أن تأخذ شيئاً .. إما أن يكون الإحساس بالذنب نحو والدها عميقاً وإما أنها رغم كل الاعتبارات الأخرى حركت شيئاً فيه بحيث أنه لم يعد قادراً على الابتعاد عنها..أرادت هولي أن تصدق هذا، وصدقته في أعماق قلبها.. وإلالما استطاعت أن تتزوجه.. لكن الجزء الثاني من التمثيلية سيكون حاسماً بشأن علاقتهما في المستقبل.. الانطباعات الأولى هي دائماً الأقوى.. وهولي تدوم طوال حياتهما. وعندما رافقا دونا وفيلكس إلى المصعد كانت تشعر بأن أعصابها متوترة إلى أقصى حد.
كانا آخر المغادرين.. أمامهما وضع فيلكس ذراعه حول خصر هولي مقدماً لهما صورة العريس المحب لآخر. بعدما رحلا اشتد ضغط أصابعه على خصرها الطري، فقفز قلبها إلى حلقها.. فهي بحاجة ماسة أن يأخذها بين ذراعيه، وأن يعانقها بجنون وأن يستحق ويدمر ويزيل من الوجود كل شكوك متعلقة بالقرار الذي اتخذته. وعندما رفعت بصرها إليه، أملت إليه، أملت أن ترى المشاعر التي ترد على ماتشعر به، ولكنه أبعد يده وتلاقت عيونهما بنظرة ساخرة.
ـ تكاد التمثيلية تنتهي.. انتهى المشهد الثاني ويجب أن أقدم لك التهنئة على أدائك الرائع.. ممتاز.. حقاً ممتاز! لكنني لا أريد منك أن تشعري بأنك انتصرت بهذه السرعة.
عاد إلى غرفة الاستقبال.. واتجه رأساً إلى الطاولة، ليصب كوبين من العصير المثلج. لم تلحق به هولي بل وقفت عند المدخل، تراقبه وتقاوم هذا الانقلاب في معدتها.. إذن كان يمثل.. ويكرهها لما فعلته. أتراه يكرهها أم يكره الشعور بأنه أجبر على أمر لا يريده. لكن حدسها أنبأها بأنه يريدها؟يريدها.. وكلما أرادها أكثر، كلما أنكر هذا ليثبت أنه يسيطر على نفتسه.
يجب أن تحطم هذه السيطرة إذا أرادت أن تكون علاقتهما كما ترغب.. ولقد زل لسانه وقال لها إنه يجد برودة أعصابها أمراً مثيراً جداً.. عليها الآن أن تكون قوية أكثر من أي وقت مضى .. لن تقبل بشروطه، بل لن تستطيع، وإلا لن تكون شيئاً بالنسبة له.
قدم كأس العصير لها باحترام متهكم: قد يكون الجزء الثالث من التمثيلية قاسياً عليك.. فهل تفضلين غيرهذا الشراب لئلا تعي ماسيحصل؟
أنباتها غرائزها وقوة الإبداع التي تملكها أن هذه هي اللحظة الحاسمة للقرار.. فإن لم تعالج هذا الموقف بشكل صحيح، فلن يحترمها ثانية لأنه من الأشخاص الذين لا يحترمون سوى القوة. لايعرف ماينتظره.. ولا سبيل له أن يتوقع ماهو قادم.. سيطرت هولي على كل أحاسيسها، وعلى مشاعرها، ولم تعكس عيناها الرماديتان أي شيء مما يجري في أعماقها. كان الهدوء الذي طالما أحبط أمها قناعاً تدربت عليه طويلاً، ولايمكن اختراقه.. تقدمت إليه برشاقة بطيئة متعمدة، توحي بالثقة التامة.
استرعى هذا انتباهه.. وبدا القلق في عينيه.. وجمد جسمه جمود الحيوان البري الذي تنبهت كل حواسه لأنه شعر بما هو مريب.. انتظر حركتها القادمة.. حين وقفت على بعد نصف ذراع منه، ولم تأخذ الكأس المقدم لها انتظرها لتتكلم.لم تضربه هولي بقوة اندفاع جسمها كله.. بل كانت الفعة مدروسة الغرض منها أن تلسع، لا أن تؤلم.. أن تُعلم ، دون أن تجرح.. وأن تؤكد على وقارها.
قالت بلهجة الآمر الغاضب: لا تكلمني هكذا مرة أخرى! أنا ندك فيلكس ويستون.. وقد أصبحت للتو شريكتك لذا عليك أن تعاملني على هذا الأساس، لأنني لن أقبل شيئاً آخر.
لم يتحرك وأصبحت نظرة عينيه الخطيرة حيادية.. وكادت تحس بالتركيز الذي يبذله وهو يحاول السيطرة على نفسه..
التوى فمه في نصف ابتسامة، وقال: مهذب جداً! مهذب ومتمدن بحيث يكاد المرء يظن أنك تعكسين ثقافة مجتمع بوسطن. لكن كل هذا مجرد مظهر خادع .. أليس كذلك هولي؟ تحت هذا المظهر المخادع، نفس متوحشة تسعى إلى الدم.. ولكني سأقول لك شيئاً من دمي.
ردت بصوت متهكم: ربما لا أسعى وراء الدم فيلكس.. ربما أسعى إلى ماهو مختلف.. لكنني أشك أن تكتشف أبداً ما هو.
شرب كوب العصير دفعة واحدة، ثم رمى الكوب على الارض.. فاجأها تبدل حاله من السيطرة على النفس إلى العنف. وقبل أن تستطيع المرواغة أو القيام بحركة لتحمي نفسها، كان قد ضمها إليه بقوة ساحقة، وأصبحت ذراعاه قبضتين من فولاذ.
ـ اللعنة عليك! اكتفيت! فقد جربت صبري إلى أبعد الحدود.. وكلفتني شخصياً الكثير، ولن تتهربي من كل هذا. سأحطمك إن اضطررت، لذا من الأفضل لك الركوع هولي.. والآن.. عانقيني أيتها القطة المتوحشة.. عانقيني وسأعمد أنا إلى معانقتك حتى أعرف من أنت حقاً .. ثم سأحملك إلى أماكن لم تصلي إليها مع أي رجل من قبل.. وبعدما أنتهى منك ستسرعين إلى مشروع الطلاق القذر الذي تخططين له.
لم تلاحظ هولي الاتهام الذي وجهه إليها ولم يترك هو لها مجالاً للكلام.لذا لم تفعل إلا لشي الوحيد الممكن أمامها.. وهو الاستسلام. تحرك في أعماق هولي شيء متوحش بدائي هولي يدفعها للوصول إليه.. إنها تريد أن تأخذ وتعطي وتريد أن تنتقم منه بعنف بقدر ما يوقع العنف عليها. قابلت كل تقربه منها برغبة انتحارية، لا تعرف سوى هدف واحد.. أما الكلفة النهائية فلم تعد مهمة لها.
هذا ما أثاره إلى درجة أن أرخى عناقه الآسر وتحركت يداه لتضغطا على خصرها، أما هي فرفعت ذراعيها تلفهما حول عنقه وتضمه إليه بشوق..فراح يصدر همهمات هامسة تؤكد تأثيرها القوي عليه.
فجأة قهقة فيلكس فنظرت إليه هولي، تأمر عقلها أن يصحو من تشوشه الذي سببه هذا الموقف. برقت عيناه على شعرها الطويل الأملس.. وقال هامساً: أجل .. هذا هو لونك الحقيقي. أسود! أيتها الساحرة السوداء! ذات القلب الهمجي الذي يتماشى مع سحرك الأسود ! والآن دعينا نتخلص من كل الأفخاخ الخادعة.
كان يعاملها بجنون وعنف ونفاد صبر فتحركت كرامتها التي أصرت عليها أن تقاوم، وحين نظر إليها وإلى الألماس الذي كانت تتزيا به في عينيه نظرة رضا.
ـ كأنك ملكة همجية من الماضي.
ضحك ضحكة مجنونة ثم رفعها بين ذراعيه، وسار بها إلى غرفة النوم كالغازي القديم الذي يحمل من سباها في الحرب. رماها على السرير.. ولكنها تمكنت من اتخاذ وضعية تحد وصوبت نظرتها المباشرة إلى عينيه. كان قلبها يخفق بسرعة غير معقولة.. وكانت أحاسيسها حية.. ولم يكن هناك أي تعقل فيما يجري الآن، فبينهما الآن مبارزة للقوة.. رجل ضد امرأة.. امرأة ضد رجل.. ابتسمت لنفسها تفكر في أنها لن تكون امرأة يسهل نسيانها أو التعامل معها.
قال بصوت أجش متوحش: لا.. لن يكون لك ماتريدين معي.. ولن تبتسمي حين أفرغ منك..
همست:" حقاً ؟ ".
ولوت شفتيها بإثارة متعمدة..
ـ عانقني فيلكس.. أيمكنك محو الابتسامة عن شفتي؟
كان هناك خيط رفيع من التعقل فبل قولها هذا.. أما بعده فلم يعد هناك شيء. وفجأة فقد كل منهما السيطرة على نفسه.. نسيا كل ما له علاقة بالمبارزة فقد علقا وسط دوامة مجنونة من المشاعر. أخيراً، استلقيا دون أن يحاولا فك العناق ولم يتنازل أي منهما للآخر بشيء.. لكن الصمت الذي حافظا عليه، كان في طياته الهدوء والأمان، وكأن معاهدة وقعت بينهما وتم توقعيها.لن يكون هناك قتال بعد الآن.. فهما ندان متساويان.. وشريكان.. بل هما شخص واحد وكلاهما انتصر.
هل سيبقى فيلكس مكتف وراضٍ عن هذا؟.. هذا مالاتعرفه هولي، لكنها قانعة أنه لم يظهر أي ميل للافتراق عنها. لم تخدع نفسها بأن كل شيء سيكون على ما يرام بينها وبين فيلكس من هذه اللحظة وصاعداً . فما زالت أمامها عراقيل كثيرة قبل التوصل إلى تفاهم مشترك.. هذا إذا حصل.. فهي لا تستطيع أن تقول له إنها تحبه.. إنهما مناسبان لبعضهما بعضاً، بطريقة تتجاوز كل الخلافات، والفروقات. لكن قد لا يكون هناك ما يكفي لدفع مثل هذا الزواج إلى الأمام، لتكون هولي سعيدة به.
مع هذا، كانت مصيبة في قرارها. حين استسلمت للنوم لم تكن الابتسامة على شفتيها قد انمحت كما نوى فبلكس بل كانت ابتسامة المعرفة التي لايمكن لأحد أن ينتزعها منها.

أريدك حيـــــــــــــــــاً!


أيقظتها لمسة خفيفة كانت تتجول على وجنتيها.. وجعلها النداء الناعم باسمها تصحو بكل تنبه.. كان نور الصباح متدفقاً إلى غرفة وفيلكس جالساً على السرير قربها.. شعره أسود مبلل، ولحيته حليقة تفوح منها رائحة عطر مابعد الحلاقة.
قال بإعجاب ساخر: تستيقظين كقطة.. وأنت حذرة دوماً.. تركتك نائمة ولكن الوقت يمر، ولدينا رحلة.. ألا تذكرين؟ أنا واثق أنك لا ترغبين أن يفوتك رؤية شيء مما امتلكه بزواجك بي..
لم يعجبها بريق السخرية في عينيه.. وتساءلت لحظة عما إذا كانت ليلة أمس مجرد حلم. ثم تذكرت كلماته الشرسة عن مشروع طلاقها. إنها لا تريد منه أن يفكر بهذه الطريقة، مع أنه من الواضح أنه سيسيء الظن إن أنكرت.. ولكن فكرة الطلاق أمر مؤلم لها بشكل غريب.
مدت يدها إليه تلقائياً.. وقالت برقة: لاأظنها ممتلكات يمكن أن تختفي إن لم أشاهدها فوراً فيلكس.
حركت يدها على كتفه تداعبه بدعوة مفتوحة.. فأمسك معصمها وكادت أصابعه تسحق عظامها وأضاءت المشاعر العنيفة عينيه الخضراوين.
ـ لاأحد يدير حياتي هولي.. على الأقل امرأة. أنت الآن شريكتي قانونياً .. وقد تكونين متساوية معي.. كزوجة لي، بإمكانك المجيء معي، أو الذهاب في طريقك.. لكنني سأغادر هذا المكان بعد ساعة، ولاأنوي أن أتأخر.. وماتختارين فعله هو شأنك الخاص.
شريكة.. متساوية.. كلمات حلوة على أذني هولي. إنها تتقدم!
ـ أنت تؤلم معصمي فيلكس.
لكنها سراً كانت مسرورة لأن للمستها هذا التأثير المؤكد فيه. ذكرتها عيناه أن قوة الإثارة ليست من جانب واحد، إذ رفع يدها إليه يقبل مكان النبض في معصمها فتسارعت أنفاسها.. وسألها متهكماً: هكذا أفضل.. الآن؟
ـ يتحسن.
تركها ضاحكاً ووقف فجأة يصرف النظر عن مزيد من التقارب الحميم، وقال من فوق كتفه وهو يتجه إلى غرفة الملابس: الفطور بعد نصف ساعة.
ـ سأكون حاضرة.
ورفعت نفسها من السرير .
توقف بالباب ينظر إليها، ثم أجابها ساخراً : بطريقة ما، عرفت أنك سترغبين بمرافقتي إلى بندنير.. هولي.
لم تكن قادرة على الإحساس اللذيذ بالترقب: هذا يخدم هدفي فيلكس.
التوى فمه: دون شك.. ومن المثير للاهتمام رؤية كم سيظل هذا مناسباً لك.
ـ ربما" حتى يفرقنا الموت".. ألم تفكر في هذا فيلكس؟
أثارت ردة فعله البرد في أوصالها فقد اسود وجهه وتحجرت عيناه.. وقال بازدراء: إذا كنت تريدين كل شيء لنفسك هولي.. فستنتظرين زمناً طويلاً .. لن أموت بسهولة كما مات ايرول.. ولن تنجحي في ارتكاب جريمة قتل أخرى بين عائلتينا.. وجاك سيتأكد من هذا.
صدمها كلامه لذا لم تستطع السيطرة على نفسها بل قالت بخوف وذعر: من قتل من؟
قال بمرارة: أعتقد أن والدك ادعى أن الأمر حادثة.. فالناس قادرون على تحريف الأمور..لا أنكر أنه هوجم أولاً.. لكن والدي هو الذي انتهى ميتاً.. فلاتتغاضي عن التفكير في هذا وأنت تحسبين الغنائم التي تريدين الحصول عليها.. أما أنا فلا أتغاضى عنهـا ولن أتغاضى عنه. هزت هولي رأسها مذهولة مما قاله. وشعرت بطعنة في قلبها لأن فيلكس يفكر أنها قادرة أن تكون على هذه الدرجة من الحقارة بحيث تعتبر موته وسيلة للربح.. سحبت نفساً عميقاً لتهدىء الغثيان الذي يغلي في معدتها.. لقد تزوجت فيلكس ويستون وستسعى للاحتفاظ به مهما واجهت من مصاعب.
رفعت ذقنها بتحد بارز: المشكلة فيك فيلكس أنك لست معتاداً على نساء لايمكن شرائهن.. لكن يسرني أن أعرف أنني تجربة جديدة لك.
ضاقت عيناه وهي تتقدم إليه بثقة منحتها إياها ليلة أمس. وتوقفت أمامه ويدها تلامس ذقنه باستفزاز متعمد.
قالت:" أرجوك.. لا تضيع وقتك في القلق على روحك بسببي.. فأنا أريدك حياً.. شديد الحيوية".
ثم تجاوزته ودخلت إلى غرفة الملابس وهناك أقفلت الباب خلفها شاعرة بالرضا والنصر فقد أعطته شيئاً إيجابياً ليفكر فيه..وهو يريدها. ألم تر وميض الرغبة في عينيه عندما ابتعدت عنه؟ بينهما تجاذب كبير، لا يستطيع إنكاره.. وما داما يعرفان هذا.. فلديهما المستقبل! نظرت إلى نفسها في المرآة، ولاحظت أنها مازالت تتزيا بالألماس الذي أعطاها إياها.. الألماس لزوجته! ولن تتخلى عن هذه الممتلكات بسرعة! فلندع الماضي وشأنه!.. هذا مااتفقا عليه بالأمس. فليكن مايريد!.. هناك أكثر مما قاله فيلكس عن موت أبيه، وإلا لكانت ردة فعل دونا وجاك بالأمس مختلفة. حتى ولو كان والدها مذنباً لبعض الخطأ، فلقد دفع ثمنه وعاش منبوذاً وحيداً. لكن هذا لم يعد همها الرئيسي.. سعادتها؟ نظرت إلى نفسها في المرآة مجدداً بعينين أصبحتا فجأة أكثر بريقاً من قبل. أُيسمى هذا الجنون مع فيلكس سعادة. مقارعة مستمرة لانهايةلها لقوتها ضد قوته.. ولكن ماهي النهاية التي تريدها؟ إنها تريد أن يشعر فيلكس بأنه بحاجة إليها.. وأن يحبها.. أن يريدها في حياته إلى الأبد.. أنه الرجل المناسب لها! ولايهم لماذا تشعر بهذا! تأخرت هولي على الفطور.. كان فيلكس جالساً على المائدة وأمامه طبق لحم وبيض مقلي. يقرأ صحيفة موضوعة إلى جانبه..
قالت بإشراق: لم أجد الثياب التي كنت أرتديها ليلة أمس.
التفت إليها:" أتصور أن تريسا اعتنت بها".
طافت عيناه على جسمها ينظر إلى القميص القطن والبنطلون الجينز اللذان اختارت أن ترتديهما..كان شعرها الأسود معقوصاً خلف عنقها ووجها خال من التبرج، لكن بشرتها كانت متوهجة وعيناها تترقصان له..
التوى فمه ساخراً: تغيير كامل في الصورة؟ أهي مفاجأة أخرى لي؟
ـ لا.. بل هي ملابسي التي أرتديها عادة وقت السفر. إن لم تكن ملائمة، فقل لي هذا.
كان يرتدي قميصاً رياضياً أخضر يبرز لون عينيه.. فكرت هولي أنه أجمل رجل في العالم.. ثم تابعت تسأل: ومن هي تريسا؟
ـ إنها تريسا جوانو.. تعتني بكل شيء في هذه الشقة.. ولو ذهبت إلى المطبخ وقدمت نفسك لاهتمت بكل حاجاتك، بمافيها الفطور.. قولي لها ماترغبين فيه.
تريسا جوانو.. امرأة متوسطة العمر.. بدت مسرورة فعلاً بالتعرف إلى زوجة فيلكس الجديدة.. كانت ثياب هولي موضوعة جانباً للتنظيف.. وسرعان ما أعدت لها الفطور وقدمته لها.. راقبها فيلكس وهي تأكل بجو يوحي بنفاد الصبر.
قال مدمدماً وهي تصب فنجاناً آخر من القهوة: متى كنت حاضرة.
رفعت نظرها إليه بكل براءة: أنا جاهزة.. لم أكن راغبة في الفطور ولكنك أشرت إلي به..
قطع نظرة البراءة المزيفة وقال: بشكل غريب يكفي.. أنا أريدك حية كذلك هولي.
دار حول الطاولة يمسك لها الكرسي: على أي حال، لا يحصل المرء كل يوم على زوجة لها هذا الكم من المميزات الرقيقة.
ضحكت بمرح عندما تركا الشقة كانت روحها المعنوية مرتفعة.. توجها إلى المطار حيث الطائرة النفاثة الخاصة بانتظارهما هناك قدمها فيلكس إلى الطيار والمضيف.. كانت الطائرة مجهزة بكل وسائل الراحة: غرفة جلوس، غرفة نوم، حمام، ومطبخ صغير عصري لتحضير الوجبات.. وكانت هولي فعلاً تتطلع شوقاً لرؤية منجم الألماس وللتعرف إلى حياة فيلكس. جلست على المقعد ثم وضعت الحزام حولها استعداداً للإقلاع، ونظرت إلى فيلكس: لم تخبرني، لماذا نسافر اليوم إلى بندنير؟
ـ لا أحب أن يفوتني الجمع.
ـ ظننت أنكم تستخرجون الألماس من الأرض، ولا أعرف أن بالإمكان جمعه.
التوى فمه: ليس الألماس.. بل الماشية. التنقيب عن الألماس عملي. لكن إدارة أكبر مزرعة للماشية في العالم هي سعادتي.. خاصة في مثل هذا الوقت من السنة.
أخفت هولي ارتباكها قدر المستطاع.. إنهما مسافران إلى المنجم.. لكنه سيجمع الماشية؟
ـ لم تذكر لي هذا من قبل.
تراقصت العينان الخضراوان بمرح ساخر: إذن.. هناك مالا تعرفينه! المنجم يدير نفسه بنفسه هولي. فالكمبيوتر يسيطر على كل شيء، وفي أصعب الحالات بإمكان ستة أشخاص إدارته.. وهذا ليس قمة التحدي المطلوب.. قطع الألماس يجري في بيرت، وجاك يتولى إدارة كل شيء هناك. وأنا بحاجة للقيام بشيء، ولتحقيق شيء.. والواقع أنني أهتم بالجانب العالمي من تسويق الألماس. لكن حياتي الحقيقية هي في بندنير، فهناك أقضي معظم وقتي ولن أتخلى عن هذه الحياة من أجل أي كان أو أي شيء. أحب التحدي، وأحب التجارب وأحب أن أسيطر على مايصعب السيطرة عليه.
أخيرأ فهمت هولي الأمر. فلا علاقة لبندنير داونز بمنجم الألماس! إنها مزرعة مواشي! وهي إحدى أكبر الأملاك المفتوحة في كيمبرلي.. أرض كبيرة، واسعة الأرجاء في أرض معزولة .. وفهمت فجأة ما كانت تقوله دونا بالأمس. إنها بلاد الرجال.. ولا مكان فيها لامرأة..
كان فيلكس يراقبها ردة فعلها على ماأخبرها به.. وقال بثقة مؤكدة: إنها العشيقة التي لايمكن أن تنافسها أية امرأة.. الناس يأتون ويذهبون أما الأرض فتبقى إلى الأبد.. تختبر إلى مالا نهاية، تتطلب، تدفع الرجال إلى حدود التحمل والقدرة .. تعطي المكافآت، توقع العقوبات، ترفع شأناً وتحطم، ولكنني لا أتصور أن لمرأة من بوسطن قادرة على فهم هذا .
ابتسمت: لقد مضى زمن طويل لم أعش فيه في بوسطن.. حتى هناك، تعلمت أن أعيش في محيط مختلف.
تبدلت السخرية إلى فضول: مختلف؟
ـ في يوم ما سأخبرك بالأمر.. أما الآن فليس الوقت المناسب.
التوى فمه:" أنت تفضلين إثارة حيرتي".
فلنقل فقط إن القدرة على التحمل هي أفضل ميزاتي.
ضحك ضحكة خافتة فيها السكينة والتفوق: ربما بعد عمر مديد، قد أجد ماهي المزايا الأخرى..أما الآن فأرجو أن تتحملي الطيران مدة خمس ساعات دون أن أسليك.. فلدي أعمال أهتم بها. عندما جئت إلى سيدني لم يكن في نيتي الزواج الذي اقتضى مني وقتاً كان مخصصاً لأمور أخرى.
أقلعت الطائرة النفاثة وهما يتحدثان وفك فيلكس حزام الأمان ورفع حقيبة أوراقه إلى الطاولة أمامه.. وسألت هولي: هل هناك ما يمكنني مساعدتك فيه؟
أخرج رزمة أوراق من الحقيبة، ثم نظر إليها نظرة صاعقة: أشك أن تكوني مدربة لمثل هذا النوع من العمل.. هولي.
ـ ها قد عدت للتخمينات.. أنسيت أنني شريكتك؟
ضحك مجدداً ضحكة لامرح فيها.. وأشارإليها بتهكم أن تنضم إليه على الطاولة : بكل ترحاب.. ألقي نظرة على هذه الاتفاقات. هذا ما نحن ملتزمون بتسليمه إلى سنغافورة، ولن تمنعيني أنت أو أي شيء آخر عن الوفاء بالاتفاقية.. لم تشأ هولي التدخل بالمنجم أو بمزرعة المواشي..لكنها كانت مهتمة بمعرفة المزيد عنهما.. وتجاهلت قلة الاكتراث التي يبديها، واستقامت في جلستها أمام الطاولة وركزت اهتمامها على عمله المكتبي.
وجدت هولي بعض الأرقام في الاتفاقيات مذهلاً.. لاتستغرب الآن أن يعرض عليها خمسة ملايين دولار ثمناً للوحة دون أن يرف له جفن! وقامت ببعض الحسابات الفكرية.. لاشك أن العمل في المنجم مربح جداً وبشكل لا يصدق.
لم يكن لديها فكرة كم هو مخزون الألماس، في بندنير. ربما لا أحد يعرف لكنها كانت واثقة أن والدها هو الذي حدد مكانه، ربما بالشراكة مع جاك ويستبرون. وهذا بالتأكيد مايدل عليه كلام جاك بالأمس. بدأت تلملم المعلومات التي جمعتها من هنا أو هناك.. دونا عاشت في مزرعة المواشي المعزولة مع والد فيلكس.. ثم جاء جاك ويستبرون وايرول ماكنافش.. ولاشك أن الضيافة المفتوحة في المزراع الأسترالية النائية آوتهما، وهما يستكشفان المنطقة.. إذا كان مخزون الألماس قد وجد في بندنير داونز.. وهذا هو الأرجح.. فإن الاكتشاف أثر في الجميع.. وربما هو الذي تسبب بالأحداث الفظيعة التي وقعت.
كانت دونا " مركز" كل شيء، وهذا واضح.. امرأة جميلة تشتاق إلى حياة مختلفة، وإلى الأصحاب و الاهتمام.. امرأة لديها حاجات لا يستطيع زوجها، أو لم يرغب، في تأمينها لها.. و يبدو أنه كان هناك ثلاثة رجال يمثلون ثلاثة خيارات مختلفة.. والد فيلكس، رجل قاس لايلين.. يهتم بأرضه أكثر من اهتمامه بأرضه أكثر من اهنمامه بزوجته. ولا يريد حياة غير التي يعيشها.
جاك.. الرقيق اللطيف الحنون.. لكنه يفتقر إلى الجاذبية المطلوبة. والدها هي.. الذي كان شخصاً مميزاً حتى فقدت أمها رشدها معه. فهل فقدت دونا رشدها معه كذلك..؟ وقلبها؟ هل هذا هو السبب الذي قاد إلى اقتتال انتهى بموت والد فيلكس؟ لن تستطيع أن تسأل بسبب ظروف زواجها لكن الواضح أن شعور دونا بالذنب ما زال يعذبها.. فهل حرضت رجلاً على الآخر؟ وفقدتهما معاً؟ هل أبعدت ايرول حين شهدت موت زوجها وأصبحت غير قادرة على تحمل مغبة مناوراتها؟
جرت هولي تفكيرها من الماضي، فلن يساعدها الماضي في إحراز التقدم مع فيلكس الذي يظن أنها لن تبقى طويلاً في بندنير.. إنه يراها امرأة جميلة.. والواضح أن خبرته مع النساء الجميلات تقوده إلى الاعتقاد أنهن راغبات، مستهترات، يردن أن يعجب الناس بهن وبتبرجهن وأنهن لا يمكن أن يكن سعيدات خارج الحياة الاجتماعية البراقة .. إنه لا يدرك أنها لا تحتاج إلى أحد حولها.. والإعجاب المصطنع يعني لها أقل من لا شيء..لكنه سيتعلم في النهاية.. الوقت معها الآن وهي زوجته. فكرة أن تعيش معه في عالم خاص بهما حمل إلى شفتيها ابتسامة رضا.
علق بسخرية: أرى أن أرقام تجارتنا تبهج قلبك.
كانت تمسك أحد العقود الكبيرة.. فسألت بصوت ملؤه الفضول متجاهلة سخريته: كم ينتج المنجم فيلكس؟
قسن عيناه الخضراوان: حوالي ثلاثين مليون من قيراط من الألماس سنوياً .. فهل هذا يرضي جشعك؟
ردت بحدة: لا ترمي هذا في وجهي فيلكس! كان بإمكانك ترك الألماس حيث وجده أبي.. في الأرض.
توتر وجهه: لم يكن قرار التنقيب عنه قراري.. فيومذاك كنت مجرد صبي صغير.
ـ لكنك لم تدر ظهرك للمنجم وهو موجود.. إذن لماذا تنكر علي اهتمامي به الآن؟
ـ أكنت تفضلين تركه في الأرض هولي؟
ـ الألماس لا يهمني.. بأي شكل من الأشكال.
ردت نظرته مباشرة بعينين ثابتتين . وأضافت: وبما أنني زوجتك أعتبر عملك عملي، وشأنك شأني فيلكس.. ولن يثنيني شيء عن هذا حتى الاتهامات الشريرة التي ستختار اتهامي بها.
سألها متهكماً: أتتوقعين مني أن أصدق أنك كنت ستقومين بما قمت به حتى الآن لم لم يكن هناك منجم ألماس؟
ـ لو لم يكن هناك منجم ألماس.. أكنت تتزوجني؟
استرخى وجهه وابتسم ابتسامة ماكرة: ربما.. فأنت أكثر من وجه جميل.. مع أنني كنت سأفعل أشياء أخرى لو لم أشاهد اللوحة أولاً.
ردت بجفاء، لكن قلبها كان يتسارع بانفعال: ربما..
إنها المرة الأولى التي يقر فيها أنها أعجبته منذ الليلة الأولى.. ابتسمت بثقة بالنفس: وربما كان أملك سيخيب. فأنت محق أنني لست مجرد وجه.. لكنني لست جسداً فقط
ـ كوني واثقة أنني الآن أحترم العقل الذي يدير هذا الجسد.
اتسعت ابتسامتها رضا: ليس عليّ الآن إلا جعلك تهتم بشخصيتي.. وسيكون لديك شخص كامل.
أحست بتراجعه أمامها حتى قبل أن يتكلم: الأرض تقوم بهذا نيابة عني.. إنها تخرج أفضل وأسوأ مافي أي شخص كان.
تحدته سائلة: وأنت لا تظنني قادرة على اجتياز هذا الامتحان؟
التوى فمه:" لقد سمعت أمي.. سرعان ماتسأمين إلى درجة الجنون".
ردت :" سنرى".
برقت عيناه بغموض: أجل..سنرى.
ثم عاد للتركيز على عمله متعمداً إبقاءها.بعيدة .
فيلكس ويستون، لا يستسلم بسهولة.. ما إن يصمم رأياً حتى يصبح راسخاً كالصخر، أو كالألماس قسوة، كماهي الحال الآن .. لكنها لا تشعر بأنه أهانها بإبعادها عنه. فهي لم تقاطعه.. بل هو الذي فتح الحديث معها.. ولقد سجلت بعض النقاط لصالحها من هذا الحديث.. بعض الأشياء لا يمكن استعجالها، مثل الاحترام. إنها قانعة بانتظار الفرصة التالية.أخيراً طلب فيلكس الغداء وأبعد أوراقه وهما يتناولان سلطة الكركند.
سألت:" هل تتناول دائماً مثل هذا الطعام الفاخر؟ حتى في بندنير داونز؟".
ـ أستمتع! لدينا كل مانريد هناك، ويحتوى منزل المزرعة على كل وسائل الراحة التي تعرفها المدينة كما ذكر جاك بالأمس.. وما تفعلينه فيها هو شأنك الآن.ولكن ثمة غرفتان لاتمسهما أية أنثى.. لكن، إذا رغبت، يمكنك تغيير المنزل كله حسب ذوقك.. اشترى ما شئت..سأكون مشاهداً فقط، لأرى ماالذي يدفعك.. ماالذي يثيرك؟
أصبحت التسلية سخرية عميقة الجذور وهو يضيف: هذا قبل أن تدفعك العزلة إلى الهرب.. أو تسأمين اللعبة التي تعلبينها.
تجاهلت ملاحظته: ماهي مساحة بندنير داونز؟
ـ هي أشبه بالمستطيل الذي يبلغ طوله مئة وخمسين ميلاً وعرضه مئة.. خمسة عشر ألف ميل مربع.. وستكونين وسط الأرض.. لاشيء سوى السكون و الأرض التي لا عمر لها حولك.. ممتدة منذ آلاف السنين.. وشيئاً فشيئاً ويوماً ستطبق على قلبك.
ـ لكنها لم تفعل هذا بك.
ـ إنها أرض الرجل.
مدت يدها تمسك يده: إن ما تحتاج إليه.. هو امرأة مناسبة لتسيطر عليها.
سمعت هسيس أنفاسه، وكان في عينيه شيء خطير.. وأطبقت يده على يدها، تأسرها وتعبر عن سيطرته.
ـ منذ البداية.. الشيء الوحيد الذي أعجبني فيك، هو برودك..
استفزته قائلة:" في كل الأوقات؟".
كانت ابتسامة شيطانية بالتأكيد وهو يستخدم يده الأخرى ليضعها على خدها:أعتقد.. هولي رايدال..
ـ هولي ويستون.
إنه يريدها الآن..
ـ أعتقد هولي ويستون.. أنك بحاجة لتعلم بعض قواعد الاحترام.
تحرك عن الطاولة، وجذبها عن كرسيها. ثم جرها معه إلى غرفة النوم، وأغلق الباب وراءهما: لن يمنعني شيء عن تعليمك حتى لوكنا على ارتفاع خمسة وثلاثين ألف قدم.
ولم تحاول هولي بكل تأكيد أن تمنعه.. بل شجعته أن يعلمها كل الاحترام الذي يستطيعه.. لكن لم يكن هناك شيء من الاحترام في تفكيرهما.. ولم يقل فيلكس شيئاً عن الاحترام كذلك.. أخيراً أبعد نفسه، وخرج من السرير ليقف.. نظر إليها يهزأ رأسه: أنا لا أفهمك.. و لا أفهم ماتريدين.. أو لماذا تتصرفين هكذا.. ولاأثق بك.. ولن أثق بك أبداً.. لكنني سأقول لك هذا.. التورط معك مسألة فظيعة.
زاد اعترافه هذا من رضا هولي، لكنها كبتت تهورها واندفاعها لئلا تترك مشاعرها عادية أمام سخريته.. ابتسمت له ابتسامة بطيئة غامضة: لابأس بك فيلكس.. لست سيئاً.. تعرفت إلى من هو أسوأ منك.
تصاعد من حلقة صوت يشبه الهدير. ولكن بدا أنه لا يريد أن يتركها.. توقف بالباب ينظر إليها وعلى وجهه تعبير متجهم غامض، جعل قلب هولي يقفز أملاً.
قال:" أمامك ساعة قبل أن تحط الطائرة.. ولدي عمل أنهيه.. افعلي ما شئت".
ثم خرج إلى المقصورة الأخرى يغلق باب مقصورة النوم خلفه. لكنها لن تسمح له بإبقاء الأبواب موصدة بينهما.. أقسمت هولي على فتح الأبواب واحداً إثر الآخر.. ولو لزمها ما تبقى من حياتها!

_ خـــــــــــــائف منها!




[center]خيبت النظرة الأولى التي ألقتها هولي على المنجم أملها. فهو مجرد علامة صغيرة معزولة فوق أرض واسعة، متفكك البنية وبشع وكأنه فوهة هوة على القمر..مع ذلك فقد تقاتل الناس عليه وماتوا من أجله أو بسبب امرأة. بطريقة ما، لم يثر منظره أي شيء في نفس هولي.. فلولا ظهور الألماس لالتقت بوالدها وعرفته.
قال بصوت ساخر:" جوهرة التاج.. سأجعل أحداً يريك محتويات الأقبية".
أدارت هولي رأسها عن النافذة فالتقت ببريق عينيه الخضراوين القاسيتين.
ـ سانتظر حتى ترغب أنت في مرافقتي لإلقاء نظرة على المكان فيلكس. والواقع أن ما يهمني أكثر هو رؤية المكان الذي تعيش فيه.
ارتفع حاجباه بسخرية واضحة، لكنه تقبل كلامها دون جدال.
ـ في هذه الحالة، سأقول للطيار أن يتجه فوراً إلى مدرج منزل المزرعة.
أعادت هولي نظرها إلى مناظر الأرض تحتها.. وذكرها هذا بأرض أخرى رأتها من قبل كانت تموت عطشاً: نيفادا..أريزونا..زيمبابواي في أفريقيا.
سألت عندماعاد فيلكس إلى مقعده: كم رأساًمن الماشية لديكم في بندنير؟
ـ هذا وقف على الظروف. وهي تترواح مابين مئة ألف ومافوق.
عبست هولي فقد بدا لها العدد صغيراً.
ـ هذا يعني حوالي ستة رؤوس لكل ميل مربع.
ـ إنها أرض قاحلة.. لكن القطيع يزداد طبيعياً في السنوات التي لاتكون فيها الأرض قاحلة. ولهذا لدينا جمع منتظم للماشية.. لندفع العجول الجديدة ونبعد العجول البرية.. ماهذه هي الحياة التي تتوقعينها، أليس كذلك؟
ـ ماكنت أتوقعه فيلكس، وجدته. والآن أريد المزيد.
ضاقت عيناه:" المزيد مما؟".
ـ منك.. ولماذا تظن أنني هنا؟
تمتم بصوت ملؤه التجهم:" الله وحده يعرف!".
ستكون شكوكه المتعلقة بها عرضه للاهتزاز ولكن..
كانت الطائرة تهبط بسرعة، وأول انطباع رسخ في ذهنها عن مزرعة بندنير دوانز هو أنها بلدة صغيرة.. بدا أن كل شيء منظم بترتيب: مربعات فسيحة، مجمع الماشية، وصفوف من الأبنية ذات السقوف المصنوعة من صفائح الزنك، وخزانات من المياه موزعة بشكل موزعة بشكل مدروس، وسواق يتجمع منها الماء في الجدول.. فكرت في أنها ستتكيف مع هذه الحياة مهما يكن عليه الأمر.. وأقسمت هولي على هذا وهي تبتسم بثقة لفيلكس والطائرة تلامس المدرج الصغير.
حين ترجلت من الطائرة كان أول من رأته من الناس مجموعة من الصبية الذين من هم السكان الأصليين وكانوا يقفون على سياج قريب وعلى وجوههم ابتسامات عريضة.. ردت هولي التلويح وماهي إلا لحظة حتى قفزوا عن السياج وابتعدوا نحو المنازل..
سألت فيلكس:" من هؤلاء؟".
ـ أولاد الرعيان عندنا.. كانوا هنا من قبل أن يستعمر الرجل الأبيض هذه البلاد.. هذا وطنهم.. وهنا سيبقون.. مدى الحياة.
ونظر إلى هولي نظرة تحذير.
سارعت توافقه الرأي:" طبعاً.. هذا حقهم".
ـ دون حكم عرقي مسبق؟
ـ هذا يحدث في بوسطن.
دست ذراعها في ذراعه، ورأت التوتر يسترخي في وجهه..وأحست كأنها مرت بامتحان.
قالت:" تظاهر بأنك تحبني.. فهذا سيعطي انطباعاً أولياً حسناً".
ضحك ضحكة خافتة وما إن وصل جيب ووقف في أسفل الدرج حتى شد ذراعها إليه أكثر وتصرف معها بحب وتساهل وعمد إلى تعريفها بالسائق: هولي هذا وارن مانيج.. مدير المزرعة الدائم هنا، زوجته غير ليش، تدير مالا يستطيعه هو.
وران رجل في العقد الرابع من عمره، نحيل قوي الجسم، تلاعبت بوجهه تغيرات الطقس.. شعره رمادي حديدي وعيناه زرقاوان براقتان، وابتسامته تشع ترحيباً دون شروط. صافحت هولي اليد الممدودة إليها وقالت: أنا مسرورة جداً لمقابلتك سيد مانيج.
سأل بدهشة: " أمريكية؟ .. أتمنى أن تكوني سعيدة معنا هنا سيدة ويستون ".
ردت بحرارة : " شكراً لك.. سأكون مسرورة دون شك .. الامريكيون يحبون التحدي أيضاً..أكثر من هذا ".
ابتسم وارن مانيج موافقاً : لاأعتقد أن من الممكن أن ينتقي فيلكس من لاتستطيع الصمود هنا، سيدة ويستون .
وضعت الحقائب في الجيب وفي هذا الوقت كان وارن يعبر عن السرور الذي شعر به الجميع عندما علموا بخبر زواجهما.. وأخبرهما وارن ان كل رجل وامرأة و ولد في بندنير داونز ، مجتمعون في المنزل الكبير بانتظار لقاء المرأة التي تزوجها رئيسهم .
فكرت هولي متوترة : وليتفحصوها .. قلقت لوقت قصير بسبب ثيابها ، ثم ذكرت نفسها أنها لاتريد أن يحبها الناس من أجل ثيابها بل من أجل شخصيتها ، والكل مستعد ليحبها لأنها زوجة فيلكس . مع ذلك أدركت أن هذا امتحان آخر يجب أن تمر به لتكسب احترام فيلكس .
كانت هولي مشغولة الفكر بما ينتظرها لذا لم تنتبه جيداً للأبنية والاسطبلات ، مخازن الغلال والمنازل ، ولكن لما اقتربت السيارة من المنزل الكبير تأثرت كثيراً.
كان طوال الجزء الرئيسي من المبني حوالي مئة وعشرين قدماً من كلا الجانبين. وثمة شرفة واسعة تحيط بالمبنى من كل الجهات، ولكل عمود في الشرفة إفريز خشبي مزخرف ملاصق للسقف. وتحت الشرفة حديقة مزدانة بالأشجار المزهرة الصغيرة. بدا اتساع المنزل مناسباً للأرض التي بني عليها، وقد أثر فيها كثيراً.. لكن لم يكن لديها وقت للتفكير، لأن الناس كانوا مصطفين على الشرفة يلقون عليها التحيات بوجوه فرحة.. كانت الساعة التالية مرهقة لهولي فقد تعرفت إلى حوالي خمس عشرة عائلة، حاولت جاهدة أن تتذكر أسماءها، ولكن جميع الوجوه عبرت عن مدى فرحتهم وترحيبهم. ولعل ما ساعدها أن فيلكس دعمها وأظهر سروره.
ولكن ما إن انتهت التحيات والاحترامات، حتى قال لها إن عليه أن يناقش بعض الأمور المتعلقة بالعمل مع جوني.. ومرر هولي بلطف إلى غيرليش زوجة جوني لتعتني بها وطلب منها أن تجول بها في المنزل.
كبتت هولي احتجاجاً، وأخفت خيبتها لأن فيلكس لم ير من المناسب أن يجول هو بها في المنزل. لكن الوقت الآن غير المناسب لاتخاذ موقف أمام الكثير من الناس.. فعاجلاً أم آجلاً، ستجعله يعرف ويعترف أن هذا هو منزلها كماهو منزله ولن يستطيع إبعادها عن حياته ، وكأنها زينة لتمضية وقته .. ستكون شريكته بكل ما للكلمة من معنى . في هذه الاثناء ، تحتاج إلى أن تؤسس لنفسها مركزاً وأصدقاء مثل غيرليش كاركان، فزوجة جوني دون شك تعرف كل الأشياء التي يجب أن تتعلمها هولي.كانت المرأة الأكبر سناً ملهوفة لمعاملتها بأكبر قدر ممكن من اللطف، وأحست هولي بسرعة بالحرارة نحو شخصيتها المرحة. وكانت غيرليش فخورة بالمنزل الذي هو بطريقة ما منزلها.. لأنها تعيش و زوجها في الجناح الغربي منه..
سألتها هولي:" منذ متى تعيشين في بندنير داونز، غير ليش؟".
غيرليش امرأة ضخمة البنية، قوية، شعرها الرمادي الكثيف معقوص وعلى وجهها القوي الوسيم ملامح شخص عاش عيشة مريحة.
أجابت مبتسمة:آه! منذ عشرين عاماً تقريباً. حين عرض علينا السيد ويستبرون إدارة المكان كان أولادنا الصغار بعمر فيلكس. كان يجلب فيلكس معه من بيرت في العطلات المدرسية لكنه لم يكن يبقى هنا.. أنا وجوني ولدنا في كيمبرلي وترعرعنا فيها.. ونحب الحياة هنا، وكذلك فيلكس.. لكن..أمه..هزت غيرليش رأسها بارتباك.
ـ أتعلمين.. لم تعد إلى هنا قط.. وأفترض أنك إما أن تحبي الحياة هنا وإما أن تكرهيها.
عبست ونظرت إلى هولي بلهفة: أعتقد أنك ستجدينها حياة مختلفة عن الحياة في أمريكا.
ردت:" مختلفة كثيراً .. لكن هذا لايعني أنني لن أحبها غيرليش.. لقد أحببت كل شيء في هذا المنزل".
ولم تكن تبالغ. فالغرف كبيرة طلقة الهواء.. والأثاث مصمم للراحة لا للأناقة. لكنه مع ذلك متعة للعين..كان هناك بعض القطع الأثرية الجميلة في غرفة الجلوس.. أرض المنزل من الخشب اللامع، لكن البسط المختلفة التي كانت تزينه ذات جودة. أما المطبخ فقد كان واسعاً، ومجهزاً بطريقة لا توصف..
سألت هولي:كيف يسير كل شيء هنا؟ أعني من أين تأتي الكهرباء؟
ـ ثمة مولدات ضخمة تحت الأرض.. نحن محظوظون أكثر من معظم الناس هنا.. لأننا لا نضطر للتفكير في شيء. فيلكس يهتم بهذا.
لكن شيئاً لم يعجبها، أن لها و لفيلكس غرفتين منفصلتين يصلهما حمام مشترك، وغرفة ملابس. عندما تركتها غيرليش أخيراً لنفسها، بدأت التفكير الجاد في الوضع في هذا الوضع. بدا لها أن الغرفتين منفصلتين هما رمز لانفصال المسؤوليات في بندنير داونز.. تقسيم العمل مرسوم بدقة..النساء يدرن المنازل، والرجال يعملون مع المواشي.. ولو كان زواجهما عادياً لما اعترضت أما وزواجهما على ما هو عليه فالأمر يختلف. لن تستطيع إحراز التقدم معه إلا إذا قامت بشيء يكون له قيمة حقيقية له. شيء إيجابي يواجه تحدي الأرض ذاتها.. وهذا مايهتم به.. هذا هو مصدر سعادته.. السيطرة على مالا سبيل للسيطرة عليه، كما وصف فيلكس الأمر.. وإذا لم تجد خطة عمل يمكن تنفيذها، خطة تؤثر فيه فعلاً، فسيبقيها على هامش حياته.. مجرد امرأة مناسبة له.. ولكنها تريد بشكل يائس أن تكون في قلب كل شيء.. معه. استحمت وغيرت ملابسها ثم ارتدت بزة مؤلفة من سروال وردي و بلوزة لتظهر مختلفة وقت العشاء.. بعد ذلك ذهبت إلى غرفة نوم فيلكس تنتظره.
ما إن دخل فيلكس إلى غرفته حتى تصلب جسده كله وقال بحدة: هذه غرفتي هولي.. لديك غرفتك. قلت لك إن هناك أشياء لا يمكنك الحصول عليها، وهذه واحدة منها.. لذا إذا كنت تفكرين في التغيير.. فانسي الأمر!
ـ كنت أجرب الفراش لأرى أيهما المريح لننام عليه.. أم لعلك تفكر في النوم بمفردك فيلكس؟
التوى فمه: أنا مثلك.. أنوي أخذ أفضل ما أستطيع من هذا الزواج.. طالما هو دائم. بإمكانك المشاركة في الفراش ساعة تشائين.. لكن لا تتدخلي بأي شيء آخر في الغرفة. لا الآن، ولا حين أكون غائباً.. أبداً. هل هذا مفهوم؟
ردت بتصميم: هناك شيئان يجب أن تفهمهما فيلكس..
شد على شفتيه: لا تدفعيني كثيراً هولي.. أطلقت يدك لتفعلي ما تشائين في سائر المنزل، إلا مكتبتي التي هي أيضاً من شأني الخاص..
قاطعته: ليس هذا ما أعنيه. أنا لا أنوي البقاء هنا حين لا تكون أنت هنا، حيثما تذهب أذهب..
ـ هذا يا عزيزتي حق لك في أية رحلة أقوم بها.. لإنك لن ترافقيني عندما أجمع الماشية، وأنا أقبل أي شيء إلا اصطحاب ركاب في الهليكوبتر عندما أقوم بجولاتي.. فالأمر خطير جداً، لأنني أحتاج إلى التركيز الكامل. وهناك دائماً خطر أن يتعطل المحرك في أحد المناورات.. ثانياً ستكونين حملاً ثقيلاً على الأرض، هذا عدا عن إلهاء الرجال الذين يجب أن يبقى تفكيرهم منصباً على عملهم..و أشك أن بإمكانك الجلوس فوق سرج جواد يوماً بعد يوم، دون أن يقلق الجميع على صحتك.
لم ينتظر رداً، بل اتجه فوراً إلى الحمام و أغلق الباب بينهما.. كبحت هولي تهوراً في أن تلاحقه.. فهي لم تعرف أنه يجمع الماشية بالهليكوبتر، مع أنها ترى كم هي طريقة مفيدة مع وجود أراض واسعة للتغطية.. ربما ستتعلم قيادة طائرة، ستفكر في هذا ملياً.أما بالنسبة لركوب الخيل، فهو على حق تماماً.. فمع أنها فارسة ماهرة إلا أن الركوب يوماً بعد يوم أمر خارج السؤال في الوقت الحاضر. لكن حين يحين موعد الجمع القادم، فستكون مستعدة.. وعندئذ سيعرفها الرجال جميعاً.. ولن تكون سبباً لإلهائهم. إذن أصبح لديها شيء محدد تعمل عليه. لكن هذا لا يكفي.. فعليها التعرف إلى كيفية سير العمل حتى تستطيع التفكير في أمر مثمر.
ـ هل ندمت على قرارك بعد أن وصلت إلى هنا؟
كانت هولي غارقة في التفكير بحيث أجفلت، وكان فيلكس قد اغتسل وخرج من غرفة الملابس يزرر قميصه. ابتسمت وتقلبت فوق السرير لتنزل عنه. مقررة أن تغلق الفجوة الجسدية بينهما إذا لم تستطع القيام بشيء آخر: لا ندم فيلكس.. كنت أفكر في بضع مشاكل.
تقدمت إليه مباشرة، وبدأت تمرر يدها على صدره: أكره أن أفسد الواجهة التي أظهرناها أمام موظيفك بعد ظهر اليوم .. لذا قل لي ماذا تتوقع مني كزوجة لك؟
ـ لا أتوقع إلا أن تكلفيني ثمناً باهظاً قدر المستطاع.. لكنني سأحاول التخفيف من هذا، بمتناول يدي.
ـ هل أنت خائف مني فيلكس؟
برق شيء متوحش في عينيه: لم أخف قط من امرأة .. والجواب لا، بالتأكيد.
ـ لماذا إذن تبعدني عنك؟
اشتد فكه و كأنه يصر على أسنانه: لا تظني أنني لا أستطيع الاستغناء عنك هولي.
ذكرته برقة: لست مضطراً للاستغناء عني فيلكس.. فأنا زوجتك.
ضحك بخشونة:" إذن دعينا نراك تلعبين دور الزوجة المحبة خلال العشاء.. حبيبتي".
ردت بمكر: لن يكون هذا أمراً صعباً أكثر من الدور الذي لعبته أنت بعد ظهر اليوم.
وأظهرت له هذا.. وأمام اغتباط الزوجين كارفان اللذان دعاهما فيلكس للمشاركة في الطعام في غرفة الطعام الجميلة.. ولم تضطر هولي إلى تمثيل لأن من دواعي سعادتها أن تكشف عن مشاعرها تجاه زوجها.. وعندما اقترحت النوم باكراً لم يعترض، أما المدير وزوجته فتفهما أن يومهما كان شاقاً وطويلاً، وأن على فيلكس الاستيقاظ قبل الفجر.
كانت كل خطوة تخطوها على طول الشرفة مشحونة بالتوتر.. ولم يكن هناك مجال للشك في أن كل واحد منهما سيذهب إلى غرفته.. كان باب غرفة فيلكس الأقرب، ولكنه لم يدخل وحده إذ شدها معه بسرعة وسحقها بعناق كان ينبض برغبة لا يستطيع السيطرة عليها.
ـ ساحرة!متوحشة!
همس بالكلمات بصوت أجش، لكنهما فقدتا أي معنى لاذع أمام المشاعر التي اشتعلت بينهما.. لم تعد هولي تهتم ماذا يسميها، ما دام قريباً منها.. لكنه أبعدها عنه أخيراً وقال بصوت متوتر: قولي إنك لم تختبري شيئاً كهذا مع غيري!. قولي! قولي إنك لم تعرفي رجلاً مثلي.
صاحت:" أبداً..أبداً!".
رددت الحقيقة دونما تفكير.. ولكنها لم تكن تسمع صيحة انتصاره.. لم تدر كم مر من وقت حين أخذت تفكر في مادعاه إلى انتزاع ذلك الإقرار منها؟ هل هو الغرور؟ الكرامة؟ أم المسألة أكثر من هذا؟ لم تكن قادرة على تحمل فكرة أن تجعله امرأة أخرى يحس بأكثر مما تستطيعه هي.. ولعله يريد التأكد من هذا.. وإذا كان الأمر كذلك.. فهذا يعني أنها لم تعد امرأة مناسبة له فقط.. بل هي شخص أهم بكثير من هذا. لكن مازالت المسألة جسدية.. وعليها أن تصل إلى أبعد من هذا.. أن تجعله يرى أنها قادرة على مساواته في كل شيء.
عنت على بالها الفكرة! نعم يجب أن تحقق هذا ولكنها بحاجة إلى مال.. بل الكثير من المال. عادت الذكريات إليها متدفقة. في يوم ما، في مخيم بين الأشجار في زيمبابواي، مع جماعة من " فليق السلام" وهي مستلقية في كيس النوم.. والسماء لامعة بالنجوم، والأشكال الغربية تمر عبر سماء الليل.. وعادت الأسماء وهي تتذكر أنها سألت عنها..اندست برضا بين ذراعي فيلكس النائم.. لم تعد بحاجة إلى مزيد من التفكير فقد باتت تعرف غايتها. هذا هو فيلكس.. وكلما كبر العائق، كلما كبر التحدي، وكلما اضطرت إلى تحقيق المزيد. كلما ازداد إعجاب فيلكس بها واحترامها.هذه، على الأقل، النظرية.
صممت هولي: غداً ستطبق هذه النظرية![/CENTER




يتبـــــــــــــــــع

0ـ زوجــــــــــة جهنمية




اخترق رنين خفيف متواصل نوم هولي، فانسحب الدفء الذي كانت تشعر به.

وعندما حاولت أن تجد ذلك الدفء مجدداً، توقف الصوت، وكانت لاتزال تتحرك

متململة حين التف الغطاء حولها.. فاستيقظت ورأت انعكاس صورة سوداء تتحرك

نحو الحمام.
ـ فيلكس!
ـ عودي إلى النوم هولي.
ـ هل حان وقت ذهابك؟
ـ أجل.. عليك الذهاب إلى غرفتك لئلا تنزعجي.
ـ لا أذكر أنك اقترحت هذا ليلة أمس.
ـ بما أنك عنيدة إلى حد كبير، لم أعتقد أنني بحاجة لاقتراح شيء كهذا.
ـ أردت الاستيقاظ باكراً.. أردت أن تصغي إلى قبل أن تذهب.
ـ قولي لي وأنا أرتدي ثيابي.. وسأفكر في الأمر.
رفعت نفسها على الوسائد، وأضاءت المصباح قرب السرير، تتساءل ما هي

أفضل طريقة لتصوغ ما تريد بالكلمات.. انتظرته حتى ينتهي من الاستحمام.. خرج

من غرفة الملابس مرتدياً قميصاً وجينزاً. أملت هولي أن يجلس على السرير، لكنه

جلس في مقعد في الطرف الآخر من الغرفة، مبقياً مسافة بينهما.. سألها بشكل

مختصر:" ماذا تريدين؟".
ـ أريد حساباً مصرفياً خاصاً بي بمئة ألف دولار.
نظر إليها نظرة لاذعة: إذن.. ستبدئين منذ الآن.. وأنا دهش لأنك طلبت هذا المبلغ

البسيط فقط.
ـ قد تكون على حق.. من الحماقة أن أكون بخيلة إلى هذا الحد.. واجعل المبلغ

نصف مليون دولار فيلكس.
لن تحتاج إلى مثل هذا المبلغ، لكنه يستحق بعض العقاب لإساءته الظن بها.
قال ساخراً:" سيغطي نصف مليون نفقة كبيرة الداخلي.. فماذا تنوين؟ طلي

الجدران بالذهب؟".
ـ الواقع أنني أفكر القيام بشيء في الخارج لافي الداخل. وثمة شيء آخر.. أريد

تعلم قيادة الهليكوبتر. رفع رأسه بحدة وهو يشد حذاءه:لماذا؟
ـ ولمالا؟ بإمكانك القيادة.. وأريد أن أتعلم. ربما تعرف من يستطيع تعليمي.
أنهى شد حذاءه وبدأ بالفردة الأخرى: سأعلمك بنفسي متى أصبح لدي الوقت

الكافي.
أحست هولي بقشعريرة انتصار، إنها تتقدم الآن!
ـ سيكون هذا رائعاً فيلكس. شكراً لك.
نظر إليها بقلق وهو يقف: هل هذا كل شيء..؟
ـ وهل ستتدبر أمر المال. أريد البدء بمشروعي حالاً.
ـ أي مشروع؟
ـ لاتقلق.. أعد ألا أفسد عليك شيئاً .. وأحب أن يكون هذا مفاجأة ،ابتسمت له.
سحب نفساً ثم قال ساخراً:سأقدم لك كل مايسر قلبك. لكن تأكدي أنني سأكلم جوني

الذي سيعمل على هذا صباح اليوم.
رمى كلماته الأخيرة من فوق كتفه وهو يخرج إلى الشرفة.
ـ فيلكس!
ـ ماذا الآن؟
رمت عنها الغطاء، وركضت إليه ترمي ذراعيها حول عنقه قبل أن يتحرك ليمنعها.
ـ لن تخرج قبل أن تودعني.. أليس كذلك؟
ـ هولي!حباً بالله! هذا ليس وقت اللعب!
ـ عناق واحد لن يضرك أبداً.
ودست أصابعها في شعره الأشقر: ألم أكن زوجة صالحة لك ليلة أمس.. ألم أكن

هكذا؟
سحب نفساً غاضباً وعانقها بغضب لكن العناق لم يبق عناقاً ملؤه الغضب بل أصبح

فيه جوع وحب. وحين أبعد رأسه عنها رأت في عينيه تناقضاً غاضباً.
ـ يجب أن أذهب.. وسأذهب.
أبعدها عنه على طول ذراعيه: وداعاً..زوجتي! أراك بعد أسبوع.. هذا إذا بقيت هنا.
صفق الباب وراءه وسار وكأن كلاب الجحيم قد انطلقت في أعقابه.. ضحكت هولي

لنفسها، وعادت إلى السرير تدس جسدها تحت الأغطية مسرورة.. إنه رجلها فعلاً

.. وسرعان ما ستقنعه أنها امرأته. عادت إلى النوم، ولم تستيقظ مرة أخرى إلا في

الثامنة صباحاً.. لكن غياب فيلكس لم يبعث البهجة إلى نفسها. كان الطقس حاراً،

لكن ليس بحرارة الطقس الرطب في بورت دوغلاس حيث عاش والدها في سنواته

الأخيرة.. ارتدت هولي سروالاً قصيراً و قميصاً واسعاً ، وانتعلت خفاً، ورفعت

شعرها كذنب الحصان، وكادت ترقص وهي تخرج إلى الشرفة.
تناهت إليها رائحة الخبز اللذيذة، وصيحات الأولاد التي اختلطت مع نباح الكلاب..

