آخر 10 مشاركات
127 - الدموع البيضاء - ربيكا ستراتون (الكاتـب : PEPOO - )           »          بركة الدار - (96)نوفيلا- بين جنون العشق وجبروت القدر - سما صافية*مميزة*كاملة&الرابط* (الكاتـب : سما صافية - )           »          الضحية البريئة (24) للكاتبة: Abby Green *كاملة+روابط* (الكاتـب : * فوفو * - )           »          "هي.. كغثاء السيل" *مميزة ومكتملة * (الكاتـب : ام شیماء - )           »          زوجة لأسباب خاطئة (170) للكاتبة Chantelle Shaw .. كاملة مع الرابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          جراح تنبض بالحب (85) للكاتبة الرائعة: nahia gh { مكتملة } *مميزة * (الكاتـب : ROSES LEAVES - )           »          نوح القلوب *مميزة ومكتملة* (الكاتـب : hadeer mansour - )           »          [تحميل] لعبة في يده ، للكاتبة/ يسرا مسعد ، مصرية (جميع الصيغ) (الكاتـب : Topaz. - )           »          جراح على صفحات الماضي (88) للكاتبة المبدعة: nahia gh *مميزة & مكتملة* (الكاتـب : ROSES LEAVES - )           »          صمت الفضة (35) - قلوب شرقية - للكاتبة المبدعة: emanaa *مميزة & مكتملة* (الكاتـب : Omima Hisham - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة > روايات اللغة العربية الفصحى المنقولة

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 17-05-11, 04:11 PM   #21

القلم الحر

نجم روايتي كاتب و شاعر متألق في القسم الأدبي

 
الصورة الرمزية القلم الحر

? العضوٌ??? » 127837
?  التسِجيلٌ » Jun 2010
? مشَارَ?اتْي » 1,320
?  نُقآطِيْ » القلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond repute
افتراضي


29

كل شيءٍ يتغيّر من حولي .. كأنما خُلِقتُ مجدداً !
أعرف أني صرتُ رجلاً آخر .. رجلاً ليس كالذي كنته طوال السنين الخالية .
دخول الحب في حياتي ، جعلني رقيقاً جداً ..
ضياع الحب من حياتي ، جعلني مسخاً لإنسانٍ قديم .. إنسان تمرد حتى على ثوابته !
مجرد سماعي أن سارة على قيد الحياة ، وأنها تنام وتصحو وتتنفس هواء المدينة التي أسكنها،
هذا ما جعلني أنهضُ قليلاً من حزني.. أعودُ للحياة الغائبة ،
كان القلم يتحوّل في يميني لسيفٍ صقيل ، وحبري كان حقدي ، وميدان الكتابة صار ميدان حربي ..
كفرتُ بقصص الحب الخالية من الفكر ومابين السطور ، وآمنتُ أن هوايتي هي سلاحي وطريق َ ثأري ..
بإسمي الثنائي ، الخالي من لقب القبيلة الذي سيكلفني مشاركة الكثيرين أفكاري ..
رحتُ أنشر لا ككاتب ، بل غازياً يمتطي صهوة القلم كفارسٍ موتور !


كتبتُ قصةً عن مدينةٍ تدعى " الريابْ " !
موحشة ، تخلو من الألوان ، كل مافيها ينضح بالقسوة .. وأهل الرياب أناسٌ مجبورون على تناول صنفٍ واحد من الأطعمة !
يمشي الريابيّون متوجسين، خائفين من مخلوقاتٍ تجوس الديار ..
هذه المخلوقات التي صورتها في قصتي كـ وحوشٍ ضاريةٍ يكسو جلدها الشعر الكثيف ، يسوقون الناس بالعصا !
وتمضي قصتي ،
فـ يخرجُ فتىً من فتيان الرياب عن هذا النسق ، ويجتمع بفاتنةٍ من فاتنات بلدته ، يركض الوقت عند لقائهم ويعود ليتوقف بعدهم ..
يتسللون كل ليلٍ لزاويةٍ من زوايا المدينة ، يتناولون التفاح ، وترقص الألوان من حولهم كقوس قزح ..
وحدهم من يعيش في بقعةٍ مليئةٍ بالألوان والروائح الفواحة ، في مدينةٍ كلما فيها باهتٌ ينامُ على روائح الجيَف !
يعيش هذا الفتى الريابيّ وفتاتهُ شعوراً لم يألفه آبائهم في هذه البلاد القاسية ، لم يذوقوا التفاح أبداً ..
يتناولونه سعداء كل ليل حتى تخبرهم أشجار التفاح أن هيّا انصرفوا تأخر الوقت يا أطفال .. يمضيان لبيوتهم وترقص في قلوبهم نشوة غريبة ..
وذات ليلةٍ من ليالي المدينة .. دب الخرابُ فجأة ،
في غمرة سلواهم وسهرتهم التفاحيّة اللون .. تهجم عليهم هذه الوحوش لتسلخ جلديهما ، وتعلقهم على أشجار التفاح عبرةً لكل المدينة ..
تنتهي القصة بصمت أهل الرياب .. وانكفائهم على واقعهم ، وتسيرُ حياتهم كما يشتهي غيرهم لا كما يشتهون هم !



بعثتُ القصة للملحق الثقافيّ في جريدتي المفضلة ، لأفاجأ بنشرها في صدر الصفحة الثقافية يوم خميس !
تحتها تعليقٌ من المحرر يشكرني، ويلفتُ عناية القراء لتطور مستواي ..
ولأن حظي كان في أوج سعده .. ناقشها عمودٌ صحفيٌ بعد يومين .. ليرد عليه عمودٌ مناويءٌ له في الفكر !
لتتراشق المنتديات إسمي بعد ذلك ، ويصبحَ اسماً ثقيلاً لا يمر كما يمر الهواء !

كانت قصبة القلم تتحول في يميني شفرةً حادة .. وكنت قاسيَ الملامح والقلب إذا رحتُ أكتب !
كنت أشعر بأسناني تقطر دماً كما لو كنت أمزق فريسة ، والإحتفاء بحروفي أعطاني ارتياحاً .. وأكثر من ذلك وقعُ حروفي على من آذوني !
أشعرني أن الألم الذي يكمن في أعماقي بات يقل .. وبدأتُ أتلمس طريقي في الشهرة وأمشي باسمٍ ثنائيٍ يعرفه الناس ولا يعرفهُ أهل بيتي !
جعلتُ من ميدان الكتابة مضماراً لخيلي وأنا من فوقها فارسٌ يثأر لكل أحزنه .. ولسارة !



البيئة من حولي ليست خصبةً للكتابة ،
كل ما حولي مشوش .. كنتُ أفتقدُ الاستقرار كما أفتقد سارة ..
والدي .. أصبح يراني كأي قطعةٍ جماديّةٍ في هذا البيت ، دخولي وخروجي لا يعنيه ، مضى اسبوعين لم نتبادل كلمةً واحدة ..
كان يأملُ مني قبلةً على رأسه واستشعاراً للندم ، لكني كنتُ رجلا ً آخر .. لم أعد ذلك النادم أبداً !
أمي .. تحدثني عن عشرات الفتياتِ من قومي ، وكنتُ أستمعُ حديثها كما يستمعُ لها الفضاء ،
حين تسكت انتظار جوابي يعقبها مني صمتٌ كالفضاء من حولنا ، لا ثمة حديث !

إخوتي ، أخبرهم أبي بحديثي ذاك المساء فتنادوا مصبحين !
خالد شقيقي الكبير ، و شاعر المناسبات الكبرى ، صاحب قصائد المدح الزائفة للكيان الزائف ورجاله الزائفين ..
تفاجأتُ به مساءً و كان يصرخ فيني كطفلٍ أمامه ..
يتحدث لي عن أمورٍ أحتقرها .. يحدثني كما لو كنا أفراداً نزلوا من السماء ذات ليل ، لنعيش في هذه الأرض الوعرة ، والناس حولنا خُلقوا من تراب !
كان يحذرني .. يُكيل لي الوعيد والشتائم كما لو كنتُ وجهتُ إهانةً له !
هكذا ، يرفع سبابته في وجهي وأنظر لها تشبه عمود خيمة ،
خيمةً من خيام أجدادي الذين ماتوا وشبعوا موتاً وهذا المتعصب المجنون يريد أن أعيش في كنفهم رغماً عني ..
كنت أنظر لخالد باحتقار ، ببرود ..
أنظر للإنسان في داخله وأشعر أني على وشك التقيؤ ، أولى بهِ متحفٌ قديمٌ يضمه ويضم أمثاله .. عارٌ على هذا الزمان وجودهم :

- عندك بنات عمك، طب وتخيّر ، مالقيت الا ذوليك .!!

أردتُ أن أقول عليك اللعنة وعلى بنات عمك لكني ظللتُ أصغي باحتقار !

- " بزر " ومشى له راتب وصدق انه رجال !

ضقتُ ذرعاً لكن ظللتُ أصغي ، يتحدث عن نقاء دم، وعرقٍ متأصل ..
وأردتُ أن أقول له كل الدماء حمراء لا زُرقة إلا في عينيك لكنه لن يفهم !

- تجيب طاري هالسالفة ثانية أقص لسانك تفهم !

أووه ، تجاوزتَ كثيراً ياخالد ، أتظنني ذلك الطفل القديم ؟ إذن تفضل ردود الرجل الجديد ..

- خالد ، كلمتك تمشي على حرمتك وعيالك ، ما لك عندي شي!

- وش تقول !

- أقول كل تراب !


كنتُ أنطق آخر جملتي لأجدني ملتصقاً بالجدار خلفي أتلقى لطماتٍ غاضبة ..
لطماتٍ اظنني اعتدتها يا زمني !
في غمرة لطماته لي كنتُ أفكر :
خالد ككل الأغبياء الآخرين ... ككل الجهلة لن يفهم شيئاً .. لن يفهم أن الحب أسمى من اسمه الغبي و شِعرهُ الغبي و سبابته الغبية !

راح محمد ، شقيقي الأكبر مني بعامين ، وبدر ، يبعدانه عني وكنت أنظر لهُ باحتقار لم يتغير ..
كان مهتاجاً كما لو اجترأتُ على ثابتٍ لا ينبغي لي تجاوزه ، يريد الإنفلات من قبضاتهم ليلقنني درساً،
وأنظر له بإحتقار وأنا أسوّي أزرتي .. التقطتُ قلمي الذي سقط ، لم يكن قلماً .. هذا سلاحي ..
ومضيتُ بينهم تاركاً دموع أمي ولسان خالد واستجداءات محمد لنا بالهدوء ..
تركتهم خلفي ومضيتُ كرجلٍ فقد الإحساس تماماً ..
قديماً ياسارة ، موقفٌ كهذا كان سيجعلني متعكراً شهراً او اثنين ، الآن لا ياحلوتي ، أعرف ماذا سأفعل ـ
سأصعد لغرفتي .. وأكتب، وأفكر بك بين زحمة سجائري ..
ثم سأخرج ليلاً لأشرب أسوأ ماأنتجته عمالة الرياض ..
ويعود عقلي بعد ساعتين متناسياً كل ما حدث ، كما لو لم يحدث أساساً ..
ليتكِ تنظرين ماذا أصبحت الآن ، رجلاً آخر ..فقد الإحساس يوم فقدك ، رجلاً ماعاد يشعر بشيء إلا أنتِ !



وهيفاء .. تباً لتلك المزعجة !
باتت مكالماتها تصبحُ شيئاً مختلفاً عن مكالماتها الأولى ..
كانت تنقل لي أخبار سارة .. وأخبرها بما تقول لها .. لم أحدثها بنيّتي ولا حديثي لوالدي ..فقط كانت مجرد زاجلٍ يتنقل بين السعداء قديماً !
رويداً رويداً شعرتُ أن هيفاء تستمتع بالاقتراب مني ، بدأت تجر الحديث صوب مناطقٍ بعيدةٍ عن سارة وأخبار سارة ..
تحدثني عن الإبتعاث القادم ، تحدثني عن خوفها من المستقبل ، تحدثني عن أمها وقلقها اللحوح ..
وكنتُ أجيبُ جيداً لأني أخشى فقدانها ، هي وسيلة اتصالي الوحيدة بعالم سارة !

بالأمس اتصلت بي ليلاً ، توقعتها تحملُ خبراً من حبيبتي ،

- هلا فيصل

- هلا هيفاء ، ماذا لديكِ ؟!

- لا شيء ! فقط " طفشانة " !

باتت ترى فيني صديقاً ، وعرفتُ أن أحاديثي تروقها .. وعرفتُ أن سارة مسكينة لا تُحسن اختيار الصداقات !
أردتُ أن أقول " أريحيني من أحاديثك المملة " ، لكني خشيت أن أغضبها فتخبر سارة بأكاذيب تنفرها مني !
أو أفقدها فأفقد محبوستي ..بدأتُ أحدثها في فتور ..
وأقارن بين صوتها وصوت سارة ، شخصيتها وشخصية سارة ، وقتي معها ووقتي مع سارة ، فلا أجد إلا القبح !

أي صديقةٍ اخترتِ لنفسكِ يا سارتي ؟!

ذات يوم من أيام صيفنا المنقضي ، كنت وسارة نتحدث عن هيفاء وفهد ،
وكنت أقول لها " أشعر أن الفتيات يفتقدنَ بينهنّ للصداقة الحقة "!
"هيفاء هذه ، لا أظنها بأي حال ترتقي لتكون بمثابة فهد بالنسبة لي " يومها غضبت سارة :
" احتكرتم كل شيء أيها الرجال والآن جاء الدور على الصداقة ! "
أخبرتها عن صديقةٍ لأختي كانت تهاتفها كل يوم .. كانت صديقةً جيدة !
وحين تزوجت، قطعت صلتها بأختي خوفاً أن ينتبه زوجها لعازباتٍ في محيطها ،
ياللغيرة الغبيّة و يا لميتم الصداقات !
تركيبة الأنثى وغيرتها وفطرتها التي تجعلها تريد الإستئثار بالجمال والتألق ..
.. هذه تجعل من الصداقة لديكن ياسارة شيئاً هلاميا يفتقد للأساس المتين اعذريني ..
يومها أخذت تكيل المدائح لصديقتها ، تقص أخباراً ومواقف ليست ذا بال !
لم أشأ أن أقول لها أن فهد قطع إجازته ذات مرة، وعاد من سفره
.. لأنه عرف أن أمي مريضةً جداً في المستشفى وكان صوتي حينها مأزوماً ،
ولم أقل لها عن ذلك الموقف الذي كلما تذكرته ارتسمت بسمتي رغماً عن ضيقي ..
حين كنت في أحد الطرقات بين جموع الناس، كنت لم أنتبه لسيارة أحدهم وحدث الاصطدام عفواً ،
وكان الرجل غاضباً يريد العراك معي والناس يبعدوننا عن بعضنا كديكةٍ تريد الإشتباك ..
يومها لا أدري من أين خرج فهد .. أظن الأرض انشقت عنه !
كل ما أذكر أنه رآني ونزل من سيارته التي لم يمهلها حتى لتتوقف ،
فتح الباب كما لو كان يُفتح باب الجحيم على الرجل !
اندفع بين الحشد يلكم الرجل بقسوة ، أرداه أرضاً في ثانيتين دون فهمٍ لحيثيات الموقف ،
فقط كل ما أذكره أن فهد كان يضرب الرجل كما لو كان يدافع عن ابنٍ له،
وكنت أضحك.. أضحكُ رغم الضجيج والشمس وهول الموقف !

الآن ياسارة ، ماذا تقولين إن أخبرتكِ عن اتصالٍ يردني في الثانية ليلاً من صديقتك لتخبرني:
" أوه ملل، سولف لي ! " ، أكنتِ تصرين أننا نحتكر الصداقة يا حلوتي !




شقيقي بدر كان أهدأ من خالد ، كان يتحدثُ لي بهدوء ..

- والدي كبيرٌ في السن ، بالله يافيصل لا تغضبه بهذا الحديث !

ثم يعرج بالحديث نحو الثقة ، ويلمز في حبيبتي بخطابٍ دينيٍ قديم " من تحدثت إليك ستتحدث لغيرك كيف تثق " !
وكنتُ بلغتُ المنتهى في غضبي من هؤلاء الذين اغتالوا سعادتي ..
كنتُ أكتب قصصاً رمزيةً وإسقاطاً على واقعنا المتشدد ، وحين أُعطيت لي مساحة ٌ لمقال ..
كنت أهاجم شيخاً كبيراً أفتى بفتوى عجبتُ منها ولم ترقني..
كان يجيب على إحداهن قائلاً " يجب أن تستأذني من زوجك في قص شعرك ، ونفذي مايريد " !

يومها ، هجمتُ بقسوة ، ونكلت بالشيخ بقلمي الذي استحال سيفاً ودرعاً في ذات الوقت ،
وصوّرته رجلاً يريد إعدام شخصية المرأة وجعل النساء جواري ونساء ليل ..
"أنتم أيها المتشددون لا ترون في المرأة إلا جسداً ، " فتحتُ النار بإسمي الثنائي الذي بات مهدور الدم في بعض صوالين النت !
كنتُ أتحوّل لرجلٍ آخر ، كفرتُ بكل شيء ٍ آمنت به ، حتى رمضان الذي على وشك الدخول لم أنوي صيامه !
حين أتذكر سارة وحرية سارة ، ألعن النساء في بيئتي ، وألعن تشددنا الصارم ، بات السواد المنتشر في الأسواق والمستشفيات يقتلني ..
لهذا ، حين حدثني بدر عن الثقة :

- لن أحدثك عن فرق النسب مع أنه مهمٌ جداً ـ لكن سأقول شيئاً وحيداً يافيصل ، كيف تثق بمن هاتفتك ألاّ تهاتف غيرك !

شعرتُ ان المتحدث لي ليس شقيقي ،
بل أحد الواعظين الذي سمعتُ هذا الحديث كثيراً في منشوراتهم وشرائطهم ، لهذا فقدت التوازن :

- أثق فيها أكثر مما تثقون في القابعات بين جدران بيوتكم كالسجينات!

قام أخي مغضباً ، والشرر يقدح من عينيه ، وعرفتُ أن جوابي أحالهُ خالداً آخر ..

- تذكر أن والدي لا يعرفُ إلا رغبتك هذه ، أنت لا تريد أن يعرف أين كنت تلك الثلاثة أيام يوم أخرجتُك !
بالتأكيد لم تكن في " الشرقية " وأظنك تفهم !

يهددني .. يظن أنني ذاك الطفل القديم، يظن أن فيصل الذي اعتادوه هو فيصل هذه اللحظة ..

- قل لهم ماتشاء ! سامع ؟ قل ما تشاء !



اليوم تغيّبت عن الخرج ، لم يسألني والدي لماذا ..
لم أنم ليلتي المنقضية ، سهرت بين سجائري و أفكاري و حدثتُ نفسي حديثاً طويلاً لم ينتهي إلا والشمس تقرع زجاج نافذتي..
أعدتُ شريط الذكريات ، رأيتُ سارة في مطعم الشرفة .. في المستشفى ، في كاميرا النت تضحك لي ..
سمعتها تحدثني سمعتها تبكي سمعتها تضحك ،
أعدتُ حواراتي معها منذ لقائنا على طاولة ماجد ، وانتهاءً بحوارنا في غرفة تلك العمارة يوم قبضوا على الحب الكامن فينا !
قرأتُ رسائلها إليّ .. ورأيتُ صورتها وعيناها الجميلة ألف مرة ، سهرتُ معها مفكراً سابحاً في كل تفاصيلها ..
ليلةٌ طويلة ، تخللها اتصالين من هيفاء تجاهلتهما تماماً.. ليلةٌ طويلة ، كان عقلي يجوس ديار سارة ويستدعي ذكرياتٍ وتفاصيل دقيقة،
كانت ذاكرتي تهطل وتنهمر ، وأنا الذي لم أخطو خطوةً واحدةً أربع ساعاتٍ وأكثر ، جالسٌ فوق فراشي كفزاعةٍ في حقل ذرة !
طالت ومرت وانقضت ليلتي لم أدمع دمعةً واحدة ! ..
حزنتُ كثيراً .. وافتقدتها كثيراً .. لكنني لأول مرة ، لم أبكي ..
ليس ذا وقتُ البكاء .. ومالكوم أكس كان محقاً :

" عندما تحزن فأنت تشعر بالبكاء على حالك ، فقط ، عندما تغضب ، ستُحدِث تغييراً "



في الشقة مساءً كنت عصبيّ المزاج قليلاً ، كنتُ بين رفاقي حتى خلا المكان إلا مني وفهد .. لأخبره بالطامة !

- فهد ، اليوم ذهبتُ لأحد مكاتب ال**** في شمال الرياض !

- ماشاء الله قررت تشتري بيت ههه

- ههه لا ، ذهبت وأخذت رقم هاتف الرجل من لوحته الرئيسية !

- فيصل بلاش ألغاز ..

- اتصلت بوالد سارة هذا اليوم ..

- نعم !

وبملامحي القاسية التي باتت سمةً لي في الفترة الأخيرة ..

- قلتُ له أريدك بأمر خاص وهام ، حدد لي موعداً أرجوك !

- ثم ؟!

- غداً ، بعد العشاء سأذهب إليه ..

- فيصل مجنون وش تبي فيه !؟

- الصينيون يافهد قالوا " يجد الجبان 40 حلا لمشكلته لكنه يفضل حل الهرب " !

- ملعون أبو الصينين.. علمني وش تبي بالرجال يا مهـ..

- رسمياً ، قررت أتقدم لسارة !


يظنني سكِرت ، لا لم أسكر ، هو لا يعرف أني صرتُ رجلا ً آخر ..
.. رجلا ً ليس كالذي سكنني كل هاتيك السنين !


يتبع ..


القلم الحر غير متواجد حالياً  
التوقيع
( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي )




أضغط على الصورة لدخول المدونة
رد مع اقتباس
قديم 17-05-11, 04:12 PM   #22

القلم الحر

نجم روايتي كاتب و شاعر متألق في القسم الأدبي

 
الصورة الرمزية القلم الحر

? العضوٌ??? » 127837
?  التسِجيلٌ » Jun 2010
? مشَارَ?اتْي » 1,320
?  نُقآطِيْ » القلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond repute
افتراضي


30



الساعة الآن التاسعة مساءً .. هدوءٌ مطبق في الحي الأثير ، الظلام يغتال الأرجاء ، ولا صوت إلا صوتُ حذائي المحتك بالإسفلت ..
أسيرُ في وجل .. أمشي حثيثاً تجاه البيت الكبير .. بيت عائلة سارة !
يتمطى فوق ثلاث طرقات كقلعةٍ من قلاع أفلام الفانتازيا ، ,وحده يتحدى الظلام، تلفه الإضاءة كأنه يغرق تحت الشمس .. صبحه وليله سيّان !
حفيف الأشجار يُسمع جيداً في هذا الصمت، أوراقها الخضراء تشاغب السور الكبير، ويتضوّع البيت رائحة العود الفاخر يشمها البعيد قبل القريب ..
بجنوني ، وعقلي وقلبي ، مغامراً بروحي ، أقف أمام باب بيت سارة ، لا أحد إلا فهد .. يعلم بنواياي ،
ترددي الطويل ينتهي أخيراً بصوت الجرس، يصرخُ في البيت منادياً الأثرياء القابعين وراء الأسوار !



أنظر للبوابة الكبرى مشدوهاً .. ليست كأبوابنا .. وهذه الأسوار العالية أعلى من أسوارنا ، أهل هذا البيت وكل شيءٍ فيه أعلى منا وأكبر !
صوتٌ في الداخل يقترب من البوابة ..خطواتٌ تقتربُ ومعها يزداد رعبي ، ثم تُفتح أخيراً !
شابٌ يشبه سارة ، رأيته من قبل ، هاهو يقف في وجهي منتصباً .. عرفتهُ ولم يعرفني، كان شقيقها تركي الصغير !
فتىً في العشرين من عمره ، عينيه تشبه عيني سارة وسرت في قلبي مرارةٌ حين ذكرتها .. أتُرايَ الآن أقترب منها أم أخطو خطوةً حمقاء تبعدني للأبد !
أتُرايَ الآن أبدأ القبض على حلمي أم ينفلت من يدي لآخر العمر ! أفقتُ على صوته البحوح :

- هـلا

- مسا الخير ، لديَ موعد مع الشيخ عبدالمحسن لأمر هام !

تأملني طويلاً وفهمتُ من نظراته الاستغراب ، كأنه كان يسأل نفسه عن جدوى مقابلة والده لشابٍ غريب !
لستُ النسخة المعتادة من ضيوف والده ، ولو ملكتُ الجرأة لقلتُ له " أنا الضيف الأهم ياتركي " لكني خائف ومرعوب ..
شرّع الباب وقال تفضل .. دخلنا وأنا أقول لنفسي " هذا دخولي فكيف سأخرج ! "
بدخولي الآن ، تكون قد غادرتني الفكرة المجنونة ، وبدأ الأمر يأخذ شكل الحقيقة ، وأنّ لا وقت للتردد ..
ها قد حانت المواجهة فلتمضي أيها الخوف بعيداً .. الخوف قبل الحرب ليس أثناءها !
ومشيتُ في ردهةٍ طويلة ..أمشي وراء تركي ، ليس كـ فناء بيتنا أبداً .. هناك في بيتنا في ذلك الحي البعيد ..تتكلفُ خطوتين لتكون في المجلس الصغير ،
والآن في هذا المنزل ، ينبغي أن أسير خلف تركي مسافةً بعيدة تحفنا الأشجار ، لنصعد سبع درجاتٍ رخاميةٍ طوال .. لأدخل في ديوانٍ كبير فاخر .
كان مجلسهم كرنفالاً من الفخامة ، رغم توتري وضبابية مقابلتي كان هذا المكان متعةً بصرية .. أنقل عيناي في أرجائه الفسيحة ومراياه العاكسة يلفني الإنبهار !


كان والدها حين حادثته قبل يومين ، يحمل صوتاً كأصواتِ المنعّمين ، حنجرةٌ متضخمة ونبرةٌ متورّمة..
.. تشبه تماماً نبرة أبطال الكوميديا حين يتهكمون بالأثرياء في المسلسلات!
أعطاني موعداً بعد إلحاحي بأن الأمر هام وخاص ، وها أنا الآن أنتظره في عقر داره لا أدري أأخرج مولوداً أم دخلتُ مفقوداً !

- مرحبا !

ها هو والدكِ ياسارة أمامي فهل تصدقين !
كانت نبرتهُ تماماً كما في الهاتف ، لكنّ وقفتهُ تضفي عليه جلباباً من شموخ، يخلق في قلبِ الرائين هيبة !
وعرفتُ أني مغامرٌ حد الجنون ، وعرفتُ أن الأمر أصعب مما تخيلت ،
رؤيتي له كانت صاعقةً للحد الذي فكرتُ أن أختلق أي أمرٍ آخر وأعتذر فأخرج !
يبدو أنه في خمسينات عمره ، يرتدي ثوباً مسبلاً جداً ليس كثياب والدي .. حليق الدقن حنطيّ البشرة ، ملامحه لا تشي بغضب ولا سرور ،
شعرهُ كثيف لم يخاتله الصلع، ممتليء الجسم في غير سمنةٍ واضحة ، قال مرحباً وصافحني ..

- هلا .. هلا حياك ابو مشاري !

أعرفُ أن أكبر أبنائه مشاري يدرس في أمريكا إدارة الأعمال ، صافحت يميني البيضاء يمينه الحنطيّة ، وشعرتُ بقبضته قوية ، أقوى من شبابي !
كيف أبدأ ياسارة ماذا أقول ! حيرتي في البدء يوم رأيتُك في محل ماجد قبل ستة أشهر ليست كهذه الحيرة ، هذه أشد وأنكى !
جلس الوالد الثريّ وجلس بجواره تركي .. يبدو أن فضول الإبن دعاه لتأجيل مشواره الذي كان يهم بالذهاب إليه ،


- هلا ، تفضل وش عندك !

نزلت عليّ هذه العبارة كالسقفِ المنهار فوق الرؤوس !
هذه الجملة الجادة ، والنبرة التي قيلت بها، لا تنقصني ، كنتُ مشتتاً قبلها .. لا أحتاجها إطلاقاً ..
أصبحتُ أشبهَ بغريق ، وهذا المجلس الضخم بات محيطاً وفقدتُ مهارة السباحة !

- أبو مشاري أنا ضيفك ..

أردتُ أن أكمل وأقول " وللضيف حق الإستماع وله حُرمةٌ تمنعكم من التعدي عليه " لكن الصمت ابتلع عبارتي ..

- ايه حياك الله .. آمر

حسناً ،هذه العبارة أفضل ..لم أكن أنتظرها ، كنتُ أخشى أن يقول " لستَ ضيفي أنت مجرد مزعج " !


وعزلتُ المجلس والأب والابن عن فكري ، ألغيتهم من مدى بصري، وهتفتُ بنفسي في أعمق أعماقي :
" يا فيصل ، لا تتردد ، يافيصل أنت قادر ، ستفعلها ! "
" سارة حبيبتك أتدري أين ، في الأعلى ، ربما تماماً فوق هذا المجلس من الطابق الآخر ، سارة! تذكر عيون سارة وشقاءك لغياب سارة "
" فيصل ستفعلها ، الأمر سهل ، نحن من نصعب على أنفسنا الأمور ، كل شيءٍ متاح إذا أردنا ، فيصل هيّا "

أنهيتُ حديثَ نفسي كمدربٍ يهتف بلاعبهِ المهزوم في ركن الحلبة ، ووجهتُ الحديث لهم على الفور :

- أتشرف بطلب القرب منك ، أتمنى أن توافق بزواجي من ابنتك !

يا ألله ، أحقاً قلتها !! أحقاً تقيأتها من جوفي ، نظراتُ الأب والابن المدهوشة تخبرني أنني قلتها حقاً ولست أهذي !
حين ننطلق ، يجب أن لا نتوقف حتى ننتهي مما نريد ، الوقوف ، يعني إنطلاقةً جديدة ، آخر شيءٍ أستحملهُ ترددٌ آخر !
لهذا استمريتُ في إدهاشهم :


- أنا ضيفك ، وفي بيتك ، ولستُ كأي رجلٍ آخر يتقدم لابنتك .. أنا رجلٌ تعرفهُ ولا تعرفه !

- من أنت !

رمى بسؤاله فرميتُ جوابي حيةً تسعى تلقفُ أسئلتهم وتخطف أبصارهم :

- أنا فيصل ، فيصل الذي كان في قسم الهيئة مع ابنتك !

لا ، يبدو أنني عدتُ أسيطر على الأمر ، الرجل الجديد الذي يسكنني هو من يتحكم في هذا المجلس الآن ،
الرهبة والدهشة انتقلت للضفة الأخرى المقابلة ، هناك حيث الأب وابنه !
كان تركي يصم قبضته ، شعرتُ بتردده في النهوض لم يستوعب عبارتي ، وقبل أن يتوجه لضربي أومأ له والده بيده كأنه يقول دعنا نسمع أولاً !

جيّد ، شعرتُ بالارتياح .. يبدو أن الوالد الثريّ يتفهم الأمر .. هم لا يضربون الضيوف !


- أبو مشاري ، أعرف أن بإمكانك الآن أن تقتلني ، وأعرف أن دخولي لبيتك أشبه بدخولي لقبري ، والعذر لك في كل ما تقول وما تفعل ..
أقسم لك لم يحدث بيني وبين ابنتك شيء ، أقسم لك ني شابٌ مستقيم ولستُ من هواة هذه الدروب ، لكن الأمر تصاعد مع ابنتك بشكلٍ لم أرده ولم تريده !
أحببتها رغماً عني ، وأعرف أني ارتكبت وأرتكب خطأً شنيعاً لكنني هنا لأكفر عن كل أخطائي ..


هل غادرتني رهبتي ؟ لماذا أشعر أنني أتحدثُ بطلاقة .. الآن يجب أن لا أتوقف .. هذه الوقفة لا تلزمني ورحت أكمل :


- بإمكانك أن تقول عني ماشئت وتنعتني بما تشاء ، لكني هنا أتقدم رسمياً ، هذا يبرهن عن حسن نيتي لم أكن أنوي بها شراً ..
لا أدري ماذا قالوا لك عني ، لكني أؤكد لك وبإمكانك أن تسألها ، أؤكد لك لم أضع يدي على يدها - لا بأس من كذبةٍ وحيدة، هكذا قلت لنفسي - ،
كنتُ أريد محادثتها عن خطوتنا الكبرى هذه وكيف أفاتحك في الأمر - كذبةٌ أخرى لا تضر - ، أقسم لك كنتُ أريدها زوجة وليس أكثر !


