آخر 10 مشاركات
جدران دافئة (2) .. سلسلة مشاعر صادقة (الكاتـب : كلبهار - )           »          [تحميل] أشباه الظلال للكاتبة / برد المشاعر ( ليبية فصحى) (جميع الصيغ) (الكاتـب : فيتامين سي - )           »          1110. الدلال . شارلوت لامب - عبير د.ن - حصرياً (كتابة /كاملة )** (الكاتـب : هوس الماضي - )           »          كل مخلص في الهوى واعزتي له...لوتروح سنين عمره ينتظرها *مكتملة* (الكاتـب : امان القلب - )           »          [تحميل] كنا فمتى نعود ؟للكاتبة/ الكريستال " مميزة " (جميع الصيغ) (الكاتـب : فيتامين سي - )           »          روايتي الاولى.. اهرب منك اليك ! " مميزة " و " مكتملة " (الكاتـب : قيثارة عشتار - )           »          في قلب الشاعر (5) *مميزة و مكتملة* .. سلسلة للعشق فصول !! (الكاتـب : blue me - )           »          مواسم العشق والشوق (الكاتـب : samar hemdan - )           »          انتقام النمر الأسود (13) للكاتبة: Jacqueline Baird *كاملة+روابط* (الكاتـب : * فوفو * - )           »          سجل هنا حضورك اليومي (الكاتـب : فراس الاصيل - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 24-01-11, 10:38 AM   #1

جعفر السوداني

? العضوٌ??? » 153703
?  التسِجيلٌ » Jan 2011
? مشَارَ?اتْي » 36
?  نُقآطِيْ » جعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond repute
افتراضي السر و العوض ..."مكتملة"