لم تشعر هولي أبداً بالعزلة.. فبندنير أشبه بمملكة صغيرة ورجال فيلكس هم شعبها.

ولا يمكن أبداً أن تكون وحيدة أو سأم هنا! وجدت غيرليش في المطبخ مع فتاتين من

الأصل المحلي، تساعدانها في المنزل.. ماريا وسيليا. أصرت هولي أن تتناول

فطورها على طاولة المطبخ لتتمكن من التحدث معهن.. لكن الفتاتين كانتا تضحكان

خجلاً باستمرار، هكذا أجابت غيرليش على كل أسلتها.
قالت تسأل:" ظننتك تخبزين الخبز".
ـ ليس هنا بل في الفرن.. سأريك أين بعدما تنهين طعامك، إذا شئت.
ـ أجل.. أرجوك، إذ أتوق إلى رؤية كل شيء.
ضحكت غيرليش: والجميع يتوق إلى رؤيتك هولي.. وأخشى أن يصموا أذنيك

بكثرة أسئلتهم .
قدمت لها ماري طبقاً من الفاكهة الطازجة. بطيخ. وباباي وموز.
سألت:" هل تجلب هذه الفاكهة بالطائرة؟".
صاحت غيرليش التي عادت تضحك مجدداً: ياإلهي! نحن مكتفون ذاتياً هنا.. نزرع

كل أنواع الفاكهة والخضار.. التربة صالحة.. لكن نقص المياه مشكلة.. غير أن

فيلكس حل هذه المشكلة في محيط المنزل.. أترغبين في بعض البيض بعد الفاكهة؟

نحن نربي الطيور الداجنة هنا أيضاً.
رن جرس بصوت مرتفع واضح فأجابت غيرليش على السؤال لم تطرحه هولي:

إنه جرس المدرسة. الساعة الآن التاسعة.
ـ كم ولداً في المدرسة؟
ـ أربعة عشر هذه السنة وفي أربعة صفوف مختلفة. هكذا تضطر مايني المدرِسِة

إلى توزعيهم على المدرسة الهوائية.
ـ وماهي المدرسة الهوائية؟
ـ دروس عبر الراديو.. يذيعها أساتذة من ديرلي، وهذه هي أقرب بلدة لنا على

الساحل الغربي.
هزت هولي رأسها بذهول.. المدرسة الهوائية أمر جديد عليها.. وثار اهتمامها

لتعرف كيف تعمل .
قالت غيرليش شارحة: إنها تستمر فقط إلى الصف السادس، بعد ذلك يجب أن

يذهب الأولاد إلى مدرسة داخلية لإكمال دراساتهم. بعضهم يرفض ترك منزله، ولا

يجبرهم فيلكس على هذا.. لكنه يرتب لهم تعلم المهارات العملية هنا.. شقيق ماريا،

كال، ميكانيكي ممتاز. يمكنه إصلاح أي شيء.
قالت ماري:" سيليا تضع عبئها على كال".
وانفجرت الفتاتان بنوبة ضحك أخرى. أرسلتهما غيرليش لتنظيف الغرف بينما

أخذت هولي في جولة على الحديقة، وإلى أماكن أخرى. عادت هولي فتعرفت إلى

معظم الذين التقتهم بالأمس، واستمتعت مع الجميع.. وكانت وقفتهما الأخيرة في

الإسطبل. عادتا إلى المنزل الكبير للغداء، واغتنمت هولي الفرصة لتطلب من

جوني الانفراد به.
مكتبة فيلكس ذات طابع رجولي محض فيها منضدة ضخمة من خشب السنديان،

وبساط أخضر على الأرض.. وعلى أحد الجدران خزانة عرض ضخمة للتذكارات

و الميداليات، فوقها عدد من القلادات المعلقة في شرائط زرقاء من معارض

الماشية.. ورفوف عليها مجلات وكتب وتحت النافذة هناك خزائن مخصصة

للملفات.
قال جوني ما إن دخلا إلى الغرفة:لقد اتصلت بالمحاسب في المنجم هولي.. وهو

سيضع المال في حسابك قبل انتهاء هذا اليوم.
ـ شكراً لك جوني.. لن أحتاج إلى مثل هذا المبلغ..
قاطعها مبتسماً: لكن فيلكس لا يريد أن تحتاجي إلى شيء. و الآن ماذا غير هذا

لأقدمه لك؟ قال فيلكس إن لديك مشروعاً خاصاً في ذهنك. استغلت الفرصة: أجل



محاولة شيء ما.. تجربة قد تنجح هنا جيداً . وإن لم نحاول، فلن نعرف.. صحيح؟

هل أسماء" تولي" " بوران" تعني لك شيئاً؟ هز رأسه: لا أستطيع القول.
ـ إنه سلالات من الماشية الأفريقية.. تشبه" البراهمان" لكنها أكثر قدرة على

مقاومة الحرارة و الأمراض.. و أعرف أنها أنواع موجودة في زيمبابواي لأنني

رأيتها هناك.. الشيء الذي لفت نظري إليها هي أنها قادرة على العيش في ظروف

الجفاف لأن لها غدد تعرق متطورة.. وهي مناسبة لهذه البلاد أكثر من الماشية

الإنكليزية. وأظن أننا نقدر على زيادة الإنتاج وزيادة معدلات النمو منها..ماأريد أن

أفعله هو استيراد ثور، وقطيع صغير منها. نستطيع تسييج جزء صغير من بندنير

داونز حيث يمكن أن يرعى القطيع دون الاختلاط بالقطعان هنا. ونرى ماهي

النتيجة. بدا جوني كالأبله..ثم هز رأسه ببطء وكأنه يحتاج إلى نفض الغبار عنه.
ـ لقد ظننت..
وتوقف.. ثم أشار بيديه إشارات عجز، ثم ابتسم لها ابتسامة جانبية.
ـ يبدو لي أن فيلكس اتخذ لنفسه زوجة جهنمية. هل يعرف بهذا؟
قررت هولي أن السرية قطعاً هي أفضل شيء في هذه المرحلة.
ـ قال فيلكس إن بإمكاني القيام بكل ما يجعلني سعيدة.. وأعطاني الحرية التامة..

وهذا ما أريد أن أفعله جوني!
ـ برقت عيناه بسرور ومرح: لا تيسئي فهمي.. هولي.. أنا معك طوال الطريق..

المسألة أنه ليس هناك الكثير من النساء أو الرجال، الذين فكروا بمثل هذا .. فكرة

جديدة.. ثورية.. مبتكرة.. وتبدو لي بكل تأكيد فكرة جيدة.. وتستحق التجربة حتى

ولولم تنجح.
تنهدت هولي بعمق: شكراً لك جوني.. والآن فلنترك هذا بيننا تماماً .. فلست أدري

ما إذا كان الاستيراد ممكتاً .. أريد أن تنصحني في هذا.
ـ ثمة شيء واحد مؤكد فمهما كنت تحاولين الاستيراد، يجب أن يخضع لحجر

صحي.. ولن يكون هذا سريعاً .. ويجب أن تكوني صبورة.
ـ إذن اسأل لي عن الأمر؟ هل ستدفع الكرة للدوران؟
ـ فوراً وستكون المعلومات اللازمة عندك هذه الليلة.
صاحت هولي مسرورة: أنت رائع جوني!
ضحك لها: أعتقد أنك أنت الرائعة هنا هولي. الآن عرفت كيف قطع رأس

فيلكس..طوال سنواته لم تعن النساء له أي شيء.. لكن أنت..
مرة أخرى هز رأسه: حسناً ..حظ سعيد لك عزيزتي! وحظ سعيد له! وسأكون

سعيد برؤية هذا.
تمنت لو كان بإمكانها إقناع فيلكس بالسهولة ذاتها.لكنها كانت مسرورة بنجاح

الفكرة.. جوني الآن حليفها الثابت، ومعاً سينفذان المشروع في أسرع وقت ممكن..

وكل ماترجوه أن يتم هذا قبل عودة فيلكس من جمع الماشية..كانت تريد شيئاً مجدداً

في يدها لتظهر له أنها شريكة حقيقية له. كان الحظ إلى جانبها بالتأكيد.. فقد أعلمها

جوني تلك الليلة أن دائرة الثروة الحيوانية تجري تجارب في جزيرة " كوكوس"

لاستيراد البذار المجمد للأ صناف التي ذكرتها من زيمبابواي وتلقيح الأبقار

الأسترالية بها.. وأن مربي الأبقار في كوينزلاند يدعمون هذه التجارب. وقد تتمكن

من شراء حصة لها بسعر مناسب.. وإلا فهي مضطرة لتقديم طلب و الانتظار سنة

ونصف..
قالت دون تردد: لدينا نصف مليون دولار جوني. فلنشتر بها ما نستطيع.
في الأيام التالية انشغلت هولي.. ففي الصباح كانت تمضي الوقت مع جوني للضغط

حتى تحصل على الأبقار التي تريدها. أخيراً، حصلا على صفقة.. أربعون بقرة

وثورين. سترسل جواً من جزيرة " كوكوس" إلى بندنير دوانز في غضون شهر..

وفيما كان التفاوض جارياً عل كل هذا، تعلمت هولي الكثير عن إدارة المزرعة

تحت إشراف جوني وغيرليش.. أمابعد الظهر فكانت تمضيه على صهوة

الجواد..كان الجواد الذي اختاره لها كيم مهرة مطيعة تدعى لايدي.. واستمتعت

هولي بركوبها.
وصلت صور الزفاف في اليوم الخامس على وجودها في المزرعة.. لم يكن فيلكس

قد أختار شيئاً من الفيلم الأصلي لذا وجدت نسختين كبيرتين من كل صورة..

وكانت كلها رائعة مدهشة.. درستها هولي كلها، ثم أقنعت نفسها أن فيلكس يحبها

فعلاً. لكن الصورة قد تكذب.. رغم كل شيء، لم يكن لديها مانع من إرسال

مجموعة كاملة منها إلى أمها، لإظهارها أو استخدامها حسبما تشاء.. كتبت رسالة

مطولة أرسلتها مع الصور وأخبرتها عن طبيعة الحياة التي اختارتها مع فيلكس

علّها تفهم الأمر.. لكن أملها كان ضيئلاً في أن تفهم.. فهذا مكان بعيد كل البعد عن

بوسطن مسافة وطراز حياة. تمنت لو تعيد التواصل مع أمها، كما تمنت لو

استطاعت هذا مع والدها.. ذكرتها الصور بصور أخرى التقطتها للوحات أبيها..

ذلك المنظر، لابد أنه موجود في مكان ما من بندنير داونز.. عندما خرجت بعد ظهر

ذلك اليوم للركوب، وصفت المنظر للولدين يرافقانها عادة فقد أصر السائس على

حماية زوجة رئيسه لذا كان يرسل معها دوماً من يرافقها. سألتهما إذا كان يعرفان

مكاناً كهذا.
قال رودي وهوأحد الوالدين: ثمة أماكن كثيرة كهذه آنسة هولي، أتريدين أن نريك

أحدها؟
ـ أجل.
اعترض الصبي الآخر آنغز: المكان بعيد .
هو يدرك أنه مسؤول عن حماية زوجة رئيسه.
قال رودي: يمكننا أن نشير إلى المكان من بعيد لتراه" آنسة" هولي.. ثم نعيدها إلى

المنزل .
استقر الرأي على هذا، وماهي إلا أكثر من ساعة بقليل، حتى رأت المنظر.. السهل

الشاحب المرقط بأشجار"الباوباب". سلسلة الجبال الصخرية الرملية الكبيرة.. ولّد

المنظر في نفسها غريباً .. فأن تعرف أن والدها كان هنا قبلها.. وأن هذا المكان هو

ماعاش في ذاكرته طوال سنوات وحدته لأمر حرّك مشاعرها.. بعد قليل قررت أن

تعود لتخيم ليلة هنا حتى تراقب غروب الشمس الذي رسمه.. ربما يكون هذا أقرب

ما تستطيع التقرب به إلى والدها، الذي لم تعرفه قط.
أصر آنغر على أن يعودوا فوراً إلى المنزل. ولإنها سبق أن اتخذت قرارها لم

تجادله. وكان من حسن الحظ أنهم عادوا في ذاك الوقت.. ففي الطريق شاهدوا

الهليكوبتر تعود فأسرعت هولي تحث مهرتها لتركض فهي لاتريد أن يفوتها أي

وقت معه.. لكن لماذا عاد؟ سارعت رأساً إلى المنزل الكبير، و أعطت مهرتها إلى

الولدين اللذين أعاداها إلى الإسطبل. كان قلبها يخفق بشدة وهي تسرع في الشرفة

إلى مكتب جوني، متوقعة أن يكون فيلكس هناك يتحدثان عن جمع الماشية. لكنها لم

تجد سوى جوني وكاتب الحسابات.
سألت بأنفاس مقطوعة: فيلكس؟
ابتسم جوني: "ذهب ينظف نفسه من أجلك".
ـ هل أخبرته بأم الماشية التي سنستوردها جوني؟
ـ لا..إنها أخبار تخبرينها أنت هولي.
ـ صح!
ضحكت له ممتنة ثم هرعت إلى المطبخ لتجد غيرليش والفتاتين تحضرن الخضار

للعشاء؟
ـ هل لدينا كافيار" بيلوكا" غيرليش؟
ـ في المخزن دائماً شيئاً منه.
ـ فلنخرجه إذن ..هل عرفت لماذا عاد فيلكس باكراً؟
ـ ربما لم يستطع الابتعاد كثيراً عن الكافيار..
وانفجرت الفتاتان اللتان ضحكتا بشكل هيستري، فصاحت غيرليش تأمرهما:

ماريا.. اقطعي البصل..سيليا.. هناك بيض مسلوق في البراد.. تحركي..! تعرفان

مايحب فيلكس أن يرافق الكافيار. بعد عشر دقائق، حملت هولي صينية مليئة

بالطعام إلى غرفة فيلكس. فكرة أنه عاد لأنه لم يستطع البقاء بعيداً عنها أشعرتها

بأنها أخف من الريشة. لكنها لم تصدق هذا حقاً إذ وقود الهليكوبتر نفذ منه فاضطر

إلى العودة.. على أي حال..ستسفيد من هذا قدر المستطاع.
لم تسمع جريان الماء في الحمام فألقت نظرة لترى إن كان قد ارتدى ثيابه ولكنها

وجدت الباب إلى غرفتها مفتوحاً. وفيلكس واقف عند منضدة الكتابة، ينظر إلى

إحدى صور الزفاف.
قالت بوجه مشرق:" إنها جيدة.. ألاتظن هذا؟".
ارتد وللحظة بدا في عينيه سؤال حاد. و كأنه رأى شيئاً في الصورة جعله يتساءل

عنها، ثم تحولت نظرته إلى الصينية التي تحملها.
التوى فمه ساخراً:هل هذا ترحيب بعودتي إلى البيت.. أم يجب أن أتخذ الحيطة

والحذر؟ فعند الإغريق كان يعني حمل الهدايا الخطر الشديد.
كان يرتدي روب حمام أسود قصير، وكان حليق الوجه وقد استحم.. بدا ينضح

رجولة، فعلقت أنفاس هولي في مكان ما في حنجرتها. وتمنت بشدة لو تسنى لها

الوقت لتنظيف نفسها بعد رحلتها الطويلة.. لم تكن تقلق على مدى جاذبيتها.. ولم

تتوقف لتفكر في مظهرها.. والوقت الآن متأخر على إصلاح هذا.. فيلكس ينتظر

الرد، ويجب أن تعيد تفكيرها إلى طرق التحدي التي جعلت من زواجهما متماسكاً..

وبجهد بالغ، أعادت عقلها للتفكير.
ـ أنت تحب ركوب الأخطار فيلكس..لذا فسر كما تريد.. ولكن صدقاً إنه ترحيب

بعودتك إلى البيت.
ضحك ضحكته الخافتة وهذا ماجعله أكثر جاذبية: إذن، المسرحية مستمرة.. أليس

كذلك؟
حملت الصينية إلى الطاولة، ووضعتها من يدها. ثم التقطت الصورة التي كان

يدرسها، وقالت: صورتك رائعة.. ستظن أمي أنك فعلاً تحبني كثيراً.
دس يديه حول خصرها، وجذبها إلى الخلف نحوه: كنت أفكر في الشيء ذاته بشأنك

ولكننا نعرف أفضل من هذا..أليس كذلك؟
وحرك شفتيه حول أذنها مداعباً. انطلقت قشعريرة مثيرة إلى أوصال هولي.. ربما

عاد فيلكس فعلاً لأنه يريد أن يكون معها. حاولت أن تستدير لتحاول رؤية شيء من

المشاعر في عينيه. لكنه شد ذراعه حولها، يثبتها إليه.
ـ ابقي حيث أنت يازوجتي الساحرة الصغيرة. هذه المرة أنا الذي سأدير

المسرحية.
وكان في صوته الحاجة إل ىشيء من السيطرة عليها، لكنها عرفت من لهفته أن لا

مجال للسيطرة. لم تشعر أنها أقل قيمة لأنها تجاوبت.. لم يكن في عناقها أي عذاب

لها.. ولم تقاوم موجات السعادة التي اجتاحتها بقوة متزايدة.لكن فيلكس هو الذي فقد

القدرة على الانتظار إذ صاح بصوت مخنوق وأدارها نحوه سحقها على صدره.
لم تعد هولي تذكر فيما بعد ماذا حدث. وعندما تكلم ثانية، لم يذكر شيئاً عن إدارة "

المسرحية" .. بل قال بلهجة جافة: أعتقد أنني الآن جاهزان للطعام.
ـ أجل.. وأعتقد أنني غير بارعة بتحضيره فيلكس.
ضحك مجدداً ضحكته التي كانت تصل إلى أعماق معدتها فتقلبها رأساً على عقب..

فارتدت إلى ظهرها تراقبه بسعادة وهو يحمل الصينية إلى الطاولة قرب السرير..

رفعت هولي نفسها فوق الوسائد.. وسألها ساخراً: إذن.. ألم تتمكني من إنفاق

النصف مليون بعد؟
ـ ليس كلياً.. لكن عليّ مناقشة مسألة التسييج معك.
كرر ساخراً:" التسييج"؟.
وضع الكافيار على قطعة من الخبز المحمص وأعطاها إياها، ثم مزج أشياء أخرى

مع الكاقيار وسأل قبل أن يقضمها: ماذا تريدين أن تسيجي؟
ـ مايكفي من أرض لخمسين رأس من الماشية بشكل خاص.
التفتت العينان الخضراوان إليها بنظرة عدم تصديق.. وسأل: أي خمسين رأساً،

بشكل خاص؟
ـ أجل..! خاص جداً.! لقد كلفتني الكثير من المال.
رفع حاجبيه بسخرية متعجرفةـ فأردفت الماشية، ولماذاتخبره بالضبط ماهي تلك

الماشية، ولماذا اشترتها ، ماذا تنوي أن تفعل بها.
تلاشى عدم التصديق والسخرية بسرعة. وتصاعد مكانهما الحساب والترقب..

بعدما انتهت هولي من إخباره عن طول مغامرتها في استيلاد الأبقار، نظر فيلكس

إليها طويلاً قبل أن يتكلم.
ـ أنت .. منافسة خطيرة هولي.. وستهزمينني طوال الوقت.. أليس كذلك؟ لكنني

أعترف أنني أعجبت بهذا الاستثمار أكثر من الذهب.
ـأسمي هولي ويستون، فيلكس.. وسأستولي على هذه الأرض.. مثلك تماماً إنما لن

أكون ضدك أبداً . فعملك عملي.. وإذا كان هناك طريقة لجعل عملنا أفضل، فأنا

على الاستعداد للتجربة.. فهل لديك اعتراض؟
رمت التحدي بشكل متعمد فعلى هذا التحدي يعتمد مستقبل علاقتهما.. فلو رفض

القبول بأيهما سيكون هناك خلاف مرير بينهما. فتشت العينان الخضراوان عن

عينيها بشدة، ثم قال بصوت لا أثر فيه للعداء: هذا المشروع الذي تتطلعين إليه

طويل الأمد، هولي.
ـ أعي هذا.. وأهدف الستمراربة .. لكن الواضح أنني بحاجة لتعاونك.
هز رأسه ببطء، وكأنه يتحسس الطريق بحذر شديد: أفضل في المستقبل، ألا تتخذي

قرارات لها علاقة " بعملنا" دون معرفتي.
ـ وأنا أفضل في المستقبل أن تبادلني الاحترام.
التوى فمه بإعجاب جاف، وعرفت هولي أنهاربحت المعركة حتى قبل أن يقول: هل

نتطلع الآن إلى المستقبل طويل سيدة ويستون؟
تكورت شفتاها بانتصار: أعتقد هذا.. سيد ويستون.
ـ مشاركتك الحياة تزداد إثارة، لكن لا تتركي هذا يؤثر في رأسك هولي لأنني

سأحافظ على رأسي، مهما اخترعت من أشياء..
ردت :" أكره أن أفقد رأسك فيلكس.. فهو أهم جزء منك".
للمرة الأولى، انطلقت منه ضحكة مجلجلة. وتراقصت عيناه عليها بغبطة شريرة،

ثم رفع ذراعيها فوق رأسها وقبلها مجدداً، ثم قال: أخبريني عن خبر آخر، أيتها

الساحرة اللعنة!
ـ سأخبرك، إنما فقط، لو تركت ذراعي.
تركهما ولكنها لم تقل له إن ماترغب أن تجده هو قلبه الذي سيبقى دائماً حذراً

بشأنه.. لكنها على الأقل لم تعد مجرد زوجة بل هي شريكة مساوية له بحيث تقدر

على تأسيس مستقبل دائم .. وبهذا يمكنها أن تبدأ التفكير في الإنجاب..في تأسيس

عائلة.. على أي حال.. ما نفع المملكة دون وريث؟ كانت واثقة أنه سيوافق قلبياً

على مثل هذا التطور.. وقد لايسمح لنفسه أن يحبها أبداً.. لكن لاشك في نفسها أنه

سيحب أولادها.




يتبــــــــــــــــــع
11ـ المــــــــــــــــاضي مات...





أيقظ زمور الجيب هولي في الصباح التالي.. في الليلة الماضية نامت مع فيلكس في غرفته وكانا منشغلين ببعضهما بعضاً أكثر من أنشغالهما بضبط ساعة المنبه. سمعت فيلكس يتمتم شيئاً من بين أنفاسه، ثم التفت ذراعه حول خصرها ليشدها إلى الخلف نحوه، ومضت أكثر من ساعة فبل أن تتذكر هولي زمور الجيب.
ستلقى فيلكس فوق السرير استلقاء من تخلى عن كل الهموم و الأفكار.. حاولت هولي أن توقظه بتمرير أصابعها على صدره.
ـ سائقك منتظر منذ مدة، فيلكس.
ـ همم.. هذا الصباح، سأطيل النوم. أعتقد أنني متعب جداً.
ـ ألا تشعر بالذنب؟
ـ أحياناً من المفيد أن يكون المرء هو الرئيس.
ـ كل من في المزرعة سيعرف ما الذي أخرك، وماكنت تفعل.
ـ أجل.
لم يظهر عليه أي تأثر. ولم تستطع هولي إلا أن تضحك ضحكة، وجدها فيلكس على مايبدو استفزازية.. وكان على السائق أن ينتظر وقتاً أطول.
فقط، بعد ذهاب فيلكس، دفعت هولي نفسها للنهوض.. فعليها العمل من أجل ترتيب مسألة الماشية مرة أخرى.. ولكنها فكرت أن عليها أيضاً المضي بخطتها للعودة إلى المكان الذي رسمه أبوها والبقاء هناك ليلة. وليس هناك ماتريد فعله أكثر من هذا. لم يكن جوني وغيرليش، متحمسين كثيراً على التخييم ليلاً. لكن هولي أصرّت: سأصطحب معي الصغيرين رودي و آنغر اللذان سيعتنيان بي. لقد سافرت كثيراً، ورأيت أنحاء كثيرة من العالم.. بما فيها كيمبرلي.. وأنا معتادة على نفسي.. ولن تحدث أية متاعب، لذا لا تقلقا عليّ.
وابتسمت لهما بثقة. بعد الغداء انطلقت هولي والولدين فوق جيادهم وكانت أغراض التخييم قد وضعت فوق الجواد خاص رافقهم.. كانت معنويات الولدين عالية إذ أخذا يسليانها ويدلانها على كل السهول، وعلى الحياة البرية التي شاهداها.. وفيما كانوا يتوغلون أكثر فأكثر نحو سهل التبن الذي رسمه والدها، كان الحزن قد غمر نفس هولي، ولم تعد تستطيع الإصغاء جيداً . وأحس الولدان أن مزاجها تغير، فأخذا يتحدثان معاً فيما بينهما حتى وصلوا إلى حفرة ماء نصح الولدان هولي بأنها أفضل مكان للتخييم. ترجلوا، وأعطت زمام جوادها إلى آنغر، وقالت بثبات: أريد التنزه سيراً على الأقدام وحدي.. ابقيا هنا لإقامة المخيم.
ـ بكل تأكيد" آنسة" هولي. سنعتني بكل شيء.
تركتهما هولي ليفعلا ما أمرتهما به، وسارت ببطء نحو شجرة"باوباب" عملاقة كانت بارزة في اللوحة التي رسمها والدها. كان جذعها الغريب الشبيه بالزجاجة وأطرافها الملتوية في قمتها تبدو كمخالب تتشبت بالسماء بشوق معذب.. ترى ماذا كان عليه شعور والدها؟ هل أحب زوجة آخر حباً كان يمزق روحه؟ أم أحس بحب عميق لهذه الأرض؟
صاحت تقول بصمت لسلسلة تلال الصخور الرملية: أخبريني شيئاً عنه.. مررت يدها حول جذع شجرة" الباوباب" تضغط ظهرها إليها.. نظرت إلى الجبال العتيقة التي وقفت ثابتة.. ولم تجد صعوبة في التعرف إلى الطبقة البارزة التي اندمجت مع وجه دونا..لكنه تذكر ابنته.. وتكلم عنها مع دونا.. وترك لها هذا.. أسطورة الحب والألم.. وخز الدمع عينيها، فانزلقت على جذع الشجرة وجلست عند قاعدتها، وقد أحست فجأة بالتعب والسقم في أعماق قلبها.. لقد مضت سنوات محرومة من حب والدها ولو عرفا بعضهما لربما كانا مقربين.
ترقرقت الدموع في مآقيها وهطلت على خديها، ولم تحاول منعها.. منذ زمن وزمن وهي تخوض المعارك بمفردها مكتفية بذاتها.. لكن مازال في داخلها طفلة تبكي لمن يريدها ويحبها، مهما كانت وكيفما بدت.. إنها تريد الانتماء لشخص ما بكل بساطة، دون سؤال أو تحفظ.. لماذا مات والدها قبل أن تسمع عنه شيئاً؟ أما كان بإمكانه أن يكتب لها رسالة قبل موته؟ أما كان بإمكانه..؟
ضرب صوت محرك هليكوبتر قلبها المثقل.. وصرخ عقلها احتاجاً على ما يعنيه الصوت.. وسعى إلى تفسير السبب ففكرت أن فيلكس ربما يجمع الماشية في مكان بعيد عن هنا ولعل الصدفة هي التي جعلته يمر من هنا.. فهو لا يحتاج إليها إلى هذا الحد.. ولن يأتي من أجلها بتأكيد.. ليس للمرة الثانية في أقل من يوم.
ازداد توتر أعصابها المشحونة فقد اقترب الصوت ثم توقف..آه.. الطائرة إذن ربما قرب بركة حيث يقيم الولدان المخيم. وهذا يعني أنه سيأتي باحثاً عنها إن لم تسارع هي إلى ملاقاته.. لاشك أنه ذهب إلى المنزل وعرف أين هي .. وما إن عرف.. الله وحده يعرف بما فكر أو يفكر فيها.. أتراه أساء الظن بها؟.. فهذا موقع اللوحة.
لم تكن هولي ببساطة مستعدة للقتال في هذه اللحظات فهي في فوضى كاملة: وجهها ملطخ بالدموع ومشاعرها مشتتة.. فكيف السبيل للتعامل مع فيلكس وهي غير قادرة على السيطرة على نفسها؟ قد ترحب به في أي مكان وزمان غير هذا.. فهذه مسألة خاصة بالنسبة لها ولن يفهمها.. لن يتعاطف معها.. لن يتعاطف أبداً.. ألم يقتل أبوها أباه؟.. كيف ستشرح له الأمر؟ شعرت باليأس ولكن عليها تدبر طريقة ما.. لم يترك لها فيلكس خياراً آخر.. دفعت نفسها للوقوف واستندت إلى جذع الشجرة تمسح وجهها بكم قميصها، بعد ذلك سحبت عدة أنفاس عميقة في محاولة يائسة لتسيطر على نفسها. ثم خطت بضع خطوات حول جذع الشجرة لتستطيع إلقاء نظرة على المخيم. رأت فيلكس يقطع المسافة نحوها بخطوات طويلة رشيقة. كانت الشمس الغاربة تشع على شعره لتجعله ذهبياً.. توقف على بعد خطوات منها.. بدا وجهه القاسي، وجه المحارب، كوجه قُدّ من حجر.. العينان الخضراوان حدقتا إليها بتساؤل ومرارة، والتوتر ينضح منه بشدة كادت تخنقها.
سألها بقسوة:" ماذا تفعلين هنا هولي؟ ألم نتفق على ترك الماضي وشأنه؟".
قالت وهي تحاول التخفيف من حدة الاتهام المرير في العينين الخضراوان : لن أنبشه فيلكس.
لم يصدق :" هولي ؟".
أمسك ذراعها وأدارها لتنظر إليه. فصاحت: لاأستطيع منع مشاعري بشأن هذا وأنا لا أسبب الضرر لأحد، أو لأي شيء! أعرف أن لا سبب يدعوك للاهتمام به..لكنه أبي.. وهذا..هذا كل مابقي لي منه.
لم تعد قادرة على إيقاف الدموع التي اتخذت طريقها من جديد إلى وجنتيها.. وعضت شفتها تهز برأسها. لكن بدا كأن كل مشاعر طفولتها المكبوتة تسعى إلى مخرج تتفجرمنه، وبقيت الدموع تتدحرج: هولي..
لم تسمح لها عيناها المغرورقتان بالدموع برؤية التعبير الذي لاح على وجهه.. ولكن نبرة الاهتمام والقلق في صوته ساعدا أكثر على انهيارها.
شهقت قائلة:" أرجوك.. أرجوك.. دعني فقط..".
أحاطتها ذراعاه اللتان لم تدر ما إذا كانتا ودودتين أم لا ولم تهتم، فقد شُدت بحزم إلى فردوس دافئ من القوة والدعم الثابت كالصخر.. وداعبها بحنان ليهدئ روعها وضمها ضمة من يريد بعث الأمان إلى نفسها.. بطريقة ما لم تقلق من اعتمادها عليه لأنها كانت تشعر بالراحة لمجرد إلقاء رأسها على كتفه العريضة، وتشعر بخده يتحرك برقة على شعرها ، وبذراعيه تلتفان حولها وكأنه لن يتخلى عنها أبداً.
أخيراً انهار كل شيء.. انهارت اللعبة التي لعبتها والخدعة التي حبكتها وانهارت معركة البقاء في القمة فوق رأسها.. وأصبح كل شيء خالياً من أي معنى.. إنها تريد الحقيقة وتتوق إليها مهما كان الثمن الذي ستدفعه من أجلها.
لم ترفع رأسها :
_فيلكس .. هل كان والدي .. هل كان ملاماً فيما حدث ؟ قلت .. ألمحت .. أتصدق هذا حقاً؟
_لا!
ردّ وكأنه شخص لم يعد قادراً على كبح مشاعره في أعماقه ، وآلمه أن يعترف بها .. مع ذلك ، كانت تطالبه بالاعتراف .. أحست بصدره يتمدد وهو يسحب نفساً عميقاً .. وكان في صوته بحث مؤلم عن الحقيقة حين أضاف ببطء :
_ كيف يستطيع المرء توزيع اللوم ؟ كيف يمكنه تفكيك الخيوط التي أدت إلى المأساة ؟ شبكة
عنكبوت متشابكة من الظروف .. عواطف مشحونة ومشحونة .
تنهد ، وتلاعبت أنفاسه في شعرها ثم نطق بكلمات موزونة مدروسة :
_ قد لايكون والدك ملاماً أكثر مما هو والدي ملام .. لدى بعض النساء القدرة على لوي روح الرجال .. وأمي واحدة منهن .. حتى جاك .. المسكين تركته يجوع للفتات الذي كانت تعطيه إياه
.. وما زالت حتى الآن تعطيه إياه .. ولكم أكره رؤية هذا ! لقد كرهت ما تفعل يومذاك لكنني كنت مجرد صبي صغير .
مجرد صبي صغير عالق وسط شيء لايفهمه ، أودى إلى موت والده ..
شعرت بالشفقة على الصبي الخائف الذي خسر أباه وعانى من الألم والعذاب .
ورفعت عينيها الكئيبتين الرماديتين إلى عينيه وقالت بتفهم :
_ أنا آسفة حقاً لما حصل لأبيك فيلكس . لاشك أنك كنت على علاقة وطيدة به . الالتواء الخفيف على فمه كان سخرية بنفسه ، وليس بها :
_ كان .. كل شيء أردت أن أكونه . لكن هذا ما كان يراه صبي صغير .. حب أعمى لابن نحو
أبيه .. الذي لم يكن كل ما أرادته أمي .
_ فيلكس ..
ترددت لأنها تدرك أنها تخدش جراحاً قوية :
_ كيف مات ؟ ماذا حدث ؟ لقد ألمحت أن ما حدث لم يكن حادثة .. وأن أبي ...
اعترف بلطف :
_ هولي .. أنا لا أعرف ما حدث .. لقد وقع عراك عنيف بينهما .. وكانت أمي تصرخ .. ثم ركضت وجلبت البندقية .. أظن .. من أجل وقف العراك الدائر .. يومذاك طلبت مني استدعاء
جاك الذي كان قد ابتعد مع بدء العراك .. ثم سمعنا الطلق الناري ، وحين وصلنا كان والدي ميتاً وأمي تنتحب على جسده . كان ايرول واقفاً هناك . ينظر إليهما والبندقية في يده .. سأله جاك ماذا حدث ، فلم يرد . أعطاه البندقية فقط دون شرح ثم وضب حقيبته ورحل في غضون ساعة ومنذ ذلك الحين لم نره .. أما أمي فكانت تصيح وتبكي وتقول إن ما حصل حادثة ...
قالت إنه حدث قتال على البندقية ، وإن الرصاصة انطلقت وحدها .
كشر قليلاً كمن يعتذر :
_ وبما أن ايرول رحل مولياً ظهره لكل شيء .. اعتبرته مذنباً لكن قد تكون الصدمة هي
السبب ، هولي .
كانت تفكر في شيء آخر مختلف تماماً .. ماذا لو كان اصبع دونا هو الذي ضغط على الزناد ؟
في هذه الحالة ، قد لايكون ايرول ما كنافش الفاعل وما رحيله إلا ليحمي المرأة التي يحب . وربما تركته دونا يفعل هذا ، وبسبب هذا ظل ضميرها يعذبها طوال تلك السنوات وحتى الآن .
على أي حال ، ليس هناك ما يرتجى من طرح هذه الفكرة على فيلكس ..
مهما كانت خطايا أمه ، فقد عانت الأمرين بسببها . أما ايرول ماكنافش فقد حمل معه أسراره إلى القبر ، ومن الأفضل للجميع أن تبقى حيث هي . مع ذلك ، لم تستطيع هولي كبت فضولها بشأن أبيها . فرفعت عينيها مجدداً إلى فيلكس برجاء :هلاّ أخبرتني كيف كان أبي! من وجهة نظر صبي.. أو من وجهة نظر أي كان؟
عبس:" تعرفين أكثر مني كيف كان، هولي".
أطلقت تنهيدة عميقة متحشرجة عميقة، فالآن لم تعد تشعر بالأمان بين ذراعيه فجروحها وجروحه كانت عميقة.. أحست بضعف في ساقيها وارتجاف في جسمها، بحيث تراجعت مجدداً
إلى جذع شجرة "الباوباب" لتستند عليها.. إذا كان هناك وقت الظهور الحقيقة وقولها، فهو الآن مهما كانت العواقب: لم أعرفه قط فيلكس..لم أعرفه. ولم أعرف بوجوده إلا بعد موته.. ساعتئذ فقط تلقيت خبراً عنه، وعما تركه لي.
ذكرى الشعور بالغبن والغش والخداع تراءت في عينيها.
ـ كنت كمن يتوق إلى شيء ما دائماً وهذا الشيء كان موجوداً..لكن لم يخبرني أحد أنه في متناولي.. حتى ذهب.
ابتلعت الغصة التي تصاعدت إلى حنجرتها.. كان فيلكس ينظر إليها وكأنه لم يرها من قبل، وأرادته يائسة أن يفهمها.
ـ أترى..لم أنسجم قط مع الحياة التي كانت تعيشها عائلتي في بوسطن.. لم أكن الطفلة التي تريدها أمي.. والرجل الذي ظننته أبي لم يكن لديه الوقت الكافي للأولاد.. وأنا ..لم يكن لدي أي شيء قد يفتخر به في ابنة.. هكذا حين وجدت أنني طوال كل تلك السنوات كان لدي شخص يمكن أن يحبني.. وأن أنتمي إليه.. وأن أكون معه. ليته اتصل فقط، أوجاء ليراني!..
قاطعها:" هولي.. ايرول لم يكن قادراً على المجيء إليك لأنه كان مطوباً للعدالة.. بعد موت أبي، لم يسلم نفسه للقانون.. بل اختفى بكل بساطة.. ولو حاول مغادرة أستراليا لألقي القبض عليه بتهمة القتل، وربما كان لقى حتفه.. وكان هذا سيجر أمي وكل المأساة التعيسة إلى البروز أمام الناس. ولا أظن أنه كان يتحمل رؤيتها مجدداً. وأنا واثق أنه فكر في أنك ستكونين أفضل حالاً من دونه..".
قالت يصوت ملؤه الألم:" أعرف هذا الآن.. وأعتقد أنني كنت أعرف هذا حين انطلقت أفتش عنه وعن حياته التي عاشها .. لقد عاش في بورت دوغلاس، محروماً من أي اتصال إنساني حقيقي. كان منطوياً على نفسه ولم يختلط بامرأة، ثم رأيت تلك اللوحة فعرفت أن شيئاً فظيعاً حدث له.. ولكنني لم أعرف مدى الضرر الذي أصابك أنت فيلكس.. لم أكن أعرف حقاً. أنا آسفة.. أردت فقط..".
قاطعها وهي تبحث عن كلمات مناسبة: أن تأخذي منا ما أخذناه من أبيك.
هزت رأسها عاجزة عن الشرح بالضبط: لا!لايمكن لأحد استرجاع.. ماضاع إلى الأبد. فكرت أنني لو جئت إلى هنا.. لو راقبت غياب الشمس.
دنا فيلكس منها ورفع رأسها إليه فإذا عيناه الخضراوان تتساءلان: أنت حقاً لا تهتمين بالمال.. أو الألماس.. وليس هذا سبب زواجك بي؟
ـ لا.. ليس هذا هو السبب. أردت أشياء أخرى فيلكس. أشياء طالما بحثت عنها.. أعتقد أنني كنت أبحث عن مكان ما.. مكان ما يكون لي..مكان أعرف أني مرغوبة فيه.. إنني بحاجة أن أكون مرغوبة وأن أنتمي إلى مكان ما.
سألها بهدوء: وهل هذا هو المكان الذي تريدينه هولي؟
ـ أعتقد.. أنه أقرب ما أستطيع الوصول إلى ماأريد.
تلمس بلطف خصلات الشعر الشاردة وأرجعها إلى الوراء بعيداً عن وجهها.. كان في عينيه نظرة غريبة: ربما كان جاك مصيباً.. وهذا هو الحل.
هز رأسه قليلاً، وأصبح وجهه أكثر تصميماً.. وعندما تكلم جاء صوته عميقاً صريحاً متعاطفاً: والدك هو الذي وجد فتحة البركان التي تحتوي على الألماس هولي.. وأنا أرى أن لك كل الحق بحصة.. حصة والدك في الواقع. ولكننا لم نستطع أن نجده أبداً.. ولو فتشنا عنه جيداً ولو أراد هو إيجادنا لعرف أين نحن.. لكنه لم يحاول، واعتقدنا.. فكرنا أن نترك الماضي وشأنه.. وبدا لنا هذا الشيء الوحيد الممكن فعله.. لكنني لم أتوقع أن تكون له ابنة.. وكيف لي أن أتوقع؟ ابنة لم أكن أعرف شيئاً عنها.
مرر إبهامه برقة على خدها.
ـ لا تنفكين عن إدهاشي. ظننتك بدون أحاسيس وظننت أنك لا تسعين إلاللانتقام.. أما الآن، فعلي أن أعيد النظر.. أن أعترف أن نظرتي لم تكن صائبة.
اعتمر الإحساس بالذنب داخل هولي.. بالتأكيد، هذا ماكان يجب أن يبدو له.. نظراً للطريقة التي مارستها..والواقع أنها لم تدر ماذا كانت تفعل حتى فات الوقت.
ـ أنا آسفة، إذا كان ما فعلته...
قاطعها برقة:" أنت تحملين عبئك هولي.. وأنا أحمل عبئي".
محا تعاطفه الارتباك الذي تجمع في ذهنها.. الحاجة التي دفعتها للمجيء إلى هنا طالبتها مرة أخرى بالردود فسألت: أرجوك، إن كنت لا تمانع كثيراً.. هلا قلت لي كيف كان أبي؟
ـ من وجهة نظر صبي؟
ـ أجل..أي شيء.
ـ كان يقص علينا القصص.. كان ودوداً على الدوام. ولقد أحببناه. وأظنك كنت ستحبينه أيضاً.
نظرت إلى عينيه لترى ما إذا كان يكذب، ثم أدركت أن هذا لايهم .
فقالت بصوت أجش: شكراًلك.. أنت كريم الأخلاق لأنك قلت لي هذا وأنا ممتنة لك.
قال بصوت متجهم: يحق لك بهذا.. أنا عشت على الأقل بضع سنوات مع أبي.
ابتعد عنها.. ثم توقف ينظر إلى الجبال التي رسمها والدها: لولا أمي.. لكان والدك ووالدي صديقين مدى الحياة. كانا يحبان بعضهما بعضاً .. وهذه المحبة هي التي زادت الأمور سوءاً ، فقد جعلت الغضب أشد بكثير. أفهم كل هذا الآن.. ولم أكن أفهمه يومذاك.
حملت رنة صوته مشاعر الألم.. فاندفعت هولي بشكل لا إرادي إليه فلمست ذراعه بتعاطف واهتمام: لم أرد إحياء كل الذكريات فيلكس.
عندما نظر إليها.. رأت في عينيه الوحدة والألم اللذان عانت منهما منذ زمن بعيد. ارتفعت ذراعه تلتف على كتفيها، يجذبها نحوه.
ـ لقد جئت من الناحية الأخرى من العالم، لتشاهدي هذا الغروب هولي.. فانظري الآن.. لقد بدأ.
أحست أنها على مايرام.. برفقة رائعة.. تراقب الغروب معه.. تشاركه. لأول مرة لم يبدُ أن بينهما حواجز.. إنهما شخص واحد.. اتحدا أخيراً .. ربما هناك شيء جديد يبدأ بينهما، وأملت هولي بهذا بشدة.
عندما أخذت الشمس تتوارى خلف الجبال، اشتعلت السماء كشراع ملتهب.. وما إن غاب هذا حتى تسللت الظلالة البنفسجية القاتمة فوق الأرض. وقلب انعكاس اللهيب المتوارى السماء إلى ألوان زرقاء ووردية.. وكان المنظر مهيباً.. نار وثلج.. حب مشبوب وما يتبعه من برد.. واستطاعت أن تفهم لماذا رسم لوحته كما رسمها.. وتمنت أن يرقد الآن بسلام.

عندما أدارها فيلكس نحو المخيم كانت قانعة بالذهاب وبوضع الماضي وراء ظهرها أما فيلكس فلم يتركها حتى جلسا معاً يأكلان ما حضره لهما الولدان من طعام. أضاء القمر المهيب السماء فبدت الأرض مختلفة وكأن فيها مئات الأشباح .. أحست هولي بالبهجة لانتهاء وجبة الطعام، ودعاها فيلكس إلى مشاركته كيس النوم.. وهذا كان شيئاً مختلفاً كذلك. فهو لم يحاول التحرش بها، بل ضمها إليه بشدة وكأنها طفلة تحتاج إلى الراحة والمواساة.
تمتمت:" أنا مسرورة لأنك جئت .. ولكنني لم أعتقد أنك عائد قبل الفد".
ـ لقد أنهيت كل ماهو مطلوب مني، والرجال يعرفون أن لدي عروساً جديدة لها الأولوية على أية مساعدة أقدمها لهم.. فكان أن وافقتهم الرأي.
انضمت إليه أكثر، ومرر خده على شعرها بحنان، فسألت: ألم تعد غاضباً لأنني تزوجتك؟
لم يبدُ في صوته الكثير من الشك فيما كان يقول: قد ينتج عن هذا شيء جيد.. وإذا جمعت الوقائع بشكل صحيح فأنا الذي تزوجتك..أنا من طلب يدك.. وأنت قبلت.
ابتسمت لنفسها: لقد قومتك، حسب حجمك، بعيني أولاً.
بدا المرح في صوته: وأنا قومتك فيما بعد إذن؟
ـ عظيم..عظيم جداً.
اشتدت ذراعه حولها ثم استرخت ببطء ومد يده يعبث بشعرها: أنا مسرور لمجيئي إلى هنا الليلة..لأكون معك. شيء غريب.. لكنني أشعر أنني على مايرام مع كل شيء.. حتى مع نفسي.
تنهدت: أجل.
أحست بدفء رائع، وبتوهج رضا لأن الأمر انتهى على هذا. لم تقل المزيد، ولم تكسر هولي الصمت مرة أخرى كذلك. أخيراً نامت على وقع خفقات قلبه الرتيبة.
12ـ دعـــــــــــــــــوني أموت!





أخذ رودي وآنغر هولي معهما إلى المنزل، مرفقاً برسالة مفادها أن الرئيس وزوجته سيعودان جواً بعد وقت ما.. بعدما ترى " الآنسة" هولي كل ميل مربع من بندنير دوانز.
كانت هذه جولة تحتضنها هولي في تفكيرها وقلبها وروحها..قال لها فيلكس قبل الإقلاع من موقع المخيم" إنها أرضك"،وكان في نظرة عينيه أكثرمن دعوة للمشاركة. وكأنه يقول لها إنه يريد منها الانتماء إلى هذه الأرض، كما ينتمي هو.
لحقا مجرى النهر الذي قد يجف في موسم الجفاف. ومرا فوق مخيمات جمع الماشية ووسمها. ثم حط فيلكس قرب بعض البرك المائية الطبيعية، ليريها الحياة البرية عن قرب. ثم أخذها في جولة حول حدود الأرض، ودلها على الحمير الوحشية التي أصبحت مشكلة مزعجة لرعاة الماشية في " كيمبرلي". وقطعان الماشية التي ستحتاج إلى جمع والوشم في القريب العاجل.
عندما عادا أخيراً إلى المنزل، دخلا إلى مكتب جوني ليتكلما عن المناطق التي ستسيج لاستيلاد الماشية الجديدة.. وكان على الجدار خريطة للمزرعة كلها.. ومع أنه سبق لهولي أن درستها إلا أنها أصبحت أكثر واقعية الآن لأنها ألقت نظرة شاملة على مل معالمها.. ودفعت لفيلكس وجوني وهما يتناقشان ومع أنها لم تتطوع برأي، إلا إنهما جعلاها تشعر أنها جزء من النقاش.. حتى أنهما تطلعا إليها للموافقة على القرار الأخير.
فالإحساس بالاتحاد الذي حققته مع فيلكس لم يخف في الأيام التالية، بل بداأنه يكبر، وعملا حتى يتفاهما أكثر فأكثر. وشيئاً فشيئاً بدا حديثهما يبتعد عن القيود والحذر. عاد الرجال من جمع الماشية. وكما قالت غيرليش لهولي، أقيم حفل شواء طوال النهار في فناء المنزل. قطع ضخمة من لحم البقر أديرت فوق النار معلقة بطود، وطهيت البطاطا على الحجر المشتعل، وأعدت السلطة، وخبزت الحلوى والقوالب.. وكانت حفلة ضخمة تمتع بها الجميع.
قدم فيلكس هولي إلى جميع الرعاة وضحك بمرح للنكات الجريئة التي وجهت له. بدا واضحاً أنه سعيد وبدوا هم سعيدون من أجله! أما استقبالهم لها فكان استقبال الترحيب والمؤدة. على أي حال، المرأة التي استطاعت أن تربط الرئيس وتضع وسمها عليه لهي امرأة مميزة.
مع فلول النهار ومجيء المساء جُلبت الآلات الموسيقية: الغيتار، الأوكورديون، والأرغن.
كان أكثر الرعاة يعزفون عليها بمهارة عجيبة.. واجتمع الجميع ليغنوا الألحان القديمة الفولكلورية.. ثم عزف بعض السكان الأصليين ألحان " الديدجيريرو" وقام مجموعة من الصبيان برقصة الصيد حول النار.. كانت حفلة تسلية بسيطة، لم تستمتع هولي قط بمثلها. وعندما كانت عائدة سيراً إلى المنزل الكبير مع فيلكس، فكرت في العالم المتقدم الذي سيخسر نفسه حتى أمام عالم بندنير داونز.
بدأ فيلكس يعطيها دروساً في تقنية الهليكوبتر.. وبدأ التسييج الجديد. وتطوعت هولي لإعطاء تلاميذ المدرسة محاضرة عن" زيمبابواي" وطريقة العيش فيها. فاستمتع الأولاد بها إلى درجة دفعت مايني المدرّسة لطلب المزيد من محاضرات " الناس و المجتمعات" عن البلدان الأخرى التي تعرفها هولي.. كان هذا أشبه براوية القصص أكثر من إعطاء الدروس، وسرعان ما تحول إلى روتين منتظم ثابت في المدرسة. كانت هولي قد صرفت كل تفكير لها بالعالم الخارجي، حين تلقت مكالمة أمها. كانت وفيلكس قد أنهيا الفطور ذات صباح، وأوشكا على الجلوس لتفحص مدى التقدم الذي أحرزه تسييج الأرض حين ناداها جوني للرد على المخابرة من مكتبه.
ـ هولي.. مخابرة دولية لاسلكية لك.. من بوسطن.
ـ إنها أمي.. وهي بلاشك تريد محادثتي عن الثياب التي سترسلها إلى.. أو لتطرح المزيد من المسألة عنك.. انتظرني.
قال مداعباً، وهي تبتعد: ربما من الأفضل أن أراقب ردودك.
لكن هولي كانت مخطئة. وكانت هيذر رايدال عازمة على شيء آخر.
ـ هولي.. حجزت رحلة إلى سيدني.. وسأصل صباح الأحد.. لقد رتب لي جول أمر سيارة ليموزين لتقلني من المطار إلى " الشيراتون" وسأقضي يومي هناك لأستعيد نشاطي بعد السفر. ولكنني أريد أن أعرف كيف السبيل للوصول إلى بندنير دوانز.
ذهلت هولي لأن أمها فكرت بزيارتها في مزرعة مواشي ضائعة بالنسبة للعالم.. فتولى فيلكس الذي سمع الرسالة اللاسلكية أمر المكالمة.
ـ سيدة رايدال.. أنا فيلكس ويستون. سأرسل أحد رجالي للاتصال بك في الشيراتون ليرتب الأمر معك يوم الاثنين، وستكون طائرتي النفاثة على أتم الاستعداد لحملك إلى هنا.. نحن لانريد إلاراحتك.
ـ آه! شكراً لك.. هذا.. هذا لطف كبير منك فيلكس.
ـ أبداً.. سنتطلع شوقاً لنرحب بك هنا في بندنير داونز، سأعيد المخابرة إلى هولي الآن.
لكن هولي لم تكن قد استعادت وعيها من المفاجأة: أمي! هل تلقيت رسالتي؟
ـ أجل عزيزتي.. والصور كذلك.. لم أرك هكذا من قبل.. إنها هكذا من قبل.. إنها صور رائعة هولي.. وضبت لك جميع حاجياتك التي سأحملها معي.
قالت هولي بصوت ضعيف: شكراً لك.
مادامت أمها قد تلقت الرسالة فهذا يعني أنها لن تكون متوهمة أبداً عما تتوقع هنا.
ـ يسرني أن تقطعي هذه المسافة من أجلي.
ـ أريد أن أرى أين استقريت أخيراً هولي.. يبدو لي هذا.. مثيراً جداً. وأريد أن ألتقي بزوجك.
استجمعت هولي شتات أفكارها: طبعاً.. نتطلع شوقاً لرؤيتك أمي.
ـ اشكري فيلكس نيابة عني مجدداً . وداعاً الآن عزيزتي.
بعد انتهاء المكالمة فقط، أدركت هولي ما توحيه زيارة أمها.. نظرت إلى فيلكس بتوسل ولهفة وهما يغادران المكتب.
ـ فيلكس..ثمة أشياء يجب أن أقولها لك. أشياء يجب أن أشرحها.
رفع حاجبه متسائلاً: لاأظن أن لدى أمك ما قد يفاجئني أو مالا أستطيع معالجته يا هولي.
ـ ليس الأمر هكذا.. إنها أكثر تهذيباً من أن تنتقدك ولكنها متكبرة ومتعجرفة وذات توجه اجتماعي سيختبر مدى صبرك. لكنها لن تكون زيارة طويلة فما هذا عالمها.. هل تعرف شيئاً عن مجتمع بوسطن..
ـ هولي.. سأقدم لها كل الاحترام أما كيف ستكون ردة فعلها تجاه بندنير دوانز، فهذا شأنها. وأتمنى أن تكون ردة فعلها إيجابية. وإلا.. فلترحل متى شاءت.. لن تكون زيارتها مشكلة لي.. فلم أتزوج أمك.. والآن ماهي المشكلة بالنسبة لك؟
ـ أمي لا تعرف شيئاً عن علاقة أبي بهذا المكان، أو بعائلتك أو بمنجم الألماس. إنها تعرف فقط بأمر اللوحات.. هكذا.. لذا لا جدوى من ذكر شيء من الماضي.
ـ من الأفضل ألاتثار ذكرى الماضي. وإذا كانت أمك ستذكر ايرول..
قاطعته بحدة: هذا غير محتمل، فطالما كان والدي الشبح الذي يطارد أمي.
نظر إليها فيلكس بفضول: أتودين إخباري عن السبب؟ لوت شفتيها بسخرية ومرارة: كان زواجهما غلطة.
سحبت نفساً عميقاً، ثم حاولت صرف الصورة السلبية عن تفكيرها: لاتسئ فهمي فيلكس.. لقد بذلت أمي مابوسعها من أجلي.. لكن أفكارنا لم تكن متوافقة.. وأنا مسرورة للجهد الذي ستبذله لزيارتي مع أننا لا نتفق كثيراً حين نتقارب.
ضمها إليه بحنان وومضت عيناه بطريقة تنبئ بأشياء أخرى..أشياء جعلت قلب هولي يخفق: كيف استطاعت ساحرة متوحشة مثلك أن تعطي ألوانها الحقيقية في مجتمع بوسطن؟
ـ هذه قصة طويلة.
ـ يجب أن تخبرني إياها يوماً.
وعانقها ببطء متعمد، تعني حناناً أكثر من أن تعني رغبة. وكان في عينيه نظرة التملك و الحماية معاً.
قال آمراً، بصوت رقيق وثابت: لا تقللي من شأن نفسك، فأنت شخص مهم بالنسبة لي وبالنسبة للجميع في بندنير داونز.. وهذا هو مكانك.. احفظي هذا.. ياشريكتي.
كادت تقول له: أحبك فيلكس.. وكادت تعجز عن إيقاف الكلمات.. بعد ذلك تساءلت كيف ستكون ردة فعله لو قالت له هذا. لقد ظنت للحظة قبل أن يعانقها أنه قد أحبها.. لكن، من المشكوك به أن يعترف بمثل هذا الضعف لإمرأة، حتى ولو كان يشعر به.
مر الأسبوع الذي سبق موعد زيارة أمها بسرعة.. حين حطت الطائرة النفاثة يوم الاثنين بعد الظهر، كانت هولي وفيلكس في المطار مستعدين لملاقاة زائرتهما ونقلها إلى المنزل الكبير بسيارة الجيب..
عندما برزت هيذر من الطائرة ، بدت كعارضة أزياء إذ كانت مرتدية بزة أنيقة وكانت تعتمر
قبعة قش بيضاء ذات إطار جميل وتضع وشاحاً حريرياً طويلاً مخططاً بالأبيض والأسود .
عندما نزلت السلم ابتسمت لهولي وفيلكس ابتسامة ملؤها التردد.. ولكنها استرخت قليلاً حين ضمتها هولي وعانقتها: ماأروع أن أراك أمي!
ثم ارتدت إلى زوجها وشبكت ذراعها بكل فخر: وهذا فيلكس بدون شك.
ـ أهلاً بك إلى بندنير داونز سيدة رايدال.
ابتسم لها ابتسامة ساحرة.
نظرت هيذر إليه عدة ثوان طويلة ثم استجمعت رباطة جأشها وأخذت يده قائلة: عفواً.. لقد ذكرتني بشخص آخر. ليس بالمظهر لكن..أوه..يا إلهي! أنا أفتعل شيئاً من لاشيء.. تسرني مقابلتك فيلكس. وأرجو منك مناداتي هيذر.
ماهذا بتصرف أمها عادة ، لذا لم تستطيع هولي إخفاء دهشتها من الظهور.. وكانت هذه المفاجأة الأولى من أصل مفاجآت أخرى فلم تمر من بين شفتي هيذر رايدال أية كلمة انتقاد.. وكان المنزل الكبير "مؤثراً" وغرفة هولي"أجمل غرفة" وغير ليش وجوني" ألطف الناس" عندما أخبرها فيلكس خلال العشاء أنهم يتحضرون لاستقبال شحنة من الماشية القادرة على تحمل الجفاف وهي ماشية اقترحت أمرها هولي ابتسمت هيذر بفخر لآبنتها: حسناً.. يجب ألا تتركاني آخذ الكثير من وقتكما.. عليكما معاً المضي لإنجاز ما يلزم. أنا مفتونة بالحياة التي أخبرتني بها هولي، وسأكون سعيدة بمجرد التجول حول المنزل.
صدق فيلكس كلامها.. مع أن هولي لم تستطع في البداية. لكن في اليوم التالي خرجت أمها عن عادتها وبدأت بالتعرف إلى جميع من في المزرعة ولم يظهر عليها ولو لمرة واحدة ومضة تكبّر أو تحامل.
قالت لهولي بكل لطف: لست مضطرة للبقاء معي عزيزتي.. اذهبي مع فيلكس، فغيرليش قادرة على إيضاح أي شيء أريده.. لا تقلقي عليّ.
كانت هولي مذهولة بتصرف أمها ولكنها في الوقت ذاته مسرورة به. وللمرة الأولى بحياتها تشعر أن شيئاً آخر متوقع منها.
قالت لفيلكس تلك الليلة: لابد أن كل هذا بسببك. فبعد نظرة واحدة إليك وجدت أنك شخص يجب تجنب الاشتباك معه.
ـ همم.. على عكس ابنتها.
مد يداً مداعبة على خصرها. فضحكت: أنت كنت تتوسل حتى أشتبك معك فيلكس.. فقد كنت متعجرفاً بشكل رهيب.. ومثيراً.
ـ حسناً.. أهذه نظرتك إلي؟
في اليوم الذي سبق وصول الماشية، صحبهما فيلكس في جولة على منجم الألماس. وقدم لهيذر ماسة متعددة الألوان.. تأثرت هولي كثيراً حين اغرورقت عينا أمها بدموع عاطفية وكانت الكلمات التي تفوهت بها نابعة من القلب، دون أدني شك.
ـ شكراً لك فيلكس.. سأعتزّ بها دائماً.. لكنني أريد أن أقول إنك أعطيتني سلفاً، أفضل شيء.. وهو أن أرى هولي سعيدة فسعادتها أهم من أي شيء آخر.. كنت خائفة كثيراً.
ابتسمت لهولي من بين دموعها: لا بأس الآن. ظننت أنك لن تجدي ما تبحثين عنه.. أما الآن فأرى أنك وجدته. وأعرف أنك لن تدعيه يفلت من بين يديك..
أدارت نظرة عتب إلى فيلكس: إنها هكذا، دائماً.. أتعرف؟
رد فيلكس: أجل .. أعرف.
وتحرك ليضم هولي إليه، وابتسم لها: ابنتك هذه قاسية.. وما إن تثبت أسنانها في شيء حتى يعجز أحد عن إيقافها. إنها تستغلني لتحقق ما تريد..
ضحكت هيذر: لكنني لم ألاحظ أنك غير راض عن هذا.
ـ إنها" ساحرة" هيذر.. وترمي تعويذة سحرية علي.
بدلاً من إنكار ما قال، ضحكت هولي مع أمها. وكانت متعجبة من كل ما يجري لأن أمها تتصرف بطريقة تدل على مدى اهتمامها الكبير بابنتها.. وفيما بعد فكرت إن كان فيلكس يظن حقاً أنها تستغله.. ولكنها سارعت إلى صرف الفكرة بعيداً فهما يكن الأمر هما سعيدان معاً.
بعد ظهر اليوم التالي حين لامست طائرة الشحن من جزيرة كوكوس، أرض مدرج بندنير داونز كانت معنوياتها عالية. كان جميع العاملين في المزرعة قرب المدرج لرؤية سلالة الأبقار الجديدة.. وكان الرعاة على جيادهم مستعدين لتوجيه القطيع الصغير إلى حظيرة للمواشي قريبة حيث سيعملون على إطعامها وسقايتها. وبعد ذلك يتركونها حتى تهدأ بعد رحلتها الطويلة.. كان فيلكس وهولي واقفين في الجيب يتوقان لرؤية أولى نتائج استثمارتها في هذا المشروع.
وضع سلم الهبوط أمام باب الطائرة الذي انفتح فوراً.. فخرجت الأبقار بقرة بقرة لتتخلص من المكان الضيق الذي حشرت فيه، وتحرك الرعاة للسيطرة على سلوك القطيع. منع أحد الجياد الرؤية عن هولي، فابتعدت بضع خطوات عن الجيب ولكنها لم تدرك أن حركتها أثارت انتباه أحد الثورين الذي كان ينزل عن السلم وسرعان ما حفر الحيوان الأرض أمامه، ونظر إليها..ثم قام بهجومه غير عابئ بشيء آخر حوله. حدث كل شيء بسرعة، بحيث لم يبق في ذهنها سوى أطر متفككة من الصور المرعبة..صرخ فيلكس باسمها ثم قفز أمامها وأمسك بقرني الثور الذي ضربه بقرنيه فرفعه في الهواء ثم وقع على الأرض وأسرع الثور يغرز أحد قرنيه في وجهه، ثم سمعت دوياً عالياً وقع على إثره الثور ببطء فوقه.. هاهو فيلكس مستلق دون حراك، ينزف دماً ويبدو جامداً.. كان صوتها يصرخ باسمه والأذرع تمسك بها ترجعها إلى الخلف، والرجال يطبقون عليه يرفعون الثور عنه.. فيلكس لا يتحرك أبداً.
تخلصت من ذراعين كانتا تحاولان منعها. وهرعت إليه ثم مزقت قميصها ووضعته فوق النزف لتوقفه وراحت تصيح.. فيلكس. لم يمت.. فما زال يتنفس، لكن لاأحد حاول تحريكه.. جلست على التراب إلى جانبه، وأخذت تجفف بقميصها الجروح في وجهه.. ثم ركضت غيرليش إلى جانبها وأخذت القماش منها، وبدأت بالعمل لإيقاف النزف.. أمسكت هولي يد فيلكس تدلكها وتتوسل إليه بيأس أن يبقى حياً.. ولم تعرف كم بقيا هكذا قبل أن تتحرك أصابعه ببطء تحت أصابعها.
ـ هولي..
خرج اسمها من بين شفتيه همساً بل أقل من همس ولكنه لم يفتح عينيه ثم بدا خط متجعد على جبينه وكأنه يكافح ليستعيد وعيه.
صاحت:" أنا هنا فيلكس.. أنا هنا".
ـ لا..
أحنت رأسها لتسمعه: لا..فائدة..إصابتي بليغة..دعوني أموت..
ـ لا..؟ لن أدعك تموت..أحتاج إليك.. لن أدعك تموت.. أحبك.
فتح عينيه قليلاً فظهر فيهما الألم و العذاب..
ـ لا أستطيع العيش في "قفص".
التوت روحها ألماً لأنها فهمت قصده فهو يفضل الموت على البقاء حبيساً في قفص جسد لايستطيع أن يفعل ما يريد منه. إته يطلق الحيوانات البرية.. ويقتل الماشية التي تضعف عن أن تبقى حية بمفردها، فعل رحمة.
تأوهت:" لا..لا".
ـ هذا مكانك.. أصبح لك الآن.
ـ لاأريده.. ليس بدونك.. فيلكس..فيلكس.
وصل جوني إلى جانبه، ودس حقنة موقفة للنزيف تحت جلد ذراعه.. ثم أخرى.. وحقنة مورفين لإيقاف الألم.
توسلت هولي: أحبك فيلكس..أنا أحمل طفلك..يجب أن تعيش.
أغمض جفنيه اللذان كانا أثقل من أن يستطيع تركهما مفتوحتين.. لكنها لم تعتقد أنه سمع أهم خبر أخفته عنه حتى تتأكد من حملها.
كررت بعنف و بأس: طفلك فيلكس.
لكنه لم يتكلم ثانية فقد عاد إلى غيبوبة.. وفي هذا الوقت جُلبت الحمالة التي رفع عليها ووضعت مناشف حول جرحه لإيقاف الزيف. ثم جاءت الطائرة النفاثة من المنجم وتوقفت، فأخذ جوني يعطي تعليماته للرجال الذين كانوا ينقلون فيلكس إلى الطائرة.. رافقتها أمها التي لحقت بالحمالة.. يجب نقله إلى المستشفى بسرعة.. إلى" كونونورا" كما قال جوني، على بعد خمسمائة ميل.
كان حبها لفيلكس بثقل الرصاص على قلبها. هل يعني هذا شيئاً ؟ هل سيقارم ليعيش؟ لو سمع ما قالته من حملها، لقاوم. ابن أو ابنة تحتاج إلى أب، وهذا بالتأكيد ما سيجعل لحياته قيمة مختلفة.. حتى ولو كانت الحياة غيرالتي عاشها من قبل. قال لها يوماً إنه لن يقاتل من أجلها وإنه لن يموت في سبيلها.. لكن حين حلّت اللحظة الحاسمة، غامر بحياته لينقذها.. ربما كان يحبها، ويعتقد أنها لاتريد سوى الأرض التي يستطيع أن يعطيها إياها.. ربما رغبته في الموت ليست فقط خوفاً من أن يبقى حبيساً. ربما شعر أنه لم يعد ما تريده منه.. رجل مثير، لا يقاوم، أفضل من أي رجل آخر.. وتدفقت الذكريات في رأسها..
أقلعت الطائرة.. ابق حياً لساعة واحدة فيلكس.. حبيبي.. أرجوك! حتى نصل إلى حيث نجد من يساعدك. برزت أمامها احتياجات فيلكس.. فحتى لو استطاع الأطباء ترميم جسده، وإرجاعه إلى حالته الطبيعية فسيبقى تشوّه وجهه وهي أكثر من يفهم معنى التشوه. جاذبيتها اصطناعية، سطحية.. وليست عاملاً أساسياً في علاقتها بالناس و التفاهم معهم.. لكنها ستعاونه قدر المستطاع، مستعينة بتجربتها.
التفتت إلى جوني: قل للطيار أن يتصل بالمستشفى لتحضير أفضل جراح تجميل في البلاد، فليجدوه و ليجلبوه إلى هناك! بعدما تركها لينفذ ما تريد، أعطت أمراً صامتاً للرجل الذي أصبح كل حياتها: أحبني فيلكس.. أحبني بما يكفي لترغب أن تعيش.