أنهيتُ حديثي ، ومازال الأب يضع يده على صدر ابنه تماماً كما رفعها قبل نصف دقيقة ، هل تجمّد والدكِ ياسارة!!
مابالهُ يغمض عينيه الآن وينصت في وجوم !!
ماذا سيقول لي ؟ هل سيقوم لصفعي لتأديبي ؟! هيّا يا والد حبيبتي تصرف تكلم اضرب ، لكن لا تدعني أنتظر ، أقسى ما في هذه الدنيا لحظات الإنتظار !
لو كنتُ محكوماً بالإعدام، لتمنيت إعدامي نهار النطق بالحكم، سأساق للشنق ويكون إعداماً وحيداً وموتةً أبدية..
لكن أيام ما قبل الإعدام ، أيام الإنتظار ،تلك ألف مشنقةٍ وألف موت !
مرت دقيقة صمت .. و رحتُ أواصل حديثي ، لربما جرعةٌ أخرى تطفيء بعض غضبه :


- لستُ سيئاً ، لو كنتُ كذلك لتركتها في شقائها وعذابها وضربكم لها ، من أنا ؟ أنت لا تعرفني ، أنا من أتى يخبرك عن نفسه!
أنا من يرمي بنفسه الآن في هذه المهلكة ، لسببين : أحبها ، ولأني لا أريد أن تُضرب وتشقى بفعلتي ،
إن كان هناك عقاباً فالعدل أن يكون لنا الإثنين لا أن تحمل نصيبها ونصيبي !
أقسم لك يا سيدي بأنها لم تهاتفني وانقطعت عني ، أنا الآن من جاءك طوعاً ، هي لا تدري حتى بـ نيتي ولا تدري أني ضيفك !


في السنين الأخيرة من حياتي ، اعتدتُ أن أعرفَ قيمة حديثي من رقيبي الذاتي ، أعرف وقع جملتي قبل أن أسمع تعقيباً من أحدهم !
عندما أتحدث ، أكون وضعتُ تصوراً لما قلته إما راضياً عنه أو لا ..
وفي هذا المجلس المتوتر الآن، رقيبي الذاتي يخبرني أن جرعتي الخطابية الأخيرة رائعة ، هل هي كذلك ؟
نعم !
هاهو يفتحُ عينيه ويتأملني .. ولا زالت ملامحه جامدة .. أكان غاضباً أم يواري غضبه لاأدري !

- وش اسمك !

- فيصل / فيصل الــ( ؟ )ــي !

آه يا قبيلتي النائمةِ في آخر اسمي ، آه يا جماعتي الميتين والأحياء ، لماذا لا تدعوني وشأني ، هاهي عينا والدها تلتقطُ الإسم جيداً !
قبيلتي كبيرة العدد ، يحملها في الرياض من يجعلها تمر على السمع كل يومٍ أكثر من مرة !
اسمي لا يمر عادياً في بلدٍ صحراويٍ كالرياض .. هاهي عينيه تبرقان وقد تعجبتا من الإسم .. ربما خمّن الآن مجيئي لوحدي !
لم يعد السؤال ذا جدوى ، عَرَف بالتأكيد لماذا أتقدم لفتاتهِ وحيداً إلا من خوفـي !


كانت عيناي تغرقان في عيني أبيها ، وأرى جيداً نفاذ صبر تركي .. بمجرد سؤال الأب عن اسمي ، هذا أشعر الفتى المنكوب بالأسى ..
بدا وكأنه فقد صبره ، مجرد سماعه لإسمي وسؤال والده هذا أشعره أن الأمر قابلٌ للمداولة والنقاش ..
قام فيني صارخاً يسحب يدي في ذهول :

- اطلع برا .. برررررررا

- ولـــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــد !

شق فضاء المجلس صرخة والده المدويّة ، زمجر في وجه ولده بهذه الكلمة ذات الثلاثة أحرف حتى خلتُ الثريا ارتعدت فوقنا !
يا للصرخة المرعبة ، أحقاً يا سارة تلقيتِ الزجر والضرب والصراخ من هذا الصوت ..آآآآه يا للمسكينة !
كانت عينا تركي تحتقنُ بالدمع ، قام غاضباً وغادر المجلس تاركاً لي ولوالده إدارة الحديث الملتهب !


لا أدري هل أراحني خروج الإبن الغاضب ، أم خشيتُ أن يكون الأب يستدرجني أكثر، ثم يفاجأني بردة فعلٍ هوجاء ..
لكني شعرتُ بالارتياح قليلاً بعد صرخته في ابنه ..هل كان يحميني من ولده ؟ ربما ..
ربما كنتُ غنيمةً له ولبنته التي تلطخت سمعتها قليلاً كما حدثتني هيفاء ، ربما يخفي خلف هذا التوتر فرحته !
بل ربما كان الآن يثني على ربه ويحمده أن جئتُ لأسوّي الأمر .. من غمرة أفكاري أفقتُ على صوته الراقد في الهدوء التام :

- لماذا جئتَ وحدك يا فيصل !

الأسماء لا تُنطق حين الغضب ، هكذا عرفت دائماً ! نطقُ الإسم أحياناً يخلقُ مسحةً حميمية ..
تلفظ والدها بإسمي هنا ، أشعرني بقليلٍ من الدفء ..
ورحتُ أحيك أكاذيبي مبتعداً بوالدي عن المناطق الساخنة ..

- والدي .. رجلٌ كبير حاد المزاج ، ونزعته الدينية شديدة ،
صدقني كان سيأتي معي لو لم يتطور الأمر لـ .. فضيحة ومركز هيئة ! ( شعرت بالرجل أغمض عينيه مجدداً )
عندما أخبرته أني أريد التقدم لـ .. إحم ، سارة ، ... بنتك ! رفض بحجة وجود معرفة سـ ..سابقة ! تعرف ، لم نعتد هذا الأمر ..يعني أن تتطور علاقة قبل الخطوبة !
لكنها حياتي ، وقبل أن تكون حريتي وقراري ، هي غلطتي .. وأنا رجل أريد تحمل مسؤولية أخطائي مهما عظمت !


رقيبي الذاتي الآن، يشعر أن هذه الصياغة رديئة وركيكة جداً !
هي كذلك ، ها هو وجه الرجل يتمعر مجدداً .. عاد يسألني وكان أذكى مما ظننت :

- فقط ! ؟ هذا سبب عدم مجيئه يا الـ . . . . ـي ! ( نطق إسم قبيلتي )

حسناً ..
إن لم أتألق الآن ، إن لم أكن رجلاً في هذا الحديث وواثقاً من نفسي ، إن لم أكن مقنعاً فتباً لي ووداعاً لحلمي ،
" فيصل انفض عنك غبار الرداءة .. هذا الحديث أهوج ، أنت تجيد أفضل " هكذا هتفتُ في أعماقي مجدداً ورحت أتحدث له :


- صِدقي ، وقلبي ، وأسرتي و قبيلتي ، كل هؤلاء أرفعهم لك في يميني أقدمهم مهراً لسارة !
هذه الدنيا بأسرها لا تعنيني إن عشتُ بعيداً عن سارة ، ماذا تريد دليلاً على صدقي أكثر ؟ أحمل لك قبيلةً وأرميها أمامك .. لا أعبأ بها ولا بغضبها !
أحمل إليك غضب والدي ووالدتي ولكني لا أهتم بكل ذلك ، أي صدقٍ تريد أكثر !

بدأت حرارة نبراتي تتصاعد .. أعرفُ نفسي جيداً ورقيبي الذاتي يخبرني أن هذه النبرة رائعة ، ورحتُ أواصل :


- ربع قرنٍ من حياتي مضت ، عشتُ فيها مع من لم يعبأوا بي ، أريد لبقية حياتي العيش مع من يهتم لأمري وأهتم لأمره !
ربع قرنٍ مضت من حياتي ياسيدي وأنا لم أختر هؤلاء الذين أحمل اسمهم ، فُرضوا علي ، دعني بقية عمري أختار مع من أكمل مشواري ..
ربع قرنٍ وأنا الرجل النافر من كل هذا الإرث والموروث ، خذ اسمي خذ اسرتي وقبيلتي وأعطني سارة !

بدأ صوتي يتهدج، وبدأت عيناي تفيضان دمعاً طاب وقته ، ولأول مرةٍ رأيت في ملامحهِ نظرةٌ تحملُ بعض رضى .. لم أتوقف :


- أي صدقٍ تريد أكثر يا سيدي ! أي صدقٍ وإثبات لحسن نواياي أكثر !
أنا من بحثت عنك ولم تبحث أنت عني ، أنا من يرمي رقبته تحت رحمة مقصلتك الآن !
أنا من دخلتُ بيتك مقامراً على حياتي لا أدري هل ثمة خروج بعد الدخول !
أنا من عاش معذباً مسهداً طوال هذه العشرة أسابيع ، أقسم لك بأنها أسوأ ماخلق الله من أيامي !
أي صدقٍ تريد أكثر وأنا الذي أرمي وراء ظهري كل شيء متقدماً لبنتك لا ألوي على شيء !
إعتبرني واحداً من أبنائك ، اعتبرني ثالث أبنائك ، اعتبرني منذ اللحظة أحمل اسمك واسم أسرتكم .. تباً لقبيلتي إن كان في الأمر فراق سارة !


وقفتُ عند هذا الحد ، وملوحة الدمع تتلمظها شفتاي .. أخرجتُ منديلاً وبدأتُ جمع دموعي فيه ، كنتُ أبكي بكاءً حاراً لم أتوقع سأبكيه أمام أي أحد ..
كان الرجل أمامي ينظر لي في صمت .. وكنتُ مشغولاً بدمعي ..


- هل تعرف أن سارة يتقدم لها الآن شابٌ من خيرة شباب البلد !


سرت فيني فرحةٌ حين سمعت السؤال ، هو لا يعرفُ أني أعرفُ هيفاء وأسراراً تلقيها في حجري كل ليل ، يبدو أنه يستمتعُ بصدقي وأجوبتي ..
أدركتُ على الفور أنه فقط .. يريد سماع إجابة !
هو لا يدري أني أدري بأن المتقدم لسارة قد أفل وانصرم .. تُخلق الفرص من حيث لا نعلم !


- مخطوبة!! لا .. لا أعرف ! لكني أعرف أن مابيني وبين سارة ليس يدركه هذا الشاب ولا غيره !
هذا الشاب إن رفضتموه يا سيدي سيجد عشرت الآلاف من النساء الصالحات للزواج ، لكني لستُ كذلك ..
بإمكانك أن تقول لي طلبك مرفوض ، لأعرف الآن أني سأعيش بقية عمري دون زواج !
هذا الشاب ربما يكون غنياً يقاربكم في المستوى ويقاربكم في الدم ، لكنه لم يقدم مهراً كالذي قدمت .. وليس صادقاً كـ صدقي !


لاأعرف ردة فعل هذا الأب الثريّ وما يعتمل في خفائه ، لكني أعرفُ أن وجهه الآن ليس الوجه الذي دخل به ،
وليس الوجه الذي كان متجهماً بداية الأمر !
ورقيبي الذاتي يهنئني في كل عبارة ، والتقطتُ نظرةً ربما فلتت من عينيه ، كانت فيها ابتسامة أو ربما شفقة .. أو .. انبهار .. لا أدري ..
لم أتوقف ، لكني ركنتُ للهدوء و وغادرتني دموعي و غار صوتي في أعماق حنجرتي وحدثتهُ بخشوع ووقار :

- أرجوك فلتبعث في مقر عملي رسلاً تتقصى لك عني ، أرسلهم في حيّنا وحارتنا و كليتي التي غادرتُها الترم الماضي ..
كلهم سيقولون لك لستُ سيئاً .. أقسم لك لستُ غادراً ولا سيئاً .. كنت أستقبل جهاز ابنتك في محل زميلي للحواسيب .. تحدثنا عن الجهاز وامور اخرى ليست ذات بال..
لكن الأمر اطّرد .. تصاعد الأمر بغتة ، خرج عن السيطرة ، أحببتها رغماً عني ولم أؤذها إطلاقاً أحلف صادقاً ...
لا أتقدم لها الآن كـ رجلٍ يريد رتق الأمر وإصلاح خطأٍ شنيع ، لا تفكر بذلك أرجوك..
لم أقترب منها وحاشا لله ياسيدي .. لكني أتقدم لأني أريدها بالحلال زوجة .. أريد أن أمضي بقية العمر رفقتها !
أنا معلم ، أتقاضى راتباً جيداً .. لستُ غنياً مثلكم لكني أؤكد لك أنها لن تعيش إلا بين الرمش والعين .. لن أجعلها تفتقد شيئاً .. صدقني ..
أنت لا تريد أسرتي ومركزك لا يعبأ بأسرتي الفقيرة المطمورة في أوحال الرجعيّة ، دعهم في قبليّتهم يعمهون .. وخذني أنا المبلي بحب ابنتك !
لا أدري ما أقول هذا كل ما لديّ !


قام .. وقمتُ معه .. كنا في الطول متقاربين .. لكنّ هذا بحساب السنتيمترات ليس في حساب القدر والثراء .. كنت في هذا القياس نملةً تدب بجوار أبو الهول ..
أشار إلى الباب وقال تفضل الآن .. أهاتفك لاحقاً !



أحقاً خرجتُ سالماً .. أحقاً ها أنا أمضي بعد ساعةٍ وربع الساعة في ذات الردهة التي دخلتها متوجساً ؟!
وهذه البوابة الكبيرة أحقاً أجتازها الآن ؟! هاهي خطواتي تقطعُ الحارة وأمتطي سيارتي سالماً .. فعلتها !
هل أقنعته ؟ هل أبهرته ؟! هل سيقبلني .. آآآه يا أسئلتي اللحوحة غادريني لوهلة ، هذا الصداع يقتلني ..
وانثنيت في تخوم الطريق الضيق ورفعتُ رأسي ـ ها هي غرفة سارة ونافذتها المظلمة، يا ترى متى سيخبرونها ؟ أم هل يكتمون الأمر عنها ؟!
ما ردة فعلها ؟ هل ستصرخُ .. هل ستوافق لو خيّروها بيني وبين أحدهم .. ثم شعرتُ رغم صداعي بنرجسيةٍ تجتاحني وتقول أنا الأفضل !


وانثنيتُ مع الطريق ، وشعرتُ بالصداع ينقر رأسي ولمحتُ الصيدلية التي تبعتُ تركي إليها .. وتذكرتُ غضب تركي كيف نسيته !
هل سيؤثر في قرار العائلة .. رحماك ياربي من هذا الوغد . .آخر ماينقصني .. وفتحت باب سيارتي وخرجتُ لأشتري دواءً لرأسي الملتهب ..
وآآآآآآآآآآآه ..
شعرتُ بارتطامٍ في رأسي .. وصوتٌ غاضبٌ يزأر بي .. وسقطتُ أرضاً .. والأرض مادت بي وانقلب العلوّ أسفلاً ..
كانت اللكمات تنهمر فوقي تتبعها الصرخات.. وحديدةٌ أشعر بها لم أرها .. ترتطمُ بي مراراً لتطلق آهاتي المتوسلة !
أنيني يدب في الأنحاء .. وأحد الضاربين يصرخ فيني : يا ملعون . يابن الكلب . ياملعون ..
وأبكي .. .أضرب الإسفلت بيدي من فرط الألم .. آآآه يا ظهري .. ورأسي يُمنى بسيل الأقدام الداهسة ، والدماء تملأ ثوبي ..
والناس يهرعون تباعاً .. وصوتُ سيارة الشرطة تقتربُ من الجمع .. حملوني وكنتُ أشبه بغريق في بحر دمائي ..
وتذكرتُ سارة و ليلة القبض علينا .. وبحثتُ في الأنحاء وهم يحملوني ..ورأيت تركي غاضباً ، وصديقٌ له يريد الإفلات من قبضة الممسكين به يردونه عن ضربي ..
وتراقص الشارع في عيني .. وضاقت الرؤية حتى ضاعت ، أغمضتُ عيني ولم أشعر بشيءٍ بعد ذلك !







***********





أفقتُ في غرفةٍ ليست غرفتي .. غرقها في البياض يخبرني أني في مكانٍ غريب !
رائحة المعقمات الفاغمة ترقص فوق أنفي .. وأردتُ مشاهدة الساعة وتأوهتُ حين رفعتُ يدي .. وذكرت كل شيء !
كان فوق رأسي فهد ، وشقيقي محمد ، وسلمان ..
وشعرتُ بالشاش يكتسي رأسي كـ عِمامة ، وعيني تكادُ تنطبقُ رغم اجتهادي إبقاءها مفتوحة !

-سلامات فيصل ، أبشرك مسكوهم ، وش بينك وبينهم !

سألني شقيقي محمد ، ولم أشأ إجابته .. هززتُ رأسي لا أدري ،

- قسم بالله ما تعدي على خير ، خل يطلعون وابشر بحقك وفوق حقك !

كان فهد محتقناً وعيناه تغيضان دمعاً..
وتذكرتُ أنه الوحيد الذي كان يعرفُ أين كنتُ أتوجه البارحة ، وخشيتُ من ذياع سري ، ياترى أأخبرهم ؟!

- سيأخذون أقوالك وقل كل شيء، هل كان اشتباكهم معك من أجل خطأ في السير أو حين تجاوزتهم أو ماذا ؟
كان هنا شرطي وانصرف ربما يعود في أي لحظة ..

لا ، لم يخبرهم فهد .. هذا التساؤل اللحوح من محمد يشي أن فهد مازال يكتم الأمر كما أخبرته !

كل ما في جسمي ينوء بالألم ، كتفي أكاد عاجزاً عن تحريكه ، رأسي مليءٌ بالصداع والخيوط والدم ، عيني تنحرفُ الرؤية فيها يساراً !
وفقراتُ ظهري أشعر بها تتباعد عن بعضها ، كل واحدةٍ تبكي على حدة !
كان ارتطام الحديد بظهري أشبه بحادث سيـر ، أوّاه ياسارة ماذا تقولين الآن إن عرفتِ بأمري ..
وهمستُ بسارة كآخر جملةٍ أنطقها ورحت أغط مجدداً !!


* * *


مضى يومان بين سؤالٍ وجواب .. وبدأتُ أبتلّ من سقمي قليلاً .. ويدي تحملُ هاتفي بصعوبةٍ أخف مما سبق :

- أنا أسامحهُ عن كل شيء ، أتمنى أن يكون خرج الآن واطمأنت برؤيته والدته !

- نعم ، جاء إلينا وشكراً لك ..وأعتذر مجدداً

- لا تعتذر أرجوك ، هو نصيبي من خطأي وبعض ما حدث لسارة ، صدقني لست غاضباً من شيء

-حسناً ، على ذكر سارة ، يا فيصل ليس لديّ أي مانع ، وأخبرك أن سارة موافقة وتركي سأتدبر أمره !

ها هو الرجل الثري ينطق بالخبر الألذ منذ امتلكتُ حاسة السمع !
كان يوم سعدي ياسارة يوم ضُربت !
عجباً لأمر المؤمن كله خيـر .. ذكرتُ هذا الحديث رغم ثورة إلحادي الجديدة ، وابتسمتْ !
وعرفتُ أن عائلتكِ ياسارة صفحةٌ طويَت ، وعرفتُ أني قادمٌ إليكِ ، وأن الروايات ليس كلها كذباً ياسارة .. بعضها يتحقق في واقعنا الغريب !
وتذكرتُ عائلتي ، وعرفتُ أن أيامي القادمة صعبة ، لكنها مع سارة ستكون أسهل .. كل شيءٍ مع حبيبتي سيكون أسهل ..



يـتـبـع ... !


القلم الحر غير متواجد حالياً  
التوقيع
( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي )




أضغط على الصورة لدخول المدونة
رد مع اقتباس
قديم 17-05-11, 04:15 PM   #23

القلم الحر

نجم روايتي كاتب و شاعر متألق في القسم الأدبي

 
الصورة الرمزية القلم الحر

? العضوٌ??? » 127837
?  التسِجيلٌ » Jun 2010
? مشَارَ?اتْي » 1,320
?  نُقآطِيْ » القلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond repute
افتراضي

31

اليوم الثالث لي في المستشفى ، تأوهتُ كثيراً و جسدي يتكدسُ فيه الألم .. لكني بخير !
بدأتُ أتعافى حقاً منذ مكالمة والد سارة ، منذ عرفت أن الحلم بات في قبضة كفي محصوراً بأصابعي الخمسة ..
هذه القطعة الحمراء النابضة في أجوافنا هي مصدر مرضنا وعافيتنا ..
هذا القلب الذي يغني الآن ألحان الفرح ، هو سر عافيتي رغم كل آلامي التي يأن لها جسمي ،وليس مهماً لأنّ روحي الآن ترقص !
يتحلقون حولي زائرين ولا أرى إلا سارة ، يسائلوني فلا أجيب .. مشغولاً بسؤال قلبي السعيد : أحقاً نِلتُكِ ياسمراي الجميلة ؟!
محمد وبدر أشقائي ، فهد وسلمان وصالح أصدقائي ، يحيطونني كما تُحيط بي البهجة رغم زرقة عيني وصداع رأسي وجبهتي المندوبة ..


- " كنت واقفاً أمام آلة الصرف البنكية وهجموا علي يريدون سرقتي ، لم يفلحوا واشتبكت معهم "

هكذا أخبرتُ الجميع من حولي ، وعينا فهد تُرسل لي نظراتٍ تقول " لا أصدقك " ، لكنهُ يقرأ في عينيّ أيضاً " أرجوك اصمت،نتحدث لاحقاً "
لو عرفوا أني تنازلت للشرطيّ الذي جاء يأخذ أقوالي .. لو عرفوا أن الجناة ينامون الآن في حجراتهم الأثيرة ،
لو عرفوا سبب ضربي .. لانفضوا من حولي قياماً وتركوني وحدي ..
.. وحدي إلا من هذا المغذي الرتيب الذي يُرسل قطراته كالندى تنسابُ في عروقي !

تحدثوا لي كثيراً ولم أكن أصغي ، كنتُ شغولاً بأسئلتي : متى سأتحدث لسارة متى سألتقيها !؟
اشتقتُ صوتها وبحة صوتها واشتقتُ لعينيها أكثر ،
شهران ونصف الشهر من القطيعة ، أشبهَ بانفصالٍ عن هذه الدنيا لمدة عشرة أسابيع ..
كانت حياتي تسيرُ متصلةً حتى توقفتْ، وحل الموت سبعين يوماً ، ثم الآن أعود لهذه الدنيا رجلاً جديداً ليس الذي كنته !

تصقلنا التجارب ، والمغامرات في هذه الدنيا تعلمنا أن نتمرد على الإنسان الخائف المُطيع فينا ، وأنا رجلٌ قتل الخوف وآمن بالجرأة :
غياب سارة ، صراعي مع غيابها الأشبه بوحشٍ كاسر ، عشرة أسابيع من المواجهة المستمرة مع هذا الخصم الذي لا يتضعضع ،
تمردي على قيمي الدينية والعائلية ، كتاباتي الموجهة ، صراعاتي مع التيارات الفكرية الأخرى ،
ثم بحثي عن حلمي مجدداً ، وقوفي في وجه أبي وشقيقي الأكبر خالد ، مجابهتي لوالد سارة في عقر داره كمحاربٍ لا يأبه لرأسه إن تدحرج ،
كل هذا .. خلق فيني رجلاً آخر ، آمنتُ بشراستي وأن الحياة لن تكون صعبةً إلا على الجبناء ،
حتى الضرب الذي تلقيته غدراً من شقيقها ، تنازلتُ عنه في أنانيةٍ مفرطة ، كنت أنانياً بحق جسمي ومنحازاً لقلبي ، استغللتُ الموقف لصالحي جيداً ..
كنت انتهازياً وأنا أطوّع الأمر لمصلحتي .. هكذا عرفتُ خصالي الجديدة .. خصالاً لم أعهدها فيني من قبل !


ضجيج حديثهم حولي لم يمنعني من الانتباه لرجلٍ يسأل الممرضات عن نزيلٍ يبدو أنه أنا !
هاهي الممرضة تشيرُ بيدها ناحيتي مبتسمة ، وهاهو يتجه صوبي ، يدلفُ باب الغرفة قاصداً سريري من بين المرضى الممددين ..
أظنني عرفته !
بمزيدٍ من التحديق أبانَ عن ملامحٍ آسيويّة ، كان يحمل بوكيه ورد .. وعرفته نعم :
سائس الهودج الفيراني ، سائقُ سارة !
أومأ برأسه تعاضداً مع حالتي وقال بلهجةٍ عربيةٍ محطمة : " سلام عليكم "
وضع الورد وعلبة الشوكولا الفاخرة بجواري ثم انصرف.. وصعَدَت عيون زوّاري ترصد هذا الرجل الغريب وهديّته الأغرب ،
ولمحتُ بين الورد ورقةً مغلفةً ربما كانت رسالة، وتسارع نبضُ قلبي الذي أدركَ أنها قادمةٌ ممن يحب !


" ليت فيني ولا فيك فيصل، سلامتك يارب ، .. حبيبتك سارونة "

ننجح كثيراً في دفن حزننا عن عيون الآخرين .. لكننا نفشل حين نحاول ذلك مع الفرح !
عيوني المتلألئة سعادةً .. تنهيدتي الحرّا ، انتشائي الفجائي ...بسمتي رغم الجروح ، كل هذا أخبر زوّاري أن الأمر خاصّ وجداً ..
..لم يسألوا !

* * *



الساعة الآن العاشرة ليلاً ، غداً موعد خروجي هكذا أخبرني الطبيب ، يرقد المستشفى في بحرٍ من الصمت ..
يقطع هذا الهدوء آهةٌ تنبعث من أحد الراقدين ، أو مرور ممرضةٍ تمشي مشياً رتيباً لتحقن أحدهم ،
وصوتٌ كئيبٌ مزعج يندّ من جهازٍ طبي ، يقيس سرعة نبض الرجل الماكث بجواري ،
وسألتُ قلبي : ماذا عنك يا قلبي ؟! أظنهم لو وضعوه فيكَ لنبضت باسم سارة، كلما قرأت الرسالة صرتَ أسرع من ليلٍ كان يروحُ معها !
وفهد الذي يجلسُ بجواري مرافقاً هذه الليلة ، لم يسألني عن أي شيء .. كأنما يخشى الإثقال عليّ وينتظرني لأبرأ كلياً /
من الصعب أن تحمل سراً لوحدك .. قررتُ الحديث أخيراً .. قررتُ التخفف من حِملي السعيـد !


- ماذا تظن الأمر يا فهد ؟! هل تصدق أن الأمر سرقة ؟!

بثقةٍ بادية أجابني وهو يتكأ على قبضة يده فوق الكرسيّ المقابل لي :

- بالطبع لا ! كنتَ ذاهباً لمقابلة والد سارة .. هذا يفسر كل شيء !

ابتسمت وأنا استوي قاعداً على فراشي :
- آها .. تظن أن والدها قام بضربي أو أمر بذلك ؟! حسناً .. سأخبرك بكل شيء ياصديقي :

ذهبتُ إليهم ، استقبلني الأب وابنه ، أخبرته بكل شيء ..لا أقول لك لم يغضب ،نعم غضب ، لكنه تفهّم الأمر كما أعتقد ..
كان مخيفاً مهيباً يا فهـد ، هؤلاء الأثرياء محصّنين بالمال والمال له سطوته ، المنزل الفاخر المجلس الكبير كل هذا كان أشبه بمغامرة ..
في النهاية أقنعته ، أظن ذلك !
سألني عن أهلي وأخبرته .. نعم يا فهد أخبرته بكل شيء ، الحقيقة ولا غير الحقيقة ، لكنه لم يهتم لأمر أسرتي كثيراً !
ثم خرجت لأجد شقيقها يترصدني .. نعم هو من قام بكل هذا ، وأريد ان تعرف أني تنازلت لأجل سارة ..


- تنازلت ؟!

- تنازلت أو لم أتنازل ، في النهاية نفوذ والدها سيخرجه ، لكني استغللت الأمر لصالحي ، قلت له أتنازل وأسامح لأني أريد القرب منكم !
كل هذا أشعرهُ بصدقي .. - ثم ابتسمتُ ظافراً وأردفت :
.. وأعطاني موافقته !

صوتُ الكرسيّ الذي سقط على قيام فهد مهتاجاً أيقظ المرضى :

- وافق! ستتزوجها ؟! مجنون ؟!

تأكدتُ الآن أن فهد لم يضع هذا الإحتمال في رأسه أبداً .. ربما كان يظنني سأُطرد من منزلهم كأي متسولٍ يُنهر فـ ينصرف !
كان قد حاول منعي قبل التوجه إليهم فلم يفلح وعندما صممت ..كان يتعزى بطردي ..
جزم أنهم لن يوافقوا .. لم يدر بخُلده أني سأحظى بحلمي :

- نعم ، رغم كل شيء سأتزوج ..
كانت الصعوبة تكمن في موافقة والدها يافهد، وبعد أن حظيتُ بالموافقة .. كل مابعد ذلك سيكون أسهل !


أوووه، اللعنة على صديقي .. أليس مرافقي الذي سيخرجني غداً ؟!
لماذا أعطاني ظهره الآن غاضباً وخرج !!؟



تركني لوحدي مع سعادتي التي تحيطني .. وشممتُ الورد بحثاً عن رائحة سارة ولم أجدها ،
كانت رائحةً الورود عطريةً لكنها لم تكن أجمل من عطر حبيبتي !
ونظرتُ للرسالة مرةً أخرى ، وتأملتُ خط يدها .. هل كان خطها جميلاً أم أنني أتوهم ..!
كل شيءٍ منها يأتي جميلاً .. حتى الحرف الذي تخطه يبدو شهياً !


في النور الخافت الذي يهيمن على الغرفة الكبيرة ، وصوتُ المتأوه الذي بجواري .. و أرقي الذي طال ولم أنم ،
خفق قلبي بسرعة ، خفق بغتةً في في ثانيتين .. أجزم أنهُ خفَقَ قبل رنين هاتفي !
بدأ الخفقان أولاً ثم بدأ الرنين ، أتُراك تشعر بموجات حبيبتك يا قلبي قبل أن يصرخ بها الهاتف ؟
ونظرتُ للشاشة ووجدتُ الإتصال رقماً غريباً .. عشرة أرقامٍ في شاشتي ظننتها ترقص ،
ومسني شعورٌ غريب تجاه هذا الإتصال ..و قلت ألو بصوتٍ خفيض :

- السلام عليكم

هذا صوتٌ سأموتُ مانسيته ، صوتٌ أذكره جيداً رغم مسافة السبعين يوماً !
كأنما ودعته أذني مساء البارحة لم ينقطع منذ شهرين وأكثر ..

- كيف أنت الآن فيصل !

لا أحد ينطق اسمي أفضل من هذا الصوت ، ولا يكون اسمي جميلاً كجمالهِ حين يُزف مع هذه النبرة !

- سارة ؟!
- أجل .. أنسيت صوتي !؟
- هل جننتِ ؟!

وأردتُ السيطرة على صوتي ومداراة انفعالي ، أردتُ كبح جماح فرحتي ولم أسطِع ،
تباً لهذا المريض الذي يتأملني الآن ، يُدرك الآن أني بصدد لحظةٍ مهمة !

ورحتُ أهمسُ في أذنها موارياً حديثي عن جموع الراقدين :
- أرجوكِ سامحيني عن كل شيء، سامحيني على كل ألم ٍ سببته لك ، أرجوك سامـ...

- لا تعتذر ، أنت سامحني على انقطاعي ، أقسم أني حاولت كثيراً أن أعود إليك ولم أقدر ..

- هل أخبركِ والدك أني كنتُ لديه قبل يومين !؟

- نعم أخبرني ياسيد مجنون ، فيصل أليستْ غريبة هذه الدنيا ، أكون على وشك الإنتحار ثم يزف لي الخبر السعيد فجأة !

- انتحار !؟

- أقسم لك رادوتني نفسي عن الانتحار ألف مرة ، الحياة بعيدةً عنك ماعادت تُطاق ..
يافيصل تعذبتُ كثيراً وتألمتُ نفسياً وجسدياً ، لكن صدقني .. كل شيءٍ كان أخف من الفراق !
الفراق وغياب الأحباء يافيصل سياطٌ تجلدنا كل ذكرى ، أنتَ لم تغب عن مسرح حياتي مطلقاً ..