بسم الله الرحمن الرحيم
هذه مشاركتي الاولى السر والعوض





رواية سودانية معاصرة


العَوَضْ و السِّر


أبوخويلد جعفر...... مايو 2010





1ـ سوق الجمعة

لقد جربت ذلك بنفسي وفهمته جيّداً بواقع التكرار-الذي يعلم الشُّطّار- فعرفت تماماً وبما لا يدع لدي شبهة تحرك شكوكي حول هذا الإنطباع الواقعي , والمدعم بالتجارب والشواهد الحقيقية الضاربة في عمق الحياة الشائكة, وفي مجرى قلبها النابض والمتدفق بالغرائب والمحن .. أن هذا المخلوق الذي يسمى الـ (بَنِ آدم) من الصعب أن تسترضيه أو تستميله لصالح نفسك, ومن الأصعب وبل والمستحيل أن تتقي شره أو تعيش معه في سلام حقيقي تأمن فيه كيده ومكره. هذا ما تحقق لي فهمه من الواقع مما جرى لي من مقالب ومطبّات خلال حركاتي وأسفاري في دروب هذه الحياة بخيرها وشرها وأنا من الذين يؤمنون بأن الحياة -بكل وجوهها التي تبديها لك- يوجد فيها الخير ويوجد فيها الشر. لكن إذا واجهتني بالسؤال أين سكة الخير لأسلكها؟ أو كيف أجوز هذا الشر الذي إعترضني؟ بكل تأكيد سوف لن تجد عندي جواباً شافياً ولا نصيحة كافية والسبب بحسب ما أرى هو وببساطة: لأنك لستَ أنا!.. وأنا ليس أنت...! ، إذا كانت عباراتي الأخيرة هذه غير مفهومة, فليس بمقدوري أن أشرحها أو ألفق حولها كلامًا - في سبيل أن يتضح لك المعنى- ربما يكون من شأنه أن يذهب بالذي أقصده من وراء تلك الجمل البسيطة , ورغم ذلك فلن أبخل على القارئ الوقور بشيء من الإشارة أو الدلالة لأقول له أنني ربما أدور فقط حول مثل سوداني, لن أقول فقط أنه أصيل.. بل أيضاً مثل نبيل وعميق ألا وهو ذلك المثل الذي يقول بلغتنا الدارجة الفصيحة "الطبيعة جبل" و(من خلَّ عادتُّو قلّت سعادْتُّو) ويوافقه مثل آخر لا يقل عنه أصالة وعمقاً: وأنا سمعته أو علمته من أمثال العرب – باللغة الأم – هذا المثل يقول "الطبع لص" حاولت جهدي أن أجد لهذا المثل الفصيح موضع في سلوك نفسي وتصرفاتها, أستطيع به الحكم بإنطباق هذا المثل عليها وبالتالي جريان أحكامه على جوهر سلوكها وإتجاه ميولها. وحتى أكون معك واضحاً وصريحاً أخي القارئ : فَشِلت..! لم ينطبق هذا المثل العربي القديم الفصيح على نفسي, ولأكون أكثر وضوحاً: لم أجده ينطبق على نفسي لا من قريب ولا من بعيد..! وبالطبع معناه واضح لا يخفى عليك وربما تجده ينطبق على نفسك تماماً أيها الصديق ,لا سيما وأنه يقابل المثل الذي يتداوله العامة كثيراً من عاشر قوماً أربعين يوماً صار مثلهم) وأنا أعرف أن هنالك من الناس -من البشر الناطقين وليس من الحيوانات البكم- من عاشر أناساً وعاش معهم بالسنين الطوال دون أن يغيِّر ذلك من طبعه شيئاً, أو يؤثر ولو قليلاً في سلوكه وأخلاقه. هذا بالفعل أمر واقع ومن المشاهد كثيراً, فقد تجد إنساناً لئيماً .. إضطرته الحياة سواء لظروف عمل أو لمصلحة ما ليعيش وسط أناس طيبين فضلاء , أو بخيلاً أجبرته الأيام أن يساكن أقواماً كرماء أسخياء, ولكي يعيش كل من هذا اللئيم وذلك البخيل في سلم مع هؤلاء القوم الذين يخالفونهم في الصفات والطباع, تجد كل منهما يحاول التشبه بسلوكهم حتى لا يبدون شاذين ومخالفين لهؤلاء الناس الذين إضطروا للعيش معهم, وحتى لا يصيروا بمرور الأيام – إذا استمروا بذلك الطبع المخالف والمُشاتِر – منبوذين وغير مرغوب فيهم, لهذا ترى اللئيم يتظاهر بالطيبة والرفق, والبخيل يتظاهر بالكرم والسخاء,وتراهم مستمرين كذلك على تلك الحال حتى إذا شاءت الظروف: وعاد كلٌ إلى موطنه الذي نشأ فيه وعُرف فيه بتلك الصفة والعادة, رجع اللئيم إلى سيرته الأولى لئيماً يتظاهر باللؤم, وعاد البخيل بخيلاً يأبى أن يخفي بخله وشحه, وكما يقولون (حليمة رجعت لي قديما) وما انطبع على الإنسان منذ الصغر يصعب عليه التخلص منه في الكبر ومن شبّ على شيءٍ شاب عليه, وغلب الطبع التطبع!.
لستُ مؤدباً ولا معلِّم أخلاق ولا محلل نفسي إنما قصدت بتلك المقدمة المملة – أرجو أن تعذرني أيها القارئ – أن ألفت إنتباهك إلى النظر دائماً إلى طبع الإنسان قبل الحكم عليه بفساد أو صلاح, إذ يجب ألا يخدعك مظهر الآدمي الجميل وما يتقمصه من ثياب تحجب وراءها جُبْن الغدر وتخفي خلفها شؤم الخيانة, تماماً كما يشير المثل (وراء السواهي دواهي) فإذا بدر لك من إنسان أمر قبيح ومشين فلا تستغرب..! فقد يكون هذا من طبعه وعادته, فهو مغلوب بطبعه على فعل القبيح , فلا يستطيع التستر بأي لباس – ولو كان زائفاً – للخير لأنه أصبح ضعيفاً أمام سطوة ما نشأ عليه من طباع شريرة , وأما إذا بدرت لك أفعال جميلة وأقوال رقيقة: فلا تأمن.. لأنها ربما جاءت وراء أقنعة الغش وحُجب الخداع.. وفي كل الأحوال -أيها القارئ النجيب- لا أمان ما دام بإمكان الإنسان أن يتلبس ويتقنع بثياب تتلون بسائر الألوان, وتتشكل بكافة الأشكال حتى يتسنى له خداع الغير بإخفاء طباعه القبيحة التي لا يقبلها الناس! لأن الطباع والخصال الجميلة يقبلها الناس بل ويحبونها, لذلك دائماً لا يتكلف صاحب الصفات الفاضلة مشقة إخفاءها ولا يبادر بتعريف الناس بها لأجل الافتخار وإظهار الأفضلية والتصدر, والجميل هو جميل لا يحتاج إلى تكلف لإبداء هذه الميزة!.. فصاحب الصفات الحسنة و(الطَبْع السَمِح) دائماً ما يذكرني بمثل تردده كثيرا "حبوبتي" -عليها رحمة الله- وهو يقول: ( السَمِحْ.. سَمِحْ ..! كان زَرَعوهُو عيش يِطْلَع قَمِحْ..!).
دعني أقتصر على ذلك حتى لا أطيل الإسترسال في هذه المقدمة, والتي أعلم أن الكثيرين لا يريدونها, لرتابتها ولأنها تتكلم بلسان الناصح الذي يدعي أو يتوهم أنه خبر أسرار الحياة ومقالبها, وبالطبع من زعم أنه قد فهم الحياة بحيث يصبح بإمكانه التعايش مع كافة مشاكلها دون معاناة ، أو التحرز من بعض مفاجأتها دون التعرض لنكبات ومتاعب فقد كذب وجاهر بالكذب!.. والحياة نفسها تشهد...!!
كيف أبدأ هذه الحكوة القصيرة وكيف سأسطرها لك.. هذا ما أرى نفسي عاجزاً عن فعله أيها القارئ الكريم لكن على كل حال دعني أبدأ دون إكتراث ودون تحفظ!.
كان ذلك في نهايات الثمانينات وبداية التسعينات, وهذا التاريخ يبدو للبعض قريب جداً.. لكن بكل تأكيد هنالك -من الأفراخ الصغيرة التي لم ينبت ريشها بعد- من يضمه مع العصر الحجري. الأجيال صارت تتسابق ويلحق بعضها بعضاً بسرعة جنونية. وما تراه اليوم حديثاً وجديداً يصير غداً قديماً وغير مرغوب فيه!.
عندما توقفت عربة اللوري في منطقة من الخرطوم يقال لها (سوق الجُمعة) وهي تجاور السوق الشعبي, كان الوقت حينها يوافق العاشرة صباحاً – بتوقيت الثمانينات بالطبع – ومع أن طبيعة ذلك الوقت الصباحي تقتضي برودة الجو أو على الأقل إعتداله, إلا أنه مع شدة سطوع شمس الصيف الحارقة بدأت بشرتي في التعرق خصوصاً أعلى جبهتي ، وبدا لي جو الخرطوم حاراً (كاتماً) وقاتماً لولا بعض ما يتخلله - بين الفينة والأخرى – من تيارات هوائية محملة بالغبار والأتربة هي أشبه بالأعاصير, و قد أكملت ما ارتسم على شعري ووجهي وملابسي من لوحة ترابية شكّلها ما أثارته عربة اللوري من غبار وتراب على طول الطريق من (حلتنا) إلى العاصمة, وهو محمل بشحنة محصول (البصل) ليتم تسويقه في ذلك التوقيت والذي يصادف موسم رواجه وغلاء أسعاره.
ما زلت جالساً أعلى اللوري (مُحكّراً) على (التَندة) بملابسي الإفرنجية وشعري (الخُنْفُس) أراقب السوق من وراء نظارتي السوداء التي كنت أحبها, تأملته جيداً فإذا به لا يختلف عن سوق ود مدني كثيراً إلا أنه فقط كان يأخذ حيزاً أكبر و (بشرية) أكثر, رغم أنها المرة الأولى التي أقدم فيها إلى الخرطوم لوحدي.. إلا أنها لم تبهرني ولم أرى فيها ما يجعلني أندهش وأنبهر!. شيء وحيد لفت إنتباهي وأنا في أواخر العشرينات من عمري في ذلك الزمان, وهو منظر المباني العالية وكثرتها قي الأحياء وحول السوق, وتزاحم السيارات الصغيرة منها والكبيرة وتعدد ألوانها وأشكالها, والصخب والضجيج الشديد الذي تحدثه تلك الماكينات المتحركة الحديثة.
بينما كنت سارحاً مذهولاً في كيفية إنجاز مهمتي التي أتيت لأجلها, وبينما كان ذهني مشتتاً مع ذلك الكم الهائل من البشر وهي تجئ وتروح نحو ذلك السوق الصاخب وأنا ما زلت (خالفاً) إحدى رجلي فوق الأخرى أعلى (التندة) إذا بحاج عبد الفضيل:
- يا ود حاج إسماعيل إتْ ماك نازل ولا شنو..؟ أنزل يا أخي الناس كلها نزلت..!.
ثم صاح بي ابن عمِّي حمّاد:
- ياخي ما تنزل يا العوض خلينا نشوف لنا طريقة فطور ولّى أي حاجة نفك با ريقنا .... ولا عاجباك العِنْقيلة الفوق التندة دي!.... عليك الله شوفو الزول الجيعان في بطنو وعاوز يتمنضر..! انزل ياخي لا اْتأخِّرْنا...!
ضحكت على نفسي وضحكت على (جماعتي) الذين أتيت معهم لأنهم طوال إقامتهم في كرش الفيل هذه إلى حين بيع محصولهم, فهم تحت ضيافة: "تاكُل من جيبك" تلك الضيافة التي لا يحبها أهلي الكرماء (الزينين). بكل هدوء أخرجت منديلي الأبيض "المشجر المطرز" وجعلت أمسح على وجهي وخلف عنقي لأزيل عنها ما علق بها من الغبار والأتربة التي إختلطت بالعرق, وجعلت أنفض قميصي و(بنطلوني) لإحررهما مما لصق بهما وعلق من أوساخ وأدران. نسيت أن أخبرك ..! فقد كنت أرتدي قميصاً أنيقاً-آخر موضة- يطلق عليه في ذلك الوقت (تَحْرِمْني) وبنطلون (شارلستون). آخر أناقة وقيافة!. ثم أخرجت من حقيبتي الصغيرة "خُلالاً" خشبياً وجعلت أنفش و(أسرِّح) شعري (الخُنْفُس) الذي كان مشبعاً بالغبار والأتربة, بعدها أخرجت قارورة صغيرة من العطر – لم تكن من النوع البخاخ – عندما تزيل غطاءها الخارجي تجد فمها مغطي بغلاف بلاستيكي به ثقب دقيق ، جعلت أنفض القارورة بيمناي على كفي اليسرى, وتعطرت جيداً ثم حملت حقيبتي على كتفي وهبطت بهدوء من أعلى اللوري ليطأ حذائي "الدبّابة" الأنيق قذارات سوق العاصمة. في حقيقة الأمر ربما تكون جميع القاذورات مقبولة حول أي سوق شعبي عام, أما الفضلات الآدمية وما يخلفه الآدمي في نهاية معالجته وهضمه لما يشرب أو يأكل ليتخلص منه في آخر الأمر في إحدى نواحي السوق, فغاية التخلف وغاية اللامبالاة وعدم المراعاة لحقوق الآخرين!......
يقولون أن الأوروبيين وطاغوتهم الأكبر أمريكا, قد صنفوا دول العالم إلى مراتب ودرجات حسب ما يحلو لهم: ومن المعروف أنهم قد صنفونا ضمن دول العالم الثالث-أنا حقيقة متشكك هل فعلاً العالم الثالث أم الخامس أم درجة أخري أكثر تأخراً لست متأكداً- لكن للحق والحقيقة إذا رأى أحد المعتمدين من المسئولين المصنِّفين لدرجات رقي الأمم وتحضرها, تلك القذارات المرصوصة من الفضلات البشرية, حول السياج الذي يحيط بالسوق, وهي كثيرة ومتنوعة, فهناك النفايا الطازجة الرطبة, تتخللها بعض النفايا اليابسة المسودة! لكن الجميع يشترك في فظاعة المنظر ونتانة الرائحة!.. فأبو (الدَرْدَاق) البعض يناديه بـ: (أبوالدَرْدوق) تلك الحشرة المثابرة الموكلة غريزياً بتنظيف وجه الأرض من الفضلات الحيوانية وأخذها بعيداً إلى مكان لاتراه الشمس, و(دَرْدَقة) جميع الأوساخ التي تلفظها الحيوانات بعد هضم الطعام وعلى وجه الخصوص تلك النفايا النتنة التي يلفظها الآدمي كنتيجة طبيعية لما ينتج أخيراً بعد هضمه واستفادته لما يتناوله من الأكل والشراب. فأبو الدرداق-والذي وهب نفسه وحياته لتلك المهنة الوضيعة القذرة- يبدو أنه قد عجز عن تنظيف هذه المنطقة القذرة من السوق, وأنا أرى ذلك لأحد سببين لا ثالث لهما: إما بسبب زيادة الناتج من تلك الفضلات والنفايا فالبشرية هنا تتواجد بكم هائل, وإما لعجز أبو الدرداق وضعف قدرته على التعامل مع ذلك النوع بالغ القذارة والعفن من تلك الفضلات السوقية والتي يدخل في إنتاجها أنواع كثيرة وغريبة من الأطعمة والأشربة لم يعتاد أبو الدرداق المسكين على التعامل مع خلاصة مخلفاتها التي تخرج عبر القناة الهضمية كمواد قذرة غير مرغوب فيها!. فمع كثرة الحشرات من نوع أبو الدرداق في هوامش السوق وأطرافه إلا أنها بالرغم من ذلك فهي مكتظة بالقاذورات والمخلفات الآدمية!!.
هذا فقط عن المخلفات الصلبة والتي دائماً, ومن الطبيعي أن تجد بجانبها المخلفات السائلة التي تفوح منها رائحة البولينا المميزة والتي حين تصدر من أبوال مركزة تكاد رائحتها (تَعمي وتَطْرِش), فأنت قد تجد بولاً لآدمي دون أن تلمح بجانبه أي أثر لغائط لكن من المستحيل أن يحدث العكس!, فقلما- بل ومن المُمْتَنَع- أن تجد غائطاً لآدمي دون أن يبدو لك أثر البول في شكل سائل قد تشرّبته تربة الأرض تتوسطه حفرة صغيرة إذا كانت التربة هشة أو رخوة, لأنه من المعروف أن تلك هي عملية طبيعية معروفة ومسلم بها خصوصاً لدى بنى الإنسان وربما الكثير من الحيوانات,إلا أن تلك الأخيرة لا أستطيع الجزم والقطع بما ظننته عنها في هذا الشأن.. ولله في خلقه شئــون!.
إذا رأى أولئك المصنفون الدوليون هذا الذي وصفته لك من أنواع القاذورات والنفايات البشرية التي تحيط بالسوق ، بالتأكيد فإنهم لا يترددون في سحب اسم دولتنا المبجلة من من قائمة دول العالم المتخلّف – لأن هذا العالم الثالث رغم أنه متخلِّف إلا أنه في النهاية ينتمي إلى العنصر البشري- ليضموا اسمنا مع قائمة ذوات الأربع, وسوف لن أسترسل أكثر حول " ذوات الأربع" هذه حتى لا يتضح معناها لمن تتملكهم الغيرة العمياء – رغم أن المعنى واضح- فتأتي ردود أفعالهم هوجاء وحمقاء تماماً كتصرفات ذوات الأربع التي لم يجد مصنِّفوا الأمم أقرب وأنسب عائلة ليضمونا إليها!.
- ياخي شوفو لْنا طريقة قهوة.. راسنا دار ينشق من الوجع..!
- يا حاج عبد الفضيل الوكِت وكِت فطور كان شربت القهوة تاكل كيفن...؟
هكذا بدأ جدال (بايخ) سخيف بين حاج عبد الفضيل سائق اللوري وبين حمّاد: أحسن نفطر ...لا أحسن نبدا بالقهوة..! يا زول أخير الشاي والقهوة في الأوال!...لا لا ياخي نحنا جعانين وزيتنا طالع..!!.
إياك أن تعتقد أن ذلك النقاش الذي قد يبدو لك عقيماً و فارغاً, هو مجرد جدل عادي سرعان ما يخمد بأن ينصاع أحد الخصمين إلى رأي الآخر. أو أنه أقرب للهزل باعتبار أن مثل هذه الأمور لا يختلف فيها العقلاء ...! لا....! إن الأمر في الحقيقة يأخذ مأخذ الجد, فالأصوات تتعالى والوجوه تبدو عليها علامات الغضب والحمق, وكادت الخصوم البائسة المنهكة من طول السفر أن تتشابك بالأيدي وفي ماذا؟ في شيء فارغ! نفطر ولا نشرب قهوة؟!.
الموقف كان هزلياً وفي ذات الوقت مستفزاً وفي جانب آخر مثيراً للشفقة:
- يا جماعة الخير في ناس في الدنيا بختلفوا في حاجات ذي دي؟
حاج الريح (اتْحَمَق) واسثير جراء هذه المعركة الكلامية التي بدأت تدخل في طور المشكلة الحقيقية:
- حرّم انتوا ما رجال...! ده كلام تصيحو فيهو وترفعو صوتكم ... خلاص قفِّلو!! دايرين تلموا فينا السوق وتعملوها مشكلة؟ إنعل أبوالفطور وإنعل أبو القهوة!.
الجماعة (هرشوا).. حاج الريح رحمة الله عليه كان رجلاً (حاراً) وكلامو (حار) ورجل (دقري) وله قدرة عالية على حسم اللأمور بجدية وحزم!.
عم الصمت جماعتنا التسعة إحتراماً لحاج الريح, لا أذيعك سراً فبالرغم من أن المنطق يقول بأن الأولى أن نتناول الفطور أولاً ثم المكيفات بعد ذلك لمن يشاء, إلا أنني كنت في صف الفريق الذي يؤيد تناول القهوة أولاً -بالطبع كنت كاتماً ذلك في سري ولم أفصح عنه-. لأنني لم أشرب قهوة المغربية التي تعودت عليها ولم نكن قد تناولنا جميعنا شاي الصباح, ذلك الروتين الأساسي الذي لا يقبل الكسر والتبديل طوال حياتنا, لكننا في النهاية إستسلمنا وتبعنا حاج الريح إلى أن حطّ بنا في إحدى (الرواكيب) - مفردها راكوبة أيها القارئ النجيب – كانت الراكوبة تقوم على أعواد (القنا) المعروشة بجوالات (الخيش) القديمة وقد افترشت أرضيتها بسجادات أنيقة من السعف البلدي وفي أحد أركان الراكوبة تجلس حاجة – تبارك الله – حباها الله بسطة في الجسم تحيط بها مجموعة من (الكوانين) عليها مجموعة من الحلل والقدور المعبأة بـ (المِلْحات) وهناك صينية معبأة لإرتفاع كبير بـ (طَرَقات الكِسْرة) المغطاة بكيس النايلون, كما أن هناك أيضاً كيس بلاستيكي آخر معبأتماماً (بالرغيف) الخبز. جلسنا جميعاً على السجادة وكل منا من فرط الإرهاق والتعب بدأ يصدر صوتاعفوياً-أثناء جلوسنا- ودون ما يقصد,... صوتاً غالباً لا يأتي إلا من الذي أتى إلي بيته في آخر اليوم بعد أن قضى يوماً مليئاً بالأعمال الشاقة والمتواصلة..!
- آآخخ لا حول ولاقوة إلا بالله – من التعب- سلام عليك يا حاجة عندك شنو؟!
التفتت نحونا بمهل وهي ترمقنا بنظرات فاترة وغير مرحبة, كأنها تستخف بنا وتحتقرنا ربما أن ـ الجماعة المعاي ـ لم يفطنوا إلي ذلك, إلا أنني تفرست جيداً ما تخبئه ملامح وجهها, وقرأت بسهولة ما تقوله نظراتها البلهاء: إنها مجرد نظرات تاجرة جشعة لم تظن خيراً بمقدرات زبائنها المالية, وأظن فيما يبدو لي أن هذه التاجرة الساذجة تتعامل مع زبائنها بنظرية: "الجواب يكفيك عنوانو" مدعمة ذلك بـ (الوهمة) المتداولة كثيراً لدى التجار المغفلين: " الزول الـ بدفع من الزول الـ ما بدفع ظــااااهر!"... ولعل هيئتنا الرثة بفعل عوامل الجو وبحكم أننا كنا(مُسَطِّحِين) أعلى اللوري المشحون بـ (شوالات) البصل طوال تلك الرحلة الطويلة والشاقة من الحلة, أضف إلى ذلك أن القروي دائماً وغالباً ما تكون له هيئة أو حتي سحنة واضحة تميزه عن الإنسان الذي يقيم في المدن, وذلك بدءاً من زيِّه وملابسه إلى اللهجة وطريقة الكلام والتعامل العام. لكن هب أن كل ذلك وغيره مما لم أفطن إليه, حاصل وحادث بالفعل, فمن الغباء بل ومن غير المنصف أن تقطع بالحكم على إنسان لمجرد هيئته أوسحنته, لإنه قد يكون وراء ذالك اللون وتلك السحنة خفايا وخبايا, قد لا تتمكن من التعرف عليها بمجرد الحكم الخاطف المتسرع, وتصديق مايمليه عليك الظن السئ بما يبدو أمامك من المظاهر الكاذبة... و (المظاهِر خدَّاعة..!!).
ـ أهلاً وسهلاً... حبابكم!.
كان ذلك رد تحيتها, وهي تجرجر بأطراف ثوبها لتغطي رأسها وجوانب وجهها, في محاولة منها لإظهار المزيد من الإحتشام والتستر أمام أولئك الرجال الأجانب الغرباء الذين جلسو أمامها! (يا حاجّة هُوْ نحن جيناك في بيتك؟!... ما نحن في سوق الله أكبر!), وهذه من (الحركات) والألاعيب النسائية السمجة والمكشوفة لدى الجميع, ما أن ترى المرأة السودانية – خصوصاً الشابات والكثير من المتشبِّبَات- رجلاً , فإذا هي وبطريقة حاذقة وماكرة, ترمي بثوبها وتدع طرفه الذي يغطي رأسها ليقع علي كتفيها, بعد أن تكون قد سحبته - لاأدري كيف - ولكن من المؤكد بدهاء ومكر!.. فيبدو لك رأس الموناليزا مكشوفاً من الشعر إلى النحر!!. وأنا أستغرب وأتعجب ماذا يوجد على ذلك الرأس ليسترعي إنتباه الرجال حتى تتعمد المرأة لتكشف غطاءه, فتُرِي الرجل ماهو متعارف عندنا بوجوب ستره وحفظه. أما المضحك في الأمر أنك لا تلبث أن تراها تجتهد وهي منزعجة في إصلاح ماوقع وتدلّى من ثيابها وإعادتها إلى ما كانت عليه, وبعض الماكرات لهن قدرة فائقة علي التحكم في إبقاء أوإطلاق "التوب" من عدة مناطق من جسدها, فبإمكانها كشف ما شاءت من أجزاء جسمها بمجرد جعل ذلك الجزء من"التوب" الذي يغطي تلك المنطقة التي تريد كشفها يقع!, في أسلوب فني بهلواني غريب يبين لك بجلاء كيدهن ومكرهن!.. لكنها سريعاً تعيد الأمور إلى سيرتها الأولى, كأنّ شيئاً لم يحدث, في إشارة كاذبة منها إلى أن الذي حدث مجرّد أمر عارض لم يكن مقصوداً أو متعمداً!... واللعبة في النهاية مكشوفة حتى لدى الكثير من البسطاء والسذج!!...و(الكلام إليكي واسمعي يا جارة)!.
- عندك شنو يا حاجة؟..
بعد أن تعرّفت على هويّتنا من خلال تلك النظرات الخاطفة والفاحصة والحاسمة في ذات الوقت- أشاحت بوجهها بعيداًعن ناحيتنا ، فوجوه أولئك العرب البخلاء و(الجيعانين) هؤلاء قد ألفتها جيّداً فلا داعي لإرهاق عيون المها تلك بالمزيد من النظر والتأمل في أصحاب تلك الوجوه الكالحة التي لا تعرف سوى (العرّاقي والتِّكة و العكاز المضَبَّبْ)!. ثم أطرقت برأسها برهة من الزمان وهي تنظر نحو الأرض، تبعت ذلك بنظرة أخرى ناحية السماء ، وأثناء ذلك – أي أثناء الصِنْقيع والدِنْقير- كانت ترمي برأسها يمنة ويسرة ... وما ذلك التعب والتمثيل كله إلا مقدمة وتمهيد لسرد قائمة الطعام التي استفسرنا عنها ، وبالفعل بدأت تسرد في أصناف الأكل الذي عندها -وهي تصَنْقِع وتْدَنْقِر وتَلَوْلِو في رَقَبَتَا- وتغير في نبرة صوتها التي صارت من الواضح تشبه نبرة الجنس الخشن كنتيجة طبيعية لعامل السن ، وهي تتحدث (بِآخِر نَفَس)وكلامها يخرج من مناخيرها وبالكاد نميز كلمة واحدة ، و(القدُّوم) (يمِطُّو فيهو ويمِدُّو) – هُو براهو ناطِّي- و (هاك يا عجرفة وهاك يا دلع في الكلام) وقد فعلت كل ذلك وهي معرضة بوجهها عنا – خلاص يا تاجوج!- .... وقد احترت في نفسي لماذا تتحدث إلينا بذلك الأسلوب؟! لم أجد تفسيراً لذلك سوى أن الأمر لا يتعدى سوى (قَرْضَمة ورَفِع نَخَرة)! ويا ريت كان عندها نخرة عشان ترفعا!.
فالإنسان عندما يجهل إلى أيّ الفئة العمرية ينتمي و طبيعة التعامل الذي تفرضه عليه تلك السن, فإنه حتماً سيسيء التعامل مع الغير ، وحتى إذا لم يقصد ذلك فإن الناس سيسيئون به الظن ، وقليل من يغفر له, وفي النهاية سيتعب نفسه ويتعب غيره معه!.
صاح أحدنا ليخلصنا من إعادة السؤال ومن الجدل في اختيار صنف الطعام الذي سنفطر عليه:
- يا حاجة عندك بلدى ولا ما عندك؟!
- في البلدي...!
- خلاص أعمليلنا تلاتة طلب وجهزلينا قهوة...!
لا أريد الخوض في تفاصيل ذلك الإفطار الجماعي الذي كان مليئاً بالنكات والملح, فقد كان لدي غرض هام من قدومي هنا إلى هذه البلدة, وعلى أن أنجزه في فترة أقصاها يومين حتى أتمكن من الرجوع في نفس لوري الحلة الذي أتيت به, وإلا فسوف أضطر للعمل في السوق كعادة الشباب من أبناء قريتي حتى أجمع ثمن تذكرة الرجوع إلى مدني ومن ثم إلى الحلة. قمت واقفاً ومعي أحد أقربائي يقال له السر:

2ـ مبنى الجوازات



التعديل الأخير تم بواسطة هبة ; 30-01-11 الساعة 08:34 PM
جعفر السوداني غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-01-11, 03:40 AM   #2

هبة

روايتي مؤسس ومشرفة سابقة وقاصة في منتدى قصص من وحي الاعضاء

alkap ~
 
الصورة الرمزية هبة

? العضوٌ??? » 3455
?  التسِجيلٌ » Mar 2008
? مشَارَ?اتْي » 23,166
? الًجنِس »
?  نُقآطِيْ » هبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond repute
افتراضي

أهلاً و سهلاً بك أخى جعفر فى أسرتنا الكبيرة روايتى ... أتمنى أن تجد كل ما تبحث عنه من إهتمام و متابعة و نقد هنا فى روايتى ...




مقدمة و فصل أول يشعرانا بأن هناك كاتب متمكن من أدواته قد حط رحاله فى بيتنا فأهلاً بك مرة أخرى ... أنتظر القادم




أخى جعفر متابعاك و شكراً لك


هبة غير متواجد حالياً  
التوقيع






اللهم ارحم والدى برحمتك الواسعة ...إنه نزل بك و أنت خير منزول به و أصبح فقيراً إلى رحمتك و أنت غنى عن عذابه ... آته برحمتك رضاك ... و قهِ فتنة القبر و عذابه ... و آته برحمتك الأمن من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين ...