يتبـــــــــــــــــــع

13ـ لو.......



دأبت هولي إقناع نفسها أن فيلكس قوي بما فيه الكافية.. ولكن أهو راغب في الحياة؟ هل يرغب بها بما يكفي. في مستشفى كونونورا نقلوا إليه دماً كثيراً ، ووضعوه في العناية الفائقة. كان نبضه صعيفاُ ومشوشاً.. وضغط دمه منخفضاً.. بعد الاستشارات، تقرر أن من الأفضل له نقله إلى المستشفى التعليمي في " أديلايد".
كم مضى من ساعات الآن؟ ثماني أم تسع ساعات؟ الرحلة إلى كونونورا.. العلاج الفوري الذي أمن بقاءه في حالة مستقرة لنقله إلى وسط أستراليا إلى مدينة أديلايد.. وإلى هذه المستشفى الضخمة..صور الأشعة.. أوراق للتو قيع تضع فيلكس بين أيدي الجراحين..أوراق ربما كان سيرفض توقيعها بنفسه.. لكنها اتخذت القرار.. أراد هذا أم لا.. ستقوم بالمستحيل ليبقى حياً.
ـ قهوة هولي.
رفعت نظرها إلى أمها التي رافقتها بصمت طوال هذه الساعات، و قامت بأشياء كثيرة لها دون طلب أو تذمر.. وأدركت فجأة أنها لم تشكرها على ما فعلت.
هزت رأسها والدموع تغرق عينيها: أنا آسفة، لم أشكرك..
ضغطت الأم على كتفها: لاأتوقع منك شكراً هولي.. خاصة وأنت تواجهين الصعاب.
ـ أنا لاأعني بهذا إبعادك ياأمي..لكنني لا أجيد التعبير عن مشاعري.
تنهدت هيذر بعمق: أعرف عزيزتي.. لا تظني أبداً أنني لاأرى أخطائي.. الوقت متأخر كثيراً على التغيير الآن.. لكن ثمة أشياء أود قولها لك.. أشياء حسبتها في داخلي طوال تلك السنين.. وقد تساعدك على التخفيف من الوحدة التي تشعرين بها.
ـ هذا لطف منك.
تأثرت بالعطف الذي رأته في عيني أمها. وارتسمت ابتسامة صغيرة على فم هيذر: أنت مثل أبيك هولي ..لك عيناه.. حتى وأنت طفلة، كنت تنظرين إلى كما كان ينظر إلي. حاولت جاهدة نسيانه، لكنك لم تساعديني قط على هذا.. كنت تشبينه حتى في أمور كنت تقولينها.. أنت مثل ايرول.. وكنت مضطرة إلى محاربة كل شيء.. وإلا لكان الخيار الذي اتخذته، لا يحتمل أبداً.
هزت هولي رأسها: أمي..لست مضطرة لشرح ماحدث بينكما من أخطاء.
ـ أعتقد أن من حقك أن تعرفي..لم يصل منذ ذلك الوقت إلى مقاييس ايرول..كان..كان مثل فيلكس.. عندما خرجت من الطائرة في بندنير داونز..انقلب قلبي رأساًعلى عقب.. كان لفيلكس الهالة التي كانت تحدق بأبيك: هناك عالم موجود للغزو.. وأنا الرجل المؤهل لغزوه.
صمتت وسرحت في الذكريات.. تذكرت هولي فقدانها الغريب لرباطة الجأش الأمر الذي صدمها في تلك اللحظات.
تابعت أمها القول: جين كتبت رسالتك تخبرينني فيها عن بندنير داونز كان علي المجيء. كل تلك السنوات دون خبر عن والدها.. يجب أن تستمع .. أن تفهم ما تقوله أمها.. فمثل هذا الإسرار قد لا يتكرر.. ويجب أن تستمع.. أن تركز.. وتفهم ما تسرّه أمها لها.
ـ أقنعت نفسي أنني أريد رؤيتك ورؤية فيلكس..لكن كيمبرلي كان المكان الذي قصده والدك.. المكان الذي أراد أن أرافقه إليه.. أن آتي معه.. لنجد ما نستطيع أن نجده. ولم أكن سمعت بمثل هذا المكان. أستراليا مكان بعيد جداً .. ولن أترك بوسطن.. وايرول لا يريد البقاء، لم يحاول حتى تكييف نفسه مع محيطه في بوسطن.. كان يسخر من الحياةالوحيدة التي أعرفها..
هزت رأسها ساخرة من نفسها، وركزت نظرها على وجه هولي: لم أفهم هذا حتىجئت إلى هنا. لم أدرك كم هذه البلاد واسعة ورحيبة.. وما أن رأيت المنجم ومزرعة المواشي حتى عرفت لماذا لم يستطع ايرول أن يقنع بحياة بوسطن.. عرفت أخيراً .. ورأيت كم هي مناسبة لك ولفيلكس.. وتساءلت عما إذا..
كشرت تكشيرة ألم: لم أكن من الشجاعة بحيث أغامر في عالم لم أكن أعرفه، لم يكن مهماً لي هولي أن أكون شريكة ايرول.. مهما كان السبب.. واتخذت خياري.. ثم انطلقت بتبرير ذلك الخيار بكل وسيلة أعرفها.. تزوجت جول..وأقمت كل الصداقات والصلات المناسبة.. وقمت بكل شيء مناسب.. وأردت منك أن تحذي حذوي.. وأن تكوني مثلي..لأن.. هذا قد يجعلني أحس أنني على صواب.
لاعجب إذن أن ترفض الكلام عن ايرول ماكنافش فالحديث عنه كان يؤلمها كثيراً .. وما إن فهمت هولي هذا حتى أصبحت مستعدة للغفران لأمها كا ما دفعها للنجاح في عالمها المختار.
ـ خيبت أملك دوماً
قاطعتها أمها بعنف: لا..لا! كان ذلك مناسباً لك! الآن أفهم.. ألاترين؟ كرهت ايرول لأنه لم يفعل ما أريد.. وأحسست بالإحباط منك عندما أدرت ظهرك للحياة التي بنيتها لك.. كنت كوالدك مجدداً.. ترفضين كل قيمي.وكان في عينيك دائماً نظرة الانزواء عن مجتمعي،وكأنك ترين عالماً آخر..أخيراً أردت أن أرى هذا العالم.. ولقد رأيته.. الآن يمكنني أن أسامح والدك الذي كان كبيراً فيما لم أكن كذلك.
من يعرف ماذا يدفع إنساناً آخر؟ من يستطيع أن يحكم على إنسان آخر؟ نظرت هولي إلى أمها بعطف لم تشعر به قط نحو المرأة التي عاشت جحيمها الخاص. وبذلت ما بوسعها، تحاول تحقيق ما يثبت لها أن الحياة تستحق العيش.
ـ أمي.. أنت لست تعيسة مع جول.. أليس كذلك؟ طالما ظننت..
ـ إننا من نوع واحد. ونحن كذلك عزيزتي.. إنه الزينة لحياتي و أنا الزينة لحياته. نحن نفهم بعضنا لكننا لم نحصل قط على ما بينك وبين فيلكس.. وما حصلت عليه لوقت قصير جداً مع أبيك.. وأنا سعيدة من أجلك هولي.. كنت رغم خلافاتنا أريد لك الأفضل.
مدت هولي يدها تضغط على يد أمها:أعرف هذا أمي. شكراً لأنك قلته لي.. ولكنني أرى أنك اتخذت القرار الصحيح ببقائك في بوسطن، حتى ولو آلمك الفراق مع أبي.. أعرف أن أم فيلكس كرهت العيش في كيمبرلي.. كرهت العزلة.. وافتقار المنطقة إلى المدينة ووسائل الراحة، والصحية. بعد موت والد فيلكس، تزوجت من رجل أعطاها ما أعطاك إياها جول.. هكذا.. من يدري ماهو الصواب وماهو الخطأ! أول ما قاله لي فيلكس: دعي الماضي وشأنه.. الماضي لم يعد مهماً أمي وما يهم هو الآن، وغداً، و..
لو مات فيلكس.. فما هو الغد الذي ينتظرها؟ أغمضت عينيها بقوة لحبس الدموع التي هددت بالظهور. لن تضعف.. يجب أن تكون قوية.. يجب أن تجعله يرغب في الحياة.
ـ هولي..أردت فقط أن تعرفي.. أنني هنا من أجلك وأنني قادرة على تفهم وضعك.. وإذا أردت الكلام فقلبي مفتوح لك.
أصاب العرض قلب هولي.. لقد عرّت أمها روحها من أجلها وإن لم تتجاوب معها فسيكون ذلك وكأنها ترفضها مجدداً.. مع ذلك غير معتادة على المشاركة في أفكارها ومشاعرها الخاصة.. ولن تستطيع المشاركة بسهولة.. لكن، هل هناك ما له قيمة يمكن أن يكون سهلاً ؟ لو أنها قالت لفيلكس إنها تحبه قبل..
ـ أنا خائفة أمي.. خائفة ألا أكون مهمة بمافيه الكفاية لفيلكس.. إنه لا يريد أن يبقى سجين جسم غير كامل.
ـ هولي.. قد لايصل الأمر إلى هذا.. هناك أمل عزيزتي..هناك دوماً أمل.
ـ قد يكرهني..
ـ لا..! تفكري هكذا.. لقد رأيت النظرة التي كانت في عينيه قبل أن يقفز لإبعاد الثور الهائج عنك. لم تكن نظرة تهور أو اندفاع عزيزتي بل كان خائفاً و مرعوباً أن يخسرك.. وبدا كل شيء حتى الموت أفضل بالنسبة له من تركك.
فتحت هولي عينيها ونظرت إلى وجه أمها بعدم اقتناع، لكنها أرادت بيأس أن تصدق.
ـ لايهمني لو أصبح كسيحاً أو مشوهاً..لأنني سأبقى على حبه، مهما يكن الأمر.
ـ أعرف هذا هولي.. وستجدين طريقة لتجعليه يصدق هذا.. وأنت أقدر الناس على هذا.
ـ حقاً..أمي؟
ابتسمت أمها بحنان: لم يسبق لك أن انهزمت أمام شيء هولي؟ حتى حين عانيت الأمرين من وجهك تحديت العالم.. وسخرت ممن قلل من شأنك.. بمن فيه أنا. لكنني أعدك ألا أرتكب الغلطة ذاتها مرة أخرى.. يمكنك الاعتماد علي في أي دعم تريدينه.
الدموع التي حاولت كبتها عادت إلى عينيها، فهمست بضعف: شكراً لك..
وحضنت أمها بقوة.. وهمست بصوت أجش: خلت أنني لن أكون أبداً على المستوى الذي تريدينه مني.
ـ عزيزتي.. أنت ماكنت أتمنى أن أكون .. تذكري هذا حين أخذلك بأية طريقة.. ولا تترددي أن تقولي لي ماهو الخطأ فيما أفعل.
تراجعت هولي وتمكنت من الابتسام: أنا لست كاملة.. لكنني لن أبتعد عنك مجدداً. أمي.. أعدك.
اقترب صوت وقع الأقدام في ممر المستشفى. فهبت هولي واقفة وتسارعت خفقات قلبها وتأرجح قلبها ما بين الخوف و الأمل، لكن اللذين ظهرا لم يكونا من الأطباء أو الممرضين..بل هما دونا وجاك ويستبرون.
كسر جاك الصمت المرتبك: لقد أتينا إلى هنا حالما سمعنا الخبر هولي.. سيدة رايدال، أنا جاك ويستبرون وهذه زوجتي دونا.. والدة فيلكس.
أخذت اليد الممدودة إليها: هيذر.. هيذر رايدال. آسفة لأننا نلتقي في مثل هذه الظروف.
لم تنظر دونا إليها بل كانت تنظر إلى هولي بعينين متهمتين: أنت السبب! أليس كذلك؟ لولا وجودك هناك..
قاطعها جاك بحدة:" دونا.. كفي عن هذا".
والتفتت عيناه تتوسلان هولي الصفح: إنها لا تعني هذا.
لكن دونا كانت مشحونة، مشتتة الفكر: أنبأني قلبي أن شيئاً فظيعاً سيحدث.. كان كل هذا كذبة..أليس كذلك؟ أنت تسعين إلى ..
قاطعتها هولي: لا تحمليني وزر شعورك بالذنب سيدة ويستبرون. لم يكن سبب الحادثة أي ضعف بشري.
لم تتوقف دونا لتستوعب ما تسمع، بل بقيت كلمات الاتهام المريرة تتدفق من شفتيها: كنت أعرف أن هذا لن ينتهي إلى خير..كنت أعرف أنه لن ينجح. لقد خدعته فقط، من أجل..
فقدت هولي السيطرة على أعصابها كلياً ، فالتوتر و الإرهاق اللذين كانت تعاني منهما ظهرا الآن على شكل كلمات مشبوبة بالعاطفة.
ـ من تحسبين نفسك؟ العالم لا يدور حولك سيدة ويستبرون.. لكن فيلكس هو كل العالم الذي أريده. ولا تتجرئي على مقارنته بعالمك.. أنا لا أهتم بألماس اللعين، ولا أهتم بما فعلته في الماضي إلا بمقدار ما يؤثر في فيلكس.. مضت الأعوام وأنت لا تهتمين بغير نفسك لذا لم تري وحدته وحاجاته.. لأنك ماكنت تهتمين إلا بحاجاتك أنت..
احتج جاك:" هولي؟".
لكنه لم يستطع منعها من المتابعة: افعلي ما شئت بحياتك.. لكنني لن أسمح لك بتسميم حياة فيلكس وحياتي! اخرجا من هنا! عودا إلى بيتكما! فلم يعد فيلكس ينتمي إليكما.. حتى ولو كان ينتمي يوماً.. وهنذا ما أشك فيه. إنه زوجي الآن ، وأنا أحبه. وسأفتديه بحياتي إن استطعت. ليتني كنت أنا هناك على طاولة العمليات.. فليساعدني الله.. إذا قال أحدكما يوماَ، أو فعل شيئاً دفع فيلكس إلى عدم التمسك بالحياة.. فلسوف..
خنقتها العبرة.. وقفزت الدموع إلى عينيها، وفتحت يديها بعجز.. فجأة وجدت نفسها بين ذراعي أمها، تهدهدها كالأطفال.
قالت هيذر رايدال بحدة وتكبر: لاأدري ما يجري هنا. لكن هولي كانت تحت ضغط نفسي كبير.. إذا كان لدى أحد منكم أي شك أن ابنتي تزوجت فيلكس لأسباب أخرى غير حبها له، فأؤكد لكما أن هناك الكثير من الرجال الأثرياء في بوسطن..
تدخل جاك بلهفة ونفاد صبر: سيدة رايدال.. دونا حباً بالله! ومن أجل ابنك.. اخرجي من هذا المزاج! ماذا تريدين أن تسمعي أو تري أكثر من هذا؟ ما تفعلينه مدمر.. وطالما كان مدمراً! أنت تهاجمين الناس حتى لايعود بوسعهم احتمالك..
ـ جاك!
ارتجف صوت دونا لأن صاحب الدعم الذي كانت تعتمد عليه دوماً انسحب بعيداً.. أضاف جاك يتوسل إليها: واجهي الأمر دونا! ولو لمرة واحدة في حياتك.. واجهي ما تفعلين.. وأوقفيه! فيلكس يحب هولي، وهولي تحب فيلكس! ولا شأن لهذا بك أو بي أو بأي أحد آخر.. هما فقط! وأنت تجعلين الأمور أسوأ مما هي.
ـ لكنك تعرف..
ـ أعرف فقط أنني تعبت من كل هذا دونا.. تعبت حتى الموت.. سأجلس هنا بكل هدوء أنتظر مع هولي وأمها.. وإ ذا كان هناك شيء أستطعيه من أجله وأجلها فسأفعله ولك أنت أن تفعلي ما شئت..فلست أهتم.. لم أعد أهتم.
ـ جاك أنا..أنا آسفة..
ـ لا يكفي أن تكوني آسفة! إن لم تستطيعي أن تكوني لطيفة، فاذهبي.. اختاري بين الأمرين! هل هذا واضح؟ كيف يمكن أن أوضح أكثر من هذا؟ فكري ولو لمرة واحدة في شخص آخر غير نفسك.
تقدم بضع خطوات و أطبقت يده القوية على كتف هولي: هل هناك ما أستطيع تقديمه لك هولي؟
هزت هولي رأسها لأنها لم تكن قادرة على التفوه بكلمة أخرى. أضاف جاك: سيدة رايدال.. ليس هناك عذر أقدمه لتصرف زوجتي.. وليتكما تتحملان معي.. إذا اختارت زوجتي البقاء.. فليكس كابني و كأنه من لحمي ودمي..و..
قاطعته هيذر بوقار: يجب أن تبقى سيد ويستبرون بالتأكيد. وأنت أيضاً سيدة ويستبرون.. أعتقد أن أوقاتاً كهذه هي التي تخرج أفضل و أسوأ مافينا .. فهل ننسى هذا.. هذا المشهد السيء وندعو الله أن يشفي فيلكس؟
لم يكن لدى هولي فكرة كم انتظروا حتى جاءهم الخبر وفي هذا الوقت لم تنطق دونا بكلمة أما جاك فكان يكلم هيذر ما بين الوقت و الآخر وترد عليه بشيء.. أحست أنها مرهقة، مخدرة! وحينما سمعوا أخيراً وقع أقدام أخرى في الممر، لم تستطع هولي الوقوف على قدميها.. ودخل رئيس الجراحين إلى غرفة الانتظار، ترافقه رئيسة الممرضات.
ـ آه.. سيدة ويستون.. زوجك يتقدم.
تهاوت هولي، فأحاطت ذراعي أمها بخصرها، تمسكها بشدة.
ـ سيبقى في غرفة العناية المركزة لبعض الوقت.. لكن حالته ثابتة.
همست:" و.. ساقاه..؟".
ابتسم الجراح: حسناً.. لن يستطيع القفز لفترة لأن حوضه مكسور.. أما الشلل المؤقت فسببه عصب تلقى ضغطاً، ولكننا خففنا الضغط وأنا لاأرى أي ضرر دائم في هذا المجال .. أما الضلعان المكسوران ، فلم يمزقا شيئاً خطيراً .. وكنا محظوظين هنا.. أما وجهه فسيتطلب المزيد من العمل ليعود إلى حالته الطبيعية. وغني عن القول، أن مظهره ليس جميلاً في الوقت الحاضر. لكنني على ثقة أنه أفضل حالاً شرط أن تقوم بنيته القوية بعملها..
قاطعته هولي: هل أستطيع رؤيته؟ أن أكون معه.
رد الجراح بلطف: لاأرى ما يمنع.. سترافقك الممرضة إلى غرفته.. لكنك تعرفين، سيدة ويستون، أنه لن يستعيد وعيه قبل ساعات.. والواقع أنه سيبقى تحت تأثير المخدر لبضعة أيام.
ـ يجب أن أبقى معه.
نظر الجراح إليها مفكراً، وهز رأسه: أيتها الرئيسة..دبري سريراً للسيدة ويستون في غرفة زوجها.
قالت أمها بسرعة: سآتيك ببعض الأشياء صباحاً هولي.
قال جاك:" وسأرافق أمك إلى الفندق".
أمسكت دونا بيدها: هولي..
ثم أرخت يدها وهزت رأسها: اذهبي.. اذهبي إليه.. أعطيه مالا أستطيع أن أعطيه إياه.
تقبل دونا لها، لم يؤثر في تفكيرهولي لأن لاشيء مهم عندها في هذه اللحظة غير البقاء إلى جانب فيلكس لدعمه. فإ استعاد وعيه، ولو لوقت قصير، قستكون موجودة معه..يجب أن يطمئن أنها موجودة هناك من أجله.
ولن تتركه أبداً.. ستمسك بيده وتبقيها.. ليعي أنها هناك. وستكلمه.. وتخبره بكل ما سيفعلانه معاً لقد بدأ السهر الطويل.

14ـ افتحــــــــــــوا الأبواب..الحب قادم!





المرة الأولى التي استعاد فيها فيلكس وعيه، لم يكن صافي التفكير كلياً.. وأخذ يتمتم دون توجيه الكلام لأحد: إنها أصعب لعبة كرة قدم لعبتها بحياتي.
ثم نظر إلى هولي دون أن يتعرف إليها: هل هزمناهم؟
أكدت له:" أجل..لقد كسبنا".
ـ هذا ما يستحقونه.
وغاب عن الوعي مجدداً.
أعلمتها الممرضة لأن فقدان التركيز أمر متوقع خاصة بعد الجراحة التي خضع لها.. عقله سليم لذا لا داعي للقلق.. من المحتمل أن تكون المرة الأخيرة التي أدخل فيها إلى المستشفى بسبب إصابته بلعبة كرة قدم. فغالباً ما يصد عقل المريض، صدمة الحادثة لأيام.
استرخت هولي قليلاً.. لكن نصيحة الممرضة جعلتها تدرك أن عليها طمأنته لذا شرعت تتحدث إليه برقة، دون أن تعرف ما إذا كان يسمع شيئاً مما تقول. في النهاية، تملكها الإرهاق. وأسندت رأسها قرب اليد التي تمسك بها.
أيقظها الضغط المؤلم على أصابعها.. راحت يد فيلكس تشد على يدها بقوة جبارة، لكن عينيه ظلتا مغمضتين وبدا فمه خطاً مشدوداً.. أهو عذاب نفسي أو جسدي؟ هذا العذاب كان يظهر على أصابعه التي سحقت أصابعها بقوة.
لكنها تجاهلت الألم، لن تهتم حتى لو كسر لها أصابعها إذا كان هذا يريحه.. تكلمت بسرعة: فيلكس.. ما أنت فيه مؤقت.. ولسوف تخرج منه سالماً معافى.. أصمد فقط حبيبي فشفاؤك سيستغرق بعض الوقت، لكنك ستنجح.. المسألة مسألة وقت قبل أن تقف على قدميك مجدداً وقبل أن تفعل ما تشاء. لن تكون مقيداً، أو عاجزاً بأية طريقة .. يجب أن تعيش يا حبي فأنا بحاجة إليك فيلكس والأهم أن طفلنا بحاجة إليك.. لايمكن أن تسمح لشيء يمنعك من رؤية ما أردته دوماً..لم تعد بمفردك.. ولن تكون بمفردك بعد الآن..
استرخت أصابعه تدريجياً وشرعت تداعب أصابعها قليلاً.. ثم استرخت مجدداً. تنهدت هولي تنهيدة عميقة، ورفعت يده إلى خدها بلطف. إنها بحاجة لاستعادة الإحساس.. مررت أصابعه على بشرتها كما كان يفعل دائماً.. وعندما عادت لتريح رأسها مرة أخرى إلى جانبه، أبقت يده على خدها.
حين استيقظت مجدداً جاء استياقظها على وقع لمسات خفيفة كالريش، فهمست دون أن تكون متأكدة ما إذا كان صاحياً أم لا: فيلكس؟
ـ أنت حقيقة؟
رفعت رأسها بحدة.. كانت عيناه شبه مفتوحتين.. لكن الألم الرازح فيهما اشتد حدة ليتحول إلى شيء آخر.
ـ كنت..معي؟ ..تتحدثين إلي؟
ردت بصوت أجش:" أجل..أجل".
ـ ظننت أنه حلم.
ـ ليس حلماً فيلكس، كل ما قلته حقيقية.
ـ هل قلت..هل تكلمت ..عن طفل..هولي؟
ردت من قلبها: أجل..سأنجب طفلاً فيلكس، بعد ثمانية أشهر.. وسأحتاج إليك لتجلس معي لأنني لاأعرف كيف أنجب طغلا، ويجب أن تمسك يدي.. و.
ارتسم شبح ابتسامة على فمه: ولن أتركك أبداً.
أكدت بشراسة: " ولن تتركني أبداً".
أغمض عينيه مجدداً.. لكن الابتسامة الضعيفة تعبت على شفتيه عدة لحظات قبل أن تتلاشى ..
أخيراً استطاعت هولي الاستراحة والاطمنئان لأنها باتت متأكدة أن فيلكس لن يترك حياته تتسلل منه .
نامت نوماً عميقاً طويلاً وكان جسمها يصرّ أن يستعيد نشاطه .لم تعِ لمدة أربع وعشرين ساعة
دخول وخروج الأطباء ، أو أي شيء آخر ... وعندما فتحت عينيها أخيراً ، وجدت أمها جالسة إلى جانبها .
قالت الأم بسرعة : لابأس عليك عزيزتي .. فيلكس يتقدم بشكل رائع .
جلست هولي بسرعة لتتأكد . وجدت أن فيلكس مايزال في الغرفة معها ، الجزء الأسفل من جسمه مربوط إلى آلة سحب .
أضافت أمها بسرعة : الأطباء راضون عن تقدمه ، ولاأثر للالتهاب في جروحه ، وكل شيء في طريقه للشفاء كما يجب .
_ شكراً أمي . الآن ، ما تحتاجين إليه هو حمام ساخن وملابس نظيفة .. لاتجادلي هولي .. يجب أن تحافظي على قواك .. سأبقى هنا مع فيلكس إن استيقظ وسأل عنك .
_ وهل فعل هذا أثناء نومي ؟.
_ لاداعي للقلق .. كل ماأراد أن يعرفه ، هو ما إذا كنت بخير.. كل من يسمعه يعتقد أنه لايهتم بأي شيء آخر .
أحست هولي بخفة قلبها ، وعانقت أمها وهي تشعر بعاطفة جياشة منعتها من التعبير عن نفسها بالكلمات . ربتت الأم ظهر ابنتها : اذهبي الآن .. وتجملي لزوجك .
ابتسمت هولي لفلسفة أمها في الحياة .. لكنها لم تنتقدها .. ليس هذه المرة .. أن تبدو جميلة لأمر صناعي لكن له مكانته الآن .. وهي مستعدة للقيام بأي شيء سيجعله أفضل حالاً .
كان مستيقظاً حين عادت منتعشة تماماً ، وتركتهما هيذر رايدال بكل لباقة بمفردهما .
قال فيلكس باستسلام :
_ سأبقى شهراً على هذا الحال .
_ تقريباً .
_ أعرف أنني سأبدو على غير ما يرام ، وسأبدو مشوهاً ، هولي .
_ على المدى القصير ..أجل .. لكنهم يقومون بالمعجزات في جراحات التجميل هذه الأيام . على أي حال ، الجروح لاتهم ، إلا إذا تركتها تؤثر في تفكيرك ... أعرف هذا .. كان لدي ندوب كثيرة .
التوى فمه : كنت أفكر ما مدى تأثرك بها فمن الصعب على الزوجة أن تحاول تخبئة زوجها .
_ أهذا كل ما أنت فيلكس ؟ مجرد وجه ؟
كانت تتحداه .. تهاجم الجدار الذي سيبنيه بينهما قبل أن يضع الأساس .
_ أتظن أن هذا كل ما يهمني ؟.
لم يرد فوراً وأحست هولي بتوتره .. لكن من المهم أن يفكر ملياً في ما قالت وأن يقيس بالضبط وزن الحقيقة وألا يسمح لشيء بالتأثير في حكمه . لذا لم تسارع للحديث عن تجربتها .
قال بجد :
_ هولي ، لست مغفلاً .. بل أنا واقعي وما زال عندي حياتي ، وهذا أمر إيجابي .. هناك أشياء أرغب في القيام بها .. وأن أكون أباً لطفلنا أحد الأشياء .. ولأجل هذا .. سأبقى دائماً ممتناً لك ، لكنني أعرف أن التغيير يولد التغيير ، في الأسباب والتأثير .. ولكن يبقى هناك بعض ردات الفعل التي لايمكن السيطرة عليها .. وبصراحة ، أفضل أن أتذكر ما كان بيننا على أن ..
_ على أن تراني أجفل من منظرك .. أليس كذلك فيلكس ؟ فهمت ما يعنيه .
_ شيء من هذا القبيل .
لوت السخرية فمها قليلاً وردت :
_ أتذكر ذلك الصباح الذي التقينا فيه على مائدة الفطور لنناقش أمر لوحة أبي .. لقد صنفتني وقلت إني إحدى الجميلات التي تؤمن أن الألماس أفضل صديق لها .. لم تكن يومذاك تعرفني . ولكنك ما زلت تجهل أشياء كثيرة عني فيلكس . أترى ، أنا لاأفكر أنني جميلة .. فأنا الشخص الذي يعيش وراء هذا الوجه ، مهما كان مظهره .. ولقد صممت الرأي على هذا منذ زمن بعيد ، منذ كانت أمي تقرف من مظهري .
_ منك ؟ لماذا ؟
_ لأنني كنت مشوهة .. ففي سنوات المراهقة لم يكن هناك ما يمكن لأحد أن يفعله من أجلي . كنت أعاني من عدم توازن هرموني جعل وجهي في أفضل الحالات ، أضحوكة اجتماعية .. حتى بعد أن توازنت هرموناتي ظلت الندوب التي محوتها أخيراً بعلاج خاص بأشعة اللايزر .
التقطت يده تمررها على خدها :
_ هذه البشرة التي تشعر بها عمرها فقط سبع سنوات .. قبل هذا .. تعلمت الكثير عن الناس ، تعلمت وسائل السيطرة التي أستطيع بها إيقاف أي شخص أو أي شيء عن سحقي . وتعلمت ما هو مهم حقاً لي .. أو تعرف ماذا وجدت أنه الأهم ؟ الأمر بسيط .. الأقل أهمية فيلكس ، هو الجمال لايتعدى عمق البشرة .
سحبت نفساً عميقاً :
_ والآن حبيبي ، ستتعلم هذا أيضاً .. وكنت أتمنى ألا تضطر إلى ذلك لأن الأمر قاس ومؤلم ولا
أتمنى هذه التجربة لأي إنسان ..لكن هناك شيئاً واحداً يمكنك الاعتماد عليه فيلكس وهو أن عيني
لن تجفلاً منك أبداً .. ولن تراني أكثر ألماً .. أو أطلب ، أو أدعو الله ، أن تكون الأمور مختلفة . لأنها ليست مختلفة .. ويجب تقبل هذا .
تمتم مستغرباً : " من هنا تعلمت السيطرة " .
_ السيطرة .. وأشياء أخرى . لقد اتخذت قراراً على قواعد خاصة بي أعيش عليها .يوم التقينا أحسست الشيء عينه فيك .
ابتسمت لأنها رأت الإعجاب يزحف إلى عينيه غصباً .
_ لقد دعوتني بالملكة المتوحشة الهمجية .. في فكري كنت أنت الملك المحارب القادر على غزو العالم وجعله ملكه ، هذا شيء في داخلك فيلكس .. شيء يثير رد فعل عميق في داخلي .. وأنت الرجل الوحيد الذي أثر بي أو سيؤثر بي يوماً .
ازداد عمق صوتها وهي تردف : أعرف أنك تحبني فيلكس . وقد لاتخبرني هذا أبداً ، ولا أهتم . ففي أعماق قلبي ، أعرف أنك تحبني .. كما أعرف أنني أحبك .. وأنت عندي مميز وشخص فريد .. وليس بمقدور أي رجل أن يحل مكانك .. أنت .. الشخص الذي يعيش وراء وجهك .. أنت هو مكاني .. وهذا هو كل المهم لي ، ولاشيء غيره . أنا أنتمي إليك وسأقوم بأي شيء ..
نعم أي شيء ممكن بشرياً ، لأبقيك معي .
اشتدت يده بقوة ساحقة على يدها.. مرة أخرى لم تحتج.. هذا وقت اتخاذ القرار، كل قوى حياتها متوقفة تنتظر رده. أغشت مشاعر متشوشة عينيه، للحظات.. لكن، حين تكلم، كان صوته رقيقاً هادئاً: سيدة ويستون.. لقد عقدت الآن اتفاقاً.. لست واثقاً إن كنت لن تندمي، لكنك مساومة رهيبة.. وامرأة شرسة. هذه المرة حققت صفقة بكل تأكيد.
ظهر ارتياحها الداخلي في ابتسامة أضاءت وجهها بجمال حبس أنفاس فيلكس، وجعله يتساءل عما إذا كان مصيباً بتمسكه بها:حسناً.. سيدة ويستون أعتقد أن الوقت حان لتتعلمي شيئاً من المساواة..من الجيد القول إنني شريكك، لكن يجب أن تعني هذا حقاً.. وأنوي إلزامك بالاتفاق، مهما يكن.. وأعتقد أننا سننجح معاً.
بعد أيام لم يعد هناك داع لبقاء هيذر.. فقد مرت الأزمة..ولاحظت هولي تململ أمها، فقالت لها إن جول ربما بدأ يشعر بالوحدة. لكن أمها كرهت الرحيل ثم ما لبثت أن وجدت الأمر منطقياً فكل شيء يسير على مايرام وهكذا عادت إلى بوسطن،آمنة في نفسها أكثر مما كانت يوماً في حياتها. وعندما ستأتي ثانية ستطلب من جول مرافقتها وسيكون ذلك عندما ترزق هولي بطفلها.
كان الشهر الذي قضاه فيلكس في المستشفى امتحاناً قاسياً للصبر، ولكن هولي بذلت ما بوسعها لإنارة أيامه.. انتزعت اللصوق عن الجروح في وجهه ودهشت هولي للعمل الرائع الذي قام به الجراح. لكن فيلكس تذمر متجهماً بأنه يبدو كابن فرنكشتاين وهذا ما أثارها.. فمن هو كي يتذمر؟ ضحكت هولي، وقبّلت الالتواء الساخر على فمه، وقبّلت الندوب التي تظهر مدى حبه لها تتركه يعرف أن لاشيء فيه ينفرها منه. ومع مرور كل يوم، لم يتغير تصرفها. وشيئاً فشيئاً أخذ الاسترخاء سبيله وبالتدريج بات يؤمن أن مظهره غير مهم بالنسبة لزوجته، حتى أنه بدأ يصرف النظر عن الندوب كأمر غير مهم له. فهذه الندوب سرعان ماتزول.. ولكنه تذكرها بحدة على يد أمه وزوجها.. وردة فعلهما.
حاول جاك إخفاء صدمته و التصرف بشكل طبيعي.. لكن الصدمة كانت في عينيه وفي تحيته.. أما أمه فقد حدقت إليه والدموع تجري على خديها.. أبعد فيلكس وجهه عنها ونظر إلى هولي الجالسة قربه.. اخترقت عيناها الرماديتان عينيه.
وعرف.. عرف ما مرت به.. وما تفوقت عليه.. قوتها الذاتية الداخلية أشعلت المعدن الذي في داخله.. فهذا شيء يجب أن يعايشه لفترة قصيرة فيما كان عليها هي أن تعايشه لسنوات. وتصاعد الاحترام الذي يكنه لهذه المرأة، زوجته، إلى درجة ملأت روحه ببهجة لم يعرفها من قبل..إنها مميزة.. فريدة من نوعها.. وهي له.. وستبقى هكذا دوماً.
قال:" أكدت لي زوجتي أن بالإمكان فعل المعجزات بالجراحة التجميلية هذه الأيام..لذا، ابتهجي أمي.. سأبدو أفضل بكثير بعد الجراحة التالية.. وإن يحدث هذا.. فماذا يهم؟ لدي حياتي ولدي أمور كثيرة أقلق عليها عدا قليل من التشوّه".
نظرت دونا بتساؤل إلى هولي، ثم هزت رأسها وسحبت نفساً عميقاً وواجهت بعمق ابنها مجدداً: أمامك حياتك.. قال لي جاك إن ماحدث كان ضرورياً.. فقد وضع أخيراً كل أشباح الماضي في مكان تستريح فيه..
قاطعها فيلكس بحزم: لا..أمي! ليست أشباح الماضي في سوى عقول الناس.. والذي حدث كان للمستقبل.. لو وصل ذلك الثور إلى هولي، لقتلها. كل مافعلته هو أنني حميت مستقبلي.. ومستقبل حفيدك.
قالت الأم بحنان: أنت محظوظ لوجود هولي كزوجة لك.. وأنا مثلك محظوظة لأنني متزوجة من شخص كجاك.
مرة نظرة استغراب وعدم تصديق على وجه جاك، الذي شعّت عيناه حتى بدا أصغر بسنوات.
قال بمرح: من الرائع أن يكون المرء حياً.
ثم عبس في وجه فيلكس: كيف تشعر الآن بعدما عرفت أنك ستصبح أباً؟
منذ تلك اللحظة أخذت الزيارة منحاها الطبيعي العائلي.. وأدهشت دونا الجميع بالقول إنها وجاك سيزوران

بندنير داونز في المستقبل لرؤية حفيدهما.. وكان هذا هو الإعلان الحقيقي أن الماضي مضى وشأنه، وأن المستقبل سيكون صافياً خالياً منه.
أحست هولي بسعادة عميقة لأن الأمر انتهى أخيراً.. ولأن جيل الألم تخلى عن مكانه لجيل جديد.. جيل يأتي فيه الاحترام والحب والعائلة في المقام الأول. وطفلهما سيولد، ويترعرع في هذا الجو. فماذا يريد أي شخص غير هذا؟ ولن يمزق غير هذا؟ ولن يمزق شيء هذا الحب. لن تسمح لهذا أن يحدث.. أبداً.
مع ذلك ، كانت هولي متعجبة في سرها للطريقة التي تصرف بها فيلكس بعد خروجه من المستشفى، ليواجه مجتمعه الحقيقي مرة أخرى. بدا أنه لم يكن يهتم بالنظرات المختلسة إلى ندوب الجروح على وجهه أبداً..كان يرفع رأسه عالياً ويسير منتصباً.. إنه رجل، وليس ولداً..رجل بين الرجال..
حين عادا إلى بندنير داونز، كان هو من أراح الجميع بمرحه وقبوله بوجهه المجروح. و انمحت الصدمة والشفقة بسرعة لتحل مكانها سعادة الجميع بأنه ما زال حياً.. واستعادت الحياة مسيرتها الطبيعية وعاد العمل وكأنه لم يتأثر بشيء. تحولت الأسابيع إلى أشهر.. وتحسرت هولي لأنها فقدت شكلها الجميل.. قالت ذات صباح: يجب أن أشتري كومة من ثياب الحمل حين ننزل إلى أيدلايد لجراحتك التالية فيلكس، لقد أصبحت سمينة.
تقدم إليها ولف ذراعيه حول وسطها وتحسس بطنها بحنان.
تنهدت بسعادة: على الأقل، مازلت تريدني.
تمتم:" سأريدك دائماً".
وداعب أذنها برقة.
ـ حتى وأنا منتفخة كثيراً؟
أدارها لتواجهه.. لم تكن عيناه مغشيتين برغبة بها لكنهما كانتا تحترقان بالمشاعر.
ـ كيفما بدوت..أو ستبدين يوماً..أنت امرأتي هولي..زوجة فكري وروحي وقلبي. ولا أحد يمكنه الحلول مكانك.. لأن هنا هو أعماق مكانك.. لم أعد أقدر أن أبعد نفسي عنك، حتى ولو أردت.. وأنا لا أريد. أعرف أنك لست بحاجة لأعترف لك بهذا..لكنني أحتاج أن أقولها.
وتابع فيلكس: أريد منك أن تعرفي أنني أحس بالشيء الذي فيك، والذي يناديني. ولهذا تزوجتك..لهذا لم أستطع إبعاد نفسي عنك مع أن تحفظي الذاتي كان يملي علي العكس.. أنت الرد على كل ما أردته يوماً.. وأن أقول لك.. أحبك..لأمر بسيط. سأحب طفلنا..أما أنت..
لف ذراعيه حولها وسحقها إليه: أنت ..من أتمسك به. أنت من لن أتركها أبداً.
وأحست بقلبه يخفق على صدرها.. مع قلبها.. وعرفت أن كل الأبواب أصبحت مفتوحة أخيراً..و أنها لن تقفل بعد اليوم أبداً.



تمــــــــــــــــت بحمد الله





ارجوا ان تحوز على اعجابك :sm92:

((من فضلكم لا تنسوا التقيم))

:no no::no no::no no:



روووووووووووووووووزوووووو ووووووووووووووووووووووووو وووعة

رنى حلو 22-07-16 01:57 AM

روووووووووووووووووووووووو ووووووووووووووووووووووووو ووووعة
اكتر ما اتخيل
لماذا لاتبتعدين مع خمسة ملاين دولار؟
حددى المبلغ الذى تريدين, فهل هناك ما هو أكثر؟
أنا أريدك فليكس ولن اقبل بشىء آخر.........
لامال ولا الماس .....لا اريد الا انت.
كانت اصابعة تحطم عظام موصلها:لن تستطيعى ابدا ان تفعلى بى ما فعلتته امى بأبيك...
لن اسمح لاية امرأة ان تؤثر فى حياتى أو تغيرها .....ولن احارب من اجلك ابدا,ولن اموت من اجلك بكل تأكيد. . .فهل تفهمين ذلك.
لقد فهمت - - - فيلكس ويستون رجل يختبىء وراء رداء المد نية.
لكن هذا لايخفى الجانب المتوحش منه.انة لايحترم النساء ابدا بل يستغلهم لما يشاء
ولا يقبل ان يقيدة شىء،لسوف ينتقم منها...............................
والسؤال هو اى نوع من الاسلحة سوف يستخدم.
1- بأى ثمن
سألت هيذر رايدال بسخط: لماذا تريدين العودة إلى أستراليا؟ .. أنا لاأفهمك هولي.وهنا تكمن المشكلة كما تظن هولي.. إذ لن تصل هي وأمها إلى التفاهم فالشرخ القائم بينهما بدأ منذ زمن طويل، والرابط الوحيد بينهما هو رابط الدم. فرغم كل مايقال وما يجري، تبقيان أماً وابنتها. ولهذا فقط تحاول هولي المحافظة على السلام.
ردت بهدوء:أريد العودة، أمي.. هكذا بكل بساطة . سبق أن قلت لك وقت الميلاد عندما عدت إلى هنا إنني سأبقى لستة أشهر فقط. زرعت هيذر رايدال غرفة النوم ذهاباً وإياباً بينما ابنتها تتابع توضيب ثيابها في الحقيبة قديمة شهدت كثيراً من السفر.
الواقع أنها لم تشخ أبداً .. فتموجات شعرها الأسود مصففة بعناية وجسمها النحيل أنيق الثياب . على وجهها نظرات النضوج ، لكن بشرتها لم تتأثر بسنواتها الست والأربعين ، فلاخطوط تعب ، أو إجهاد ... وهي قادرة على ترك كل هذا خلف ظهرها حتى وهي متكدرة ، كماهي حالها الآن .. آه! ماذا تفعل؟ ستبقيان دوماً على طرفي نقيض ، وهولي تفهم الدافع الذي أوصل أمها إلى قمة النشاط الاجتماعي ، فالاندفاع والهوس اللذان تتصف بهما أمها ، صفتان موجودتان لديها أيضاً.
قالت الأم بمرارة :
_إنه .. ذلك الشيء .. الذي تشعرين به نحو أبيك . أليس كذلك ؟.. ماذا تريدين أن تعرفي أكثر بحق الله؟
فكرت هولي : كل شيء ! لكنها لم تقل هذا . حتى سنة مضت ، لم تكن تعرف شيئاً عن والدها الحقيقي .. ولولا الرسالة التي وصلتها ، تعلمها بالإرث الذي تركه لها ، لكانت على حالها تجهل أي شيء عنه .. ساعتئذ فقط ،قيلت لها الحقيقة .. وعلى مضض.
لو كان الأمر ممكناً، لمحت هيذر رايدال زواجها الأول من كل السجلات .. ولتظاهرت أن ايرول ماكنافش غير موجود أبداً، وأنه ليس أباًلابنتها .. كرهت كل شيء يذكرها "بغلطة الشباب "، فمنذ ثلاثين سنة ، لم يكن من المسموح لفتاة زرقاء الدم من بوسطن تريد الحفاظ على سمعتها ،أن تنجب طفلاً خارج نطاق الزوجية .. ووجدت أن الطلاق مقبول أكثر أمام المجتمع .
_ بعد زواج قسري لم يدم إلا فترة قصيرة طلق والد هولي زوجته التي تزوجت فيما بعد برجل فيه صفات الرجل الصالح للزواج ..
خجول من عائلة بوسطنية قديمة .. وهو مصرفي محترم ، وعماد من أعمدة المجتمع .. بعد الزواج تبنى هولي رسمياً لئلا يضطر أحد الى ذكر اسم ماكنافش . وما كان هذا ليحدث ،لولا الرسالة .. ساعتها فقط ،خرج كل شيء إلى العلن ، وسافرت هولي الى اسراليا بحثاً عن أب لم تعرفه قط . ولأن أمها تعتبر ايرول ماكنافش غير مناسب اجتماعياً، ثارت في نفس هولي مشاعر التعاطف والتضامن معه .. وما عرفته عن حياته أثار اهتمامها كثيراً بجيث لن تستطيع أن تستريح قانعة ، حتى تعرف السبب الذي دفعه إلى مافعله سابقاً ، وعليها أن تعود .. كان في تلك اللوحة الغريبة التي أورثها إياها مفتاح اللغز .. وهي متأكدة من هذا .. وبما أنها ستذهب الآن إلى أحد المعارض .. شخص ما ، من مكان ما ، قد يعرف ماتعني .
عرفت أن الأمل ضعيف والقرار الذي اتخذته جاثم على ضميرها، فوالدها حمل معه أسراره الى القبر. وربما يجب أن تتركها تستريح هناك.. لكن مافعلته لايمكن أن يضره الآن .. وتريد أن تعرف ! تحتاج أن تعرف! يجب أن تعرف!
قالت الأم بغضب: وماذا عن اليكسيس فالكنر؟
_ ماذا عنه ؟ تنهدت هيذر راندال، منهزمة بسبب لااكتراث ابنتها، وجلست على السرير الى جانب الحقيبة في محاولة لإجبار ابنتها على إعطائها الاهتمام الكامل .
_ هولي.. أنت في الثامنة والعشرين .. ألم تضجري من التجول في العالم؟ ومن العيش في أماكن غريبة؟.. أعرف أن على الشابات ألا يتسرعن بالزواج، لكن الرجال لاينتظرون الأبد لاختيار زوجاتهم.. واليكسيس فالكنرواحد من مشاهير العزاب في بوسطن.. وهو مهتم بك.. رفعت هولي عينين ملؤهما التهكم : انه يريدني حلية اجتماعية لحياته .. وما كان ليفكر في هذا منذ بضع سنين . أليس كذلك ؟
_أجفلت هيذر رايدال : لقد نسي الجميع هذا الأمر هولي . لكن هولي لم تنسه .. ولن تنساه أبداً. فما مرت به في مراهقتها غير أموراً كثيرة لديها .. ففي فترة مراهقتها انتشر حب الشباب على وجهها بشكل قبيح فأفسد حياتها . يومذاك لم يرغب أحد في مصادقتها فكان أن علمتها تلك الفترة معنى أن يكون المرء منبوذاً. كانت القسوة التي عاملها بها أترابها من المراهقين، خبيثة بما فيه لجعلها تتقوقع على نفسها بشدة وهذا ما دفع هيذر لاصطحاب ابنتها الى طبيب نفسي للعلاج.. ولكن لم يكن للدواء علاقة بأي مرض عقلي بل جاء من علاج عصري بأشعة اللايزر حرق كل الخلايا التي سببت لها التشوهات وسببت لها الحرج الاجتماعي .
بشرتها الآن رائعة، ناعمة كبشرة الطفل ، ليس فيها أي بثرة أو بقعة. وجسمها المترهل الذي كان يفتقر للرشاقة، امتلاء وأصبح متناسقاً مع بنيتها بطريقة أنثوية مذهلة .. وتعلمت كيف تقف منتصبة رافعة ذقنها . وأخذت العينان الرماديتان تردان نظرة أي شخص كان ، بجد وثقة بالنفس .. ولم تعد تخاف أحداً أو شيئاً . إنها الآن مقبولة احتماعياً .. ومرغوبة . حلية اجتماعية قد تشرف حياة أي رجل. قسمات وجهها الجذابة الصافية ، متوازنة كل التوازن.. ولكن هيذر رايدال كانت تفضل تعبيلااً أكثر مرحاً وحيوية على الجمال الهادئ الذي كان يبدو أحياناً أشبه بقناع يبعد عنها الناس. بينها وبين نفسها كانت تتمنى لو تفعل هولي شيئاً لشعرها الأسود الكثيف الذي تتركه طويلاً مستقيماً ومربوطاً خلف عنقها.. هذا الطراز المتزمت كان يناسبها ولكنه لايخضع للموضة التي تحسب لها هيذر حساباً كبيراً . لكنها تعرف أنها لو قالت شيئاً عن مظهر هولي ، فلسوف تمتلئ العينان الرماديتان بذلك التهكم اللطيف الذي تكرهه..
قالت متعبة: عم تبحثين؟ ماذا تريدين؟
_ ربما أبحث عن حقيقة الحياة.. من يعرف؟ما أعرفه الآن أنني لا أريد اليكسيس فالكنر، ولاأريد الحياة التي يريد مني أن أعيشها
_ لكنه حياة جيدة هولي .
وهذا موطنها .. فلماذا لايمكن أن تكون سعيدة هنا؟ ترى هيذر رايدال أن بوسطن وأهلها المميزين هي العالم الوحيد الذي يستحق أن يعرفه الإنسان، ولاترى أن هناك في العالم ماهو أفضل . أما هولي فتجد أن الحياة لاتستحق العيش، إن لم يكن هناك ماهو أفضل. لقد عاشت فترة المراهقة ببؤس كامل فهذا المجتمع الضيق التفكير يضع الأولوية للمظاهر ويفضلها على الإنسان.
ما إن أنهت دراستها الجامعية، حتى اتجهت إلى السفر. واستفادت من الامتيازات والحسومات التي يستفيد منها الطلاب الجامعيين وبهذا شقت طريقها حول أكثر أقطار العالم وكان أن تعرفت إلى طرق الحياة المختلفة وإلى العادات والقيم والأولويات المختلفة، التي كان بعضها أفضل وبعضها الآخر أسوأ . ولم تكن بوسطن بالتأكيد في أسفل الميزان، بل كانت أفضل بكثير. ولكنها لم تكن بالنسبة إلى هولي سوى سجن يجب أن تتخلص منه. وبعدما انسلخت عن مجتمعها لم تعد قادرة على الانسجام معه ، ومع الحياة التي تعيشها أمها قانعة راضية.
رفعت رأسها ، والتوى قلبها لخيبة الأمل والحزن الباديين في عيني أمها.. فقالت برقة: آسفة.. يؤسفني ألا أكون البنت التي أردت أن أكونها.. لكن ماهو مناسب لك قد لا يناسبني.. ويجب أن أسير في طريقي الخاص أمي.
هزت هيذر رأسها: لقد بذلت جهدي... ولايمكنك القول إن جول لم يكن أباً طيباً إذ بذلنا ما بوسعنا من أجلك.
قاطعتها هولي بسرعة : أرجوك.. لا تظني أنني غير ممتنة، أحبكما معاً ولا أريد منكما أن تتألما.. لكن الأمر.. رفعت يديها بعجز، إذ يستحيل أن تشرح لها الأمر دون أن تؤلمها ، وحاربت الإحساس بالذنب وصممت على عدم الاستسلام للابتزاز العاطفي.
_ أمي .. لقد اخترت طريقك.. فدعيني أختار طريقي.
صاحت الأم بمرارة: لقد تخلى عنك دون أن يلقي ولو نظرة إلى الوراء.
تستطيع هولي أن تتصور كيف أُجبر ايرول ماكنافش على الهروب من الزواج، دون أن يترك له المجال ليقف على قدميه بالنسبة لحضانة طفلته.. فلاشك أنه آمن أنها ستكون أفضل حالاً بدونه.. ولاشك أن هيذر رايدال هي التي أفهمته هذا. لكن ايرول ماكنافش لم ينس ابنته.. ولاتستطيع هولي أن تشرح لأمها هذا التعاطف الغريب الذي تحس به معه ، مع أنه الآن ميت.
قامت بجهد أخير للسلام: أمي.. لن أدير ظهري لك، بل سأبقى على اتصال، كحالي دائماً .. وأنا آسفة إن كان ذلك لايكفيك .. إنما يجب أن أعيش حياتي الخاصة كما أراها مناسبة.. ألايمكن أن نترك الأمر على هذا؟
عرفت هيذر أنها هزمت فالنظرة البادية على وجه هولي حذرتها من أنها تدفعها كثيراً .. ويجب أن تبقي الباب مفتوحاً حتى تعود ففي يوم ماقد ترى ما هو الأفضل لها.. على أي حال، هولي ابنتها هي أكثر مما هي ابنة ايرول ماكنافش.
لكن هيذر رايدال لم تكن تعرف، ولن تعرف أبداً ، الإحساس بالحرية الذي رفع روح هولي المعنوية وهي تطير من بوسطن في الصباح التالي، في طريقها إلى بلد آخر في الجهة الأخرى من العالم. ولايمكن لها كذلك أن تتعاطف مع المشاعر التي كانت ثائرة في نفس هولي بعد خمسة أيام من هذا ، وهي تقف في معرض الفنون في " نيو ساوث ويلز" تنظر إلى لوحة "أيرل ماك".. المختلفة عما تبقى من اللوحات.
الشوق إلى المعرفة اختلط مع الشعور بالذنب. ومنذ اللحظة التي شاهدت هولي اللوحة ، أحست أن فيها معنى خاصاً ومشاعر كثيرة عصرت قلبها بطريقة لايمكن وصفها.. فما كان يجب أن تضعها في معرض عام.. ومع ذلك تغلب الاندفاع لمعرفة ماتعنيه، على أي اعتبار آخر.. ليت المزيد من الناس يشاهدونها وليت أحداً يجيب عما تتساءل به داخل نفسها!
وهل من الخطأ أن ترغب في معرفة كل شيء عن أبيها؟ كانت صورة غريبة.. متوحشة، لكنها مذهلة. فيها الشمس تغرب من وراء سلسة تلال كلسية حمراء، وبقايا أشعة المرجان الوردي تختفي رويداً رويداً.. مقدمة الصورة عبارة عن سهل منبسط من القش الشاحب، محاطة بلون أزرق شاحب تندفع منه أشجار " الباوبات" الاستوائية العملاقة... في الزواية اليسرى العليا وجه امرأة
مندمج بشكل غامض مع السماء ، كجزء منها ، ومع ذلك فهو منفصل عنها .. بشكل يترك فيك حنيناً مؤلماً لا يمكن إشباعه .
_ لم يعط والدها الصورة اسماً ، ولم يوقعها . لقد قال لجيوفري هامينغر إن اللوحة يجب ألاتباع ، مهما كانت الظروف .. ومع أن اليد التي رسمتها كانت دون أدنى شك يد أبيها ، فقد كانت اللوحة مختلفة كل الاحتلاف عن سائر أعماله .. ليس في الشكل فقط ، بل في الموضوع .
أحست هولي أن هذه الصورة مفتاح للسنوات الضائعة . والمفتاح للغز سبب تحول ايرول ماكنافش عالم الجيولوجيا ، إلى "ايرل ماك " الفنان المتوحد المنطوي . المنعزل الشاذ ، الذي أمضى السنوات العشرين الأخيرة من عمره في أقصى شمال ساحل "كوينزلاند " في "بورت دوغلاس " .. وطول هذه السنوات لم يكلم أحداً عن ماضيه ، ولم يعرف أحد في "بورت دوغلاس " أن له ابنة حتى ظهرت هولي مطالبة بإرثها .. ولكم كان قدومها مفاجئاً للجميع ! فالمعروف أن ايرل ماك يبتعد عن النساء بشكل خاص .
_ ماالذي جرى له في تلك السنوات ، ما بين نهاية زواجه القصير من أمها ووصوله إلى بورت دوغلاس ؟ ماالذي غير حياته بهذا
الشكل الجذري ؟ ولماذا لم يتصل بها قط ؟.. لابد أنه فكر فيها .. فكر في ابنته التي تخلى عنها .. وإلا ، لما ترك لها منزله
ولوحاته .
جاءها شخص من ورائها وشرع يقرأ من كتيب الإرشاد : الأحلام الضائعة .
علقت امرأة : غير عادية .. أليس كذلك ؟ مذهلة .
تعرف هولي خير معرفة أنها مذهلة وغير عادية . المنظر المرسوم هو لمكان ما في "كيمبرلي " وهي زاوية بعيدة من غربي استراليا . وهو آخر مكان استقر فيه الرجل المتمدن ، الأرض التي هي من الناحية الجيولوجية ، أقدم أرض في العالم .. وقد تعرفت إلى سلسلة التلال الكلسية في خلفية الصورة على أنها سلسلة تلال الملك ليوبولد ... ولكن ويا لسوء الحظ ! لم تجد أجوبة أخرى في رحلتها إلى هنالك . ولم ترض وكالة السفر بإيصالها إلى أبعد من الطرق السياحية المألوفة ، والمعتبرة آمنة .
قيل لها : هذه قمة النهاية سيدتي .. لايمكنك طلب العون من أحد .. هذا إذا ضعت !
_ كان السكان قلائل ، وبعيدين جداً عن بعضهم . يعيشون أساساً في مزارع المواشي ، حيث أصغر مزرعة لاتقل مساحتها عن
بضع مئات من الأميال .. هكذا رأت المغيب فوق جبال الملك ليوبولد ، وكان المشهد مذهلاً كما هو مرسوم في لوحة "الأحلام الضائعة " وهو الاسم الذي أطلقته هي نفسها عليها من أجل المعرض . ورأت سهول التبن الأصفر الشاحب ، أشجار الباوباب الغارقة في القدم .. ورأت كذلك سطحاً واسعاً من الصخر الرملي العتيق ذي الصخور المقطعة كقفير النحل ، ثم الوديان الضيقة
التي لاترى الشمس أبداً .. إنها ما من أحد تحدثت إليه ، استطاع أن يتذكر ايرول ماكنافش ، والمكان الذي رسمه بالضبط لم تستطع العثور عليه . مالذي حدث هناك؟ تنهدت محبطة وارتدت مبتعدة عن اللوحة.. كانت تشعر عرض اللوحة قد لايحمل إليها الردود التي تريدها فالأمل ضعيف، ضعيف... ولكن ماذا بإمكانها أن تفعل غير هذا؟ فرغم مساعيها الكثيرة للاستفسار عن أخبار والدها بقيت أمام حائط مسدود. لكن عندما طلب منها عرض مختارات من فن أبيها في معرض الفن الأسترالي، أتتها الفكرة.. فالمجموعة ستعرض في كل عاصمة ولاية في وهذه ليلة الافتتاح لمعرض سيدني .. وعدد الحضور البارز يدل على أن الكثيرين سيرون اللوحة .. وربما ستثير مشاهدتها نقداً قد يساعدها. جالت أنظارها بين الحضور .. حتى رأته!.. كان في الغرفة الملحقة بالمعرض ، لكنه كان يتجه نحوها الآن.. إنه أكثر الرجال لفتاً للأنظار .. لم يكن جميلاً أو وسيماً بالمعنى الكلاسيكي... لكن حضوره آسر ويصل إلى حد السيطرة . كان طويلاً ، يرتدي بزة قاتمة اللون مؤلفة من ثلاث قطع زادت من رشاقة قوامه الرياضي.. أما بشرته فشديدة السمرة ، وأما شعره فأشقر لوحته الشمس ، ليصبح بلون " الكاراميل" وهو أملس.. وجهه آمر صارم قوي،وقسمات جبينه وخديه وخطوط فكيه صارمة ، غير مكتنزة ، وليس فيها خطوط ضعف . وكانت العينان غائرتين عميقتين .. أنفه معقوف تقريباً .. وشفتاه ممتدتان بحدة ومكتنزتان، ولكنهما تدلان أن صاحبهما لايصرف وقته كله على العبث .
كان بعيداً بُعد الأرض عن السماء عن اليكسيس فالكنر . أحست هولي نحوه بجاذبية شديدة تبعث على الاضطراب. تصورت هذا الرجل يقود عربة خيول إلى مناطق " الهنود الحمر" أو يقود فرقة جنود رومانية، أو يركب جواداً ويسير إلى جانب قائد كبير.. إنه قادر على وضع قوانينه الخاصة..
صرفت هولي عنها الأفكار الخيالية.. لقد سبق أن سألتها أمها: ماذا تريدين؟ وتساءلت هولي عما إذا كانت ستريد يوماً رجلاً مثله! سيكون من المثير حقاً أن تعرف الرد .. وابتسمت لتخيلاتها. لم تعرف هولي ما إذا أحس بنظرتها المتفرسة، أم لمح ابتسامتها .. لكنه عندما وصل إلى الغرفة، توقف ونظر إليها مباشرة .. طالما نظر الرجال إليها منذ أصبح وجهها نقياً من " حب الشباب" البغيض ..لكن لم يحدث قط أن نظر إليها أحدهم بهذا التوجه المباشر المدمر.
عادة ، كانت تصرف النظر عن مثل هذا الاهتمام بإظهار التسلية الساخرة .. لكن هذه النظرة هي أكثر من تقويم عابر لشخص مرغوب .. وأكثر من إبداء إعجاب بوجهها الخالي من العيوب ، وبجسدها الرائع التكوين .. إنه يقومها برباطة جأش وكأنه واثق أنه يستطيع الحصول عليها لوأراد . والسؤال الوحيد الذي يطرحه على نفسه ما إذا كانت تستحق العناء.
ورغم الثياب الأنيقة التي ارتدتها للمناسبة: البلوزة الأورغانزا البيضاء ذات الأطراف المزينة بالأسود، والتنورة الضيقة الحريرية السوداء، أحست هولي وكأنها عبدة تقف في معرض للجواري تنتظر سقوط المطرقة معلنة رسو المزاد على مشتريها. كان جسمها متوتراً ، وقلبها مرتجفاً .. لذلك حين لامس شخص ذراعها، كادت تقفز.
_ آسف لأنني أجفلتك.
إنه جيو فري هامينغز، تاجر اللوحات الفنية الذي اكتشف ايرل ماك، منذ سنوات .. ومنذ ذلك الوقت وهو يتعامل مع أعمال أبيها.. ابتسم لها .. إنه رجل أعمال، ممتلئ الجسم، دمث الأخلاق، لكنه شديد المكر، في أواخر الأربعينات من عمره. كان مسروراً لأنه يتعاون مع زبونة سيجلب له إرثها عمولة ضخمة.
سأل:" هل أنت راضية عن ترتيب لوحات أبيك؟ لقد أشرفت على الإضاءة بنفسي".
_ رائع.. حقاً رائع. لو كان والدي على قيد الحياة وشاهد المعرض الآن لشعر بسرور عظيم .. اللوحات جيدة.. أليس كذلك؟
_ إنها فعلاً جيدة ، وأنا مستريح لأنك لا تريدين البيع بسرعة .. فرسومات ايرل سيرتفع ثمنها كثيراً الآن وهو .. ميت.. وأتوقع أن يثير هذا المعرض المزيد من الاهتمام .. وكلما تماسكنا أكثر..
التفتت هولي نحو الممر ولكن الرجل كان قد أدار اهتمامه بعيداً عنها. كان يقف في المكان عينه ، لايتحرك وكأنه تحول إلى تمثال من حجر . ثم تحرك إلى الأمام وكأنه ملاكم يستعد لتسديد ضربة، أو على الأكثر كصاعقة تستعد للانقضاض.
اخترقت الصدمة قلبها لأنها أدركت أنه يحدق إلى لوحة الأحلام الضائعة، وماهي إلاثوان وخطوات قليلة حتى أصبح وجهاً لوجه مع اللوحة .. وأخذ يهز رأسه وكأنه لايصدق . بعد عدة لحظات، فتح كتيب التعريف الذي يحمله وأخذ يتصفحه باحثاً عن الشروحات.
قرأ ما كان مكتوباً ، ثم درس اللوحة مجدداً . وفي هذا الوقت تجعد الكتاب في يد اشتدت حتى أصبحت قبضة مغلقة .. ارتد وفي وجهه تصميم وعزم على البحث بين الناس في الغرفة . مرت عيناه بهولي بشكل عابر .. إنهما .. عينان خضراوان برقتا بوحشية إشارة إلى أنه لايتحمل أحداً أو شيئاً يقف في طريقه .
_ تحرك بسرعة في الغرفة قبل أن تستجمع هولي نفسها لتتساءل عما جذبه إلى اللوحة .. ولماذا بدرت عنه ردة الفعل هذه ؟ هل خاطب المنزل البدائي الغريب شيئاً ما في أعماق روحه ؟ لا... لأنه على ما يبدو صرف النظر عنها فجأة كما صرف أي اهتمام بهولي .
لاجدوى من بقائها في المعرض ، تنتظر ردات فعل الناس نحو اللوحة .. يجب أن تقوم بما هو إيجابي أكثر .. ابتسم بواب "الشيراتون "لها مرحباً وهي تدخل البهو .. كان الفندق في قلب المدينة ، والموظفين جميعاً ودودين .. ولقد نصحتها أمها : إذا كنت ستسافرين لامحالة ، فأقيمي في الشيراتون .. لأنه آمن .
نظرت هولي إلى الثريات المتلألئة ، وابتسمت لنفسها وهي تتذكر الفنادق والموتيلات الرخيصة التي أقامت فيها في السنوات الماضية . أما الآن فقد أصبح لديها المال الكافي لتدلل نفسها .. فلوحة ايرل ماك الأخيرة بيعت بما يزيد عن خمسين ألف دولار ..
وإذا كان جيوفري هامينغز على حق بشأن ازدياد الطلب على أعمال أبيها ، فقد لاتضطر إلى العمل ثانية أبداً .
_ أتتها فكرة وهي تستعد للنوم . إنها غير معتادة أن تكون صاحبة مبالغ كبيرة .. وهي لم تفكر في هذا في المرة الأخيرة التي ذهبت فيها إلى "كيمبرلي " لكنها تستطيع الآن استئجار طائرة هليكوبتر لتطير بها فوق المنطقة كلها .. وسيكون معها الصور التي التقطتها للوحة .. إذا تمكنت من تحديد أي مكان معقول ، يمكن للهليكوبتر الهبوط فيه . لكن ماذا يمكنها تحقيقه من هذا ، إنها لاتدري ..كانت هولي رغم التعب الذي بدا أنه يسيطر على كل عظامها، مستيقظة حين رن جرس الهاتف بعد ساعة.. نظرت إلى الساعة الرقمية الموضوعة على الطاولة الصغيرة قرب السرير، فأضافت فكرياً تسع ساعات إلى الوقت.. فلاشك أن والديها في بوسطن قد أنهيا فطورهما.. استندت هولي إلى الوسائد، ورفعت سماعة الهاتف ، لكن المكالمة لم تكن دولية.
قال جيو فري هامينغز: آسف لأنني أزعجتك، هولي .. ولكنني تلقيت عرضاً لإحدى لوحات أبيك ، وقد ضغط علي المشتري لإنهاء الصفقة بأسرع مايمكن.. هذا إذا وافقت .
تسلل شعور غريب من الترقب إلى ظهر هولي .. لماذا يتصل بها هذه الليلة ؟ ماسبب هذه العجلة وهذاالإلحاح؟
سألت:" ماهي اللوحة التي يريدها هذا المشتري"؟ لكنها عرفت الرد قبل أن تسمعه...
تمتم جيوفري:ـ الأحلام الضائعة. خفق قلبها بسرعة ثم توقف عدة ضربات . إنها على حق! تابع جيوفري على عجل بطريقة تدل أنه ملهوف للرد الذي سيسمعه منها.
ـ لقد أبلغنا الزبون أن اللوحة غير مخصصة للبيع.. مع ذلك، كان العرض الذي تقدم به.. المال ليس بعائق.. هولي. ولم أرغب أن أحمل على عاتقي رفض الأمر دون استشارتك .
ـ تعرف أنني لاأستطيع أن أبيعها.. سبق أن قلت بنفسك ماقاله أبي.
ـ أعرف.. أعرف.. لكنه ليس شيئاً نص عليه والدك في وصيته، وليس هناك من قانون يلزمك به.. وأنا واثق أنه ماكان ليلزمك بمثل هذه الأمانة لو عرف..
سحب نفساً عميقاً، وأردف: هولي.. المبلغ ضخم..
ـ ليس هناك مبلغ ضخم كاف جيوفري.
لقد طلب والدها عدم بيعها.. وكان يفضل إتلأفها على بيعها. ولاشك أن لها أهمية خاصة.
ـ ألاتظنين أن خمسة ملايين دولار مبلغ كاف؟ لم تكد تصدق أذنيها، وهزت رأسها وكأنها لم تسمع بشكل صحيح .
ـ لابد أنني أصبت بالصمم جيوفري.. أتسمح بأن تكرر هذا؟
ـ خمسة.. ملايين.. دولار! لزم هولي المزيد من اللحظات لتتمكن من استيعاب الأمر: لاأصدق أن هذا يحدث.
ـ ولا أنا.
لكنها أحست باللهفة التي يكبتها، فعمولة الملايين الخمسة تتدلى أمام عينيه. أخيراً تحرك عقل هولي بانطلاق. هناك من يريد هذه اللوحة بشكل ملح.. والسؤال هو: لماذا؟ هولي تريد معرفة هذا إلى أبعد الحدود .
ـ من المشتري؟
ـ لا أعرف.. تأتي العروض عادة عن طريق طرف ثالث .. فالناس لا يرغبون في الظهور تحت الأضواء. لكنني أؤكد لك أن العرض صادق، لا خداع فيه.
سحبت هولي نفساً عميقاً ، إذ عليها التفكير في هذا الأمر بحذر لاتخاذ القرار الصحيح ، وللوصول إلى ماتريد .. ثار الألم في قلبها فهذا ما كانت تأمل به من وراء عرض اللوحة .. عليها أن تكون حذرة لئلا تنسف الفرصة . كبتت انفعالهاوقالت: جيوفري.. قل للوسيط إنني بخصوص هذه اللوحة بالذات ، لن أتعامل إلا مع الأصيل .. وشخصياً، دون وكلاء.
ـ مهلك لحظة، سأتصل بهم على الهاتف الآخر.
انتظرت .. وكان توترها يزداد كلما مرت الدقائق. عشر.. خمس عشرة.. وخف أملها وهي تنتظر.. أحست أنها متعبة، لكن عقلها ظل يفكر بشكل محموم، والواضح أن طلبها يتلقى مقاومة.. مقاومة كبيرة..من هو الذي أن يعرفه أحد؟ كم شخصاً في أستراليا لديه مثل هذا الكم من المال ليرميه من أجل لوحة؟ هل هناك لائحة بأصحاب الملايين حتى تراجعها لتربط أحدهم بوالدها؟ أخيراً عاد جيوفري إلى الخط: هولي.. الأصيل يقول إنه لايريد إلاشراء اللوحة، وإنه غير مستعد لمناقشة المسألة أبداً .. ولهذا برأيي رفع الثمن بشكل غير عادي.. إنها مسألة قبول أو رفض.. الموافقة أو لا. يجب أن تقرري، فإذا تخليت عن هذا العرض فلن تستعيديه.
فكرت في الأمر بموضوعية.. ووجدت أن عليها المقامرة.. لم تلعب قط في رهانات باهضة كهذه من قبل.. لكن المبدأ واضح: إن لم تعرف من هو المشتري، فلن تعرف شيئاً عن والدها.. وإذا كان هناك شخص مستعد لعرض مثل هذا المبلغ، فهي لاتصدق أنها مسألة قبول أو رفض.. قد يكون الموقف هو القبول ، لكن ليس الرفض أبداً . ولاشك أن هذه خدعة للحصول منها قرار سريع.
على كل لن يقنعها شيء بالتخلي عن اللوحة.. إنها تعرف الآن ، ودون شك، أن " للأحلام الضائعة" ماهو مميز وخاص لشخص آخر غير أبيها.. سحبت نفساً عميقاً لأنها تريد التخفيف من انغعالها ونبضات قلبها قبل أن ترمي قفاز التحدي.
ـ لا..الرد هو لاجيوفري. لابيع بناء على هذه الشروط.. لكن.. إذا غير رأيه ، وأعتقد أنه رجل، فسأناقش المسألة معه.. يمكنه الاتصال بي إلى هنا، أوترك رسالة .. وحتى يكون على استعداد لإعطائي ماأريد جيوفري، فالرد هو لا!
سمعت هسيس أنفاسه وهو يكتم احتجاجه: هولي .. كما ترغبين.. هل تودين الانتظار لأنقل إليه ردك.
ـ أنا متعبة جيوفري.. اتصل مرة ثانية. الواضح أن جيوفري كان منفعلاً لم يصدق معه ردها.. لكنه ابتلع أي تعليق: متعبة؟ كما تشائين.وعلق السماعة.
انزلقت هولي جموداً عن الوسائد، محاولة الاسترخاء .. هذا مستحيل .. أتراها لعبت الورقةالمناسبة؟لن تستطيع التخطيط للحركة
التالية حتى يرد المشتري .. لكن هذا لم يمنعها من التفكير في الاحتمالات. كان الانتظار أطول هذه المرة ، لكن هولي لم تمانع .. فكل دقيقة تمر كانت تزيد من أملها في ملاقاة المشتري .. وهي لاتشك أن جيوفري يقوم بأفضل ماعنده لإبقاء الصفقة على قيد الحياة. ورن جرس الهاتف ، فانتزعت السماعة .
ـ هولي.. رنة الراحة في صوت جيوفري ردت البسمة إلى شفتي هولي: إنه يطلب ضمانات.. الأصيل مصر على أن يكون اللقاء سرياً .
وافقت بسرعة:" بكل تأكيد".
ـ ويجب أن يكون صباح الغد ، وفي أبكر وقت ممكن . هولي بحاجة إلى أطول وقت ممكن معه ، والرجل نافد الصبر وهذا يعني أنه سيرفض مناقشة أي شيء معها .. وبما أنها الآن في موقع القيادة ، تستطيع إملاء شروطها .
ـ وجه له دعوة لتناول الفطور معي في فندقي.. مطعم " غاردن كورت" في الثامنة والنصف.
بعد توقف قصير عاد جيوفري يكلمها: موافق.
ـ عظيم! مااسمه جيوفري؟
ـ لم يعطني إياه.. ولكنني أعطيته اسمك..فهل ستبيعين هولي؟
أمسك الحذر لسانها لأنها لاتريد جدالاً بشأن الصفقة.
ـ سأصغي إليه.. أشكرك جيوفري.. ستعرف قريباً ماذا يحصل.. ومهما كانت النتيجة فسأعوضك تعبك.
قال بسرعة: أفضل أن أكون موجوداً غداً هولي.
ـ لاجيوفري .. أنا آسفة.. أقبل بهذا في أية صفقة ماعدا هذه .. إن لها ميزة خاصة في نفسي.
تنهد مستسلماً :" حسن .. وحظاً سعيداً".
علقت السماعة بسرعة.. لكن انفعالها الشديد حرمها من النوم، حتى انتهى بها الأمر إلى الاستيقاظ باكراً في الصباح لتكون بحالة جيدة ، ولتكون مستعدة كل الاستعداد لما هو قادم . ربما يعرف هذا الرجل أباها ولعل لهذه اللوحة مكانة خاصة عنده .. ولكن خمسة ملايين دولار دليل على أنه يريدها بأي شكل من الأشكال .. ويجب أن يكون السبب وراء ذلك أقوى وأعلى من مجرد الإعجاب العادي بالفن . فهذا السعر ليس أبداً استثماراً ... إذن .. فهذا لايترك سوى .. ماذا ؟

يتـــــــــــــــــــــــ ــبع
2_ في وجه المحارب

كانت xxxxب الساعة تعلن أزوف الثامنة والربع، حين غادرت هولي غرفتها، مستقلة المصعد هبوطاً إلى الدور الخامس.
هناك كان القسم العلوي للفندق حيث تلف سطحه أشجار مغروشة في أحواض ضخمة، وشجيرات شائكة.. حيث يمكن للمرء استراق النظر حتى حدود" ماين بارك" المكان الذي يوجد فيه معرض " نيو ساوث وايلز" للفنون.
عرفت هولي النادل بنفسهافحياها وأخبرها أنه من المتوقع وصول رجل أعمال لينضم إليها لاحقاً .. طلبت الجلوس إلى طاولة قرب المدخل الزجاجي ، ليتسنى لها مراقبة القادمين من جهة المصعد ، للتعرف إلى المشتري المنتظر قبل أن يتعرف إليها .. كانت تتوقع أن يكون بعمر والدها وإلاكيف له أن يعرف شيئاً ؟
كانت ثيابها لائقة ..شعرها الطويل الكثيف معقوص إلى الأعلى، وكانت ترتدي بزة وردية من الكتان الناعم ، وبلوزة بيضاء ملساء . ولكنها تخشى أن يكون الرجل صعب المراس.. فالأستراليون مشهورون بصراحتهم التي تبلغ حد الإزعاج .. والواضح أن الرجل لايريد إضاعة وقته.. وهي بحاجة بكل تأكيد إلى شجاعة وجرأة للبدء بالحوار وقيادته إلى حيث تريد.
أوصلها النادل ، بكل ترحاب ، إلى أقرب طاولة لشخصين.. فاختارت الكرسي الذي قدم لها منظراً واضحاً للبهو الخارجي .. وهناك قدمت لها القهوة ، فتقبلتها شاكرة .. أثناء الدقائق العشر التي مرت لم يخرج من المصعد إلا شخصين ..
لم تستطيع هولي تصديق عينيها حين رأته.. إنه الرجل الذي صدمتها رؤيته بقوة وبشكل مثير للإزعاج ليلة أمس في المعرض .. وهي بالتأكيد لن تخطئ شخصيته لأنه يريدي البزة نفسها.
نظرت إليه دهشة ونبضات قلبها تخفق بسرعة .. لايعقل أن يكون هذا هو الشخص الذي ستلتقيه.. فهو في أواسط الثلاثين وليس كهلاً كم ظنت. ومن هو بمثل عمره لايمكن أن يعرف شيئاً عن والدها وسيرته.. لاشك أنه كان صبياَ صغيراً حينذاك. سحبت نفساً عميقاً وحاولت تهدئة أعصابها، وعدت إلى العشرين ثم تفحصت ساعتها .. إنها الثامنة والنصف تماماً.
ـ آنسة رايدال؟
صرت على أسنانها.. إنه هو، لابد أنه هو. إذ لايمكن لأحد أن يدخل من دون أن تنتبه له، وهاهو يسأل عنها، ثم يتقدم إلى الطاولة..الصوت صوته هو والنبرة نبرته.. لم تعتد هولي أن تتورد وجنتاها.. لكن الحرج بث دفعة من الدفء إلى عنقها الطويلة فأحست بالحرارة تخترق مسام خديها فتورد !!
لابد أن وجهها تورد ولكن حاجتها الملحة لإبقاء هذا الرجل على مسافة منها، جعل عينيها تبدوان طبيعيتين غير مكترثتين. على أي حال ، حين التفتت ترفع نظرها إليه، لم يشر إلى أنه تسلم الرسالة.
سألها بكل تهذيب: هل لي أن أتشرف بالانضمام إليك؟
لم يكن في عينيه الخضراوين دليل تسلية أو عبث .. بل كانتا هادئتين ، هادفتين .
أجابت ببرودة تامة: أنا آسفة.. في وقت آخر، ربما .. أنا أتوقع .
لكنه سرعان ما قاطعها: أنا.. تتوقعينني أنا ، آنسة رايدال.. لدينا عملية بيع نناقشها .. إذا كانت لديك رغبة في هذا؟
ـ أنت ؟أفلتت منها الكلمة قبل أن تستطيع كبتها .. وكانت غلطة .. فقد أحست بابتسامة رضا خفيفة تبرز على وجهه المحارب الذي يشبه وجه الصقر.
مد لها يده قائلاً: اسمي فليكس ويستون .. إذا كان الاسم يعني لك شيئاً !!
سببت لها قبضته على يدها رجفة .. فسحبت يدها بسرعة : لا.. كما أخشى .. فأنا لاأهتم بالأمور المالية كما أنني لست أسترالية!
آه !! ردها أرضاها وهو أيضاً رد خاطىء .. إنه يتعرف إلى أمور كثيرة عنها . وهي هنا لتستقي المعلومات منه وتتسقط أخباره ..
والاستعداد للقاء كهذا ، يتطلب الاهتمام بكل شيء ويستلزم مراجعة الأفكار والتحلي بإرادة صلبة ، تستطيع بها الحفاظ على رباطة جأشها .. هزت رأسها تومىء إلى الكرسي المقابل .
_تفضل بالجلوس سيد ويستون .. أرجو المعذرة على سوء الترحيب بك ، أعترف أنني توقعت شخصاً أكبر سناً بكثير .
_وأنا أيضاً.. لكنني لاأمانع في مفاجأة لطيفة . لهجتك تنبئني أنك أميركية .. وأخشى أن تكون هي المشكلة في عرضي لك !
_ليس لدي مشكلة في كوني أميركية سيد ويستون . هل تطلب الطعام الآن ؟
ابتسمت واستدعت النادل الذي كان لايزال ينتظر الرد ... وقدم إليهما لائحتي طعام .. في هذه الأثناء كان فيلكس ويستون يرمق هولي بنظرة ساخرة قبل أن يخفض عينيه إلى لائحة الفطور .. انتظر بعدما طلب مايريد أن ينسحب النادل .
كنت أتساءل عما إذا كان تحويل العملة هو العائق . أعرف أن تبديل العملة قد يسبب المتاعب ولكنني أؤكد أننا نستطيع تجاوز هذه المسألة . سألت : " أوه.. ومن " أنتم "؟ من أنت ؟ " . برق شيء خطير في عينيه :
_أنا وأنت آنسة رايدال .. نحن . إننا هنا لمناقشة المسألة ، بالنسبة إليّ إن تصنيفي المالي ... من الصنف الأول .
_شكراً لك . لن يكشف لها عن شيء . لكنها شرعت تتمتع بالتحدي الذي يلائمه ، فلن تكون عقبة يسهل عليه تجاوزها .. ابتسمت :
أريد معرفة ما هي التسهيلات التي تمكنك من اجتياز صعوبة التحويل المالي الدولي .
_ شركتي تمتلك شبكة علاقات في كل أنحاء العالم. لدينا مكتب في نيويورك.. من أين أنت بالتحديد في أمريكا؟
_ بوسطن، " ماساتشوستس"ليست بعيدة عن نيويورك، أو عن سيدني.
_ أعرف بوسطن آنسة رايدال .. والآن بوسعنا أن نتكلم في العمل؟
_ أتمانع أن تقول لي أولاً، ماهي طبيعة عملك، سيد ويستون؟
قال ساخراً: أنبش الأشياء من الأرض. إنه عمل جيد لك. لكن ماهو نوع الأشياء التي تنبشها؟
_ النوع الذي تعتبره أجمل النساء، مثلك، أفضل صديق لهن.. الألماس آنسة رايدال.. أفخم أنواع الألماس الملون في العالم.
منجم " بندنير" للألماس في كيمبرلي؟ لقد قرأت عنه. تأسس في السبعينات، أي بعد وقت طويل من وصول والدها إلى " بورت دوغلاس" وهذا يعني أن لاعلاقة له به.. لكن ربما تكون هي المخطئة.. فوالدها عالم جيولوجي.. فكم من الوقت يستغرق إنشاء منجم بعد اكتشاف الألماس؟ لكن، لماذا رحل والدها إن وجد ألماساً؟
قال فيلكس ويستون: أنا هنا لمناقشة الصفقة.. فلنناقشها. ابدأي أنت.. السيدات أولاً.. كم تريدين بالضبط آنسة رايدال؟
ترددت هولي.. لو قالت له بالضبط ماتريد.. تريد معرفة السبب الكامن وراء رغبته في شراء اللوحة التي يريدها بقوة والدليل المبلغ الهائل الذي يدفعه ثمناً لها.. لم تعجبها الملاحظة الساخرة التي تفوه بها، بأن شملها بين الجميلات من النساء اللواتي يعتبرن الألماس فوق أي شيء آخر.. لكنها لن تقول له الآن إنها امرأة لايمكن شراءها.. لابخمسة ملايين، ولابخمسة مليارات من الدولارات.. ولسوف تدعه يكتشف هذا بنفسه.
قالت بصراحة: في الحقيقة، ياسيد ويستون.. لست واثقة من رغبتي في بيع " الأحلام الضائعة" لك.. لماذا تريد أن تشتريها؟
عاد النادل ليقدم كوبين من عصير البرتقال الطازج، فأسرع فيلكس ويستون يتجرع كوبه دفعة واحدة ، ثم رفع نظره إليها وقال :
_أنا أصنع لنفسي اسماً في الدوائر الفنية ، كجامع للأعمال الفريدة من نوعها .. وأرمي أن تكون هذه اللوحة صفقة هذه السنة .. وسأحاول أن أحل لك مشكلة الضرائب آنسة رايدال .. وهذا هو أقصى حد أصل إليه . العرض يبقى على ماهو ، لن يستمر .
نظرت إليه متفرسة ، محاولة فهم ما يكمن وراء الكلمات ، ثم ردت بثبات : لقد أسأت فهمي سيد ويستون .. المسألة ليست مسألة مال ... ولن يؤثر هذا في قراري حين أتخذه . المسألة تتعلق بالسبب الذي يجعلك تطلب هذه اللوحة بالذات . وإن لم تقل لي السبب من وراء شرائك اللوحة فلن تحوز على " الأحلام الضائعة " ... إما أن تقبل وإما أن ترفض .. وبعد اليوم لن يستمر العرض كذلك .ارتد رأسه إلى الوراء .. وعرفت هولي أنها لعبت اللعبة التي لم تكن بحسبان فيلكس ويستون وأنها فاجأته .
_" الفضول قتل القطة " .. آنسة رايدال .. لديك خمسة ملايين سبب لئلا تقضي على هذه الصفقة ، فما الذي يدفعك إلى وضع علامة الاستفهام هذه ؟
_قد تعطيني خمسة ملايين سبب يرد على سؤالي ، سيد ويستون .. أخشى أن تكون المعلومات التي تسأل عنها سرية . تفرس فيها للحظات طويلة قبل أن ينطق : يبدو أننا وصلنا إلى طريق مسدود .. لكن أمامنا يوماً كاملاً للتفكير .. وبما أن هذا قد يستغرق اليوم كله .. سأطلب ، وكبادرة حسن نية منك ، أن تسحبي اللوحة من المعرض مدة أربع وعشرين ساعة .
صدم الطلب هولي لأنه غير عادي .. إنه طلب غريب ولايختلف عن وقائع كل هذه الصفقة ، بدءاً من العرض غير المعقول ،
وصولاً إلى إصراره للحصول على الرد ليلة أمس .. مروراً بالإصرار علىاللقاء معها في وقت مبكر جداً .. وانتهاء الآن، وبعد المزيد من التأخير ، بطلب سحب اللوحة من المعرض !!
فكرت هولي أنه لايريد أن يرى أحد اللوحة ! ولايحتمل عرضها علناً . هذا هو كل ما في الأمر . وليس السبب رغبته في امتلاكها
بل إخراجها من التداول .
_أنا آسفة سيد ويستون ، لكنني لن أفعل هذا حتى تخبرني لماذا تريد سحبها ؟
وكأن صبره بدأ بالنفاد ، قال : أخبرتك السبب !!
_لكنه ليس كافياً . هز رأسه : أعطيتك أسباباً ، ولم تقبلي بها . فكيف أثبتها لك ؟ ربما بدأنا بداية غير صحيحة .. هل أسأت إليك بالمعرض ليلة أمس ؟
_أسأت إلي ؟ وكيف يمكنك هذا ؟
_لا ؟ .. إذن سأقوم بما أغرتني به نفسي عندما رأيتك . ولكن التوقيت الآن غير جيد ، تبدين متوترة جداً .
وأشار إلى النادل طالباً المزيد من العصير ، ثم ارتد إلى هولي وعيناه الخضراوان تتراقصان بسيل من الاقتراحات : أتحبين العصير وقت الفطور آنسة رايدال ؟
إنه يحاول السيطرة عليها ! ويظهر لأنه معتاد على تحديق النساء إليه ، لامتلاكه مزيجاً من جمال الطلعة والثراء .. لاشك أنه معتاد
على احصول على المرأة التي يريدها ، ولكن إذا ظن أنها واحدة منهن فقد أخطأ أي خطأ ..
_العصير من اختصاص أمي .. أسرة رايدال أسرة عريقة في مجال المصارف في بوسطن ، سيد ويستون .
لكن هذا الرد لم يحبطه ، بل برقت عيناه سخرية . قلت لي إن الأمور المالية لاتعنيك .. هذا عيب يا آنسة رايدال !
هزت كتفيها بازدراء : أنا لاأهتم بالمصرف . لا..بالتأكيد لا ..أتصور أنك من المعجبين بالفن . ابتسمت له ابتسامة غامضة ، لاتؤكد
ولاتنفي .. وتركته يتساءل عما إذا كان مخطئاً أم لا !
_أنت جميلة مغرية .. لكنني متأكد أنه سبق أن قيل لك هذا كثيراً . كان المديح بالنسبة لهولي أشبه بماء متطاير عن ظهر بطة .
_ووجهك أيضاً مثير للاهتمام سيد ويستون . وهذا ما فكرت فيه ليلة أمس .. وأظنك تعرف هذا جيداً .. ولكن ما هو أكثر إثارة للاهتمام ،الوجه في اللوحة . ضاقت عيناه ، لكن ليس قبل أن ترى النظرة الحادة فيهما .. أهو الغضب ؟ أم الامتعاض ؟
_ أجل.. إنه مثير غامض، وهو عمل يشير إلى عبقرية فنية.. لم أشاهد قط نظيراً له.. وهذا أحد الأسباب التي دفعتني لشرائها. شعرت هولي أنه يتحدث بصدق لكنه لم يكشف لها عن شيء بعد..وصل العصير فسكبه النادل في كوبيهما، رفع فيلكس كوبه محيياً:
_ إلى تفاهم أفضل بيننا .
إنه فعلاً جذاب.. وحاولت هولي بشدة مقاومة جاذبيته الشديدة .. لن تستطيع تحمل تأثيره فيها ولكن من يعرف أكثر منها أن الشخص في الداخل هو أهم بكثير من الخارج الجذاب.أخذت تراجع الموقف، فيلكس ويستون لن يقع في حبائل الإدلاء بأي شيء لايريد قوله.. إنه حاد الذكاء، بارع.
لكنها أدركت شيئاً واحداً فقط: إنه يريد إخراج اللوحة من المعرض. ولايعقل أن يكون منظر كيمبرلي هو الذي يعنيه.. إذن السبب هو وجه المرأة .. وهذا يعني أنه وجه معروف، وليس معروفاً فقط، بل إنه لامرأة موجودة لايريد فيلكس ويستون أن يتعرف إليها أحد.. الآن، وقد عرفت من هو، تصورت أنها قادرة على معرفة من هي المرأة .. لكن، هل ستكون صريحةأكثر من فليكس ويستون؟
سألها فجأة: " منذ متى تمتلكين اللوحة"؟.
رفع نظرها بحدة.. لكنها لم تجد سوى نظرة متسائلة على وجهه: منذ السنة الماضية.
_ لاحظت من الدليل، أن الفنان توفي في السنة الماضية.. فهل امتلكت اللوحة قبل موته أم بعده ؟!
ردت باختصار: " بعده". هل حان الوقت لتقول له إن الفنان هو والدها؟
_ إذن أنت لم تمتلكيها منذ زمن طويل؟
مرت أخرى أحست برضاه عن ردها.. فالفنان مات، ودفن سره معه.. هذا مايظنه فيلكس.. وقالت:لا.. لاأملكها منذ وقت طويل.. لكنني لن أتخلى عنها سيد ويستون. إن لها.. قيمة شخصية عندي.. وأتساءل عما إذا كان لها عندك أيضاً قيمة عدا قيمة اللوحات الفنية النادرة.
رسم ابتسامة تساهل على شفتيه: رأيتها للمرة الأولى ليلة أمس آنسة رايدال.. وأريدها.. وهذا أمر شخصي بقدر ماأشعر به تجاه أية لوحة أخرى.
تممت:"هكذا إذن"!?".
وتابعت تناول الطعام.. لن يفصح عن شيء. يجب أن تمارس ضغطاً أقوى، وهناك طريقة واحدة لهذا.. الضغط عينه الذي حمله على المجيء إلى مائدة الفطور هذا الصباح. لم يعد ألى موضوع اللوحة بل أخذ يسألها عما شاهدت في أستراليا، وعما أعجبها فيها.. حديث جريء.. لكنها تابعت لعب لعبته حتى انتهاء الفطور ثم وقفت ومدت له يدها: كان اللقاء بك ساحراً سيد ويستون.. شكراً لك على الوقت الذي أمضيته معي.
قام عن كرسيه وعلى وجهه نظرة قلق: هذا من دواعي سعادتي آنسة رايدال.. هل ستعطين التعليمات إلى وكليك للمضي قدماً في إتمام الصفقة؟
ارتسمت ابتسامة أسف صغيرة على شفتيها: أنا آسفة..قررت ألا أبيع!
انتابه ذهول حقاً! وكادت أصابعه تسحق أناملها: آنسة رايدال.. لاوقت لدي للعب.. لم أر قط من يدير ظهره إلى صفقة كالتي أعرضها عليك.. ولاأصدق أنك تفعلين هذا الآن.
واجهت نظرته بمثلها: سيد ويستون.. لقد تعلمت العيش من دون مال أو ناس، منذ أمد بعيد.. وسأكون ممتنة لو تركت يدي.
أربك الإحباط شفتيه.. وتطاير شرر الغضب من عينيه ونظر إليها ثم ترك يدها وسأل بقسوة: لماذا وافقت على مقابلتي إذن؟
أجابت ببرودة كلية: لمناقشة أمر اللوحة ، لكنك لم تُرض فضولي ولم ترد على الأسئلة التي طرحتها.. فكر ملياً في الأمر سيد ويستون.. وإذا رغبت في المناقشة مجدداً فاتصل بي هنا.. علماً أن الموعد النهائي هو اليوم!
عندما سارت مبتعدة أحست بعينيه تخترقانها كأشعة اللايزر، وهذا ما أعطى دفعاً منعشاً لكل خطوة تخطوها وتساءلت عما كان يخطر له.. فهو ينتصر عليها وهذا بدون شك تجربة جديدة له..لم تستطع هولي إلا الابتسام لنفسها على نصرها الصغير عليه.
استغلت وصول أول مصعد فاستقلته دون تردد..وقبل أن يغلق الباب، استرقت نظرة إلى فيلكس.. لم يكن قد تحرك من مكانه.. بل كان مايزال متسمراً ينظر إليها.. لكن لم تبدُ آثار الهزيمة عليه.. وهنا شعرت هولي بأمر مريب، وبخطر غريب.. وكأنها أثارت وحشاً مفترساً سيلاحقها حتى أقاصي الدنيا.. وخامرتها تخيلاتها عنه ليلة أمس: محارب يجرؤ على أي شيء، ولا يدع شيئاً يقف في وجهه.
هرولت بسرعة في الردهة وطلبت من الحاجب أن يستدعي لها سيارة أجرة، وهي وسيلة الهرب السريعة التي تريد اختيارها.
سألها السائق: إلى أين؟
كان الباب قد أوصد .. ولن يتسنى للحاجب أن يسمع .. فقالت بهدوء: إلى الميناء.
بدت لها رحلة في زورق حول ميناء سيدني فكرة جيدة.. ستكون أية عبارة مفيدة لأنها ستبعدها عن المنال فترة.

الهجوم الأخير

سارت هولي فوق رصيف الميناء وراحت تلقي نظرة على وجهات العبارات ومواقيتها .. لفت نظرها ملصق إعلاني عن حديقة حيوان " تارونغا بارك" فاتخذت قرارها باندفاع.. موعد إقلاع العبارة يشير أن عليها الانتظار عشر دقائق .. ألقت نظرة سريعة على منصات بيع السواح المركزة قرب الرصيف ، ولمحت منصة بيع قبعات قش.. عليها أن تحمي بشرتها من الشمس لئلا تتعرض إلى الأذى.
طافت كلمات فيلكس ويستون إلى رأسها : " أنت جميلة مثيرة".. تساءلت عما إذا كان يعتقد أنها هكذا فعلاً .. أمر واحد مؤكد : من السهل أكثر أن تكون جميلة ، لابشعة.. مع أنها لا تعتبر وجهها مميزاً وهي تحمد الله لأنها عادية الجمال .. ولكنها كلما نظرت إلى المرآة كانت ترى معجزة العلاج باللايزر.
كان الركاب يتدفقون إلى المركب بعدما أنهت شراء قبعتها ، فسارعت لتنضم إلى صف المسافرين . وما إن صعدت حتى اختارت البقاء على السطح في الخارج لأنها لاتريد أن يفوتها أي شيء من المنظر. لم تكن حديقة حيوانات " تارونغل بارك" اختياراً صائباً لإبعاد تفكيرها عن الرجل الذي أدارت له ظهرها..
الحيوانات الخطرة كانت في مستوعبات آمنة، لكن الكثير منها كان يذكرها بفيلكس ويستون الذي هو غير محبوس في قفص أبداً والذي ليس من النوع الذي يقبل أن يقيده شيء .. ولسوف يعود لينتقم منها.. السؤال الوحيد هو أي نوع من الأسلحة سيستخدم في لقائهما المقبل.. كان سلاحها الوحيد علاقتها بالرجل الذي رسم " الأحلام الضائعة" فهل تبقي هذا لمفاجأة فيلكس، ودفعه للكشف لها عما تريد؟ إنه رجل ما للكلمة من معنى.. صنف من الرجال كانت تظن أنه مفقود في العالم الغربي.. إنه يختبئ وراء رداء المدينة.. لكن هذا لا يخفي تماماً الجانب المتوحش في طبيعته.. إنه لايحترم النساء أبداً ، بل يستغلهن كما يشاء . ومع ذلك .. لم تستطيع منع نفسها من التساؤل عن الإحساس بقوته ورجولته؟
هزت رأسها.. إنها لا تريد التفكير فيه .. أو بغيره فالرجال ، عامة، ليسوا من بين أولويات اهتماماتها.. منذ ثلاث سنوات وقعت في الحب. أو أحبت فكرة أن تحب ويومذاك اكتشفت أن بإمكان الرجال أن يفسخوا أية علاقة في سبيل المضي في حياتهم كما يريدون .
وهي متأكدة أن فليكس ويستون هو من الصنف ذاته.
لابد أن هناك خطأ ما فيها .. لماذا تريد إقامة علاقة دائمة مع أشخاص مثل الذين مروا بحياتها؟ فكلهم كانوا يرغبون في الزواج إنما بعد أن يكونوا مستعدين له ولكنهم يبقون خليلاتهم إلى جانبهم .. أما بما يتعلق بفيلكس ويستون فهناك أكثر من هذا وكأنه سيقف على دوام بعيداً عن كل شيء .. لا تستطيع تصوره وهو يغير مبادئه لتتلاءم مع صورته التقليدية..
غريب أنها تفكر فيه بهذا الشكل الدائم فلم يكن لها إلا حبيب واحد انتهت علاقتها به منذ ثلاث سنوات حتى معه لم تستطع إلزام نفسها .. ولعل ما أزعجها أنه كان راغباً في جسدها وليس في شخصها .. وقد آلمتها نتيجة علاقتهما كثيراً . لذا .. لم تعد ترغب قط في تكرار التجربة. مع ذلك في فيلكس ويستون شيء مايشعرها بأنها امرأة.. امرأة لها احتياجات. لم يكن لديها أية أوهام بشأن الرجل ولو أظهرت له أي ضعف لاستغلها دون أن يشعر بوخز الضمير.. لكن ماذا لو..؟
زأر أسد في وجهها ، وقالت لنفسها إنها مجنونة لأنها تفكر فيه على هذا النحو .. فرجل مثل فيلكس سيمزقها إرباً .. وحملت نفسها
إلى مقهى داخل الحديقة لتناول الغذاء ، ثم عادت نحو حديقة الأسماك .. وما إن رأت سمك "القرش " حتى تذكرت الرجل الذي تحدته هذا الصباح . فتابعت سيرها إلى حيث ترسو العبّارة وهي تفكر في أنها أمضت الوقت الكافي بعيداً عن فندقها . وربما هناك رسالة تنتظرها . كان الوقت عصراً عندما عادت هولي إلى الفندق .. ومع أنها وجدت رسالة من جيوفري هامينغز يطلب فيها أن تتصل به ، إلا أنها لم تفعل ، فهي لاتريد أي جدال بشأن الصفقة وهي متأكدة أنه سيتصل بها قبل نهاية النهار .
جعلها حدسها تدرك أن فيلكس ويستون لن يكون مسروراً أبداً إذا خسر صفقة .. خاصة هذه الصفقة بالذات ! فسيحاول أن يضغط كثيراً لذا عليها أن تكون مستعدة للتعاطي مع رده . فلتحصل على الأقل احترامه !
_تلقت المكالمة الهاتفية في تمام الخامسة والنصف وسرعان ما تعرفت إلى صوته حتى قبل أن يعطي اسمه . ولم يضيع أي وقت ليدخل صلب الموضوع . يجب أن تسمحي لي برد مجاملة وجبة الطعام آنسة رايدال ... شاركيني العشاء الليلة !
_شكراً لك سيد ويستون . ضحك ضحكة خافتة من أعماق حنجرته . أتطلع شوقاً إلى لقائك مرة أخرى .. سأزورك في السابعة ،
أذا كان هذا مناسباً . عظيم .. قرب المطعم مقهى فيه صالون . لاأظن هذا آنسة رايدال .. فعلى المرء ألا يتذوق الأطايب من المكان
ذاته .. دعي الخيار لي آنسة رايدال . أراك في السابعة .
أقفل الخط قبل أن تسأله إلى أين ينوي اصطحابها ... لقد عادت المعركة ، ولكن هولي انزعجت لأن نبضاتها عادت تتسابق .. تساءلت عما إذا كانت تثيره بالطريقة التي يثيرها فيها .. ثم قررت أن التفكير في هذه الطريقة خطير بكل تأكيد .. ويجب أن تعرف ماذا يعرف عن اللوحة قبل أن .. قبل أي شيء آخر .
استحمت ، وأطالت الوقت بغسل شعرها الذي جففته حتى أصبح ناعماً برّاقاً . فتشت قي ثيابها القليلة وقررت ارتداء بزة لها سروال وردي وأبيض مصنوعة من الحرير الناعم الذي لايجعد . كان للسترة المتسعة من الأسفل ثلاثة أرباع الكم يحدها تطريز أبيض وللبزة وشاح طويل من القماش عينه يمكن ربطه حول الخصر أو تعليقه حول العنق ، لكنها اختارت أن تربط به شعرها وتركت طرفيه يتدليلن على ظهرها .. وفكرت أن من الحكمة عدم إبراز معالم أنوثتها الليلة .. وضعت أحمر شفاه خفيف ولكنها لم تتزين بأي حلي أو تتعطر . فالليلة ليلة عمل .. واليوم ينتهي عند منتصف الليل .. لذا يجب تسوية شيء ما حتى ذلك الوقت .
في تمام السابعة سمعت القرع على بابها ، ولم تتركه ينتظر بل سارعت تلتقط حقيبة يدها البيضاء التي حضرتها وسحبت نفساً عميقاً مهدئاً . كان فيلكس ويستون يرتدي بزة سوداء رسمية .. بدا وسيماً بشكل مدمر . وأحست هولي أنها تلقت ضربة على قلبها .. من حسن الحظ أنها فرضت النظام على نفسها منذ زمن بعيد لئلا تُظهر أية ردة فعل أمام الناس .. لأنه حين ابتسم صعب عليها المحافظة على وجه غير متجاوب .. فسمحت لنفسها بابتسامة صغيرة .
قال : " اللون الوردي يناسبك "
_شكراً لك .
مد ذراعه ، وبعد تردد قصير شبكت يدها معه وسارا في الممر نحو المصاعد . كانت عضلات ساعده تحت كم البذلة قاسية كالصخر . ولاحظت هولي أن قمة رأسها كانت على مستوى فمه ... وهذا ما يجعله أطول بإنشين من الستة أقدام .. علقت متسائلة وهما ينزلان بالمصعد إلى الطريق : لم تخبرني إلى أين ستصحبني . التوى فمه ممازحاً : أنت شخص يصعب التأثير فيه آنسة رايدال . لقد اخترت مكاناً مميزاً بشكل خاص .. وأظنك مديتة لي بمفأجاة .
تدل بزته على أنه اختار مطعماً من الدرجة الأولى ، هكذا قررت هولي أن لا داعي للقلق.. إضافة الى هذا ، معها مايكفي من مال في حقيبتها لتغطية تكاليف أي تاكسي، لو أرادت أن تتركه .
استقلا سيارة أجرة و شاركته المقعد الخلفي .. وبدلاً من قول العنوان الذي يقصده ، أعطى السائق بطاقة ، ثم ارتد إلى الخلف يحدثها : هل كان يومك لطيفاً ؟
ـ أجل .. كان لطيفاً.
لاحظت أن السيارة تتجه الى الميناء..تابع السؤال: ألم تفعلي ماهو مثير؟
نظرت إليه بجفاء : ذهبت إلى حديقة حيوان" تارونغا بارك" وتحدثت إلى الحيوانات .
ضحك بصوت منخفض أجش ، ضحكة مثيرة. وقال: وماذا قال لك حيوانا الكولا و الكانغرو؟
ـ فكرت أن من المفيد أكثر ، التواصل مع الأسود و النمور.
ثم ندمت على الرد حين لم يضحك مجدداً . وقال بجد: أنا لا أؤمن بأسر أحد ضمن قفص ، والواقع أنني أكره هذا .. أفضل رؤية الحيوانات في البرية حيث تنتمي .
أشاحت هولي بوجهها وهي تشعر بموجة مربكة من الحرارة تقتحم بشرتها . وعرفت أن ماقاله صحيح .. فهو من النوع الذي يفتح كل الأقفاص ليترك الحيوانات حرة . ولاحظت أن السيارة تتجه إلى الميناء .
سألت : " وكيف أمضيت نهارك"؟
ـ عملت بنصيحتك وفكرت لبعض الوقت ولكنه كان وقتاً صعباً .
نظرت إليه ، فوجدته يبتسم لها، فقالت بخفة: وهل كان تفكيرك مثمراً?
ـ ليس بالضبظ بل كان أشبه بالبذار وقت العاصفة.. إنما سنرى إلى أين ستهب العاصفة الليلة!
ومض شيء في عينيه ، وأحست هولي مرة أخرى بقشريرة خوف وخطر تسري إلى ظهرها. حاولت صرفها، لكنها لم تستطع.. في هذا الوقت توقف التاكسي أمام مبنى مكاتب ناطحة للسحاب، وخرج فيلكس الذي أعطى السائق أجرة ، قبل أن يتاح الوقت لهولي أن تسأل شيئاً .
أمسك مرفقها وأدارها نحو أبواب زجاجية لمدخل كبير .. من الداخل، تحرك رجل أمن ففتح الأبواب: مساء الخير سيد ويستون.
ـ شكراً لك جورج.
ثم قاد هولي إلى مصعد فتحه بمفتاح خاص.. إما أنهما ذاهبان إلى ملهى ليلي فخم يقع في قمة المبنى، وإما هي مخطوفة، إذ لم يكن هناك سوى زر واحد في المصعد.. بذلت جهداً كبيراً لتبقى هادئة.
حين رافقها إلى شقة في أعلى البناء تطل على مرفأ سيدني، كادت تركل نفسها لأنها لم تتوقع هذا.. فهو بكل تأكيد لا يرغب في وجود أحد حولهما .. وبهذا لا يحتفظ بالخلوة لنفسه فقط، بل يسمح لنفسه فقط، بل يسمح لنفسه بالسيطرة على تقدم مفاوضاتهما..والرد على هذا واضح المعالم .. يجب أن تظهر عدم اكتراث كامل .
تحركت في غرفة الاستقبال الواسعة : ما أجمل هذا! إذا كان هذا منزلك سيد ويستون فلا شك أنك تفخر به.
ـ إنه لي .. وأنا أعمل بكل جهد لأحصل على ماأمتلك آنسة رايدال .. وسيكون من الحكمة جداً ألا تتغاضي عن هذا العامل في حساباتك.
نظرت هولي إليه متهكمة: العمل هو عماد الحياة لأشخاص مثلك سيد ويستون..هناك دائماً صيد قاتل يجب إتمامه في السوق .. أليس كذلك ؟ شيء تهزمه.. شيء تجعله لك ..دائماً أفق جديد .. تحد آخر .. لا.. أنا لن أتغاض عن هذا . .أدارت نظرها إلى المنظر مرة أخرى وأردفت بهدؤء : أتساءل كم مرة توقفت لتنظر جيداً إلى ماتمتلك؟
انعكست صورته بوضوح على زجاج الباب ، وراقبته هولي خلسة على أمل أن تصيب فيه وتراً حساساً قد يزعزع ثقته المتعجرفة بنفسه. وعندما اشتدت عضلات فكه ابتسمت هولي لنفسها. قد تكون لغة الجسد كاشفة، خاصة حين يظن المرء أنه غير مراقب..أحست أن ماسيقوله الآن بغاية الأهمية فركزت لتصغي إلى كل معنى متوار في كلماته: المسألة التي نبحثها ..هي ماذا تريدين أنت ..؟ إلام تسعين؟
كان يرمي كلماته بقسوة ، ولايزال يسيطر على نفسه بتجهم .. لم ترد هولي .. ففي ذهنه شيء آخر .. شيء يكاد يقوله .. وتريد منه أن يقوله .. مع ذلك، حين جاء الرد، ماقاله كان مفاجئاً بحيث أنها لم تكن قد تحضرت له.
ـ فلندخل فوراً إلى صلب الموضوع آنسة رايدال . لكنك لست الآنسة رايدال بل أنت الآنسة ماكنافش ابنة ايرول ماكنافش!