كانت تتحدثُ بصوتٍ متعب ، وتمنيتُ لو كنت طائراً يقطع هذه السماء بجناحيه فأكون بجوارها لأحتضنها وأواسيها ..

- يا للمسكينة يا سارة ، كانتْ حياتك تسير هادئةً حتى اقتحمتُها ، أحلتُ ليلكِ عذاباً وأيامك جموعَ مأساة ..

- لا يافيصل لا تقل ذلك ، رغم كل شيء .. أنت أفضل ما حدث لي !

- هل تذكرين تلك الليلة المشؤمة ، يوم صرختِ باسمي ولم أغنِ عنكِ شيئاً !؟

- آآه لا تذكرني .. مازالت حتى اليوم تهطل في ذاكرتي كالكابوس ، أُفيقُ من نومي لأصرخ يا فيصل ..!

- كنتِ يومها ياسارة تخفين عني خبر موافقتك بالزواج من منصور ، هكذا عرفت من صديقتك ،
لولا تلك الليلة ، لولا ذلك الإقتياد الهمجيّ .. لكنتِ الآن زوجةً لغيري !

وشعرتُ بصمتها خجلاً .. ورحتُ أتحدث رغم الألم رغم المرضى رغم هدوء المكان وحديثي المتصاعد في فضائه:

-نعم ، لولا ليلتنا تلك ، لما كنتُ الآن رجلاً يقبض الحلم بيده ، أليس غريباً يا سارة أن يحدث لك شيءٍ تظنه الأسوأ في حياتك ، لتجده في ما بعد كان خيراً لك !
نعم تألمت شهرين ، وفقدتكِ شهرين ، لكنّ الشهرين ليست كالغياب إلى لأبد !
صدقيني كنتُ سأموت لو رحتِ لغيري .. أقسم لك كنت سأموت، الحياة بدونكِ أشبه بالمكوث في مقبرة !
لا ياسارة ، لا تتبرمي ولا تضيقي .. واسعدي بتلك الليلة .. كانت على هولها ورعبها ليلة إنقاذٍ لحبنا المجنون ..

- ألم أقل لك يا فيصل بأن الرياض لا تُكره، ولا تَكرهُ أحداً من أبنائها ؟!

- نعم قلتِ .. وكرهتها شهرين .. لكنها باتت كريمةً معي في الأخير ، هل تذكرين حديثي لكِ عن القُرى ؟!
سأذهب بكِ كما طلبتِ .. ستشاهدين طفولتي ونخيلنا وبيوتنا الطينية القديمة ..
أعدكِ ، سأقف على الأطلال وأنتِ بجواري تحيلين كل شيءٍ لبهجة ..

هتفتْ بسعادةٍ غامرة :

- أحقاً سنكون لبعضنا يا فيصل .!

- نعم ، سنكون لبعضنا .. لا شيء بعد الآن يقلق صفونا ..
وهل تذكرين حديثك عن بيتٍ يلمّنا ؟ يوم قلتِ " سأجعلك الرجل الأسعد " ؟ تأهبي لإنفاذ وعدك .. سيجمعنا بيتٌ ياحلوتي !

- ستمشي على قلبي يافيصل لن تمشي على الأرض ، ستنام في عيناي .. سأكون لك الأم والزوجة والحبيبة ..


وذكرتُ أمي .. وانقبض قلبي !
آه يا أمي .. سأهجر والدي وإخوتي وقبيلتي .. لكن تبقين وحدكِ شوكةٌ تُغرز في قلبي وندبةٌ لن تُشفى في وجه حياتي !
وطردتُ طيف الحزن من عقلي، ليس ذا وقت الدمع ذا وقتُ الفرح !


- وسننجب طفلين ياسارة ، أريدهما طفلاً وطفلة ، سعود و العنود ، وسنكون أسعد زوجين في الدنيا ..

وراحت تضحك ناشجةً دموع الفرح .. وشعرتُ بالمستشفى مسرحاً تُعزف فيه اوكسترا احتفالية ،
وحلق قلبي في جوانبه كطيرٍ سأم الأقفاص واعتنق الحرية ..
يا للسعادة أخيراً .. أسرعي يا أيامي، واركضي أيتها الدنيا ليتحقق كل شيءٍ أريده ..

- فيصل ماذا فعلت بدوني هذه الفترة الطويلة ؟

- أووه يا سارة ماذا أقول ، صرتُ وحشاً أقسم لك ! وحشاً لا ملامح له ولا قلب ، لم أعد أعرف طعم الحزن كنتِ كل حزني ..
ولم أعد اتذوق طعم الفرح كل الفرح انصرف معكِ يوم انصرفتِ، بتَ رجلاً آخر .. كل أيامي موحشة ..
كنت أشعر أن في داخلي فراغاً، ليس ثمة روح ، خراب مدينةٍ تحطمت بعد حربٍ مسعورة !
أشلاء يا سارة .. أقفُ كل صبح ٍ أمام طلابي وأشعر بالصغار يقرأون همّي ، حتى هم كانوا مشفقين ، كنتُ كتاباً مفتوحاً لكل رائي ،
بماذا أحدثكِ؟ أأقول إن الصبح والليل كثيراً ما كانا سويّاً.. يمرّان متصلين لم يفصل بينهما نومي !
أأحدثكِ عن حياتي التي لم تعد حياتي ، وقلبي الذي لم يعد قلبي ، وملامحي التي لم تعد ملامحي ،
كل شيءٍ غادر معكِ وبقيَ بجواري النسخة الأخرى الرديئة !
هل تذكرين في قصتي يوم قلتُ : الحياة بعد من نحب كالعودة لبث الأبيض والأسود بعد اعتيادنا البث بالألوان " !
كنت قلتها خيالاً ، كاتبٌ يتقمص دور الفراق .. وحين عشته ، حين افترقنا .. آآه ياحبيبتي ماذا أقول.. كانت بطعم الحقيقة !
كل شيءٍ بعدكِ باهت ، كل صحةٍ سقم وكل ذكرياتي أنتِ .. كانت أيامي تنسل من صفحة تقويمي مهدورة !
هذا الفراق ياسارة نسخةٌ أخرى لعزرائيل ، يقبضُ السعادة والفرح ويترك لك حياةً خاليةً إلا من بكاءٍ و حزن وذكرى مريرة !


طفرت من عيني دمعةٌ وأنا أروي أيام عذابي .. تحدثتُ لها كرجلٍ يروي مآسي سجنه والعيش خلف القضبان
حدثتها كشيخ ٍ يتحدث عن عقوق أبناءه/أيامه !

وحدثتني بأكثر مما لقيتُه ، عن ضربها و حصارها و فضيحتها بين شقيقاتها ، حدثتني وهي تبكي عن تذكري كل صباح ..
" الآن الشمس تشرق ، ياترى أغادر فيصل للخرج أم لم يذهب "
" الليل حلّ ، أتراه نام الآن؟ "
" الهلال يلعب، ياتُرى مع المتفرجين على المقاعد أم حزينٌ مثلي "
كل شيءٍ في أيامها الحزينة يشبه أيامي .. كنا نندمجُ في تفاصيل الغياب كروحين يعيشان ذات الدور !


- فيصل وأهلك ؟ أنت جئت وحيداً لخطبتي ! سعيدةٌ بك وأحبك ، لكني أخشى عليك .. لا أريد أن ....

لا تحدثيني عن أهلي .. أنتِ كل شيءٍ لي ، لم يغنوا عني شيئاً يومَ فقدتُك ! وإن فقدتهم صدقيني ، لن أشعر بذلك وأنتِ معي ..
ومع هذا أؤكد لكِ .. والدي طيب القلب .. شهر ثم شهرين ، وسيقبلكِ كابنته ..
والدي ياسارة بسيطٌ جداً .. غضب البسطاء مثلهم بسيط ، لا يدوم صدقيني .. نحن نغضبُ بسرعة الرضى الذي يعقب غضبنا !

- وأمك ؟!

أمي من الآن أخبركِ لن تعتبرك إلا ابنتها السادسة ، ياسارة لا تشغلي نفسكِ بتفاصيلي دعيني أتولّى أمري ..
من هو رجلكِ الذي تعتمدين عليه ؟!

وبصوتٍ يختالُ فرحاً : " فيصـل "

إذن ، من الآن لا تنشغلي إلا بي .. عوضيني عن كل شيء ، اتركي الهم والعناء لي ، دثريني عن كل ما يصدفُ لي ..
أرجوكِ يكفي ما مضى من دموع ، ليس ذا وقت الدموع ليس الآن وقد حصلت عليك يا سارة !

طال حديثنا وراح يتسامقُ شعراً ، وراحت أحلامنا تشقُ عباب الليل ، وبتنا نختارُ أسماء أطفالنا و طريقة عيشنا وتفاصيل أيامنا القادمة..حتى هزيع الليل الأخير!
على صوتها نمتُ اللية الأسعـد منذ شهور .. وحلمتُ بها ...رأيتها في ذلك الحلم المكرور !
رأيتها تركض خائفةً..لكنها حين رأتني لم تهرب مني ، عندما واجهتني ارتمت في حضني وأخذنا ندور في حقلٍ من الورود والفراشات يرقصن لنا ..
وأفقت من نومي .. لم يكن كابوساً كتلك الليالي.. كان حلماً ناعماً كملمس خديها ، ولم أكن أبكي كتلك الليالي .. كنتُ رغم نعاسي أبتسم !


* * *



غادرتني أوجاعي من حيث أدري ولا أدري ...كل شيءٍ تحسّن وبات أفضل ، ماعدا الشاش الذي يحيطُ برأسي كـ قبة ،
تمر الليالي متوشحةً بصوت سارة ، وأحلامنا التي ننسجها ثم نعلقها على عتبات الفجر، وننام وعلى ملاحنا بسمةُ أطفالٍ أرهقهم اللعب وامتلأوا بالفرح !
وها أنا أتجهُ لبيت والد سارة كما طلب مني ، ذهبتُ إلى البيت الكبير مظفّراً ،
لا أدري ماذا يريدُ مني لكني أعرف أن الأمر بدأ يكون جدياً ورسمياً أكثر ..
دخلتُ البوابة الكبيرة دون خوف .. وسرت مع الأشجار دون خوف ، ورفعتُ عيني للنوافذ القريبة من الحديقـة حيث اتفقنا !
هاهي عينا سارة ترقبني كما أخبرتني أنها ستفعل.. مشيتُ بخيلاء ولمحتها وابتسمتْ !
وصعدتُ الدرج الطويل ودلفتُ باب المجلس لأجد والدها بانتظاري ...
تصافحنا في اقتضاب ، عادت ملامحه الجامدة ، ربما كان مرهقاً من أشغاله الكثيرة ، لم أتبيّن سروره من احتقانه ، كان جامداً كالجدار الذي خلفه ...

وبنبرته المتضخمة :

-حسناً، أين سوف تُسكِن ابنتي؟!

ألقى سؤاله بنبرةٍ لم تعجبني ! شممتُ في نبرته استهزاءً لم يعجبني كأنه كان يضحك من عجزي..

- سآخذ شقةً كبيرة ، مرتبي يفوق السبعة الآف وأستطيع تدبر شقةٍ فاخرة إن أردتْ ..

هل ضحك حين ذكرت له مرتبي أم أني أتوهم ؟! وصوتُ احتكاكٍ حديديٍ بسيط يرتمي في حجري ..
رمى إليّ بميداليةٍ فيها مفتاح ، رماه كما يرمي أي شيءٍ تافه على رجلٍ تافه ، كأنه كان يقول " لا تُكثر الحديث خذ واصمت " !

- ابنتي يافيصل اعتادت مستوىً من المعيشة لن تقدر عليه أنت ، ولن أرضى لها بأقل من ذلك ، هذا مفتاح فلة من مخططٍ امتلكه ..

ماهذه الوقاحة ؟!!... على الفور انبريتُ للأمر :

- عفواً أبو مشاري .. ولكني لا أريد صدقةً منك ، إن سكنتُ هذا البيت فتأكد أني سأدفع لك أجرته ...

وبنفاذ صبرٍ بدا واضحاً :
- هل تعلم أين هذا المنزل ؟ في أرقى مخططات شمال الرياض، قيمته تقارب المليونين .. ثمن تأجيره لن يفيه مرتبك السنوي !
تعمدتُ أن يكون بعيداً جداً لأني ، وبصراحةٍ تامة ، أريدُ أن تكون ابنتي في معزلٍ بعيد عن .. عن عائلتك !

قالها وهو يطوّح يده بإزدراء، كما لو كان يهش ذبابةً عن مائدته !
وكتمتها في قلبي وأنا أتذكر قول أرسطو " التضحية سهلة إذا وجدنا من يستحق " !


- غداً تعال إلي في المكتب ، سيرافقك من يرشدك للبيت ولن تحتاج توثيقاً ، البيت باسم ابنتي وهو هديتي لها على كل حال ..
لا أريد للأمر أن يطول أكثر ، أريده أن يتم بسرعة ، وأرجو أن تتدبر أمر عائلتك ليس لي شأنٌ بعائلتك كل مايهمني في الأمر سعادة ابنتي ..
فقط سأخبرك بأمر وحيـد :انتبه أن تأتي إليّ يوماً غاضبةً أو حزينة !


انتهت مقابلتنا المقتضبة ، قامَ وقمتُ على الفور .. لا أدري أكان يهددني في جملته الأخيرة !؟!
أو كان يريد أن ينفّرني من الأمر برمّته لأنسحب ، ثم يلقي اللوم عليّ أمام ابنته !
أم هذه نبرته ويجب أن أعتاد عليها ؟!
وشعرت بارتياح حين تذكرتُ صرخته في ولده حين جئتهم قبل هذه المرة !
وتذكرتُ خوف تركي واحتقان دمعه وصمته ،لم يقل لوالده حرفاً بعد ذلك .. نعم هو كذلك دائماً فيما يبدو،
يبدو أن شخصيته أقوى مما ظننت !


وخرجتْ ... وصوتُ هاتفي يرن برقم خطيبتي :

- هلا فيصل شرايك بالمفاجأة !
- أي مفاجأة ؟ هل تقصدين البيت ؟!
- هههههه نعم ، أخبرني والدي بالأمس انه هدية زواجي .. تركتُ الأمر سراً لتسمعه من والدي ..أليس أبي رقيقاً يا فيصل ؟!

وأنا أتجه لسيارتي قلت في ذهول :

- بلى رقيق ... رقيقٌ جداً !


أغلقتُ الهاتف سريعاً كأني أخفي سارة ، حين جاء صوتٌ يناديني :

- فيـصـل !


كانت سيارة الرنج البيضاء تحملُ الفتى الشقيّ، شقيق سارة .. بدا وكأنه ينتظر خروجي لفترة !
ترجل تركي من سيارته ، وقف في وجهي منتصباً في ثبات ، ووقفتُ في وجهه،
كنا متواجهين في قلب الشارع الهاديء يعتلينا الصمت وعينانا تتحدث بالكثير ..
كانت ملامحه أهدأ من ذلك اليوم .. يبدو أن ضربي كفل له بعض الراحة والإنتقام ، وكانت ملامحي مذهولة من كل شيء حدث في الداخل ..

- عرفتُ أن كتب كتابكم وزواجكم بعد الغد !
- نعم ، والدك يريد أن ينقضي الأمر بسرعة ..
- حسناً،أريد أن تعرف شيئاً واحداً، هل تشاهد هذا المنزل ؟! - وأشار بسبابته لبيتهم الكبير - :
ليس لك فيه شيء .. وليس لك علاقةٌ بنا من قريبٍ وبعيد ..فقط أنت زوج سارة ،
تأخذها ثم تنصرف من حياتنا ..

- .....................

- لولا الظروف التي تعلمها يافيصل ،نعم ـ لولا الفضيحة ، ما كنا قبلنا بك .. يجب أن تعرف ذلك جيدا ً !

قالها وانصرف قافلاً لبيتهم .. تركني في قلب الطريق واقفاً .. يبدو أن قلبه من السواد بما يكفي ليجعله لا يغفر لي مطلقاً !
حين وصل باب منزلهم إلتفت نحوي مرةً أخرى :

- يجب أن تعلم أني لستُ نادماً على ضربك ، لن أتوانى عن تكرارها لو سنحت الفرصة!

ماالذي يجبرني على الصمت وتلقي الإهانات ؟! لا شيء ..
قبل أن يدخل بيتهم ... صرخت فيه :

- تــركـي :

شكراً لضربك ، أزاح عقبةً كبيرة ، لولاك لما كنتُ الآن أقترب من شقيقتك لهذا الحـد !
لكن قبل أن تكرر الأمر .. يجب أن تفكر ألف مرة ، صدقني أنتَ لا تريد مجرد المحاولة !


فتحت باب سيارتي وانطلقت، تركته واقفاً في ذات الذهول الذي أعيشه .. هل كان يتميز من الغيظ ؟
لا أعرف .. ولا أريد أن أعرف ..
..اللعنة على هذا الصغيـر، آخر ما ينقصني عبثُ الأطفال !





* * *



32







أتمدد على فراشي في غرفتي الصغيرة، في بيتنا الذي ليس كبيت أبي مشاري بالطبع!
أشعل سيجارتي وأتركها تطعن مابين شفتاي وأفكر في كل شيء حدث هذا اليوم .. وما سيحدث !

كنت قد عدتُ من الخرج منهكاً ، نمت ساعتين وخرجتُ لأتفقد البيت الجديد ، اللعنة على فهد منذ يومين وهو لا يُجيب اتصالاتي ولا يريد أن يتصل !
كم تمنيتُ لو كان بجواري ، أشعر أني وحيد وأريد الدعم ..
لن يساعدني والدي ولا أشقائي ولا حتى أنتَ يا فهد ؟!! هذه الوحدة في فرحتي قاسية ، أشبهَ بيتيم في يومٍ ميلاده !

كنت وقفتُ أمام بيتي، بيت سارة! كان صغير المساحة من طابقين لكنه حديثٌ في كل شيء ،
يعتليه القرميد الأحمر ويكسو حوائطه الرخام ويفرشه السيراميك الفاخر ، مشجرٌ في مساحاته الخالية ، حديقته غنّاء ..
يصطف مع بيوتٍ ثمانية تشبهه في تفاصيله ، هذه البيوت التي تُعلق أمامها يافطةٌ تحمل اسم الثريّ أبو مشاري والد حبيبتي !

تأملتُ البيت أحدث نفسي :
غداً كتبُ الكتاب السعيـد يا سارة ، وبعدها سنسكنُ هاهنا ، لنفتض غشاء أيامنا الحقيقية ، كل مامضى كان وهماً كان حلماً ، الحقيقة تبدأ غداً..
المطبخ حديثٌ يطل على الصالون، كل هذا ينفتحُ على المجلس دون جدرانٍ عازلة ،
الموكيت والأثاث أنيق ، لا أدري متى جُلِب هنا ، أظنه ضمن هديّة الوالد لابنته ..
حرف الدرج ينتهي عند ردهةٍ صغيرة ، يتفرع منها جانبين .. غرف النوم و غرف الأطفال القادمين ، وذكرت سعود والعنود أبنائي من سارة وابتسمتْ ..
وتخيّلتُ سمراي صاعدةً معي في فستانها الأبيض ، وأقسمتُ لأحملنّها ولن تسير .. وذكرتُ اختلائي بها دون خوف ..
وشعرتُ أني أحلق رغم كل شيء، وتمنيتُ من الأيام أن تسرع أكثر ، لماذا بات سيرها بطيئاً !


أشعل سيجارتي فوق سريري وأفكر/ كيف تتلقى العائلة أخباري السعيـدة !
من المؤكد أن إعصاراً كبيراً سيمر بالبيت هنا .. حينها سأكون ساهراً مع سمراي على أنغام الحب ..ولن أعبأ بأحدٍ سوى أمي ..
آه يا أمي ، كانت هذا الصباح تقرّب لي كأس الشاي قبل خروجي للدوام المدرسيّ ، شعرَتْ بفطرتها أني سعيدٌ جداً ..
كانت تقفُ فوق رأسي نافثة سور المعوذات وتحميني من كل عين !
كنتُ أريد أن أبعدها عني .. أردتُ أن أقول لا تقتربي مني أكثر لكي لا تُصدمي في رحيلي .. لكني تركتها ..
أظن 25 عاماً من الالتصاق لن تزيدها هذه الدقائق سوءاً !!


ورنين هاتفي مرةً أخرى يغني ، شاهدتُ الرقم واشمأززتُ على الفور ، " هيفاء يتصل بك "!
كانت كاذبةً جداً في كل ماتخبرني به ، هكذا عرفتُ من أحاديث سارة المخالفة لما تجيء به صديقتها .. يا للزاجل سيء الأمانة !
لم أقل لسارة أن صديقتكِ سيئةٌ بما يكفي لتتجنبيها ، لكني عرفت أن هيفاء انقطعت عن زيارتها ..
وأن بقية الأخبار التي تأتيني نقلاً على لسان الصديقة الغادرة كانت محض هراء !


- ألو نعم !

كانت لهجتي جافة ! ماعادت تعنيني ..

- هلا فيصل ، ها وش مسوي !؟

- نايم .. و رجاءً لا تتصلين خلاص ..

- خيير ؟! شفيك !! فيصل لا تكلمني كذا .. انتبه !

هل كانت تهدد؟ يا للوقحة حقاً !
شعرت أنها تريد إتمام عبارتها " انتبه وإلا لن أجلب لك أخبار سارة "!
وأراد شيطاني تلقينها درساً لن تنساه :

- لن أنتبه.. ولن أحترمك ، ولا أريد أن أشاهد رقمك في هاتفي مرةً أخرى أيتها الكاذبة ..
وعلى ذِكر سارة ، أنتِ مدعوةٌ لحفل زواجنا بعد أيام ! " انقلعي "..
.. أغلقتُ السماعة في وجهها كصفعةٍ على خدها القبيح !





إذن اليوم .. يوم كتابي .. ومع كل خطوةٍ أخطوها عبر درج بيتنا نازلاً للفناء حيث والدي .. كان قلبي ينقبض وأنفاسي تتلاحق !
لا بأس من محاولةٍ أخيـرة.. قلبُ والدي عرفته مطولاً .. كبيرٌ بحجم غضبه الذي يتظاهر به !
يجلس ماداً قدميه إلى الأمام متكأً على الحائط ، بلغ به عتابه أنْ لم يسأل عني يوم ضُربت من تركي .. لم يزرني ،
كان يبعث أشقائي يتلمس منهم أخبار صحتي ، كان كيعقوب يبعثُ أشقاء يوسف في المدائن سائلين ،
كان مهتماً وقلقاً عليّ ، فقط يحاولُ أن يظهر بمظهر الرجل العاتب جداً .. لكني أعرفُ من أشقائي أسئلته المتلهفة .


اقتربتُ منه كثيراً ، لم أقتربْ منه منذ خصامنا ، لم نتحدث حتى ..
أمسكتُ رأسه بين يديّ وطبعتُ عليه قبلة .. قبلةٌ هتفَتْ لها عيناه وأبرقت .. كأنما كان ينتظرها مطوّلاً ..

- والدي ، هل تذكر حديثنا قبل شهر عن تلك الفتاة !؟

أومأ لي برأسهِ وكأنه يقول : نعم أذكر ، أذكر إغضابك لي لكن لا يهم الآن طالما جئت لطلب السماح ..

- هل فكرتَ في الأمر جيداً يا أبي ؟! أليس ثمة أمـلٍ أخيـر ؟!

ولم يجبني .. عرفت منه إستحالة الأمر ..

قبلتُ رأسه أخرى وأنا أخبره بحقيقة أمري :

- والدي .. لقد وافقوا !
..تقدمت لهم ووافقوا والأمر بات مقضياً ..أرجوك يا ...

تحوّل رأسي يميناً باتجاه الباب بسرعة ، كانت لطمة والدي قويةً للحد الذي دمعت معها عيني مباشرةً ..
كانت حرارة الدم تلسع خدي .. و عيناهُ استحالتا دائرتين من بياض كعادته كلما فُجِع ..
وأردتُ تقبيل رأس أمي .. وكان يتصاعدُ في جسمه شباب العشرين فجأة ، كان يمسك بي من تلابيبي ويرميني بعيداً عنها بكل قوة ..
وسقطتُ أرضاً .. ويده وسبابته ترتعد غضباً تُشير إلى الباب : براا .. اطلع براااا


ومسحتُ دمعي وخزيي وتركتُ أمي قابضةً صدرها، ربما تعاني اختناقاً اعتادها كلما ضاقت .. وأردتُ الإقتراب منها وصفعني مرة أخرى ..
كأنما كان يحميها من عدو ..

وانسحبت إلى الباب أجر أقدامي عبر الفناء .. ونظرتُ لأمي مرة ً أخرى ووجدتها ترمي وجهها بين يديها وتترك للدموع حديث عتابي ..
وأدركتُ أن الوقت فات لكي أتراجع .. وأدركتُ أني في منتصف البحر وليس ثمة خيار سوى الاستمرار في إبحاري ،
وفتحتُ الباب لأخرج من بيتنا للأبـد :


- فيصل ..

ونظرتُ لوالدي الذي يناديني بصوتٍ أشبه ببكاء، كان يرفعُ يديه عالياً يهاتف السماء :

- الله لا يوفقك دنيا وآخره
الله لا يوفقك دنيا وآخره


وأغلقتُ الباب خلفي .. فات الوقت لكي أتراجـع ، اقبلي جميل اعتذاري يا أمـي !


* * *



لملمتُ حزني وخيبتي في المساء ، ومسحتُ عن وجهي آثار لطمة والدي ، لم أجد مهنئاً لي إلا " مجيد " حلاّقي التركي ..
كان يحلق لي هذا العصر موديل " السكسوكة " التي تحب سارة !

رغم فرحي ، بقيتْ في القلب غصةٌ جاهدتُ في دفعها بعيداً عن أعينهم !
أعينهم هؤلاء المنعّمين الذين اقتحمتُ مجلسهم بأمر الحب ليس إلا !
كان مجلس أبو مشاري يمتليء بأنسبائه وأصدقاءه الذين لا أعرفهم ، غارقاً في البِشت الأسود الذي ابتعته أيام تخرجي ، ما ظننتُ أني سألبسه وحيداً مرةً أخرى!

كلهم في هذا المجلس الأثير لا يشبهونني .. ليس فيهم أبيضُ الوجه واحد .. كلهم من عِلية القوم الذين اقتحمت مجلسهم عرضاً ..
كلهم يشبهون بعضهم وأنا الغريب وحـدي .. حتى الشيخ الذي يردد الخطبة الآن قمحيّ البشرة ..
ووالدُ سارة يردد خلف الشيخ زوجتك ابنتي ..
وتركي صامتٌ كصمتي أو أشـد ، والرجال يتفرسونني مبتسمين .. أتُراهم هازئين الآن ياقلبي !؟
ويسألني الشيخ أتقبل ؟ فأوافق ، راجماً بموافقتي كل أواصر عائلتي وقرباها ،
وأردتُ البكاء على أهلي لكني آثرت الفرح بسارة ..

وأعطوني ورقةً يخبرونني أني بتَ في حرزٍ من أذى الرياض وأهلها ، وأنّ ساره صارت في عصمتي ..
وشعرتُ بسعادتي في وجل ، وهذا البكاء اللعين يكاد يدهمني كلما ذكرتُ اختناق وجه أمي ..
لماذا حين قبضتُ على حلمـي جازيتني بالصفع يا أبي ..
ها أنا على وشك البكاء بين الغرباء يا أبي ..
وأفقتُ على أصوات الرجال الغرباء تدعي لي بالتوفيق ..
وبحثت في الوجوه عن بدر ومحمد وخالد ووالدي فلم أجد إلا أناساً لم أعرفهم ، كانوا يباركون لي ..
واختفى عن مشهدي رجالٌ تربيتُ بينهم صغيراً ونشأتُ كبيراً !
وتمتمتُ بصوتٍ كسير لكل وجهٍ غريبٍ أمامي : الله يبارك فيك !

كانت ورقة الزواج تكاد تتمزق في يميني ، كنت أقبضها بقوة .. لم تكن أي ورقة :
كانت مستقبلي الذي ناضلتُ من أجله ، ووجه والدي المتألم وحزن أمي وانقطاع إخوتي عني ..
.. كانت ورقةً بذلتُ لها ثمناً لم يبذله رجلٌ من قبلي قـط !


* * *


يتقدمني والدها وشقيقها في ممرٍ ضيّق بين أشجارهم الكثيفة ، وأصعدُ معهم عتبات الدرج في صمت ، ويُفتح باب البيت الكبير من الداخل ..
ينطلق الأطفال في وجهي باثّين الورود وألواناً تتصاعد للثريّا المشمسة ، وتصرخُ زغاريد النساء تزفني صاعداً ..
..ليس بين هذه الأصوات السعيدة صوتُ أمي !


الصالة الكبيرة تتضوع أطيب أنواع العطور والبخور ، وأسير حثيثاً مع الرجلين تجاه الغرفة المغلقة ، غرفة ٌ يصلني ضجيجها رغم الأبواب المغلقة ..
ويُفتح الباب على مقدمي ..
نساءٌ لا أعرفهنّ يصفقن لي ويضحكن باشاتٍ في وجهي ، ليس فيهنّ من تحجبت عني ، لسنَ كشقيقاتي ولسنَ حيّياتٍ كأمي !

الأطفال يصطفون عند قدمَيْ سارة فوق الكرسي الأنيق ، وسارة في فستانها الأبيض خجلى ، يغطيها سترٌ شفافٌ رقيق ، تقدمتُ ورفعته ..
تأملتها ، أجمل جميلات الدنيا !
طبعتُ على جبينها قبلةٌ صرخت لها صديقاتها الفاتنات .. وقامت سارة بجواري تتعضّد يدي ، واعتلى صوتُ المعازف خلفنا ..
قاموا ورائنا يرموننا بالورد وقصاصات الورق الملوّنة ..
قبلها والدها وقبلته ، وقبلني والدها وقبلته لأول مرة !
وتعانقَتْ مع شقيقها عناقاً حاراً لا نعانقهُ محارمنا .. هنا كل شيءٍ يختلف عني !
وباركتْ لي أمها .. لم تسأل عن أمي ، لم تسألني واحدةٌ منهن عن شقيقاتي ..
وعانقت الأم فتاتها ولم يعانقني أحدٌ من أهلي !


وسِرنا مع الدرج يدفعنا الغناء تكاد ترفعنا أكف الحاضرين السعداء ..
زغاريد المتبرجات حولي تُخبرني أني كنت أعيش في بيئةٍ مغلقة يجب أن أرميها خلف ظهري للأبد !
كنتُ أشبهَ بكائن قدِم من كوكبٍ غريبٍ جاء للأرض أول مرة !
وقلتُ لسارة " مبروك " ، ونظرت إليّ وأسبلت عيناها أرضاً ولم تجبني حياءً ..

ووصلنا الباب ، واصطف الأطفال مشيّعين ، وبدأتِ الفتيات يلوّحن بيديهن صفاً واحداً ، والنساء بين ضاحكةٍ ومزغردة ...
واقتحمنا طفلٌ صغيرٌ يبكي " خالة سارة بتروحين خلاص؟ " وحملته سارة ، " فيصل هذا بدر ولد اختي رحاب "
وذكرتُ أبناء أشقائي وشقيقاتي وادعيتُ القوة يا قلبي .. و قبلتُ صغيرهم كأني أقبل صغارنا النائمين .. أطفالنا الغيّاب عن مشهد فرحي ..
بكاء الأطفال حول سارة يخبرني أنها محبوبة ، وأني الطفل الوحيـد المحظوظ فيهم !

وتقدمت شقيقاتها يباركن لي واحدةً بعد أخرى ، رحاب فريال منى عهود .. كلهنّ يشبهن سارة ،
كلهنّ لم يتكلّفن عناء حجاب ونقاب ، كلهنّ أنيقاتٍ لحفلٍ جاء سريعاً مباغتاً ..
كيف صِرنَ بهذه الأناقة فجأة .. وذكرتُ شقيقاتي وابتسمتْ .. وأدركتُ أني مغامرٌ مجنون ، دخلتُ عالماً ليس عالمي أبداً


وفتحتُ باب سيارتي الفاخرة التي استأجرتها لهذه الليلة ، وركِبت سارة ، وتحلّق الأطفال والفتيات مودعين ..
وفُتِحت بوابة البيت الكبير ، وخرجتُ بسارة من براثن الأغنياء الذين لا أعرفهم .. الغرباء الذين لم أعتد عليهم ..
كان حفلاً مبسطاً .. لكنهُ عظيمٌ بحجم الجالسة بجواري ..
لم يأتِ معي أحدٌ من أهلي ، تركوني في مشهد فرحي وحيداً ، ليس مهماً ياقلبي لا تحزن ، المهم أنني وأنتَ أتينا !
متجهين لبيتنا ، أو بيت والدها أو بيتها هي ، لا يهم ، المهم أن وجهتنا وحيـدة !
ورفعتُ يدها حين أغلقوا البوابة وانقطع الضجيج عنا ، وقبلتُها .. وانطلقنا ...