اللهم آمين ...
رد مع اقتباس
قديم 25-01-11, 11:10 AM   #3

جعفر السوداني

? العضوٌ??? » 153703
?  التسِجيلٌ » Jan 2011
? مشَارَ?اتْي » 36
?  نُقآطِيْ » جعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond repute
افتراضي السر والعوض الفصل الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم
شكرا للإدارة على المتابعة!! والشكر أيضا موصول للقراء الذين امضوا زمنهم فيي قراءة هذه المشاركة المتواضعة
واليوم أدلف بكم إلى الفص الثاني من الرواية فهيا معي :
2ـ مبنى الجوازات
- هوي يا جماعة باقي نحن بعد ده ماشين على الجوازات... ومتى ما انتهينا بنغشى معانا حاج عبد الواحد نشيل منو مكرفون الجامع الرسلوا الرّضي من السعودية!.
- خير تب..! ، لكن عاينو جاي الليلة مو يوم الأحد..؟ التلاتا العصر خلاص نحن بنقوم على الحلة والبتأخر ما يلومنا.... كلامي دي مو واضح؟.
- يا حاج عبد الفضيل كلامك حرّم ذي الشمس... كان اتهونت الثلاثاء الصباح فجر تلقانا معنقلين في اللوري!.
هذا الشخص الذي يدعى السر ود المليح معروف بأنه مكار وصاحب (مقالب) وقد حذرني ابن عمي حماد كثيراً منه:
-هوووي أعمل حسابك من أبـ رِويس ده.. أوعى يمقلبك ولّى يورطك في مصيبة!
- يا ودعمي بعد العمر ده كلو ذي السر ده بورطني؟!.
- يا زول ها..! انت السر ده ماك خابرو ساي! الزُوِيل الهُوَيِّن الشايفو ده دخل ناس السجن وهو مرق ساي براءة!.
هذا الكلام جعلني أتخذ الحيطة والحذر, رغم أنني في غرارة نفسي كنت مستبعداً أن تبدر منه أي بادرة للغدر أو الخيانة, وذلك لسبب بسيط وهو أننا الإثنان معاً الآن نعمل لأجل مهمة مشتركة يتوقف عليها مصير مشترك لأجل تحقيق مصلحة كل منا يحتاج إليها، ولأننا بقينا الإثنان فقط في الحِلّة بعد أن سافر جميع أقراننا إلى دول المهجر وأصبحنا الوحيدين الذين بقيا مع الذين(يحرسون العَقَاب).
وصلنا إلى مبنى الجوازات والهجرة حوالي الساعة الثانية عشر ظهراً. وقبل أن ندلف إلى داخل المبنى فإذا بأصوات تصيح بنا – ذكرني بصياح الكماسرة وسماسرة الركاب في مواقف المواصلات تعالوا جاي تعال يا الاخو بجيِّهك!) عندما التفت نحوهم شككت في أننا قد ضللنا المكان المقصود:
- إتْ يا السر نحن جينا هنا بالغلط... دي ما الجوازات ولا شنو؟ ، البكان ده باقي لي ذي البوسطة!!.
- اتْ جنيت ولا شنو يا العوض ده بكان الجوازات والجنسية!.
- طيب أعمامك القاعدين وخاتين قدامن ترابيز ديل الجابن شنو؟
- ديل دايرين يترزقوا من الدايشين... غايتوا مننا ما ظِن بلقولن حاجة...! كدي ورح وراي.
توجهنا عبر البوابة – التي يقف على أحد جانبيها عسكري طويل أشيب كثيف شعر الشارب – إلى داخل المبنى الذي كان مكتظاً بالناس, وهم يقفون في صفوف عديدة وطويلة وعسكري آخر شاب (حقّار) يحمل بيديه عصي بلاستيكية سوداء ينظم الصفوف يضرب هذا ويدفع هذا وينهر ذاك:
- ياكي ما تَكرِّب سَف أقِيف في سَفْ أديل...! انت ما تَسْما كلام أنا ولا شنو؟!
لم تعجبني تلك (الزحمة) ولم يرق لي منظر الناس وهم يتدافعون ويشتم بعضهم بعضاً:
- يا زول هـــوي انت ما كنت في الصف..! ما شفتك أصلو.. جيت من وين؟!.
- ياخي هسع أنا كنت هنا.. بس مشيت شربت لي موية من الزير القدامك ده!
- هوي ما تستهبل علينا... خلقتك دي ما شفناها أصلو في الصف, نحن من دغش الرحمن واقفين جايين إنتو نصاص النهار دايرين تقابلوا قدامنا!.
ويستمر العراك الكلامي إلى أن يتدخل العسكري ليحسم الأمر لصالح الظالم على حساب المظلوم الذي هضم حقه بسبب شربة ماء كان في أمس الحاجة اليها.
كرهت هذا الشيء الذي يسمى (جوازاً) من قبل أن أستخرجه, وقبل أن أعرف كيفية طريقة استخراجه!. بل وكرهت نية السفر إلى العراق, وأصبت بالكثير من الإستياء والإحباط, برغم أنني لم أتلقي بعد في ذات نفسي أمراً أو شيء من سوء معاملة من أي أحد داخل هذا المكان يدعوني لأن أحبط أو أستاء لكن ما كانت تراه عيناي وتسمعه أذناي, كان كافياً لأن يؤثر على طبيعة إنسانية نشأت في الهدوء والبراءة وتربت على السماحة وحسن المعاملة!.
- يا السر اخوي ده محل شنو الجبتنا فيهو ده... على القسم كان الجواز ما بطلع إلا بالطريقة دي لا عاوز جواز ولا لخمة... هدا طرفي منو!.
ضحك السر من كلامي وتعجب من إنفعالي بما يجري هناك من أمور قد اعتاد هو عليها, وأنا لأول مرة في تاريخ حياتي أشهدها واقف أمامها!.
- يا العوض اخوي صلي على الرسول...! أسمعني جوازك وجوازي ديل انا بعرف اطلعن كيف.. قسم لا بوقفك صف ولا بدخلك مكتب بس انت أصبر لي! لوك الصبر ياااا ود العم....!.
أثناء وقوفنا الإثنين وأنا تغمرني الحيرة واليأس, كنت أفكر في كيف سيأتي دورنا مع هذه الجموع الغفيرة لنستخرج جوازينا, وأما السر فكان يتمطى وأحياناً يقف على أمشاطه, وتارة يمد عنقه وهو يحاول أن يميز شخصاً ما داخل المكتب عبر الشباك الذي يجلس قبالته الموظف الذي كان يستلم أوراق ومستلزمات إستخراج الجواز من الذين يصطفون أمامه واحداً واحداً. وبينما كنا نقف كذلك بجانب أحد الصفوف بالقرب قليلاً من شباك الإستلام إذا بالعسكري يصيح بنا:
- هوي انتو أقيف بييد.. يا أمش أقيف آكر سف هناك... ولا أتْلا برة ما تكَرِّب لينا نزام!.... شوف ناس أجيب ديل....؟!.
إقترب منه السر وجعل يهمس في أذنه بكلام لم أسمعه ودس في يده شيء ما لم أتبينه جيداً -أظنه شئ من المال – يبدو لي أنه مبلغ صغير! لعلمي بشحه وحرصه الشديد على المال, وهو لا يكاد يعطيك شيء إلا ويأخذ أضعافه, لذلك تراه لا يقبل ولا يرضى أن يوقفه شيء في سبيل ما نواه من أهداف, فقد يجازف بماله ويخاطر بنفسه, لأنه يعرف جيداً كيف سيستعيد ماله وكيف سيخلص نفسه إذا وقع في مأزق أو ورطة!. أدهشني أمر ذلك العسكري الذي كان ينظم الصفوف, والذي يبدو لي من سحنته وملامحه من أبناء قبيلة..... – لا داعي عزيزي القاريء لذكر القبيلة فنحن شعب معقد وحساس جداً خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالقبيلة أو السحنة– فبعد ما كان هائجاً ثائراً يلوح نحونا بـ (بسطونته) فإذا به يبرز أسنانه التي صقلها (الصعود) و(المريسة) طلاءً أحمر وآخر أسود, لعلنا نفهم بعد كل ذلك الجهد أنه يبتسم وسيقدم للسر الخدمة التي طلبها طالما ضمن من المال ما يجلب له (عبّاراً) أو (حق الصعود) على أسوأ تقدير!!.
أخرج وريقة من جيبه:
- قلتا لي اسما منو...؟؟
- التوم ود سعيد .... التوم سعيد.
- توم سييد .... كلاس!!.
ذهب مسرعاً نحو الباب الجانبي في الجهة اليمنى للشباك الذي يطل منه موظف الجوازات الأول.. يريد أن ينجز المهمة قبل أن (تجوط) الصفوف وتخرج من سيطرته : بالفعل دقائق معدودة فإذا به يعود في سرعة البرق ومعه شخص قوي البنية أصلع مشلخ, أما شاربه كما يفهم ذلك الوصف أبناء الجزيرة : (مفتاح كبري) ما إن وقع نظره علينا فإذا به يحتضن السر:
- وين يا ود المليح... كيف حالك ؟!وكيف أبوك وكيف أهلك كلهن؟!!.
بعد السلام والسؤال أخذنا إلى أحد المكاتب الطرفية الهادئة وكان بارداً وجيّد التهوية, وأذكر مروحة السقف الضخمة والتي قرصها الذي يقابل الأرض(طارتها) لا أجد إلا أن أشبهها بأحدى (حِلَلْ الملاح) الكبيرة! وجعلت أفكر كيف إذا سقطت هذه المروحة على رأس أحدنا وهي تتحرك بتلك القوة والسرعة مصدرة بذلك أصوات مزعجة ومخيفة (كَرْكَبْ كركب)! وأحياناً (سيك سيك), إذا فطن إليها صناعي حازق بالتأكيد سيحكم بأن هذه المروحة تحتاج إلى تغيير(بلي) ثم إلى تشحيم شامل!.
أصر عمّنا أن يطلب لنا فطوراً, ولكن بعد منازعة وجهد جهيد أقنعناه بأننا تناولنا الفطور وأتبعناه بالشاي والقهوة وغيرهما مما كان يستلزمنا من مكيفات:
- خلاص يا ولد أمشي جيب بيبسي ومعاهو موية باردة!.
- ما كان في داعي يا عمي التوم الحالة واحدة ياخْ...
وأخذ السر يشرح إلى عمنا القصة باختصار ويبين له الغرض الذي جئنا لأجله, وإننا ننوي السفر للخارج وأننا الآن بصدد استخراج جواز أولاً قبل الشروع في مسألة التأشيرة والتذكرة وما يتبع ذلك من الإجراءات والأشياء الأخرى.
ضحك عمنا ضحكة شبعانة...!:
- يا أولادي كدي فكروا بالعقل دايرين تجيبوا شنو من برة..؟ بلدنا دي بي خيرا !... البلد دي واسعة ورزقا كتير بس دايرة الرواقة وطولة البال..!
- يا عمي التوم أمانة عليك دي بلد واسعة؟.. يا خي دي بلد مـ......خلّيها في سِرَّك! و الرزق البتقولو فيها ده هبوب ساي.. يخربا الحباية مافيها!!.
انفجر التوم ضاحكاً بأعلى صوته رامياً رأسه خلفه على حافة الكرسي العليا وهو غارقاً في الضحك:
- غايتو انت يا ولدي السر عليك جنس مسخة بس جبدك خالك الأحيدب!.
لا أكاد تهدأ أعصابي قليلاً ويعتدل مزاجي فيأتي دور السر – العليهو التكل – ليغيظني بعباراته القبيحة, وأوصافه البذيئة التي لا يجدر به أن يتفوه بها أمام شخص محترم مثل حاج التوم, ومكان يجب أن يكون هو الآخر محترم.وكان قد فعل كل ذلك, ليعبر إلى عمنا عن مدى إستيائه وعدم رضاه بما هو عليه من حال سيء وأنه لابد من السعي بأي وسيلة للخروج من هذا الواقع المخجل, الذي فُرِض علي نفسه فرضاً وأجبر عليه اجباراً. ولا حلّ هناك أنفع لهذه الأشكال سوى الهروب من هذا السجن الذي لا يرحم سجانه ولا أمل في أن تفتح مغاليقه!.
أما إذا قلت لك في ماذا كنت أهتم أو أفكر وقتها, لا شك ستظن أنني خارج الشبكة ,كنت أريد من السر أن يحسن ألفاظه القبيحة وأن يتكلم بأدب أو ليتوقف بالمرة عن ذلك الكلام الفارغ البذئ!.
- يا السر هــوي أوزن كلامك ياخي!.. انت أي كلمة تجي في لسانك ترميها طوالي رب كدي!!.. قايل نفسك وين انت ياخي احترم عمي التوم ده!.
- يا ولدي البساط أحمدي انتو الاتنين حرّم ذي أولادي. ولو جينا للجد مرات البلد دي تخليك تتكلم برة من راسك!.
إبتسم السر إبتسامة يشوبها المكر والإحتيال:
- حقيقة العوض كلامو صاح... خلاص يا عمي نخش في المهم عاوزنك تطلع جوازين لينا الاتنين هسع نستلمن عشان نشوف الباقي علينا شنو!.
- هاهاهاااا ! .... هسع ده كمان ياخي الساعة واحدة ضهر جات.. والأيام دي بالذات من تبدا الجواز أحدى ما تستلمو دايرلو عشرة يوم... علا لكن بالواضح كده وانتوا ناس بعدكم ذي اولادي, بقول ليكم صراحة كده الكاش بقلل النقاش... كان جيبكم تقيل: هسع بصوركم بكرة بدري تستلموا وكان الجيب على قدر الحال حرّم علا الصفوف ولا خلو شهر العمرة ده يعدي!
- الواضح ما فاضح ولا شنو يا العوض؟.
في البدء احترت كيف أجيب على سؤال السر المباغت ذاك إلا أنه حينما حضرتني صورة الصفوف وإهانة العسكري بادرت بالإجابة مسرعاً:
- كلام عمنا في محلو ... وأنا مع المثل البقول " هِيْن قِرْشك ولا تْهِين نفْسَك"
ضحكنا جميعاً ـ بما فيهم أناـ لهذا المثل المعبر الذي صدر مني عفوياً دونما أن أتكلف مشقة إستجلابه أو استحضاره من ذاكرتي التي زحمتها أحداث السنين ومرارات المعاناة, فقد كان وقع هذا المثل على كل من السر وحاج التوم تماماً كما يقع حجر كبير من الثلج الأبيض الجامد على (كورية) مليئة بعصير الليمون المركز والمسكَّر في نهار يوم ساخن غائط!!. فالأول يخشى أن أخالفه الرأي, أو أبخل بدفع قيمة ما يزيد عن تكلفة استخراج الجواز الفعلية من الجنيهات, أما عمنا فلم يكن مطمئناً لي مائة بالمائة, لأنه لم يتعامل معي من قبل في مثل هذه الأمور. لكن في النهاية كان ذلك هو العرف السائد لدى جميع أبناء الضواحي والقرى حين يريد أحدهم السفر إلى الخارج, إذ كانوا يقرون بأن للعسكري حق وللموظف حق وللساعي للخير (الواسطة) حق. ولكي تتم إجراءات سفرك دون عراقيل أو مضايقات: فقط عليك أن تعطي كل ذي حق حقه, وإلا فأحتمل ما سوف تلاقيه من مشاكل ومعاكسات!.
إستخرج التوم ود سعيد بعض الورق من الدرج, وبدأ يكتب عليه متطلبات إستخراج الجواز: جنسية – بطاقة شخصية – شهادة ميلاد ... الخ :
- يا جماعة الخير الأوراق دي معاكم ولّى يفتح الله...
- يا عمي التوم حاجات ورق ومستندات دي ما تسعلنا منها طب...! دي كلها مية المية بس شوف لينا الشغلة النجيضة وما ضروري الكُلْفة كَمَّها..!.
- يا زول دخلت في اللحم الحي: أول الشي: في الجواز الواحد الضابط حقو: 2جنيه ونص.. والموظف جنيه.. وأنا حقي خمسين قرش... علا لكن ما بيناتنا!.. والجواز براهو بحتاج لي 19 جنيه ونص, يعني الجوازين مع بعض كمبليت كدي بكلفن 45 جنيه لكن جيبوا الـ 44 لأني أنا ما بشيل منكم حق تعب انتو ما ذي أولادي!!.
لقد نطق برقم خرافي إذا قيس بما أخبئه في جيبي المتواضع الذي لم يكن من قبل يحلم بأن توضع بداخله مبلغ 13 جنيه هي قيمة ما أملك وقتها, أما السر فقد أعلمني مسبقاً بأنه لا يحمل معه أكثر من ثمانية جنيهات, فجملة المال الذي نملكه مجتمعين, لا يكاد يفي بقيمة استخراج جواز واحد فضلاً عن جوازين..!.
ما أدهشني أن السر مع ذلك لم يعترض ولم يبدي أي إستغراب أوإندهاش لذلك المبلغ الهائل من المال ـ خلاص يا الشيخ مصطفي الامين! ـ:
- خلاص يا عمي سعيد جيب الاستمارات والأوراق عشان نملاها سريع عشان نلفى الزمن.
- كده أقيف ياالسر... صراحة يا عمي المبلغ المعانا ما بكفي ولا حاجة.. الحكاية دي كتيرة شديد!! أنا بشوف أحسن نأجل الشغلانة دي لامن ندبر لينا قريشات كويسة...!.
هنا لأول مرة يستثار السر ويتحدث بلهجة غاضبة نحوي:
- هوي يا العوض عاين لي جاي: بدور تطلع لك جواز ولا عاوز تكتر الكلام؟!.
أجبته بلهجة أكثر غضباً ارتفع فيها صوتي.
- أسمع كويس يا السر المسعلة ما كُتُر كلام ...المسألة كلها القروش دي ندفعا من وين؟ قروشنا نحن الاثنين ما بطلعن لهن جواز واحد عاوز تعمل لينا فيها ملي استمارات وكلام في الهوا ساي.؟؟
إستاء صاحبي كثيراً ووضع كفي يديه على جانبي رأسه مترجيّاً:
- العوض .... لا حول ولا قوة إلا بالله!!.. خصمتك بالله.. خصمتك بي الله.. ما تعارض, وما تتكلم لي في القروش دي تاني....! مسألة الدفع أسألني منها أنا!... بس أسمع كلامي ساي... خلينا نملا البيانات والباقي عليّ!!.
كل ذلك النقاش كان يدور بيننا وعم التوم يكتفي فقط بالتبسم, ولم يبادر بالإعتراض على أي منا, ثم أخيراً وفي النهاية وبعد أن هدأت حدة النقاش بادر قائلاً متوجهاً بالكلام إلى كلانا:
- أسمعوني يا العوض ويا السر الثقة بيناتنا موجودة دبروا لي 30 جنيه عشان المبلغ ده بمشي الخزينة العامة, الباقي دبروا فيما بعد لكن لازم تعرفوا ما بسلموكم الجوازات إلا بعد ما يتسدد المبلغ بالكامل!.
- يا عمي التوم برضو دار تبقي لي ذي العوض؟ دار تتكلم في القروش.. أنا بكرة القريبة دي المبلغ بسلمك ليهو كامل 45 جنيه شامل حقك انت ذاتو.. بس نحن همنا السرعة ماديرنك تأخرنا!! .
- ها ها عفيت منك والله انت بتعملا... أنا ما خابرك من خيلانك المجرمين ديلك ها ها ...!
إزدادت حيرتي وبدأت أشك في الذي ينوي فعله كل من السر وعم التوم. لأن هذا الذي سيجري سوف يتم ربما على نحو غير مستقيم, وربما يجر بنا إلى ما لا تحمد عقباه, على الأقل ربما خسرنا نقودنا دون أن نحصل على جواز بالمرة, لأن الطريقة ملتوية!.. يا ليتها كانت ملتوية ووقف الأمر على ذلك, لكنها ربما ملتوية وأكثر كُلْفة مما لو اتبعنا الإجراءات الرسميةو(الدقرية) لاستخراج الجوازات بحسب ما بدا لي!.
رغم كل تلك الهواجس والظنون, وجدت نفسي ممسكاً بقلمي أملأ في بيانات الإستمارات التي أتى بها عمنا: إبتداءً من الإسم رباعياً إلى التوقيع والبصمة والتاريخ!. أما السر فكان يملأ في إستماراته بسرعة بالقلم الذي استلفه من عم التوم... دقائق معدودة فإذا ببيانات كل الإستمارات التي تخصنا مكتملة!.. راجعها العم ثم أخذ من كل منا الوثائق الرسمية : جنسية – بطاقة – شهادة ميلاد وصورة فوتغرافية وأوراق أخرى لا أذكرها على أن نستعيدها عند موعد إستلام الجواز.
- الشغل احدى الآن مظبوط. أقول ليكم كلام الرجال لو دفعتوا هسع تستلموا بكرة ولو دفعتو بكرة تستلموا بعد بكرة...!!
- شنو يا عم التوم.. دايرين نستلم بكرة... والقروش بنسلمك ليها بكرة... ياخي بتعاملنا ذي باقي الناس؟؟!.
- يا ولادي أحسن أكون معاكم واضح ..لو دفعتوا بكرة الصباح بدري تستلموا نهاية الدوام.. أو بعد بكرة الصباح بدري...!.
- خلاص ما فرقت يا عمي.. لكن انا دايرك تجتهد تسلمنا بكرة!.
- خير يا ولدي ربنا يسهل!.
الساعة تجاوزت الثانية ظهراً ببضع دقائق علينا أن نخرج على أن نعود غداً كي ندفع - ولم أكن أدري حقيقة من أين – لنستلم في نهاية اليوم أو في صبيحة اليوم الذي يليه.
- أها يا عم التوم فتناك بخير وكتر خيرك نتقابل بكرة إنشاء الله..!.
- ما في عوجة يا أولادي... نتلاقى باكر كان الله حيانا!.