ـ ليلة القبض على الصياد



بقيت هولي جامدة في مكانها حتى توقف قلبها عن الخفقان.. لقد انتزع فيلكس ويستون عامل المفاجأة منها، واستخدمه بنفسه. ولكن على هذا ألا يؤثر فيها! ارتدت ببطء، عيناها الرماديتان صاحيتان ثابتتان.
_ اسمي رايدال.. لقد تبناني زوج أمي رسمياً .. لكن والدي الحقيقي هو ايرول ماكنافش.
ابتسمت ابتسامة جافة.
ـ يبدو أنك شغلت نفسك اليوم بهذا.
وكادت تضيف أنها استغرقت العمر كله تقريباً لتعرف هذه المعلومات الدقيقة ، ثم أمسكت لسانها على أمل أن تسمع ماذا تعني هذه المعلومات له. لكن تعابيره المتجهمة لم تلن، بل بقيت قاسية لارحمة فيها .
ـ لم يكن صعباً علي أن أعرف الأمر من جيوفري هامينغز، فهو يحب المال. كان عليك إعطاءه تعليمات صارمة ليكتم هويتك.
ـ لم يكن هناك داع لهذا ..كنت سأخبرك على أي حال عاجلاً أم آجلاً .
ـ أجل .. بالتأكيد .. يجب أن يظهر هذا، أليس كذلك؟ لابد أنك كنت تتيهين ابتهاجاً وغروراً ليلة أمس حين ابتعلت الطعم .. ولقد جررتني هذا الصباح إلى ماتريدين .. لكن، الليلة.. الليلة سنسوي الأمور بطريقة أو أخرى.. لمرة واحدة وإلى الأبد، أو ماتبقى من الأبد! لم يكن لدى هولي فكرة عما يتكلم عنه.. مع أنها أملت أن تظهر اللوحة شيئاً عن ماضي أبيها، وردة فعل فيلكس توحي بأنها مهمة كثيراً بالنسبة له.. لكنها لاتزال تجهل المسألة.. وعليها بطريقة ما المضي باستفزازه حتى يتكلم.
قالت بخفة: أنا لا أعارض تسوية كل شيء الليلة لأنه يناسبني. التوى فمه سخرية : إذن نحن نفكر معاً على الموجة ذاتها.
غمغمت دون اكتراث: همم..ربما. حركت نظرها ببرود متعمد إلى اللوحات الموضوعة على الجدار خلفه.. وعلقت: ذوقك رفيع.
عندما لم يرد ، أعادت نظرها إليه وحاجبها مرتفع تساؤلاً .. برقت العينان الخضراوان بإعجاب ساخر.
ـ سأقول لك شيئاً ..لذلك أعصاب من فولاذ.
سار ببطء نحوها وكانت كل خطوة تجربة لرباطة جأشها.. في هذه اللحظات عرفت هولي ما يشعر به الحيوان حين يتسمر بأرضه خوفاً .. لم تتكن من انتزاع عينيها من عينيه ، وبدأ قلبها يرعد في أذنيها .. لكنه لن يهددها جسدياً.. توقف نصف خطوة بعيداً عنها، وارتفعت يده إلى خدها وراحت أطراف أصابعه تمر برقة على بشرتها وهو يتكلم : أعترف أنني أقدر مامررت به.. بل أنا معجب كثيراً بالطريقة التي تتعاملين بها..وأنا مستعد للوصول معك إلى اتفاق . هناك دائماً اتفاق يجب التوصل إليه بين من هو مثلي ومثلك، أليس كذلك؟ عم يتكلم؟ هل هو جاد؟ أم تراه يتلاعب بها، بغية اختراق الأسوار التي حصنت نفسها؟
قال بصوت ملؤه التحدي، وكأنه قرأ الشكوك في عينيها : ربما .. لا.
أجبرت صوتها بكل ماأوتيت من قوة إرادة على البرودة والحدة: ماذا تريد سيد ويستون؟
ـ في هذه اللحظات.. هولي ما كنافش، لست واثقاً ما إذا كان علي أن أكرهك أم أن أعانقك بجنون.
شكت هولي في أنه قادر على الأمرين معاً ..وقالت: ليس الأمر حكيماً في هذه المرحلة الحاسمة.
ـ قد تجدين شيئاً ما بين الاثنين.. ولكنني غير واثق مما إذا كنت سترمين ذراعيك حول عنقي وتبادلينني عناقي المجنون أم ستخرين على ركبتيك لتتوسلي.. لذا أردت أن أعرف .
ـ للأسف أنه لن يبدر عني أي أمر من الأمرين اللذين ذكرتهما.
قهقة بصوت أجش ولكن أصابعه تابعت جولتها على خدها وفمها وصولاً إلى خدها الآخر .. فجعلتها لمسته هذه ترتجف.. وللمرة الثانية استقطبت كل مالديها من قوة إرادة وتركيز لتبقى جامدة ، على الأقل ظاهرياً .. لكنها لم تكن مسيطرة على مافي داخلها.
كؤفي جهدها بالإعجاب الذي تسلل إلى عينيه .. وأحست أنها تكاد تصاب بالدوار جذلاً لهذا الدليل الواضح على الاقدام الذي ظهر عند مثل هذا الخصم المهيب .
ثم قال بغموض: ستكونين رائعة.. رائعة.
أحست أنها انتصرت.. فللتو كشف عن شيء هام.. لكن ماهو؟ ليس لديها فكرة. كل ما عليها أن تفعله هو الانتظار . وفي النهاية ماذا يشمل نصرها هذا؟
قررت أن تحاكيه في لعبته ، دون الكشف عن أي شيء: ربما ستكون أنت أيضاً رائعاً.
وثب شيء خطير متوحش إلى وجهه وسرعان ماارتد خطوة إلى الوراء: إذن فلنبدأ العمل.
جذبها إلى إحدى الأرائك الجلدية الموضوعة حول طاولة زجاجية السطح. الواضح أن فيلكس كان ينوي تقديم بعض الطعام والشراب لها. فعلى الطاولة صينية عليها أكواب أنيقة من الكريستال، وإبريق من عصير. أجلسها على الأريكة، ثم ركز اهتمامه على سكب العصير.. ثم لوح لها داعياً إياها إلى تناول ماتشاء من الطعام الشهي: أنصحك بتذوق الكافيار الذي هو من نوع " بيلوكا" وأنا أستيغيه أكثر من نوع " السفرون". وضعت بكل حذر ، قليلاً من الكافيار على خبز محمص، وقضمت قضمة فهي بحاجة إلى مايهدئ معدتها. جلس فيلكس إلى الأريكة المقابلة لها ، وأخذ يرتشف العصير، وعيناه تدققان بها بشكل لايلين .
ـ أنت تقامرين.. أتعرفين هذا؟ أنا لا أصدق أن علي أي دين أو مسؤولية في هذه المسألة .. ومن غير المجدي لك المضي بما بدأت به.
لم تصدقه هولي، إنها تقامر.. لكن المشكلة أنها لاتعرف عما تتكلم : ..ألا تظن أننا معاً ضحيتان لآرائنا الخاصة؟
سأل : " لماذا لاتبتعدين بخمسة ملايين؟".
هزت رأسها: " معظم الناس يحلمون بأقل من خمسة ملايين دولار..لكنني لا أستطيع القبول بها، فثمة مسؤؤلية وأمانة.. وأنا أنوي الحفاظ على تلك الأمانة مهما بدت المسألة غباء.. وثانياً ، لأن هذا ليس ما أسعى إليه".
التوى فمه تهكماً : اقترحي .. وأنا سأقبل اقتراحك مهماً كان.
دار عقل هولي في دوامة من التفكير.. إنها لاتعرف ماذا تقترح .. التقطت كوبها الذي ارتشفته ببطء وحاولت التفكير في المشكلة. الحل الوحيد لهذه العقدة هو ألا تقترح شيئاً. ارتفعت عيناها فالتقتا بعينيه بتحدٍ جريء..
ـ اقترح أنت.. وسأفكر في الأمر.
بدأ أن ردها كتم أنفاسه ، فقال بشدة: أنت بغاية القسوة.
ـ في هذه المسألة ، أجل.
ـ أليس هناك تسوية أخرى تقترحينها؟
ـ أبداً.
نظر إليها وكأنه لا يستطيع تصديق موقفها. ووضعت هولي كأسها من يدها ، واختارت قطعة معجنات مليئة باللحم المتبل.. أكلتها بشهية. يبدو أن وجودها مع فيلكس يزيد من أحاسيسها كلها.
سأل:" وهل فكرت في كل الخيارات؟".
ردت بصدق: " نعم".
غريب كيف يأخذ هذا كله بجد في الوقت الذي لاتملك فيه أية فكرة عما يبحثان. في هذه اللحظات، لها اليد العليا بكل تأكيد.. فقد أحست بقلقه.
ـ وهل هذا موقفك النهائي؟
ـ هذا ما يبدو لي.
إنها تجود في هذا اللعب المزدوج على الكلام، فقد أصبح ينزلق الآن دون تفكير: ولن أقول إنني لم أفكر في الأمر، كملجأ أخير..
فتشت عيناه في عينيها عن أي شرخ في دروع دفاعاتها وقررت هولي أن الجهل في هذا السياق نعمة.
قال:" خلتك ستتراجعين".
استخدمت الصمت من أجل رد أفصح.. فالتوى فمه وأضاف: هذا يوفر علينا التغاضي، ويدفع عنا الخلاف العلني .
لزمت هولي الصمت وأخذت تدير كلماته في رأسها.. وتتساءل عما هو العمل القانوني الذي يفكر أنها ستقوم به ضده.. كانت متأكدة من أنهما لايتكلمان عن اللوحة، ولابد أن يكون كلامهما عن منجم الألماس.ربما كان لوالدها يوماً حق بالمنجم.. على أي حال يتصور فليكس ويستون أن مقاضاته أمام المحاكم ستكون دعاية علنية سيئة ولكنها لاتعرف شيئاً عما يتحدث عنه. والظاهر أن فيلكس يأخذ المسألة بجد كبير والملايين الخمسة شاهد على هذا!
قال بقسوة شريرة: "لن أتحمل عنادك".
ـ ولا أظنني سأ تشبث بعنادي.
وانسلت الكلمات منها قبل أن تتمكن من استرجاعها.. وكانت مشغولة بمحاولة التفكير في الموقف، بحيث ردت آلياً دون فهم ماكان فليكس يقوله.. لكن عقلها تمسك أخيراً بكلمة " عناد"، ونظرت بتردد إلى فيلكس وهو يقف .
قال بصوت متجهم: لعبت دور البرودة طوال الطريق إلى هذا الموقف.. فلتتفحص هذا.
دار من حول الطاولة، وجذبها لتقف عن الأريكة بينما كانت تحاول أن تفهم ماذا يقصد..ما شأن عنادها بما يقول؟ لكنها لم تبق على عنادها عندما شدها ببطء إلى عناق جعلها تعي بشكل غامر قوة جسمه.. وتسارعت الحرارة تغزو شرايينها، ووجدت هولي عناقه أكثر فتنة من أن تقاومه.. ومع أنها علمت أن هذا سيضعف موقفها مضت فيه .. ولكن ألم تتساءل طوال النهار عما سيكون شعورها لو عانقها فيلكس ويستون؟ والآن بعدما حدث ماحدث لن تفوت الفرصة لتعرف.هكذا دست ذراعيها حول عنقه، تشجعه بشكل متعمد على احتضانها أكثر.. والظاهر أنه سارع ليستغل الفرصة..
فيما بعد، لم تعرف هولي ماذا حدث فقد تفجر شيء مابينهما.. مشاعر عطشى إلى مزيد من الارتواء.. اندفاع لاسيطرة عليه، يجمع بينهما حتى لا يعود هناك سبيل إلى الفراق.
ولكن الفراق جاء وعندما حدث كان متوحشاً عنيفاً . فقد انتزع ذراعيها عن عنقه، وأرجع رأسه إلى الوراء لينظر إليها.. وكانت عظلات عنقه بارزة متوترة ، قوية لاتلين.. وأحست بالحرج.. لأنها لم ترد منه أن يبتعد عنها.. وهو أيضاً رغم ابتعاده عنها كان يجاهد بكل طاقته ليقاوم.. إذن فهو ليس منيعاً ضدها! أشعرها هذا الأمر بالانتعاش والقوة، فلا مجال لإنكار ردة فعله نحوها. عندما أخذ يقوم تعابير وجهها رأت في عينيه نظرة حذرة وابتسمت متسلية بقدرتها على تحديه.
ـ حسناً .. قد يكون الدفاع فولاذياً ، لكن الجسد جسد امرأة.
ردت ساخرة: لكنني لم أشك قط في رجولتك.. إنما لابأس بمعاينة الأمر.
ـ اعتبري المسألة منتهية.. متى تريدين أن يتم الزواج؟
الزواج ؟ لم يكن لدى هولي جواب جاهز. ولم تعرف بماترد.. وتوجه تفكيرها إلى المعاني المزدوجة التي ذكرها .. لقد قال : اقترحي وسأقبل.. وطلبت أن يقترح هو..لم تفكر قط أنه قد يقترح شيئاً كالزواج ولكن الواضح أنه ظن هذا.
هذا سخيف! لكن كيف تشرح الأمر له؟ إنه ينتظر ردها.. لقد تصورت أنها قد تقع في حبه، لكن زوجته؟ كان للفكرة سحر غريب.. وبعد ذلك العناق لن تقول لا.. إنما ليس في الحال.
ـ وماذا يناسبك؟
ـ يناسبني أن يتم الأمر في أسرع وقت ممكن.. فساعتئذ، أستطيع التأكد أنك لن تلجئي إلى أي خداع. فلنتم الزواج غداً .
فكرت بتهور: ولم لا؟ لم يجعلها رجل قط تحس بأنها حية فكرياً وجسدياً، حتى " صديقها" الأول الذي خططت لتتزوجه. فلماذا لاتجرب مع فيلكس ويستون؟ وقبل أن يسيطر المنطق البارد أكثر على نفسها، قالت : " أجل.. ليس لدي ماهو أفضل من هذا أفعله غداً..".
ليس لديها ماهو أفضل لتفعله لما تبقى من حياتها.. وزواجها هذا سيكون تغييراً .. نحو الأفضل.. أو الأسوأ.
قال بصوت ملؤه الرضا: اتفقنا إذن .. سأقوم بالترتيبات اللازمة.
أحست هولي بالتردد.. ومع ذلك قالت بتبجع ثابت: هذا يناسبني.
على أي حال، لو غيرت رأيها فسيكون بمقدورها ركوب أول طائرة إلى بوسطن، بينما هو ينتظرهافي الكنيسة .. لكن حتى في هذه المرحلة، لاتظن أن هذا سيحدث.
في ماتبقى من الأمسية تساءلت هولي عما إذا أخذت إجازة من عقلها.. لقد جاءت إلى هنا بحثاً عن معلومات عن والدها، وإذا بها تندفع إلى قرار لم تكن لتتوقعه حتى في أكثر أحوالها جنوناً . لكن معرفتها بأنها ليست في خطر خفف من الضغط على أعصابها، وأدركت أكثر أن قبول فيلكس لهذا الزواج المجنون، سيبلغها بكل تأكيد شيئاً ما عن والدها، وحياته.
لكن كيف السبيل لإيجاد الوقائع الصحيحة خاصة وهي تجهل كل شيء؟ ولكن فيلكس على مايبدو يدين لوالدها بشيء، وهو مستعد للمضي حتى الزواج ليصلح هذا الأمر الذي جرى مع والدها في الماضي.. سيكون زواجهما بلاشك علاقة مريرة، لأن فيلكس سيظنها مجرد امرأة مندفعة تحسب حساب كل شيء ببرود، قد انطلقت لتحصل على ماتستطيع الحصول عليه .. من ناحية أخرى، هو ببرودة كان يقوم بشيء من الحسابات ليوفر على نفسه إجراءات قانونية يعتقد أنها ستكلفه الكثير.
ولكنه لايبدو غير سعيد بالصفقة التي عقداها.. بالمعنى الذي قصده هو. ساد الحديث بينهما جو من عدم الواقعية .. وانطلق فيلكس يحدد التفاصيل العملية لما يحتاجه زواجهما.. وقالت هولي نعم لكل شيء اقترحه.. من زواج خال من أي مراسم إلى صرف النظر عن كل ادعاء زائف بشهر عسل. وحين قال إنهما سيسافران إلى " بندنير داونز" في الصباح الذي سيلي زفافهما، لم تسأل أين يقع هذا المكان، أو ماهو.. ووافقت دون سؤال.. مع أنها لاحظت أن موافقتها حملت بريقاً من الرضا الماكر إلى عينيه الخضراوان القاتمتين . هذا ماشدها من تفاؤلها لتعرف أن فيلكس لا يتقبل هذا الزواج بإرادة طيبة منه.. ربما وجدها مرغوبة لفترة.. لكن، بطريقة أو أخرى كان عازماً على هزمها في هذه اللعبة التي يعتقد أنها تلعبها.. إنها الآن تمسك نمراً من ذيله، لامجال لترويضه في الوقت الحالي.. والغريب أنها لم تشعر بالانزعاج من هذه الفكرة، بل على العكس أثارتها الفكرة أكثر.. لاشك أنها مجنونة حقاً أو أن فيها خطباً ما .. مع ذلك فقد استمرت تلاعبه.
أعادها رنين جرس الهاتف إلى أرض الواقع، وبوضوح كامل.. كانت هي وفيلكس قد أنهيا الطعام وعادا إلى غرفة الاستقبال يشربان القهوة، حين وصلت المخابرة.. توتر لهذه المقاطعة، لكنه التقط السماعة..
لم تستطع سماع سوى ما يقوله هو من الحديث.. لكن هذا أفادها بأن استطاعت تركيز تفكيرها بحدة.
قال:" لا.. يجب أن تتدبر الأمر بنفسك جاك.. لاأستطيع المجيء.. لدى هنا ما هو أهم"
صمت فيلكس فترة قصيرة جادله المتصل خلالها.. والتوى فم فيلكس بابتسامة ساخرة: سأتزوج غداً .. بالنسبةلي، لهذا الأولوية القصوى.. فافعل ما تعتقد أنه الأفضل .. مزاجي لايسمح لي أن أهتم الآن .. خطيبتي معي.
تراقصت التسلية الساخرة في عينيه وهو يصغي لردة فعل المتكلم.. ثم: ـ هي ليست أسترالية.. إنها أميركية، من بوسطن ، ماساتشوسيتس ولا أنوي انتظار أي شيءجاك..هذا شأني الخاص.
عندما طرح سؤال آخر قست عينا فيلكس فجأة وهما ترتفعان لتلتقيا عيني هولي المتسائلتين: اسمها هولي رايدال.. لكن مساء الفد سيصبح الاسم هولي ويستون. لقد قررنا أنا وهولي أن زواجنا شأن خاص بيننا فقط.. وهذا أمر نهائي جاك.. سأتصل بك حين أكون مستعداً .. وليس قبل ذلك.

أعاد السماعة إلى مكانها بحدة، وكأنما ينهي أي جدال آخر.. في تلك اللحظة، قررت هولي شيئاً ، فيلكس ملتزم بزواجهما، وهي لن تتراجع أبداً .. مهما ثبت غباء هذا، فهي مغامرة يجب أن تخوضها، أو ستندم!
أعادها إلى فندقها، وأوصلها إلى غرفتها. كانت قد أعطته جواز سفرها لتسهيل المعاملات القانونية المطلوبة للزواج، ولم يكن هناك شيء تفكر فيه لاستبقائه معها .. فتحت الباب وتوقفت تنظر إليه،آملة أن يعانقها عناقاً سريعاَ لتقتنع أكثر بصواب قرارها.
كانت تعابير وجهه جامدة ومخيفة بطريقة ما،وهذا ما جعلها تتساءل عما إذا كان يعيد النظر بقراره المتعلق بزواجه بها..
قالت بسرعة ملهوفة لإبقاء الحال على ماهو عليه: " ليلة سعيدة"


يتـــــــــــــبع
لكنه أوقفها وهي تحاول الخطو داخل غرفتها ويده تمسك ذراعها بقسوة. قال وعيناه تحترقان بحدة آمرة: شيء واحد آخر.. هولي.. تلك اللوحة يجب سحبها من المعرض في الصباح الباكر.. أبلفي هامينغز أن يغلفها ويخزنها.. ضعي مكانها شيئاً آخر. لاأهتم بالترتيبات التي قد تتخذينها طالما لن تبقى معروضة علناً.. هل هذا مفهوم؟ اللوحة! طبعاً.. هي صلب كل شيء..هي السبب الذي دفع فيلكس إلى هذا الزواج غداً. اشتد ضغط أصابعه على ذراعيها بشكل مؤلم، وزادت نظرته القاسية من حدة الأمر: ستحصلين على ماأردت.. والآن سأحصل على ماأريد .. من الآن وصاعداً، انتهى اللعب . لاتشكي في هذا للحظة واحدة.
ولم تكن لتشك.. وصممت ألا تكشف له أبداً كيف تم الوصول إلى هذا الموقف، مهما حصل:هذا الشيء الأول الذي سأهتم به في الصباح.
لقد أحست دوماً بالذنب لأنها عرضت اللوحة على كل الأجوبة التي تسعى إليها ولكنها واثقة أن الزمن كفيل بكشفها.. نظر فيلكس إليها متفرساً، وكأنه ليس واثقاً إن كان قادراً على الثقة بها.. ثم هز رأسه وترك ذراعها: أنت لست غبية.. يمكنني تأكيد هذا عنك.. هولي ماكنافش ـ رايدال.
لامس خدها بتحية ساخرة وأضاف: حتى الغد.
أطلقت هولي أنفاسها متنهدة تنهيدة خيبة.. فالواضح أنه غير راغب في كشف أي شيء لها، مع أنها أحست بأنه أراد معانقتها.. فهل أعاد التفكير في الأمر مرتين لأنه خشي أن يفقد سيطرته على نفسه. فيلكس ويستون، رجل متكبر، مكتف بنفسه. بعد الغد سيكون زوجها وساعتئذ لن يدير لها ظهره.
لوت ابتسامة صغيرة فم هولي وخطت إلى غرفتها وأقفلت الباب.. غداً سيأتي بالسرعة الكافية

ـ عينان تبحثان عن الألم


كان على هولي القيام باتصالين هاتفيين في الصباح التالي.. وبدأت باتصال العمل أولاً. ارتفع صوت جيوفري هامينغز بانفعال: بعتها!
ـ لا.. ولن أبيعها أبداً جيوفري..كل مافي الأمر أنني أريد سحبها من المعرض.. لقد قررت أنني لاأريد إظهارها بعد الآن .. لذا سأكون ممتنة لك لو خزنتها لي، حتى إشعار آخر.
ـ لكن..
قاطعته:" اللوحة التي رسمها أبي عن الغابة الاستوائية ذات القياس.. واسم الأحلام الضائعة ينطبق عليها أيضاً .. فلو علقت هذه مكان تلك لملأت الفراغ ، وعندئذ لن يلاحظ أحد شيئاً ..".
بدأ صوت سمسار اللوحات يشبه صوت أسطوانة مكسورة: لكن..لكن.. بالتأكيد بعتها؟
ـ أعتقد أنك عقدت صفقة مربحة بالأمس مع فيلكس ويستون.. ولكنني.. لم أبعها.
ساد صمت قصير.. جيوفري هامينغر بعيد كل البعد عن الغباء، تصورت هولي كيف يشغل عقله في هذه اللحظات فلاشك أنه يقلب في فكره العواقب المحتملة.. حين تكلم كان صوته قلقاً: كيف عرفت بما جرى الأمس؟ ابتسمت هولي لنفسها.. لن يجادلها بعد الآن بشأن اللوحة.. وسيكون تاجر اللوحات أكثر حذراً في التعامل معها مستقبلاً.
قالت:" جيوفري.. أنت ثرثار.. وماقلته لفيلكس ويستون عن هذا، هذه المرة.. كل ما ستخسره، هو عمولة خمسة ملايين دولار.. من ناحية أخرى.. لدى فيلكس ويستون مجموعة فنية عظيمة، وفي السنوات القادمة قد يشتري الكثير من اللوحات منك.. لقد وجدت كنزاً محترماً جيوفري".
صمتت قليلاً ثم سددت ضربتها: ستتأكد بنفسك من استبدال اللوحة هذا الصباح، أليس كذلك؟ أظنك غير قادر على إتمام الأمر بالسرعة الكافية. سمعت تفجر أنفاسه: بل أقدر، بل.. أقدر.. سأباشر هذا على الفور.
ـ شكراً جيوفري.. أقدر لك هذا. أنت وكيل رائع.
تنهدت هولي وهي تعيد السماعة إلى مكانها، واستعدت للمخابرة التالية.. فأمها لن تسامحها أبداً لو تزوجت دون إعلامها.. ومن السوء بما فيه الكافية ألايكون العرس مناسبة اجتماعية ضخمة في بوسطن. لكن الأكثر سوءاً ألاتخبرها مسبقاً عن زواجها، وبما أن هذا الزواج سيتم بهذه السرعة فلن يكون بمقدور هيذر وجول رايدال الحضور.. وهذا أفضل.. فالموقف مخادع.
ـ ستتزوجين من أسترالي؟
ماكانت صدمة هيذر رايدال وسخطها ليكونا أكثر وضوحاً ، لوكانت ابنتها واقفة أمامها.
أردفت:"عرفت أن سفرك لن يجلب لك أي خير"..
قدمت هولي المواساة التي يمكن أن تكون الأفضل لتسكين ثورة أمها: فيلكس أوسم رجل يمكنك أن تتصوريه، أمي.
ـ وهكذا كان والدك.
هذا خبر جديد لها وهذا يشير إلى السبب الذي جعل أمها تولع به. الوسامة والجمال هما تقريباً كل شيء بالنسبة لهيذر رايدال.. فتشوه وجه ابنتها مثلاً كان أمراً لم تستطع تحمله وهذا مازاد هولي ألماً ولكن الوقت حالياً غير مناسب لنبش الجروح القديمة..
أردفت:" وهو كذلك عظيم الثراء".
ـ من أين؟
إنها تعني هل ورث ماله عن أبيه أم جناه بنفسه.. ولكن التبجح المتكبر الضمني في هذا السؤال جعل هولي تغضب..
ـ من الألماس أمي.. لا أدري ما إذا سمعت بألماس كيمبرلي الملون، لكنه أروع ألماس في العالم.. وفيلكس يمتلك مناجم منها وهو من مشاهير العزاب بل هو الملك بينهم.
ـ لاتكوني سوقية الألفاظ هولي.. أعتقد أنه قد يكون مقبولاً .
ـ أنا تقبلته على أي حال.
ـ أجل ..حسناً أعتقد أن علي أن أكون ممتنة لأنك أعطيتني علماً .. ولماذا الاستعجال؟ لا يعجبني هذا.. هلا أخبرتني الحقيقة كلها؟
ـ أمي!
ـ إذن لماذا لا تتزوجين بشكل ملائم؟
تنهدت هولي.. فمخاوف أمها طبيعية: أنا لست متورطة معه أمي.. فيلكس ببساطة لايريد الانتظار.
ـ النساء يجعلن الرجال ينتظرون.. من غير اللائق..
ـ أمي! سأتزوج اليوم! أرجو منك أن تتقبلي الأمر!
ران صمت قصير بعد مقاطعة هولي الحادة لأمها.. ثم جاء القبول بشكل بارد: أتوقع أن يتمكن جول من الحصول على ملف عن فيلكس ويستون هذا، لنتمكن من إطلاق الخبر هنا. لكنني سأكون شاكرة إن أرسلت لي صورة زفاف.. وأشك أن يرضي هذا صفحات المجتمع..
ـ أشك في أن يرغب قيلكس بالدعاية على أي حال.
ـ هولي .. أنا لا أفهمك.
ـ لا أظنني أفهم نفسي.
وسمعت تنهيدة ثقيلة عبر الهاتف: متى سنلتقي به؟
ـ سأدعك تعرفين في الوقت المناسب أمي .. سأرسل لك العنوان الكامل حين أراسلك.
فجأة، كان في صوت هيذر رنة إلحاح: هولي .. هولي.. منذ متى تعرفين هذا الرجل؟
ـ أعرفه مدة تكغي لأعرف أنني أريد الزواج به.. أمي.. أرجوك لا تقلقي. أعدك..
ـ هولي هذا ليس رداً .. أنت تتجنبين الرد..
أطلقت نفساً متحشرجاً : ـ هولي.. لقد عرفت أباك مدة أربع ساعات حين.. حين وقعت في حبه بجنون.. ورغم ما شهرناه نحو بعضنا بعضاً، تبين أنها كانت غلطة رهيبة. لم نعرف بعضنا معرفة جيدة.. صدقيني أنني أعرف قوة الجاذبية الجسدية.. لكن.. عزيزتي.. غريب.. إنها لا تذكر متى آخر مرة سمعت مثل هذا الاهتمام والقلق العميق في صوت أمها: أمي..
ونفرت الدموع من عينيها: الأمر أكثر من هذا .. حقاً .. أنا لست صغيرة كما كنت أنت .. أمي .. أرجوك.. تمني لي الحظ.
ارتجف صوت الأم:" ألن تنتظري؟".
ردت هامسة:"لا".
ـ أتمنى.. أتمنى فعلاً لك السعادة هولي.. ماكنا يوماً على تواصل لكنني أردت لك دوماً كل ماهو أفضل.. تعرفين هذا.. أليس كذلك؟
ـ أجل.. أجل أعرف أمي.. بالتأكيد..
كانت الغصة في حلقها وبدا لها أن من السخف أن تكون عاطفية إلى هذا الحد.. مع ذلك.. ربما في الزواج ما يقرب الأمهات والبنات معاً ، مهما كانت المسافة بينهما بعيدة.. لم تكن غلطة أية واحدة منهما لأن نظرتهما إلى القيم والحياة مختلفة..
ـ شكراً لك أمي.. أشكرك لكل مافعلته من أجلي..
تنهدت:" هولي.. أتمنى أن تكوني عارفة بما تقدمين عليه".
ـ وأنا كذلك.. يجب أن أنهي المكالمة الآن أمي. سأتصل بك في القريب العاجل.
أحست هولي براحة كبيرة لإنهاء المكالمة التي لم تتصور للحظة أنها ستكدرها.. ربما حين تلتقيان مرة أخرى تعودان إلى ما كانا عليه من التباعد.. كقطبين متناحرين.. لكن، كان من الجيد، ولو لمرة واحدة، أن تطمئن أنها ليست ابنة اللايزر بالنسبة لأمها.. وأنها تهتم فعلياً بها.. مسحت عينيها وسحبت نفساً عميقاً ..ثمة أمر واحد يمكنها القيام به لإسعاد أمها وهو أن ترسل لها صورة عن الزفاف ولتكون الصورة جيدة عليها ارتداء ثياب تعجب أمها.. وبما أنها لن تسمع من فيلكس شيئاً إلى مابعد الظهر فهذا يعني أن لديها الوقت الكافي للخروج ولشراء بزة العرس.. وشيء مميزمعاً . على أي حال، الزواج مناسبة مميزة بحياة الإنسان.. مهما كانت الترتيبات غير طبيعية. استمتعت فعلاً بفترة الصباح وجابت فيها ثلاث دور للعرائس قبل أن تجد ماتريده. أعجبت بعدة أثواب رومانسية، ولكنها فكرت في النظرة الساخرة التي ستظهر في عيني فيلكس الخضراوين.. تلك البذلة الحريرية البيضاء التي اختارتها كانت رائعة، بسيطة، وأنيقة، وغالية الثمن. أبرز طرازها الكلاسيكي، ثنايا جسدها. وهذه السترة، وهذه التنورة ما كانتا أكثر تناسباً مع جسدها، لو أنها طلبت تفصيلهما على مقاسها.. ثم اعتمرت قبعة صغيرة أنيقة تتناسب مع البذلة، مصنوعة من القماش الحريري ذاته، ثم اشترت حذاء وحقيبة لتتم زيها. أخيراً عادت إلى الفندق مسرورة بما اشترته.. نشرت كل شيء فوق السرير، لتستمتع بالتطلع إليها.. ثم طلبت غداء خفيفاً إلى غرفتها. ما إن وضعت الهاتف من يدها، حتى بدأ يرن مرة أخرى.. فالتقطته ثانية، ولكم أدهشها سماع صوت فيلكس الذي اتصل قبل وقت مما اتفقا عليه.
قال بلهجة ماكرة: حاولت الاتصال بك طوال الصباح..
ردت بصراحة مماثلة: لقد أبعدت اللوحة من المعرض.
ـ أعرف هذا .. أردت فقط أن أتأكد ما إذا كنت بحاجة لشيء.. ثياب أو ماشابه..
ـ أنا على مايرام.. شكراً لك.
رد ساخراً :" عرفت أنك ستكونين منظمة.. ولم أتوقع ماهو أقل من هذا".
ردت بتحد: بإمكانك التراجع ساعة تشاء فيلكس.
قال بصوت: " ثلاث ساعات على العد العكسي".
ردت بحدة:" عظيم"!
ـ لسوء الحظ ثمة مشكلة إضافية علينا الاهتمام بها . فأمي تطالب بمقابلتك، ولقد وصلت هذا الصباح.. ولأنك العروس العتيدة، يجب أن تظهري بهذا الدور.. وأعتقد أن الملابس التي عندك تغطي هذا الأمر غير المتوقع! .
إذن لهذا كان يتصل بها! ابتسمت هولي.
ـ أمي تطالبني بشيء أيضاً فيلكس، صورة عن الزفاف. لذا اشتريت بزة مناسبة هذا الصباح. فهل ترتب أمر المصور، أم أرتبه أنا؟
تمتم بشيء من بين أنفاسه قبل أن يرد: اتركي الأمر لي. هل بمقدورك أن تكوني جاهزة في الساعة الثانية؟
ـبكل تأكيد.
ـ أمرت رئيس مصممي الجواهر أن يأتي من " بيرت" ومعه مجموعة مناسبة لعروس من الماس.. وأظن الفكرة ستعجبك. وإذا سار كل شيء كما يجب سأجلبه معي إلى غرفتك في الساعة الثانية.. بعض القطع قد تتطلب بعض التجربة.
ـ كما تشاء..
لايعني الألماس لها شيئاً .. لكن لم يعد هناك شك أنها الأساس في هذا الزواج.. ولاتستطيع إحباط فيلكس بهذا الخصوص.
قال بصوت متهكم: أيتها الآنسة الصغيرة الباردة.. هل لديك فكرة كم من المثير.. ؟ لا.. لاتردي على هذا.. أنا واثق أنك على علم بما أنت مقدمة عليه.
وانقطع الخط فجأة . فيما كانت تضع السماعة مكانها، لم تستطع إلا الابتسام لنفسها ابتسامة عريضة.. لقد زل لسان فيلكس.. وكشف أنه يجد واجهتها الباردة، مثيرة. ربما توصلت إلى نفسه كما توصل هو إليها.. وإذا كان الأمر هكذا.. حسن جداً ، فقد تكون عروس الماس، لكنها ستكون زوجة لن يسهل على فيلكس ويستون التخلص منها.
أفقدها انفعالها شهيتها، لذا عندما وصل الغداء لم تستطع إلا تناول السلطة.. وهمس لها التعقل أن إحساسها بالبهجة والترقب غير مبرر في مثل هذه الظروف.. لكنها مسرورة كثيراً بالاستعداد للزفاف.
استحمت واعتنت بأظافرها وتعطرت، وارتدت قبل الثانية بخمس دقائق.. ولم يبق أمامها. غير اعتمار القبعة ولكن عليها ألاتعتمرها إلابعد زيارة الجوهري.. وضعت شيئاً من التبرج الأنيق على عينيها فعليها أن تظهر أجمل مايمكن أن تكون، فثمة صورة تريد إرسالها إلى أمها.. لم تكن هولي ممن يهتم بالتوافه التي تهتم بها النساء عادة ولكنها عرفت أنها تبدو كأفضل ما يمكن أن تبدو.
وعندما رآها فيلكس بعدما فتحت له الباب برقت عيناه علامة الرضا.. فخفق عندئذ قلبها بقفزة مثيرة ولم تستطع غير رسم ابتسامة مهذبة على شفتيها.. انتزعت عينيها عن الزوج العتيد إلى الرجل الذي يرافقه. كان رجلاً صغير الجسم، تجاوز منتصف العمر.. كتفاه منحيتان قليلاً ، وشعره رمادي.. ولكن عينيه كانتا حادتين من فرط الفضول وهو يقوم هولي.
قدمهما فيلكس بسرعة: أريك تانر.. هولي هل لنا أن ندخل؟
ـ كيف حالك سيد تانر؟
ومدت له يدها فسارع الرجل ينقل حقيبته من يد إلى أخرى ليصافحها وقال مبتسماً ابتسامة مشرقة: تسرني مقابلتك آنسة رايدال.
أصدر فيلكس صوتاً فيلكس صوتاً ينم عن نفاد الصبر.. فنظرت هولي إليه نظرة فوقية، مع أن نبضها كان يتسارع بسببه.. تراجعت إلى الوراء ولوحت للرجلين ليدخلا إلى الغرفة. أسرع أريك تانر إلى الطاولة الموجودة تحت المرآة ووضع حقيبته عليها، ثم أخذ يفتح أقفالها المتعددة.. ووقف فيلكس إلى جانب هولي وعيناه الخضراوان تومضان بإعجاب متهكم.
قال بصوت منخفض: لقد كسبت إعجاب السيد تانر.. لكنك أبرع ما يكون في الكسب.. أليس كذلك؟
ردت بسخرية مماثلة:"أعرف كيف يكون الخاسر.. والواقع أنني لم أجد الخسارة تجربة سعيدة".
ثم توجهت نحو الجواهري الذي فتح الحقيبة، وسألها الرجل: أتعرفين مقاس خاتمك آنسة رايدال؟
ـلا.. سيد تانر.. لا أعرفه.
ـ هل لي بيدك اليسرى.. أرجوك؟
جرب سلسلة من الخواتم على إصبعها الثالث حتى عرف القياس.. بعد ذلك، نظر إلى أذنيها فلاحظ القرط الذي تضعه.
ـ عظيم، إنهما مثقوبتان.. لا مشكلة إذن .
أعطى فيلكس علبة متمتماً : هذا هو القرط.
ثم رفع علبة أخرى من حقيبته وفتحها دونما اكتراث.. عندما شهقت هولي شهقة ملؤها عدم التصديق ابتسم الرجل، وقال لها بفخر: نجمة الشرق.
كانت القلادة فعلاً أشبه بنجمة في وسطها الألماس النفيس وكان حجمها ولونها الوردي الأخاذ يسلب الأنفاس.راقب فيلكس عن كثب و الجواهري يثبت السلسلة البلاتينية حول عنقها، ثم قال: سنرفعها قليلاً .. أجل هذا ممتاز.
أزيلت القلادة عن عنقها، وعادت إلى حقيبة الجوهري الذي قال لفيلكس: لن يستغرق الأمر وقتاً طويلاً فيلكس.
ـ عظيم سنكون هنا.
ورافق الرجل إلى خارج الغرفة.
حاولت هولي استجماع شيء من رباطة جأشها.. لاتظن أن في مجوهرات أسرة رايدال مايشبه ولو من بعيد" نجمة الشرق" ، وتشك كثيراً أن يكون هناك ما يماثلها في أي مكان. إلا ربما، بين جواهر التاج البريطاني. لقد قالت لأمها إن فيلكس فاحش الثراء.. وهذه الألماسة الوردية تساوي بمفردها عشرات الملايين!
قال فيلكس ساخراً وهو يعود إليها: راضية؟
ردت بجفاء:" إنها جميلة جداً ".
التوى فمه:" بل هي فريدة من نوعها هولي.. والخاتم مع القرط يشبهانها.. ستحسدك نساء العالم أجمع عليها ".
رفع يده يداعب تجويف عنقها.. ووجدت هولي من الصعب إبقاء تنفسها طبيعياً ، وأملت أن لا يشعر بنبضاتها المتسارعة.
أردف:" ولديك الجمال الذي سيزيدهن غيظاً .. آمل أن تكوني راضية؟".
ـ راضية كل الرضا.
ـ بما أننا اخترنا هذا السبيل لتسوية المسألة بيننا، فلاداعي أن تعرف أمي أنك ابنة ايرول ماكنافش.. أنت هولي رايدال من بوسطن، ماساتشوستس، وسنترك ألم الماضي للماضي.. وإلى الأبد هولي.. فهل هذا مفهوم؟ أنا أدفع الكثير، وأنت لم تفعلي إلا القليل القليل.
إذن الفريق الآخر كان يتألم أيضاً ، وليس أبوها فقط هو الذي تألم.. لكن هذا غير مهم الآن .. قالت تذكره: كما قلت أنت ليلة أمس.. أنا لست غبية.. ثم لدي كرامتي.
بحثت عيناه الخضراوان عن عينيها بنظرة إمعان ثم قال ببطء: ماكنت لأظن هذا.. لكن لابد من مجيء وقت نعرف هذا، جميعاً .
قالت:" أنت ستعرف وحدك".
لم يكن هناك جدوى من القول له إنها لاتنوى أبداً إيذاء أحد.. ولكن لو أظهرت له أي ضعف لداسها.. ولو عرف يوماً ماذا فعل بنفسه.. لقتلها على الأرجح.
انتزع الرضا البرودة من عينيه.
ـ هل أطلب منك الكثير؟. أتظنين أنك تستطيعين التظاهر بأنك تحبينني بجنون من أجل أمي؟ أفضل أن تكون سعيدة.. لاتعيسة.
ـ شرط أن تمثل ذلك أيضاً من أجل أمي. بضع لقطات للزفاف المبارك؟ أتظن أنك قادر على تحملها؟
ارتفع حاجباه لسخريتها: ألاتعرف أمك ماكنت تنوين عليه؟
ـ أمي لاتعرف أكثر مماتعرف أمك. وهي تكره ماقد يذكرها بزواجها الأول، بل يؤلمها مجرد ذكر اسم أبي.
ـ إذن .. نحن في صدد خدعة كبيرة.. على الأقل، لن يكون الأمر مملاً.
وضحك ضحكته المثيرة الأجشة.
ردت لتخفي سرورها ببسمة جافة: هذا بالضبط ما أفكر فيه.
التقط يدها ووضع علبة الأقراط في كفها: هذه هي الأقراط.. من الأفضل أن تضعيها الآن.
جلس مشيراً إليها أن تتوجه نحو المرآة: هيا.. ألا تموتين شوقاً لتريهما في أذنيك؟
قالت بسرعة:" لم أطلبهما فيلكس".
أمرها وعيناه تقسوان:ضعيهما.. كنت أنوي دوماً أن أهديهما إلى عروسي عندما أتزوج.
تسلل الشعور بالذنب إلى قلب هولي فهو كان يريد تقديم القرطين إلى المرأة التي يحب.. ولكنه ليس صغيراً .. أتراه لم يستطع أن يحب امرأة؟.. كما أنه لم يكن مجبراً على الموافقة على الزواج بها.. وهو اختارها هي عروساً له.. ويريد منها تدعي حبه أمام أمه.
دنت من المرآة دون جدال.. كانت تشعر به يراقبها وهي تفتح العلبة.. وتألق القرط مشعاً في وجهها .. توسطت كل ألماسة وردية مجموعة من الألماسات البيضاء الصغيرة.. أصغر بكثير من ماسات القلادة، ولكنها رائعة مثلها.. ارتجفت يداها قليلاً وهي تأخذ الزينتين الذهبيتين وتعلق ثروة في أذنيها.
قال ساخراً :إنها تناسبك.. وهذا ما ظننته.
ـ يسرني أنك راض.
برقت عيناه خطيراً لكنه سيطر على نفسه، وهز رأسه مشيراً إلى السرير: هل هذه القطعة الجميلة قبعة؟
ـ أجل.. وهل تحب رؤيتها على رأسي كذلك؟
ـ ولم لا؟
كانت تضعها بدقة على رأسها حين عاد الجوهري.. رد فيلكس على الباب لكنه لم يتركه يدخل بل سمعته هولي يشكره ثم عاد إليها ليقول معلقاً على القبعة: ذوقها رفيع.
ثم فتح إحدى العلبتين اللتين كان يحملهما، وأخرج منها القلادة. وعندما وضعها حول عنقها اقشعرت بشرتها ولكن عيونهما تلاقتا في المرآة، وللحظة قصيرة تبادلا النظرات.. فهما غريبان على وشك الدخول في أقدس العلاقات بين المرأة و الرجل.
تمتم فيلكس:" والآن، الخاتم".
واشتد وجهه توتراً وكأن هذه اللحظة أزعجته بطريقة ما.. ثم دس الخاتم في إصبعها.. كانت الألماسة الوردية أكبر بقليل من تلك التي في القرطين، لكن التصميم واحد.. جمع فيلكس العلب الثلاثة، ورماها في حقيبة ملابسها، وقال وهو يتوجه نحو الهاتف: إن انتهيت من توضيب حقائبك فسأستدعي الحمال.
بعد ثلاثين دقيقة خرجت هولي من الفندق، وتوجها إلى شقة فيلكس، وعندما وصلا استقلا مصعده الخاص.. شعرت وهما في المصعد بتوتر فيلكس.. وبعدما توقف المصعد، لم يسارع للخروج منه، بل مال إلى الأمام وضغط زر إغلاق الباب.. ثم بدا أنه يستجمع شجاعته قبل أن يستدير نحوها.
ـ تذكري أن أمي وزوجها لا يعنيان لك شيئاً .. تظاهري أنك لا تعرفين شيئاً عنهما..
هزت رأسها تسخر من سخرية القدر فهي فعلاً لا تعرف شيئاً عن امه وزوجها! حتى أنها لاتعرف اسميهما!
ـ إذا كان هذا ماسندعيه، فلاتنس القيام بالتعارف الرسمي، فيلكس.
التوى فمه: وبإمكانك كذلك الادعاء أنني أنا وأنت.. حبيبتي.. زوجان سعيدان.. فابتسمي. وابتسمت
ـ ابتسامة غير سيئة ولكن أضيفي إليها بعض الدفء و التألق، وعندئذ ستكون ابتسامتك أكثر إقناعاً.
ـ أعطني الدفء ، أعطيك إياه.
أحست أنه يسترخي وهو يضحك: سأقوم بما هو أكثر.. كوني متأكدة من شيء واحد .. ستعرفين الليلة مامعنى تكون زوجتي . ليس عليك إلا التفكير في هذا ومامن أحد سيشك بشعوري نحوك.
اجتاحت موجة من الحر هولي، بينما عيناه تجولان في جسمها بتفجر ملتهب. إنه يسعى إلى تخفيض قيمتها لتكون امرأة أخرى في حياته. المسألة ليست رغبة بقدر ماهي حاجة ملحة للانتقام منها بأقدم طريقة عرفها الزمن وهي طريقة سيطرة الذكر. برق وميض التسلية و النصر في عينيه، عندما لاحظ ارتفاع اللون الأحمر إلى وجنتيها. ابتسم وتلمس بشرتها المحترقة بأطراف أصابعه.
ـ لديك الآن الحرارة و الدفء.. فلاتنسي الابتسامة. حبيبتي.. القليل من الإشراق مطلوب. فكري في الألماس.
ثم حرك أصابعه نحو زر المصعد مجدداً، وفتح الباب. لم تكن مستعدة للصدمة التي عصفت بها حين دخلت إلى غرفة الاستقبال، ونهض الزوجان المنتظران عن الأريكة.. في هذا الوقت احتاجت هولي إلى كل الانضباط الذاتي الذي تملكه لتحافظ على ابتسامتها في مكانها. دل وجه المرأة على الكبر.. لكن جماله لم يتغير.. فما زالت تانك العينان الهائمتان كما كانتا عندما رسمهما أبوها في اللوحة.. تسعيان إلى شيء ما.. تتذكران شيئاً ما .. تشتاقان بألم إلى شيء ضاع إلى الأبد.. وهاتان العينان تعلقتا بوجه هولي وكأنهما تريان منظراً يعذب روحها.
قدمهما فيلكس لها: هولي.. هذه أمي وزوجها، دونا و جاك ويستبرون.
سمعت هولي القلق في صوته مع أنه حاول ادعاء الاسترخاء. دونا. رنة صوت ناعمة تتردد عبر جبال كيمبرلي، وتهمس في الحقول التبنية الشاحبة لتبقى متواجدة في زوايا الشغف الزرقاء.. دونا.. العينان الشاردتان بقيتا معلقتين بوجه هولي تسببان لها توتراً حاداً. مد جاك ويستبرون يده نحو هولي ليبعد نظرة زوجته الشاردة، لكن يده أمسكت بيد المرأة إلى جانبه.. لأن تلك المرأة همست بصوت أجش متقطع: إنه هو.. لاشك أنك تراه جاك.. فيلكس يخدعني.. يخدعنا معاً.. إنهما عينا ايرول.. ولون شعره.. وليس هذا صدفة مجنونة.. لا يمكن أن تكون أي شخص آخر.. إنها ابنة ايرول.
الماضي.. الذي أراد فيلكس إخفاءه لم يعد في طيات النسيان بل أصبح هنا.. حياً ينتفض ويضج بالألم في هذه الغرفة.
ـ لن أموت من أجلك




جمال وجه دونا ويستبرون، توتراً كرباً وحزناً كبيراً.
صاحت : " متى سيتوقف العقاب؟".
اغروقت عيناها بالدموع وارتدت كالعمياء إلى زوجها طلباً للمواساة: ألن ينتهي أبداً جاك؟.
التفت ذراعاه حولها، تحميانها بلطف. واستندت إليه بشكل غريزي وهو أمر اعتادت عليه منذ سنوات.. وهذا الدعم يقدمه لها جسم الرجل الضخم الذي وقف صلباً قوياً .. لكن وجهه كذلك كان متألماً ولم تعرف ما إذا كان ذلك مجرد حنان وحب تجاه زوجته أًم ألم عميق في داخله.
كان تقريباً رجلاً بشعاً تقريباً فقسمات وجهه مركزة فقسمات وجهه مركزة فوق عنق أشبه بعنق ثور..بشرته الدكناء التي يغطيها النمش تدل على أن الشعر الأبيض كان يوماً أحمر.. لكن كان في العينين الرقيقتين البنيتين سحر إنساني يتعارض بشدة مع مظهره الخشن.
سأل بهدوء:" ماالذي يجري فيلكس"؟.
سأل فيلكس بحدة:"ولماذا أنت متأكدة إلى هذه الدرجة ياأمي؟".
ـ الاسم..المكان.. أخبرها ايرول عن زواجه الأول.. وعن الابنة التي تخل عنها وكم كلفه هذا من عذاب شخصي. لقد أثقل ذلك ضميره كثيراً .. طفلته.. الابنة التي لن يحصل عليها أبداً .. ويريدها. لقد تحدث كثيراً عنها.. كان والدها يريدها.. أحبها.. وأحست هولي بالدوار.. لم تكن مخطئة بشأنه.. لقد فعل ماظن أنه الأفضل لها. وكان ذلك على حساب نفسه..
تابع جاك كلامه: أملت أن يكون هذا مجرد مصادفة، وأن تكون هولي رايدال مختلفة من بوسطن..
كانت تكشيرته متوحشة: لكن هذا ليس سبباً يدعوك للتضحية بنفسك من أجل خطايا الماضي، فيلكس.
بذلت هولي جهداً لتخرج من الصدمة التي جعلت عقلها وجسمها يتجمدان في الدقائق الأخيرة. لقد صدمها الأثر الذي تركه ظهورها، والآن أدركت أن هذا ما أراد فيلكس تجنبه وأنه ظنها تعرف أن لوحة أبيها .. الماضي .. قد تترك هذا التأثير الرهيب..يجب أن توقف هذا.. بأية طريقة..أو تصلح الضرر الذي سببته بشكل لا إرادي وعن جهل مسبق منها.. وقبل أن يستطيع فيلكس قول شيء.. قول شيء خاطئ.. سارعت تتكلم: سيد ويستبرون.. أنا لست من تظنها زوجتك.
اندفعت إلى الامام ومدت يدها إلى المرأة التي تبكي على كتف زوجها.. وضغطت على ذراعها: أرجو منك ألاتبكي.. فلم يرغب فيلكس في تكديرك.. وأنا أيضاً لا أرغب بذلك.. لا أستطيع ألا أكون ابنة أبي، بقدر مالا يستطيع فيلكس ألا يكون ابنك.. وكلانا نريد نسيان الماضي وتركه للزمن.. أرجوك لا تدعيه يؤلمك ..هكذا!
ارتد الوجه المغسول بالدموع ببطء نحو هولي.. كانت العينان الزرقاوان مغرورقتين بألم التردد.
ـ لماذا.. لماذا.. تتزوجين ابني؟
ردت دون تردد: لم أستطع منع نفسي عن الوقوع في حبه.
عرفت أن هذا هو الرد الوحيد الذي يقدر على تسكين مخاوف دونا ويستبرون.. وابتسمت مطمئنة: أنا آسفة.. لكنني أحبه وهو يحبني.
هزت دونا ويستبرون رأسها بعدم تصديق: فيلكس؟ كيف استطعت؟
كان وجه فيلكس متجهماً . فغار قلب هولي خشية أن ينكر ما قالت، وتصبح حقيقة ترتيبات زواجهما مكشوفة.. هذه هي اللحظة الحاسمة.. إما المضي قدماً أمام ماحدث للتو جنون مطبق.. طبعاً .. هذا كله يحدث بسبب اتخاذهما قرارات سريعة. لكن الآن وقد وصلا إلى هذه المرحلة، لم تشأ هولي التخلى عن اتفاقهما. فهي تعرف أن تراجع بالنسبة لها.. ومهما تكن النتيجة، ستتزوج فيلكس ويستون..لكنها أدركت أن هذا لن يكون دون تعاونه.
رد بحدة:" لا يستطيع أحد لوم هولي على ماحدث، أمي".
لاشيء ملزم في هذه الكلمات.. وليس في كلماته مايدل على الاتجاه الذي تسيرفيه أفكاره. تقدم خطوة ووضع ذراعه حول هولي، يضمها إليه ليدعمه ويحميها.
ـ لم أخطط للوقوع بحبها.
سرعان ماأحست بالامتنان لاستنادها إليه، فساقاها تحولتا إلى سائل..فهو عازم على المضي قدماً في ما اتفقا عليه.. وتهلل قلبها ولكنها نبهت نفسها إلى أن عليها أخذ الحذر لتتمكن من إتمام ماهو مطلوب منها في هذا الخداع.
أردف فيلكس:"لم أعرف من هي حتى تقابلنا عدة مرات لأن اسم رايدال لا يعني لي شيئاً".
أضافت هولي بسرعة: وأنا أيضاً لم أعرف من هو فيلكس في البداية. بدا لنا كل شيء غير معقول. كنا مجرد غريبين، نظرنا إلى بعضنا عبر غرفة مكتظة بالناس..
أضاف فيلكس بصوت مقنع: وكان التجاوب فورياً ..عفوياً .. لايقاوم. انظري إلى هولي أمي! لا تنظري إليها على أنها ابنة ايرل.. بل المرأة التي ستكون الزوجة التي أحتاجها.. شد بأصابعه على ذراع هولي، ونظرت إليه بسرعة مبتسمة، فتلقت نظرته الولهى التي يصبها عليها.. أو على الأقل، مايمكن تفسيره بنظرة ولهى. كان فيها شيئاً حارقاً أرجف قلبها.. وللمرة الأولى رأت فم فيلكس يلين ويبتسم.. ثم أعاد نظرته إلى أمه متوسلاً: لاشأن لما حدث بينك وبين ايرول وأبي بنا أمي.. إنه من الماضي.. فأنا وهولي نريد المستقبل، معاً. فإذا صعب عليك تقبل الأمر فأنا آسف.. لكن هذا ما سيكون.
بدا الوجه الجميل معذباً شارداً ، مضطرباً من جراء الذكريات التي لا تعرف هولي عنها شيئاً.. والدها.. دونا.. والد فيلكس.. ربما هذا هو الثالوث الذي عمره عمر الزمن؟ ترى ماذا حدث لوالد فيلكس؟ لا، لا تستطيع التفكير في هذا كله الآن. دفعتها الحاجة لإبعاد شبح الماضي لدعم فيلكس بكل قوتها العاطفية.. مدت يدها نحو الأم
متوسلة للفهم: أملنا أن تكوني سعيدة من أجلنا، وليتك لم تتعرفي إلي! وماأشد أسفي لأنك انزعجت إلى هذا الحد.. أردنا.. فكرنا..
ارتفعت عيناها بتوسل إلى جاك ويستبرون الذي ينظر إليهما مشفقاً: هل من الخطأ لي ولفيلكس أن نتزوج؟
أجاب بثبات: لا.. قد يكون هذا هو الذي يسوي كل الأمور. وهذا جيد.. ولكن ما يحدث أمر لا يصدق وهذه الصدمة غريبة فمن المستحيل أن نأمل..
تنهد تنهيدة عميقة، وهز رأسه: أن يحدث بشكل طبيعي، لأمر رائع!
وبخته دونا:.. المخاطرة كبيرة. إذا فيلكس سيتعذب..
جالت عينا جاك ويستبرون على هولي.
ـ لن يعاني فيلكس شيئاً..وطالما شعرت بالذنب لأنني تركت ايرول يرحل. لكنني كنت أهون على نفسي قائلاً إنه هو من اختار الرحيل.. مع ذلك، كان يجب أن أتركه يأخذ.. ماله الذي له الحق به.
إذن جاك جزء مما حدث.. ثلاثة رجال.. وامرأة جميلة.. وصبي.. ومنجم ألماس. لكن هولي لاتستطيع التفكير الآن .. فيما بعد.. ففي الوقت الحاضر فيلكس وحده المهم.. يجب أن تبقيه إلى جانبها..وأن تبقى يقظة لتفعل أو تقول ماهو مطلوب. سحب جاك ويستبرون نفساً عميقاً ، ثم أدار زوجته لتواجهه.. داعبت يداه ذراعيها وتوسلتها عيناه حتى تصغي: دونا.. لقد سرنا شوطاً بعيداً.. كلانا.. دعي عنك الأمر الآن.. دعيه.. هذا زمان آخر.. جيل آخر. لاتحملي الأبناء وزر خطايا الآباء.
صاحت يائسة بصوت متكسر: أوه.. ياإلهي.. جاك! ماذا كنت سأفعل بدونك؟
ضمتها ذراعاه بلطف إلى قلبه: لن تضطري للقيام بشيء بدوني ما دمت أنا على قيد الحياة.
مرر خده على شعرها يطمئنها برقة لكن عينيه كانتا على هولي وفيهما سؤال.. لم تعرف ماذا سيسأل ولكنها لم تدر لماذا قالت له هذه الكلمات: مات والدي السنة الماضية.. لقد توقف قلبه.. وانتهى الأمر..بالنسبة له.
كاد ارتياح جاك يكون ملموساً .. ومع ذلك كان الاعتذار في عينيه.. وقال بهدوء: لم يكن هناك مجال للإصلاح هولي ولاشك أنه أخبرك بذلك.. ولو كان هناك طريقة، لفعلناها.
لم يقل والدها لها شيئاً .. لكنها صدقت جاك.. فحوله هالة من الوقار والصدق وعلى مايبدو أن ماحدث كان مأساة أثرت في حياة أبيها وفي حياة آخرين أيضاً..
قال فيلكس:" في سنواته الأخيرة أصبح ايرول فناناً معروفاً.. وبعض لوحاته معروضة الآن في معرض نيو ساوث وايلز للفنون، وقعها باسم ايرل ماك.. ربما ترغبين في رؤيتها أمي".
عرفت هولي لحظتئذ لماذا طلب نزع اللوحة عن الجدار، فلو دخلت دونا إلى المعرض ورأت اللوحة.. ارتجفت هولي.
قال جاك:" أنا مسرور لأنه وجد طريقة أخرى للنجاح. هل سمعت هذا دونا؟".
أبعدها قليلاً عنه، وأمسك وجهها بيديه مجبراً إياها بلطف على النظر إلى عينيه. ثم أضاف: حياة ايرول لم تتدمر، ولن ندمر حياة هولي وفيلكس بل سنتمنى لهما كل السعادة الممكنة مابين رجل وامرأة.. غداً سنذهب إلى المعرض لرؤية لوحات ايرول. وهذا سيبعث السعادة إلى نفسك.. أليس كذلك؟
هز اهتمام جاك ورقته عواطف هولي، فهو يتصرف كما يتصرف يتصرف الأب تجاه ابنته الخائفة يحاول أن يهدئ مخاوف ابنته.فذكرهه هذا المشهد بالضياع الذي رسمه والدها في لوحته.
جاء الرد الأجش:" أجل..".
ارتفعت كتفاها النحيلتان ثم هبطتا وهي تسحب نفساً عميقاً لتهدأ.. بعد ذلك ارتدت تواجه هولي وفيلكس: آسفة..وكان في عينيها التوسل للغفران. خطت هولي ؟إلى الأمام تشبك يديها بيدي دونا الممدودتين.. وتضغط عليهما بدفء.
ـ إنها الصدمة، لست مضطرة للاعتذار سيدة ويستبرون.. أرجوك.. فلنجلس كلناو.. أليس لديك قهوة جاهزة حبيبي فيلكس؟
ـ بكل تأكيد.. القهوة قادمة.
كان الحديث جافاً ملؤه الارتباك في البداية. لكن جاك بذل ما بوسعه لخفيف التوتر إذ راح يسأل هولي عن حياتها في بوسطن.. ومن حديث إلى حديث انتقل الموضوع للحديث أكثر، عن أسفارها المختلفة.
ـ وهل ستكونين سعيدة بالعيش في بند نير؟
لقد اعتادت هولي في هذه الفترة على الرد على أسئلة ذات علاقة بأمور لا تفهمها بحيث أنها لم تجد صعوبة في الرد على هذا السؤال. مع أنها لا تعرف شيئاً عن بندنير داونز أو ماهي.
ـ لقد عشت سعيدة في إنكترا، وفي فرنسا..
تدخل فيلكس:" تقصد هولي.. أو تحاول القول.. إنها ستكون سعيدة أينما عاشت".
ابتسمت له بمحبة:" شكراً لك".
قالت دونا:" لا أستطيع القول إنني كنت سعيدة هناك".
إنها المرة الأولى التي تشارك دونا بالحديث ولكن جملتها حملت في طياتها الكثير من القلق.. أمسك جاك بيدها يربتها.
ـ عزيزتي.. بعض الناس لا يناسبها سوى بيئة واحدة.. وآخرون يحتاجون إلى أماكن مخلتفة .. وأنت مكانك في المدينة.
هزت رأسها:" لم أحبها قط فهي بلاد الرجال ولا مكان فيها لامرأة".
فقدت عيناها التركيز، وانخفض صوتها إلى الهمس.
ـ وتقع فيها أمور رهيبة.
قال فيلكس:"لن يحدث مثل هذا.. هذه المرة".
تسمرت عينا دونا الزرقاوان على هولي: إذا واجهت أية صعوبات فالجئي إلينا ولا تنتظري طويلاً ولاتجعلي شيئاً يتآكلك، أهربي قبل..قبل..
ـ دونا..
شد جاك على يدها بقوة، يعيد اهتمامها نحوه: الأمر الآن مختلف عما كان.. لقد أصبح في بندنير داونز كل وسائل الراحة العصرية.. كل الوسائل.. وطائرة هليكوبتر في متناول اليد.. ولم تعد معزولة.. ثم، بإمكان فيلكس أن يعتني بهولي. فتوقفي عن القلق عزيزتي.
ارتجفت دونا، وعادت إلى الصمت. يبدو أن بندنير داونز مستوطنة سكنية قرب منجم الألماس. ربما حيث يعيش عمال المنجم، إنها بلاد الرجال.. لكنها ذهبت إلى كيمبرلي وأرهقتها الأرض الغربية الموغلة في القدم. بإمكانها أن تعيش هناك..بإمكانها العيش في أي مكان.. ربمالا يعرف فيلكس مدى صدق هذا حين تكلم.
وبعد كلام أمه، بدا فيلكس منطوياً على نفسه مع أنه شارك في الحديث. ولكنه بدا كمن يضع جزءاً من أفكاره تحت قيادة آلية.. كان تركيزه الأكبر متجهاً إلى شيء آخر، وأحست هولي بتعاظم توتره الذي بدأ يشتد بسبب اقتراب ساعة الصفر لزواجهما.. هل يعيد التفكير؟ مازال أمامه الوقت لتفيير رأيه.
سحبت هولي نفساً متقطعاً ووصلت جماعة من الرجال إلى الشقة: محامي فيلكس، مصور، ومأذن الزواج وشاهدين تبين أنهما مديران في مؤسسة فيلكس. ظل الجميع واقفين، وكأنهم عند مذبح كنيسة. ثم حين ظنت هولي أنها أصبحت آمنة، وأن الزواج لابد منه، دس فيلكس ذراعه وأعلن: هلا عذرتمونا لبضع دقائق.. فلدي أنا وهولي بضعة أمور خاصة نفعلها.. سنعود حالاً.
لم يعط هولي خياراً، فهو يمسك ذراعها بقوة، واضطرت إلى الادعاء أن هذا ماتريده أيضاً .. لكنها لم تكن تعرف ماذا ستفعل لو تراجع. قادها إلى غرفة النوم و أغلق الباب خلفهما، ثم أمسك بكتفيها ينظر إليها بإمعان فكان أن ركزت عينيها على وجهه العابس.
ـ أولاً، أريد أن أشكرك على الطريقة التي عالجت فيها الموقف مع أمي وجاك ، لقد قمت بذلك بروعة ومحبة.. لذا علي أن أحييك على هذا.
كيف تقول له إنها لاتؤذي ولاتؤلم أحداً؟ وكيف تبرهن له ذلك بعدما وضعت اللوحة للعرض؟ كان هناك رد وحيد لتحافظ على زواجهما.
ـ لقد فعلت ما اتفقا عليه فيلكس.. طلبت مني أن أتظاهر أنني أحبك، ولقد نفذت ماطلبت.. وبما أنني بدأت بهذا، فسأحافظ على المظاهر في أي مكان تتواجد فيه عائلتك.
ابتسمت ساخرة، وأضافت: إنها مسألة.
ازداد عبوسة عمقاً وهز رأسه وتركها وارتد عنها وسار في الغرفة متوجهاً إلى نافذة كبيرة تطل على المدينة.. وقف هناك عدة لحظات، ولم تتصور هولي أنه يفكر بالمنظر.. فظهره كان متشنجاً من فرط التوتر.
ثم قال بحدة:" مهما كان السبب..لقد قمت بما لا يمكن لأحد سواك القيام به، ولم أعد أشعر بأي مبرر للمضي فيما كنت أنويه".
ضربت الهزيمة قلبها بمطرقة.. فراح عقلها يعمل ويعمل للبحث عن طريقة لإقناعه بإعادة النظر..
قالت بحدة:" إذن.. أنت تتهرب من اتفاق".
ارتد وقد التوى فمه سخرية: لا.. بل سأطلق سراحك من هذا المأزق.. سأحرر لك شيكاً مفتوحاً لتكتبي عليه المبلغ الذي تريدين.. بإمكانك الخروج من هذا وأنت تحملين كل ماتريدين دون ألم أبداً.
قالت بلهجة ملؤها التحدي: وإن لم أرغب في الخروج بعيداً؟
توتر وجهه:" قلت لك حددي المبلغ الذي تريدين، فهل هناك ماهو أكثر لأعرضه عليك".
اقتربت منه حتى لم تعد بعيدة عنه إلا خطوة واحدة وتذكرت ماذا فعله بها ليلة أمس.. رفعت يدها تمرر أصابعها على خده.. فلما ارتجفت عضلة تحت لمستها الناعمة شعرت بالقوة تسري في شرايينها، وابتسمت لعينيه الخضراوين الغاضبتين، وكان طيشها يملي عليها هذه المغامرة الأخيرة.
قالت بصوت هامس: أنا أريدك فيلكس.. ولن أقبل بشيء آخر. لامال ولا ألماس، أو أي شيء تفكر فيه.. لاأريد إلا أنت.
ارتفعت يده تمسك معصمها وتجبر يدها على للابتعاد: لن تكسبي شيئاً بهذه الطريقة.
ارتجفت شفتاها قليلاً لجرأة ماستقدم عليه: أنت لا تفهم.. ليس لدي ماأخسره.
ابتلع ريقه، وقال بصوت أجش: هولي.. أحذرك.. توقفي عن هذا الآن. خذي أرباحك وارحلي.
تحدته مرة أخرى عيناها ببرود: لا.. بل سأذهب فقط إذا أردت أنت هذا.. لكنني لن آخذ شيئاً معي.
كادت أصابعه تحطم معصمها: لن تستطيعي أبداً أن تفعلي معي، مافعلته أمي بأبيك.. لن أسمح لأي امرأة أن تؤثر في حياتي أو تغيرها. فليس الجمال شيئاً .. والجسد جسد. ولن أحارب من أجلك أبداً .. ولن أموت من أجلك بكل تأكيد.. ولن أركلك كطفلة! بل ستكونين فقط مجرد زوجة ملائمة لي.. فهل تفهمين ذلك؟
ـ أجل!
ولقد فهمت.. يومذاك كان مجرد صبي صغير، ولكن مأساة الماضي حفرت في أعماقه حفرة في أعماقه حفرة كبيرة. وهذا ما يتضح مع الوقت وهاهو يضع اللوم لكل شيء على جمال أمه.. فهل استغلت أمه جمالها؟ هذا ما لن تستطيع معرفته، لكنها هي لن تستغل مثل هذا الشيء الزائف.. فهي لم تحتج قط إلى رجل يقاتل من أجلها أو يموت.. إنها بحاجة فقط إلى فيلكس. ربما لن تدوم هذه الحاجة طويلاً . قد تتضارب الفروقات بينهما بشكل يائس وهذا يثبت أن الزواج كان غلطة رهيبة.. كما حذرتها أمها.. لكن حتى هذا بشكل مؤكد، لن يمنعها شيء من الحصول عليه. ماعدا هو بنفسه.
قالت، ترفع رأسها بعدوانية: عظيم!
لم يكن بريق عينيه عدائياً ، وتخيلت أنها رأت السرور الذي بعثه التحدي الذي رمته في وجهه.
أضاف:" إذن فلنتزوج".
لم يقل كلمة أخرى، بل وضع ذراعها في ذراعه مجدداً.. وسار بها إلى الخارج، نحو مأذون الزواج المنتظر.. وأمره بتنفيذ المراسم دون تأخير.