عشر دقائق بين بيتنا وبيت أهلها ، لكنّ بين بيتنا وبيت أبي وأمي أربعون دقيقةً كاملة !

- يا لجمالك ياسارة !

وكانت تقول باسمةً : فيصل خلاص !

أتُحرجين مني ونحن المتجهين لعشٍ وحيـد !
هاهو البيتُ السعيد يرقص في أنواره الصفراء مستقبلاً حزب السعداء ...
وفتحنا باب بيتنا .. ورميتُ بِشتي الأسود عالياً ، ورميتُ عبائتها بعيداً ، وحملتها لم آبه بصرختها الخائفة ..
انطلقت أشق بها درجات السلم ، واقتحمتُ غرفتنا الجديدة
وأغلقتُ الباب وقبلتُها لأقول للرياض ها قد انتصرت أخيراً ..
وذُبت في بحرها حتى غرقت .. وانزوت في حضني كـ قطةٍ مطيعة ،
وقضينا ليلةً حلمنا بها طويلاً ، ويوم تحققت ، كانت سعادتها ألذ مما تخيلنا !

وانبرى ليلنا نشرب الحب خمراً .. سكِرنا حباً وثملنا عشقاً .. وأنهكنا الحب وأنهكناه فارتمينا نائمين ..

أفقتُ من نومي بعد إغفاءةٍ طويلة ، ورنوتُ لوجهها المتعب ، كانت يديها تمسك بيدي كأنما تخشى ابتعادي ..
وأدركتُ أني في حقيقة أمـري ولست أحلم ..
ومسحتُ على خصلاتِ شعرها .. وتذكرتُ أهلي وأمي .. وارتميتُ في حضن سارة لأنسى .. ونسيتُ كل شيء !




الجزء الثاني انتهـى ..

يتبع ....


القلم الحر غير متواجد حالياً  
التوقيع
( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي )




أضغط على الصورة لدخول المدونة
رد مع اقتباس
قديم 17-05-11, 04:17 PM   #24

القلم الحر

نجم روايتي كاتب و شاعر متألق في القسم الأدبي

 
الصورة الرمزية القلم الحر

? العضوٌ??? » 127837
?  التسِجيلٌ » Jun 2010
? مشَارَ?اتْي » 1,320
?  نُقآطِيْ » القلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond repute
افتراضي

الجزء الثالث :


33

ما أجمل صبح الرياض ، ينافسُ ليلها وأظنّه أحق بوصف الرقة منه ، ها قد بدأت الأجواء تميل للبرودة وآذن الشتاء بدخول ..
الشمس بدأت تقتصدُ في لهبها وبات شعاعها يخترقنا لطيفاً ..
باتت الغيوم كثيراً ما تصطف في كبد السماء ككراتٍ قطنيّة ،
تجحب الشمس وتنشر في الأرجاء ظلاً يجعل من الرياض مدينةً تشبه نظيراتها في أوروبا ..
تحتجب الشمس .. لكن شمس الحب في هذا البيت الجميل تسطع ليلَ نهار!
والبرد الذي بدأ يتسللُ في الجسد كنتُ أحاصرهُ بدفء سـارة

عندما أُفيق كل صبح .. أبادر فوراً لتفحص الضفة الأخرى من الفراش.. لفرط شوقي ، وربما لقطع شكوكي بأنها لي و لستُ أحلم !
تتمددُ بجواري سارة .. كأننا ننام على شاطيءٍ أعيانا الإبحار .. أو راقدين على ضفاف ساحلٍ ناجينَ من غرق !
سبعة أشهرٍ من العناء كانت تجديفاً عكس التيّار ، نرتمي على فراشنا قد حظينا بالحياة مجدداً ، منتصرين رغم كل شيءٍ على كل شيء !


يا لهذه السمراء ، قبيلةٌ من النساء .. تعرفُ كيف تسلبني عقلي كل لحظة ، تتركني أتأملها أحياناً غير مصدق !
حين تتحدث .. يشبه حديثها الشعر ، حين تضحك .. ضحكتها تشرح للموسيقى شكل النغم ،
حين تريد أن تغويني .. لا شيء يمنعها أن تفعل !

أفيقُ حيناً .. لأجدها قد نزلت للحديقة قبلي .. تحب القراءة في هذه الأرض المفروشة بالعـشب ،
فأخطو عبر الدرج .. أتهادى إليها مشتاقاً .. ساعاتُ النوم كانت غيابنا الوحيـد عن بعضنا !
أجدها تخطو عبر الخضرة باسمةً كأنها تجيد لغة الورد وأوراق الشجر ، فأتأملها لأعرف كم بتّ محسوداً..
أتأملها لأروي عيني من منظر انتصاري ، وأهيمُ بعشق نفسي قبل عشقها ، هذه ثمرةُ إقدامـي !
عندما أشاهدها أرى فيها حلمي متجسداً .. يذكرني مرآها كل مرة أن الأحلام مهما صعُبت .. بقليلٍ من الإصرار تتحقق !

" عندما نكف عن الحلم ، نكف عن الحياة " هكذا قال فوربس ، وأظنني في قاموسه الآن بتّ ميْتاً !
لكني ميتٌ في جنـة الحـب وأرجو أن لا أعود لدنيـاكم!

عبثيةٌ هذه الفاتنة ، أنظرُ لها مبتسماً ، ترتدي بلوزةً طويلةً! هكذا غير عابئةٍ بالبرودة .. كأنها تعرف أن كل شيء ٍ يحبها ولن يؤذيها .. حتى الشتاء !
وتلمحـني .. لتفتحَ ذراعيها .. كأنها تنادي هذا الطفل الذي سهر معها كل الليل ، علمتهُ الغرام والغواية وشرحتْ لهُ مامعنى أن يكون المرء محظوظاً جداً !
أحتضنها كغائبٍ عنها طويلاً .. ضاحكاً من شيطنتها من عبثها من لباسها الذي كنتُ لا أشاهده إلا عبر الأفلام أحياناً ..
تدور الحديقة بنا .. و****بُ الساعةِ تدور سريعاً ..
وينصرمُ يومٌ حزينٌ على تركنا .. ليأتيَ آخرُ جديد، سعيدٌ بتلصصه على تفاصيلنا .


حتى قيادة السيارة باتت أمراً محبباً ، أن تكون سارة بجواري هذا يجعل من القيادة شيئاً مسلياً ..
تتكيء بجواري كطفلٍ لا يكف عن الحديث ، وحديثها لا يمل !
راشد يغني لنا ونحن نخطرُ في شوارع عاصمتنا التي صارت ممراتها وروداً وأرصفتها مروجاً عشبية ..
وأسألها عن " يا ويلي " هل تذكرين إهدائك الأول لي .. وتضحك ، وتروح تغنيها ..
وتقول سأرقص لك في الليل على أنغامها ..فأتذكر الليل، لأعرف أني الرجل الأسعد في هذه المدينة !


تفاجئني كل يوم بأناقةٍ ليست كاليوم الذي سبقه ، تتجدد باستمرار كعارضة أزياء ،
تعرفُ كيفَ تبقيني في سحرها ، كيف تنثرني على مائدة الرغبة التي كانت حراماً قبل أيام ، قبل ورقـة !
ترتدي ماكان محرماً في بيتنا على شقيقاتي !
سألتها ضاحكاً ، بربكِ هل ترتدين في منزل والدكِ هذا الجينز الضيق والشورت والبرمودا .. أم أن هذا لي وحـدي !
وكانت تضحك من بلاهة سؤالي ،نعم تلبسُ كل هذا بين أشقائها ووالدها ولا ضير في الأمر تاركةً تلك العُقـد لأهل العُقـد ! ثم تختم إجابتها بسؤالي عن شقيقاتي ..
وابتسم لها وأنا أهزّ رأسي بالإيجاب كذباً .. أخشى أن نكون على هامش التمدن في عينيها !


شيءٌ وحيد كان يضايقني ، إلحاحها عليّ كلما حل وقتُ صلاة ، وأنا الذي لم أصلِ ثلاثة أشهر .. لم أخبرها بتطوّراتي الجديدة !
أهربُ للفناء، للغرفة المجاورة،أخرج قليلاً ، وأقول : صليت ! ، وكثيراً ما كنت أراوغها فتنسى ..
رغم كل شيء.. رغم عشقها للغناء والرقص .. رغم صداقتنا المحرّمة سبعة أشهر ، رغم لثمتها التي تفضحُ أكثر مما تستر ، كانت تصلي كل فرضٍ في حينه !
كنت أتأملها طويلاً حين تصلي ..تؤديها بخشوع ..تصلي بطمأنينة ، تندمجُ في أدائها تسجد وتركع وتطيل كممتنةٍ لخالقها ..
وبالرغم من أني لم أعد أؤديها ، إلا أني أشاهدها تصلي بفرح ..حينها لا أدري لماذا أحبها أكثر ،
هل لأنها تذكرني بأمي ، أم أنّ في داخلي بقايا أوهمُ نفسي بأني اجتثثتها للأبد .. لا أدري !


ونخرج للمطاعم ، ونشبعُ إلا من الحب ، و" زهرة " الطاهية المغربية التي قدِمت مع هدايا الوالد الثمينة .. كانت في شبه إجازة ..
في الصباح الثاني قمتُ على ضحكات سارة ، كانت تحادثُ أحدهم بحفاوة ، قرّبت لي الهاتف وجاء صوتٌ لأول مرةٍ أسمعه :

- " مبروك يا عريـس "

شقيقها الكبير " مشاري " ، يدرس في أمريكا منذ ثلاث سنين ، جاء صوتهُ يحادثني بمودةٍ كبيرة ،
كانت لهجتهُ ألطفَ من والده وشقيقه الصغير .. ربما لأنه يقيم بجوار تمثال الحرية هناك بعيداً عن تعقيدات هذه العاصمة الفاضلة ..

كانت سارة تسألني بحماسة وسعادتها تكاد من فرطها أن تطير :

- ها ماذا قال لك ؟!
- قال ضعها في عينيك ، تصوّري ، هل كنتُ أحتاج وصية ً من أحدهم لأفعل ! ههه

- حسناً فيصل ، متى تريد مني أن أذهب للسلام على أهلك ؟!

آآه من مكدرات الصفو حين تمرّ من حيث لا ندري !
هذا السؤال المتكرر ، كان أسوأ مايحدث لي في أيامي السعيدة ، كان كشفرةٍ حادة تجرحُ لحظات الفرح ،
ورحتُ أزيل هذه الفكرة المختمرة في رأسها :

-سارة مارأيك أن نخرج للنزهة غداً ، سأريكِ قريتنا كما وعدتك ؟!

على الأقل ، قريتي رائحـة أهلي !
أخذها الحماسُ بما يكفي لتنسى ، كانت كطفلة ، أستطيعُ صرفها عن أي شيءٍ تريد ببعض كلمات..
تحدثني عن الصلاة عن زيارة أمي عن ذهابي لمجلس والدها فأهرب منها بمراوغةٍ بسيطة .. وتنسى !

* *


في الصالة تركتُ سارة نائمةً مع أحلامها ، حين كنتُ أحادث شقيقي محمد :

- مبروك يا فيصل !
- الله يبارك فيك .. ما أخبار أمي


كنتُ متلهفاً لأخبار أمي ، كأني أقيمُ في دولةٍ بعيدة .. لا تجمعنا مدينةٌ واحدة !

- بخير الآن ، لكني أخشى على والدي ، والدي غاضب ، لا يتحدث كثيراً !

آآآه يا أبي ، وآه يا صفعتهُ تلك .. وآه يا عينيه يوم استحالتا كرتين بيضاوين غضباً ، كل هذا لأجلِ فتاةٍ قام قلبي باختيارها !


- زوجتي يامحمد تسألني عن أهلي كل يوم ، أخشى أن ..

- انتبه يا فيصل ! لا تحضرها أرجوك .. أخبرها بالحقيقة ، والدي يرفضها تماماً ،أنت تعلم أنها ستسمعُ ما تكره !

- لماذا يحدثُ لي كل هذا يا محمد ، لماذا لا تكتملُ سعادتي ..
هل كُتب عليّ أن أواجه الدنيا وحيداً حين أحزن وحين أفرح .!

- لا أدري ماذا أقول لك.. ثم هناك خالد يافيصل، أنا لا أخيفك لكن أخشى أن ترتكب حماقةً بمجيئك، أتمنى حقاً أن لا تلتقيه ، أشدنا غضباً

- اللعنة على أخيك المجنون ، يغرقُ في حمى الأقساط والديون ويتغنى بقبيلته وحبها ..
أنا أيضاً أتمنى أن لايلتقيني لألاّ يسمعَ مني مالا يحب !

عادتْ لحظات الكآبة تهطلُ من حولي ، بدأتْ تحاصرني لتنسِلني من خيوط سعادتي ..
لن أسمحَ لأحدٍ تعكير صفوي ، ولا أنت أيها الضيق الذي تستميتُ في دهسِ فرحتي .. قمتُ مستعيناً عليهِ بحسنائي الراقدة في سريري ،
أتأملُ وجهها البريء وهي نائمة .. كانت أشبهَ بطفل ، طفلٌ لعِب وتعِب ثم نام وعلى ملامحه بقايا فـرح ،
يدها ترتمي على مكاني الخالي من الفراش .. تبحثُ عني حتى في غمرة نومها..
وتخيلتُها مجروحةً من كلمات خالد أو أبي .. وأنّ عينيها الجميلتين النائمتين تمتلئان دمعاً .. وهززتُ رأسي كما لو كنتُ أطرد هذه الفكرة اللعينة ..
ومسحتُ على رأسها في تعاطفٍ أيقظها من نومها .. أفاقت لتسألني :

- فيصل ، ماذا ، تريد شيئاً

كانت جميلةً رغم النعاس وشعرها المنكوش ، كان يعطيها ملاحةً بادية ،
ضحكتُ من جمالها الذي لا يُقهر رغم فوضى النوم..كان شرساً لا يُهزم .. طبعتُ على جبينها قبلةً ناعمة :

- لا شيء ، عودي للنوم .. غداً ينتظرنا طريقٌ طويل

..على بسمتها الهادئة كنت أرتمي بجوارها لأنام وأنسى كل شيء !

* * *


الجو غائم في الصباح ، ينطلق الموظفون لوظائفهم والطلاب لمدارسهم حين كنت وسارة نتجه لقريتنا ..أنفّذ وعداً قطعتهُ بعد إلحاح !

هذا الخط الطويل، كان مملاً ومرعباً أوقات العطل حين تمتطيه العرباتُ بكثافة .. اليوم كان هادئاً ، أنتصرُ على ضجرهِ القديم بخير رِفقة !
أنطلقُ عبره أنا وسارة وأشعر أنه بات أقصر مما اعتدته، كأنما طويَ طرفاه فوق بعضهما وصار مختصراً ..
تتكيء بجانبي وتسألني عن كل ما يلوح لنا .. تقطع الجمال السائبة الطريق فتُرعبْ ..
نمر عبر الجبال فتُدهش.. ثم يفرش الرمل جوانب الطريق كبساطٍ أحمرٍ ممتد فتتأمله بإعجاب !

- ألستُ سخيفاً ياسارة ؟ ،يفترض بي أن أسافر بكِ إلى أجمل بقاع الأرض لكني أتجه بكِ لقريةٍ قديمة!
اعذريني ، سأعوضكِ صدقيني ، تعلمينَ إجازتي محدودة، بعد الغد سأعود لطلابي

- فيصل أظنني كنتُ ألح عليك منذ عرفتك أن تحدثني عن قريتك..
صدقني لا شيء أفضل من مشاهدة مكان صباك ، لا تحدثني عن السفر والسياحة في أوروبا سئمتُ كل تلك الأماكن .. كنتُ أشعر أني في سجنٍ أنيق!


تسألني عن كل ما يخطرُ لنا .. وأجيبها كمرشدٍ سياحيّ يسيرُ مع مصطافين جاءوا من بعيد !
أقص عليها تفاصيل الأمكنة التي نمرها .. وأسمّي لها الجبال والأودية والأشعبة بمسمياتها .. كانت تضحك من غرابة الأسماء

- سارة ، تشبهين سائحةً قدمت من الغرب .. اندهاشكِ من كل شيء لا ينبيء أنكِ من أهل الرياض!
- فيصل نحنُ ننتمي لقريةٍ أعرف اسمها فقط لكن لم أزرها قط .. أسوأ مافي عائلتنا انفصالها عن ماضيها تماماً

آآآه ياسارة .. كم أتمنى لو انفصلت عائلتي أيضاً عن قديمها وأزالتهُ من ذاكرتها الصلبة!
لكنتُ الآن وأنتِ نرتشفُ قهوة الصباح مع أمي ..ولكان خالد وأبي عن يميني ويساري ليلة زواجي بك .. ولما كنتُ أهرب من سؤالك عن أهلي !

..لاح نخيلُ قريتنا فانقطعتُ عن أفكاري


- سارة ، بربك سوّي عباءتكِ جيداً ، هنا يستوطن الحرام والعيب ..صدقيني سنكون حديث عيونهم أعرف قومي جيداً!

كانت القرية هادئةً كعادتها .. والأطفال يتكدسون في فصولهم خَلَت منهم الطرقات ..
وتسللنا عبر الطريق المحاذي للنخيل .. ووقفتُ بها كما وعدتها


في هذه البِركة ياسارة تعلمت السباحة .. كنتُ صغيراً ، و شقيقي بدر كان مراهقاً مجنوناً، قلتُ له يوماً وهو يسبح أريد أن أكون مثلك !
سألني جاداً : أحقاً تريد ؟! وبحماس ابن الرابعة قلت نعم ! كان يطوّح بي بعيداً عنه في منتصفها ،
أهلع باكياً وأبتلع الماء وصوتهُ يصرخ فيني : هيّا كن رجلاً، حرك يديك وقدميك ، وحين أفشل كان يخرجني ويصفعني مرتين ثم يعيد الكرة!
أجدتها بعد أن اختنقتُ وبلعتُ كثيراً من حثال هذه المستطيلة وعكارة مائها ،


تعالي ياسارة وانظري..
هناك كان شقيقي محمد يلهو بأعواد الثقاب، طالما سرقهنّ من مطبخنا القديم، دائماً ماكانت أمي تنهرهُ وتقول : الأنبياء يستعيذون من النار وأنت تعشقها!
وذات صباحٍ لا ينسى، قدحت يديه الصغيرتين حريقاً التهم جزءاً من نخيل جدي !
يومها هبت القرية جيشاً واحداً تتخندقُ ضد النيران حتى انتصروا بعد عناء.. يا لها من علقةٍ لن ينساها محمد ما عاش !


وهنا سقط فهد على رأسه ونزف كثيراً .. كان أكثرنا عبثاً وأكثرُ من ينال نصيب الضرب .. كل شيءٍ يتم تحذيرنا منه كان يرتكبه تمرداً !
في أحد الأيام ضربه خاله أمامنا ..ضربه بقسوة ياسارة، هل تدرين ماذا فعل ؟ كتم حنقه طوال الأسبوع حتى جاء يوم الجمـعة!
انتظر حتى شرع الإمام في خطبته ، وسرق حذاء خاله أثناءها وجئنا لهذا البستان .. رماه فهد هنا في هذا البئر !
هل تصدقين .. للتو انتبهتْ ! لم أبح بسر اختفاء الحذاء الأنيق حتى اليوم .. يا لسعدكِ أنتِ أول من يسمع بهذا النبأ العظيم هههه


وهذا النخيل ياسارة مازال شامخاً رغم رحيل أصحابه ، انظري !
كل كبار القرية يعتبرون آباءً لنا .. رحلوا آباءنا وتركنا بعدهم رعاية النخيل ، أوكلناها لعمالةٍ تأتي من أصقاع العالم المُدقع فقراً !
أشعرُ أننا نرتكبُ بحق قريتنا خيانتين ، تركنا بيوت الطين ياسارة .. تركناها كأحبابٍ بدلوا حبيباتهم بعشيقاتٍ حديثاتٍ يجدنَ التأنّق ..
ثم تركنا رعاية النخيل ، غابت بصماتُ أيدينا عن هذه الباسقات، غابت أصواتنا التي كانت قريبةً منها دوماً ..
تركناها كما تشاهدين ، لعمالةٍ لا تعرفُ لغتها !


قد تضحكين ياسارة من بلاهتي ، لكن عندما يهب الهواء ويتخلل جريد النخل ، هذا الصوتُ الذي تسمعينه ليس حفيفَ شجرٍ عادي !
هذا بكاء النخل يندبُ الراحلين !

كنتُ أحكي وأظنني اندمجتُ في الحوار للحد الذي نسيتُ سارة .. نسيتُ نفسي ،
ونسيتُ حاضري وبدأت أتقلّب في فضاء الماضي والحنينُ يتسلق ملامحي بوضوح !
كنتُ أبحث في الأرض عن خطوات جدي ، كان يخرج بعد الفجر لهذا الحقل ولا يعود إلا بعد الظهر ..
وضجّ صوتُ الأطفال في أذني ، أطفالٌ لا أدري أين باتوا الآن ، خبأتهم الدنيا في زواياها بين مقبورٍ ومبتعثٍ وعاصميٍ لم يعد يحضر هاهنا إلا لِماماً !

وبحثتُ عن والدي أربعينياً تدب فيه روح الشباب .. وأمي بذوائبها الطويلة السوداء تخلو من شرائح شيب ،
وإخوتي يوم كنا نتحلقُ سفرةً واحدةً ثلاث مراتٍ كل يوم !
بحثتُ عن كل هذا وأكثر ..
بحثتُ عني طفلاً يُحبهُ والدهُ ويضحكُ له كبار إخوته ، يا للأسى ، لم أجد إلا رجلاً وحيداً ليس بجواره إلا سمراءَ لأول مرةٍ تحضر هاهنا..
يدخلُ القرية خائفاً يترقـب !
غاب الجمعُ القريب عن مشهـدي وبقيتُ وحيداً .. هذا ما يجب أن أتأقلم عليه منذ الآن وصاعداً ..
ورحتُ أجدل ذكرياتي .. مرت سريعاً كحبلٍ مشدودٍ متصل .. انقطع على صوت سارة :


- تُرى كم عمر هذا النخيل يافيصل؟
- هذا نخل جدي لأمي، ورثه عن أبيه.. يُقال أن عمر النخلة يصل 500 عام وقيل أكثر !
هل تشاهدين تلك الطويلة المنتشرة في كبد السماء، أذكرها جيداً ، قال لي أبي يوماً أنهُ منذ صِغرهِ كانت تثوي هنا ..
هي أطول نخلةٍ في الحقول جميعاً .. تقفُ كأنما تنتظرُ الغائبين في القبور ، لكنهم لن يعودوا والنخلُ لا يريد أن يفهـم !

كانت النساء يكدحنَ هنا ، ويلِدن ويستكملنَ أعمالهنّ المرهقة ، ينتشرون في الحقول رجالاً ونساءً لم يقل لهم أحدٌ لا ، الاختلاطُ جُرم !
وتلك .. تلك النخلة المنفردة لوحدها ، تلكَ أحبها وكنتُ أتولّى جلبَ الماء لسقايتها صغيراً ، تسبقني ضحكات أبي ليس لأنّ السواقي تفعلُ ذلك أفضل مني ..
لكنه سعيدٌ بعنايتي لها ، أحببتها منذ أخبرني أن جدتي ولدتهُ في ظلها ياسارة !

وذكرتُ والدي كان فتياً جميلاً تتضوّع منه طاقةُ الشباب..صار شيخاً كبيراً غاضباً مسحوقاً بيـدي !
وشعرتُ بحرارةٍ تسري في خـدي تسترجعُ صفعةً مرت قريباً ..
وتألمتُ لمنظر والدي حين صفعني أكثر من ألم خدي !


- وهذه الصغيرات يافيصل ماذا عنهن؟
- هذه فسائل النخل ، وعن قريبٍ ياسارة ستكبر، ستطول وتثمر، ثم تبقى لتكون تاريخاً يذكّر الأطفال بماضيهم عندما يكبرون!
وتبحثُ عن كل من كان هنا ثم غـاب ، النخل لا ينسى المارّين على أعتابه ..

وبلهجةٍ حالمة عاد حديث الحب يتدفق شلالاً عبر لسانها :

- فيصل أرجوك أخبر العمّال أن يهتموا بهذه الصغيرة ، سأزورها كل عام معك وستكون تاريخاً يخصنا ..
كلما تقادم بنا العهد وامتد العمر نأتي لها كل سنةٍ نجدد حبنا لبعض

مشت رويداً .. راحت تغمسُ يدها عبر السواقي التي تطفح بالماء المندفع ،
كل الأطفال توقفوا عن الركض ، رحلوا ، وبات هذا الماء المنهمرُ يلهو وحده !
ورأيتُها تتأمل المكان المفروش بالبرسيم والقمح ويقف فيه النخيل طاعناً هذا الهواء ..
عمّ تبحث ؟ كأنها تبحثُ عني طفلاً في هذه الأرجاء :

- الأسواق والمتاحف والمباني الشاهقة في باريس وميونخ، لا تصنعُ ذاكرةً جيدةً لطفل !
فيصل أنت محظوظ.. كم تمنيتُ طفولةً بريئة كطفولتك .

وابتعدنا عن فوتوغرافية صباي ، وتسللنا عائدين وأنا أردد في رأسي آخر مانطقتْ به :

" فيصل أنت محظوظ " هه، لأنكِ لا تعرفين شيئاً !







34



صباح الغـد ، أخبرتُها بذهابي للخرج طلباً في تمديد اجازتي يومين آخرين .. وكنتُ أكذب !

أقف أمام باب بيتنا حتى غادر والدي .. رأيتهُ يخرج صبحاً ويمتطي سيارته ويذهب ، بدا لي أنه بات كبيراً جداً كأنما شاخ مرةً أخرى في يومين !
كم كان قلبي يبكي ويعتصرُ ألماً .. وددتُ لو أرمي فوق رأسهِ قبلاتٍ واحتضنهُ طالباً الصفح ، لكنهُ سيلفظني عن طريقه .. ثم سأكون عبئاً على ذاكرة يومـه !
تباعد والدي .. شيّعتهُ بنظراتٍ كانتْ للقبلاتِ أقرب ، ومسحتُ حزني عن صباحي ..
وتسللتُ لواذاً أقتحم منزلنا القديم كلص!

صوتُ القراءة يهطلُ عبر المذياع .. تستلقي أمـي على سجادتها وأمامها أدوية الصباح .. لم تدري بالواقف خلفها ، بماذا تفكر ؟! ليس إلا أنا !

- صباح الخير أمـي !


ياللمسكينة.. كعادتها !
لجأت للدموع التي تتقن الحديث حين يُلجمها الحزن عن الكلام ،
كنتُ أقبل رأسها واحتضنها لدفء صدري ..وأعتذر، عن ماذا ..؟ أعن حقي في اختيار من أحببتْ؟!


- لماذا فعلت ذلك يافيصل

كانت تأنّ سؤالها،

- يا أمي أرجوكِ كفي الملام .. سبعة أشهر من العذاب ، كنت ممزقاً لكنكم لا تعرفون ..
سبعة أشهرٍ كنت أواجه صراعاً وأحزاناً لا تنقضي ، حتى إذا تمكنتُ من حلمي ، رفع الكل يديهم عني ونفضوا قلوبهم مني .. فقط لأني أحببت،
كل شيءٍ يدركه احتمالي إلا أنتِ ..أرجوك لا تغضبي.. أقسمُ لك أن الأقدار جرت بما لم يكن في حسباني، كل شيءٍ حدث فجأة !

راحتْ بقلبها العطوف تسألني عن زوجتي وصفاتها وحياتي معها ..
وكنتُ أخبرها بأن حياتي كما يرام إلا من هواجسي بشأنكِ يا أمي وغضب والدي !

- والدك غاضب منك، لكن لاتنقطع عنه أرجوك.. أنت تعرفه جيداً سيمنحك رضاه يوماً يافيصل

أحقاً سيسامحني !.. وسيعامل سارة كما يعامل زوجات أشقائي حين يأتين إلينا ..
كان يخاطبهن ويدللهن أكثر من بناته ..
أوَحقاً سأجلسُ أنا وسارة هنا معهم يوماً من الاسبوع كما يفعل أشقائي ؟!.. آآه متى تتحققُ أمانيّ لأرتاح ويتمّ لي عهد الصفو ؟!

ارتشفتُ معها "فنجالاً" سوّته يدها .. قهوةٌ لن تتقني يا زهرة ولا أيتها المطاعم والمقاهي الإتيان بمثلها وإن حرصتم !
هذا لمسةُ أمي، وطعم أمي ، ورائحة أمي ..
ثم لم أطِل مكوثي ، كنتُ أهرعُ للخارج سريعاً.. أخشى أن أضبط بجُرم زيارة أمي !


* * *


في المساء كان مجلس أبو مشاري يعج بأنسبائه ورفاقه ، وكنتُ بينهم كأخرس .. يبتلعُ الصمت لساني في زحمة الحضور !
كل يوم اثنين ، يكون هذا الجمع المعتاد ، جمعٌ زاد ضيفاً جديداً اسمه فيصل !
كان حضوراً نبيلاً .. لولا إلحاحُ سارة ماكنتُ أتيت !
تباً لعينيّ القرويّتين .. ها قد دبّ فيهما جينُ الفضول ، راح يشبرُ المجلس فرداً فرداً ..
منذ جئت وأنا لا أنفكّ من إعمال عقلي ورميه في جحيم المقارنة بيني وبين الصافّين في المجلس الفاخر ..
تركتُ لعيوني الحديث، حين كانت أبجديتي غادرتني في حضرة الغرباء !

أزواج بناتهِ لا يقلّون عنه ثراءً ، هكذا فهمت من سارة ، هكذا رأيت !
زوجُ منى من تجار ال**** ، زوجُ رحاب رجل أعمالٍ حـرة ، ناجحٌ بما يكفي ليتردد اسمهُ في الصحف أحياناً !
ثالثهم شابٌ يكبرني قليلاً في العمر ويكبرني جداً في الثراء.. وليد زوج عهود ، أبوه وزيرٌ سابق ..
وذاك أحمد زوجُ فريال ، يرأسُ شركةً كنتُ مضحكاً وأنا أتهجأ نطقها بالانكليزية !
والخامس، آخرُ الحضور ، زوجُ سارة ، أبلهٌ يدير عينه في الجمع، معلم بمرتبٍ سيُضحكهم سماعه، وابنٌ لحارس مدرسة!


كنتُ مثار شفقتي .. وكان تركي سعيداً والأحاديث تدورُ بانسجام وقد تركني الجميع غارقاً في بحرٍ من التهميش ..
كان أبو مشاري يعاملني بفتورٍ ، كنت قبل ذلك أعزوهُ لقوة شخصيّته ، حتى أدركتُ غبائي حين كان بشوشاً مع بقيّتهم !
يسأل زوج رحاب عن صحة والده ، ويطمئن على صحة عم وليد في العناية المركزة ،
وكنتُ أمامهُ مباشرةً وكان يقفزُني لغيري..هه ! هوَ لا يعبأ بأمثال أبي !!
يدور حديثهم عن مخططات الأراضي ، عن المشاريع .. حتى تركي يجيدُ المشاركة في هذه الأحاديث الطويلة ، ووحدي من يُتقن الصمت هنا ..
لو تحدثوا عن الهلال كـ فهد ، لو تحدثوا عن التعليم ، لو تحدثوا عن الحـب ، لو تحدثـوا عن الكتابة والقصص .. سأكون مبهراً ..
لكن حديثُ المال ليس لأبناء البسطاء .. أخذتُ مكاناً قصياً ورحتُ أمارس الفرجة لا أكثـر


لم يراعي وجودي أحـد .. كانتْ تمرني من بعضهم لمحةٌ ثم ابتسامةٌ تأتي كصدقةٍ في خضم الحديـث !
لم يسألني أحدهم عن أي شيء ، وللحق لم أبحث عن أسئلتهم...
كنتُ أبحث في ****ب ساعتي علّها تتقدمُ سريعاً .. كانت تسير ثقيلةً أثقل من حديث هذا الجمع المريـض بالمال والزيـف !