3ـ إلى حاج عبد الواحد



جعفر السوداني غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-01-11, 11:28 AM   #4

pinou

نجم روايتي وقاصة في قسم قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية pinou

? العضوٌ??? » 133062
?  التسِجيلٌ » Jul 2010
? مشَارَ?اتْي » 1,054
?  نُقآطِيْ » pinou has a reputation beyond reputepinou has a reputation beyond reputepinou has a reputation beyond reputepinou has a reputation beyond reputepinou has a reputation beyond reputepinou has a reputation beyond reputepinou has a reputation beyond reputepinou has a reputation beyond reputepinou has a reputation beyond reputepinou has a reputation beyond reputepinou has a reputation beyond repute
افتراضي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

اهلا بك اخي بيننا.....
ربما من منظور المثل الذي يقول...عيش كثير تشوف كثير....
اصبت في تحليلك او النتيجة التي توصل اليها بطلنا حول مفهوم الانسان ان صح التعبير
فهو يظل غامضا وله خبايا يصعب لنا كشفها او حتي فهمها ....وربما تتيح لنا معاشرته فرصة لذلك
كما تطرقك للنظرة المتبعة منذ الازل الى المظاهر و التعامل على اساسها....
فاذا ما كان الشخص له هيئة و هندام فاخر فترى الكل يحوم حوله بغرض ارضائه و خدمته ....
بينما يكون الوضع معاكسا مع شخص ميسور الحال بغض النظر على ما يحمله من علم او معرفة
و هذا ما ابرزته تلك المرأة التي اشرت ايها تحت اسم الحاجة...
السوق....كان السخط ظاهرا على بطلنا و هو يصور لنا هيئة السوق و كذا من الانحطاط الذي وصل اليه
بعض الناس....لست ادري الى اين سنصل بهذا التمادي و الامبالات التى يتصرفون بها

صراحة اخي الكريم اعجبت حقا بأسلوبك المحاكي للواقع المعاش....بكل براعة و تمكن
اخي جعفر شكرا لك....في الانتظار بكل شوق


pinou غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-01-11, 11:51 AM   #5

~sẳrẳh

إدارية ومشرفة سابقة وكاتبة وقاصة في قسم قصص من وحي قلم الأعضاء وأميرة الخيال وشاعرة متألقة بالقسم الأدبي

alkap ~
 
الصورة الرمزية ~sẳrẳh

? العضوٌ??? » 1678
?  التسِجيلٌ » Jan 2008
? مشَارَ?اتْي » 15,447
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Saudi Arabia
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » ~sẳrẳh has a reputation beyond repute~sẳrẳh has a reputation beyond repute~sẳrẳh has a reputation beyond repute~sẳrẳh has a reputation beyond repute~sẳrẳh has a reputation beyond repute~sẳrẳh has a reputation beyond repute~sẳrẳh has a reputation beyond repute~sẳrẳh has a reputation beyond repute~sẳrẳh has a reputation beyond repute~sẳrẳh has a reputation beyond repute~sẳrẳh has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» اشجع hilal
?? ??? ~
My Mms ~
Smile

اهلابك قلما نازفا بكل هذا الابداع اهني روايتي بتواجدك بيننا ....

العوض >>كما احب ان تكون بعيدا عن تعقيدات اسمها الذي اخترته انت

بدايتها
مقدمة فلسفية احترم افكارك فيها واويده بشده ...
لم تكن ممله بل كانت تصوير واقعنا في كل الوطن الكبير ..
ربما البشرية عامه خارجه ..
وقفت كثيرا مبتسمه امام محاولة اقناعك لنا بهذة الفلسلفه ونحن مقتنعين بها وتبريرك لوجودها الذي اره شي اخر عن الحكاية ...
اصنفه كمقدمة لجعفرالسوداني (تذكرة عبور) قبل الدخول لحكاية علينا ان نفهمك انت وفلسفتك الخاصة بالحياة

اقتباس:
بكل هدوء أخرجت منديلي الأبيض "المشجر المطرز" وجعلت أمسح على وجهي وخلف عنقي لأزيل عنها ما علق بها من الغبار والأتربة التي إختلطت بالعرق, وجعلت أنفض قميصي و(بنطلوني) لإحررهما مما لصق بهما وعلق من أوساخ وأدران. نسيت أن أخبرك ..! فقد كنت أرتدي قميصاً أنيقاً-آخر موضة- يطلق عليه في ذلك الوقت (تَحْرِمْني) وبنطلون (شارلستون). آخر أناقة وقيافة!. ثم أخرجت من حقيبتي الصغيرة "خُلالاً" خشبياً وجعلت أنفش و(أسرِّح) شعري (الخُنْفُس) الذي كان مشبعاً بالغبار والأتربة, بعدها أخرجت قارورة صغيرة من العطر – لم تكن من النوع البخاخ – عندما تزيل غطاءها الخارجي تجد فمها مغطي بغلاف بلاستيكي به ثقب دقيق ، جعلت أنفض القارورة بيمناي على كفي اليسرى, وتعطرت جيداً ثم حملت حقيبتي على كتفي وهبطت بهدوء من أعلى اللوري ليطأ حذائي "الدبّابة" الأنيق قذارات سوق العاصمة.


رائع جعفر وصف لادق التفاصيل الممتعه جدا اثناء قرائتها وتعليقك الساخر عليها ماميزها لتكون اكثر وروعه ..

كاتب عندك مقومات الكبار واهنيك اخوي وسانتظر بقيه العوض

احب هذه الطريقه السردية الجميلة المترابطة والوصفيه الناقله لصورة للقارئ

ملاحظة

الا تجد اسم (العــــوض) افضل من السر والعوض اما عن وصفها كرواية سودانية اسمح لي ان اضعه في الكلمات الدلالية ..
حتى لاتعيق من يبحث عن هذة التحفه الفنية في محركات البحث ..
..