يتــــــــــــــــبع

ـ الساحرة السوداء تبتسم



" هل تقبلين أنت هولي رايدال هذا الرجل.."
فيما كانت تصغي إلى كلمات مراسم الزواج توترت أعصابها.. فأي نوع من الرجال ستقبل به؟.. إنه رجل لاتكاد تعرفه.. في هذه اللحظة تضعضت ثقتها بنفسها ورفعت رأسها إلى فيلكس ويستون، وفي عينيها سؤال حاد. كان رده على الضعف الذي بدا عليها وميضاً مماثلاً لكن فيه سخرية لا يمكن الخطأ فيها.. ساهمت نظرته بتقوية قرارها فعادت تنظر إلى المأذون بقرار ثابت.. وردت ببرود: ـ أقبل!
لقد قبلت وانتهى الأمر الآن.. وإذا كانت قد أمسكت الشيطان من ذيله فليساعدها الله.. لكنها لن تظهر له أبداً أي بارقة ضعف.
وقام بالرد.. ثم وقع الأوراق بهدوء.. بدا أشبه بشخص انتصر على لاشيء. وكأنه واثق في قرارة نفسه أنه لن يخسر أبداً ، فتصرفاته خلال الاحتفال ووقفة النصر التي وقفها أثناء التقاط الصور كانت وقفة رجل ربح للتو أكبر جائزة بحياته.
لكن هولي لم تكن واثقة ما إذا كانت منفعلة أم خائفة من البقاء مع هذا الرجل الذي أصبح زوجها، والذي لاتعرف بماذا يفكر أو بماذا يشعر.. ومن المستحيل أن تعرف ما إذا كان يمثل أم لا.. لكنها خيّرته فهل هي غلطتها؟ لم يصدق أنها ستبتعد دون أن تأخذ شيئاً .. إما أن يكون الإحساس بالذنب نحو والدها عميقاً وإما أنها رغم كل الاعتبارات الأخرى حركت شيئاً فيه بحيث أنه لم يعد قادراً على الابتعاد عنها..أرادت هولي أن تصدق هذا، وصدقته في أعماق قلبها.. وإلالما استطاعت أن تتزوجه.. لكن الجزء الثاني من التمثيلية سيكون حاسماً بشأن علاقتهما في المستقبل.. الانطباعات الأولى هي دائماً الأقوى.. وهولي تدوم طوال حياتهما. وعندما رافقا دونا وفيلكس إلى المصعد كانت تشعر بأن أعصابها متوترة إلى أقصى حد.
كانا آخر المغادرين.. أمامهما وضع فيلكس ذراعه حول خصر هولي مقدماً لهما صورة العريس المحب لآخر. بعدما رحلا اشتد ضغط أصابعه على خصرها الطري، فقفز قلبها إلى حلقها.. فهي بحاجة ماسة أن يأخذها بين ذراعيه، وأن يعانقها بجنون وأن يستحق ويدمر ويزيل من الوجود كل شكوك متعلقة بالقرار الذي اتخذته. وعندما رفعت بصرها إليه، أملت إليه، أملت أن ترى المشاعر التي ترد على ماتشعر به، ولكنه أبعد يده وتلاقت عيونهما بنظرة ساخرة.
ـ تكاد التمثيلية تنتهي.. انتهى المشهد الثاني ويجب أن أقدم لك التهنئة على أدائك الرائع.. ممتاز.. حقاً ممتاز! لكنني لا أريد منك أن تشعري بأنك انتصرت بهذه السرعة.
عاد إلى غرفة الاستقبال.. واتجه رأساً إلى الطاولة، ليصب كوبين من العصير المثلج. لم تلحق به هولي بل وقفت عند المدخل، تراقبه وتقاوم هذا الانقلاب في معدتها.. إذن كان يمثل.. ويكرهها لما فعلته. أتراه يكرهها أم يكره الشعور بأنه أجبر على أمر لا يريده. لكن حدسها أنبأها بأنه يريدها؟يريدها.. وكلما أرادها أكثر، كلما أنكر هذا ليثبت أنه يسيطر على نفتسه.
يجب أن تحطم هذه السيطرة إذا أرادت أن تكون علاقتهما كما ترغب.. ولقد زل لسانه وقال لها إنه يجد برودة أعصابها أمراً مثيراً جداً.. عليها الآن أن تكون قوية أكثر من أي وقت مضى .. لن تقبل بشروطه، بل لن تستطيع، وإلا لن تكون شيئاً بالنسبة له.
قدم كأس العصير لها باحترام متهكم: قد يكون الجزء الثالث من التمثيلية قاسياً عليك.. فهل تفضلين غيرهذا الشراب لئلا تعي ماسيحصل؟
أنباتها غرائزها وقوة الإبداع التي تملكها أن هذه هي اللحظة الحاسمة للقرار.. فإن لم تعالج هذا الموقف بشكل صحيح، فلن يحترمها ثانية لأنه من الأشخاص الذين لا يحترمون سوى القوة. لايعرف ماينتظره.. ولا سبيل له أن يتوقع ماهو قادم.. سيطرت هولي على كل أحاسيسها، وعلى مشاعرها، ولم تعكس عيناها الرماديتان أي شيء مما يجري في أعماقها. كان الهدوء الذي طالما أحبط أمها قناعاً تدربت عليه طويلاً، ولايمكن اختراقه.. تقدمت إليه برشاقة بطيئة متعمدة، توحي بالثقة التامة.
استرعى هذا انتباهه.. وبدا القلق في عينيه.. وجمد جسمه جمود الحيوان البري الذي تنبهت كل حواسه لأنه شعر بما هو مريب.. انتظر حركتها القادمة.. حين وقفت على بعد نصف ذراع منه، ولم تأخذ الكأس المقدم لها انتظرها لتتكلم.لم تضربه هولي بقوة اندفاع جسمها كله.. بل كانت الفعة مدروسة الغرض منها أن تلسع، لا أن تؤلم.. أن تُعلم ، دون أن تجرح.. وأن تؤكد على وقارها.
قالت بلهجة الآمر الغاضب: لا تكلمني هكذا مرة أخرى! أنا ندك فيلكس ويستون.. وقد أصبحت للتو شريكتك لذا عليك أن تعاملني على هذا الأساس، لأنني لن أقبل شيئاً آخر.
لم يتحرك وأصبحت نظرة عينيه الخطيرة حيادية.. وكادت تحس بالتركيز الذي يبذله وهو يحاول السيطرة على نفسه..
التوى فمه في نصف ابتسامة، وقال: مهذب جداً! مهذب ومتمدن بحيث يكاد المرء يظن أنك تعكسين ثقافة مجتمع بوسطن. لكن كل هذا مجرد مظهر خادع .. أليس كذلك هولي؟ تحت هذا المظهر المخادع، نفس متوحشة تسعى إلى الدم.. ولكني سأقول لك شيئاً من دمي.
ردت بصوت متهكم: ربما لا أسعى وراء الدم فيلكس.. ربما أسعى إلى ماهو مختلف.. لكنني أشك أن تكتشف أبداً ما هو.
شرب كوب العصير دفعة واحدة، ثم رمى الكوب على الارض.. فاجأها تبدل حاله من السيطرة على النفس إلى العنف. وقبل أن تستطيع المرواغة أو القيام بحركة لتحمي نفسها، كان قد ضمها إليه بقوة ساحقة، وأصبحت ذراعاه قبضتين من فولاذ.
ـ اللعنة عليك! اكتفيت! فقد جربت صبري إلى أبعد الحدود.. وكلفتني شخصياً الكثير، ولن تتهربي من كل هذا. سأحطمك إن اضطررت، لذا من الأفضل لك الركوع هولي.. والآن.. عانقيني أيتها القطة المتوحشة.. عانقيني وسأعمد أنا إلى معانقتك حتى أعرف من أنت حقاً .. ثم سأحملك إلى أماكن لم تصلي إليها مع أي رجل من قبل.. وبعدما أنتهى منك ستسرعين إلى مشروع الطلاق القذر الذي تخططين له.
لم تلاحظ هولي الاتهام الذي وجهه إليها ولم يترك هو لها مجالاً للكلام.لذا لم تفعل إلا لشي الوحيد الممكن أمامها.. وهو الاستسلام. تحرك في أعماق هولي شيء متوحش بدائي هولي يدفعها للوصول إليه.. إنها تريد أن تأخذ وتعطي وتريد أن تنتقم منه بعنف بقدر ما يوقع العنف عليها. قابلت كل تقربه منها برغبة انتحارية، لا تعرف سوى هدف واحد.. أما الكلفة النهائية فلم تعد مهمة لها.
هذا ما أثاره إلى درجة أن أرخى عناقه الآسر وتحركت يداه لتضغطا على خصرها، أما هي فرفعت ذراعيها تلفهما حول عنقه وتضمه إليه بشوق..فراح يصدر همهمات هامسة تؤكد تأثيرها القوي عليه.
فجأة قهقة فيلكس فنظرت إليه هولي، تأمر عقلها أن يصحو من تشوشه الذي سببه هذا الموقف. برقت عيناه على شعرها الطويل الأملس.. وقال هامساً: أجل .. هذا هو لونك الحقيقي. أسود! أيتها الساحرة السوداء! ذات القلب الهمجي الذي يتماشى مع سحرك الأسود ! والآن دعينا نتخلص من كل الأفخاخ الخادعة.
كان يعاملها بجنون وعنف ونفاد صبر فتحركت كرامتها التي أصرت عليها أن تقاوم، وحين نظر إليها وإلى الألماس الذي كانت تتزيا به في عينيه نظرة رضا.
ـ كأنك ملكة همجية من الماضي.
ضحك ضحكة مجنونة ثم رفعها بين ذراعيه، وسار بها إلى غرفة النوم كالغازي القديم الذي يحمل من سباها في الحرب. رماها على السرير.. ولكنها تمكنت من اتخاذ وضعية تحد وصوبت نظرتها المباشرة إلى عينيه. كان قلبها يخفق بسرعة غير معقولة.. وكانت أحاسيسها حية.. ولم يكن هناك أي تعقل فيما يجري الآن، فبينهما الآن مبارزة للقوة.. رجل ضد امرأة.. امرأة ضد رجل.. ابتسمت لنفسها تفكر في أنها لن تكون امرأة يسهل نسيانها أو التعامل معها.
قال بصوت أجش متوحش: لا.. لن يكون لك ماتريدين معي.. ولن تبتسمي حين أفرغ منك..
همست:" حقاً ؟ ".
ولوت شفتيها بإثارة متعمدة..
ـ عانقني فيلكس.. أيمكنك محو الابتسامة عن شفتي؟
كان هناك خيط رفيع من التعقل فبل قولها هذا.. أما بعده فلم يعد هناك شيء. وفجأة فقد كل منهما السيطرة على نفسه.. نسيا كل ما له علاقة بالمبارزة فقد علقا وسط دوامة مجنونة من المشاعر. أخيراً، استلقيا دون أن يحاولا فك العناق ولم يتنازل أي منهما للآخر بشيء.. لكن الصمت الذي حافظا عليه، كان في طياته الهدوء والأمان، وكأن معاهدة وقعت بينهما وتم توقعيها.لن يكون هناك قتال بعد الآن.. فهما ندان متساويان.. وشريكان.. بل هما شخص واحد وكلاهما انتصر.
هل سيبقى فيلكس مكتف وراضٍ عن هذا؟.. هذا مالاتعرفه هولي، لكنها قانعة أنه لم يظهر أي ميل للافتراق عنها. لم تخدع نفسها بأن كل شيء سيكون على ما يرام بينها وبين فيلكس من هذه اللحظة وصاعداً . فما زالت أمامها عراقيل كثيرة قبل التوصل إلى تفاهم مشترك.. هذا إذا حصل.. فهي لا تستطيع أن تقول له إنها تحبه.. إنهما مناسبان لبعضهما بعضاً، بطريقة تتجاوز كل الخلافات، والفروقات. لكن قد لا يكون هناك ما يكفي لدفع مثل هذا الزواج إلى الأمام، لتكون هولي سعيدة به.
مع هذا، كانت مصيبة في قرارها. حين استسلمت للنوم لم تكن الابتسامة على شفتيها قد انمحت كما نوى فبلكس بل كانت ابتسامة المعرفة التي لايمكن لأحد أن ينتزعها منها.

أريدك حيـــــــــــــــــاً!


أيقظتها لمسة خفيفة كانت تتجول على وجنتيها.. وجعلها النداء الناعم باسمها تصحو بكل تنبه.. كان نور الصباح متدفقاً إلى غرفة وفيلكس جالساً على السرير قربها.. شعره أسود مبلل، ولحيته حليقة تفوح منها رائحة عطر مابعد الحلاقة.
قال بإعجاب ساخر: تستيقظين كقطة.. وأنت حذرة دوماً.. تركتك نائمة ولكن الوقت يمر، ولدينا رحلة.. ألا تذكرين؟ أنا واثق أنك لا ترغبين أن يفوتك رؤية شيء مما امتلكه بزواجك بي..
لم يعجبها بريق السخرية في عينيه.. وتساءلت لحظة عما إذا كانت ليلة أمس مجرد حلم. ثم تذكرت كلماته الشرسة عن مشروع طلاقها. إنها لا تريد منه أن يفكر بهذه الطريقة، مع أنه من الواضح أنه سيسيء الظن إن أنكرت.. ولكن فكرة الطلاق أمر مؤلم لها بشكل غريب.
مدت يدها إليه تلقائياً.. وقالت برقة: لاأظنها ممتلكات يمكن أن تختفي إن لم أشاهدها فوراً فيلكس.
حركت يدها على كتفه تداعبه بدعوة مفتوحة.. فأمسك معصمها وكادت أصابعه تسحق عظامها وأضاءت المشاعر العنيفة عينيه الخضراوين.
ـ لاأحد يدير حياتي هولي.. على الأقل امرأة. أنت الآن شريكتي قانونياً .. وقد تكونين متساوية معي.. كزوجة لي، بإمكانك المجيء معي، أو الذهاب في طريقك.. لكنني سأغادر هذا المكان بعد ساعة، ولاأنوي أن أتأخر.. وماتختارين فعله هو شأنك الخاص.
شريكة.. متساوية.. كلمات حلوة على أذني هولي. إنها تتقدم!
ـ أنت تؤلم معصمي فيلكس.
لكنها سراً كانت مسرورة لأن للمستها هذا التأثير المؤكد فيه. ذكرتها عيناه أن قوة الإثارة ليست من جانب واحد، إذ رفع يدها إليه يقبل مكان النبض في معصمها فتسارعت أنفاسها.. وسألها متهكماً: هكذا أفضل.. الآن؟
ـ يتحسن.
تركها ضاحكاً ووقف فجأة يصرف النظر عن مزيد من التقارب الحميم، وقال من فوق كتفه وهو يتجه إلى غرفة الملابس: الفطور بعد نصف ساعة.
ـ سأكون حاضرة.
ورفعت نفسها من السرير .
توقف بالباب ينظر إليها، ثم أجابها ساخراً : بطريقة ما، عرفت أنك سترغبين بمرافقتي إلى بندنير.. هولي.
لم تكن قادرة على الإحساس اللذيذ بالترقب: هذا يخدم هدفي فيلكس.
التوى فمه: دون شك.. ومن المثير للاهتمام رؤية كم سيظل هذا مناسباً لك.
ـ ربما" حتى يفرقنا الموت".. ألم تفكر في هذا فيلكس؟
أثارت ردة فعله البرد في أوصالها فقد اسود وجهه وتحجرت عيناه.. وقال بازدراء: إذا كنت تريدين كل شيء لنفسك هولي.. فستنتظرين زمناً طويلاً .. لن أموت بسهولة كما مات ايرول.. ولن تنجحي في ارتكاب جريمة قتل أخرى بين عائلتينا.. وجاك سيتأكد من هذا.
صدمها كلامه لذا لم تستطع السيطرة على نفسها بل قالت بخوف وذعر: من قتل من؟
قال بمرارة: أعتقد أن والدك ادعى أن الأمر حادثة.. فالناس قادرون على تحريف الأمور..لا أنكر أنه هوجم أولاً.. لكن والدي هو الذي انتهى ميتاً.. فلاتتغاضي عن التفكير في هذا وأنت تحسبين الغنائم التي تريدين الحصول عليها.. أما أنا فلا أتغاضى عنهـا ولن أتغاضى عنه. هزت هولي رأسها مذهولة مما قاله. وشعرت بطعنة في قلبها لأن فيلكس يفكر أنها قادرة أن تكون على هذه الدرجة من الحقارة بحيث تعتبر موته وسيلة للربح.. سحبت نفساً عميقاً لتهدىء الغثيان الذي يغلي في معدتها.. لقد تزوجت فيلكس ويستون وستسعى للاحتفاظ به مهما واجهت من مصاعب.
رفعت ذقنها بتحد بارز: المشكلة فيك فيلكس أنك لست معتاداً على نساء لايمكن شرائهن.. لكن يسرني أن أعرف أنني تجربة جديدة لك.
ضاقت عيناه وهي تتقدم إليه بثقة منحتها إياها ليلة أمس. وتوقفت أمامه ويدها تلامس ذقنه باستفزاز متعمد.
قالت:" أرجوك.. لا تضيع وقتك في القلق على روحك بسببي.. فأنا أريدك حياً.. شديد الحيوية".
ثم تجاوزته ودخلت إلى غرفة الملابس وهناك أقفلت الباب خلفها شاعرة بالرضا والنصر فقد أعطته شيئاً إيجابياً ليفكر فيه..وهو يريدها. ألم تر وميض الرغبة في عينيه عندما ابتعدت عنه؟ بينهما تجاذب كبير، لا يستطيع إنكاره.. وما داما يعرفان هذا.. فلديهما المستقبل! نظرت إلى نفسها في المرآة، ولاحظت أنها مازالت تتزيا بالألماس الذي أعطاها إياها.. الألماس لزوجته! ولن تتخلى عن هذه الممتلكات بسرعة! فلندع الماضي وشأنه!.. هذا مااتفقا عليه بالأمس. فليكن مايريد!.. هناك أكثر مما قاله فيلكس عن موت أبيه، وإلا لكانت ردة فعل دونا وجاك بالأمس مختلفة. حتى ولو كان والدها مذنباً لبعض الخطأ، فلقد دفع ثمنه وعاش منبوذاً وحيداً. لكن هذا لم يعد همها الرئيسي.. سعادتها؟ نظرت إلى نفسها في المرآة مجدداً بعينين أصبحتا فجأة أكثر بريقاً من قبل. أُيسمى هذا الجنون مع فيلكس سعادة. مقارعة مستمرة لانهايةلها لقوتها ضد قوته.. ولكن ماهي النهاية التي تريدها؟ إنها تريد أن يشعر فيلكس بأنه بحاجة إليها.. وأن يحبها.. أن يريدها في حياته إلى الأبد.. أنه الرجل المناسب لها! ولايهم لماذا تشعر بهذا! تأخرت هولي على الفطور.. كان فيلكس جالساً على المائدة وأمامه طبق لحم وبيض مقلي. يقرأ صحيفة موضوعة إلى جانبه..
قالت بإشراق: لم أجد الثياب التي كنت أرتديها ليلة أمس.
التفت إليها:" أتصور أن تريسا اعتنت بها".
طافت عيناه على جسمها ينظر إلى القميص القطن والبنطلون الجينز اللذان اختارت أن ترتديهما..كان شعرها الأسود معقوصاً خلف عنقها ووجها خال من التبرج، لكن بشرتها كانت متوهجة وعيناها تترقصان له..
التوى فمه ساخراً: تغيير كامل في الصورة؟ أهي مفاجأة أخرى لي؟
ـ لا.. بل هي ملابسي التي أرتديها عادة وقت السفر. إن لم تكن ملائمة، فقل لي هذا.
كان يرتدي قميصاً رياضياً أخضر يبرز لون عينيه.. فكرت هولي أنه أجمل رجل في العالم.. ثم تابعت تسأل: ومن هي تريسا؟
ـ إنها تريسا جوانو.. تعتني بكل شيء في هذه الشقة.. ولو ذهبت إلى المطبخ وقدمت نفسك لاهتمت بكل حاجاتك، بمافيها الفطور.. قولي لها ماترغبين فيه.
تريسا جوانو.. امرأة متوسطة العمر.. بدت مسرورة فعلاً بالتعرف إلى زوجة فيلكس الجديدة.. كانت ثياب هولي موضوعة جانباً للتنظيف.. وسرعان ما أعدت لها الفطور وقدمته لها.. راقبها فيلكس وهي تأكل بجو يوحي بنفاد الصبر.
قال مدمدماً وهي تصب فنجاناً آخر من القهوة: متى كنت حاضرة.
رفعت نظرها إليه بكل براءة: أنا جاهزة.. لم أكن راغبة في الفطور ولكنك أشرت إلي به..
قطع نظرة البراءة المزيفة وقال: بشكل غريب يكفي.. أنا أريدك حية كذلك هولي.
دار حول الطاولة يمسك لها الكرسي: على أي حال، لا يحصل المرء كل يوم على زوجة لها هذا الكم من المميزات الرقيقة.
ضحكت بمرح عندما تركا الشقة كانت روحها المعنوية مرتفعة.. توجها إلى المطار حيث الطائرة النفاثة الخاصة بانتظارهما هناك قدمها فيلكس إلى الطيار والمضيف.. كانت الطائرة مجهزة بكل وسائل الراحة: غرفة جلوس، غرفة نوم، حمام، ومطبخ صغير عصري لتحضير الوجبات.. وكانت هولي فعلاً تتطلع شوقاً لرؤية منجم الألماس وللتعرف إلى حياة فيلكس. جلست على المقعد ثم وضعت الحزام حولها استعداداً للإقلاع، ونظرت إلى فيلكس: لم تخبرني، لماذا نسافر اليوم إلى بندنير؟
ـ لا أحب أن يفوتني الجمع.
ـ ظننت أنكم تستخرجون الألماس من الأرض، ولا أعرف أن بالإمكان جمعه.
التوى فمه: ليس الألماس.. بل الماشية. التنقيب عن الألماس عملي. لكن إدارة أكبر مزرعة للماشية في العالم هي سعادتي.. خاصة في مثل هذا الوقت من السنة.
أخفت هولي ارتباكها قدر المستطاع.. إنهما مسافران إلى المنجم.. لكنه سيجمع الماشية؟
ـ لم تذكر لي هذا من قبل.
تراقصت العينان الخضراوان بمرح ساخر: إذن.. هناك مالا تعرفينه! المنجم يدير نفسه بنفسه هولي. فالكمبيوتر يسيطر على كل شيء، وفي أصعب الحالات بإمكان ستة أشخاص إدارته.. وهذا ليس قمة التحدي المطلوب.. قطع الألماس يجري في بيرت، وجاك يتولى إدارة كل شيء هناك. وأنا بحاجة للقيام بشيء، ولتحقيق شيء.. والواقع أنني أهتم بالجانب العالمي من تسويق الألماس. لكن حياتي الحقيقية هي في بندنير، فهناك أقضي معظم وقتي ولن أتخلى عن هذه الحياة من أجل أي كان أو أي شيء. أحب التحدي، وأحب التجارب وأحب أن أسيطر على مايصعب السيطرة عليه.
أخيرأ فهمت هولي الأمر. فلا علاقة لبندنير داونز بمنجم الألماس! إنها مزرعة مواشي! وهي إحدى أكبر الأملاك المفتوحة في كيمبرلي.. أرض كبيرة، واسعة الأرجاء في أرض معزولة .. وفهمت فجأة ما كانت تقوله دونا بالأمس. إنها بلاد الرجال.. ولا مكان فيها لامرأة..
كان فيلكس يراقبها ردة فعلها على ماأخبرها به.. وقال بثقة مؤكدة: إنها العشيقة التي لايمكن أن تنافسها أية امرأة.. الناس يأتون ويذهبون أما الأرض فتبقى إلى الأبد.. تختبر إلى مالا نهاية، تتطلب، تدفع الرجال إلى حدود التحمل والقدرة .. تعطي المكافآت، توقع العقوبات، ترفع شأناً وتحطم، ولكنني لا أتصور أن لمرأة من بوسطن قادرة على فهم هذا .
ابتسمت: لقد مضى زمن طويل لم أعش فيه في بوسطن.. حتى هناك، تعلمت أن أعيش في محيط مختلف.
تبدلت السخرية إلى فضول: مختلف؟
ـ في يوم ما سأخبرك بالأمر.. أما الآن فليس الوقت المناسب.
التوى فمه:" أنت تفضلين إثارة حيرتي".
فلنقل فقط إن القدرة على التحمل هي أفضل ميزاتي.
ضحك ضحكة خافتة فيها السكينة والتفوق: ربما بعد عمر مديد، قد أجد ماهي المزايا الأخرى..أما الآن فأرجو أن تتحملي الطيران مدة خمس ساعات دون أن أسليك.. فلدي أعمال أهتم بها. عندما جئت إلى سيدني لم يكن في نيتي الزواج الذي اقتضى مني وقتاً كان مخصصاً لأمور أخرى.
أقلعت الطائرة النفاثة وهما يتحدثان وفك فيلكس حزام الأمان ورفع حقيبة أوراقه إلى الطاولة أمامه.. وسألت هولي: هل هناك ما يمكنني مساعدتك فيه؟
أخرج رزمة أوراق من الحقيبة، ثم نظر إليها نظرة صاعقة: أشك أن تكوني مدربة لمثل هذا النوع من العمل.. هولي.
ـ ها قد عدت للتخمينات.. أنسيت أنني شريكتك؟
ضحك مجدداً ضحكة لامرح فيها.. وأشارإليها بتهكم أن تنضم إليه على الطاولة : بكل ترحاب.. ألقي نظرة على هذه الاتفاقات. هذا ما نحن ملتزمون بتسليمه إلى سنغافورة، ولن تمنعيني أنت أو أي شيء آخر عن الوفاء بالاتفاقية.. لم تشأ هولي التدخل بالمنجم أو بمزرعة المواشي..لكنها كانت مهتمة بمعرفة المزيد عنهما.. وتجاهلت قلة الاكتراث التي يبديها، واستقامت في جلستها أمام الطاولة وركزت اهتمامها على عمله المكتبي.
وجدت هولي بعض الأرقام في الاتفاقيات مذهلاً.. لاتستغرب الآن أن يعرض عليها خمسة ملايين دولار ثمناً للوحة دون أن يرف له جفن! وقامت ببعض الحسابات الفكرية.. لاشك أن العمل في المنجم مربح جداً وبشكل لا يصدق.
لم يكن لديها فكرة كم هو مخزون الألماس، في بندنير. ربما لا أحد يعرف لكنها كانت واثقة أن والدها هو الذي حدد مكانه، ربما بالشراكة مع جاك ويستبرون. وهذا بالتأكيد مايدل عليه كلام جاك بالأمس. بدأت تلملم المعلومات التي جمعتها من هنا أو هناك.. دونا عاشت في مزرعة المواشي المعزولة مع والد فيلكس.. ثم جاء جاك ويستبرون وايرول ماكنافش.. ولاشك أن الضيافة المفتوحة في المزراع الأسترالية النائية آوتهما، وهما يستكشفان المنطقة.. إذا كان مخزون الألماس قد وجد في بندنير داونز.. وهذا هو الأرجح.. فإن الاكتشاف أثر في الجميع.. وربما هو الذي تسبب بالأحداث الفظيعة التي وقعت.
كانت دونا " مركز" كل شيء، وهذا واضح.. امرأة جميلة تشتاق إلى حياة مختلفة، وإلى الأصحاب و الاهتمام.. امرأة لديها حاجات لا يستطيع زوجها، أو لم يرغب، في تأمينها لها.. و يبدو أنه كان هناك ثلاثة رجال يمثلون ثلاثة خيارات مختلفة.. والد فيلكس، رجل قاس لايلين.. يهتم بأرضه أكثر من اهتمامه بأرضه أكثر من اهنمامه بزوجته. ولا يريد حياة غير التي يعيشها.
جاك.. الرقيق اللطيف الحنون.. لكنه يفتقر إلى الجاذبية المطلوبة. والدها هي.. الذي كان شخصاً مميزاً حتى فقدت أمها رشدها معه. فهل فقدت دونا رشدها معه كذلك..؟ وقلبها؟ هل هذا هو السبب الذي قاد إلى اقتتال انتهى بموت والد فيلكس؟ لن تستطيع أن تسأل بسبب ظروف زواجها لكن الواضح أن شعور دونا بالذنب ما زال يعذبها.. فهل حرضت رجلاً على الآخر؟ وفقدتهما معاً؟ هل أبعدت ايرول حين شهدت موت زوجها وأصبحت غير قادرة على تحمل مغبة مناوراتها؟
جرت هولي تفكيرها من الماضي، فلن يساعدها الماضي في إحراز التقدم مع فيلكس الذي يظن أنها لن تبقى طويلاً في بندنير.. إنه يراها امرأة جميلة.. والواضح أن خبرته مع النساء الجميلات تقوده إلى الاعتقاد أنهن راغبات، مستهترات، يردن أن يعجب الناس بهن وبتبرجهن وأنهن لا يمكن أن يكن سعيدات خارج الحياة الاجتماعية البراقة .. إنه لا يدرك أنها لا تحتاج إلى أحد حولها.. والإعجاب المصطنع يعني لها أقل من لا شيء..لكنه سيتعلم في النهاية.. الوقت معها الآن وهي زوجته. فكرة أن تعيش معه في عالم خاص بهما حمل إلى شفتيها ابتسامة رضا.
علق بسخرية: أرى أن أرقام تجارتنا تبهج قلبك.
كانت تمسك أحد العقود الكبيرة.. فسألت بصوت ملؤه الفضول متجاهلة سخريته: كم ينتج المنجم فيلكس؟
قسن عيناه الخضراوان: حوالي ثلاثين مليون من قيراط من الألماس سنوياً .. فهل هذا يرضي جشعك؟
ردت بحدة: لا ترمي هذا في وجهي فيلكس! كان بإمكانك ترك الألماس حيث وجده أبي.. في الأرض.
توتر وجهه: لم يكن قرار التنقيب عنه قراري.. فيومذاك كنت مجرد صبي صغير.
ـ لكنك لم تدر ظهرك للمنجم وهو موجود.. إذن لماذا تنكر علي اهتمامي به الآن؟
ـ أكنت تفضلين تركه في الأرض هولي؟
ـ الألماس لا يهمني.. بأي شكل من الأشكال.
ردت نظرته مباشرة بعينين ثابتتين . وأضافت: وبما أنني زوجتك أعتبر عملك عملي، وشأنك شأني فيلكس.. ولن يثنيني شيء عن هذا حتى الاتهامات الشريرة التي ستختار اتهامي بها.
سألها متهكماً: أتتوقعين مني أن أصدق أنك كنت ستقومين بما قمت به حتى الآن لم لم يكن هناك منجم ألماس؟
ـ لو لم يكن هناك منجم ألماس.. أكنت تتزوجني؟
استرخى وجهه وابتسم ابتسامة ماكرة: ربما.. فأنت أكثر من وجه جميل.. مع أنني كنت سأفعل أشياء أخرى لو لم أشاهد اللوحة أولاً.
ردت بجفاء، لكن قلبها كان يتسارع بانفعال: ربما..
إنها المرة الأولى التي يقر فيها أنها أعجبته منذ الليلة الأولى.. ابتسمت بثقة بالنفس: وربما كان أملك سيخيب. فأنت محق أنني لست مجرد وجه.. لكنني لست جسداً فقط
ـ كوني واثقة أنني الآن أحترم العقل الذي يدير هذا الجسد.
اتسعت ابتسامتها رضا: ليس عليّ الآن إلا جعلك تهتم بشخصيتي.. وسيكون لديك شخص كامل.
أحست بتراجعه أمامها حتى قبل أن يتكلم: الأرض تقوم بهذا نيابة عني.. إنها تخرج أفضل وأسوأ مافي أي شخص كان.
تحدته سائلة: وأنت لا تظنني قادرة على اجتياز هذا الامتحان؟
التوى فمه:" لقد سمعت أمي.. سرعان ماتسأمين إلى درجة الجنون".
ردت :" سنرى".
برقت عيناه بغموض: أجل..سنرى.
ثم عاد للتركيز على عمله متعمداً إبقاءها.بعيدة .
فيلكس ويستون، لا يستسلم بسهولة.. ما إن يصمم رأياً حتى يصبح راسخاً كالصخر، أو كالألماس قسوة، كماهي الحال الآن .. لكنها لا تشعر بأنه أهانها بإبعادها عنه. فهي لم تقاطعه.. بل هو الذي فتح الحديث معها.. ولقد سجلت بعض النقاط لصالحها من هذا الحديث.. بعض الأشياء لا يمكن استعجالها، مثل الاحترام. إنها قانعة بانتظار الفرصة التالية.أخيراً طلب فيلكس الغداء وأبعد أوراقه وهما يتناولان سلطة الكركند.
سألت:" هل تتناول دائماً مثل هذا الطعام الفاخر؟ حتى في بندنير داونز؟".
ـ أستمتع! لدينا كل مانريد هناك، ويحتوى منزل المزرعة على كل وسائل الراحة التي تعرفها المدينة كما ذكر جاك بالأمس.. وما تفعلينه فيها هو شأنك الآن.ولكن ثمة غرفتان لاتمسهما أية أنثى.. لكن، إذا رغبت، يمكنك تغيير المنزل كله حسب ذوقك.. اشترى ما شئت..سأكون مشاهداً فقط، لأرى ماالذي يدفعك.. ماالذي يثيرك؟
أصبحت التسلية سخرية عميقة الجذور وهو يضيف: هذا قبل أن تدفعك العزلة إلى الهرب.. أو تسأمين اللعبة التي تعلبينها.
تجاهلت ملاحظته: ماهي مساحة بندنير داونز؟
ـ هي أشبه بالمستطيل الذي يبلغ طوله مئة وخمسين ميلاً وعرضه مئة.. خمسة عشر ألف ميل مربع.. وستكونين وسط الأرض.. لاشيء سوى السكون و الأرض التي لا عمر لها حولك.. ممتدة منذ آلاف السنين.. وشيئاً فشيئاً ويوماً ستطبق على قلبك.
ـ لكنها لم تفعل هذا بك.
ـ إنها أرض الرجل.
مدت يدها تمسك يده: إن ما تحتاج إليه.. هو امرأة مناسبة لتسيطر عليها.
سمعت هسيس أنفاسه، وكان في عينيه شيء خطير.. وأطبقت يده على يدها، تأسرها وتعبر عن سيطرته.
ـ منذ البداية.. الشيء الوحيد الذي أعجبني فيك، هو برودك..
استفزته قائلة:" في كل الأوقات؟".
كانت ابتسامة شيطانية بالتأكيد وهو يستخدم يده الأخرى ليضعها على خدها:أعتقد.. هولي رايدال..
ـ هولي ويستون.
إنه يريدها الآن..
ـ أعتقد هولي ويستون.. أنك بحاجة لتعلم بعض قواعد الاحترام.
تحرك عن الطاولة، وجذبها عن كرسيها. ثم جرها معه إلى غرفة النوم، وأغلق الباب وراءهما: لن يمنعني شيء عن تعليمك حتى لوكنا على ارتفاع خمسة وثلاثين ألف قدم.
ولم تحاول هولي بكل تأكيد أن تمنعه.. بل شجعته أن يعلمها كل الاحترام الذي يستطيعه.. لكن لم يكن هناك شيء من الاحترام في تفكيرهما.. ولم يقل فيلكس شيئاً عن الاحترام كذلك.. أخيراً أبعد نفسه، وخرج من السرير ليقف.. نظر إليها يهزأ رأسه: أنا لا أفهمك.. و لا أفهم ماتريدين.. أو لماذا تتصرفين هكذا.. ولاأثق بك.. ولن أثق بك أبداً.. لكنني سأقول لك هذا.. التورط معك مسألة فظيعة.
زاد اعترافه هذا من رضا هولي، لكنها كبتت تهورها واندفاعها لئلا تترك مشاعرها عادية أمام سخريته.. ابتسمت له ابتسامة بطيئة غامضة: لابأس بك فيلكس.. لست سيئاً.. تعرفت إلى من هو أسوأ منك.
تصاعد من حلقة صوت يشبه الهدير. ولكن بدا أنه لا يريد أن يتركها.. توقف بالباب ينظر إليها وعلى وجهه تعبير متجهم غامض، جعل قلب هولي يقفز أملاً.
قال:" أمامك ساعة قبل أن تحط الطائرة.. ولدي عمل أنهيه.. افعلي ما شئت".
ثم خرج إلى المقصورة الأخرى يغلق باب مقصورة النوم خلفه. لكنها لن تسمح له بإبقاء الأبواب موصدة بينهما.. أقسمت هولي على فتح الأبواب واحداً إثر الآخر.. ولو لزمها ما تبقى من حياتها!

_ خـــــــــــــائف منها!




[center]خيبت النظرة الأولى التي ألقتها هولي على المنجم أملها. فهو مجرد علامة صغيرة معزولة فوق أرض واسعة، متفكك البنية وبشع وكأنه فوهة هوة على القمر..مع ذلك فقد تقاتل الناس عليه وماتوا من أجله أو بسبب امرأة. بطريقة ما، لم يثر منظره أي شيء في نفس هولي.. فلولا ظهور الألماس لالتقت بوالدها وعرفته.
قال بصوت ساخر:" جوهرة التاج.. سأجعل أحداً يريك محتويات الأقبية".
أدارت هولي رأسها عن النافذة فالتقت ببريق عينيه الخضراوين القاسيتين.
ـ سانتظر حتى ترغب أنت في مرافقتي لإلقاء نظرة على المكان فيلكس. والواقع أن ما يهمني أكثر هو رؤية المكان الذي تعيش فيه.
ارتفع حاجباه بسخرية واضحة، لكنه تقبل كلامها دون جدال.
ـ في هذه الحالة، سأقول للطيار أن يتجه فوراً إلى مدرج منزل المزرعة.
أعادت هولي نظرها إلى مناظر الأرض تحتها.. وذكرها هذا بأرض أخرى رأتها من قبل كانت تموت عطشاً: نيفادا..أريزونا..زيمبابواي في أفريقيا.
سألت عندماعاد فيلكس إلى مقعده: كم رأساًمن الماشية لديكم في بندنير؟
ـ هذا وقف على الظروف. وهي تترواح مابين مئة ألف ومافوق.
عبست هولي فقد بدا لها العدد صغيراً.
ـ هذا يعني حوالي ستة رؤوس لكل ميل مربع.
ـ إنها أرض قاحلة.. لكن القطيع يزداد طبيعياً في السنوات التي لاتكون فيها الأرض قاحلة. ولهذا لدينا جمع منتظم للماشية.. لندفع العجول الجديدة ونبعد العجول البرية.. ماهذه هي الحياة التي تتوقعينها، أليس كذلك؟
ـ ماكنت أتوقعه فيلكس، وجدته. والآن أريد المزيد.
ضاقت عيناه:" المزيد مما؟".
ـ منك.. ولماذا تظن أنني هنا؟
تمتم بصوت ملؤه التجهم:" الله وحده يعرف!".
ستكون شكوكه المتعلقة بها عرضه للاهتزاز ولكن..
كانت الطائرة تهبط بسرعة، وأول انطباع رسخ في ذهنها عن مزرعة بندنير دوانز هو أنها بلدة صغيرة.. بدا أن كل شيء منظم بترتيب: مربعات فسيحة، مجمع الماشية، وصفوف من الأبنية ذات السقوف المصنوعة من صفائح الزنك، وخزانات من المياه موزعة بشكل موزعة بشكل مدروس، وسواق يتجمع منها الماء في الجدول.. فكرت في أنها ستتكيف مع هذه الحياة مهما يكن عليه الأمر.. وأقسمت هولي على هذا وهي تبتسم بثقة لفيلكس والطائرة تلامس المدرج الصغير.
حين ترجلت من الطائرة كان أول من رأته من الناس مجموعة من الصبية الذين من هم السكان الأصليين وكانوا يقفون على سياج قريب وعلى وجوههم ابتسامات عريضة.. ردت هولي التلويح وماهي إلا لحظة حتى قفزوا عن السياج وابتعدوا نحو المنازل..
سألت فيلكس:" من هؤلاء؟".
ـ أولاد الرعيان عندنا.. كانوا هنا من قبل أن يستعمر الرجل الأبيض هذه البلاد.. هذا وطنهم.. وهنا سيبقون.. مدى الحياة.
ونظر إلى هولي نظرة تحذير.
سارعت توافقه الرأي:" طبعاً.. هذا حقهم".
ـ دون حكم عرقي مسبق؟
ـ هذا يحدث في بوسطن.
دست ذراعها في ذراعه، ورأت التوتر يسترخي في وجهه..وأحست كأنها مرت بامتحان.
قالت:" تظاهر بأنك تحبني.. فهذا سيعطي انطباعاً أولياً حسناً".
ضحك ضحكة خافتة وما إن وصل جيب ووقف في أسفل الدرج حتى شد ذراعها إليه أكثر وتصرف معها بحب وتساهل وعمد إلى تعريفها بالسائق: هولي هذا وارن مانيج.. مدير المزرعة الدائم هنا، زوجته غير ليش، تدير مالا يستطيعه هو.
وران رجل في العقد الرابع من عمره، نحيل قوي الجسم، تلاعبت بوجهه تغيرات الطقس.. شعره رمادي حديدي وعيناه زرقاوان براقتان، وابتسامته تشع ترحيباً دون شروط. صافحت هولي اليد الممدودة إليها وقالت: أنا مسرورة جداً لمقابلتك سيد مانيج.
سأل بدهشة: " أمريكية؟ .. أتمنى أن تكوني سعيدة معنا هنا سيدة ويستون ".
ردت بحرارة : " شكراً لك.. سأكون مسرورة دون شك .. الامريكيون يحبون التحدي أيضاً..أكثر من هذا ".
ابتسم وارن مانيج موافقاً : لاأعتقد أن من الممكن أن ينتقي فيلكس من لاتستطيع الصمود هنا، سيدة ويستون .
وضعت الحقائب في الجيب وفي هذا الوقت كان وارن يعبر عن السرور الذي شعر به الجميع عندما علموا بخبر زواجهما.. وأخبرهما وارن ان كل رجل وامرأة و ولد في بندنير داونز ، مجتمعون في المنزل الكبير بانتظار لقاء المرأة التي تزوجها رئيسهم .
فكرت هولي متوترة : وليتفحصوها .. قلقت لوقت قصير بسبب ثيابها ، ثم ذكرت نفسها أنها لاتريد أن يحبها الناس من أجل ثيابها بل من أجل شخصيتها ، والكل مستعد ليحبها لأنها زوجة فيلكس . مع ذلك أدركت أن هذا امتحان آخر يجب أن تمر به لتكسب احترام فيلكس .
كانت هولي مشغولة الفكر بما ينتظرها لذا لم تنتبه جيداً للأبنية والاسطبلات ، مخازن الغلال والمنازل ، ولكن لما اقتربت السيارة من المنزل الكبير تأثرت كثيراً.
كان طوال الجزء الرئيسي من المبني حوالي مئة وعشرين قدماً من كلا الجانبين. وثمة شرفة واسعة تحيط بالمبنى من كل الجهات، ولكل عمود في الشرفة إفريز خشبي مزخرف ملاصق للسقف. وتحت الشرفة حديقة مزدانة بالأشجار المزهرة الصغيرة. بدا اتساع المنزل مناسباً للأرض التي بني عليها، وقد أثر فيها كثيراً.. لكن لم يكن لديها وقت للتفكير، لأن الناس كانوا مصطفين على الشرفة يلقون عليها التحيات بوجوه فرحة.. كانت الساعة التالية مرهقة لهولي فقد تعرفت إلى حوالي خمس عشرة عائلة، حاولت جاهدة أن تتذكر أسماءها، ولكن جميع الوجوه عبرت عن مدى فرحتهم وترحيبهم. ولعل ما ساعدها أن فيلكس دعمها وأظهر سروره.
ولكن ما إن انتهت التحيات والاحترامات، حتى قال لها إن عليه أن يناقش بعض الأمور المتعلقة بالعمل مع جوني.. ومرر هولي بلطف إلى غيرليش زوجة جوني لتعتني بها وطلب منها أن تجول بها في المنزل.
كبتت هولي احتجاجاً، وأخفت خيبتها لأن فيلكس لم ير من المناسب أن يجول هو بها في المنزل. لكن الوقت الآن غير المناسب لاتخاذ موقف أمام الكثير من الناس.. فعاجلاً أم آجلاً، ستجعله يعرف ويعترف أن هذا هو منزلها كماهو منزله ولن يستطيع إبعادها عن حياته ، وكأنها زينة لتمضية وقته .. ستكون شريكته بكل ما للكلمة من معنى . في هذه الاثناء ، تحتاج إلى أن تؤسس لنفسها مركزاً وأصدقاء مثل غيرليش كاركان، فزوجة جوني دون شك تعرف كل الأشياء التي يجب أن تتعلمها هولي.كانت المرأة الأكبر سناً ملهوفة لمعاملتها بأكبر قدر ممكن من اللطف، وأحست هولي بسرعة بالحرارة نحو شخصيتها المرحة. وكانت غيرليش فخورة بالمنزل الذي هو بطريقة ما منزلها.. لأنها تعيش و زوجها في الجناح الغربي منه..
سألتها هولي:" منذ متى تعيشين في بندنير داونز، غير ليش؟".
غيرليش امرأة ضخمة البنية، قوية، شعرها الرمادي الكثيف معقوص وعلى وجهها القوي الوسيم ملامح شخص عاش عيشة مريحة.
أجابت مبتسمة:آه! منذ عشرين عاماً تقريباً. حين عرض علينا السيد ويستبرون إدارة المكان كان أولادنا الصغار بعمر فيلكس. كان يجلب فيلكس معه من بيرت في العطلات المدرسية لكنه لم يكن يبقى هنا.. أنا وجوني ولدنا في كيمبرلي وترعرعنا فيها.. ونحب الحياة هنا، وكذلك فيلكس.. لكن..أمه..هزت غيرليش رأسها بارتباك.
ـ أتعلمين.. لم تعد إلى هنا قط.. وأفترض أنك إما أن تحبي الحياة هنا وإما أن تكرهيها.
عبست ونظرت إلى هولي بلهفة: أعتقد أنك ستجدينها حياة مختلفة عن الحياة في أمريكا.
ردت:" مختلفة كثيراً .. لكن هذا لايعني أنني لن أحبها غيرليش.. لقد أحببت كل شيء في هذا المنزل".
ولم تكن تبالغ. فالغرف كبيرة طلقة الهواء.. والأثاث مصمم للراحة لا للأناقة. لكنه مع ذلك متعة للعين..كان هناك بعض القطع الأثرية الجميلة في غرفة الجلوس.. أرض المنزل من الخشب اللامع، لكن البسط المختلفة التي كانت تزينه ذات جودة. أما المطبخ فقد كان واسعاً، ومجهزاً بطريقة لا توصف..
سألت هولي:كيف يسير كل شيء هنا؟ أعني من أين تأتي الكهرباء؟
ـ ثمة مولدات ضخمة تحت الأرض.. نحن محظوظون أكثر من معظم الناس هنا.. لأننا لا نضطر للتفكير في شيء. فيلكس يهتم بهذا.
لكن شيئاً لم يعجبها، أن لها و لفيلكس غرفتين منفصلتين يصلهما حمام مشترك، وغرفة ملابس. عندما تركتها غيرليش أخيراً لنفسها، بدأت التفكير الجاد في الوضع في هذا الوضع. بدا لها أن الغرفتين منفصلتين هما رمز لانفصال المسؤوليات في بندنير داونز.. تقسيم العمل مرسوم بدقة..النساء يدرن المنازل، والرجال يعملون مع المواشي.. ولو كان زواجهما عادياً لما اعترضت أما وزواجهما على ما هو عليه فالأمر يختلف. لن تستطيع إحراز التقدم معه إلا إذا قامت بشيء يكون له قيمة حقيقية له. شيء إيجابي يواجه تحدي الأرض ذاتها.. وهذا مايهتم به.. هذا هو مصدر سعادته.. السيطرة على مالا سبيل للسيطرة عليه، كما وصف فيلكس الأمر.. وإذا لم تجد خطة عمل يمكن تنفيذها، خطة تؤثر فيه فعلاً، فسيبقيها على هامش حياته.. مجرد امرأة مناسبة له.. ولكنها تريد بشكل يائس أن تكون في قلب كل شيء.. معه. استحمت وغيرت ملابسها ثم ارتدت بزة مؤلفة من سروال وردي و بلوزة لتظهر مختلفة وقت العشاء.. بعد ذلك ذهبت إلى غرفة نوم فيلكس تنتظره.
ما إن دخل فيلكس إلى غرفته حتى تصلب جسده كله وقال بحدة: هذه غرفتي هولي.. لديك غرفتك. قلت لك إن هناك أشياء لا يمكنك الحصول عليها، وهذه واحدة منها.. لذا إذا كنت تفكرين في التغيير.. فانسي الأمر!
ـ كنت أجرب الفراش لأرى أيهما المريح لننام عليه.. أم لعلك تفكر في النوم بمفردك فيلكس؟
التوى فمه: أنا مثلك.. أنوي أخذ أفضل ما أستطيع من هذا الزواج.. طالما هو دائم. بإمكانك المشاركة في الفراش ساعة تشائين.. لكن لا تتدخلي بأي شيء آخر في الغرفة. لا الآن، ولا حين أكون غائباً.. أبداً. هل هذا مفهوم؟
ردت بتصميم: هناك شيئان يجب أن تفهمهما فيلكس..
شد على شفتيه: لا تدفعيني كثيراً هولي.. أطلقت يدك لتفعلي ما تشائين في سائر المنزل، إلا مكتبتي التي هي أيضاً من شأني الخاص..
قاطعته: ليس هذا ما أعنيه. أنا لا أنوي البقاء هنا حين لا تكون أنت هنا، حيثما تذهب أذهب..
ـ هذا يا عزيزتي حق لك في أية رحلة أقوم بها.. لإنك لن ترافقيني عندما أجمع الماشية، وأنا أقبل أي شيء إلا اصطحاب ركاب في الهليكوبتر عندما أقوم بجولاتي.. فالأمر خطير جداً، لأنني أحتاج إلى التركيز الكامل. وهناك دائماً خطر أن يتعطل المحرك في أحد المناورات.. ثانياً ستكونين حملاً ثقيلاً على الأرض، هذا عدا عن إلهاء الرجال الذين يجب أن يبقى تفكيرهم منصباً على عملهم..و أشك أن بإمكانك الجلوس فوق سرج جواد يوماً بعد يوم، دون أن يقلق الجميع على صحتك.
لم ينتظر رداً، بل اتجه فوراً إلى الحمام و أغلق الباب بينهما.. كبحت هولي تهوراً في أن تلاحقه.. فهي لم تعرف أنه يجمع الماشية بالهليكوبتر، مع أنها ترى كم هي طريقة مفيدة مع وجود أراض واسعة للتغطية.. ربما ستتعلم قيادة طائرة، ستفكر في هذا ملياً.أما بالنسبة لركوب الخيل، فهو على حق تماماً.. فمع أنها فارسة ماهرة إلا أن الركوب يوماً بعد يوم أمر خارج السؤال في الوقت الحاضر. لكن حين يحين موعد الجمع القادم، فستكون مستعدة.. وعندئذ سيعرفها الرجال جميعاً.. ولن تكون سبباً لإلهائهم. إذن أصبح لديها شيء محدد تعمل عليه. لكن هذا لا يكفي.. فعليها التعرف إلى كيفية سير العمل حتى تستطيع التفكير في أمر مثمر.
ـ هل ندمت على قرارك بعد أن وصلت إلى هنا؟
كانت هولي غارقة في التفكير بحيث أجفلت، وكان فيلكس قد اغتسل وخرج من غرفة الملابس يزرر قميصه. ابتسمت وتقلبت فوق السرير لتنزل عنه. مقررة أن تغلق الفجوة الجسدية بينهما إذا لم تستطع القيام بشيء آخر: لا ندم فيلكس.. كنت أفكر في بضع مشاكل.
تقدمت إليه مباشرة، وبدأت تمرر يدها على صدره: أكره أن أفسد الواجهة التي أظهرناها أمام موظيفك بعد ظهر اليوم .. لذا قل لي ماذا تتوقع مني كزوجة لك؟
ـ لا أتوقع إلا أن تكلفيني ثمناً باهظاً قدر المستطاع.. لكنني سأحاول التخفيف من هذا، بمتناول يدي.
ـ هل أنت خائف مني فيلكس؟
برق شيء متوحش في عينيه: لم أخف قط من امرأة .. والجواب لا، بالتأكيد.
ـ لماذا إذن تبعدني عنك؟
اشتد فكه و كأنه يصر على أسنانه: لا تظني أنني لا أستطيع الاستغناء عنك هولي.
ذكرته برقة: لست مضطراً للاستغناء عني فيلكس.. فأنا زوجتك.
ضحك بخشونة:" إذن دعينا نراك تلعبين دور الزوجة المحبة خلال العشاء.. حبيبتي".
ردت بمكر: لن يكون هذا أمراً صعباً أكثر من الدور الذي لعبته أنت بعد ظهر اليوم.
وأظهرت له هذا.. وأمام اغتباط الزوجين كارفان اللذان دعاهما فيلكس للمشاركة في الطعام في غرفة الطعام الجميلة.. ولم تضطر هولي إلى تمثيل لأن من دواعي سعادتها أن تكشف عن مشاعرها تجاه زوجها.. وعندما اقترحت النوم باكراً لم يعترض، أما المدير وزوجته فتفهما أن يومهما كان شاقاً وطويلاً، وأن على فيلكس الاستيقاظ قبل الفجر.
كانت كل خطوة تخطوها على طول الشرفة مشحونة بالتوتر.. ولم يكن هناك مجال للشك في أن كل واحد منهما سيذهب إلى غرفته.. كان باب غرفة فيلكس الأقرب، ولكنه لم يدخل وحده إذ شدها معه بسرعة وسحقها بعناق كان ينبض برغبة لا يستطيع السيطرة عليها.
ـ ساحرة!متوحشة!
همس بالكلمات بصوت أجش، لكنهما فقدتا أي معنى لاذع أمام المشاعر التي اشتعلت بينهما.. لم تعد هولي تهتم ماذا يسميها، ما دام قريباً منها.. لكنه أبعدها عنه أخيراً وقال بصوت متوتر: قولي إنك لم تختبري شيئاً كهذا مع غيري!. قولي! قولي إنك لم تعرفي رجلاً مثلي.
صاحت:" أبداً..أبداً!".
رددت الحقيقة دونما تفكير.. ولكنها لم تكن تسمع صيحة انتصاره.. لم تدر كم مر من وقت حين أخذت تفكر في مادعاه إلى انتزاع ذلك الإقرار منها؟ هل هو الغرور؟ الكرامة؟ أم المسألة أكثر من هذا؟ لم تكن قادرة على تحمل فكرة أن تجعله امرأة أخرى يحس بأكثر مما تستطيعه هي.. ولعله يريد التأكد من هذا.. وإذا كان الأمر كذلك.. فهذا يعني أنها لم تعد امرأة مناسبة له فقط.. بل هي شخص أهم بكثير من هذا. لكن مازالت المسألة جسدية.. وعليها أن تصل إلى أبعد من هذا.. أن تجعله يرى أنها قادرة على مساواته في كل شيء.
عنت على بالها الفكرة! نعم يجب أن تحقق هذا ولكنها بحاجة إلى مال.. بل الكثير من المال. عادت الذكريات إليها متدفقة. في يوم ما، في مخيم بين الأشجار في زيمبابواي، مع جماعة من " فليق السلام" وهي مستلقية في كيس النوم.. والسماء لامعة بالنجوم، والأشكال الغربية تمر عبر سماء الليل.. وعادت الأسماء وهي تتذكر أنها سألت عنها..اندست برضا بين ذراعي فيلكس النائم.. لم تعد بحاجة إلى مزيد من التفكير فقد باتت تعرف غايتها. هذا هو فيلكس.. وكلما كبر العائق، كلما كبر التحدي، وكلما اضطرت إلى تحقيق المزيد. كلما ازداد إعجاب فيلكس بها واحترامها.هذه، على الأقل، النظرية.
صممت هولي: غداً ستطبق هذه النظرية![/CENTER




يتبـــــــــــــــــع

0ـ زوجــــــــــة جهنمية




اخترق رنين خفيف متواصل نوم هولي، فانسحب الدفء الذي كانت تشعر به.