- حسناً ، أستأذنكم لديّ موعدٌ مهم .. إلى اللقاء

قلتها وخرجتْ ، لم أحتمل البقاء أكثر ..
وأدركتُ أني لم أكن بحاجةٍ لأقول جملتي السخيفة " موعدٌ مهم " .. قلتها وكأنّ أحداً سيلح علي بالبقاء .. يا لبلاهتي !
حين كنت أرتدي حذائي كانت عينا تركي ترقصان جذلاً ..
وطرأت جملته في رأسي قبل الزواج بيوم " هذا البيت ليس لك فيه شيء ، تأخذ سارة وتنصرف من حياتنا " !
وأظنه صـدق !

أعزي نفسي قبل الخروج وأنا أدلفُ عبر البوابة الكبيرة :

- طالما سارة معي ، طالما حصلتُ عليها .. فاللعنة على كل من في هذا البيت !

* * *


لم أقل لسارة في الليل شيئاً عن تهميش والدها .. عن نظرته المزدريّة ، عاملني بشيءٍ من احترام حين جئتُ خاطباً .. لأنه عاملني كصفقة !
صفقةٌ تستر بنته وتقطع دابر فضيحةٍ ملغومة ، اشتراني ولم أعرف ، كسب فتاته وسمعته ورمى بي في بنك أرباحه من حيث أدري ولا أدري ..
حين تمّ كل شيء .. صادر حتى قليل الإحترام الذي أبداهُ لي أول لقاءٍ تم بيننا ..

سألتني عن والدها فكذبتُ كثيراً ! ورغم موجة إلحادي تمتمتُ باستغفاري ..
كنتُ متعكراً حد النوم باكراً .. تركتُها تسهرُ مع قنوات الفضاء وأسبلتُ عيني للكرى .. مغتاظاً !


أخبرتها أننا في الصباح سنذهبُ لمكانٍ سوف تحبه ! لم أقـل لها أكثر من ذلك ،
كنت أحملُ بصيصاً من أملٍ عرفتْ أمي كيف تملؤني به ،
كنتُ قد عدتُ منها بالأمس وأنا سعيد، بعد أن أزمعتُ معها أمراً ..

في الصباح أخذتُ سارة وانطلقتُ بها باكراً :

- إلى أين فيصل ؟
- سنتناول قهوة الصباح عند امي.. أليس هذا ماتريدين


أمام بيتنا الصغير وأبوابه القديمة وطلائه المقشر ..
كنت وسارة نصعد درجات الباب وندخل ، كنتُ وقّتُ زيارتي بما لا يدع مجالاً للشك أن أبي قد مضى لمدرسته التي تنتظرهُ أبوابها!
وأشاهد عينا سارة تدوران في المكان بغرابة ..
يبدو أنها لا تصدق أن هذه البيوت تعج بالبشر وتصلح للسكنى ..
لم أتبرّم .. حُقّت لها الدهشـة .. في بيتهم هناك ، الفناء لوحده يبتلع بيتنا بأكمله لو أراد!


أظن الطيبة لو خُلِقتْ من تراب .. لكانت في صورة أمي !
وأظنّ الرحمة لو أرادت أن تتكلم يوماً .. لاستعارت نبرة أمـي !
وأظنّ القسوة لو تجسدت بشراً للحظة ، لعرفت كل العاجّين في المدينة والرائحين والغادين ، نسائهم ورجالهم ، إلا براءة الأطفال و وجهَ أمي !

كانت أمي في انتظارنا .. وكأن البيت كله، بجدرانه وسقوفه وزواياه ينتظر إطلالة سارة!
حتى الخادمة، كانت تقف فضولاً لمشاهدة الزوجة الجديدة ، زوجة فيصل ذاك الشاب الذي خرج من البيت ذات ليلٍ ولم يعـد..


مدّت سارة يدها في ذهول ، كانتْ ترى أمي لأول مرة ، وقامتْ لها أمي كما تقومُ لأي ابنةٍ من بناتها ..
لم تثنِها ركبتيها أن تقوم لتقبّل سارة ، الأنثى التي انتزعت فتاها وشقّت في أساس البيت صدعاً سيطولُ ردمه !
قبلتها أمي ، ضمتها لصدرها وسألتها عنها عن أمها وتختم بالدعاء كل جوابٍ تسوقه سارة في ذهول ..
وأنظر لحنان أمي مبتسماً وأفكر:
أولئك لم يسألوا عنكِ أنتِ ولا أبي يا أمي، يهشّون ذِكراكم كما يهشّون حشراتٍ تطوفُ فوق رؤوسهم .. لم يسألوا عنكِ حتى وأنا الآن زوج فتاتهم !

كانت أمي تدفن كل أوجاعها لترسم على ملامحي الباهتةِ ربع ابتسامة ، أنا الرجل الذي لم يجد في غمرة أفراحهِ مشاركةً من أحد !
انا الذي لم يسمع من أهل بيتهِ مباركةً في أهم ليالي عمره الكئيب !

كانت أمي تعلّم سارة كيف تكون رقة البسطاء .. وطيبة البسطاء .. وأن غبار المدينة لم يلفح كل وجوه القاطنين ..
.. هناك من يبقى في صفاءٍ لا يكدره القَتَر !
أمي ليستْ كأمهات تلك البيوت وتلك القاعات الكبيرة ، تلك المتشحات بأقنعةٍ تخبيء وجه الإنسان فيهن ..
حتى سارة تعرفُ الآن ذلك جيداً ، أظنها بدأتْ تُقارنُ كما كنتُ أفعل طويلاً منذ عرفتها ..
كانت تسأل سارة عني وعن أهلها وعن صلاتها ، أمي تجيدُ منح الدفء لكل مقتربٍ منها ..كنتُ خجلاً من بيتنا من مساحته الضيقة من أثاثه البائد لكن أطاول السماء فخراً بأمي !
كانتْ سارة على وشكِ أن تنام على ركبتي أمي وحديث أمي ومسحات أكفّ أمي ..


صوتُ سيارةٍ تتوقفُ أمام باب الفناء .. من هذا العـائد باكراً !؟
أظنني من فرط الخوف بدأتُ أنازع !

خطواتٌ أعرفها جيداً ، تقترب لترسمُ ظلّ رجلٍ أسفل الباب .. رجلٌ أعرفه !
صوتُ المفتاح يثقبُ الباب ثم يُفتح، و يطلّ أبـي ..
وعلى منظر عيناي الخائفتين و وجلِ أمـي تُدرك سارة أن الأمر جلل !


مشى رويداً .. كان ينظرُ لي وينظرُ لسارة .. ينقّل عينيه المتعبتين بيننا في صمت ، سكتتْ أمي وجمَد كل شيءٍ بدخول أبي !
قمتُ أشبهَ بطفلٍ بدأ تعلم المشي بعد الحبو .. ترنحتُ في طريقي ماداً إليهِ يميني ، ما موقفي حينَ أُصفع الآن أمامكِ ياسارة !
التقطتْ يدي يدهُ التي لم تُمـد !
قبلتُ رأسـه الذي كان يحاول أن يتراجع !
وجاءت سارة من خلفي تمارس ذات الطقوس .. لكنّ والدي كان يـمد لها يده ، تمتم بعبارةٍ لا أظنني أتخيلها :

- " هلا، حيّاك الله " !

نعم قالها لساره .. لستُ أهـذي ولستُ أحلم !
قالها ثم مضى شاقاً طريقهُ للخروج مجدداً من حيثُ جاء .. كان وجههُ متعباً وأظن ذاك يفسّر أوبتَه !

- فيصل !

كان يناديني قبل أن يخرج من حيث دخل مع ذات الباب !

اقتربتُ منه بعيداً عن المرأتين في وسط الفناء ،
وهمس في أذني بحيثُ لا يصل حديثه للفتاة القابعة بجوار أمـي :

- لو رأيتُك وحدك .. لطردتك ! لكنها تدخلُ بيتي للمرة الأولى ، لن أطردها وقد جاءت ..
سأعودُ بعد عشر دقائق ، إختلق أي عذر .. ولتخرجْ ، أي عذرٍ يا فيصل .. لكن لا أريد أن أراك بعد أن أعـود !
ثم لا تحضر هنا حتى أمـوت .. أتسمعني ؟ حتـى أمـوت !

قالها لاهثاً يغالب تعبـه ، أغلق الباب خلفه وخـرج !


دقيقتين وانطلقتُ بسارة مسرعاً .. خارجاً من بيتنا من حيّنا مطروداً للمرة الثانية .. لكنهُ طردٌ طويل الأجل !
كنتُ أمسح دمعتي ، وسارة تلح ماذا قال ماذا جرى يا فيصل :

- ولا كلـمة ! اسكتـي ! تلحّين على زيارة أهلي ـ أهذا ما تريدين أن ترينه ؟! والدي لا يريدني ..
لا يريدني كفّي عن الإلحاح كفّي ..
لديكِ أهلكِ يا سارة .. ولديكِ من تحبينه .. بربكِ اتركيني لا تعذبيني بسؤالي عن هذا البيت أبداً ..

- لا يريدك لأنه لا يريدني !؟

كان الغضب يتدفقُ في رأسي .. ومنظر والدي متعباً كسيراً كان يمزقني ،
تعاطفه معي رغم تحطيمي له كان يعذبني أكثر .. ليتك ضربتني يا أبي !

وصوتُ سارة ينهمر أخرى :

- فيصل لا تغضب ، لا تبكي ، ها أنا بجوارك .. وأهلي أهلك ، والدي والدك ..

كان دماغي في حالة غليان ،آخر ماينقصني هذه العبارة! شعرتُ باشمئزازٍ من جملتها الأخيـرة ، أوقفتُ سيارتي ورحتُ أصرخ فيها :

- والدكِ ليس والدي ولن يكـون ! والدكِ يحتقرني أتفهمين ؟ يحتقرني. ! ومن الآن أخبرك لن أعود لمجلسهِ أبداً !
صلافته وكبرهُ يمنعه حتى من اعتباري زوجاً لك .. كان يتوارى عن تقديمي لضيوفه .. يقدّم كل أزواج شقيقاتك ويحتقرني
ياسارة والدي كان بإمكانه الآن أن يدهسني .. أن يصفعني أمامك ، أن يسمعكِ كل ماتكرهين .. لكنهُ خرج .. خرج رغم مرضه وتعبه وشحوبه ،
لم يسئ إليكِ رغم سحقي له في سبيل الحصول عليك.. أقسم لكِ أني سحقتهُ تماماً قبل أن أصِل لكِ زوجاً !
أوتعلمين لماذا خرج .. هو لا يريدُ أن يجرحكِ كما يفعل والدك المتعجرف ! والدي ليس كوالدكِ يجيد احتقار ضيوفه ! إياكِ أن تكرريها إياكِ والدك ليس والدي

عاد صوتها مبحوحاً ، هذه البحّة ، أول مراسم البكاء عند سارة :

- فيصل هل تدرك بماذا تتلفظ ؟ أنت تهينني .. تهين والدي ..
طالما لسنا " أصحاب واجب " كما تهذي ماذا تريد مني .. لماذا جئت ..لتسمعني هذا الألم

أوهووووه .. أوقفتُ سيارتي جانباً .. تركتها تبكي في المرتبة وأشعلتُ سيجارتي وبدأتُ أتأمل الطريق والسابلة كتائه !
فكرتُ كثيراً في حديثي في حديثها .. في صوتِ أبي المُتعب في امتقاع وجه أمي في اكتئاب هذا الصباح السعيد بغتة !
فكرتُ في هذه المسكينة ، ماذنبها في أن والدها ممتليءٌ بصلافته الزاكمة للأنوف !

فتحتُ الباب وعدتُ لمقعدي ، وعلى الفور كنت أرسم طريقاً جديداً لحياتنا :

- أحبك وتحبيني ، هذا هو المهم.. كل شيءٍ سواه لا يهـم !
دعينا نعيشُ حياتنا دون أن نُرهق أنفسنا في البحث عن الفروقات ، لا شأن لنا بمن حولنا ! أتسمعين ؟!


وانطلقنا لبيتنا البعيـد عن بيت أبي ..القريبِ من بيت أبيها !
كانتْ تمسح دمعها ، حين كنتُ أمسح عن جبيني عرقاً يتفصد ، وعن وجهي شحوباً يرتديه !
لكنّ ألماً في داخلي لن يُمسح ، هناك في أعمق أعماق جوفي ،
صداه يتكرر في داخلي :

" لن أطردها ، خذها واخرج، ثم لا تعـد حتى أمـوت " !



القلم الحر غير متواجد حالياً  
التوقيع
( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي )




أضغط على الصورة لدخول المدونة
رد مع اقتباس
قديم 17-05-11, 04:19 PM   #25

القلم الحر

نجم روايتي كاتب و شاعر متألق في القسم الأدبي

 
الصورة الرمزية القلم الحر

? العضوٌ??? » 127837
?  التسِجيلٌ » Jun 2010
? مشَارَ?اتْي » 1,320
?  نُقآطِيْ » القلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond repute
افتراضي

35

الحب طائرٌ جميل ، يهبط علينا كـ وحي ، يعلمنا أن نكون أجمل !

إبان فراقنا ، حين كنت أذهب للخرج ، لطلابي المتكدسين كسنابل قمح في حقلٍ ضئيل ، كنتُ أذهبُ كئيباً وأمشي كئيباً !
الاكتئاب عدوّ الجمال الأول ، يصيّرك رثاً وإن كنت أنيقاً ، كنتُ أتجافى عن الحديث مع زملائي وطلابي ،
وحين أبدأ الشرح ، يكاد الشرخ في قلبي يمنعني عن الإتقان ، كانت أياماً حسوماً كأيام عذاب .


الآن ، أمضي وأعود أنيقاً ، تسربلتُ بالنظارة يوم سربلني الحب رداءه ،
الحياة من حولي بدت أجمل ، عادت الألوان ترفرف من حولي وأنا الذي كنتُ أمر كل هذه الأمكنة فأراها باهتة !
أعود من الخرج متجهاً إلى الجنة ، هناك في البيت القصيّ من الرياض تنتظرني طفلةٌ يتراكم فيني الشوق لمرآها ..

قبلها ، كنت أعود لعزلتي لكتبي الغبيّة لسجائري لدموعي المتساقطة كحِمم !
الآن أعود لفاتنتي أتشظّى لهفة وعشقاً ورغبة !
لستُ سعيداً كلياً أعرف ذلك ، صوتُ أمي ووجه أبي وانقطاعي عن عائلتي كيتيمٍ وحيد ، يخزّني كشوكةٍ تُغرس في باطن قدمي ..
لكني أقفُ لأحزاني وقفة شجاعٍ يتترسُ بسلاحه .. سارة !


أقفُ أمام باب بيتي ، أو بيتها ، أو بيت والدها .. أووه البيتُ الذي نسكنه !
وتهبّ فيني رياحُ قومي بغتةً وتغرفُ عروقي من ماء موروثي لتعود ملأى بسؤالٍ متكرر :

- كيف أرضى السكن في بيتٍ لستُ أملكه ! أعيشُ في بيتٍ يحملُ اسم زوجتي ، كما لو كنتُ عالة ً أبحث عمّن يواري سوءة فقري !

ثم أعزي نفسي أن الأمر مؤقت ، ريثما تهدأ كل منغصاتي ، ويزداد مرتبي ورخائي ..
حينها سأرمي هذا المفتاح في حِجر والدها ببرود ، كما رماهُ في حجري ببرودٍ أول مـرة !


ما هو الجحيم ؟ هو كل العالم الواقف أمام هذا الباب ! بابٌ يقفُ كصخرةٍ تتكسرُ عليها أمواج هذه المدينة القاسية ،
ما هي الجنة ؟ هي كل ما يتوارى خلف هذا الباب .. حبيبتي وجهُ سعدي وطعمُ هنائي ،
أصعدُ خطوتين وأفتحُه وأدخل ..
ثم أغلقُه بقوّة ، بعزم ، في وجه هذه الدنيا المتطفلة ، والمجتمع الذي لا يفهم الحب ولا يدركه ، في وجه التقاليد البالية التي تحب الأسماء أكثر من الحب ذاته !
أغلقهُ ساجناً كل هذا الكون خلف بابي ممنوعاً عن اقتحام جنتي .

تمشطُ شعرها وتغني أمام المرآة ، صوتها عذبٌ حين تغني لي ، لكنه أعذب حين تختلسهُ أذني وهي لا تعلم !
طفلة ، ليست إلا طفلةً في جسم امرأة ، هكذا قلت لنفسي .. اللعنة على أناقتها التي لا تكف عن الحضور .. ومظهرها الذي لا يكف عن ثورة التجدد !
وجمالها الذي يرمي بي في أسئلةٍ غبية : أحقاً من تُراب ؟! أم نزلتْ مع غمام ، أو ياترى حوريةٌ خرجتْ من البحر فضولاً يدفعها للتعرف على خفايا البشر..
متكئاً على ضلفة الباب أسأل نفسي كل هذا وأكثر ..هائماً على وجهي في وجهها النورانيّ.

- بسم الله .. أفزعتني !

صوتُ شهقتها ويدها تُمسك صدرها الغض خوفاً !

- فيصل قلتُ لك ألف مرة لا تتأملني هكذا !

وكنتُ أبتسم !

- منذ متى عدت !

- فقط خمس دقائق ، أتأملكِ وأستمعُ لك خمس دقائق !

وتصعدُ حمرة الخجل لتكسو محيّاها .. لتنطق بصوتٍ هامس :

- لاتنظر لي هكذا اختلاساً .. أشعر أن عينيك تلتهمني

وأقتربُ منها مطوقاً حلمي بذراعيّ ، وأهمس في أذنها الصغيرة :

- ليست عينيّ وحدها .. ليست عيني !


* * *


طفلةٌ في الرابعة والعشرون من العمر !
حين أصحو وهي نائمةٌ بجواري ، اعتدتُ أن أتأملها .. يصبح الإنسان بريئاً جداً حين يكسو النوم عينيه وجسده ، يبدو بسيطاً يخلو من الشر ،
وسارة حين تنامُ تتسامق براءتها لتصبح ملاكاً هابطاً من بعيد !
أمرر سبابتي فوق ملامحها كأنني أرسمها ، تراودني سبابتي عن تحسس أرنبة أنفِها الجميلة لكني أكف عن ذلك مبتسماً أخشى ايقاظها ..
بريئةٌ للحد الذي تخجلُ فيهِ الطفولة من براءتها ، لو مرّت على الماء، لفكر الماء ألف مرة قبل التجرؤ على تبليلها ، ولو طار الحمام حين تمشي إليه لكان جانياً ..
ما بال مجتمعي اللعين يرفضها .. أوااه يا سارة ! لماذا لا تأتي السعادة كأنثى مكتملة النموّ ولو لمرة ! ؟
لماذا حين يحضر وجهها يغيبُ جسمها ، وإن حضر كل هذا غابت أطرافها ، لماذا يصر الصفو أن لا يهطل دفقةً واحدة ، يتجزأ كقبيلةٍ مشتتةٍ على تخوم دول !
لو عرفوا سارة جيداً ، لكرهوا أنفسهم قبل أن يكرهوها !

بإمكاني أن أقول لها أي شيءٍ لتصدق ، أختلقُ أي كذبةٍ لتصفق سعيـدة ، بريئةٌ حد السذاجة أحياناً !
تقول لي " فيصل أذّن العشاء صلّ " ، أخرج دقيقتين وأعود كاذباً في أداء صلاتي ، لتمطرني بوابل ثناء !
تسألني عن نفوري من مجلس والدها، وجمود علاقتي مع شقيقها ، فأختلقُ أي عذرٍ وأي حديث لتعود لها بسمتها بعد وجوم !
يخيّل لي أحياناً أنها تخدع نفسها بالتصديق فقط لتبقى سعيدة !

البارحة عدتُ من من شقة فهد ، سهرتُ طويلاً بين الأصدقاء وعدتُ متأخراً ، وجدتها متكومةً في الفراش كحلزونٍ غاضب !
كنتُ أعرف أن حديثاً ساخناً سيدور بيننا هذه اللحظة !
" مسا الخير ياحلوة " ، لم تـرد تحيتي ، كنتُ أتأملها في المرآة .. نهضت من رقدتها ، تاكئةً ظهرها حافة السرير وركبتيها تتكومان لصدرها النافر كقبتين ..
وابتسمتُ لرؤيتها ، حتى الغضب يجعل سـارة أجمل !
جلستُ بجوارها على السرير ، مررتُ يدي على شعرها فأنزلتْ يدي بحزم .. لاااا ... يبدو أن الطفلة غضبى جداً !

- كلهم حضروا إلا أنت !

اللعنة على مجلس والدها الغبيّ ، واجتماع النبلاء المتحلقين مائدة الوهم ، كنتُ أهربُ منه لثالث اسبوع !

- سارة أرجوكِ ، تحدثنا كثيراً في هذا الأمر بما يكفي !

لم يتزحزح غضبها ، كان خدها المحتقن بالدم يستند لراحة كفها ، وفي عينيها دمعةٌ تريد النزول ، كل شيءٍ يُحتملُ إلا بكاء طفلتي !

- سألوني عنك ، ومللتُ الأعذار يافيصل ، أنتَ لا تريدُ أهلي ، تحبني لكنك لا تحبهم !

أردتُ أن أقول لها يسألونكِ مجاملةً ليس إلا ، هناك في البيت الكبير لا أحد يعبأ بالمعلم ابن الحارس ، لكن دموعها ستهطل ، ودمعها زنادٌ يقتلني :

- ألم نتفق يا سارة ، أن نعزل كل هذا العالم عن عالمنا ، حتى أقرباؤنا لن ندعهم يقتربوا من حبل سعادتنا ، لا تدعي أحداً يُرخيه وقد شددناهُ بصعوبة

لم تفلح الكلمات ، انزوت عني واضطجعت لتنام ، لتبكي، أمسكتُ بقدمها الصغيرة وكانت تريدُ الخصام أن يزداد ، كانت طفلةً تبحثُ عن مشكلة لتفرغ حنقها :

- اترك قدمي ! سأنام .. قلت لك اترك قدمي

كانت قدمها تهتز في يدي كسمكةٍ تريد الإفلات ناحية الماء ، وكنتُ أمرر أصابعي على باطنها لتبتسم ، وكانت تواري ابتسامتها في جوف وسادتها ،
وطبعتُ على قدمها قبلةً لترضى ، وعادت كأرنبٍ سريع يركض ناحية الخصام :

-هـه ! ماذا سيقول " قومك " لو عرفوا أنك تقبل قدم أنثى !

هاهي الطفلة تبحثُ عن الغضب عن الجدال لتبكي ، لكن رياحها الساخنة كانت تتكسر على جبل برودي ، وطبعتُ اخرى :

- أبيع هذا العالم من أجل قدمك !

- سيرجمونك يا سيد نرجسـي

وطبعتُ ثالثةً تخبرها أني لا أبالي ..

- مجنون !

- أخباركِ قديمة يا ماما ، أنا مجنونٌ منذ تسعة أشهر !

لم تفلح في كتم رضاها ، طفلة ! تُغضبها أفعالي وأرضيها بكلمة ..
راح الليل يطوينا كعروسين جديدين ، وغلّفنا بعضنا بجسدينا، وانهمر الحب كزخات مطر ، غادرها الغضب .. رضت تماماً !
الطفلة الأجمل في هذه الدنيا بحوزتـي

* * *



الحب حالةٌ من الشعور تجعلك أحياناً تتصرفُ عكس ما تريد !
قد نُفلح في القبض على الحب و قد يفلتُ من أيدينا ، رهانٌ كثيراً ما يُربح في أوطانَ بعيدة ، وكثيراً ما يخسرُ ها هنا !
نحن لا نختار آباءنا وأشقاءنا ، نولدُ لنعرف أن هؤلاء يرتبطون بنا ..
نحن لا نختار من نحب ، تقعُ العين على الجمال كثيراً ، لكنها تسقطُ أحياناً على أحدهم فتقذفَ ماء العشق في القلب ليتخصّب حبٌ نحملهُ كجنين ..
ثم يسيّرنا الحب رغماً عنا !

لكن الصداقة كنز ، لا قوة في الدنيا تجبرك لاعتماد أحدهم صديقا ً ، أن تكون صديقي هذا يعني أن مساحاتٍ كبرى من ذاكرتي وخفاياي كتابٌ أفتحهُ لك .. برغبتي !
نادراً ما تخسرُ الصداقة ، وكثيراً ما يخسرُ الحب !
زواجي من سارة علمني كيف أكون منبوذاً ، وأخبرني بإحساس من يعيشون هناك في ملاجيء الأيتام وكيف يقاسون ،
ماذا يعني أن يكون الفردُ لقيطاً وما هوَ بلقيط ، فقط تتسكعُ في ردهات المدينة مخذولاً من عائلتك ،
تعزّي نفسك بالحب لكن تذكر زواجك وحيداً وتأسى ، وتشاهد الآخرين محبورون بعوائلهم من حولهم فيدب فيك إحساس اليُتم فجأة !

وحدهم أصدقائي من كانوا يشاركوني فرحي رغم كل شيء ، حين أتيتُ للشقة بعد غياب شعرتُ بحفل زواجي حقاً وكأني أعيشهُ بأثرٍ رجعي !
وفهد حين احتضنني كان يعتذر لغيابه عن مشهدي بحجة أنهُ قريبٌ لا يريد أن يكون في خضمّ هذه الشوشرة العائلية ، وغفرتُ له ..
وسلمان المهووس بالشعر كان يحاولُ جاهداً ارتجال بيتين ولم يفلح .. لكني شعرتُ بمحاولاته قصيدة ً عصماء كاملة !
صالح صديقي كان أشدهم تأييداً لي ، أحضر وليمةً عامرة ،سهرتُ معهم على مباركاتٍ تترى تباعاً ، ضارباً بمجلس أبو مشاري عرض الحائط للمرة اللا أعرف كم..
وعرفتُ أننا أضعف من أن نواجه الحزن لوحدنا في هذا العالم دون مشاركة ، وأن الفرحة وحيداً نوعٌ من أنواع الحزن الذي لا نعرفه إلا فيما بعد !
وأن كل شيءٍ نستطيع أن نعبر عنه بالحروف إلا خذلان الأقربون ، ذاك يستدعي أبجديةً جديدة ، أبجدية قاسية كقساوة الخذلان الذي حقنوه فينا !

في الليل وقد ذهب الصِحاب وخلا المكان إلا مني وصديق القرية القديم ، كنتُ أشعل سيجارتي وأقدم له النصيحة الأثمن :

- فهد ، تـــزوّج !

- ههههه لا ياصديقي لا ، لم أجنّ بعد !

- الزواج ليس جنوناً ، راحة و ترتيب حياة ، كل شيءٍ قبل زواجي كان فوضى !

وشعرتُ بطعم عبارتي هذه غريبة ، كأن حياتي الآن تخلو من الفوضى هه !

- الزواج لأمثالي يافيصل ، يشبه حبلاً نهايتهُ في جبل ونهايته الأخرى في قدمي ، كلكم حين تتزوجون تقدمون هذه النصيحة ..
بعد أشهر ، تبدأون تبكون أيام الحرية والراحة وتتورطون بالمسؤولية !

- هل تظن أنني الآن مربوطٌ بحبل ! ها أنا الآن أسهر معك ، لم يمنعني الزواج أن أفعل ، لكني سأعود لدفء سارة وستعود لسريرك البارد !

شعرتُ بوجه صديقي يمتعض ، يسوؤه أن أتحدث هكذا بطلاقة عن زوجتي ، أصبحتُ متحرراً من كل شيء في حين حافظ هو على تركيبته القديمة !
بقيَ وفياً لعروقه يوم اجتثيتُ عروقي..

- الرياض يا فهد لا تسمحُ بالحب ، صارمةٌ على العشاق والمتجاوزين خصوصيتها ، أنت أكثر من يعرف ذلك ..
هذه المغامرات التي تقومُ بها صدقني لا تستحق !

- هل تذكر يافيصل حديثنا في المقهى عن الصقور و التحليق الاقتناص ؟ يوم قلت لي أنكم قبيلةٌ عذرية تكتفون بالكلمات ، وأنك لست صقراً ولا ترى في الأنثى فريسة؟
حينها قلت لك ليس هناك عذريةٌ في الحب ولا شيء إلا الرغبة والمساس !

- هههه نعم أذكر ، كنتُ غبياً يا صديقي أو أتغابى ، الحب الأفلاطوني تصويبٌ دائم دون الضغط على الزناد كما يقال ،
لا حب إلا بقدح الزناد لكلا الطرفين! .. ولا تحليق لصقرٍ دون اقتناص ، صدقت ..ها أنا أعترف يا دنجوان بهزيمتي لكن ماالذي ذكّرك بهذا الحديث القديم ؟

- لأني سأعطيك حقيقةً ثانية وأرجو ياصغيري أن لا تكابر ، خذها من الآن كـ مسلمّة :
الاقتناص الدائم ، مثل التحليق المستمر ، كلاهما وجهان لعملةٍ واحدة ، وسوف تأنفُ وتفترُ يافيصل كأي متزوجٍ آخر ، وتغادرك دهشتك ..
وحينها ، سـ تود العودة للتحليق حراً لكنك لن تستطيع ، لأنك تورطت وانقضى الأمر !

عاد دنجوان ، العارف كل شيء ، لإخافتي .. حين يتحدث أشعرُ أن عشرين ابليساً يلقنونه الكلمات !

- نحن رجال يافيصل ، رجال ! أنت تعرف ماذا يريد الرجال ، أرجوك لا تحدثني عن الحب الدائم ، الحب لدينا نحن الرجال أشبه برشوة ، نقدمها لنحصل على الثمن الأهم !
حين نحصل على بغيتنا ، لدينا تركيبةٌ تعرفها وأعرفها ويعرفها كل رجل ، ينتهي حديثُ الحب ، ويبدو الكون باهتاً !
بعدها تعاودنا الرغبة ، فنعود نقرعُ باب الحب وكلمات الغزل.. قنّاصةٌ ياصاحبي مانحن إلا قناصة ، عازبنا اللعوب ومتزوّجنا المحب ، كلانا نسأم لا أحد أفضل من أحد !


الآن ، تأكدتُ أن فهد هو من يستطيع تلقين الكلام لعشرين إبليس !

في الفترة الأخيرة ، بات يومي مع سارة ينقسم للونين : ورديّ اللون ، تلك الساعات التي تسبق الوصال ، تلك الساعات التي أتحرق لاختراقها والتهامها كنعقود عنب،
وساعات ما بعد الوصل ، لونٌ شاحب ، والبيتُ يحمل ضجراً يدعو للخروج ، وأبدأ التفكير في فهد وسهرات الأصدقاء ..
لكنّ سارة أنثى ، كل ساعاتها وردية اللون ، تركيبتها تختلف تماماً عني وعن فهد وعن الرجال جميعاً ، اللعنة على دنجوان كيف يعرف !
وعاد صوتهُ منبعثاً بين دخان لفافته :

- فيصل ، أنا لا أقول لك بأن حياتي هي الأجمل ، ولا أنفي هذا الملل الذي يتسربُ في حياتي الفوضويّة وصعلكتي وحيداً،
لكني أرفض أن تأتي إلي بنصيحة الزواج لتقدمها لي كأنها الأنموذج والحياة الحلم! وكأن الملل كُتِب علينا دونكم ! كلانا يملّ لكن أصدقك القول ، مللي يخلو من المسؤولية بعكسكم !
لهذا وفّر نصيحتك الثمينة ، تسوقها أيها المتحاذق وكأني لا أفهم شيئاً وسأصدقك بسرعة .. ههه لا ، أنا فهد تذكر ذلك دوماً ياصغيري

شعرتُ أني صغيرٌ جداً بالنسبة له ، لم أعترض على هذا التقزيم ، كنتُ أنظر له منبهراً وكان يبتسم، عارفاً مدى تأثير كلماته ومبصراً لاعجابي :

- إحداهنّ أهدتني ديوان مجنون ليلى ، قالت اقرأ لتعرف كيف أحاديث العشاق يا متخلف ههه ، قرأت قصائده ولا أنكر راقتني يافيصل ،
أنت تعرفني لا أحب القراءة لكن هذا المجنون كان عظيماً ، وفكرتُ في سؤال مهم : ماذا لو تزوجها ؟! هل كان هذا الديوان بين أيدينا ؟ هو مجنونٌ بها لأنه لم يتذوقها ، الحب يقتله الوصال !
صدقني لن تجد شاعراً متزوجاً كتب ديواناً في زوجته ، لأنهم تورطوا بالملل ، كل هذه الدواويين من عشاق، أناسٌ لم يطولوا حبيباتهم لم يقتل الوصال دهشة الحب في عينيهم راحت عواطفهم تلتهبُ قوافٍ تصعد في السماء ..
دعني أحلم ياصغيري بحياة الحب والأحلام الوردية على أن أعيش التجربة لأُصدم في الواقع المأساوي !! أنا حرٌ يأبى السجن وإن كانت قضبانه من عاج الفيل وأشناف الذهب .