~sẳrẳh غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-01-11, 12:02 PM   #6

pinou

نجم روايتي وقاصة في قسم قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية pinou

? العضوٌ??? » 133062
?  التسِجيلٌ » Jul 2010
? مشَارَ?اتْي » 1,054
?  نُقآطِيْ » pinou has a reputation beyond reputepinou has a reputation beyond reputepinou has a reputation beyond reputepinou has a reputation beyond reputepinou has a reputation beyond reputepinou has a reputation beyond reputepinou has a reputation beyond reputepinou has a reputation beyond reputepinou has a reputation beyond reputepinou has a reputation beyond reputepinou has a reputation beyond repute
افتراضي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

صادف ردي الاول نزول الجزء الثاني....
اذا العوض يرغب في الهجرة عله يحظى بعمل يسترزق منه
ولكن هل هذا هو الحل الانسب...لان الامر ليس هينا او سهلا...
ربما توقع ان الحياة ستكون افضل هي ما توهم شباب اليوم
و تحول حلمهم بالهجرة الى هاجس يسعى الى تحقيقه بكل الطرق....
وربما ما قام به السر جارا معه عوض هو ما يفسر ذلك من لجوء الى
الطرق الملتوية من البداية...
الواقع وجدت صعوبة في فهم بعض الكلمات العامية...من اللهجة السودانية
لكن ليس مهما...
همسة صغيرة اخي...احبذ الا تكتب في كل مرة عبارة (اخي القارئ)....
لانها تخرجنا من الجو القصة بعدما نكون قد دخلنا في الاحداث وفق خيالنا....
لذا ارجو ان تضيف ما ترغب في قوله بطريقتك دونما اللجوء الى تلك العبارة....
فقط وجهة نظري....ارجو ان تتقبلها....
في انتظاركيف سيحصل العوض على بقية المبلغ..
شكرا اخي جعفر


pinou غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-01-11, 06:11 PM   #7

هبة

روايتي مؤسس ومشرفة سابقة وقاصة في منتدى قصص من وحي الاعضاء

alkap ~
 
الصورة الرمزية هبة

? العضوٌ??? » 3455
?  التسِجيلٌ » Mar 2008
? مشَارَ?اتْي » 23,166
? الًجنِس »
?  نُقآطِيْ » هبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond reputeهبة has a reputation beyond repute
افتراضي

مشكور أخى جعفر على الفصل ...



العوض ... تريد السفر لتبحث عن الرزق ... كيف ستستطيع أن تبتعد عن بلدك و أنت وجدت صعوبة فى إستخراج جواز السفر و لم تستطع مواكبة السر و ما سيفعله لكى يحصل النقود >>> إلا هو كيف راح يدبر النقود ؟؟؟ أعجبتنى طريقة رسمك لواقع إستخراج جواز السفر ... يبدو أن العرب عرب فى كل مكان ...





أخى جعفر متابعاك و شكراً لك


هبة غير متواجد حالياً  
التوقيع






اللهم ارحم والدى برحمتك الواسعة ...إنه نزل بك و أنت خير منزول به و أصبح فقيراً إلى رحمتك و أنت غنى عن عذابه ... آته برحمتك رضاك ... و قهِ فتنة القبر و عذابه ... و آته برحمتك الأمن من عذابك حتى تبعثه إلى جنتك يا أرحم الراحمين ...

اللهم آمين ...
رد مع اقتباس
قديم 30-01-11, 12:31 PM   #8

~sẳrẳh

إدارية ومشرفة سابقة وكاتبة وقاصة في قسم قصص من وحي قلم الأعضاء وأميرة الخيال وشاعرة متألقة بالقسم الأدبي

alkap ~
 
الصورة الرمزية ~sẳrẳh

? العضوٌ??? » 1678
?  التسِجيلٌ » Jan 2008
? مشَارَ?اتْي » 15,447
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Saudi Arabia
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » ~sẳrẳh has a reputation beyond repute~sẳrẳh has a reputation beyond repute~sẳrẳh has a reputation beyond repute~sẳrẳh has a reputation beyond repute~sẳrẳh has a reputation beyond repute~sẳrẳh has a reputation beyond repute~sẳrẳh has a reputation beyond repute~sẳrẳh has a reputation beyond repute~sẳrẳh has a reputation beyond repute~sẳrẳh has a reputation beyond repute~sẳrẳh has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» اشجع hilal
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

https://www.rewity.com/vb/t147901.html

ضعها هنا على اجزاء صغيرة او صغر الخط


~sẳrẳh غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 30-01-11, 12:56 PM   #9

جعفر السوداني

? العضوٌ??? » 153703
?  التسِجيلٌ » Jan 2011
? مشَارَ?اتْي » 36
?  نُقآطِيْ » جعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond repute
افتراضي

إلي كل الاخوة والاخوات المشرفين علي هذا القسم الرائع من المنتدي
السلام عليكم ورحمة الله
وتحية احترام وتقدير!!!
لقد انقطعت عن المشاركات لاسباب قاهرة انا استخدم مقاهي انترنت عامة.... وقد حدث في الايام الفائتة عطل في (الكيبل) البحري ادي الاى بطء شديد في خدمات الانترنت في السودان، تعذر بسببه امكانية رفع مشاركتي في منتداكم العامر!
عموما اقبلوا عذري!
واقول للمشرفين علي هذه الصفحة:
اشكركم جدا على المتابعة والنقد البناء! وسوف اعمل بنصائحهم ومقترحاتهم وانفذها بالحرف الواحد واقوم بالتعديل على كل ما نصحتموني بتعديله أو تغييره!!
لكن اريد ان انوه الى أن الرواية مكتملة الا انها غير منسقة وغير مقسمة الى فصول وهذه الايام يقوم احد اصدقائى (مشكور) بعملية التنسيق لهذا العمل!.... لذلك حاولوا ان تقبلوا الاخطاء المتكررة والنصائح والمقترحات التي لم يُعمَل بها خلال الفصول القادمة الى ان يكتمل التنسيق الاولي للرواية الذي ربما يأخذ الكثير من الوقت لان الذي يقوم بهذا العمل غير متفرغ!!
(بس انا محتار...!! هذه رواية سودانية مليئة بالعامية السودانية كيف صبرتم على قرائتها!!) .... حقيقة عاجز أنا عن شكركم!
هذا هو الفصل الثاث والرابع للرواية في انتظار آرائكم:


3ـ إلى حاج عبد الواحد
خرجنا من مبنى الجوازات, وكان من الطبيعي أن نتوجه إلى بين "العزّابة" في أمبدة فهو المكان الوحيد الذي نأوي إليه في هذه المدينة التي الجميع فيها ينكرك ويتبرأ من معرفته بك..! بل قد يصل الأمر ببعضهم أن ينكر حتى صلة القرابة والرحم التي قد تربطه بك، ويا ويل من أضطرته الظروف، سواء أن كان ذلك لأجل العلاج من مرض أو لأداء إجراءات سفر للخارج أو غير ذلك ليقيم بضع أيام مع أحد معارفه أو حتى أقاربه والذي يقيم بالعاصمة – لا فرق سواء كان يسكن في بيت إيجار أو ملك – هنا: (يتْحَنْفَش) هذا المدني المتحضِّر, ويقيم الدنيا ولا يكاد يقعدها!! :
- (ياخي نحن ناقصين بَرْوَكَةْ ناس الضهاري ديل) (ياخي نحن الفينا مكفينا)!
بعدها يعلن هو وأفراد أسرته - الذين تشربت طباعهم بلؤم المدينة وهلع الظنون السيئة- الحرب على طريقة اللبيب بالإشارة يفهم!.. وإذا لم يجدي ذلك يعلنونها صراحة -ولا عذر لمن أنذر- ويظلون يحسبون الدقائق والساعات حتى ينزاح عنهم ذلك البلاء العظيم الذي حل عليهم على حين غرة!. أما سيادة ضيوفنا المساكين: فيصبرون ولا يجدون من حيلة سوى أن يتأسوا بالمثل (الما بعرفك يجهلك) لكن المصيبة الكبرى أنهم يعرفونك (ذي جوع بَطَنُم).. لكن وكما تقول الأيام وتشهد الدنيا: في النهاية ستمر الظروف بحلوها ومرها وتبقى الذكرى! و(الحياة في النهاية شنو؟).... الحياة ذكـــري!!
- عارف يا العوض أحسن باقي اليوم ده نغشي حاج عبد الواحد نشيل منو مكرفونات الجامع الرسلوهن معاهوا أولادنا من السعودية عشان بكرة بنكون مشغولين شديد بالإجراءات!
إقتنعت سريعاً بإقتراحه:
- كلامك عين العقل أحسن نكمل لفّنا كلُّوا باقي النهار ده..وبكرة نتفرغ للجوازات!..
هكذا ركبنا إحدى المواصلات العامة متوجهين إلى منطقة داخل الخرطوم يقال لها "بُرِّي" – على ما أذكر – والتي يقطن فيها نسيبنا الغريب الذي تزوج من إحدى فتيات (حلتنا) وقد عاد منذ فترة من السعودية في إجازته السنوية المعتادة, وهو يحمل معه الهدية التي تبرع بها أبناء قريتنا الذين يعملون هناك, وهي عبارة عن جهاز مكبر صوت مع سماعتين خارجيتين – لتفهم بصورة أوضح المقصود إستبدل كلمة سماعتين بـ (مكروفونين) وهذه الهدية القيمة كانت خاصة بالمسجد الذي بنيناه حديثاً بجهد ذاتي كبير!. ولا زالت كلمات شيخ فضل المولى إمام الجامع وهو يودعنا ماثلة في خيالي هو يوصينا أنا والسر:
- شوفوا يا اولادي أوعى تجوني بلا المكرفون...! أنا كواريك الخطبة خلاص قرشت صوتي وحاج عباس الاذان ودَّر حِسُّو مرة واحدة ..سامعين كلامي ده يا وليدات...!
- حاضر يا عمي الشيخ: أبْشِر ... قسم الجمعة الجاية أذان حاج عباس يشق حلال الجعلين السبعة..! وانت يا مولانا فضل المولى تخطب في الجامع مرتاااح!!!.
نزلنا في إحدى المحطات التي يتوقف فيها البص, ثم توغلنا إلى داخل الحي ، كان السر موهوب في فهم مزالق الطرق والمواصلات, فإذا وصفت له موقع أي منزل في بلد ما غريب عنه, فهو لا يكاد يخطئه مهما كان الوصف غامضاً ومهما كانت البيوت كثيرة ومتشابهة, رغم أنه قد يكون لأول مرة في حياته يزور ذلك الحي الذي فيه المنزل أو حتى لأول مرة في حياته يزور تلك المدينة التي فيها الحي نفسه. أما أنا فكنت على العكس تماماً إذا حدث أن أقمت بمكان غريب وخرجت من المنزل لأداء الصلاة في الجامع مثلاً, ربما أضل طريقي إلى المنزل عند عودتي من المسجد!. كان السر أثناء مسيرنا داخل الحي يحسب الشوارع ويقرأ أسماء الدكاكين والبقالات ويلتفت يمنة ويسرة كأنه يبحث عن شئ:
- العوض أخوي هوي عاين لي يمينك بس شمالك ده خلي علي... كان شفتلك دكان قدامو صندوق بص قديم قول لي عوك...
واصلنا في المسير على الأقدام علنا نظفر بالبقالة التي تمثل المفتاح الأساسي للخريطة, ولمسافة جعلتني أشعر بالعطش والتعب دون أن يظهر لناظري أي أثر لذلك المعلم الذي سيدلنا إلى مقصدنا, فجأة توقف السر مندهشاً:
- أنا أخوك يا العوض... هَداكو الدكان القداموا صندوق البص!.
هنا تغيرت وجهة سيرنا, وسلكنا الطريق الذي يميننا والذي في منتصفه تطل البقالة المقصودة. لم يمر وقت طويل فإذا بالسر (المسلّط) يضرب بكفة إحدى يديه على بوابة كبيرة أذكر جيّداً لونها الأحمر الطوبي.
- كو كو كو ... سلام عليكم!
كانت الساعة وقتها تجاوزت الثالثة والنصف عصراً - أو قل إن شئت بعد الظهر – ولكن الشاهد بكل صراحة وبمقاييس اليوم عند سكان المدن, كان ذلك توقيتاً مزعجاً وغير مناسب, ويعتبرون الذي يطرق الأبواب في مثل هذه الأوقات بأنه شخص متطفل (وجيعان) يقصد إصطياد الوجبات التي يكدِّون نهارهم كله في تحصيل ثمنها! فغذاء أصحاب البيوت في المدن ليس "كِسْرة بملاح ويكة" ولا "عصيدة بي ملاح روب أو ويكاب" !....لكن الوجبات التي يتناولونها عادة تتكون من عدة أصناف قد تكلفوا الكثير في تحصيلها, وغالباً ما تكون قليلة الكمية تكاد تكفي أفراد الأسرة فقط..! لكنها عالية الجودة!, فهم على عكسنا نحن في القرى إذ نهتم بالكمية بينما هم يهتمون أكثر بالجودة! رغم أنها قد تكلفهم الكثير, لكن كما يقول القائل : "حقيقة القادر بِسوِّي"!. ولهذا السبب على ما أظن تراهم بخيلين في طعامهم, ويتحرجون إذا داهمهم الضيف في بيوتهم, وعلى الأخص في أوقات الوجبات إلا أن يكون هذا الضيف "زول عزيز جداً عليهم" ومقيَّم إجتماعياً وماليا,ً أو يرجون من ورائه مصلحة مضمونة! أما سوى ذلك فالضيف عند الحضر شخص منبوذ وغير مرغوب فيه, خصوصاً في الأوقات التي يتناولون فيها الطعام, أما إذا كان في نية الضيف المبيت أو الإقامة لعدة أيام, فقد شن على نفسه حرباً خاسرة: لأنه إذا كان من المعارف إنقطعت العلاقة في الحال..! وإذا كان من ذوي القربى إنقطع الرحم وبدأت صفحة جديدة من الخصام والعداوة والجفاء...!.
السر يطرق ويخبط على الباب للمرة الرابعة دون أن يأتي أحدهم ليفتح لنا!, حتى لا أخفي عليك شيئاً ـ أيها القارئ ـ فقد كنت أتضور جوعاً وألهث من العطش, حتى أن قدميّ لا تكادا تقويان على الوقوف أكثر!... وتمنيت أن يفتح هذا الباب سريعاً, ولكن ليس بهدف أن أضع حداً لمعاناتي داخل هذا المنزل الفخم – فأنا لدي خلفية لا بأس بها عن الكرم الحاتمي الذي يمتاز به سكان المدن لا سيما العاصمة ...! فقط أريد أن نستلم تلك الأمانة-مكرفون الجامع- بأسرع ما يمكن ونخرج منهم مسرعين إلى السوق العربي لنعالج فيه الجوع والصداع اللذين حلا بنا -الحمد لله جيبنا ما عدمان القِرِش – ومنه نتوجه إلى بيت العزّابة في أمبدة حيث سنقضي الليل!.
عندما مل السر من كثرة الطرق الشديد باليد, أخذ حصاة كبيرة وجعل يضرب بها على الباب بقوة. يا للهول...! لقد كان لتلك الحصاة أثراً عظيما..ًلم نلبث قليلاً فإذا بنا نسمع وقع أقدام خفيفة سريعة تقترب من الباب, ثم فجأة ينفتح ويظهر لنا طفل في التاسعة من عمره ـ حسب تقديري ـ تبدو عليه آثار النعمة والدهشة من مظهر هؤلاء الأغراب الذين يقفون أمامه وهم يحملون حقائب, وعلامات التعب والإرهاق تطغى على ملامحهم, إلا أن السر سرعان ما تعرف على الطفل وهو له منكر!:
- إزيك يا عز الدين ما عرفتني ولّى شنو...؟! أنا ما السر الكان شغال هناك في البقالة ديك....! اذكرتني ولا خلاص نسيتني!!
- لا لا اتذكرتك.. أهلا اتفضلوا جوّى البيت!.
سلّم علينا بأدب واحترام. (ما شاء الله نعم التربية).
- اتفضلوا خشو الصالون.
كان هذا بالنسبة لي مصطلحاً جديداً لكن يبدو أنه لم يخفى على السر !
- أسمعني قبال ما نخش.. أبوك قاعد ولا ماف؟!.
- قاعد بس نايم.... بصحى ليكم هسع!.
- آي صحيهوا لينا باقي نحن متسرعين...! ونادي لينا أمك النسلم عليها ونوريها أخبار ناس الحلة!!.
تبعنا ذلك الطفل النبيه ألى أن أجلسنا في داخل غرفة واسعة, مليئة بكراسي الجلوس الفخمة, ثم أدار مفتاح المروحة فجاء هواؤها بارداً منعشاً, وقبل أن يخرج صاح به السر:
- يا جنى أملالنا الجك موية باردة قبال تصحي أبوك!!.
بالفعل لم تكد تنقضي دقيقة واحدة فإذا به يأتينا مهرولاً وفي إحدى يديه "جك" زجاجي أنيق مليء بالماء, وفي الأخرى كوب زجاجي لا يقل أناقة وأراد أن يخدمنا بأن يصب الماء لكل منا إلا أن السر تناول الجميع من يديه:
- شكراً ليك يا شاطر أجري صحيلنا أبوك سريع قولو الناس ديل عشان متسرعين..!!
ناولني السر كوباً من ذلك الماء الذي أحضره الطفل المؤدب... ما أن وضعت حافة الكوب على شفتيَّ وعبأت فمي بأول "بُقَّة" منه فإذا بلساني يخدر وبأسناني "تُطَقْطِق" وسرى فيها شئ أشبه بالصعقة الكهربائية -من النوع الخفيف طبعاً- بفعل ذلك الماء شديد البرودة!!..
- الخرابة الـــ ... السر؟! ... الموية دي باردة بردة شديدة خلاص..!! الجني ده عجيب خلاص...! دي موية شنو الجابا دي!!.
وبينما نحن محتارين كذلك نتجادل في أمر تلك (الموية) بالغة البرودة ونحن في أشد الحوجة إلى ماء معتدل البرودة لـ (نَبِل به جوفنا) الذي كاد يحترق من فرط العطش!.. فإذا فجأة بالولد يأتينا ثانية:
- صحيتوا قال جاييِّكم بعد شوية.. عاوز يتسوك!.
- عديلة يا ولدي .... تعال ياخي امشي جيب لنا موية من الزير سـاي!! مويتك الجبتها لينا دي يا ولد باردة شديد... ما بتنشرب مرة واحدة!!
- لكن ما عندنا زير..!!
- خلاص جيبلنا موية الماسورة.. نكسرا بيها!
ضحك الولد وذهب فظننا أنه سيأتي بماء ساخن من الماسورة, لكنه تأخر كثيراً حتى مللنا (وزهجنا) وتعجبنا من أمثال هؤلاء الأولاد الذين لا يسمعون كلام (الناس الكبار)! لكن السر يعجبك أحياناً في مثل تلك المواقف, لأنه دائماً ما يخلصك من تلك المآزق والأزمات!.. العطش يكاد يقتلنا والماء بالنسبة إلينا لا يصلح للشرب!.. لا نطيق برودته تلك..! قام السر من كرسيه وتحرك للخارج, ثم وقف عند باب تلك الغرفة الشبيهة (بالديوان) عندنا, والتي ما زلت أجلس في أحد كراسيها الوثيرة, وجعل يجول بنظره ويلتفت يمنة ويسرة, كأنه يبحث عن شيء مفقود.. ثم فجأة توجه مسرعاً نحو شيء لم ألمحه من موضع جلوسي ذلك.. لكنني عرفته عندما سمعت صوت الماء من الحنفية يصب وهو له خريرعلى الجك الذي كان يحمله, فعرفت أن هذا الماء -وبقوة إنصبابه تلك ومصحوباً ببعض (شخشخة) الأصوات الهوائية المتتابعة والمتقطعة بفعل قوة إندفاع الماء- لابد أنه يأتي من خرطوم حنفية ذات ضغط هوائي عالي واندفاع مائي قوي!!.... ثم أنه أخد يشرب حتى ارتوى تماماً.. بعدها أتاني (بالجك) وهو في منتصفه:
- هاك أشرب يا اخوي... دابا بقت مويةً تنشرب.. لكن ما شاء الله موية حلوة خلاص!.
أمسكت بـ (الجك) بكلتا يداي, ولم أضعه على (التربيزة) التي أمامي إلا وهو فارغاً تماماً.
- الحمد لله...! دابا العطشة مرقت من جوفي.. الله يديك العافية يا السر!.
أخذنا نتجاذب أطراف الحديث الذي يتخلله الضحك, وأخذ صوتنا يعلو – ما خلاص بلينا ريقنا والهوا ضربنا – ونحن نتفاكر في كيفية إتمام هذا الحلم بالسفر للخارج, حتى يصبح بإمكان أحدنا على الأقل امتلاك منزل فخم كمنزل نسيبنا هذا لا سيما وأنه يعمل بالسعودية بمهنة مجرّد سائق, وهو لا يجيد القراءة والكتابة, وجعلنا نتأمل في أثاث الصالون الذي نجلس فيه:
- عليك الله يا العوض شوف الرزق ده !!! ياخي نحن كان قعدنا في البلد بنضيع بالهملة ساي!....
- أقول لك حاجة يا السر؟ السنة دي ما عاوز أتمها هنا تب....!! البلد دي كان تابعناها تأكل شبابنا في الفاضي ســاااي!!.
ضحك السر من إجابتي تلك وأعجبه ردي:
- شوف يا العوض أخوي: الزول لامن يكون عندو حماسة ونية قوية: أي غرض دايرو بقضيهوا...! لكن الزول البتمايت وما بتحرك... الحبة ما بلقاها!!.
بينما نحن كذلك فإذا به ينقطع ما كان يدور بيننا من حديث, إذ طرق سمعنا وبصورة ربما تكون مفاجئة, صوت يحيينا بالسلام: التفتنا نحو مصدر الصوت فإذا بها النعمة بت اللقية – بت حلتنا – ومعها عز الدين الصغير –الذي شرّانا في الموية- وهو يحمل (صينية) صغيرة بها كوبين من مشروب – لا زلت أذكر أنه كان لذيذاً واصفر اللون!.
رحبت بنا النعمة بت حاج الفكي و(سالمتنا) بحرارة وشوق شديدين كأننا أتينا من أقصى بقاع الأرض وليس من حلة أم ورل القريبة تلك!، وجعلت تبكي كحال نساءنا لما ذكرت من أهل القرية وربما أهاج قدومنا كوامن الحنين الدافق فيها ,فتفجرت تلك الأشواق الدفينة والجريحة دموعاً ونحيباً!. وقد سأءني بكاءها ذلك وانتابتني أحاسيس- أنا الآخر - بالحزن والإشفاق لها,فبرغم أن زوجها كان يحرمها من الزيارات الكثيرة والمترددة للحلة, لكن ذلك هو حال الحياة لابد لك أن تفارق من تحبهم ولو طال بك المقام معهم. فرابط الزواج رغم أنه قد يقارب بين الأهل والأسر إلا إنه في الكثير من الأحيان يكون سبباً مباشراً للفراق والمباعدة, خصوصاً إذا كان الزوج غريباً, أو كانت ظروف العمل ومصدر الرزق قاهرة ومجبرة!. وحينما هدأت العبرات, واندس الحزن إلى داخل مخبئه في القلب الذي كاد يتفطر شوقاً وحنيناً إلى الأم والأب, وإلى الأهل والعشيرة وصويحبات الطفولة والصبا, قامت ومسحت الدموع حول عينيها لتخفي آخر أثر لذلك الحزن الذي هجم عليها من وكره الحصين. ثم جعلت تسألنا عن حال والديها وعن فلان..! وفلانة!, وعن جميع أهل الحلة:
- أمي كيف عليكم الله وأبوي كيف..! والحلة كلها أخبارا شنو!!
- أمك ما شاء الله في أمن وأمان...تب ما عندها عوجة!... وأبوك أصلوا ما بطل مشي الخلا من الصباح تلقى شادي حمارو مارق علي الحواشة!!.
- الحمد لله بركة الكويسين... أوعا يكون في خبر بكا في الحلة أكون ما سمعت بيهو!.
- لا لا الحمد الله السنة مافي حاجة كده بالحيل!.. علا حاج النضيف ود الخضر وقع من حمارو كاضِم : كان دار يعَدِّي أَبْ سِتَّة ضَنَّاب الحمار انقطع قام انزلق بي سرجو من الحمار!.. ودّو المستشفى تلاتة يوم ما فاق.. قلنا خلاص الزول ده بودِّع ... حرم لا من حفرنالو القبر علّى لكن طاب بقى كويس وقام نصييــح !! بس شوية كده بقى عندو حبة ضلعة في مشيهو!.
ضحكت حاجة النعمة:
- والله يا السر انت لسه في مَسْخَتَك دِيْك ... وكيف حالك يا العوض...! أمك وأبوك كويسين..!
- الحمد لله ما عندهن عوجة... والله كل مرة بتذكّروا فيك.
- الله يديهم العافية شيلوا الموية عليكم الله ما تْحِرّ!
إلتفت السر نحوي وهو ممسك بكوب العصير:
- اعمل حسابك ...أوعا تكون ذي الموية الجابا لينا عز الدين قبيل!.
- أجي يا ولادي... جابليكم موية شنو الولد الشليق ده!؟ انا ما عارفاه ولد شالق خلاص!.
- لا لا يا النعمة بت خالي... بس جاب لنا موية باردة بردة شينة خلاص.. لامن غلبنا نشربا!.
ثم جعلنا نضحك جميعاً لتلك النكتة اللطيفة, وما هي إلا لحظات فإذا بـ (عمك الحاج) يدخل الصالون:
- السلام عليكم ... أووووك السر ود المليح.. وناس حلة أم ورل!.
قمنا فسلمنا عليه, كانت مباشرته لنا طيبة, وسلم علينا بالأحضان, وقد شكرت له في نفسي ذلك الإستقبال الحار الجميل, لأنني كنت متوجساً خيفة ألا يحسن إستقبالنا, أو يرحب بنا ترحيباً جافاً كما قد حدث لبعض أبناء الحلة, حينما أتى أحدهم بوالده مريضاً قبل عدة أعوام.واحترت لذلك الذي حدث, لكن ربما لأن علاقته بالسر جيدة, لأنهما في حديثهما يبدوان أشبه بالصديقين الحميمين, ولأن السر كان قد تردد كثيراً إلى منزله هذا وعرف طريقة التعامل معه. والآن فقط فهمت لماذا دفع السر بكلتا الحقيبتين خاصتنا برجله إلى تحت كراسي الجلوس الكبيرة الفخمة, وأخفاهما عن الناظرين!.. لأنه حتماً كان يعلم أن عمنا المغترب بخيل وشكوك وسئ الطوية, إذا فطن إلى وجود حقيبة مع أحد الزوار, سيجن جنونه ويصدق ظنه بأن هذا الضيف "الرِّمَّة" قد بيَّت النية بالإقامة "والركْلَسة" معهم والمبيت إلى الغد, وربما امتد الأمر بهذا الضيف المشئوم لعدة أيام, وهو يزاحمهم في خصوصياتهم وأمر راحتهم. لذلك سريعاً يعمل على هزيمة وسحق مثل تلك النوايا البريئة الطيبة بالتطفل على داره العامر, فيستقبلك بسلام جاف وبارد, ثم يضيف إلى ذلك "صَرَّة" ظاهرة على وجهه العابس أصلاً! ويتبع ذلك بالإختصار الكلامي في (الونسة) والردود اللاذعة, حتى يقطع في نفسك الطمع والتعشم للمبيت, ويفقدك الأمل تماماً في البقاء أكثر ليستحثك بالتعجل إلى الخروج, لأنك غير مرغوب في بقائك..! لكن رغم تلك الإيحاءات والإشارات اللاسلكية القوية الواضحة, التي يبعث بها حاج عبد الواحد إلى أغلب زواره من أبناء حلتنا بالأخص, ومن الكثير من قرى وحلال الجزيرة التي حولنا, إلا أنه يبدو أن أدمغة الكثير لا تستقبل مثل تلك الإشارات عالية التردد, أو قد تستقبلها ولكن تفشل في ترجمتها وتحليلها وفك شفراتها!, وكان حاج عبد الواحد في البدء ـ كما تعود ـ يبعث بها إلى أدمغتهم الخربة وهي مشفرة ... فلا يظهر أي نوع من التأثر أوالإستجابة..! وعندما يتيقن عمنا من أن قرني الإستشعار الخاص بتلك الحشرات المتطفلة الحقيرة والناقلة للأمراض: لا تعملان!.. وأنه لا جدوى من إرسال المزيد من الإشارات...! سريعاً يلجأ الى إبره الحادة ليطعن بها على مثل تلك الجلود (التخينة) التي لا تحس!.
قد لا تصدق ذلك أيها القارئ...! أنه يلجأ – كما حدث ذلك مراراً – إلى وسيلة الطرد الصريح دون حياء ودون إكتراث لردة الفعل التي قد تنتج جراء ذلك التصرف اللئيم البعيد من المروءة والإنسانية، إلا أن الأعجب من كل ذلك أن هؤلاء المطرودين من قبل ذلك الكلب اللئيم، والذي تعود أن ينبح من بعد على كل من يقترب من قلعته السحرية تلك, يعودون إلى الحلة ويتندرون بما حدث لهم معه من شجار وطرد, تبعه مبيت في أحد الجوامع أو اللكوندات المتعفنة، والغريب في شأنهم أنهم يسلِّمون بذلك ويرضونه, ولا يعيبون عليه تلك المعاملة الشائنة التي عاملهم بها, ويكتفون بالقول بأن: (ناس المُدُن ديل أصلوا طَبِعُن كدي) أما الأمر الذي يثير إندهاشك هو: أنك تجد هؤلاء الضحايا هم أول من يستقبلون ذلك الحاج عديم المروءة,عند زيارته الحلة, ويتنافسون في خدمته وإحترامه!... إن ذلك بالجد يذكرني بمقطع معبر لبيت شعر من عيون الشعر العربي (وما لجرح بميِّتٍ إيلام), ولا أملك أن اقول عن أهلنا هؤلاء إلا كما يقول بعض العامة: (ديل: الدوكة الما بْتَحَما)! و(الكَلِب بِرِيد خَنَّاقُو)!.
- مرحب بيكم والله... ناس الحلة كيف والله طولنا منهم شديد.
- تمــااام التمام ...الحمد لله عوجة واحدة ما عندهم.
عم الصمت برهة من الزمن ثم أردف السر قائلاً:
- يا حاج عبد الواحد صراحة كده نحن متسرعين قايمين هسع .... بس عم فضل المولى قال عندو وصية معاك أظنها مكرفونات الجامع!.
- ها ها ها صحي والله أنا جيت من السعودية لي عشرين يوم المفروض أجيب الوصية دي بنفسي لكن ما قدرت... بالله كيف مولانا فضل المولى...!.
- نصيح بس طالب المكرفونات عشان يرتاح من كواريك الخطبة...!
- ها ها ها المكرفونات الرسولها أولادكم ديل بتجيهو تب ... كدي قوم معاي يا السر شان نمرق الصندوق بتاع المكرفونات من المخزن...
خرج السر مع عبد الواحد وبعد قليل عادا وهما يحملان معاً كرتونة كبيرة, وضعاها على أرضية الصالون, وقام عبد الواحد بفتح الكرتونة ليرينا ما بداخلها:
- شايف يا السر ويا سموك منو...؟ العوض..! ديل مكرفونين معاهم جهاز تكبير جُدَاد من الشركة شفتو الحاجات دي كويس....؟؟!
- يا حاج عبد الواحد الحاجات دي ما واضحة.... كلها كمها؟ ما تلاتة حاجات مكرفونين ومعاهم المُكبِّر!.
- هوي يا ولد خليك نجيض..! الحاجات دي بتتشاف بسيطة.. لكن غالية شديد.. ومع غلاتا دي معدومة في البلد!.. خليكم حريصين أحديِ ما توصلوا الأمانة لمولانا فضل المولى!.
- اطمّن تب يا حاج عبد الواحد... والله شيخ فضل المولى اختارنا من بينات الناس عشان الأمانة دي.. والثقة بيناتنا يا حاج!.
- أنا واثق فيكم يا أولادي.. بس انا عاوز اوريكم عشان تكونو حريصين!.
سحب السر حقائبنا من تحت كراسي الجلوس ووقفنا متأهبين لنذهب:
- أها يا جماعة فتناكم بي سلامة!.
صاحت حاجة النعمة:
- أجي يا أولادي تمرقو بدون غدا والله كان تقعدوا تتغدو ...
- والله أسمحي لينا تب يا الحاجة ... عشان عندنا لف كتير وبكرة مسافرين .... ما بنقدر نتغدى الحالة واحدة يابت عمي ...!
كانت تلك إجابتي والسر يضحك وهو (يكرّب) في كرتونة (المكرفون) بحبال بلاستيكية بيضاء. وأنا من الداخل أحشائي تتقطع من الجوع. وأظن أخي الكاشف هو الآخر كذلك، ولكن لا يجرؤ أي منا على التراخي لتناول الغداء لأجل أن يَبِر عزومة أو حتى قسم إمرأة لا تملك أي حول أو قوة أمام ذلك الرجل البخيل الذي لا يحب الجود بطعامه إلى الغرباء .... وأخيراً عندما إنقطع عشمنا وكدنا نفقد الأمل في تذوق طعام حاجة النعمة بسبب خوفنا من الحرج الذي قد يوقعنا فيه زوجها الذي بالكاد يستقر مزاجه على حال!... لكن شاء القدر أن يصيح بنا عمنا بعد أن تيقن بأننا قد عقدنا عزمنا وقطعنا أمرنا بالخروج والمغادرة!.
- هوي يا اولاد ده كلام شنو حرّم كان تتغدوا بعداك أمشو... قومي يا النعمة جهزي ليهم غداياً سريع كده... عشان يلفو الزمن ويقضّوا أشغالهم.
قمت أنا أصيح متصنعاً ومنافقاً، أجادل في أمر هذه (العزومة) التي أذهبت ما تبقى من ماء وجهينا الذي ذهبت بجله حرارة الشمس وإرهاق السفر:
- يا حاج عبد الواحد مافي طريقة الزمن خلاص سرقنا ...
لكن السر لم يمهلني :
خلاص يا العوض اقعد... الزول حلف حرام عاوز تدخلنا في كلام تاني ولا شنو...! خلينا نتغدى عشان تتخارج سريع...