وعندما حاولت أن تجد ذلك الدفء مجدداً، توقف الصوت، وكانت لاتزال تتحرك

متململة حين التف الغطاء حولها.. فاستيقظت ورأت انعكاس صورة سوداء تتحرك

نحو الحمام.
ـ فيلكس!
ـ عودي إلى النوم هولي.
ـ هل حان وقت ذهابك؟
ـ أجل.. عليك الذهاب إلى غرفتك لئلا تنزعجي.
ـ لا أذكر أنك اقترحت هذا ليلة أمس.
ـ بما أنك عنيدة إلى حد كبير، لم أعتقد أنني بحاجة لاقتراح شيء كهذا.
ـ أردت الاستيقاظ باكراً.. أردت أن تصغي إلى قبل أن تذهب.
ـ قولي لي وأنا أرتدي ثيابي.. وسأفكر في الأمر.
رفعت نفسها على الوسائد، وأضاءت المصباح قرب السرير، تتساءل ما هي

أفضل طريقة لتصوغ ما تريد بالكلمات.. انتظرته حتى ينتهي من الاستحمام.. خرج

من غرفة الملابس مرتدياً قميصاً وجينزاً. أملت هولي أن يجلس على السرير، لكنه

جلس في مقعد في الطرف الآخر من الغرفة، مبقياً مسافة بينهما.. سألها بشكل

مختصر:" ماذا تريدين؟".
ـ أريد حساباً مصرفياً خاصاً بي بمئة ألف دولار.
نظر إليها نظرة لاذعة: إذن.. ستبدئين منذ الآن.. وأنا دهش لأنك طلبت هذا المبلغ

البسيط فقط.
ـ قد تكون على حق.. من الحماقة أن أكون بخيلة إلى هذا الحد.. واجعل المبلغ

نصف مليون دولار فيلكس.
لن تحتاج إلى مثل هذا المبلغ، لكنه يستحق بعض العقاب لإساءته الظن بها.
قال ساخراً:" سيغطي نصف مليون نفقة كبيرة الداخلي.. فماذا تنوين؟ طلي

الجدران بالذهب؟".
ـ الواقع أنني أفكر القيام بشيء في الخارج لافي الداخل. وثمة شيء آخر.. أريد

تعلم قيادة الهليكوبتر. رفع رأسه بحدة وهو يشد حذاءه:لماذا؟
ـ ولمالا؟ بإمكانك القيادة.. وأريد أن أتعلم. ربما تعرف من يستطيع تعليمي.
أنهى شد حذاءه وبدأ بالفردة الأخرى: سأعلمك بنفسي متى أصبح لدي الوقت

الكافي.
أحست هولي بقشعريرة انتصار، إنها تتقدم الآن!
ـ سيكون هذا رائعاً فيلكس. شكراً لك.
نظر إليها بقلق وهو يقف: هل هذا كل شيء..؟
ـ وهل ستتدبر أمر المال. أريد البدء بمشروعي حالاً.
ـ أي مشروع؟
ـ لاتقلق.. أعد ألا أفسد عليك شيئاً .. وأحب أن يكون هذا مفاجأة ،ابتسمت له.
سحب نفساً ثم قال ساخراً:سأقدم لك كل مايسر قلبك. لكن تأكدي أنني سأكلم جوني

الذي سيعمل على هذا صباح اليوم.
رمى كلماته الأخيرة من فوق كتفه وهو يخرج إلى الشرفة.
ـ فيلكس!
ـ ماذا الآن؟
رمت عنها الغطاء، وركضت إليه ترمي ذراعيها حول عنقه قبل أن يتحرك ليمنعها.
ـ لن تخرج قبل أن تودعني.. أليس كذلك؟
ـ هولي!حباً بالله! هذا ليس وقت اللعب!
ـ عناق واحد لن يضرك أبداً.
ودست أصابعها في شعره الأشقر: ألم أكن زوجة صالحة لك ليلة أمس.. ألم أكن

هكذا؟
سحب نفساً غاضباً وعانقها بغضب لكن العناق لم يبق عناقاً ملؤه الغضب بل أصبح

فيه جوع وحب. وحين أبعد رأسه عنها رأت في عينيه تناقضاً غاضباً.
ـ يجب أن أذهب.. وسأذهب.
أبعدها عنه على طول ذراعيه: وداعاً..زوجتي! أراك بعد أسبوع.. هذا إذا بقيت هنا.
صفق الباب وراءه وسار وكأن كلاب الجحيم قد انطلقت في أعقابه.. ضحكت هولي

لنفسها، وعادت إلى السرير تدس جسدها تحت الأغطية مسرورة.. إنه رجلها فعلاً

.. وسرعان ما ستقنعه أنها امرأته. عادت إلى النوم، ولم تستيقظ مرة أخرى إلا في

الثامنة صباحاً.. لكن غياب فيلكس لم يبعث البهجة إلى نفسها. كان الطقس حاراً،

لكن ليس بحرارة الطقس الرطب في بورت دوغلاس حيث عاش والدها في سنواته

الأخيرة.. ارتدت هولي سروالاً قصيراً و قميصاً واسعاً ، وانتعلت خفاً، ورفعت

شعرها كذنب الحصان، وكادت ترقص وهي تخرج إلى الشرفة.
تناهت إليها رائحة الخبز اللذيذة، وصيحات الأولاد التي اختلطت مع نباح الكلاب..

لم تشعر هولي أبداً بالعزلة.. فبندنير أشبه بمملكة صغيرة ورجال فيلكس هم شعبها.

ولا يمكن أبداً أن تكون وحيدة أو سأم هنا! وجدت غيرليش في المطبخ مع فتاتين من

الأصل المحلي، تساعدانها في المنزل.. ماريا وسيليا. أصرت هولي أن تتناول

فطورها على طاولة المطبخ لتتمكن من التحدث معهن.. لكن الفتاتين كانتا تضحكان

خجلاً باستمرار، هكذا أجابت غيرليش على كل أسلتها.
قالت تسأل:" ظننتك تخبزين الخبز".
ـ ليس هنا بل في الفرن.. سأريك أين بعدما تنهين طعامك، إذا شئت.
ـ أجل.. أرجوك، إذ أتوق إلى رؤية كل شيء.
ضحكت غيرليش: والجميع يتوق إلى رؤيتك هولي.. وأخشى أن يصموا أذنيك

بكثرة أسئلتهم .
قدمت لها ماري طبقاً من الفاكهة الطازجة. بطيخ. وباباي وموز.
سألت:" هل تجلب هذه الفاكهة بالطائرة؟".
صاحت غيرليش التي عادت تضحك مجدداً: ياإلهي! نحن مكتفون ذاتياً هنا.. نزرع

كل أنواع الفاكهة والخضار.. التربة صالحة.. لكن نقص المياه مشكلة.. غير أن

فيلكس حل هذه المشكلة في محيط المنزل.. أترغبين في بعض البيض بعد الفاكهة؟

نحن نربي الطيور الداجنة هنا أيضاً.
رن جرس بصوت مرتفع واضح فأجابت غيرليش على السؤال لم تطرحه هولي:

إنه جرس المدرسة. الساعة الآن التاسعة.
ـ كم ولداً في المدرسة؟
ـ أربعة عشر هذه السنة وفي أربعة صفوف مختلفة. هكذا تضطر مايني المدرِسِة

إلى توزعيهم على المدرسة الهوائية.
ـ وماهي المدرسة الهوائية؟
ـ دروس عبر الراديو.. يذيعها أساتذة من ديرلي، وهذه هي أقرب بلدة لنا على

الساحل الغربي.
هزت هولي رأسها بذهول.. المدرسة الهوائية أمر جديد عليها.. وثار اهتمامها

لتعرف كيف تعمل .
قالت غيرليش شارحة: إنها تستمر فقط إلى الصف السادس، بعد ذلك يجب أن

يذهب الأولاد إلى مدرسة داخلية لإكمال دراساتهم. بعضهم يرفض ترك منزله، ولا

يجبرهم فيلكس على هذا.. لكنه يرتب لهم تعلم المهارات العملية هنا.. شقيق ماريا،

كال، ميكانيكي ممتاز. يمكنه إصلاح أي شيء.
قالت ماري:" سيليا تضع عبئها على كال".
وانفجرت الفتاتان بنوبة ضحك أخرى. أرسلتهما غيرليش لتنظيف الغرف بينما

أخذت هولي في جولة على الحديقة، وإلى أماكن أخرى. عادت هولي فتعرفت إلى

معظم الذين التقتهم بالأمس، واستمتعت مع الجميع.. وكانت وقفتهما الأخيرة في

الإسطبل. عادتا إلى المنزل الكبير للغداء، واغتنمت هولي الفرصة لتطلب من

جوني الانفراد به.
مكتبة فيلكس ذات طابع رجولي محض فيها منضدة ضخمة من خشب السنديان،

وبساط أخضر على الأرض.. وعلى أحد الجدران خزانة عرض ضخمة للتذكارات

و الميداليات، فوقها عدد من القلادات المعلقة في شرائط زرقاء من معارض

الماشية.. ورفوف عليها مجلات وكتب وتحت النافذة هناك خزائن مخصصة

للملفات.
قال جوني ما إن دخلا إلى الغرفة:لقد اتصلت بالمحاسب في المنجم هولي.. وهو

سيضع المال في حسابك قبل انتهاء هذا اليوم.
ـ شكراً لك جوني.. لن أحتاج إلى مثل هذا المبلغ..
قاطعها مبتسماً: لكن فيلكس لا يريد أن تحتاجي إلى شيء. و الآن ماذا غير هذا

لأقدمه لك؟ قال فيلكس إن لديك مشروعاً خاصاً في ذهنك. استغلت الفرصة: أجل



محاولة شيء ما.. تجربة قد تنجح هنا جيداً . وإن لم نحاول، فلن نعرف.. صحيح؟

هل أسماء" تولي" " بوران" تعني لك شيئاً؟ هز رأسه: لا أستطيع القول.
ـ إنه سلالات من الماشية الأفريقية.. تشبه" البراهمان" لكنها أكثر قدرة على

مقاومة الحرارة و الأمراض.. و أعرف أنها أنواع موجودة في زيمبابواي لأنني

رأيتها هناك.. الشيء الذي لفت نظري إليها هي أنها قادرة على العيش في ظروف

الجفاف لأن لها غدد تعرق متطورة.. وهي مناسبة لهذه البلاد أكثر من الماشية

الإنكليزية. وأظن أننا نقدر على زيادة الإنتاج وزيادة معدلات النمو منها..ماأريد أن

أفعله هو استيراد ثور، وقطيع صغير منها. نستطيع تسييج جزء صغير من بندنير

داونز حيث يمكن أن يرعى القطيع دون الاختلاط بالقطعان هنا. ونرى ماهي

النتيجة. بدا جوني كالأبله..ثم هز رأسه ببطء وكأنه يحتاج إلى نفض الغبار عنه.
ـ لقد ظننت..
وتوقف.. ثم أشار بيديه إشارات عجز، ثم ابتسم لها ابتسامة جانبية.
ـ يبدو لي أن فيلكس اتخذ لنفسه زوجة جهنمية. هل يعرف بهذا؟
قررت هولي أن السرية قطعاً هي أفضل شيء في هذه المرحلة.
ـ قال فيلكس إن بإمكاني القيام بكل ما يجعلني سعيدة.. وأعطاني الحرية التامة..

وهذا ما أريد أن أفعله جوني!
ـ برقت عيناه بسرور ومرح: لا تيسئي فهمي.. هولي.. أنا معك طوال الطريق..

المسألة أنه ليس هناك الكثير من النساء أو الرجال، الذين فكروا بمثل هذا .. فكرة

جديدة.. ثورية.. مبتكرة.. وتبدو لي بكل تأكيد فكرة جيدة.. وتستحق التجربة حتى

ولولم تنجح.
تنهدت هولي بعمق: شكراً لك جوني.. والآن فلنترك هذا بيننا تماماً .. فلست أدري

ما إذا كان الاستيراد ممكتاً .. أريد أن تنصحني في هذا.
ـ ثمة شيء واحد مؤكد فمهما كنت تحاولين الاستيراد، يجب أن يخضع لحجر

صحي.. ولن يكون هذا سريعاً .. ويجب أن تكوني صبورة.
ـ إذن اسأل لي عن الأمر؟ هل ستدفع الكرة للدوران؟
ـ فوراً وستكون المعلومات اللازمة عندك هذه الليلة.
صاحت هولي مسرورة: أنت رائع جوني!
ضحك لها: أعتقد أنك أنت الرائعة هنا هولي. الآن عرفت كيف قطع رأس

فيلكس..طوال سنواته لم تعن النساء له أي شيء.. لكن أنت..
مرة أخرى هز رأسه: حسناً ..حظ سعيد لك عزيزتي! وحظ سعيد له! وسأكون

سعيد برؤية هذا.
تمنت لو كان بإمكانها إقناع فيلكس بالسهولة ذاتها.لكنها كانت مسرورة بنجاح

الفكرة.. جوني الآن حليفها الثابت، ومعاً سينفذان المشروع في أسرع وقت ممكن..

وكل ماترجوه أن يتم هذا قبل عودة فيلكس من جمع الماشية..كانت تريد شيئاً مجدداً

في يدها لتظهر له أنها شريكة حقيقية له. كان الحظ إلى جانبها بالتأكيد.. فقد أعلمها

جوني تلك الليلة أن دائرة الثروة الحيوانية تجري تجارب في جزيرة " كوكوس"

لاستيراد البذار المجمد للأ صناف التي ذكرتها من زيمبابواي وتلقيح الأبقار

الأسترالية بها.. وأن مربي الأبقار في كوينزلاند يدعمون هذه التجارب. وقد تتمكن

من شراء حصة لها بسعر مناسب.. وإلا فهي مضطرة لتقديم طلب و الانتظار سنة

ونصف..
قالت دون تردد: لدينا نصف مليون دولار جوني. فلنشتر بها ما نستطيع.
في الأيام التالية انشغلت هولي.. ففي الصباح كانت تمضي الوقت مع جوني للضغط

حتى تحصل على الأبقار التي تريدها. أخيراً، حصلا على صفقة.. أربعون بقرة

وثورين. سترسل جواً من جزيرة " كوكوس" إلى بندنير دوانز في غضون شهر..

وفيما كان التفاوض جارياً عل كل هذا، تعلمت هولي الكثير عن إدارة المزرعة

تحت إشراف جوني وغيرليش.. أمابعد الظهر فكانت تمضيه على صهوة

الجواد..كان الجواد الذي اختاره لها كيم مهرة مطيعة تدعى لايدي.. واستمتعت

هولي بركوبها.
وصلت صور الزفاف في اليوم الخامس على وجودها في المزرعة.. لم يكن فيلكس

قد أختار شيئاً من الفيلم الأصلي لذا وجدت نسختين كبيرتين من كل صورة..

وكانت كلها رائعة مدهشة.. درستها هولي كلها، ثم أقنعت نفسها أن فيلكس يحبها

فعلاً. لكن الصورة قد تكذب.. رغم كل شيء، لم يكن لديها مانع من إرسال

مجموعة كاملة منها إلى أمها، لإظهارها أو استخدامها حسبما تشاء.. كتبت رسالة

مطولة أرسلتها مع الصور وأخبرتها عن طبيعة الحياة التي اختارتها مع فيلكس

علّها تفهم الأمر.. لكن أملها كان ضيئلاً في أن تفهم.. فهذا مكان بعيد كل البعد عن

بوسطن مسافة وطراز حياة. تمنت لو تعيد التواصل مع أمها، كما تمنت لو

استطاعت هذا مع والدها.. ذكرتها الصور بصور أخرى التقطتها للوحات أبيها..

ذلك المنظر، لابد أنه موجود في مكان ما من بندنير داونز.. عندما خرجت بعد ظهر

ذلك اليوم للركوب، وصفت المنظر للولدين يرافقانها عادة فقد أصر السائس على

حماية زوجة رئيسه لذا كان يرسل معها دوماً من يرافقها. سألتهما إذا كان يعرفان

مكاناً كهذا.
قال رودي وهوأحد الوالدين: ثمة أماكن كثيرة كهذه آنسة هولي، أتريدين أن نريك

أحدها؟
ـ أجل.
اعترض الصبي الآخر آنغز: المكان بعيد .
هو يدرك أنه مسؤول عن حماية زوجة رئيسه.
قال رودي: يمكننا أن نشير إلى المكان من بعيد لتراه" آنسة" هولي.. ثم نعيدها إلى

المنزل .
استقر الرأي على هذا، وماهي إلا أكثر من ساعة بقليل، حتى رأت المنظر.. السهل

الشاحب المرقط بأشجار"الباوباب". سلسلة الجبال الصخرية الرملية الكبيرة.. ولّد

المنظر في نفسها غريباً .. فأن تعرف أن والدها كان هنا قبلها.. وأن هذا المكان هو

ماعاش في ذاكرته طوال سنوات وحدته لأمر حرّك مشاعرها.. بعد قليل قررت أن

تعود لتخيم ليلة هنا حتى تراقب غروب الشمس الذي رسمه.. ربما يكون هذا أقرب

ما تستطيع التقرب به إلى والدها، الذي لم تعرفه قط.
أصر آنغر على أن يعودوا فوراً إلى المنزل. ولإنها سبق أن اتخذت قرارها لم

تجادله. وكان من حسن الحظ أنهم عادوا في ذاك الوقت.. ففي الطريق شاهدوا

الهليكوبتر تعود فأسرعت هولي تحث مهرتها لتركض فهي لاتريد أن يفوتها أي

وقت معه.. لكن لماذا عاد؟ سارعت رأساً إلى المنزل الكبير، و أعطت مهرتها إلى

الولدين اللذين أعاداها إلى الإسطبل. كان قلبها يخفق بشدة وهي تسرع في الشرفة

إلى مكتب جوني، متوقعة أن يكون فيلكس هناك يتحدثان عن جمع الماشية. لكنها لم

تجد سوى جوني وكاتب الحسابات.
سألت بأنفاس مقطوعة: فيلكس؟
ابتسم جوني: "ذهب ينظف نفسه من أجلك".
ـ هل أخبرته بأم الماشية التي سنستوردها جوني؟
ـ لا..إنها أخبار تخبرينها أنت هولي.
ـ صح!
ضحكت له ممتنة ثم هرعت إلى المطبخ لتجد غيرليش والفتاتين تحضرن الخضار

للعشاء؟
ـ هل لدينا كافيار" بيلوكا" غيرليش؟
ـ في المخزن دائماً شيئاً منه.
ـ فلنخرجه إذن ..هل عرفت لماذا عاد فيلكس باكراً؟
ـ ربما لم يستطع الابتعاد كثيراً عن الكافيار..
وانفجرت الفتاتان اللتان ضحكتا بشكل هيستري، فصاحت غيرليش تأمرهما:

ماريا.. اقطعي البصل..سيليا.. هناك بيض مسلوق في البراد.. تحركي..! تعرفان

مايحب فيلكس أن يرافق الكافيار. بعد عشر دقائق، حملت هولي صينية مليئة

بالطعام إلى غرفة فيلكس. فكرة أنه عاد لأنه لم يستطع البقاء بعيداً عنها أشعرتها

بأنها أخف من الريشة. لكنها لم تصدق هذا حقاً إذ وقود الهليكوبتر نفذ منه فاضطر

إلى العودة.. على أي حال..ستسفيد من هذا قدر المستطاع.
لم تسمع جريان الماء في الحمام فألقت نظرة لترى إن كان قد ارتدى ثيابه ولكنها

وجدت الباب إلى غرفتها مفتوحاً. وفيلكس واقف عند منضدة الكتابة، ينظر إلى

إحدى صور الزفاف.
قالت بوجه مشرق:" إنها جيدة.. ألاتظن هذا؟".
ارتد وللحظة بدا في عينيه سؤال حاد. و كأنه رأى شيئاً في الصورة جعله يتساءل

عنها، ثم تحولت نظرته إلى الصينية التي تحملها.
التوى فمه ساخراً:هل هذا ترحيب بعودتي إلى البيت.. أم يجب أن أتخذ الحيطة

والحذر؟ فعند الإغريق كان يعني حمل الهدايا الخطر الشديد.
كان يرتدي روب حمام أسود قصير، وكان حليق الوجه وقد استحم.. بدا ينضح

رجولة، فعلقت أنفاس هولي في مكان ما في حنجرتها. وتمنت بشدة لو تسنى لها

الوقت لتنظيف نفسها بعد رحلتها الطويلة.. لم تكن تقلق على مدى جاذبيتها.. ولم

تتوقف لتفكر في مظهرها.. والوقت الآن متأخر على إصلاح هذا.. فيلكس ينتظر

الرد، ويجب أن تعيد تفكيرها إلى طرق التحدي التي جعلت من زواجهما متماسكاً..

وبجهد بالغ، أعادت عقلها للتفكير.
ـ أنت تحب ركوب الأخطار فيلكس..لذا فسر كما تريد.. ولكن صدقاً إنه ترحيب

بعودتك إلى البيت.
ضحك ضحكته الخافتة وهذا ماجعله أكثر جاذبية: إذن، المسرحية مستمرة.. أليس

كذلك؟
حملت الصينية إلى الطاولة، ووضعتها من يدها. ثم التقطت الصورة التي كان

يدرسها، وقالت: صورتك رائعة.. ستظن أمي أنك فعلاً تحبني كثيراً.
دس يديه حول خصرها، وجذبها إلى الخلف نحوه: كنت أفكر في الشيء ذاته بشأنك

ولكننا نعرف أفضل من هذا..أليس كذلك؟
وحرك شفتيه حول أذنها مداعباً. انطلقت قشعريرة مثيرة إلى أوصال هولي.. ربما

عاد فيلكس فعلاً لأنه يريد أن يكون معها. حاولت أن تستدير لتحاول رؤية شيء من

المشاعر في عينيه. لكنه شد ذراعه حولها، يثبتها إليه.
ـ ابقي حيث أنت يازوجتي الساحرة الصغيرة. هذه المرة أنا الذي سأدير

المسرحية.
وكان في صوته الحاجة إل ىشيء من السيطرة عليها، لكنها عرفت من لهفته أن لا

مجال للسيطرة. لم تشعر أنها أقل قيمة لأنها تجاوبت.. لم يكن في عناقها أي عذاب

لها.. ولم تقاوم موجات السعادة التي اجتاحتها بقوة متزايدة.لكن فيلكس هو الذي فقد

القدرة على الانتظار إذ صاح بصوت مخنوق وأدارها نحوه سحقها على صدره.
لم تعد هولي تذكر فيما بعد ماذا حدث. وعندما تكلم ثانية، لم يذكر شيئاً عن إدارة "

المسرحية" .. بل قال بلهجة جافة: أعتقد أنني الآن جاهزان للطعام.
ـ أجل.. وأعتقد أنني غير بارعة بتحضيره فيلكس.
ضحك مجدداً ضحكته التي كانت تصل إلى أعماق معدتها فتقلبها رأساً على عقب..

فارتدت إلى ظهرها تراقبه بسعادة وهو يحمل الصينية إلى الطاولة قرب السرير..

رفعت هولي نفسها فوق الوسائد.. وسألها ساخراً: إذن.. ألم تتمكني من إنفاق

النصف مليون بعد؟
ـ ليس كلياً.. لكن عليّ مناقشة مسألة التسييج معك.
كرر ساخراً:" التسييج"؟.
وضع الكافيار على قطعة من الخبز المحمص وأعطاها إياها، ثم مزج أشياء أخرى

مع الكاقيار وسأل قبل أن يقضمها: ماذا تريدين أن تسيجي؟
ـ مايكفي من أرض لخمسين رأس من الماشية بشكل خاص.
التفتت العينان الخضراوان إليها بنظرة عدم تصديق.. وسأل: أي خمسين رأساً،

بشكل خاص؟
ـ أجل..! خاص جداً.! لقد كلفتني الكثير من المال.
رفع حاجبيه بسخرية متعجرفةـ فأردفت الماشية، ولماذاتخبره بالضبط ماهي تلك

الماشية، ولماذا اشترتها ، ماذا تنوي أن تفعل بها.
تلاشى عدم التصديق والسخرية بسرعة. وتصاعد مكانهما الحساب والترقب..

بعدما انتهت هولي من إخباره عن طول مغامرتها في استيلاد الأبقار، نظر فيلكس

إليها طويلاً قبل أن يتكلم.
ـ أنت .. منافسة خطيرة هولي.. وستهزمينني طوال الوقت.. أليس كذلك؟ لكنني

أعترف أنني أعجبت بهذا الاستثمار أكثر من الذهب.
ـأسمي هولي ويستون، فيلكس.. وسأستولي على هذه الأرض.. مثلك تماماً إنما لن

أكون ضدك أبداً . فعملك عملي.. وإذا كان هناك طريقة لجعل عملنا أفضل، فأنا

على الاستعداد للتجربة.. فهل لديك اعتراض؟
رمت التحدي بشكل متعمد فعلى هذا التحدي يعتمد مستقبل علاقتهما.. فلو رفض

القبول بأيهما سيكون هناك خلاف مرير بينهما. فتشت العينان الخضراوان عن

عينيها بشدة، ثم قال بصوت لا أثر فيه للعداء: هذا المشروع الذي تتطلعين إليه

طويل الأمد، هولي.
ـ أعي هذا.. وأهدف الستمراربة .. لكن الواضح أنني بحاجة لتعاونك.
هز رأسه ببطء، وكأنه يتحسس الطريق بحذر شديد: أفضل في المستقبل، ألا تتخذي

قرارات لها علاقة " بعملنا" دون معرفتي.
ـ وأنا أفضل في المستقبل أن تبادلني الاحترام.
التوى فمه بإعجاب جاف، وعرفت هولي أنهاربحت المعركة حتى قبل أن يقول: هل

نتطلع الآن إلى المستقبل طويل سيدة ويستون؟
تكورت شفتاها بانتصار: أعتقد هذا.. سيد ويستون.
ـ مشاركتك الحياة تزداد إثارة، لكن لا تتركي هذا يؤثر في رأسك هولي لأنني

سأحافظ على رأسي، مهما اخترعت من أشياء..
ردت :" أكره أن أفقد رأسك فيلكس.. فهو أهم جزء منك".
للمرة الأولى، انطلقت منه ضحكة مجلجلة. وتراقصت عيناه عليها بغبطة شريرة،

ثم رفع ذراعيها فوق رأسها وقبلها مجدداً، ثم قال: أخبريني عن خبر آخر، أيتها

الساحرة اللعنة!
ـ سأخبرك، إنما فقط، لو تركت ذراعي.
تركهما ولكنها لم تقل له إن ماترغب أن تجده هو قلبه الذي سيبقى دائماً حذراً

بشأنه.. لكنها على الأقل لم تعد مجرد زوجة بل هي شريكة مساوية له بحيث تقدر

على تأسيس مستقبل دائم .. وبهذا يمكنها أن تبدأ التفكير في الإنجاب..في تأسيس

عائلة.. على أي حال.. ما نفع المملكة دون وريث؟ كانت واثقة أنه سيوافق قلبياً

على مثل هذا التطور.. وقد لايسمح لنفسه أن يحبها أبداً.. لكن لاشك في نفسها أنه

سيحب أولادها.




يتبــــــــــــــــــع
11ـ المــــــــــــــــاضي مات...





أيقظ زمور الجيب هولي في الصباح التالي.. في الليلة الماضية نامت مع فيلكس في غرفته وكانا منشغلين ببعضهما بعضاً أكثر من أنشغالهما بضبط ساعة المنبه. سمعت فيلكس يتمتم شيئاً من بين أنفاسه، ثم التفت ذراعه حول خصرها ليشدها إلى الخلف نحوه، ومضت أكثر من ساعة فبل أن تتذكر هولي زمور الجيب.
ستلقى فيلكس فوق السرير استلقاء من تخلى عن كل الهموم و الأفكار.. حاولت هولي أن توقظه بتمرير أصابعها على صدره.
ـ سائقك منتظر منذ مدة، فيلكس.
ـ همم.. هذا الصباح، سأطيل النوم. أعتقد أنني متعب جداً.
ـ ألا تشعر بالذنب؟
ـ أحياناً من المفيد أن يكون المرء هو الرئيس.
ـ كل من في المزرعة سيعرف ما الذي أخرك، وماكنت تفعل.
ـ أجل.
لم يظهر عليه أي تأثر. ولم تستطع هولي إلا أن تضحك ضحكة، وجدها فيلكس على مايبدو استفزازية.. وكان على السائق أن ينتظر وقتاً أطول.
فقط، بعد ذهاب فيلكس، دفعت هولي نفسها للنهوض.. فعليها العمل من أجل ترتيب مسألة الماشية مرة أخرى.. ولكنها فكرت أن عليها أيضاً المضي بخطتها للعودة إلى المكان الذي رسمه أبوها والبقاء هناك ليلة. وليس هناك ماتريد فعله أكثر من هذا. لم يكن جوني وغيرليش، متحمسين كثيراً على التخييم ليلاً. لكن هولي أصرّت: سأصطحب معي الصغيرين رودي و آنغر اللذان سيعتنيان بي. لقد سافرت كثيراً، ورأيت أنحاء كثيرة من العالم.. بما فيها كيمبرلي.. وأنا معتادة على نفسي.. ولن تحدث أية متاعب، لذا لا تقلقا عليّ.
وابتسمت لهما بثقة. بعد الغداء انطلقت هولي والولدين فوق جيادهم وكانت أغراض التخييم قد وضعت فوق الجواد خاص رافقهم.. كانت معنويات الولدين عالية إذ أخذا يسليانها ويدلانها على كل السهول، وعلى الحياة البرية التي شاهداها.. وفيما كانوا يتوغلون أكثر فأكثر نحو سهل التبن الذي رسمه والدها، كان الحزن قد غمر نفس هولي، ولم تعد تستطيع الإصغاء جيداً . وأحس الولدان أن مزاجها تغير، فأخذا يتحدثان معاً فيما بينهما حتى وصلوا إلى حفرة ماء نصح الولدان هولي بأنها أفضل مكان للتخييم. ترجلوا، وأعطت زمام جوادها إلى آنغر، وقالت بثبات: أريد التنزه سيراً على الأقدام وحدي.. ابقيا هنا لإقامة المخيم.
ـ بكل تأكيد" آنسة" هولي. سنعتني بكل شيء.
تركتهما هولي ليفعلا ما أمرتهما به، وسارت ببطء نحو شجرة"باوباب" عملاقة كانت بارزة في اللوحة التي رسمها والدها. كان جذعها الغريب الشبيه بالزجاجة وأطرافها الملتوية في قمتها تبدو كمخالب تتشبت بالسماء بشوق معذب.. ترى ماذا كان عليه شعور والدها؟ هل أحب زوجة آخر حباً كان يمزق روحه؟ أم أحس بحب عميق لهذه الأرض؟
صاحت تقول بصمت لسلسلة تلال الصخور الرملية: أخبريني شيئاً عنه.. مررت يدها حول جذع شجرة" الباوباب" تضغط ظهرها إليها.. نظرت إلى الجبال العتيقة التي وقفت ثابتة.. ولم تجد صعوبة في التعرف إلى الطبقة البارزة التي اندمجت مع وجه دونا..لكنه تذكر ابنته.. وتكلم عنها مع دونا.. وترك لها هذا.. أسطورة الحب والألم.. وخز الدمع عينيها، فانزلقت على جذع الشجرة وجلست عند قاعدتها، وقد أحست فجأة بالتعب والسقم في أعماق قلبها.. لقد مضت سنوات محرومة من حب والدها ولو عرفا بعضهما لربما كانا مقربين.
ترقرقت الدموع في مآقيها وهطلت على خديها، ولم تحاول منعها.. منذ زمن وزمن وهي تخوض المعارك بمفردها مكتفية بذاتها.. لكن مازال في داخلها طفلة تبكي لمن يريدها ويحبها، مهما كانت وكيفما بدت.. إنها تريد الانتماء لشخص ما بكل بساطة، دون سؤال أو تحفظ.. لماذا مات والدها قبل أن تسمع عنه شيئاً؟ أما كان بإمكانه أن يكتب لها رسالة قبل موته؟ أما كان بإمكانه..؟
ضرب صوت محرك هليكوبتر قلبها المثقل.. وصرخ عقلها احتاجاً على ما يعنيه الصوت.. وسعى إلى تفسير السبب ففكرت أن فيلكس ربما يجمع الماشية في مكان بعيد عن هنا ولعل الصدفة هي التي جعلته يمر من هنا.. فهو لا يحتاج إليها إلى هذا الحد.. ولن يأتي من أجلها بتأكيد.. ليس للمرة الثانية في أقل من يوم.
ازداد توتر أعصابها المشحونة فقد اقترب الصوت ثم توقف..آه.. الطائرة إذن ربما قرب بركة حيث يقيم الولدان المخيم. وهذا يعني أنه سيأتي باحثاً عنها إن لم تسارع هي إلى ملاقاته.. لاشك أنه ذهب إلى المنزل وعرف أين هي .. وما إن عرف.. الله وحده يعرف بما فكر أو يفكر فيها.. أتراه أساء الظن بها؟.. فهذا موقع اللوحة.
لم تكن هولي ببساطة مستعدة للقتال في هذه اللحظات فهي في فوضى كاملة: وجهها ملطخ بالدموع ومشاعرها مشتتة.. فكيف السبيل للتعامل مع فيلكس وهي غير قادرة على السيطرة على نفسها؟ قد ترحب به في أي مكان وزمان غير هذا.. فهذه مسألة خاصة بالنسبة لها ولن يفهمها.. لن يتعاطف معها.. لن يتعاطف أبداً.. ألم يقتل أبوها أباه؟.. كيف ستشرح له الأمر؟ شعرت باليأس ولكن عليها تدبر طريقة ما.. لم يترك لها فيلكس خياراً آخر.. دفعت نفسها للوقوف واستندت إلى جذع الشجرة تمسح وجهها بكم قميصها، بعد ذلك سحبت عدة أنفاس عميقة في محاولة يائسة لتسيطر على نفسها. ثم خطت بضع خطوات حول جذع الشجرة لتستطيع إلقاء نظرة على المخيم. رأت فيلكس يقطع المسافة نحوها بخطوات طويلة رشيقة. كانت الشمس الغاربة تشع على شعره لتجعله ذهبياً.. توقف على بعد خطوات منها.. بدا وجهه القاسي، وجه المحارب، كوجه قُدّ من حجر.. العينان الخضراوان حدقتا إليها بتساؤل ومرارة، والتوتر ينضح منه بشدة كادت تخنقها.
سألها بقسوة:" ماذا تفعلين هنا هولي؟ ألم نتفق على ترك الماضي وشأنه؟".
قالت وهي تحاول التخفيف من حدة الاتهام المرير في العينين الخضراوان : لن أنبشه فيلكس.
لم يصدق :" هولي ؟".
أمسك ذراعها وأدارها لتنظر إليه. فصاحت: لاأستطيع منع مشاعري بشأن هذا وأنا لا أسبب الضرر لأحد، أو لأي شيء! أعرف أن لا سبب يدعوك للاهتمام به..لكنه أبي.. وهذا..هذا كل مابقي لي منه.
لم تعد قادرة على إيقاف الدموع التي اتخذت طريقها من جديد إلى وجنتيها.. وعضت شفتها تهز برأسها. لكن بدا كأن كل مشاعر طفولتها المكبوتة تسعى إلى مخرج تتفجرمنه، وبقيت الدموع تتدحرج: هولي..
لم تسمح لها عيناها المغرورقتان بالدموع برؤية التعبير الذي لاح على وجهه.. ولكن نبرة الاهتمام والقلق في صوته ساعدا أكثر على انهيارها.
شهقت قائلة:" أرجوك.. أرجوك.. دعني فقط..".
أحاطتها ذراعاه اللتان لم تدر ما إذا كانتا ودودتين أم لا ولم تهتم، فقد شُدت بحزم إلى فردوس دافئ من القوة والدعم الثابت كالصخر.. وداعبها بحنان ليهدئ روعها وضمها ضمة من يريد بعث الأمان إلى نفسها.. بطريقة ما لم تقلق من اعتمادها عليه لأنها كانت تشعر بالراحة لمجرد إلقاء رأسها على كتفه العريضة، وتشعر بخده يتحرك برقة على شعرها ، وبذراعيه تلتفان حولها وكأنه لن يتخلى عنها أبداً.
أخيراً انهار كل شيء.. انهارت اللعبة التي لعبتها والخدعة التي حبكتها وانهارت معركة البقاء في القمة فوق رأسها.. وأصبح كل شيء خالياً من أي معنى.. إنها تريد الحقيقة وتتوق إليها مهما كان الثمن الذي ستدفعه من أجلها.
لم ترفع رأسها :
_فيلكس .. هل كان والدي .. هل كان ملاماً فيما حدث ؟ قلت .. ألمحت .. أتصدق هذا حقاً؟
_لا!
ردّ وكأنه شخص لم يعد قادراً على كبح مشاعره في أعماقه ، وآلمه أن يعترف بها .. مع ذلك ، كانت تطالبه بالاعتراف .. أحست بصدره يتمدد وهو يسحب نفساً عميقاً .. وكان في صوته بحث مؤلم عن الحقيقة حين أضاف ببطء :
_ كيف يستطيع المرء توزيع اللوم ؟ كيف يمكنه تفكيك الخيوط التي أدت إلى المأساة ؟ شبكة
عنكبوت متشابكة من الظروف .. عواطف مشحونة ومشحونة .
تنهد ، وتلاعبت أنفاسه في شعرها ثم نطق بكلمات موزونة مدروسة :
_ قد لايكون والدك ملاماً أكثر مما هو والدي ملام .. لدى بعض النساء القدرة على لوي روح الرجال .. وأمي واحدة منهن .. حتى جاك .. المسكين تركته يجوع للفتات الذي كانت تعطيه إياه
.. وما زالت حتى الآن تعطيه إياه .. ولكم أكره رؤية هذا ! لقد كرهت ما تفعل يومذاك لكنني كنت مجرد صبي صغير .
مجرد صبي صغير عالق وسط شيء لايفهمه ، أودى إلى موت والده ..
شعرت بالشفقة على الصبي الخائف الذي خسر أباه وعانى من الألم والعذاب .
ورفعت عينيها الكئيبتين الرماديتين إلى عينيه وقالت بتفهم :
_ أنا آسفة حقاً لما حصل لأبيك فيلكس . لاشك أنك كنت على علاقة وطيدة به . الالتواء الخفيف على فمه كان سخرية بنفسه ، وليس بها :
_ كان .. كل شيء أردت أن أكونه . لكن هذا ما كان يراه صبي صغير .. حب أعمى لابن نحو
أبيه .. الذي لم يكن كل ما أرادته أمي .
_ فيلكس ..
ترددت لأنها تدرك أنها تخدش جراحاً قوية :
_ كيف مات ؟ ماذا حدث ؟ لقد ألمحت أن ما حدث لم يكن حادثة .. وأن أبي ...
اعترف بلطف :
_ هولي .. أنا لا أعرف ما حدث .. لقد وقع عراك عنيف بينهما .. وكانت أمي تصرخ .. ثم ركضت وجلبت البندقية .. أظن .. من أجل وقف العراك الدائر .. يومذاك طلبت مني استدعاء
جاك الذي كان قد ابتعد مع بدء العراك .. ثم سمعنا الطلق الناري ، وحين وصلنا كان والدي ميتاً وأمي تنتحب على جسده . كان ايرول واقفاً هناك . ينظر إليهما والبندقية في يده .. سأله جاك ماذا حدث ، فلم يرد . أعطاه البندقية فقط دون شرح ثم وضب حقيبته ورحل في غضون ساعة ومنذ ذلك الحين لم نره .. أما أمي فكانت تصيح وتبكي وتقول إن ما حصل حادثة ...
قالت إنه حدث قتال على البندقية ، وإن الرصاصة انطلقت وحدها .
كشر قليلاً كمن يعتذر :
_ وبما أن ايرول رحل مولياً ظهره لكل شيء .. اعتبرته مذنباً لكن قد تكون الصدمة هي
السبب ، هولي .
كانت تفكر في شيء آخر مختلف تماماً .. ماذا لو كان اصبع دونا هو الذي ضغط على الزناد ؟
في هذه الحالة ، قد لايكون ايرول ما كنافش الفاعل وما رحيله إلا ليحمي المرأة التي يحب . وربما تركته دونا يفعل هذا ، وبسبب هذا ظل ضميرها يعذبها طوال تلك السنوات وحتى الآن .
على أي حال ، ليس هناك ما يرتجى من طرح هذه الفكرة على فيلكس ..
مهما كانت خطايا أمه ، فقد عانت الأمرين بسببها . أما ايرول ماكنافش فقد حمل معه أسراره إلى القبر ، ومن الأفضل للجميع أن تبقى حيث هي . مع ذلك ، لم تستطيع هولي كبت فضولها بشأن أبيها . فرفعت عينيها مجدداً إلى فيلكس برجاء :هلاّ أخبرتني كيف كان أبي! من وجهة نظر صبي.. أو من وجهة نظر أي كان؟
عبس:" تعرفين أكثر مني كيف كان، هولي".
أطلقت تنهيدة عميقة متحشرجة عميقة، فالآن لم تعد تشعر بالأمان بين ذراعيه فجروحها وجروحه كانت عميقة.. أحست بضعف في ساقيها وارتجاف في جسمها، بحيث تراجعت مجدداً
إلى جذع شجرة "الباوباب" لتستند عليها.. إذا كان هناك وقت الظهور الحقيقة وقولها، فهو الآن مهما كانت العواقب: لم أعرفه قط فيلكس..لم أعرفه. ولم أعرف بوجوده إلا بعد موته.. ساعتئذ فقط تلقيت خبراً عنه، وعما تركه لي.
ذكرى الشعور بالغبن والغش والخداع تراءت في عينيها.
ـ كنت كمن يتوق إلى شيء ما دائماً وهذا الشيء كان موجوداً..لكن لم يخبرني أحد أنه في متناولي.. حتى ذهب.
ابتلعت الغصة التي تصاعدت إلى حنجرتها.. كان فيلكس ينظر إليها وكأنه لم يرها من قبل، وأرادته يائسة أن يفهمها.
ـ أترى..لم أنسجم قط مع الحياة التي كانت تعيشها عائلتي في بوسطن.. لم أكن الطفلة التي تريدها أمي.. والرجل الذي ظننته أبي لم يكن لديه الوقت الكافي للأولاد.. وأنا ..لم يكن لدي أي شيء قد يفتخر به في ابنة.. هكذا حين وجدت أنني طوال كل تلك السنوات كان لدي شخص يمكن أن يحبني.. وأن أنتمي إليه.. وأن أكون معه. ليته اتصل فقط، أوجاء ليراني!..
قاطعها:" هولي.. ايرول لم يكن قادراً على المجيء إليك لأنه كان مطوباً للعدالة.. بعد موت أبي، لم يسلم نفسه للقانون.. بل اختفى بكل بساطة.. ولو حاول مغادرة أستراليا لألقي القبض عليه بتهمة القتل، وربما كان لقى حتفه.. وكان هذا سيجر أمي وكل المأساة التعيسة إلى البروز أمام الناس. ولا أظن أنه كان يتحمل رؤيتها مجدداً. وأنا واثق أنه فكر في أنك ستكونين أفضل حالاً من دونه..".
قالت يصوت ملؤه الألم:" أعرف هذا الآن.. وأعتقد أنني كنت أعرف هذا حين انطلقت أفتش عنه وعن حياته التي عاشها .. لقد عاش في بورت دوغلاس، محروماً من أي اتصال إنساني حقيقي. كان منطوياً على نفسه ولم يختلط بامرأة، ثم رأيت تلك اللوحة فعرفت أن شيئاً فظيعاً حدث له.. ولكنني لم أعرف مدى الضرر الذي أصابك أنت فيلكس.. لم أكن أعرف حقاً. أنا آسفة.. أردت فقط..".
قاطعها وهي تبحث عن كلمات مناسبة: أن تأخذي منا ما أخذناه من أبيك.
هزت رأسها عاجزة عن الشرح بالضبط: لا!لايمكن لأحد استرجاع.. ماضاع إلى الأبد. فكرت أنني لو جئت إلى هنا.. لو راقبت غياب الشمس.
دنا فيلكس منها ورفع رأسها إليه فإذا عيناه الخضراوان تتساءلان: أنت حقاً لا تهتمين بالمال.. أو الألماس.. وليس هذا سبب زواجك بي؟
ـ لا.. ليس هذا هو السبب. أردت أشياء أخرى فيلكس. أشياء طالما بحثت عنها.. أعتقد أنني كنت أبحث عن مكان ما.. مكان ما يكون لي..مكان أعرف أني مرغوبة فيه.. إنني بحاجة أن أكون مرغوبة وأن أنتمي إلى مكان ما.
سألها بهدوء: وهل هذا هو المكان الذي تريدينه هولي؟
ـ أعتقد.. أنه أقرب ما أستطيع الوصول إلى ماأريد.
تلمس بلطف خصلات الشعر الشاردة وأرجعها إلى الوراء بعيداً عن وجهها.. كان في عينيه نظرة غريبة: ربما كان جاك مصيباً.. وهذا هو الحل.
هز رأسه قليلاً، وأصبح وجهه أكثر تصميماً.. وعندما تكلم جاء صوته عميقاً صريحاً متعاطفاً: والدك هو الذي وجد فتحة البركان التي تحتوي على الألماس هولي.. وأنا أرى أن لك كل الحق بحصة.. حصة والدك في الواقع. ولكننا لم نستطع أن نجده أبداً.. ولو فتشنا عنه جيداً ولو أراد هو إيجادنا لعرف أين نحن.. لكنه لم يحاول، واعتقدنا.. فكرنا أن نترك الماضي وشأنه.. وبدا لنا هذا الشيء الوحيد الممكن فعله.. لكنني لم أتوقع أن تكون له ابنة.. وكيف لي أن أتوقع؟ ابنة لم أكن أعرف شيئاً عنها.
مرر إبهامه برقة على خدها.
ـ لا تنفكين عن إدهاشي. ظننتك بدون أحاسيس وظننت أنك لا تسعين إلاللانتقام.. أما الآن، فعلي أن أعيد النظر.. أن أعترف أن نظرتي لم تكن صائبة.
اعتمر الإحساس بالذنب داخل هولي.. بالتأكيد، هذا ماكان يجب أن يبدو له.. نظراً للطريقة التي مارستها..والواقع أنها لم تدر ماذا كانت تفعل حتى فات الوقت.
ـ أنا آسفة، إذا كان ما فعلته...
قاطعها برقة:" أنت تحملين عبئك هولي.. وأنا أحمل عبئي".
محا تعاطفه الارتباك الذي تجمع في ذهنها.. الحاجة التي دفعتها للمجيء إلى هنا طالبتها مرة أخرى بالردود فسألت: أرجوك، إن كنت لا تمانع كثيراً.. هلا قلت لي كيف كان أبي؟
ـ من وجهة نظر صبي؟
ـ أجل..أي شيء.
ـ كان يقص علينا القصص.. كان ودوداً على الدوام. ولقد أحببناه. وأظنك كنت ستحبينه أيضاً.
نظرت إلى عينيه لترى ما إذا كان يكذب، ثم أدركت أن هذا لايهم .
فقالت بصوت أجش: شكراًلك.. أنت كريم الأخلاق لأنك قلت لي هذا وأنا ممتنة لك.
قال بصوت متجهم: يحق لك بهذا.. أنا عشت على الأقل بضع سنوات مع أبي.
ابتعد عنها.. ثم توقف ينظر إلى الجبال التي رسمها والدها: لولا أمي.. لكان والدك ووالدي صديقين مدى الحياة. كانا يحبان بعضهما بعضاً .. وهذه المحبة هي التي زادت الأمور سوءاً ، فقد جعلت الغضب أشد بكثير. أفهم كل هذا الآن.. ولم أكن أفهمه يومذاك.
حملت رنة صوته مشاعر الألم.. فاندفعت هولي بشكل لا إرادي إليه فلمست ذراعه بتعاطف واهتمام: لم أرد إحياء كل الذكريات فيلكس.
عندما نظر إليها.. رأت في عينيه الوحدة والألم اللذان عانت منهما منذ زمن بعيد. ارتفعت ذراعه تلتف على كتفيها، يجذبها نحوه.
ـ لقد جئت من الناحية الأخرى من العالم، لتشاهدي هذا الغروب هولي.. فانظري الآن.. لقد بدأ.
أحست أنها على مايرام.. برفقة رائعة.. تراقب الغروب معه.. تشاركه. لأول مرة لم يبدُ أن بينهما حواجز.. إنهما شخص واحد.. اتحدا أخيراً .. ربما هناك شيء جديد يبدأ بينهما، وأملت هولي بهذا بشدة.
عندما أخذت الشمس تتوارى خلف الجبال، اشتعلت السماء كشراع ملتهب.. وما إن غاب هذا حتى تسللت الظلالة البنفسجية القاتمة فوق الأرض. وقلب انعكاس اللهيب المتوارى السماء إلى ألوان زرقاء ووردية.. وكان المنظر مهيباً.. نار وثلج.. حب مشبوب وما يتبعه من برد.. واستطاعت أن تفهم لماذا رسم لوحته كما رسمها.. وتمنت أن يرقد الآن بسلام.

عندما أدارها فيلكس نحو المخيم كانت قانعة بالذهاب وبوضع الماضي وراء ظهرها أما فيلكس فلم يتركها حتى جلسا معاً يأكلان ما حضره لهما الولدان من طعام. أضاء القمر المهيب السماء فبدت الأرض مختلفة وكأن فيها مئات الأشباح .. أحست هولي بالبهجة لانتهاء وجبة الطعام، ودعاها فيلكس إلى مشاركته كيس النوم.. وهذا كان شيئاً مختلفاً كذلك. فهو لم يحاول التحرش بها، بل ضمها إليه بشدة وكأنها طفلة تحتاج إلى الراحة والمواساة.
تمتمت:" أنا مسرورة لأنك جئت .. ولكنني لم أعتقد أنك عائد قبل الفد".
ـ لقد أنهيت كل ماهو مطلوب مني، والرجال يعرفون أن لدي عروساً جديدة لها الأولوية على أية مساعدة أقدمها لهم.. فكان أن وافقتهم الرأي.
انضمت إليه أكثر، ومرر خده على شعرها بحنان، فسألت: ألم تعد غاضباً لأنني تزوجتك؟
لم يبدُ في صوته الكثير من الشك فيما كان يقول: قد ينتج عن هذا شيء جيد.. وإذا جمعت الوقائع بشكل صحيح فأنا الذي تزوجتك..أنا من طلب يدك.. وأنت قبلت.
ابتسمت لنفسها: لقد قومتك، حسب حجمك، بعيني أولاً.
بدا المرح في صوته: وأنا قومتك فيما بعد إذن؟
ـ عظيم..عظيم جداً.
اشتدت ذراعه حولها ثم استرخت ببطء ومد يده يعبث بشعرها: أنا مسرور لمجيئي إلى هنا الليلة..لأكون معك. شيء غريب.. لكنني أشعر أنني على مايرام مع كل شيء.. حتى مع نفسي.
تنهدت: أجل.
أحست بدفء رائع، وبتوهج رضا لأن الأمر انتهى على هذا. لم تقل المزيد، ولم تكسر هولي الصمت مرة أخرى كذلك. أخيراً نامت على وقع خفقات قلبه الرتيبة.
12ـ دعـــــــــــــــــوني أموت!