- فهد لماذا لا تؤلف كتاباً ؟! أو تكتب رواية ،أقسم بالله ستكتسح ! اللعنة عليك ياصاحبي من أين ألممتَ بكل هذه الرؤى في 26 عاماً !

وضجت الشقة بقهقهاته التي شَرَق بها وهو يصيح فيني :

- أخيراً أنصفتني ، كلما قلت لي أفلاطون وأرسطو كنتُ أقول : لا تضيّع وقتك معهم وأنت بجوار الفيلسوف الأهم !
أووووه يا صديقي ، دعنا من كل هذا ، ماذا عن أهل زوجتك عن أهلك حياتك ..!؟

- واهٍ يا فهد ماذا أقول ، مع سارة / الحياة أشبه بالفردوس ! رغم الملل الذي تحدثتَ عنه ورغم تبرمها من خروجي الذي باتَ سمةً لي مؤخراً ، لكن كل شيءٍ في الجوار جحيم !
أهلي مازالوا غاضبين ، والدي يافهد منذ أن طردني من بيته قبل شهر لم أعـد ، أستسقي أخبار أمي من شقيقي محمـد كمهاجرٍ في أطراف العالم لستُ معها في ذات المدينة !
أهلها لا أدري عنهم ، قُرابة الشهر لم أزرهم ولم يسألوا ! هناك يا فهد يتحدثون المال وينظرون للمال ليس للرجل ، رجالٌ مثلي ومثلك لا يساوون هناك شيئاً !
وشقيقها ! آآآه ، لولا سـارة ، لولا أخته المسكينة ، لكان لي معه تصرفٌ آخر !

يافهد ، منذ تسعة أشهر وهذا العالم لا يرعوي عن حربي ، كلما أمسكتُ خيط الراحة في يدي ترهّل وانقطع ، لأجدني في دوامة البحث عنه مجدداً !
حياتي بقعة ماءٍ طهور ، ستكون راكدةً عذبة ، لولا أحجارٌ لعينة ـ لا تكف عن السقوط فيها محدثةً دوائر هائلة !
لا أدري متى يكف هذا العالم عن استبداده فأكف عن ثورتي ، آه لو يلقي إليّ جناح السِلم فأقوم كجيفارا وأمد له غصن الزيتون ،
وآه يا حلمي الذي ناضلتُ طويلاً لأجله يا فهد ، كأنما يراه السيّاب بين أستار الغيب وأنشده : " حلمي الذي يمد لي طريق المقبرة " ،
حياتي مع سارة جنة ، خارج سارة خراب !
حنيني لأمي يمزقني ، افتقادي لصوتها مسمارٌ يدق في سقف هدوئي ،
كيف أرتاح ويتم صفوي وأمي غائبةٌ عني خلف سجوف الليل ، والصبح يأبى الإنبلاج ، أمِن أجل اسمٍ جديد أقحمتُ فيه العائلة يا فهد .. مجرد اسم ، تقومُ الدنيا ولا تهدأ !

وجاء صوته مواسياً حرارة كلماتي :

- هذا هو اختيارك ، وهذا هو مجتمعك الذي تعرفهُ أكثر مني ، هذه الرياض يافيصل تقدس الأسماء أكثر من الفرد ذاته !

- نعم ياصديقي تقدس الاسم أكثر من الفرد ، شاهدهم وقد نفوني .. اختاروا اسمهم ونفوني كمتردمٍ في بحر الإثم ،
يرددون الدين وأحاديث المساواة ولافضل الا بالتقوى ، ثم يسقطون في أول محك ! لا ثمة وجوه هنا ، كلما حولك أقنعة ، لا تبحث عن وجه في الرياض .. الزيف مخيف !
شاهد صديقنا صالح يا فهد ، نعرفه منذ عشرين سنة ، لا شيء يختلف فيه عنا ولا نختلف عنه ، ربما يفوقنا خلقاً وحياءً .. لكنه لا ينتمي لقبيلة !
دينه وخلقه وحياؤه ونبله ، كل ما سَبَق لا يشفع لصالح أن يقترب منا أو نقترب منه إلا صداقة. هو لا يحمل اسماً رناناً يا صديقي، قل معي : لعنة الله على الأسماء

- لعنة الله على تركي !

- ههههههههههه وما دخل تركي !

- ألم يقل لك " أمثالك لا يمكن أن نزوجهم لولا الظروف " ؟ كلمة أمثالك يافيصل فيها تطاولٌ علي.. أنا الفيلسوف الكبير ..
بربك، قم معي الآن لنضرب ذلك الطفل ونعود هههههه "

على ضحكاتنا الصادحة ، وعيوني الغرقى بدمع الضحك تارة والمأساة تارة ، سرى ليلي سعيداً !
وحدهُ فهد من يستطيع أن يسلّني من همومي حين تطمرني ..
وحدهُ من يملكُ قلماً سحرياً برَتهُ الصداقة الطويلة ، يرسمُ به على شفتي ابتسامة ، ثم يصعد لعيني ويعقف القلم ليزيل بممحاته دمعةً تغالبني عن السقوط ..
منذ أن كنا أبناء الخامسة ، اعتدتُ أن أراهُ قريباً كظل ، أقرب إليّ من اسمي !
وذكرتُ قريتنا صبيحة يومٍ بارد ، كنتُ أبكي بدمعٍ ساخنٍ يذيبُ صقيع خدي الصغير ، سألني فهد متدثراً في فِراءهِ المضحك ، ماذا يبكيك ..؟
وقلتُ له والدي ! لم يأخذني معه إلى الرياض ، أريد أن أرى الرياض ،
راح يحدثني عن وحوشٍ في العاصمة تأكل الصغار ، وأنهم هناك لديهم مستشفياتٌ كبيرة ،فيها حقنٌ أضخمُ من التي وخزونا بها الصيف الماضي ،
وتحسستُ كتفي وتذكرتُ رعب الدبوس المدبب ينغرسُ في جلدي ، ونضبَ ماء مقلتي .. أقلعتُ عن بكائي ..
وانطلقنا راكضين في الحقول والدروب الضيقة كأنما نتحدى ذاك البرد الذي أتذكره الآن ، الآن ونحن كبارٌ في الرياض يضمنا مجلسٌ واحد .. يمارسُ فيه فهد ذات الدور الذي ظل يمارسهُ طويلاً ، وعرفتُ أن الصداقة ثمرةٌ يتأخر نضوجها ، فإذا نضجت طاب أكلها ولم يعتورها الذبول، و دامت ماشاءت لها الأعمار !


واتجهتُ لبيت عائلتي جرياً على الأيام الخوالي ، ليس بينه وبين الشقة الا خمس دقائق ، ووجدتهُ راقداً في الظلام ، ليس أنيقاً كتلك البيوت لكنّ البرد يتكسرُ على جدرانه لا ينفذ فيه !
وأوقفتُ سيارتي في هدأة الليل أتأمل البيت القديم ، كانت الساعة الواحدة والنصف ليلاً ولستُ أعبأ باتصال سارة المتكرر ، وقلتُ لنفسي :
حتى السياراتُ تأخذ ملامح أصحابها حين تطولُ عشرتها بهم !
كنتُ أشاهدت " وانيت " والدي وأراهُ يشبهه جداً، أو أن صورتهُ تنعكسُ عليه لا أدري!
أتأملُه وأفكر :
هنا ركبتُ كثيراً ، وانطلق بي لمدرستي صغيراً ، وحملني لأيامٍ سعيدة لستُ أنساها وقد ارتكست طويلاً في دفتر الماضي ..
كان أبي يضعني في مقعده الخلفيّ الطويل راقداً، يهرعُ بي في غيهب الغسق للمستشفى لأن حرارتي ارتفعتْ فارتفع عن عينيه حمامُ النوم وأقلع بعيداً ،
وذكرتُ أمي ، وعرفتُ أنها الآن تصلي كعادتها ، وسمعتُ رغم البعد آياتٍ ترددها على سجادتها الخضراء الناحلة ،
وامتقعَ وجهي وأنا أرى بيني وبينها سورٌ لا أستطيع اجتيازه ، سورٌ داخلهُ الرحمة وخارجهُ العذاب ..
أحببتها قبل ميلادي وسأحبها في قبري ، ولا أفوزُ بقربها الآن حياً !
وتلطخ ثوبي بقطراتٍ تسقطُ تباعاً وعرفتُ أني بدأت أبكي..
لملمتُ خيباتي وزفرتُ ألمي ولم يخرج إلا صوتٌ أشبه بنحيب ،
و هب الهواء البارد وتحرك جريدُ نخلتنا المطل على الشارع ، وشعرتُ بالنخلة استيقظت من نومها وعرفتني ..
وذكرتُ قولي لسارة : النخل لا ينسى المارين على عتباته ، تركتُ نخلة بيتنا تشيعني صامتة ، استودعتها سر زيارتي ودموعَ ليلي وحنينَ كلّي ، وانطلقتُ لبيتي البعيـد بيت سارة !



هاهي غاضبةً كعادتها ، بات خروجي الكثير يزعجها وبات اسم فهد يمر على سمعها مرور الصرخة الحادة ، تتمعرُ ملامحها بمجرد أن أجيب هاتفي " هلا فهد " !
كانت الساعة الثانية ليلاً ، بدخولي هبت في وجهي كطفلةٍ صودرت لعبتها ، طفلةٌ جميلة باتت ترى آخرين يقاسمونها ذات اللعبة التي تتملكها :

- لماذا جئت،؟ أليس النوم هناك أفضل !

تريدُ أن تبكي ، تريدُ أن أصرخ فيها لأبكي ، تريدُ خلق أي حديثٍ ساخن لتبكي ، لكنّي بتّ أعرفها أكثر مما تعرفُ نفسها !

- من قال لكِ أني جئتُ لأنام !

وعاد صوتها المتترسُ بالغضب :

- ماذا تريد إذن ؟! عُـد إلى فهد وأكمل السهرة مع أصدقائك .. أنتَ لا تهتمّ لأمر وحدتي وبقائي هنا كسجينة !

يا للطفلة المدللة ، منذ أن كانت رضيعةً ودلال أبويها يمطرها ، كل هذه التهم لأني تركتها بضع ساعات !

- حسناً سأخبرك ماذا أريد ، لكن إياكِ أن يصعد الدم إلى خديك وتخجلي !

أشاحت وجهها يساراً ، تواري ابتسامةً أراها وإن اختبأت ، ودارت دوالب الليل بنا ، وعاد الحب يطوينا ونطويه كسفينةٍ تمخر بحراً ، نتلمظ الغرام بطعم الشهد ..
ودقت الثالثة فجراً وقد نامت سمراي فوق صدري كعصفورٍ أليفٍ مُتعب ، كأنما لم تغضب قط ..
وتأملتها نائمةً وقلتُ ليت للمجتمع غضب الأطفال !
وليت لوالدي وقبيلتي ومدينتي غضب الأطفال ، يهطلُ سريعاً وينقطعُ سريعاً ، وليت الكلماتُ تفعلُ في مدينتي الغاضبة ما تفعلُ الكلمات للأطفال !
كانت سارة تنامُ سعيدةً وتركتْ لي طعم السهـر .. ورأيتُها طفلةً صغيرة ً بين أحضاني .. وسألتُ نفسي ماذا ينتظرني ..
صاح التفاؤل في أعماقي : كل ما مضى كان الأصعب ، نم قريراً !
وهتف التشاؤم بصوته الأشبه بنفخة صور : ما مضى ليس شيئاً ، القادمُ أسوأ !
وبين الصوتين أغمضتُ عيني ، وسؤالي كالقارعة يضج في صدري :
أين تبحر بنا الأقدار يا طفلتـي !




36



الحب يغذيه الاشتياق ..نادراً ما يُمطر في أيام صحو ، يأتي رتيباً، يحتاجُ ركاماً وعكارةً في الجو ليهطُل أغزر ..
الحب كائنٌ يجوعُ للحزن فيضمُر !
حين نبكي على البعد من نهوى ، يستبد بنا الحنين والالتياع ، البعدُ ماءٌ يُسقي أشجار الحب فتعلو ، يتضخّم ككرة الثلج المتدحرجة !
هذا الحب رجلٌ يكبر مع أوجاعنا ويقتات على أقدارنا السيئة !
..لا يفعل ذلك حين تضحك لنا الأيام وتجمعنا بمن نحب !

يتسامقُ للعُلا حد التعملق حين يلفحنا الحرمان ويضنينا الغياب ، فإذا ضحكت لنا الأقدار ، واندمجنا مع من نحب تحت سقفٍ وحيـد..
ينخلع عنا تاركاً لنا ما يكفي لنعيش به/عليه ، ويذهبَ نحو أشقياء محزونين ، كشحت الدنيا بوجهها الغاضب في وجوههم واعترضت طريقهم ،
تلك بيئته الخصبة ، ينمو بينهم هناك ويترعرع ، يغذيه الجوى واللهفة وبكائيات الحنين ! فإذا ضحكت لهم الأقدار وتم لهم عهدُ الصفو ذاب وسافر مرتحلاً لآخرين ..

غياب أحبائنا عن أعيننا ، هذا يخلدهم في كتاب مشاعرنا كأساطيـر ، يجعلنا نحلق بهم بعيداً في السماوات ..
لكنّ الالتصاق، القرب الدائم ، الاندماج مع معشوقك ووجوده دوماً على حد النظر .. هذا لا يقتل الحب ..
.. لكن يجعلهُ جنيناً ثابت الحجم في رحم حياتك ، تاركاً لعبة النمو !

هذا ما أعرفهُ الآن جيداً كما أعرفُ اسمي ، بل كما أعرف الحزن في ملامحـي !


عاطفتي تجاه سارة، وطوال عامٍ كامل ، كانت أشبهَ بقطارٍ مندفع ، يحطم كل شيءٍ أمامه ولا يعرف التوقف ، طوفانٌ خرج عن السيطرة !
قطارٌ أهوج ، قائده أهوج ، والوجهة لا وِجهة ، كل ما تجددت به الأيام كان يضاعف سرعته ، وصل لانطلاقته القصوى منذ ثلاثة أشهر حين تزوجنا ..
ولأول مرة .. منذ سنة .. يكف هذا القطار الآن عن زيادة سرعته ، لم يُسرِع أكثر ولم يبطيء مشيته ، فقط يمضي بذات السرعة والوتيرة ..
وسارة لا تعرف أن الحب والقمر ، اثنان لا يؤمنان بمستقر ، إن لم يزدد نموّها عادا في التقلص ..


قبل زواجنا ، كنتُ أحبها بجنون ، شيءٌ في داخلي يقول إما الممات وإما سارة ، تباً لكل هذه الحياة إن خلت من صوتها من عينيها من اسمها ،
عندما أفتح كتاباً ، كنت أقرأ صوتها في كل سطر ، عندما أخط بقلمي ، أجدني أرسم اسمها دون وعي ..
أنظر للناس فأرى طيفها يعبر في بصري كقاطع طريق !


الآن، أحبها، ومازلت أفعل .. لكنّ شيئاً من العقل أدركني !
هذا الوصل المستمر ، يعلم الجنون أن يتراجع ..ويهمسُ في أذن الشوق آمراً بالسكينة ،
ماعدتُ ذاك الطافح بهيامها كل لحظة ، باتت قريبةً مني ، شجرةٌ يانعة ، قطوفها دانية ، كلما اشتهيتُ ثمرتها أدركتُها دون عناء !

هذا القطار المتسارع في حبها لم يتوقف ، لكنّ عينا قائدهِ باتت تلتفتُ إلى الخلف، صوب الغائبين هناك ، في الضفة الأخرى من المدينة :
أمي والدي عائلتي وحاملي سحنات وجهي !
اللعنة على قلبي الشقي ، وعقلي الشقي ، وحظي الشقي ، كل مافيني يكفرُ بالراحة ويتخذ التعاسة مسلكاً !
حين كنتُ محاطاً بأسرتي ارتحلتُ بحثاً عن سارة ،
وأنامُ بجوار سارة الآن، ويسألني كل شيءٍ فيّ عن بيتنا القديم وأيامنا القديمة وذكرياتي الغابرة !
واللعنة على هذا الحب الذي لا يبحث إلا عن الغائبين ..
.. يقتاتُ على الحزن ويقتلهُ الفرح !


خروجي للشقة والسمر مع فهد بات عادةً في الليالي الأخيرة ، وشرودي الطويل ما عاد سراً ، سرحاني بات ملمحاً من ضمن ملامحي !
وحين أعود لطفلتي الغضبى ، كنتُ أنام أحياناً دون حتى تطييب خاطرها .. فهل بتّ أجازيها بتصرفات أهلها ؟! ياللمسكينة ..
كانت تلح أن أذهب لمجلس والدها ..ودب الخصامُ في غرفتنا مساء اليوم ، وتركتها تبكي أمام خصاص النافذة دون عزاء :

- ليس عدلاً أن تقارن أهلي بأهلك ، عائلتك لا تريدني .. وعائلتي استقبلتك يافيصل ليس عدلا ً !

كنتُ أستمعُ لإلحاحها بملل ..
نعم ليس عدلاً أن أقارن والدي الطيب بوالدك المتورم كِبراً، أبي الذي ينداحُ من صوتهِ عطفٌ أشبه بدعوات ناسكٍ في طهر الليل الأخير !
ولا أمي بأمكِ التي لم تسألني حتى الآن إن كانت لي والدةٌ على قيد الحياة أم لا..
مقارنتكِ مضحكة واسألي السماء التي تستمد صفاءها من وجه أمي، واسألي النسمة التي ليست أرق من نبرتها حين تحكي..
واسألي الطيبة المتبتلة في محرابها ، كل خيرٍ في هذا الوجود يخبرك عنها!


حين أوقفتُ سيارتي أمام بيت أبو مشاري ترجلتُ للسلام عليه نزولاً عند رغبة سارة ..
صافحتهُ بحرارةٍ مصطنعة كالتي يصطنعها الآن أمام ابنته ، كنا ممثلين بارعين أمام هذه السمراء التي تنقل بصرها بيننا سعيدة ، قبلتُ رأسه الكبير بالوهم !
وحفاوة الأغنياء تسألني :

- لماذا لم نعد نراك كثيراً ؟!

شعرتُ بسؤاله ينطلقُ من طرف عينه المتعجرفة، لم يحدثني بلسانه ، كان يتأملني باحتقار !

- أشغال ، أخذتني أشغالي الكثيرة يا أبومشاري وبإذن اللـ..

- و .. ما هي أشغالك !

هكذا، بنبرته التي تسحقني كل مرة ، نبرته الغليظة التي تصب في أذني كبُرادة زجاج، يلتف المشلح الأسود على ساعده ويلقي أسئلته كما لو كان يتندر ..
شعرتُ بهِ هازئاً .. عينيه ونبرته وبسمتهُ الشامتة كانت ترمي السؤال هكذا : وما هي أشغال أبناء حراس المدارس ياترى هه !

حاصرتُ غضبي ولا أدري بماذا تمتمتُ من عبارات الاعتذار وانصرفتُ ألعن هذا البيت ومن فيه ..
وتقولين ليس عدلاً ياسارة .. نعم ليس عدلا ً أبداً !

* * *



هذا التعب الذي يتكدس في كل ذرةٍ من ذرات جسمي بات ينهكني ، محاربٌ شجاعٌ أنا .. لكن دب الضعفُ فيني من حيث أدري ولا أدري ،
نابليون كان يستريح من حروبه .. بين كل معركةٍ وأخرى يترك لجيشه فرصة التقاط الأنفاس .. أراحهم في " فتبسك " طويلاً قبل حرب موسكو !
لكن نابليون العاصمة لم يهدأ عن الكر و الفر منذ سنـة ! كل ما خرج من معركةٍ لعنتهُ أختها ..
والحروب رغم الانتصارات لا تخلو من خسائر فادحة !

أثخنتني جراحي مخضماً بالمسك الأحمر ينزف من عروقي..وأشعر بجسدي لا شبر فيه يخلو من ركزة رمح، ونصلٍ غادر ولهيب رصاصة .. بدأتُ أقف بصعوبة !
وحدتي أقوى من أن تملأها طفلتي ! وأكبر من أن تغطيها حبيبة ، وأسودَ من بياض قلبي وقلبها ..
لكني ذئبٌ ياوالدي .. والذئاب لا تتألمُ إلا في العزلة .. لا تترك لأحدٍ فرصة مشاركتها الوجع ، أغمضتُ عيني على القذى وحبستُ صوت الأذى يا أبي!
كنتَ تقول لي في القرية طفلاً أروح وأغدو : "يا ذيب " ، نادراً ما كنت تقول فيصل !
وتراني منبثقاً من زحمة الأطفال مقبلاً عليك بين الرجال فتسألني بينهم مفتخراً : من أنت ... فأجيبك : " ولدك ، الذيب فيصل ! "
رأيتني مرةً أبكي ،وسألتَ ذئبك الصغير ماذا يبكيه .. وأخبركَ بأن فهد وعائلته سيذهبون غداً للرياض، سيتركون قريتنا يا أبي ..
طوقتني يدك القوية في ذلك الصبح الشاتي، ومضيت بي غاضباً ناحية أمي وشقيقاتي، ورفعت سبابتك في وجه دموعي :

- البكاء لهنّ .. الرجال لا يبكون !

بثوبي المتسخ كنتُ أطرد الدمع عن ساحة خدي ، وتمثلتها كعقيدةٍ من ساعتئذ ، وأمسكتُ زمام وصيّتك ولم أفلتها طويلاً..
الآن .. الآن يا أبي ، ترقد سارة بجواري ، والثالثة فجراً لم أنم ،
أضعتُ وصيتك كما أضعت أشياء كثيرة ، وبدأت أسفح دمعاً من خلائقه الكبرُ !
يا للذئب المفترس الذي عاد طفلاً !
رغم غضبك ، رغم صفعاتك ، رغم طردك لي كمجرم ، هل تعلم الآن يا نائماً في البعيد، أني اشمأزيتُ من حبيبتي يومَ فكرتْ في مقارنتك بأبيها..!
شعرتُ أنك أكبر أسمى أقدس أطهر ، فلماذا حين صار الحلم في يدي خيّرتني بين عينٍ وعين .. وأنت تعلمُ أن الخيار يلوحُ كسيفٍ باتر !
ولماذا حين انتصر الذئب غاب تشجيعك وحضر غضبك .. أنت من علمني أن الذئاب يجب أن تكون قويةً دائماً وأن البكاء كبيرةٌ في خدود الرجال
أنتَ من علمني أن الدمع ينبتُ في العيون كخطيئة وأن الاستسلام إثـم..
لماذا خسرتكم يوم كسبتُ الحب .. ولماذا لن أعود لكسبكم إلا حين أخسر حلمي .. لماذا في هذه المدينة لا يكون الكسبُ كاملاً كالخسارة ..
ولماذا يا أبي باتت الأسماءُ أغلى ها هنا من حامليها !!

* * *



النساء يزددنَ مع الحب حباً ! كلما شدنا الزواج ناحية الفتور ، تسامى بهنّ صوب السعادة أكثر..
نحن الرجال أضعفَ منهن في مواجهة الرتابة والملل .. يهزمنهُ بقوةٍ لا تتوائم مع ضعفهنّ، ويهزمُنا بسهولةٍ لا تتلائم مع صلابتنا.
نعم ، صدق امبروس بيروس: هذا الحب جنونٌ مؤقت ، علاجه الزواج ! عرفَ ذلك لأنهُ رجل ..
ولم تعرف ذلكَ فيرجينا وولف لأنها أنثى : هناك صداقة وهناك حب ، وهناك مؤسسةٌ تجمع الأمرين تُدعى الزواج !
قلتيها يا فيرجينا ، وانتهت حياتكِ انتحاراً ، اكتئبتي للحد الذي كدستِ جسدكِ بالحجارة كي لا تطفو جثتك على البحيرة، يوم هربتِ للموت غرقاً !

وسـارة قيثارةٌ لا تهدأ عن عزف الحـب ، لا يعلو أوتارها غبار الفتور !
تمطرني بوابل عباراتها المشحونة بالعاطفة تماماً كما عرفتني أول مرة .. وتريدني تماماً كما ذاقتني أول مرة ..
لم يتغيّر في الأمر شيء ، قبل الزواج وبعده .. هي سارة التي أحبتني بكل جوارحها .. لم يتبق في قلبها و عقلها حيّزاَ إلا سكنته !
تلتهم الحلوى دون ملل .. لا تسأم ثرثرة الغزل ،
حتى وأنا أرتمي في فراشي خادراً متعرقاً كانت رغم صوتها المتعب والراقد في اللذة تصر أن أحدثها بما تريد :
جمالها شيطنتها إغوائها .. " تكلم يا فيصل "، لا تكف عن سماع ماحفظتهُ عن ظهر قلب !

أحبها وأعلمُ أني أحبها ، ومازلتُ أحبها ، لكنها لا تعلمُ أن الرجال يحتاجون مساحةً من البعد تُبقيهم جيدين ولائقين حين يريدون مشاركة الفتيات حديث العاطفة ،
غيرتها بدأت تحاصرني كسجان يضيّق حريتي ، كلما عُدت : من أين أتيت ولماذا تأخرت !
تغرقُ في البكاء حين أغرق في سهرتي سامراً مع فهد ..
تغضب بسرعة ، أيضاً ترضى بسرعة ، لكني بدأتُ أتحلل من تدليلها رويداً رويداً ، لم أعد أولي غضبها كل عنايتي .. بات من المعتاد بعض الشيء أن تنام غضبى !
ليتها تعرفُ أن للرجال طقوسهم مع هذا الحب ، يقتلهم البعد لكن يحيي أشواقهم ، تماماً كما تفتر أشواقهم حين يغيب الغياب !


حين أكتب قصةً أو مقال .. حتى وقتي مع الكتابة يقتلها ويشعرها بالغيرة !
طفلةٌ تشربتِ الدلال ، وعوّدها والدها الثريّ امتلاك ما تريـد ، وتريد امتلاكي ، تماماً كأي لعبةٍ لا تريد أن تتركها !
حنقها أحال أفكاري هذا المساء الى الشتات ، رميتُ الورقة والقلم وصحت فيها :

- ماذا تريدين .. ساعة ولم أستطع كتابة ما يستحق ! ملامحك المحتقنة وتمتماتك تشتتني ماذا بك؟!

و هطلَ صوتها يواري سَورة الغضب :

- تعود من المدرسة متعباً ، تنام ثم تخرج لرفاقك .. وقتي معك يتقلص .. والآن في غرفتي تتركني للكتابة!

ليس ذا وقتُ الكتابة ! الكتابة تحتاجُ عزلةً لا تؤمنُ بها هذه الطفلة السمراء ..
وذكرتُ ورقةً أعطتينها زهرة مدبرة البيت يوم عدت ظهراً ، تمتليء بحاجات البيت الصغير والفتاة المدللة :

- حسنا..هل تريدين الخروج معي للتبضع ؟

وحلق غضبها بعيداً كأسراب حمام ، وارتفعت نبرتها الحادة وعاد صوتها هديلاً .. قفزت ترتدي ملابسها تسبقني للخروج ..تغضب بسرعة رضاها !


تتعضد يدي في السوق كأننا عاشقين مازالا بريئين لم يلوّثا حبهما بالوصل كل ليلة !
عباءتها الفوضوية ، عيونها الفاتنة ، شبابي الأنيق كل هذا يميّزنا عن كل المبتضعين الجامدين .. لا أدري لماذا التجهم سمة سكان هذه المدينة !
يتركون الصمت عنواناً لهيئتهم ، تجمدُ أفواههم عن النطق وشفاههم عن ارتكاب الابتسام ، يتركون لعيونهم الثرثرة !
عيونُهم ترمقنا اختلاساً .. وأردتُ أن أقول لهم " زوجتي ! هل تفهمون ! " لكني تركتهم، وغرقتُ في الصمت الذي يجمعنا كبصمةٍ مميزة ، تخبرنا أننا كلنا هنا ذوو قربى !


صدفةٌ خير من ألف ميعاد ، لكن بعض الصدفِ شرٌ من ألف جيش !
لا أدري لماذا أقداري سيئةٌ للحد الذي تجعل من المعارك في حياتي شيئاً كانهمار مطر ، يصب دفعةً واحدةً بلا توقف !
رأيتهُ من بعيد .. وانقبض قلبي كخبرٍ مفجع ، واشتممتُ رائحة خوفي تتصاعدُ من مساماتي الطافحة الآن عرقاً !
قبضتُ يد سارة، وتركتُ العربة للمكان ، وانطلقتُ للخروج ، " فيصل ماذا بك " ولم أرد ..
كنت أتوقف في كل دهليز، أختلس النظر كسارق ثم أعبر .. لكن لا محيـص ،
يبدو أن يوم نحسي في أوج عزه !


ها أنا .. أقفُ وسارة المتلثمة بعباءةٍ ليست من أعرافنا ، وجهاً لوجه .. مع شقيقي خالد !
صدفةٌ أحضرتهُ ها هنا لتعلمني طعم النحس .. صدفةٌ أخرجتني في التوقيت الذي خرج فيه لتجمعنا كفتنةٍ أشد من قتل !
حاولتُ الهروب وتفاديه .. وعادت الصدفةُ ترميني في طريقه حتى اقتنتعتُ أن كل شيءٍ في هذه الأرض ضدي !

وقفنا كخصمين كانت تجمعهما قبل العداوةِ عروةٌ وثقى ، ودارت أيامنا تترددُ في المساحة القصيرة بيني وبينه !
تبادلنا النظرات الجديدة والقديمة .. كان يمسك ابنه مشعل في يده وكنت أمسك السمراء المغضوب عليها في يدي !

كنتُ واقفاً كأي رجلٍ أنهكهُ الوقوف الطويل ، أنفاسي تخبر الرائين أني متعبٌ للحد الذي أغالب السقوط ، كان سقوطي لحوحاً كنبي ٍ يستميتُ في الإقناع !
وأخي منتصبٌ كسبابةٍ تتوعد.. نعم خالد ، الفتى الذي علمني القيادة قبل ثلاث عشرة سنة ..
كنتُ كلما انطفأت المركبة لبلاهتي وجهلي أتوتر ، ويخبرني " لا عليك لا عليك كلنا بدأنا هكذا " ، ودرستُها معه حتى حذقتها ، وجئتُ هنا !

خالد .. رجلٌ غاضب في الخامسة والثلاثين من العمر ، كان قبل عشر سنوات يسمعني قصائده أول ماذاع صيته في قبيلتنا ..
على رقصات النار في جسد الحطب كنتُ أشيد بما أسمع ليدب الرقص في عينيه بريقاً .. الآن ترقصُ في عينيه نارٌ أسمع فرقعة ألسنتها تماماً كذاك المساء القديم !

خالد .. يوم كنا في عمرة رمضان وأنا ابن التاسعة ، وتدافع الناس وارتج المكان وضاق بمن فيه كيوم قيامة ..
رفعني على كتفهِ كرضيع يوم بكيتُ وأنا أشتم الموت في ذاك الزحام !

يقفُ أمامي الآن ، ليس أخي القديم ، رجلٌ غاضب .. عينيه تحملقان فيني كما لو كانتا تريدان القفز وضربي ثم العودة لمكانهما ،
وعرفني مشعل وانطلق مسلماً في حبور ..
ورأس مشعل الصغير يتلقى صفعةً من والده تخبرهُ بالتراجع ، وتخبرني أني ما عدتُ قريباً !