أخذ رودي وآنغر هولي معهما إلى المنزل، مرفقاً برسالة مفادها أن الرئيس وزوجته سيعودان جواً بعد وقت ما.. بعدما ترى " الآنسة" هولي كل ميل مربع من بندنير دوانز.
كانت هذه جولة تحتضنها هولي في تفكيرها وقلبها وروحها..قال لها فيلكس قبل الإقلاع من موقع المخيم" إنها أرضك"،وكان في نظرة عينيه أكثرمن دعوة للمشاركة. وكأنه يقول لها إنه يريد منها الانتماء إلى هذه الأرض، كما ينتمي هو.
لحقا مجرى النهر الذي قد يجف في موسم الجفاف. ومرا فوق مخيمات جمع الماشية ووسمها. ثم حط فيلكس قرب بعض البرك المائية الطبيعية، ليريها الحياة البرية عن قرب. ثم أخذها في جولة حول حدود الأرض، ودلها على الحمير الوحشية التي أصبحت مشكلة مزعجة لرعاة الماشية في " كيمبرلي". وقطعان الماشية التي ستحتاج إلى جمع والوشم في القريب العاجل.
عندما عادا أخيراً إلى المنزل، دخلا إلى مكتب جوني ليتكلما عن المناطق التي ستسيج لاستيلاد الماشية الجديدة.. وكان على الجدار خريطة للمزرعة كلها.. ومع أنه سبق لهولي أن درستها إلا أنها أصبحت أكثر واقعية الآن لأنها ألقت نظرة شاملة على مل معالمها.. ودفعت لفيلكس وجوني وهما يتناقشان ومع أنها لم تتطوع برأي، إلا إنهما جعلاها تشعر أنها جزء من النقاش.. حتى أنهما تطلعا إليها للموافقة على القرار الأخير.
فالإحساس بالاتحاد الذي حققته مع فيلكس لم يخف في الأيام التالية، بل بداأنه يكبر، وعملا حتى يتفاهما أكثر فأكثر. وشيئاً فشيئاً بدا حديثهما يبتعد عن القيود والحذر. عاد الرجال من جمع الماشية. وكما قالت غيرليش لهولي، أقيم حفل شواء طوال النهار في فناء المنزل. قطع ضخمة من لحم البقر أديرت فوق النار معلقة بطود، وطهيت البطاطا على الحجر المشتعل، وأعدت السلطة، وخبزت الحلوى والقوالب.. وكانت حفلة ضخمة تمتع بها الجميع.
قدم فيلكس هولي إلى جميع الرعاة وضحك بمرح للنكات الجريئة التي وجهت له. بدا واضحاً أنه سعيد وبدوا هم سعيدون من أجله! أما استقبالهم لها فكان استقبال الترحيب والمؤدة. على أي حال، المرأة التي استطاعت أن تربط الرئيس وتضع وسمها عليه لهي امرأة مميزة.
مع فلول النهار ومجيء المساء جُلبت الآلات الموسيقية: الغيتار، الأوكورديون، والأرغن.
كان أكثر الرعاة يعزفون عليها بمهارة عجيبة.. واجتمع الجميع ليغنوا الألحان القديمة الفولكلورية.. ثم عزف بعض السكان الأصليين ألحان " الديدجيريرو" وقام مجموعة من الصبيان برقصة الصيد حول النار.. كانت حفلة تسلية بسيطة، لم تستمتع هولي قط بمثلها. وعندما كانت عائدة سيراً إلى المنزل الكبير مع فيلكس، فكرت في العالم المتقدم الذي سيخسر نفسه حتى أمام عالم بندنير داونز.
بدأ فيلكس يعطيها دروساً في تقنية الهليكوبتر.. وبدأ التسييج الجديد. وتطوعت هولي لإعطاء تلاميذ المدرسة محاضرة عن" زيمبابواي" وطريقة العيش فيها. فاستمتع الأولاد بها إلى درجة دفعت مايني المدرّسة لطلب المزيد من محاضرات " الناس و المجتمعات" عن البلدان الأخرى التي تعرفها هولي.. كان هذا أشبه براوية القصص أكثر من إعطاء الدروس، وسرعان ما تحول إلى روتين منتظم ثابت في المدرسة. كانت هولي قد صرفت كل تفكير لها بالعالم الخارجي، حين تلقت مكالمة أمها. كانت وفيلكس قد أنهيا الفطور ذات صباح، وأوشكا على الجلوس لتفحص مدى التقدم الذي أحرزه تسييج الأرض حين ناداها جوني للرد على المخابرة من مكتبه.
ـ هولي.. مخابرة دولية لاسلكية لك.. من بوسطن.
ـ إنها أمي.. وهي بلاشك تريد محادثتي عن الثياب التي سترسلها إلى.. أو لتطرح المزيد من المسألة عنك.. انتظرني.
قال مداعباً، وهي تبتعد: ربما من الأفضل أن أراقب ردودك.
لكن هولي كانت مخطئة. وكانت هيذر رايدال عازمة على شيء آخر.
ـ هولي.. حجزت رحلة إلى سيدني.. وسأصل صباح الأحد.. لقد رتب لي جول أمر سيارة ليموزين لتقلني من المطار إلى " الشيراتون" وسأقضي يومي هناك لأستعيد نشاطي بعد السفر. ولكنني أريد أن أعرف كيف السبيل للوصول إلى بندنير دوانز.
ذهلت هولي لأن أمها فكرت بزيارتها في مزرعة مواشي ضائعة بالنسبة للعالم.. فتولى فيلكس الذي سمع الرسالة اللاسلكية أمر المكالمة.
ـ سيدة رايدال.. أنا فيلكس ويستون. سأرسل أحد رجالي للاتصال بك في الشيراتون ليرتب الأمر معك يوم الاثنين، وستكون طائرتي النفاثة على أتم الاستعداد لحملك إلى هنا.. نحن لانريد إلاراحتك.
ـ آه! شكراً لك.. هذا.. هذا لطف كبير منك فيلكس.
ـ أبداً.. سنتطلع شوقاً لنرحب بك هنا في بندنير داونز، سأعيد المخابرة إلى هولي الآن.
لكن هولي لم تكن قد استعادت وعيها من المفاجأة: أمي! هل تلقيت رسالتي؟
ـ أجل عزيزتي.. والصور كذلك.. لم أرك هكذا من قبل.. إنها هكذا من قبل.. إنها صور رائعة هولي.. وضبت لك جميع حاجياتك التي سأحملها معي.
قالت هولي بصوت ضعيف: شكراً لك.
مادامت أمها قد تلقت الرسالة فهذا يعني أنها لن تكون متوهمة أبداً عما تتوقع هنا.
ـ يسرني أن تقطعي هذه المسافة من أجلي.
ـ أريد أن أرى أين استقريت أخيراً هولي.. يبدو لي هذا.. مثيراً جداً. وأريد أن ألتقي بزوجك.
استجمعت هولي شتات أفكارها: طبعاً.. نتطلع شوقاً لرؤيتك أمي.
ـ اشكري فيلكس نيابة عني مجدداً . وداعاً الآن عزيزتي.
بعد انتهاء المكالمة فقط، أدركت هولي ما توحيه زيارة أمها.. نظرت إلى فيلكس بتوسل ولهفة وهما يغادران المكتب.
ـ فيلكس..ثمة أشياء يجب أن أقولها لك. أشياء يجب أن أشرحها.
رفع حاجبه متسائلاً: لاأظن أن لدى أمك ما قد يفاجئني أو مالا أستطيع معالجته يا هولي.
ـ ليس الأمر هكذا.. إنها أكثر تهذيباً من أن تنتقدك ولكنها متكبرة ومتعجرفة وذات توجه اجتماعي سيختبر مدى صبرك. لكنها لن تكون زيارة طويلة فما هذا عالمها.. هل تعرف شيئاً عن مجتمع بوسطن..
ـ هولي.. سأقدم لها كل الاحترام أما كيف ستكون ردة فعلها تجاه بندنير دوانز، فهذا شأنها. وأتمنى أن تكون ردة فعلها إيجابية. وإلا.. فلترحل متى شاءت.. لن تكون زيارتها مشكلة لي.. فلم أتزوج أمك.. والآن ماهي المشكلة بالنسبة لك؟
ـ أمي لا تعرف شيئاً عن علاقة أبي بهذا المكان، أو بعائلتك أو بمنجم الألماس. إنها تعرف فقط بأمر اللوحات.. هكذا.. لذا لا جدوى من ذكر شيء من الماضي.
ـ من الأفضل ألاتثار ذكرى الماضي. وإذا كانت أمك ستذكر ايرول..
قاطعته بحدة: هذا غير محتمل، فطالما كان والدي الشبح الذي يطارد أمي.
نظر إليها فيلكس بفضول: أتودين إخباري عن السبب؟ لوت شفتيها بسخرية ومرارة: كان زواجهما غلطة.
سحبت نفساً عميقاً، ثم حاولت صرف الصورة السلبية عن تفكيرها: لاتسئ فهمي فيلكس.. لقد بذلت أمي مابوسعها من أجلي.. لكن أفكارنا لم تكن متوافقة.. وأنا مسرورة للجهد الذي ستبذله لزيارتي مع أننا لا نتفق كثيراً حين نتقارب.
ضمها إليه بحنان وومضت عيناه بطريقة تنبئ بأشياء أخرى..أشياء جعلت قلب هولي يخفق: كيف استطاعت ساحرة متوحشة مثلك أن تعطي ألوانها الحقيقية في مجتمع بوسطن؟
ـ هذه قصة طويلة.
ـ يجب أن تخبرني إياها يوماً.
وعانقها ببطء متعمد، تعني حناناً أكثر من أن تعني رغبة. وكان في عينيه نظرة التملك و الحماية معاً.
قال آمراً، بصوت رقيق وثابت: لا تقللي من شأن نفسك، فأنت شخص مهم بالنسبة لي وبالنسبة للجميع في بندنير داونز.. وهذا هو مكانك.. احفظي هذا.. ياشريكتي.
كادت تقول له: أحبك فيلكس.. وكادت تعجز عن إيقاف الكلمات.. بعد ذلك تساءلت كيف ستكون ردة فعله لو قالت له هذا. لقد ظنت للحظة قبل أن يعانقها أنه قد أحبها.. لكن، من المشكوك به أن يعترف بمثل هذا الضعف لإمرأة، حتى ولو كان يشعر به.
مر الأسبوع الذي سبق موعد زيارة أمها بسرعة.. حين حطت الطائرة النفاثة يوم الاثنين بعد الظهر، كانت هولي وفيلكس في المطار مستعدين لملاقاة زائرتهما ونقلها إلى المنزل الكبير بسيارة الجيب..
عندما برزت هيذر من الطائرة ، بدت كعارضة أزياء إذ كانت مرتدية بزة أنيقة وكانت تعتمر
قبعة قش بيضاء ذات إطار جميل وتضع وشاحاً حريرياً طويلاً مخططاً بالأبيض والأسود .
عندما نزلت السلم ابتسمت لهولي وفيلكس ابتسامة ملؤها التردد.. ولكنها استرخت قليلاً حين ضمتها هولي وعانقتها: ماأروع أن أراك أمي!
ثم ارتدت إلى زوجها وشبكت ذراعها بكل فخر: وهذا فيلكس بدون شك.
ـ أهلاً بك إلى بندنير داونز سيدة رايدال.
ابتسم لها ابتسامة ساحرة.
نظرت هيذر إليه عدة ثوان طويلة ثم استجمعت رباطة جأشها وأخذت يده قائلة: عفواً.. لقد ذكرتني بشخص آخر. ليس بالمظهر لكن..أوه..يا إلهي! أنا أفتعل شيئاً من لاشيء.. تسرني مقابلتك فيلكس. وأرجو منك مناداتي هيذر.
ماهذا بتصرف أمها عادة ، لذا لم تستطيع هولي إخفاء دهشتها من الظهور.. وكانت هذه المفاجأة الأولى من أصل مفاجآت أخرى فلم تمر من بين شفتي هيذر رايدال أية كلمة انتقاد.. وكان المنزل الكبير "مؤثراً" وغرفة هولي"أجمل غرفة" وغير ليش وجوني" ألطف الناس" عندما أخبرها فيلكس خلال العشاء أنهم يتحضرون لاستقبال شحنة من الماشية القادرة على تحمل الجفاف وهي ماشية اقترحت أمرها هولي ابتسمت هيذر بفخر لآبنتها: حسناً.. يجب ألا تتركاني آخذ الكثير من وقتكما.. عليكما معاً المضي لإنجاز ما يلزم. أنا مفتونة بالحياة التي أخبرتني بها هولي، وسأكون سعيدة بمجرد التجول حول المنزل.
صدق فيلكس كلامها.. مع أن هولي لم تستطع في البداية. لكن في اليوم التالي خرجت أمها عن عادتها وبدأت بالتعرف إلى جميع من في المزرعة ولم يظهر عليها ولو لمرة واحدة ومضة تكبّر أو تحامل.
قالت لهولي بكل لطف: لست مضطرة للبقاء معي عزيزتي.. اذهبي مع فيلكس، فغيرليش قادرة على إيضاح أي شيء أريده.. لا تقلقي عليّ.
كانت هولي مذهولة بتصرف أمها ولكنها في الوقت ذاته مسرورة به. وللمرة الأولى بحياتها تشعر أن شيئاً آخر متوقع منها.
قالت لفيلكس تلك الليلة: لابد أن كل هذا بسببك. فبعد نظرة واحدة إليك وجدت أنك شخص يجب تجنب الاشتباك معه.
ـ همم.. على عكس ابنتها.
مد يداً مداعبة على خصرها. فضحكت: أنت كنت تتوسل حتى أشتبك معك فيلكس.. فقد كنت متعجرفاً بشكل رهيب.. ومثيراً.
ـ حسناً.. أهذه نظرتك إلي؟
في اليوم الذي سبق وصول الماشية، صحبهما فيلكس في جولة على منجم الألماس. وقدم لهيذر ماسة متعددة الألوان.. تأثرت هولي كثيراً حين اغرورقت عينا أمها بدموع عاطفية وكانت الكلمات التي تفوهت بها نابعة من القلب، دون أدني شك.
ـ شكراً لك فيلكس.. سأعتزّ بها دائماً.. لكنني أريد أن أقول إنك أعطيتني سلفاً، أفضل شيء.. وهو أن أرى هولي سعيدة فسعادتها أهم من أي شيء آخر.. كنت خائفة كثيراً.
ابتسمت لهولي من بين دموعها: لا بأس الآن. ظننت أنك لن تجدي ما تبحثين عنه.. أما الآن فأرى أنك وجدته. وأعرف أنك لن تدعيه يفلت من بين يديك..
أدارت نظرة عتب إلى فيلكس: إنها هكذا، دائماً.. أتعرف؟
رد فيلكس: أجل .. أعرف.
وتحرك ليضم هولي إليه، وابتسم لها: ابنتك هذه قاسية.. وما إن تثبت أسنانها في شيء حتى يعجز أحد عن إيقافها. إنها تستغلني لتحقق ما تريد..
ضحكت هيذر: لكنني لم ألاحظ أنك غير راض عن هذا.
ـ إنها" ساحرة" هيذر.. وترمي تعويذة سحرية علي.
بدلاً من إنكار ما قال، ضحكت هولي مع أمها. وكانت متعجبة من كل ما يجري لأن أمها تتصرف بطريقة تدل على مدى اهتمامها الكبير بابنتها.. وفيما بعد فكرت إن كان فيلكس يظن حقاً أنها تستغله.. ولكنها سارعت إلى صرف الفكرة بعيداً فهما يكن الأمر هما سعيدان معاً.
بعد ظهر اليوم التالي حين لامست طائرة الشحن من جزيرة كوكوس، أرض مدرج بندنير داونز كانت معنوياتها عالية. كان جميع العاملين في المزرعة قرب المدرج لرؤية سلالة الأبقار الجديدة.. وكان الرعاة على جيادهم مستعدين لتوجيه القطيع الصغير إلى حظيرة للمواشي قريبة حيث سيعملون على إطعامها وسقايتها. وبعد ذلك يتركونها حتى تهدأ بعد رحلتها الطويلة.. كان فيلكس وهولي واقفين في الجيب يتوقان لرؤية أولى نتائج استثمارتها في هذا المشروع.
وضع سلم الهبوط أمام باب الطائرة الذي انفتح فوراً.. فخرجت الأبقار بقرة بقرة لتتخلص من المكان الضيق الذي حشرت فيه، وتحرك الرعاة للسيطرة على سلوك القطيع. منع أحد الجياد الرؤية عن هولي، فابتعدت بضع خطوات عن الجيب ولكنها لم تدرك أن حركتها أثارت انتباه أحد الثورين الذي كان ينزل عن السلم وسرعان ما حفر الحيوان الأرض أمامه، ونظر إليها..ثم قام بهجومه غير عابئ بشيء آخر حوله. حدث كل شيء بسرعة، بحيث لم يبق في ذهنها سوى أطر متفككة من الصور المرعبة..صرخ فيلكس باسمها ثم قفز أمامها وأمسك بقرني الثور الذي ضربه بقرنيه فرفعه في الهواء ثم وقع على الأرض وأسرع الثور يغرز أحد قرنيه في وجهه، ثم سمعت دوياً عالياً وقع على إثره الثور ببطء فوقه.. هاهو فيلكس مستلق دون حراك، ينزف دماً ويبدو جامداً.. كان صوتها يصرخ باسمه والأذرع تمسك بها ترجعها إلى الخلف، والرجال يطبقون عليه يرفعون الثور عنه.. فيلكس لا يتحرك أبداً.
تخلصت من ذراعين كانتا تحاولان منعها. وهرعت إليه ثم مزقت قميصها ووضعته فوق النزف لتوقفه وراحت تصيح.. فيلكس. لم يمت.. فما زال يتنفس، لكن لاأحد حاول تحريكه.. جلست على التراب إلى جانبه، وأخذت تجفف بقميصها الجروح في وجهه.. ثم ركضت غيرليش إلى جانبها وأخذت القماش منها، وبدأت بالعمل لإيقاف النزف.. أمسكت هولي يد فيلكس تدلكها وتتوسل إليه بيأس أن يبقى حياً.. ولم تعرف كم بقيا هكذا قبل أن تتحرك أصابعه ببطء تحت أصابعها.
ـ هولي..
خرج اسمها من بين شفتيه همساً بل أقل من همس ولكنه لم يفتح عينيه ثم بدا خط متجعد على جبينه وكأنه يكافح ليستعيد وعيه.
صاحت:" أنا هنا فيلكس.. أنا هنا".
ـ لا..
أحنت رأسها لتسمعه: لا..فائدة..إصابتي بليغة..دعوني أموت..
ـ لا..؟ لن أدعك تموت..أحتاج إليك.. لن أدعك تموت.. أحبك.
فتح عينيه قليلاً فظهر فيهما الألم و العذاب..
ـ لا أستطيع العيش في "قفص".
التوت روحها ألماً لأنها فهمت قصده فهو يفضل الموت على البقاء حبيساً في قفص جسد لايستطيع أن يفعل ما يريد منه. إته يطلق الحيوانات البرية.. ويقتل الماشية التي تضعف عن أن تبقى حية بمفردها، فعل رحمة.
تأوهت:" لا..لا".
ـ هذا مكانك.. أصبح لك الآن.
ـ لاأريده.. ليس بدونك.. فيلكس..فيلكس.
وصل جوني إلى جانبه، ودس حقنة موقفة للنزيف تحت جلد ذراعه.. ثم أخرى.. وحقنة مورفين لإيقاف الألم.
توسلت هولي: أحبك فيلكس..أنا أحمل طفلك..يجب أن تعيش.
أغمض جفنيه اللذان كانا أثقل من أن يستطيع تركهما مفتوحتين.. لكنها لم تعتقد أنه سمع أهم خبر أخفته عنه حتى تتأكد من حملها.
كررت بعنف و بأس: طفلك فيلكس.
لكنه لم يتكلم ثانية فقد عاد إلى غيبوبة.. وفي هذا الوقت جُلبت الحمالة التي رفع عليها ووضعت مناشف حول جرحه لإيقاف الزيف. ثم جاءت الطائرة النفاثة من المنجم وتوقفت، فأخذ جوني يعطي تعليماته للرجال الذين كانوا ينقلون فيلكس إلى الطائرة.. رافقتها أمها التي لحقت بالحمالة.. يجب نقله إلى المستشفى بسرعة.. إلى" كونونورا" كما قال جوني، على بعد خمسمائة ميل.
كان حبها لفيلكس بثقل الرصاص على قلبها. هل يعني هذا شيئاً ؟ هل سيقارم ليعيش؟ لو سمع ما قالته من حملها، لقاوم. ابن أو ابنة تحتاج إلى أب، وهذا بالتأكيد ما سيجعل لحياته قيمة مختلفة.. حتى ولو كانت الحياة غيرالتي عاشها من قبل. قال لها يوماً إنه لن يقاتل من أجلها وإنه لن يموت في سبيلها.. لكن حين حلّت اللحظة الحاسمة، غامر بحياته لينقذها.. ربما كان يحبها، ويعتقد أنها لاتريد سوى الأرض التي يستطيع أن يعطيها إياها.. ربما رغبته في الموت ليست فقط خوفاً من أن يبقى حبيساً. ربما شعر أنه لم يعد ما تريده منه.. رجل مثير، لا يقاوم، أفضل من أي رجل آخر.. وتدفقت الذكريات في رأسها..
أقلعت الطائرة.. ابق حياً لساعة واحدة فيلكس.. حبيبي.. أرجوك! حتى نصل إلى حيث نجد من يساعدك. برزت أمامها احتياجات فيلكس.. فحتى لو استطاع الأطباء ترميم جسده، وإرجاعه إلى حالته الطبيعية فسيبقى تشوّه وجهه وهي أكثر من يفهم معنى التشوه. جاذبيتها اصطناعية، سطحية.. وليست عاملاً أساسياً في علاقتها بالناس و التفاهم معهم.. لكنها ستعاونه قدر المستطاع، مستعينة بتجربتها.
التفتت إلى جوني: قل للطيار أن يتصل بالمستشفى لتحضير أفضل جراح تجميل في البلاد، فليجدوه و ليجلبوه إلى هناك! بعدما تركها لينفذ ما تريد، أعطت أمراً صامتاً للرجل الذي أصبح كل حياتها: أحبني فيلكس.. أحبني بما يكفي لترغب أن تعيش.




يتبـــــــــــــــــــع

13ـ لو.......



دأبت هولي إقناع نفسها أن فيلكس قوي بما فيه الكافية.. ولكن أهو راغب في الحياة؟ هل يرغب بها بما يكفي. في مستشفى كونونورا نقلوا إليه دماً كثيراً ، ووضعوه في العناية الفائقة. كان نبضه صعيفاُ ومشوشاً.. وضغط دمه منخفضاً.. بعد الاستشارات، تقرر أن من الأفضل له نقله إلى المستشفى التعليمي في " أديلايد".
كم مضى من ساعات الآن؟ ثماني أم تسع ساعات؟ الرحلة إلى كونونورا.. العلاج الفوري الذي أمن بقاءه في حالة مستقرة لنقله إلى وسط أستراليا إلى مدينة أديلايد.. وإلى هذه المستشفى الضخمة..صور الأشعة.. أوراق للتو قيع تضع فيلكس بين أيدي الجراحين..أوراق ربما كان سيرفض توقيعها بنفسه.. لكنها اتخذت القرار.. أراد هذا أم لا.. ستقوم بالمستحيل ليبقى حياً.
ـ قهوة هولي.
رفعت نظرها إلى أمها التي رافقتها بصمت طوال هذه الساعات، و قامت بأشياء كثيرة لها دون طلب أو تذمر.. وأدركت فجأة أنها لم تشكرها على ما فعلت.
هزت رأسها والدموع تغرق عينيها: أنا آسفة، لم أشكرك..
ضغطت الأم على كتفها: لاأتوقع منك شكراً هولي.. خاصة وأنت تواجهين الصعاب.
ـ أنا لاأعني بهذا إبعادك ياأمي..لكنني لا أجيد التعبير عن مشاعري.
تنهدت هيذر بعمق: أعرف عزيزتي.. لا تظني أبداً أنني لاأرى أخطائي.. الوقت متأخر كثيراً على التغيير الآن.. لكن ثمة أشياء أود قولها لك.. أشياء حسبتها في داخلي طوال تلك السنين.. وقد تساعدك على التخفيف من الوحدة التي تشعرين بها.
ـ هذا لطف منك.
تأثرت بالعطف الذي رأته في عيني أمها. وارتسمت ابتسامة صغيرة على فم هيذر: أنت مثل أبيك هولي ..لك عيناه.. حتى وأنت طفلة، كنت تنظرين إلى كما كان ينظر إلي. حاولت جاهدة نسيانه، لكنك لم تساعديني قط على هذا.. كنت تشبينه حتى في أمور كنت تقولينها.. أنت مثل ايرول.. وكنت مضطرة إلى محاربة كل شيء.. وإلا لكان الخيار الذي اتخذته، لا يحتمل أبداً.
هزت هولي رأسها: أمي..لست مضطرة لشرح ماحدث بينكما من أخطاء.
ـ أعتقد أن من حقك أن تعرفي..لم يصل منذ ذلك الوقت إلى مقاييس ايرول..كان..كان مثل فيلكس.. عندما خرجت من الطائرة في بندنير داونز..انقلب قلبي رأساًعلى عقب.. كان لفيلكس الهالة التي كانت تحدق بأبيك: هناك عالم موجود للغزو.. وأنا الرجل المؤهل لغزوه.
صمتت وسرحت في الذكريات.. تذكرت هولي فقدانها الغريب لرباطة الجأش الأمر الذي صدمها في تلك اللحظات.
تابعت أمها القول: جين كتبت رسالتك تخبرينني فيها عن بندنير داونز كان علي المجيء. كل تلك السنوات دون خبر عن والدها.. يجب أن تستمع .. أن تفهم ما تقوله أمها.. فمثل هذا الإسرار قد لا يتكرر.. ويجب أن تستمع.. أن تركز.. وتفهم ما تسرّه أمها لها.
ـ أقنعت نفسي أنني أريد رؤيتك ورؤية فيلكس..لكن كيمبرلي كان المكان الذي قصده والدك.. المكان الذي أراد أن أرافقه إليه.. أن آتي معه.. لنجد ما نستطيع أن نجده. ولم أكن سمعت بمثل هذا المكان. أستراليا مكان بعيد جداً .. ولن أترك بوسطن.. وايرول لا يريد البقاء، لم يحاول حتى تكييف نفسه مع محيطه في بوسطن.. كان يسخر من الحياةالوحيدة التي أعرفها..
هزت رأسها ساخرة من نفسها، وركزت نظرها على وجه هولي: لم أفهم هذا حتىجئت إلى هنا. لم أدرك كم هذه البلاد واسعة ورحيبة.. وما أن رأيت المنجم ومزرعة المواشي حتى عرفت لماذا لم يستطع ايرول أن يقنع بحياة بوسطن.. عرفت أخيراً .. ورأيت كم هي مناسبة لك ولفيلكس.. وتساءلت عما إذا..
كشرت تكشيرة ألم: لم أكن من الشجاعة بحيث أغامر في عالم لم أكن أعرفه، لم يكن مهماً لي هولي أن أكون شريكة ايرول.. مهما كان السبب.. واتخذت خياري.. ثم انطلقت بتبرير ذلك الخيار بكل وسيلة أعرفها.. تزوجت جول..وأقمت كل الصداقات والصلات المناسبة.. وقمت بكل شيء مناسب.. وأردت منك أن تحذي حذوي.. وأن تكوني مثلي..لأن.. هذا قد يجعلني أحس أنني على صواب.
لاعجب إذن أن ترفض الكلام عن ايرول ماكنافش فالحديث عنه كان يؤلمها كثيراً .. وما إن فهمت هولي هذا حتى أصبحت مستعدة للغفران لأمها كا ما دفعها للنجاح في عالمها المختار.
ـ خيبت أملك دوماً
قاطعتها أمها بعنف: لا..لا! كان ذلك مناسباً لك! الآن أفهم.. ألاترين؟ كرهت ايرول لأنه لم يفعل ما أريد.. وأحسست بالإحباط منك عندما أدرت ظهرك للحياة التي بنيتها لك.. كنت كوالدك مجدداً.. ترفضين كل قيمي.وكان في عينيك دائماً نظرة الانزواء عن مجتمعي،وكأنك ترين عالماً آخر..أخيراً أردت أن أرى هذا العالم.. ولقد رأيته.. الآن يمكنني أن أسامح والدك الذي كان كبيراً فيما لم أكن كذلك.
من يعرف ماذا يدفع إنساناً آخر؟ من يستطيع أن يحكم على إنسان آخر؟ نظرت هولي إلى أمها بعطف لم تشعر به قط نحو المرأة التي عاشت جحيمها الخاص. وبذلت ما بوسعها، تحاول تحقيق ما يثبت لها أن الحياة تستحق العيش.
ـ أمي.. أنت لست تعيسة مع جول.. أليس كذلك؟ طالما ظننت..
ـ إننا من نوع واحد. ونحن كذلك عزيزتي.. إنه الزينة لحياتي و أنا الزينة لحياته. نحن نفهم بعضنا لكننا لم نحصل قط على ما بينك وبين فيلكس.. وما حصلت عليه لوقت قصير جداً مع أبيك.. وأنا سعيدة من أجلك هولي.. كنت رغم خلافاتنا أريد لك الأفضل.
مدت هولي يدها تضغط على يد أمها:أعرف هذا أمي. شكراً لأنك قلته لي.. ولكنني أرى أنك اتخذت القرار الصحيح ببقائك في بوسطن، حتى ولو آلمك الفراق مع أبي.. أعرف أن أم فيلكس كرهت العيش في كيمبرلي.. كرهت العزلة.. وافتقار المنطقة إلى المدينة ووسائل الراحة، والصحية. بعد موت والد فيلكس، تزوجت من رجل أعطاها ما أعطاك إياها جول.. هكذا.. من يدري ماهو الصواب وماهو الخطأ! أول ما قاله لي فيلكس: دعي الماضي وشأنه.. الماضي لم يعد مهماً أمي وما يهم هو الآن، وغداً، و..
لو مات فيلكس.. فما هو الغد الذي ينتظرها؟ أغمضت عينيها بقوة لحبس الدموع التي هددت بالظهور. لن تضعف.. يجب أن تكون قوية.. يجب أن تجعله يرغب في الحياة.
ـ هولي..أردت فقط أن تعرفي.. أنني هنا من أجلك وأنني قادرة على تفهم وضعك.. وإذا أردت الكلام فقلبي مفتوح لك.
أصاب العرض قلب هولي.. لقد عرّت أمها روحها من أجلها وإن لم تتجاوب معها فسيكون ذلك وكأنها ترفضها مجدداً.. مع ذلك غير معتادة على المشاركة في أفكارها ومشاعرها الخاصة.. ولن تستطيع المشاركة بسهولة.. لكن، هل هناك ما له قيمة يمكن أن يكون سهلاً ؟ لو أنها قالت لفيلكس إنها تحبه قبل..
ـ أنا خائفة أمي.. خائفة ألا أكون مهمة بمافيه الكفاية لفيلكس.. إنه لا يريد أن يبقى سجين جسم غير كامل.
ـ هولي.. قد لايصل الأمر إلى هذا.. هناك أمل عزيزتي..هناك دوماً أمل.
ـ قد يكرهني..
ـ لا..! تفكري هكذا.. لقد رأيت النظرة التي كانت في عينيه قبل أن يقفز لإبعاد الثور الهائج عنك. لم تكن نظرة تهور أو اندفاع عزيزتي بل كان خائفاً و مرعوباً أن يخسرك.. وبدا كل شيء حتى الموت أفضل بالنسبة له من تركك.
فتحت هولي عينيها ونظرت إلى وجه أمها بعدم اقتناع، لكنها أرادت بيأس أن تصدق.
ـ لايهمني لو أصبح كسيحاً أو مشوهاً..لأنني سأبقى على حبه، مهما يكن الأمر.
ـ أعرف هذا هولي.. وستجدين طريقة لتجعليه يصدق هذا.. وأنت أقدر الناس على هذا.
ـ حقاً..أمي؟
ابتسمت أمها بحنان: لم يسبق لك أن انهزمت أمام شيء هولي؟ حتى حين عانيت الأمرين من وجهك تحديت العالم.. وسخرت ممن قلل من شأنك.. بمن فيه أنا. لكنني أعدك ألا أرتكب الغلطة ذاتها مرة أخرى.. يمكنك الاعتماد علي في أي دعم تريدينه.
الدموع التي حاولت كبتها عادت إلى عينيها، فهمست بضعف: شكراً لك..
وحضنت أمها بقوة.. وهمست بصوت أجش: خلت أنني لن أكون أبداً على المستوى الذي تريدينه مني.
ـ عزيزتي.. أنت ماكنت أتمنى أن أكون .. تذكري هذا حين أخذلك بأية طريقة.. ولا تترددي أن تقولي لي ماهو الخطأ فيما أفعل.
تراجعت هولي وتمكنت من الابتسام: أنا لست كاملة.. لكنني لن أبتعد عنك مجدداً. أمي.. أعدك.
اقترب صوت وقع الأقدام في ممر المستشفى. فهبت هولي واقفة وتسارعت خفقات قلبها وتأرجح قلبها ما بين الخوف و الأمل، لكن اللذين ظهرا لم يكونا من الأطباء أو الممرضين..بل هما دونا وجاك ويستبرون.
كسر جاك الصمت المرتبك: لقد أتينا إلى هنا حالما سمعنا الخبر هولي.. سيدة رايدال، أنا جاك ويستبرون وهذه زوجتي دونا.. والدة فيلكس.
أخذت اليد الممدودة إليها: هيذر.. هيذر رايدال. آسفة لأننا نلتقي في مثل هذه الظروف.
لم تنظر دونا إليها بل كانت تنظر إلى هولي بعينين متهمتين: أنت السبب! أليس كذلك؟ لولا وجودك هناك..
قاطعها جاك بحدة:" دونا.. كفي عن هذا".
والتفتت عيناه تتوسلان هولي الصفح: إنها لا تعني هذا.
لكن دونا كانت مشحونة، مشتتة الفكر: أنبأني قلبي أن شيئاً فظيعاً سيحدث.. كان كل هذا كذبة..أليس كذلك؟ أنت تسعين إلى ..
قاطعتها هولي: لا تحمليني وزر شعورك بالذنب سيدة ويستبرون. لم يكن سبب الحادثة أي ضعف بشري.
لم تتوقف دونا لتستوعب ما تسمع، بل بقيت كلمات الاتهام المريرة تتدفق من شفتيها: كنت أعرف أن هذا لن ينتهي إلى خير..كنت أعرف أنه لن ينجح. لقد خدعته فقط، من أجل..
فقدت هولي السيطرة على أعصابها كلياً ، فالتوتر و الإرهاق اللذين كانت تعاني منهما ظهرا الآن على شكل كلمات مشبوبة بالعاطفة.
ـ من تحسبين نفسك؟ العالم لا يدور حولك سيدة ويستبرون.. لكن فيلكس هو كل العالم الذي أريده. ولا تتجرئي على مقارنته بعالمك.. أنا لا أهتم بألماس اللعين، ولا أهتم بما فعلته في الماضي إلا بمقدار ما يؤثر في فيلكس.. مضت الأعوام وأنت لا تهتمين بغير نفسك لذا لم تري وحدته وحاجاته.. لأنك ماكنت تهتمين إلا بحاجاتك أنت..
احتج جاك:" هولي؟".
لكنه لم يستطع منعها من المتابعة: افعلي ما شئت بحياتك.. لكنني لن أسمح لك بتسميم حياة فيلكس وحياتي! اخرجا من هنا! عودا إلى بيتكما! فلم يعد فيلكس ينتمي إليكما.. حتى ولو كان ينتمي يوماً.. وهنذا ما أشك فيه. إنه زوجي الآن ، وأنا أحبه. وسأفتديه بحياتي إن استطعت. ليتني كنت أنا هناك على طاولة العمليات.. فليساعدني الله.. إذا قال أحدكما يوماَ، أو فعل شيئاً دفع فيلكس إلى عدم التمسك بالحياة.. فلسوف..
خنقتها العبرة.. وقفزت الدموع إلى عينيها، وفتحت يديها بعجز.. فجأة وجدت نفسها بين ذراعي أمها، تهدهدها كالأطفال.
قالت هيذر رايدال بحدة وتكبر: لاأدري ما يجري هنا. لكن هولي كانت تحت ضغط نفسي كبير.. إذا كان لدى أحد منكم أي شك أن ابنتي تزوجت فيلكس لأسباب أخرى غير حبها له، فأؤكد لكما أن هناك الكثير من الرجال الأثرياء في بوسطن..
تدخل جاك بلهفة ونفاد صبر: سيدة رايدال.. دونا حباً بالله! ومن أجل ابنك.. اخرجي من هذا المزاج! ماذا تريدين أن تسمعي أو تري أكثر من هذا؟ ما تفعلينه مدمر.. وطالما كان مدمراً! أنت تهاجمين الناس حتى لايعود بوسعهم احتمالك..
ـ جاك!
ارتجف صوت دونا لأن صاحب الدعم الذي كانت تعتمد عليه دوماً انسحب بعيداً.. أضاف جاك يتوسل إليها: واجهي الأمر دونا! ولو لمرة واحدة في حياتك.. واجهي ما تفعلين.. وأوقفيه! فيلكس يحب هولي، وهولي تحب فيلكس! ولا شأن لهذا بك أو بي أو بأي أحد آخر.. هما فقط! وأنت تجعلين الأمور أسوأ مما هي.
ـ لكنك تعرف..
ـ أعرف فقط أنني تعبت من كل هذا دونا.. تعبت حتى الموت.. سأجلس هنا بكل هدوء أنتظر مع هولي وأمها.. وإ ذا كان هناك شيء أستطعيه من أجله وأجلها فسأفعله ولك أنت أن تفعلي ما شئت..فلست أهتم.. لم أعد أهتم.
ـ جاك أنا..أنا آسفة..
ـ لا يكفي أن تكوني آسفة! إن لم تستطيعي أن تكوني لطيفة، فاذهبي.. اختاري بين الأمرين! هل هذا واضح؟ كيف يمكن أن أوضح أكثر من هذا؟ فكري ولو لمرة واحدة في شخص آخر غير نفسك.
تقدم بضع خطوات و أطبقت يده القوية على كتف هولي: هل هناك ما أستطيع تقديمه لك هولي؟
هزت هولي رأسها لأنها لم تكن قادرة على التفوه بكلمة أخرى. أضاف جاك: سيدة رايدال.. ليس هناك عذر أقدمه لتصرف زوجتي.. وليتكما تتحملان معي.. إذا اختارت زوجتي البقاء.. فليكس كابني و كأنه من لحمي ودمي..و..
قاطعته هيذر بوقار: يجب أن تبقى سيد ويستبرون بالتأكيد. وأنت أيضاً سيدة ويستبرون.. أعتقد أن أوقاتاً كهذه هي التي تخرج أفضل و أسوأ مافينا .. فهل ننسى هذا.. هذا المشهد السيء وندعو الله أن يشفي فيلكس؟
لم يكن لدى هولي فكرة كم انتظروا حتى جاءهم الخبر وفي هذا الوقت لم تنطق دونا بكلمة أما جاك فكان يكلم هيذر ما بين الوقت و الآخر وترد عليه بشيء.. أحست أنها مرهقة، مخدرة! وحينما سمعوا أخيراً وقع أقدام أخرى في الممر، لم تستطع هولي الوقوف على قدميها.. ودخل رئيس الجراحين إلى غرفة الانتظار، ترافقه رئيسة الممرضات.
ـ آه.. سيدة ويستون.. زوجك يتقدم.
تهاوت هولي، فأحاطت ذراعي أمها بخصرها، تمسكها بشدة.
ـ سيبقى في غرفة العناية المركزة لبعض الوقت.. لكن حالته ثابتة.
همست:" و.. ساقاه..؟".
ابتسم الجراح: حسناً.. لن يستطيع القفز لفترة لأن حوضه مكسور.. أما الشلل المؤقت فسببه عصب تلقى ضغطاً، ولكننا خففنا الضغط وأنا لاأرى أي ضرر دائم في هذا المجال .. أما الضلعان المكسوران ، فلم يمزقا شيئاً خطيراً .. وكنا محظوظين هنا.. أما وجهه فسيتطلب المزيد من العمل ليعود إلى حالته الطبيعية. وغني عن القول، أن مظهره ليس جميلاً في الوقت الحاضر. لكنني على ثقة أنه أفضل حالاً شرط أن تقوم بنيته القوية بعملها..
قاطعته هولي: هل أستطيع رؤيته؟ أن أكون معه.
رد الجراح بلطف: لاأرى ما يمنع.. سترافقك الممرضة إلى غرفته.. لكنك تعرفين، سيدة ويستون، أنه لن يستعيد وعيه قبل ساعات.. والواقع أنه سيبقى تحت تأثير المخدر لبضعة أيام.
ـ يجب أن أبقى معه.
نظر الجراح إليها مفكراً، وهز رأسه: أيتها الرئيسة..دبري سريراً للسيدة ويستون في غرفة زوجها.
قالت أمها بسرعة: سآتيك ببعض الأشياء صباحاً هولي.
قال جاك:" وسأرافق أمك إلى الفندق".
أمسكت دونا بيدها: هولي..
ثم أرخت يدها وهزت رأسها: اذهبي.. اذهبي إليه.. أعطيه مالا أستطيع أن أعطيه إياه.
تقبل دونا لها، لم يؤثر في تفكيرهولي لأن لاشيء مهم عندها في هذه اللحظة غير البقاء إلى جانب فيلكس لدعمه. فإ استعاد وعيه، ولو لوقت قصير، قستكون موجودة معه..يجب أن يطمئن أنها موجودة هناك من أجله.
ولن تتركه أبداً.. ستمسك بيده وتبقيها.. ليعي أنها هناك. وستكلمه.. وتخبره بكل ما سيفعلانه معاً لقد بدأ السهر الطويل.

14ـ افتحــــــــــــوا الأبواب..الحب قادم!





المرة الأولى التي استعاد فيها فيلكس وعيه، لم يكن صافي التفكير كلياً.. وأخذ يتمتم دون توجيه الكلام لأحد: إنها أصعب لعبة كرة قدم لعبتها بحياتي.
ثم نظر إلى هولي دون أن يتعرف إليها: هل هزمناهم؟
أكدت له:" أجل..لقد كسبنا".
ـ هذا ما يستحقونه.
وغاب عن الوعي مجدداً.
أعلمتها الممرضة لأن فقدان التركيز أمر متوقع خاصة بعد الجراحة التي خضع لها.. عقله سليم لذا لا داعي للقلق.. من المحتمل أن تكون المرة الأخيرة التي أدخل فيها إلى المستشفى بسبب إصابته بلعبة كرة قدم. فغالباً ما يصد عقل المريض، صدمة الحادثة لأيام.
استرخت هولي قليلاً.. لكن نصيحة الممرضة جعلتها تدرك أن عليها طمأنته لذا شرعت تتحدث إليه برقة، دون أن تعرف ما إذا كان يسمع شيئاً مما تقول. في النهاية، تملكها الإرهاق. وأسندت رأسها قرب اليد التي تمسك بها.
أيقظها الضغط المؤلم على أصابعها.. راحت يد فيلكس تشد على يدها بقوة جبارة، لكن عينيه ظلتا مغمضتين وبدا فمه خطاً مشدوداً.. أهو عذاب نفسي أو جسدي؟ هذا العذاب كان يظهر على أصابعه التي سحقت أصابعها بقوة.
لكنها تجاهلت الألم، لن تهتم حتى لو كسر لها أصابعها إذا كان هذا يريحه.. تكلمت بسرعة: فيلكس.. ما أنت فيه مؤقت.. ولسوف تخرج منه سالماً معافى.. أصمد فقط حبيبي فشفاؤك سيستغرق بعض الوقت، لكنك ستنجح.. المسألة مسألة وقت قبل أن تقف على قدميك مجدداً وقبل أن تفعل ما تشاء. لن تكون مقيداً، أو عاجزاً بأية طريقة .. يجب أن تعيش يا حبي فأنا بحاجة إليك فيلكس والأهم أن طفلنا بحاجة إليك.. لايمكن أن تسمح لشيء يمنعك من رؤية ما أردته دوماً..لم تعد بمفردك.. ولن تكون بمفردك بعد الآن..
استرخت أصابعه تدريجياً وشرعت تداعب أصابعها قليلاً.. ثم استرخت مجدداً. تنهدت هولي تنهيدة عميقة، ورفعت يده إلى خدها بلطف. إنها بحاجة لاستعادة الإحساس.. مررت أصابعه على بشرتها كما كان يفعل دائماً.. وعندما عادت لتريح رأسها مرة أخرى إلى جانبه، أبقت يده على خدها.
حين استيقظت مجدداً جاء استياقظها على وقع لمسات خفيفة كالريش، فهمست دون أن تكون متأكدة ما إذا كان صاحياً أم لا: فيلكس؟
ـ أنت حقيقة؟
رفعت رأسها بحدة.. كانت عيناه شبه مفتوحتين.. لكن الألم الرازح فيهما اشتد حدة ليتحول إلى شيء آخر.
ـ كنت..معي؟ ..تتحدثين إلي؟
ردت بصوت أجش:" أجل..أجل".
ـ ظننت أنه حلم.
ـ ليس حلماً فيلكس، كل ما قلته حقيقية.
ـ هل قلت..هل تكلمت ..عن طفل..هولي؟
ردت من قلبها: أجل..سأنجب طفلاً فيلكس، بعد ثمانية أشهر.. وسأحتاج إليك لتجلس معي لأنني لاأعرف كيف أنجب طغلا، ويجب أن تمسك يدي.. و.
ارتسم شبح ابتسامة على فمه: ولن أتركك أبداً.
أكدت بشراسة: " ولن تتركني أبداً".
أغمض عينيه مجدداً.. لكن الابتسامة الضعيفة تعبت على شفتيه عدة لحظات قبل أن تتلاشى ..
أخيراً استطاعت هولي الاستراحة والاطمنئان لأنها باتت متأكدة أن فيلكس لن يترك حياته تتسلل منه .
نامت نوماً عميقاً طويلاً وكان جسمها يصرّ أن يستعيد نشاطه .لم تعِ لمدة أربع وعشرين ساعة
دخول وخروج الأطباء ، أو أي شيء آخر ... وعندما فتحت عينيها أخيراً ، وجدت أمها جالسة إلى جانبها .
قالت الأم بسرعة : لابأس عليك عزيزتي .. فيلكس يتقدم بشكل رائع .
جلست هولي بسرعة لتتأكد . وجدت أن فيلكس مايزال في الغرفة معها ، الجزء الأسفل من جسمه مربوط إلى آلة سحب .
أضافت أمها بسرعة : الأطباء راضون عن تقدمه ، ولاأثر للالتهاب في جروحه ، وكل شيء في طريقه للشفاء كما يجب .
_ شكراً أمي . الآن ، ما تحتاجين إليه هو حمام ساخن وملابس نظيفة .. لاتجادلي هولي .. يجب أن تحافظي على قواك .. سأبقى هنا مع فيلكس إن استيقظ وسأل عنك .
_ وهل فعل هذا أثناء نومي ؟.
_ لاداعي للقلق .. كل ماأراد أن يعرفه ، هو ما إذا كنت بخير.. كل من يسمعه يعتقد أنه لايهتم بأي شيء آخر .
أحست هولي بخفة قلبها ، وعانقت أمها وهي تشعر بعاطفة جياشة منعتها من التعبير عن نفسها بالكلمات . ربتت الأم ظهر ابنتها : اذهبي الآن .. وتجملي لزوجك .
ابتسمت هولي لفلسفة أمها في الحياة .. لكنها لم تنتقدها .. ليس هذه المرة .. أن تبدو جميلة لأمر صناعي لكن له مكانته الآن .. وهي مستعدة للقيام بأي شيء سيجعله أفضل حالاً .
كان مستيقظاً حين عادت منتعشة تماماً ، وتركتهما هيذر رايدال بكل لباقة بمفردهما .
قال فيلكس باستسلام :
_ سأبقى شهراً على هذا الحال .
_ تقريباً .
_ أعرف أنني سأبدو على غير ما يرام ، وسأبدو مشوهاً ، هولي .
_ على المدى القصير ..أجل .. لكنهم يقومون بالمعجزات في جراحات التجميل هذه الأيام . على أي حال ، الجروح لاتهم ، إلا إذا تركتها تؤثر في تفكيرك ... أعرف هذا .. كان لدي ندوب كثيرة .
التوى فمه : كنت أفكر ما مدى تأثرك بها فمن الصعب على الزوجة أن تحاول تخبئة زوجها .
_ أهذا كل ما أنت فيلكس ؟ مجرد وجه ؟
كانت تتحداه .. تهاجم الجدار الذي سيبنيه بينهما قبل أن يضع الأساس .
_ أتظن أن هذا كل ما يهمني ؟.
لم يرد فوراً وأحست هولي بتوتره .. لكن من المهم أن يفكر ملياً في ما قالت وأن يقيس بالضبط وزن الحقيقة وألا يسمح لشيء بالتأثير في حكمه . لذا لم تسارع للحديث عن تجربتها .
قال بجد :
_ هولي ، لست مغفلاً .. بل أنا واقعي وما زال عندي حياتي ، وهذا أمر إيجابي .. هناك أشياء أرغب في القيام بها .. وأن أكون أباً لطفلنا أحد الأشياء .. ولأجل هذا .. سأبقى دائماً ممتناً لك ، لكنني أعرف أن التغيير يولد التغيير ، في الأسباب والتأثير .. ولكن يبقى هناك بعض ردات الفعل التي لايمكن السيطرة عليها .. وبصراحة ، أفضل أن أتذكر ما كان بيننا على أن ..
_ على أن تراني أجفل من منظرك .. أليس كذلك فيلكس ؟ فهمت ما يعنيه .
_ شيء من هذا القبيل .
لوت السخرية فمها قليلاً وردت :
_ أتذكر ذلك الصباح الذي التقينا فيه على مائدة الفطور لنناقش أمر لوحة أبي .. لقد صنفتني وقلت إني إحدى الجميلات التي تؤمن أن الألماس أفضل صديق لها .. لم تكن يومذاك تعرفني . ولكنك ما زلت تجهل أشياء كثيرة عني فيلكس . أترى ، أنا لاأفكر أنني جميلة .. فأنا الشخص الذي يعيش وراء هذا الوجه ، مهما كان مظهره .. ولقد صممت الرأي على هذا منذ زمن بعيد ، منذ كانت أمي تقرف من مظهري .
_ منك ؟ لماذا ؟
_ لأنني كنت مشوهة .. ففي سنوات المراهقة لم يكن هناك ما يمكن لأحد أن يفعله من أجلي . كنت أعاني من عدم توازن هرموني جعل وجهي في أفضل الحالات ، أضحوكة اجتماعية .. حتى بعد أن توازنت هرموناتي ظلت الندوب التي محوتها أخيراً بعلاج خاص بأشعة اللايزر .
التقطت يده تمررها على خدها :
_ هذه البشرة التي تشعر بها عمرها فقط سبع سنوات .. قبل هذا .. تعلمت الكثير عن الناس ، تعلمت وسائل السيطرة التي أستطيع بها إيقاف أي شخص أو أي شيء عن سحقي . وتعلمت ما هو مهم حقاً لي .. أو تعرف ماذا وجدت أنه الأهم ؟ الأمر بسيط .. الأقل أهمية فيلكس ، هو الجمال لايتعدى عمق البشرة .
سحبت نفساً عميقاً :
_ والآن حبيبي ، ستتعلم هذا أيضاً .. وكنت أتمنى ألا تضطر إلى ذلك لأن الأمر قاس ومؤلم ولا
أتمنى هذه التجربة لأي إنسان ..لكن هناك شيئاً واحداً يمكنك الاعتماد عليه فيلكس وهو أن عيني
لن تجفلاً منك أبداً .. ولن تراني أكثر ألماً .. أو أطلب ، أو أدعو الله ، أن تكون الأمور مختلفة . لأنها ليست مختلفة .. ويجب تقبل هذا .
تمتم مستغرباً : " من هنا تعلمت السيطرة " .
_ السيطرة .. وأشياء أخرى . لقد اتخذت قراراً على قواعد خاصة بي أعيش عليها .يوم التقينا أحسست الشيء عينه فيك .
ابتسمت لأنها رأت الإعجاب يزحف إلى عينيه غصباً .
_ لقد دعوتني بالملكة المتوحشة الهمجية .. في فكري كنت أنت الملك المحارب القادر على غزو العالم وجعله ملكه ، هذا شيء في داخلك فيلكس .. شيء يثير رد فعل عميق في داخلي .. وأنت الرجل الوحيد الذي أثر بي أو سيؤثر بي يوماً .
ازداد عمق صوتها وهي تردف : أعرف أنك تحبني فيلكس . وقد لاتخبرني هذا أبداً ، ولا أهتم . ففي أعماق قلبي ، أعرف أنك تحبني .. كما أعرف أنني أحبك .. وأنت عندي مميز وشخص فريد .. وليس بمقدور أي رجل أن يحل مكانك .. أنت .. الشخص الذي يعيش وراء وجهك .. أنت هو مكاني .. وهذا هو كل المهم لي ، ولاشيء غيره . أنا أنتمي إليك وسأقوم بأي شيء ..
نعم أي شيء ممكن بشرياً ، لأبقيك معي .
اشتدت يده بقوة ساحقة على يدها.. مرة أخرى لم تحتج.. هذا وقت اتخاذ القرار، كل قوى حياتها متوقفة تنتظر رده. أغشت مشاعر متشوشة عينيه، للحظات.. لكن، حين تكلم، كان صوته رقيقاً هادئاً: سيدة ويستون.. لقد عقدت الآن اتفاقاً.. لست واثقاً إن كنت لن تندمي، لكنك مساومة رهيبة.. وامرأة شرسة. هذه المرة حققت صفقة بكل تأكيد.
ظهر ارتياحها الداخلي في ابتسامة أضاءت وجهها بجمال حبس أنفاس فيلكس، وجعله يتساءل عما إذا كان مصيباً بتمسكه بها:حسناً.. سيدة ويستون أعتقد أن الوقت حان لتتعلمي شيئاً من المساواة..من الجيد القول إنني شريكك، لكن يجب أن تعني هذا حقاً.. وأنوي إلزامك بالاتفاق، مهما يكن.. وأعتقد أننا سننجح معاً.
بعد أيام لم يعد هناك داع لبقاء هيذر.. فقد مرت الأزمة..ولاحظت هولي تململ أمها، فقالت لها إن جول ربما بدأ يشعر بالوحدة. لكن أمها كرهت الرحيل ثم ما لبثت أن وجدت الأمر منطقياً فكل شيء يسير على مايرام وهكذا عادت إلى بوسطن،آمنة في نفسها أكثر مما كانت يوماً في حياتها. وعندما ستأتي ثانية ستطلب من جول مرافقتها وسيكون ذلك عندما ترزق هولي بطفلها.
كان الشهر الذي قضاه فيلكس في المستشفى امتحاناً قاسياً للصبر، ولكن هولي بذلت ما بوسعها لإنارة أيامه.. انتزعت اللصوق عن الجروح في وجهه ودهشت هولي للعمل الرائع الذي قام به الجراح. لكن فيلكس تذمر متجهماً بأنه يبدو كابن فرنكشتاين وهذا ما أثارها.. فمن هو كي يتذمر؟ ضحكت هولي، وقبّلت الالتواء الساخر على فمه، وقبّلت الندوب التي تظهر مدى حبه لها تتركه يعرف أن لاشيء فيه ينفرها منه. ومع مرور كل يوم، لم يتغير تصرفها. وشيئاً فشيئاً أخذ الاسترخاء سبيله وبالتدريج بات يؤمن أن مظهره غير مهم بالنسبة لزوجته، حتى أنه بدأ يصرف النظر عن الندوب كأمر غير مهم له. فهذه الندوب سرعان ماتزول.. ولكنه تذكرها بحدة على يد أمه وزوجها.. وردة فعلهما.
حاول جاك إخفاء صدمته و التصرف بشكل طبيعي.. لكن الصدمة كانت في عينيه وفي تحيته.. أما أمه فقد حدقت إليه والدموع تجري على خديها.. أبعد فيلكس وجهه عنها ونظر إلى هولي الجالسة قربه.. اخترقت عيناها الرماديتان عينيه.
وعرف.. عرف ما مرت به.. وما تفوقت عليه.. قوتها الذاتية الداخلية أشعلت المعدن الذي في داخله.. فهذا شيء يجب أن يعايشه لفترة قصيرة فيما كان عليها هي أن تعايشه لسنوات. وتصاعد الاحترام الذي يكنه لهذه المرأة، زوجته، إلى درجة ملأت روحه ببهجة لم يعرفها من قبل..إنها مميزة.. فريدة من نوعها.. وهي له.. وستبقى هكذا دوماً.
قال:" أكدت لي زوجتي أن بالإمكان فعل المعجزات بالجراحة التجميلية هذه الأيام..لذا، ابتهجي أمي.. سأبدو أفضل بكثير بعد الجراحة التالية.. وإن يحدث هذا.. فماذا يهم؟ لدي حياتي ولدي أمور كثيرة أقلق عليها عدا قليل من التشوّه".
نظرت دونا بتساؤل إلى هولي، ثم هزت رأسها وسحبت نفساً عميقاً وواجهت بعمق ابنها مجدداً: أمامك حياتك.. قال لي جاك إن ماحدث كان ضرورياً.. فقد وضع أخيراً كل أشباح الماضي في مكان تستريح فيه..
قاطعها فيلكس بحزم: لا..أمي! ليست أشباح الماضي في سوى عقول الناس.. والذي حدث كان للمستقبل.. لو وصل ذلك الثور إلى هولي، لقتلها. كل مافعلته هو أنني حميت مستقبلي.. ومستقبل حفيدك.
قالت الأم بحنان: أنت محظوظ لوجود هولي كزوجة لك.. وأنا مثلك محظوظة لأنني متزوجة من شخص كجاك.
مرة نظرة استغراب وعدم تصديق على وجه جاك، الذي شعّت عيناه حتى بدا أصغر بسنوات.
قال بمرح: من الرائع أن يكون المرء حياً.
ثم عبس في وجه فيلكس: كيف تشعر الآن بعدما عرفت أنك ستصبح أباً؟
منذ تلك اللحظة أخذت الزيارة منحاها الطبيعي العائلي.. وأدهشت دونا الجميع بالقول إنها وجاك سيزوران

بندنير داونز في المستقبل لرؤية حفيدهما.. وكان هذا هو الإعلان الحقيقي أن الماضي مضى وشأنه، وأن المستقبل سيكون صافياً خالياً منه.
أحست هولي بسعادة عميقة لأن الأمر انتهى أخيراً.. ولأن جيل الألم تخلى عن مكانه لجيل جديد.. جيل يأتي فيه الاحترام والحب والعائلة في المقام الأول. وطفلهما سيولد، ويترعرع في هذا الجو. فماذا يريد أي شخص غير هذا؟ ولن يمزق غير هذا؟ ولن يمزق شيء هذا الحب. لن تسمح لهذا أن يحدث.. أبداً.
مع ذلك ، كانت هولي متعجبة في سرها للطريقة التي تصرف بها فيلكس بعد خروجه من المستشفى، ليواجه مجتمعه الحقيقي مرة أخرى. بدا أنه لم يكن يهتم بالنظرات المختلسة إلى ندوب الجروح على وجهه أبداً..كان يرفع رأسه عالياً ويسير منتصباً.. إنه رجل، وليس ولداً..رجل بين الرجال..
حين عادا إلى بندنير داونز، كان هو من أراح الجميع بمرحه وقبوله بوجهه المجروح. و انمحت الصدمة والشفقة بسرعة لتحل مكانها سعادة الجميع بأنه ما زال حياً.. واستعادت الحياة مسيرتها الطبيعية وعاد العمل وكأنه لم يتأثر بشيء. تحولت الأسابيع إلى أشهر.. وتحسرت هولي لأنها فقدت شكلها الجميل.. قالت ذات صباح: يجب أن أشتري كومة من ثياب الحمل حين ننزل إلى أيدلايد لجراحتك التالية فيلكس، لقد أصبحت سمينة.
تقدم إليها ولف ذراعيه حول وسطها وتحسس بطنها بحنان.
تنهدت بسعادة: على الأقل، مازلت تريدني.
تمتم:" سأريدك دائماً".
وداعب أذنها برقة.
ـ حتى وأنا منتفخة كثيراً؟
أدارها لتواجهه.. لم تكن عيناه مغشيتين برغبة بها لكنهما كانتا تحترقان بالمشاعر.
ـ كيفما بدوت..أو ستبدين يوماً..أنت امرأتي هولي..زوجة فكري وروحي وقلبي. ولا أحد يمكنه الحلول مكانك.. لأن هنا هو أعماق مكانك.. لم أعد أقدر أن أبعد نفسي عنك، حتى ولو أردت.. وأنا لا أريد. أعرف أنك لست بحاجة لأعترف لك بهذا..لكنني أحتاج أن أقولها.
وتابع فيلكس: أريد منك أن تعرفي أنني أحس بالشيء الذي فيك، والذي يناديني. ولهذا تزوجتك..لهذا لم أستطع إبعاد نفسي عنك مع أن تحفظي الذاتي كان يملي علي العكس.. أنت الرد على كل ما أردته يوماً.. وأن أقول لك.. أحبك..لأمر بسيط. سأحب طفلنا..أما أنت..
لف ذراعيه حولها وسحقها إليه: أنت ..من أتمسك به. أنت من لن أتركها أبداً.
وأحست بقلبه يخفق على صدرها.. مع قلبها.. وعرفت أن كل الأبواب أصبحت مفتوحة أخيراً..و أنها لن تقفل بعد اليوم أبداً.



تمــــــــــــــــت بحمد الله





ارجوا ان تحوز على اعجابك :sm92:

((من فضلكم لا تنسوا التقيم))

:no no::no no::no no:



[/QUOTE]
روووووووووووووووووزوووووو ووووووووووووووووووووووووو وووعة

محبوبة ولكن 18-11-16 12:00 PM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

ضوضاء الصمت 29-11-16 12:53 AM

تسلم الاياااااااااااادي

zozitta 07-12-16 03:46 PM

thankssssssssss

ام الرووع 07-03-17 10:19 AM

شكررررررررررررررررررررررر رر لكم

عاطفة من ورق 10-03-17 10:37 AM

ررررررررررررررررررررررررر رائعة

MooNy87 17-05-17 01:20 PM

بوركت اناملك

رواية مميزة جدا


الساعة الآن 12:49 PM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.