تخطانا ، بصق على الأرض ساخطاً وتخطانا ، كانت بصقته على الأرض وشعرتُ بها تلطخ وجهي .. تخطاني كأي رجلٍ آخر .. لا يعرفه ولم تجمعهُ بهِ الأيام يوماً !
تخطاني كما لو لم أكن في يومٍ شقيقاً .. وتركني مع وجومي حتى أفقت ، وسحبتُ سارة للخارج ، أسحبها خلفي كحملٍ عرفتُ الآن أنه ثقيلٌ حقاً ..
"من هو تكلم من ؟! "، وببرود أجبتها:
" خالد، أخي خالد ، هذا الذي رأيتيه وبصق عليّ اسمه خالد ،شقيقي الكبير "

ألقيتُ جملتي الغبية كإعتراف ، إقرارٌ مزفوف بنبرةٍ بلهاء ، سئمتُ تجميل الصور القبيحة في هذا البلـد!
وتركتُ للدمع عينيها الجميلة ، وسخطها يرتطم بوجهي ولا إجابة :

- لا يريدني .. كوالدك ، كشقيقاتك ، كلهم لا يريدونني .. يأنفون مني

ماعدتُ قادراً على العزاء ، أصبحتُ أبلهاً سأِم الربت على الكتوف :

- أتعلمين لماذا شقيقاتي وأمي لا يهاتفونك ؟ والدي حلف عليهم أن يقاطعوكِ ويقاطعوني .. ها مارأيك ؟!

قلتها ببرود .. برود من أعيته المعارك والحروب ، وتركتها للنحيب والدمع الغزير ..
نزلَتْ إلى البيت وأغلقت الباب بقوة ، وضحكتُ منها ومن بلاهة اعترافاتي ..
وضحكتُ من مشعل وهو ينظر لوالده بعد الصفعة المفاجأة ، ضحكتُ حتى من البصقة التي لوّثت حذائي ، وتأملتُ هاتفي وأعلم أن صمته لن يُكسـر !


قديماً يا خالد ، كنت توبخني ، وتضربني ، لكن اعتذارك لم يكن ليتأخر !
تأتي على الفور محمّلاً بالندم قبل الهديّة ، تجيد إرضائي تماماً كما تجيد إثارة سخطي ..
وتجيدُ اجباري على حبك بقدر ماكنت تجبرني على كرهك ! وهذا الهاتف اللعين لن يحمل رقمك الآن ياخالـد ..

قبل عقدين من الزمن ، كنت تلعبُ مع أقرانك أمام بيتنا في تلك القرية المنسيّة ، وكنتُ طفلاً أرصد باب بيتنا كحارس ، وطاشت كرتكم وارتطمت بوجهي ..
سقطتُ من درج البيت متدحرجاً كالكرة تماماً .. وانحبس نفسي دقيقةٌ كنت أشهق فيها ببكائي الحاد ،
حملتني لأم فوّاز ، وفرشتَ بصري على البساكيت والحلوى التي تبيعُها .. وبت أتبوأ من بسطتها ما أشاء
لكنك الآن لن تتصل !

وحين أيقظتك من نومك صبح خميسٍ بارد ، كان صوتي الصادح يطرق سمعك في فراشك حتى أضجرك ، خرجتَ مسعوراً ،
وحملتَ حذاءً لعيناً لطمتهُ في فخذي الصغير أربع مراتٍ لعينة ..
عدتَ لنومك تسبقك لعناتي ، واستيقظتَ وخرجتَ لرفاقك تشيّعك نظراتي الحاقدة ، وددتُ حينها لو كنتُ كبيراً بما يكفي لأرد لك الصفعات المؤلمة ..
أتيتَ مساءً تحمل قفصاً فيه أنثى أرنب ، بطنها يمتليء بصغارٍ على وشك خروج ، وفرحتُ بها وشكرتك .. وأحببتك بسرعة كرهك ، وتكاثرت الأرانب في حديقتنا الصغيرة ..
ذاك وقتٌ زلّ ... يوم كنا أشقاء جيدين .. ماتت أم فواز وماتت الأرانب الصغيرة وماتت أمهم وماتت تلك الأيام ومات ذلك البيت ولن تتصل ..

لن تبحث عني تطلب صفحاً كما كنتَ تفعل .. جدارٌ شُرِخ وصدعٌ دب فيما بيننا .. وانقسمنا وكنا نسيجاً واحداً ، مزقتنا الأسماء ياخالد !


سأصعدُ الآن لطفلتي الغضبي ياشقيقي ، وسأكذب عليها وعليّ وأن الأمر سيمر بخير ، وسأنام متفائلاً لأصحو كما اعتدتُ على خيبةٍ جديدةٍ تنتظرني ..
وصدفة لعينة تقرع بابي أو تلجُ بلا استئذان.. تماماً كصدفة انشقاق الأرض عنك في ذلك السوق اللعين .
من أنا ؟ لا أدري .. أنا الذي ترك الجهات الأربع واختار الضياع ..
ابحثوا عن الضياع ، وإذا وجدتموه ، هناك ستجدوني .. أسكنُ في الضياع وحدي، بعيداً عنـكـم وعن صوت أمـي !


القلم الحر غير متواجد حالياً  
التوقيع
( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي )




أضغط على الصورة لدخول المدونة
رد مع اقتباس
قديم 17-05-11, 04:23 PM   #26

القلم الحر

نجم روايتي كاتب و شاعر متألق في القسم الأدبي

 
الصورة الرمزية القلم الحر

? العضوٌ??? » 127837
?  التسِجيلٌ » Jun 2010
? مشَارَ?اتْي » 1,320
?  نُقآطِيْ » القلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond repute
افتراضي


37

".........................................
.................... وخرجت من عندهِ على غير هدى ، كان الليل مخيفاً ، أسيرُ شريداً في الشوارع .. ليس معي إلا سجائري أنفث معها أحزاني لعلي أستريح .
كان الليل يشتل فيني أشجار الهم والقلق والخوف .. مضغني الحزن وابتلعني ياسارة ، كل المارّين كانوا يرَون في وجهي عذاباً يُستعاذ منه !
كيف سأعود لأيامي القديمة : شاباً بأحلام طبيعية ؟، كيف أنسى؟ .. أنتِ مثل اسمي ، أحتاجُ موتَ ذاكرتي لأنساه !
كنتُ فتىً لا يعبأ بما يدور حوله ، من أوهمني أني القادر على التغيير وأني جيفارا الثائر على كل شيء ؟! من ورطني في مجابهة واقع المدينة التعيس ؟!
دخلتِ حياتي كقوةٍ جبارة ، واجهتُ بكِ كل شيء ، خضتُ بكِ حروباً لا تطيقها بداية عشريناتي ، وعدتُ بوجهٍ يحملُ سمرة الحزن وتغضّن السبعين !
جئنا كـ ومضة ، وعشنا كـ حلم ، والآن ، معلقين كـ لغزٍ سرمديّ .. ياسارة " !

* * *



((بعد ثلاثة أشهـر))

:
:


" هذا الليل ياسارة ، ديكتاتورٌ معتدي ، يحتل كل يومي وينتهك حتى ساعاتِ نهاري ، يزور العالمين حين تغيب الشمس .. ويسكنني وحدي حتى في حضورها !
هذا الظلام من حولي فمٌ كبير ، يجوع لكل شيءٍ حين يحضر .. تروحُ الأشياء ساقطةً تباعاً في بطنه .. وأنا الآن من جوف الظلمات أكتب لك :
ظلمة الليل وظلمة غربتي وظلمتكِ أنتِ !


في بداية زواجنا كنتُ طفلاً للتوّ تعلم لعبة الكلام ، أو أبكماً خَرسَ لسانهُ عمراً طويلاً ثم أنطقه الله حين صدمة ، صدمة حضورك الطاغي !
لو سألتِ كل من يعرفني لقالوا لكِ أني منذ صغري ولي مع النطقِ علاقةٌ فاترة ، أجنح للصمت ماوسعني .. وأعتزلُ في محراب عزلتي كمتبتل ..
وحين اجتمعنا ..حين ضمتنا غرفتنا كمعتقلٍ للحب ، تفتق فمي عن أبجديةٍ لا تنقضي .. وقطفتُ لكِ من ثمار الحديث أطايبه،
وغزلتُ لكِ ما تراكم في عقلي طويلاً وجمعتهُ من بين دفات الكتب !
كنتُ أستمع لك كطفل ، وبفرحٍ لحوح كنتُ أجيد المقاطعة كثيراً ، وأسرق الحديث من لسانك وأنطلقُ به صوب قريتي ذكرياتي طفولتي أحلامي.. وكنتِ تصغين !


إصغاؤك كان يشبه أرضاً عطشى للمطر .. وكنت أتصاعد في سمائكِ غيمةً من حديث ، وبرقاً من عشق ، ورعداً من رغبة ، وأهطل كل الليل سعيداً ..
أتحدث ، فأرى في عينيك جمهوراً عريضاً من لهفة ، وحشداً من بريق المتعة يتكدس فيها .. وأتسامى في أدائي يؤزني إعجابك أزا ، ويحفظني من فوقي وتحتي ..
وتتحدثين ،فأشتم رائحة الموسيقى في حروفك ، ويطل الصبح من شرفتنا فلا أبالي ، وننام بعد أن أنهكنا لذة الكلام !


هل تذكرين صمتي حين بدأ يُطلّ ضيفاً ثقيلاً ؟! وأصبحتِ على مسرح الحديث بطلةً وحيدة، وكنتُ جمهوراً فتر حماسه !
هل تذكرين ملامح سعادتي الغامرة حين أخذت في التقلص، و بدأت تلكمها يدُ التعاسة ؟
كنتُ قوياً بكِ واستمد منكِ طاقةً أتقوى بها على عضلات زمني المفتولة ، حتى طالني الأذى ووهنَت قوتي..
وكنتِ طفلةً لستِ تعلمين بما يعتملُ في بالي ويشغلني ،
أعود إليكِ حزيناً ، فتطلبين ذات الرجل الذي كان في أول أيام زواجه ..عروسٌ لا تسأمين الحب وحديث العشق ، وأنا لستُ آلةً يا سارة ، أكنتِ حقاً تجهلين ؟!


هل تذكرين موقف شقيقي خالد في ذلك السوق ، وإجاباتي الباردة كبرودة ذلك اليوم الزمهرير ؟
كان ذاك اللقاء العاصف فضيحةً لسرحاني الطويل ، وعرفتِ أخيراً ما بات يشغلني .. واقتنعتِ بأني أعيش في موجٍ متلاطم ،
كنت أوهمُ نفسي طويلاً أني على ضفة البحر وصلتُ بسلام ، وأني كسبتُكِ للأبد ، رُفِعت الآلام وجف التعب ، كانت نرجسيتي تصفني ببطلٍ اِجتاز أهوال الغرق ،
لكني عرفتُ بعد مغادرة اللذة ،ودهشة الوصال ، بعد أن أفقتُ من خمرة جسدك ، أنني في عاصمةٍ موجها لا يعرف الركود .. تموج وليس فيها قطرةٌ من بحـر.. ياسارة !


هل تذكرين ؟ بعد حادثة السوق بليلتين ؟!
كنتِ أخيراً تلوذين بالصمتِ في حضوري لأول مرة ، لم يعد يعصف بكِ الحماس حين أعود إليكِ ، وكنتُ أشعر بالبرد في الغرفة جراء دمعك الهاطل مثل سيل شتاء ..
تنشغلين بالتلفاز وأحاديث الهاتف وتتركيني بين إطباقي و أوراقي ..
وكنتُ أختلس النظرات لسكوتك ، وأراكِ ساهمةً تصعدين بعينيك ماوراء النافذة ،كأنكِ تنظرين لعاصمتنا الكبيرة ، وسمعتُ سؤالكِ للرياض : أين نمضي يا مدينتي ؟!
وعرفتُ أنكِ طفلةٌ شبّت فجأة، وصارت فتاةً لا يخدعها الوهـم !
أدرككِ شيءٌ من العقل الذي أدركني ، أخيراً عرفتِ أن هذا الحب يرزحُ تحت الحصار .. وأن مقاومتنا وإن طالت .. ضعيفة !
بتنا نتعاطى الحب بجرعاتٍ أقل ، وتراجعت أسهم متعتنا رغم سعينا الحثيث لفصل واقعنا عن واقع المدينة الصاخب ..ونخدع بعضنا : " المهم نحنُ معاً "
و "نحنُ معاً " جملةٌ غبيّة .. لا تنفع في عاصمة الصحراء .. وصدّقنا كذبتنا وحاولنا ..
ونجحنا مرات وفشلنا كثيراً ، كان الخصام يزداد كأننا جنديين في ذات الجبهة ، نحارب عدواً واحداً وندافع عن وطن ، لكنّ دويّ القصف يفقدنا أعصابنا وننام كثيراً بغضب !
واستفحل التفكيرُ في جنبات عقولنا.. وندعي أننا لسنا نفعل .. وانخفض منسوب ماء سعادتنا ..
لأن الحب بجنون ليس كالحب بعقل يا سمرائي !


يومها شهق الهاتف بصوت محمد ، كان يحادثني بخوفٍ لستُ أنساه ، يخبرني بأن أبي ينام في المستشفى مريضاً ، ودب الرعب في قلبي ..
وحاولتِ مواساتي ياسارة ونهرتكِ بغضب ، أكنتُ أحاسبكِ ولستُ أدري ؟
تركتكِ دامعةً في السرير ولم أواسيكِ ..يالقسوتي !
وانطلقتُ أشق طرقات المدينة ، وجملة أخي ترن في أذني كجرس " تعال واطلب منه الصفح ، الأعمار في يد الله يافيصل من يدري "
وباتت سرعتي تلتهم الأرض تحتي ، وخشيتُ أن يكون الوقـت فات !

عندما ننتهي أو نشعر أننا على حافة النهاية ، هنا ، ندفع ضريبة الذاكرة يا سارة !
أليس غريباً أن تكون الذكريات سعيدة ، وتستحضريها وقت الحزن فتتمنينَ لو أنها ماكانت أساساً ..
كان والدي يتبدا أمامي كلوحةٍ كبيرة تغطي زجاجة مركبتي ، أقود وأتأمله .. أشاهدهُ شاباً راشداً كهلاً مريضاً .. مر أمامي كألبوم عمر !
وذكرتُ شحوبه آخر مرةٍ شاهدته ، وخشيتُ فقده .. خشيتُ فقد صوتهِ أكثر ، صوتُ والدي ياسارة كان يتمرغ طويلاً في رمل الدفء قبل أن يغادر حنجرته ..
وضاقت الرؤية في عينيّ ، لم يكن يوماً مطيراً ، لكني كنت أبكي . وهتفتُ بصوتٍ أظنه لم يغادر جوفي : "انتظر .."
أكنتُ أقولها لأبي .. أم لعزرائيل الذي يحوم في سماء الرياض طلباً له !


كان يرقدُ في سريره وادعاً ، كان مسجىً بغطاء ٍ أبيض كبياض روحه ياسارة ، والأنابيب والأجهزة وأصواتها التريبة تلتف حوله وفوقه ..
ودخلتُ الغرفة لاهثاً ، أتيتُ كقادمٍ للمدينة بعد غربة ..تغرّبنا تحت سماء مدينتا الواحدة ! ورأيته كما لم أره من قبل :
كان ضئيلاً ياسارة.. امتصّه الوقت ولاكه ، كشجرةٍ غادرها الريّ وعادت في الذبول ، كان صامتاً وحديث الزائرين يتعاظم حوله ..
كانوا أشقائي و أعمامي وأبناء عمومتي .. كل من رميتُ بقرباهم عرض الحائط مهراً لسعادتنا ..
وشممتُ حال دخولي نفوراً دب في عينيهم ، سلقوني بنظراتٍ حداد .. و لم أحفل بهم ياسارة !


أقسمُ لك أني عدتُ طفلاً تلك اللحظة ..هل قلت لكِ أني عندما كنت صغيراً وأشاهد والدي عائداً للبيت ..
لا شيء كان يثنيني عن الانطلاق تجاهه ، ولا حتى لعب الأطفال تفعل !
يعود فتخبرني براءتي أن أفرح ،أهرع صوبه ويتلقفني بأيدٍ شداد ، ويرفعني في سماء الفناء لأشهق بضحكاتي ، عوّدني مرآه الفرح ..
واعتدنا صرامته التي تفشلُ كثيراً في ستر طيبته !


عدتُ طفلاً في غرفة المستشفى ياسارة ، عزلت رؤيتي عن كل شيءٍ إلا عينهُ الواجمة ، وقفت أمام الباب وتبادلنا النظرات .. وأظنّ عينيه لمحت حمرة الدمع في عينيّ ،
وحلّ في الغرفة صمتٌ يشبه صمت الجماد ، وذرَعَت خطواتي بلاط الغرفة المشحونة .. ووقفتُ على رأسهِ كما كان طفل القرية القديم يفعل حين يجدهُ نائماً ..
وتحسستُ يده الملأى بوخزات الإبر ، ودبت فيني سكينةٌ لم أجدها طويلاً .. وأراد سحب يده عني ومنعه المرض أن يفعل !
أردت تقبيل جبينه وازورّ عني يمينا .. وحججتُ إلى يمينه وتجافى عني شمالاً ..واستعنتُ بقوتي على ضعفه ، وعافيتي على مرضه ،
أمسكت رأسه بيديّ واغتصبتُ قبلةً بالكاد حصلتُ عليها ..
وتركتُ على جبينه برودةً طارئةً جرّاء قطرتين من ماء البصر ، سقطتا عليهِ كمذنبٍ اجترح إثماً عظيماً وجاء يتوب ، غالبتها ولم أفلح في منعها أن تسقط مع قبلتي !


طاف نظري في هؤلاء الحانقين من حولي ياسارة ،
هم لا يفهمون أن القلوب حين يأمرها الله بالحب ، لا تلقي لهراء الأسماء بالاً ، وليست في وارد مطابقة الهويّات والألوان ..
خلق الله القلوب وأودعها صدورنا دون أن يكون لنا حرية التصرف فيها ، نحنُ لا نتحكم في كمية الدم الذي تضخمه في أجسامنا ،
وليس لنا قدرة التحكم في نبضاتنا ، وعضلة القلب لا إرادية الحركة .. هكذا نشأ القلب فينا ، مستقلاً بذاته !
حتى في الحب ، معزولون عن حرية التصرف والاختيار ، يتدبرُ القلب أمورَه ، يُسكِنُ في جوفه من يهوى ، وننساقُ مع الحب لا إرادياً ..
وهذا القلب النابض فيني ، أغضب كل هؤلاء يوم اختاركِ ياسارة !

هؤلاء..
لو كنتُ خارجاً من خزيٍ وفضيحة ، لقاموا جميعاً يصافحون عودتي !
لو كنتُ عائداً من السجن ياسارة ، لهبوا من مقاعدهم يمطروني بوابل ترحيب ..
لكني تزوجتكِ ياسارة .. أقحمتكِ في دمائهم الزرقاء .. فصار وجودي ثقيلاً كليل امروء القيس ياسارة !
انقطع الكلام المباح وحل الصمت حال دخولي ، بعضهم خرج، وبعضهم بقيَ يرشقني بنظراتٍ يغلفها الشزر ، وصوت همهاتهم ليس تخطئه أذني !
كانت قبائل الجاهلية تبرأ ممن يقترفُ خزياً .. يطردون أبناءهم حين يجنونَ فضيحةً أو إثماً كبيرا ،
ألم تقرأي عن الصعاليك وتأبط شراً ياسارة ؟
جاهليّة الرياض صيرتني صعلوكاً دون رهط .. كل ذنبي تأبطتُ حباً ! صعلوككِ تأبط قلباً وما ينبغي له !


كنت أهمس في أذن والدي أسائله عن صحته ولم ينبس بحرف ، وأخبرني محمد أنه تعرض لنوبةٍ قلبية، أتعبتُ قلبه ياسارة !
وخرجت كما جئت كسيراً ، وتلقفتني شوارع الرياض أمشي وأفكر في أمري وأمرك وأمر أبي ، شعرتُ أني الرجل الأتعس في المدينة !

في بدء زواجنا كنت كالسكران لا يعي ، أعيشُ لذة الحب ببلاهة ، لستُ أدرك ماحولي ولا أفكر .. لا أرى لا أسمع لا ألمس إلا أنتِ ،
ثم بدأت حياتي تتراوحُ بين نقطتين ، التعاسة والسعادة ، أذكر الغائبين فأحزن وأتقوى على الحزن بنور وجهك ..
كنت أعيشُ بعيداً عن عائلتي كمعتزلٍ في غار بعيـد ، كلما ضاق قلبي قلت له " لا تحزن إن الحب معنا ! "
كان عقلي يترددُ بين صفاهم ومروتك ساعياً دون انقطاع ، أشواطٌ لا تنتهي ، وأجهدني السعيُ وخارت قواي ياسارة !
الآن ، كلا النقطتين تعاسـة ، ولا مفر من الحزن !
أمشي في شوارع المدينة وأفكر في الحزن الحتميّ ، يشب في صدري كحريق ، ماذا ستفعلين إن خذلتكِ وافترقنا ؟!
كيف تتلقينَ أخبار انسحابي ورفرفة علمي الأبيض معلناً الاستسلام لجيش الظروف القاسية ؟!
منظر الدمع في عينيكِ يقتلني ، وتخيلتكِ تبكين وكرهتُ نفسي ، وعرفت أني لعنةٌ تصيب كل مقتربٍ مني ، لماذا بات قدري أن أسبب الأسى لكل ملتصقٍ بي ؟!
أسوأ أقداري أن جعلت في عقوقي لوالديّ براً بك ، وأصبح البر بهما عقوقاً لك ، وعرفتُ أني لن أجمع الحسنيين ، وبات جنون الاختيار يعصف بي ..
ضج رأسي بكل هذا التفكير قبل أن أعود إليكِ تلك الليلة ، أتذكرين ؟ عدتُ بعمر شابّ وملامح سبعينيّ ، وسألتيني عن أبي وأجبتكِ باقتضاب " يشكو قلبه "
وقلتِ ستأمرين زهرة بإعداد عشاءي ، وصحتُ فيكِ بصوتٍ نزق " لا أريد شيئاً ، شاهدي قنواتكِ في الصالة أريد أن أنام "
وخرجتِ حزينةً ، لم أكلف نفسي عناء مُراضاتك ، واختليتُ بعقلي مفكراً ،
..ياسارة : تلك الليلة لم أنم !


* * *



مازلتُ أذكر شحوب ملامحكِ ذلك الأسبوع المشؤوم ، صفرة وجهكِ كانت مرعبة ، وعينيكِ تغوران عميقاً تغلفهم هالةٌ من سواد !
كنتِ تصرخين فيني بجنون كلما اقتربتُ منك ، دب فيكِ نفورٌ من حيث لا أدري ،
كانت يدي حين تلامسكِ أشبهَ بيد غريبٍ يريد إيذاءك ، وحين أسألك مابك كنتِ تبكين .. وأنا أكره بكاءك حتى في الفـرح !
ما عدتِ تغضبين من خروجي ، كنتُ قديماً حين أعود ، ترفعين في وجهي خطابات الشجب والتنديد ، لكن اختلف الحال ، بات خروجي كما لو كان يُريحك !

لا تكف هذه الأقدار عن لطمي ، يا لسخرية الأيام ياسارة !
جاءني اتصالُ شقيقتكِ صباحاً يومها ، كنت أعطي طلابي درساً عن " الفعل الماضي " وأفكر في المستقبل المخيـف ، واستغربتُ اتصالها المفاجيء ..
حدثتني بحديثٍ طويل عن وقوعكِ أرضاً بعد أن غادرتُ المنزل، وعن اتصال زهرة بها ، وعن المستشفى والطبيبة و... حديثٌ طويل انتهى بعبارةٍ أشعر بوقعها الآن :
"................ سارة حامـل " !


سعادتي الغامرة حين تزوجتكِ، ثم الحزن الذي اعتراني وصيّر حياتي مسلسل كآبةٍ مستمر ، كلا الحالتين النقيض، أنسياني التفكير في أمر الأطفال والأبوّة !
لهذا ، جاء وقع الخبر مزلزلاً ، سمعتهُ بفجائيةٍ بلهاء، كنت على وشك سؤال شقيقتك : كيـف حدث هذا !؟
آه ياسارة، كنتُ مشغولاً في تقرير مصيري ومصيرك ، آخر ما ينقصني التفكير في مصير شخصٍ ثالث !
في الأيام القليلة الماضية ، كنتُ أهوي في وادٍ سحيقٍ من الحيرة ، لم أتخذ قراراً نافذاً يخصني ويخصك ، أبقيتُ كل الأمور معلقةً دون حسم ..
لماذا لم أهتف سعيداً على وقع هذا النبأ كما يفعل الآباء في الأفلام ؟!
لماذا لم أغني وأرقص ، لماذا كنتُ أعودُ من الخرج واجماً شروداً ؟! أثناءها .. شعرتُ بالحزن، لأني كنتُ أكذب على نفسي كل هذا الوقت ،
لا لم أؤجل القرار ، أظنني كنتُ أتخذتُ قرارنا ياسارة ، كنت اتخذتهُ في أعماقي وأخدع نفسي ، وإلا لما اكتستني هذه المسحة الحزينة يوم أخبروني بتخلّق طفلنا ياسارة !


في بيت والدكِ كنتِ راقدةً على فراشك متعبة ، دخلتُ عليكِ زائراً قلقاً ، هل سأجيد تمثيل الفرح ؟!
وبكيتِ ياسارة ، كان بكاؤكِ خنجراً مسموماً أكرهه بقدر كرهي لهذه المدينة الآن !
أخبروكِ أن تلتزمي الراحة حتى لا تفقديه ، وأن النزيف يهدد بقاءه ، كل هذا قلتيهِ لي ثم ختمتِ حديثك المتعب بأصعب سؤال واجهته في عمري :

" فيصل ماذا سأخبره إن سألني عن جده وأعمامه ؟ "!

تركتُ الصمت المهيب عنواناً لإجابتي ، وعاد حديثك المدوّي يهطلُ على سمعي كسيلٍ من دبابيس مؤلمة، كانت نبرتكِ حزينةً وأتقوّى على الثبات أمامك :
" حيناً يافيصل، أتمنى أن يسقط ويهرب من هذا الجحيم الذي يعيشه أبوه .. " .. ثم غلبكِ البكاء وأكملتِ الحديث بصعوبة :
"..وحيناً، أتمنى أن يبقى في أحشائي وألِده ، أريدهُ منك، حين يأتي فلتمضِ يافيصل ، أريد بصمةً في حياتي منك لأذكرك طويلا "
هل تذكرين جوابي ياسارة ؟ كان انهياراً ! ماعاد السد قادراً على دفع سيل الدموع الجارف ..
بكيتُ أمامكِ للمرة الأولى ، لملمتُ أشلائي وانتشلتُ جسدي من حطام الحزن المتكدس في تلك الغرفة و انصرفت !


هل تعلمين أني زرتُ والدي في منزلنا مرتين ؟
كنتُ كلما جئته عائداً ساءت حالته واربدّ وجهه ، تنتهي زياتي بصراخ خالد ، أرحتهم من سيئات حضوري وأشفقت على قلب أبي من وزر مجيئي !
أصبحتُ مرضاً عضالاً ، أقترب من أمي فأشعر في عينيها حزناً على أبي وعتباً عليّ تفشل في مداراته ..
أصبحتُ آلةً تزرع الغضب في أي مكانٍ تمرّه ، أين وجّهتُ وجهي وجدتُ من حولي ينتظر مغادرتي بترقب !
لا زلتُ أذكر خالد حين تزوج ، كان أول من صيّرنا أعماماً وجعل من والديّ جداً وجدة ، حين أخبرنا بحمل زوجته أول مرة كان البيت كرنفالاً من بهجة ..
تكرر الأمر مع بقية أشقائي ، ذات الفرحة كان البيت يتلقاها حتى مع شقيقي محمد قبل عامين ، رغم امتلاء البيت بأطفالٍ صغار يزرعون في حضورهم ضوضاء تُفرح والدي ..
وأنا ياسارة أروح وأجيء متدثراً بخبر حملك ، مازلت أطويه في بئر كتماني كما لو كنتُ أستتر الفضيحة ،
طفلنا ، كنتِ تحملينهُ جنيناً ، وكنتُ أحملهُ سراً !
يُفترض بدموعي أن تكون الآن فرحا .. لكني أعرف أنها ليست كذلك ، دموع حزنٍ كدموعك التي تقتلني كل مرة !


شقيقك كانت نظراته ترسل لي نفوراً لا أحتمله ، مازال يتعالى عليّ بثرائكم ، يلتمع في صوته البارد حقدٌ دفين ، ووالدكِ مازالت نبرته تسحقني في كل حديث..
قال لي وأنا أخرج من زيارتك في بيتكم " ابنتي ليست سعيدة! أعرف ذلك في عينيها " !
كان يلقيها بغضب ، كان يقرّعني ، كأنه يخبرني أني الاختيار الخاطيء لفتاته ، وأجدني أسوقُ أعذاراً بلهاء ، أعتذر بتعبك ووهنِ الحمل وأنا الذي أعرفُ جيداً أسباب حزنك !


ضاقت بي المجالس ، خيّم الليل في عيني ، أسيرُ في الطرقات مشياً لا إلى مكان ، تماماً كأيامنا القادمة لا أدري إلى أين تمشي..
الحب في الرياض يعاني بيروقراطيةً لا أدري من فرضها .. حين يمارس اثنان في أي بقعةٍ من هذا الكون حب بعضهما ، لا شيء يعيقهما أن يفعلا حياةً سعيدة ..
لا إجراءات معقدة تجتاحُ ورقة حبهم قبل اعتماد ، أما في الرياض، يلزمنا موافقاتٌ من أناس كثر ، لا يكفي أن نقرر وحدنا ، نحتاجُ ألف مشورةٍ وتواقيع الرضا ،
وبعد كل هذا ، يخبروننا أن مشروعنا تمت الموافقة عليه وبورك الحب وحامله !
حبيبكِ ياسارة ثار بشبابه على كل هذا ، ظنّ أن المدينة وواقعها التعيس يقبل التغيير ، كان يردد ببلاهة " الموت للجبناء " !
تغيير واقع هذا المدينة يشبه زحزحة هذا الكون من مكانه ..أنت لا تدري من أي نقطةٍ تلامس يدك هذا الكون لتبدأ الدفع ، ولو وجدتها ، تحتاجُ قوةً جبارة لتحركه خطوةً ضئيلة ،
هذه القوة تماماً هي القوة التي أحتاجها الآن في مواجهة كل ما يعترضني من مآسي !

مضت الأيام بي كتائهٍ لا يجد دروبه ، طرقات هذه المدينة لا تنتهي وأنساق معها وحيداً طريداً ، كان صوتُ أغنيتكِ المفضلة يبكيني ..
"اصحى تزعل" ! أهديتيها لي قبل زواجنا وغنيتيها كثيراً بصوت العنادل القابع في حنجرتك ، وشعرتُ أني لأول مرةٍ أسمعها الآن :

((اصحى تزعل ، لو تفارقنا و بعدنا ، وجيت مره عنّك اسأل !
ماتهون ايام حبك ، حلوه كانت ولاّ مرة ، تبقى انتَ في حياتي أحلى حب وأحلى عشرة ..
آه يا زماني .. اللي تغير ! من بقى بك ما تأثر ، اصحى تزعل ))

لماذا من بين آلاف الأغنيات اخترتيها لتكون أغنيتنا ، ولماذا في ثالث مكالماتنا قبل عام ونصف كنتِ تلحين أن أستمع إليها ..
أكنتِ تعرفين مصيرنا وأنا لا أدري . هل استشرفتي الغيب أو اطلعتِ على أيامنا في عقلك الباطن ، هل اعترتكِ حالة " ديجافو " طويلة المدى ؟!
لا أظن .. لكنها صدفةٌ محضة ، وإلا لكنتِ بلهاء وأنتِ ترتبطين بزوجٍ تعرفين أنه لعنةٌ تمحقُ كل أرضٍ يجوسها!


هل تذكرين حين أخبرتكِ بوجهٍ دبت فيه سمرة الحزن وانحسر بياضه ، أن والدي يحتاج عملية قلبٍ جراحية ستُجرى له بعد عشرة أيام ؟!
هتفتِ ببراءةٍ أنهكتني :" فيصل هل أخبرته بحملي ؟ " كان صوتكِ بريئاً لكنه صوتُ عقلٍ يخبرني أنكِ ماعدتِ طفلة !
كنتِ تعلمين ياسارة بأن إخبارهم يشبه فيضاناً ضارباً يجتاحهم ، ابتسمتُ لكِ وقلت " لا " ، وسمعتُ تنهيدة الراحة عابقةً في صوتك !
أكنا لصّين نواري مالاً سرقناه ؟ أو إرهابييَن يتكتمان على عملية تفجير أنجزاها في جنح ليل ،
ألم نحمل ورقةً تخبرنا أننا على سنة الله ونبيّه ؟ وعلمونا طويلاً أن الحلال فضيلـة، مابال المدينة تضيقُ الآن بالحلال كالحرام فجأة !
أسئلتي لا أملك لها جواباً .. هل تذكرين ؟ كنا نتحدث عنه بالاشارة ، أسألكِ عن طفلنا بالإشارة لبطنك فقط:
" هل سيبقى ؟ هل هو بخير ؟ هل تشعرين به " كنت أستعينُ عليه بضمير الغائب في حضوري وحضورك وحضوره!
كان يفترض بي أن أقول هل طفلنا بخير .. هل تشعرين بطفلنا ؟!
لكن كلمة " طفلنا " تشبه البكاء في تلك اللحظة وماكنتُ أقوى نطقها !

***


لا أنسى ياسارة تاريخ السابع عشر من شهر محرم ! تاريخ ميلادك ..
في هذا اليوم ، جئتِ للدنيا وجئتِ إليّ ، كنتُ طفلاً سبقكِ للدنيا بعامين .. حينها كنتُ في قريتنا أمشي محاطاً بحب الجميع حولي ..
لا أدري في اللحظة التي جئتِ للحياة أين كنت على وجه الدقة .. ربما في بيتنا أو بين النخيل أو واقفاً ببابنا الأسود القديم !
في ذلك اليوم وأنا طفل العامين لا بد أن شيئاً اعتراني لحظة ولادتك ، كما تعتري الأنبياء رجفة الوحي أو كما ينقبض صدر الأم حين تشعر أن ابنها تعرض لخطر ..
لا بد أن شعوراً خاطفاً أو تعبيراً لا إرادياً أو لحظة وجوم طافت بي ، من المحال أن تكون تلك اللحظة عادية ، لأن أهم أقداري جاء إلى الدنيا !
وكبرنا ولم نعرف أسماء بعضنا ولا نعرف من نحن ، مسرح حياتي لا يشبه مسرحك البعيد ، شابٌ مثلي وفتاةٌ مثلك لا بد أن تسير حياتهما خطين متوازيين بلا نقاط التقاء ..
لكنّ القدر ياسارة كان يحرفُ مساراتنا وتميلُ خطوط حياتنا حتى شكّلت رأس مثلث ، جمعنا متجر ماجد .. والتقينا !
أسأل نفسي طويلاً :
ماذا لو كنا نعرف غيبنا؟ .. ونعرفُ أقدارنا وكل أحداث ما بعد ذاك اللقاء .؟ أكنتُ سأحضر لماجد أم كنت سأهربُ مختبئاً في زوايا المدينة ؟
أكنتِ تحضرين أم ترسلين جهازكِ مع سائقك ؟ لا أدري .. كلما أدريهِ أنّا هاهنا نعيش حباً تحت حصار !

يوم الرابع عشر من شهر محرم ، بقيَ على عيد ميلادكِ ثلاثة أيام ، وبقيَ على عملية والدي يومان ليس أكثر !
يوم الرابع عشر من محرم سيكون تاريخاً يُنسيكِ يوم ميلادك كل العمـر ! ولن أنساه ما حييت ..

قبله بيومين أدخلت المستشفى وخسرتِ الحمل ، غسلوكِ من طُهري الذي صيّروه جريمة !
حين عرفت، بكيتُ حزناً ، ليس عليه ، بل على ارتياحي للخبر !
أليس مؤلماً أن أرتاح ياسارة في يومٍ يجبُ فيه أن أحـزن ؟!


هل تذكرين حديثنا ياسارة أيام الخطوبة ؟ كنا نضحكُ من أطفالنا الذين خلقناهم في مخيلتنا ولم يأتوا بعد ، " سعود و عنود " ،
كان ذاك حديثُ عهدِ الصفو وأيام النعيم ، تخيّلناهم وكسيناهم وأنشأنا لهم غرفاً مستقلةً في منزلنا ،
وتخاصمنا بلذة العشاق كيف نربيهم ، كنتِ تقولين اترك تربيتهم لي ..وأخبرتكِ حينها : دعي الطفل لي ، والطفلة لك !
وضحكنا حين قلتِ : أخشى أن يرثوا نرجسيتك !
وختمتُ الحديث البريء " حسناً كل أمرهم متروكٌ لك ، المهم أني أمتلك قلب أمهم " وسمعتُ خجلك يفوح من صمتك ياسارة !
الآن ، ذهب طفلنا الذي لم نفرح به ، لكن عزاءنا ياسارة سُمرة الحزن التي تكتسينا وهو يغادرنا بعد أن حل ضيفاً أسابيع قليلة ..


حاولتُ مواساتك وكان كل الحديث هباء .. من السخف التمثيل أمام من يعرفُ كل شيءٍ يعتملُ في خفاك !
وعدتُ لبيتي ذليلاً ، ووقفتُ أمام غرف الأطفال ، طالما وجدتكِ نائمةً فيها وكنت أظنك تستغرقين معهم في خيالك الخصب ،
وبحثتُ في الغرفة عن سعود و عنود ولم أجد إلا ظلمةً كئيبة وصمتاً يقتلني جموده ..
ورادوتُ النوم واستعصم ، تحسستُ فراشنا ولم أجدك، وباغتني شعورٌ أنني لن أجدك مرةً أخرى ..
وأن خسارة الطفل ليست آخر خساراتي .. هناك أفدح !

" فيصل خلاص ، لن أغادر بيت والدي ، أرجوك لا تأتِ .. ستبقى أجمل شيءٍ حدث لي " !

هذه رسالتك التي لم أنساها ، قرأتها فجراً حين استيقظتْ ، ماذا أقول ياسارة .. أقسم أن الأرض زُلزت تحتي ، وشعرتُ بالسماء المتعبة من الوقوف تستريحُ على ظهري !
قرأتها بطعم ابتلاع الزجاج ياسارة !


ليلةٌ باردة في آخر أيام شتاء ، والمطر يهطلُ ليجعل كل شيءٍ في الجوار حزيناً ، غسل الأرض ولم يغسلني من همومي أحد ..
والدي ازداد مرضه تلك الليلة ، وكان شقيقي يلح أن آتي لأزوره مهما يكن ،لكني لم أفعل ، أجّلتُ ذلك بعد أن أنتهي من كل شيء .. ووقفتُ أمام بيتكم !
كنتُ قبل أشهر أخطو إليه خاطباً ، ثم عريساً ، ثم زوجُ سارة ، والآن أخطو إليه ربما آخر مـرة !

ليس غريباً وجه والدكِ المحتقن ، وقفتُ في مجلسهِ تماماً كما جئتُ أول مرة ، كان وجهي يُخبر بكل شيء .. لكن والدكِ ليس يفهم !
هبّ فيني متحدثاً عن حزنك ، نحيبك المتواصل ، خوف شقيقاتكِ عليك ، كالَ ليَ التهم ، أشبعني اتهاماً ياسارة .. ولم أجب ..
فقط وضعتُ يدي في جيبي، أخرجتُ مفتاح البيت ، جنّتُنا التي ضمتنا سبعة أشهر ، ورميته على الطاولة أمامي :
" خلاص يابو مشاري ! لستُ الزوج المناسب لسارة ، مهما فعلت لن أستطيع إسعادها .. "

لعنني وقزّمني كثيراً ياسارة ، قال لي تماماً كما قال ابنه " في ظروفٍ طبيعية ماكنا نفكر في قبولك زوجاً لسارة "
سبعة أشهر من الصمت على عجرفته ، في الرياض لكل منا ورقةٌ رابحةٌ يستخدمها حين خصام ، أزال التقية وأودعها سمعي صريحة ، وأنا مللتُ السكوت :
" وفي ظروف طبيعية يابومشاري، أنت تعلم أني لن أفكر في التقدم لك " ! هكذا ياسارة .. طالما يريدها حفلة شتمٍ فلتكن ، كنت أنحطّ وأعلم ذلك .. اعذريني !
" يوماً ما سأحقق ثراءً ، وأصل مكانتك ونتساوى ، لكن مهما أثريتَ أنت لن تتساوى معي في هذه الرياض ، هنا لن تتساوى معنا .. "
أرأيتِ كيف أنحططتُ لأسفل القاع ؟، آمنتُ بكل ماكفرتُ به قديماً، وبتّ رجلاً كأي رجلٍ آخر في هذه المدينـة ، هذه الفوقية والعنصرية أوراقٌ رابحة وكلنا ينطوي على ورقةٍ تخصّه ..
انتفضت يد والدك وأشار للباب " برا يا وقـح يا حقيـر يا ... " عشراتُ الكلمات التي لم تزدني حزناً .. وصلتُ لأبعد نقطةٍ فيه ولم يعد شيئاً ذا بال !
" سارة طالق " آخر ماجاد به اللسان تلك الليلة وأسوأ ما جاد به طيلة العمر !


ليلتها عرفتُ أني خسرتكِ حقاً ، وأنكِ حلمٌ انقضى وأفقتُ منه ، وأني سأبدأ رحلة صراعٍ مع نسيانك .. كُتب علي الصراع منذ تعارفنا ياسارة !
وبكيتُ في طرقات المدينة كغريب ، شعرتُ بالشوارع تلوكني كعلكةٍ فاسدة ، سرتُ بين أفكاكها حتى جن الليل ، وتغزّر المطر ..
صوتُ الرعد كان مخيفاً ، ولمعة البرق تنشق في السماء عن ملامح وجهك النوراني ، سألت نفسي هل أخبروك ؟ هل زفوا إليك خبر رايتي البيضاء واستسلامي ؟.
أقسم لك أني كنتُ أُشرف على طريق الملك فهد وكان مختنقاً بالسيارات المتكدسة كذرات الحزن في جسمي ، كلما تخيلتُ بكائك ياطفلتي فكرت في رمي نفسي في هذا الطريق لأستريح ، جبانٌ لست شجاعاً ـ أردتُ الهرب انتحاراً من هذه الحياة وهذه المدينة .. وخذلتني الشجاعة ياسارة!

أتعلمين ماذا فعلت بقيّة تلك الليلة السوداء ؟!
ذهبتُ للمستشفى وانزويتُ في حضن أبي ، وهمست في أذنه باكياً " كل شيءٍ انتهى كل شيءٍ انتهى " !
" ... تألمتُ كثيراً وأُهِنتُ كثيراً وحاربتُ كثيراً لكن من الآن وصاعداً .. كل شيءٍ سيتوقف ، انتهى كل شيء ياأبي .. " وبللتُ فراشه وبرودة أطرافه بحرارة دمعي ..
كان لا يستطيعُ الحديث ياسارة ، كلما أراد الكلام تصاعد صوتهُ بين الأنابيب كصوت المضمضة، أرخى يده المتعبة على رأسي وشعرتُ بصفحه ..
انظري ياسارة ، لم يهنئني أحدٌ يوم زواجي بك ، وامتلأتُ بالتهاني يوم وفراقك !

خرجت على غير هدى ، كان الليل مخيفاً ، أسيرُ شريداً في الشوارع .. ليس معي إلا سجائري أنفث معها أحزاني لعلي أستريح ..
كان الليل يشتل فيني أشجار الهم والقلق والخوف .. مضغني الحزن وابتلعني ياسارة ، كل المارّين كانوا يرَون في وجهي عذاباً يُستعاذ منه !
كيف سأعود لأيامي القديمة : شاباً بأحلام طبيعية ؟، كيف أنسى؟ .. أنتِ مثل اسمي ، أحتاجُ موتَ ذاكرتي لأنساه !
كنتُ فتىً لا يعبأ بما يدور حوله ، من أوهمني أني القادر على التغيير وأني جيفارا الثائر على كل شيء ..
دخلتِ حياتي كقوةٍ جبارة ، واجهتُ بكِ كل شيء ، خضتُ بكِ حروباً لا تطيقها بداية عشريناتي ، وعدتُ بوجهٍ يحملُ سمرة الحزن وتغضن السبعين !
جئنا كـ ومضة ، وعشنا كـ حلم ، وانتهينا كلغزٍ سرمديّ .. ياسارة !

أعلم أنكِ بكيتِ كثيراً ، كانت دموعكِ الناشجة خلفيةً صوتيّة لكل مشاهدي تلك الليلة، ونسيتُ نفسي ووقفتْ بي سيارتي أمام بيتنا الذي غادرني مفتاحه للأبد ..
شاهدتُ نافذتنا غرقى في الظلام ، وغرف أطفالنا الذين لم يأتوا ، ومسحتُ رقمكِ من هاتفي .. وبدأتُ أستعد للفوضى الجديدة ، فوضى غيابك وانحجابك للأبد !
كل الرياض كانت نائمةً في ذلك الهزيع ، وحدي من كان يقظاً يغسل الدمع عينيه عن الكرى ، وشعرتُ أني وحيد .. ليس هناك أقسى من مواجهة الحزن وحيداً ياسارة ..
وناداني صوتٌ كأني أسمعه لأول مرة ، هبط في أذني ولامس شغاف قلبي وشعرتُ به يناديني ..
كان أذان الفجر الأول ياسارة ، 14 شهراً وأنا الغائب عن بيوت الله ،أقسم لكِ أني شعرتُ بهاتفٍ ينادي في جوف الليل تعال يا أيها الحزين ..
ومشيتُ حثيثاً تختنق عبراتي في صدري ، ودبت فيني سكينةٌ يوم دفعتُ باب المسجد ، وداهم خواء روحي خشوعٌ غاب طويلاً ..
نظرتُ للمصاحف للمحراب وشممتُ رائحة الطمأنينة تعبق في المكان ، وعرفتُ أن الله يراني .. خارت قواي وشهقتُ بدموعي ياسارة ..
ارتميتُ على الأرض في غير طهارة ، عفّرت جبهتي في السجاد وبدأتُ أبكي ..
لم أكن أدعي لم أكن أسأل لم أكن أرتجي .. كنتُ أبكي إلى الله وحسب ! كان بكاءً يتخللهُ راحةٌ من حيث لا أدري .. وعرفت أني بحضرة الرب الرحيم .. وهتفتُ بصوتي أزرعه في الأرض ليصعد في السماء : رب ارحمها ، وارحم ضعفي .. أعوذ بنور وجهك من ظلمتي هذه ، وأعوذ برحمتك من قسوةٍ تلفني .. رب كن معها وكن معي .. لذت بالمسجد تلك الليلة ياسارة .. وتوضأتُ وصليت أول ركعتين بعد قطيعة ، وقرأتُ سورة يوسف أتسلى بها عن أحزاني .. كل هذا كان في الرابع عشر من شهر محرم ياسارة .............
........................" . فيصل


* * *

لن تقرأي رسالتي هذه ، اعتدتُ كتابتها منذ ثلاثة أشهر، منذ افترقنا ، أكتبها ثم أودعها سلة مهملاتٍ تمتليء بشقيقاتها ،
هاهو ربيعُ الثاني يفرشُ اسمه في التقويم وعلى توقيت المدينة ، وليس ثمة ربيع ياسارة ،
خريفٌ هذه الدنيا بعدكِ ، أكتب لأسلو ، أبعث حزني بين سطوري لأنام ، أكفكف دمعي بتدبيج الحروف ، صار النوم يتجافى عني في سطوة هذا الحزن ،
وأستعين عليه بالله وصبري وصلاتي ثم بالكتابة !
لا أعرفُ بعد ليلة الرابع عشر من شهر محرم ماذا جرى لك ، ربما تكونين في الرياض ، ربما رحلتم مع الراحلين في هذا الصيف ، رفعت الأقلام وجفت الصحف ،
تجافيتُ عن عالمكِ للأبد ..
ستبقين جرحاً غائراً .. وندبةٌ في قلبي ، وأعرفُ أني سأموت ولم أنساكِ يا سمراي الجميلة !

2004 / الرياض

:

:










38

(( الرياض / بعد خمسة أعوام ))

:
:

حين يخرجُ الرجل من قصة حبٍ جامحة ، انتهت بفشل ، يمر بدورةٍ مألوفة : يسقط حزناً ، يكتئب ، يحاول النهوض ، ينهضُ ضعيفاً ، يبدأ الحياة مجدداً من الصفر !
يظن من حوله انه اجتاز الخطر ، صار طبيعياً كما هم تماماً .. لكنهم مخطئون ..
هو اعتاد التمثيل حتى أتقنه ، هم لا يعيشون ليله حين يختلي بذاته ، ليل المحبين قاتمٌ بلون الحقيقة !

الحزن بعد الحب يشبه اشتعال السيجارة ، يبدأ قوياً همجياً ، كالنار تبدأ دفعةً قويةً تعلقُ في طرف اللفافة ، ثم تخمد .. وتسري جمرةٌ رتيبة تأتي على السيجارة حتى تنتهي ..
والعشّاق هكذا ، لا يُشفَون .. لكنهم يموتون ببطء !

حين يعصف بالرجل جرح الحب ، يحتاج مدةً طويلة ليهدأ نزفه ، وتتطامن روحه ،
.. لا يلتئم الجُرحُ وفينا ذاكرة!
يصل لاقتناعٍ تام أن سعادتهُ قضت ، ويبدأ البذل بسخاء لكل من حوله ، لا يحتملُ حزن الأقرباء والغرباء ، يريد أن يمنحَ السعادة لكل من يستطيع .. بعد أن اقتنع أن سعادته مضت !
وهذا ما أنا عليه الآن بعد خمس سنينٍ عجاف ، أصبحتُ أباً لأشقائي وشقيقاتي ، أقربُ الخلق طراً لهم ، وملاذاً رحيماً لكل مشتكي ..
حتى طلابي صارت بيني وبينهم أبوةٌ وألفةٌ لا يجدها أي زميلٍ آخر ..
بعد أن غادرتني سعادتي ، وعبثاً أحاول استرجاعها ، أريد أن أمحضها لكل باحث ، طبيبٌ يداوي الناس .. وهو عليلُ !

الكتابة اندلاع جرح ، صدق كافكا ..
عزائي في مأساتي الماضية أني خرجتُ منها بنزفٍ حبريّ ، وقف له الكل احتراماً ، صارت قصصي أشد ما تلقى رواجاً .. نقلتُ الحزن والجرح لساحة الورق ..
تنفستُ حزني حروفاً ، وصارت أطلالي أدباً يُشاد به طويلاً ..
الكتابة علاجٌ مؤقتٌ للحزن ، يؤخذ عند اللزوم ، كلما عاودتني كآبة الذكريات صُغتُ دموعي حروفاً أبتلّ بها من سقمي !

الكتابة تشبه عكازاً ، أو كرسياً متحركاً لمُعاقٍ عن المشي ،
هذا الكرسيّ لا يجعل المعاق كالأناس العاديين ، ولا يغيّر في إعاقته شيئاً ، لكنهُ ينقلُه ، يسهّل كثيراً من صعوبة واقعه ،
والكتابة لم تكن لتزيل حزني تماماً ، لم تصيّرني رجلاً عادياً خالياً من جرح ، لكني بها كنتُ أتحررُ قليلاً !
خمس سنين ، لم يعد كل الحزن مكبوتاً في صدري ، سكبتهُ أبجديةً في جنبات الورق ، تقاسمتُ وأوراقي ترِكة سارة الثقيلة !
سـارة ، مازال اسمها يخزّ قلبي ، جرسُ نطقه يخلقُ دمعة !

مضغني الحزن خمس سنين ، أهداني سمرةً كالحة ، وملامح مندقّة ، وابتسامةٌ كلما بدَت خالطها بعض صفار !
صارعتُ الموج وانتصرت ، موج سارة ، كان يُفترض بي أن أموت ، من أحب فتاةً كتلك لا يمكن أن يحيا بعدها .. لكنّ سهام الليل التي ما فتأتُ أبعثها لم تخطيء ..
عدتُ للحياة مجدداً أحمل جرحاً اعتدته ، بات بيني وبينه أُلفة .. أسكنتُ سارة في قلبي ومارستُ الحياة .

ها أنا أقفُ الآن في عرسٍ ثقافيٍ بهيج ، أقفُ كدليلٍ آخر على نجاحي في الخروج من ليلي الأدهم ..
أقف في معرض الكتاب أحمل بطاقةً تزيّن جيبي الأماميّ .. تحمل اسمي مسبوقاً بـ " الأستاذ الأديب " ، اليوم أوقعُ كتابي الثاني .. مجموعةٌ قصصية تحمل عنوان " حديث الغرباء " !
أخبار التوزيع تسعدني ، مبتهجٌ لتلقّي الناس كتابي بحبور ، أوزعُ حزني بينهم في قصصٍ مكتوبة بجرحي وحبر قلبي ، يتلقفونها كأنهم يقولون لم يذهب حزنك سدى !

حين تنشر كتاباً ، هذا يشبه تماماً تلقيّك لمولود ، طفلٌ يحمل اسمك ، باتت حروفي فلذات كبدي ، وأدبي عائلتي السعيدة ..
أنظرُ لقصصي مطبوعةً تحملُ اسمي وأتخيّلها مجموعة أطفالٍ ربّيتهم طويلاً ، كسيتهم علمتهم أطعمتهم ، ولما بلغوا زينتهم وزخرفهم أخرجتهم للناس ممارياً بهم الحشود ،
أفاخر بهم في هذا الجمع الكبيـر كأب يمشي ويتلوهُ أبناؤه ..هاهو أدبي يخبر العالم أني ما بتّ وحيداً !

بعض طلابي وزملاء المدرسة ، أصدقائي ، لفيف المعجبين بحرفي ، وقعتُ لكل هؤلاء سعيداً ، كنت أكتب اسمي بزهو وأتلقى التهاني كيوم زواج .. لا أقول يوم زواجي .. أنا الرجل الذي لم يعرف التهاني في يومه القديم ذاك !
نسخٌ كثيرة من كتابي مضت ، ذهب أطفالي مع الناس يخبرونهم عن الحب والرياض والفتاة السمراء وكل قصص المدينة في ست سنين !


- فيصل ؟!

سمعتُ اسمي حين هممتُ مغادرة المكان !
امرأةٌ تحمل طفلةً سمراء جميلة ، تقفُ أمامي بصوتٍ أتذكره ولا أنساه !
قبل أن أسترجع الصورة القديمة ، قبل أن أعرف محدثتي هتفَتْ بي :

- أنا .. سارة !

خمس سنواتٍ لم أرها ، ودعتها في غرفة المستشفى الكئيبة يوم خسرنا طفلنا ، ويصفعني الزمنُ بعودتها تحمل طفلةً ليست تنتمي لي !
شممتُ عطورها القديمة ، وسمعت أغانينا القديمة ، ومر في سماء ذاكرتي صوتها القديم وضحكتها وأنوثتها الطاغية ، ومغامراتنا في سماء المدينة ،
ورواياتنا التي تحدثنا عنها ، وليالينا التي أحييناها وودعناها ، وعواصفنا التي اجتاحتنا ، مر كل شيءٍ وأفقتُ على صوتها .. تحمل طفلتها باليمنى وتقدم لي كتابي بيسراها :

- ممكن توقع لي ؟!


ثلاثون ثانية أستوعب طلبها ، ثلاثون ثانية ألكز رأس قلمي لأبدأ ، ثلاثون ثانية أفتح صفحة الكتاب الأولى ..
دقيقة كاملة ردّدت نظري بين الكتاب وبينها وبين الطفلة ، دقائق لم نتحدث ..
كنا نحترم جُرحنا ، وقفنا له باحترام .. دقائق حِداد نكّسنا فيها رؤوس الحديث ولم ننبس .. تركنا لعيوننا لغة الكلام ..
لا بد أن سمرتي هالتها ، نحولي أخبرها بكل شيء ، ملامحي الغائرة قدمت لها نبذةً سريعة تلخص خمس سنين ..
صوتها الخفيض .. نظراتها التي تحاولُ عبثاً إخفاء لهفتها ، ابتلاعُ الصمتِ لسانها ، كل هذا يخبرني أنها لم تنسَ .. لم تنسَ وإن حملت قبيلة أطفال !

أوقع إهداءً لسارة :

" إليها ، إلى من علمتني أن الحياة موتٌ طويل ، إلى من جاءت وأهدتني أجمل أيام العمر ، ثم راحت وتركت لي أقسى لحظات الحياة .. إلى سمرائي العصيّة على النسيان "

أردتُ كتابة ذلك .. ثم استعذتُ بالله من جهل خاطري .. ولم أكتب ، نظرتُ إليها وكانت تنتظرُ توقيعي ، وفكرتُ أن أكتب :

" إلى أم أطفالي الذين لم يأتوا ، إلى من انتظرتُ منها سعود والعنود ، وغابت ولم يحضر سعود ولا العنود ، تركَتْ لي في القلب جروحاً أربيهم كأطفالٍ يتامى من أمهم ! "

لم أكتب هذا أيضاً ، وخطَر لي بعد خمس سنين أنها بحاجة أجوبة ، لكزتُ رأس القلم مرةً أخرى وأوشكت أن أكتب :

" إهداء ، إلى من سأصعد في أرذل العمر ولن أنساها ، كأنما حدثت لي أمس ! عبثاً تحاول السنوات زحزحتكِ عن صدارة الذاكرة ، إلى من ستكبر وتشيخ وتهرم في ذاكرتي ..
رحل أبي بعدكِ بأشهر ..وحفرنا لأمي في الأرض سجادةً من تراب ، رحلوا ورحلتِ ، خلفتموني وحيداً ، وصرتُ يتيمَ الثلاثة .. هل مرّ بكِ يتيمُ ثلاثةٍ من قبل ؟! "

ابتسمتُ ساخراً من فكرة اهدائي السخيفة :

" إلى سارة ، طفلتي التي خذلتُها، واستسلمتُ لقسوة واقعنا التعيس ، إلى التي تركتها في أشد أوقات الحاجة لي ..
الى التي هبطتُ من جنتها بخطأي ، كما هبط أبي من جنتهِ من قبل ! أهدي هذا الكتاب "

لم أكتب !

" إلى القابعة خلف أسوار الليل ، التي جاءت كحلم ، إلى التي نلتُها وعاشرتها وقاربتها أجمل سنة في عمري ، إليها ، تلك التي ضاحكتها وغنيتها أنشودة عمر ،
الى التي نسيت طعم لمسة يدها ورائحة جسمها ونبرة صوتها ، توارت خلف خمس سنين ، لا أصدق الآن أني كنتُ قريباً منها يوماً، أو كنتُ أحدثها تحدثني وتتركُ لي قميصها أفتضه زراً زراً ..إلى التي بدأت أشك أنها أضغاث حلم جميلٍ لم يحدث .. وهو أجمل ماحدث! "


" إلى من علمتني أن أكون طفلاً ذو أمنيات كبيرة ، وغادرتني وطارت أمنياتي كأسراب حمام ، الآن بات العمر أداء واجـب ، أمنياتي محدودة :
أعيش لأكتب ، لأُسعد من حولي ، لأخبر الناس أن الحب في هذه المدينة أسطورةٌ ليست حقيقة !
شاهدي أمنياتي ، لم يعد بينها أن تعودي ! ظلي هناك بعيداً على حدود السحَر ، وعلى أطراف السحاب وفي وجه القمر.. لا تعودي لم يعد للحب فيني مستقر ..
إن قلتُ أني ماهويتُكِ .. كذبيني ، إن قلتُ أني قد نسيتكِ .. كذبيني !
اختبئي خلف قلبي ، أغطيكِ كل ليل بعد أن أربت على كتف اسمك ، يا أجمل أيامي التي خلق الله .. "

خطَر لي كل هذا ولم أدوّنه ، لكني أخيراً رحتُ أكتب خاطاً بحبر قلمي :

" إلى ملهمتي وباعثة الحرف من مهده.. التي لولاها ما كان هذا الكتاب ، ستجدين صورتكِ كثيراً هنا بين السطور ، وستقرأين في كل حرفٍ امتناناً لك !
إلى سارة ، أجمل ما حدث لي رغم كل شيء .. فيصل . "


كنتُ أكتب هذه الحروف ، وطفلتها الصغيرة تمتد يدها في جيبي لتنزع بطاقتي البرّاقة .. كانت تشاغب هذا الكرت الذي يحمل اسمي وصفتي ..
حين انتهيت التدوين ، خلعتُ بطاقتي وأعطيتها للطفلة :

- لا لا فيصل ، خذها ...
- دعيها معها ياسارة ، دعيها .. لتعرف من الآن ، أن الأسماء أهم ما في هذه المدينة !


- مارأيك فيها فيصل ..؟

- جميلة .. تماماً كـ أمها !

:
:

2009
تمت .

..



" فيصل غنام - الرياض "


القلم الحر غير متواجد حالياً  
التوقيع
( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي )




أضغط على الصورة لدخول المدونة
رد مع اقتباس
قديم 17-05-11, 08:36 PM   #27

taman

نجم روايتي

 
الصورة الرمزية taman

? العضوٌ??? » 62057
?  التسِجيلٌ » Nov 2008
? مشَارَ?اتْي » 6,430
?  نُقآطِيْ » taman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond reputetaman has a reputation beyond repute
افتراضي

رواية اقل ما يقال عنها انها راااااااااائعة ومتميزة
شكرا جزيلا أخى القلم الحر على نقلك هذا الابداع الروائى الراقى
طريقة الكاتب فى السرد والكتابة
تتشابة الى حد ما مع الكاتبة أحلام مستغمانى
وكأنى اقرأ لها ولكن بروح رجل ...
أصبت فى الانتقاء أخى الكريم ...شكرا مرة آخرى


taman غير متواجد حالياً  
التوقيع











رد مع اقتباس
قديم 20-05-11, 07:17 PM   #28

القلم الحر

نجم روايتي كاتب و شاعر متألق في القسم الأدبي

 
الصورة الرمزية القلم الحر

? العضوٌ??? » 127837
?  التسِجيلٌ » Jun 2010
? مشَارَ?اتْي » 1,320
?  نُقآطِيْ » القلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond reputeالقلم الحر has a reputation beyond repute
افتراضي

أهلاً بالرائعه .. تامان ..

فعلاً الرواية تحتوي على كم هائل من الثقافة والإقتباسات للمقولات ..

وبأسلوب كما ذكرتي يشابه لأسلوب المستغانمي

وشكراً لكِ لمرورك العذب .. وإن شاء الله كل ما أقرأ رواية تنال إعجابي لن أتردد في طرحها هنا ..


القلم الحر غير متواجد حالياً  
التوقيع
( رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي )




أضغط على الصورة لدخول المدونة
رد مع اقتباس
قديم 28-05-11, 12:56 AM   #29

babo

نجم روايتي


? العضوٌ??? » 116614
?  التسِجيلٌ » Apr 2010
? مشَارَ?اتْي » 1,855
?  نُقآطِيْ » babo has a reputation beyond reputebabo has a reputation beyond reputebabo has a reputation beyond reputebabo has a reputation beyond reputebabo has a reputation beyond reputebabo has a reputation beyond reputebabo has a reputation beyond reputebabo has a reputation beyond reputebabo has a reputation beyond reputebabo has a reputation beyond reputebabo has a reputation beyond repute
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
مشكو ر علي الرواية الرائعة


babo غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 19-06-11, 06:26 AM   #30

جرح الذات

مراقبة ومشرفة سابقة ونجم روايتي

alkap ~
 
الصورة الرمزية جرح الذات

? العضوٌ??? » 54920
?  التسِجيلٌ » Oct 2008
? مشَارَ?اتْي » 16,539
?  مُ?إني » الدمــام
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Saudi Arabia
? مزاجي » مزاجي
My Facebook My Twitter My Flickr My Fromspring My Tumblr My Deviantart
?  نُقآطِيْ » جرح الذات has a reputation beyond reputeجرح الذات has a reputation beyond reputeجرح الذات has a reputation beyond reputeجرح الذات has a reputation beyond reputeجرح الذات has a reputation beyond reputeجرح الذات has a reputation beyond reputeجرح الذات has a reputation beyond reputeجرح الذات has a reputation beyond reputeجرح الذات has a reputation beyond reputeجرح الذات has a reputation beyond reputeجرح الذات has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   cola
¬» قناتك dubi
¬» اشجع hilal
?? ??? ~
قول الله تعالى ..(إذكروني أذكركم وإشكروا لي ولا تكفرون )
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

لي عوده باذن الله

جرح الذات غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:02 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.