هذا جزء من الفصل الثالث


جعفر السوداني غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 30-01-11, 01:00 PM   #10

جعفر السوداني

? العضوٌ??? » 153703
?  التسِجيلٌ » Jan 2011
? مشَارَ?اتْي » 36
?  نُقآطِيْ » جعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond reputeجعفر السوداني has a reputation beyond repute
افتراضي

بقية الجزء الثالث
- خلاص يا العوض اقعد... الزول حلف حرام عاوز تدخلنا في كلام تاني ولا شنو...! خلينا نتغدى عشان تتخارج سريع...!
جلسنا مستسلمين وكأننا مكرهين على ذلك، وفي الواقع نخفي في دواخلنا لهفتنا للطعام الذي كنا ننتظره ونستعجل حضوره!. أما حاج عبد الواحد فقد كان مرتاحاً ومنتشياً لما أبداه من كرم، علّه بذلك يغير شيئاً من الصورة التي إنطبعت عنه لدى أهل قريتنا.. لا أنسى أبداً وهو جالس على إحدى كراسي الجلوس واضعاً إحدى رجليه فوق الأخرى، وقد كانت بالنسبة له فرصة ذهبية لا تعوض ليحكي لهؤلاء (الطُرُش)- المتمثلين في شخصينا – عن بطولاته ومغامراته في بلاد الغربة، وقد صور لنا نفسه هناك وكأنه أمير وليس مجرد سائق – كان قلّ أدَبُوا بِطُرْدُوه ويجيبوا غيرو- ليأتي إلى السودان عائداً وعبر البحار ضمن (ناس الكشة)! بل ذهب أبعد من ذلك فقد زعم أن هؤلاء العرب أغبياء (وبُلَدَا) ولا يفهمون أي شئ!!.. وأن السودانيين هم أصحاب العقل الفكر، ولولاهم لضاع هؤلاء العرب و(راحو فيها) لأنه ليس من بينهم أذكياء وجميعهم أغبياء ، لقد بدأ يغيظني بمزاعمه تلك!.
نعم أنا شخص بسيط لا أملك مؤهل علمي سوى الشهادة السودانية بنسبة نجاح- أذكرها 57% - رغم إعترافي بقصوري العلمي، إلا أنني مطلع على بعض الأساسيات العامة والمسلمات فيما يخص الأمم والشعوب، بدءاً من مواقع الأمم بدولها المختلفة على خارطة العالم, إلى عاداتها وتقاليدها! ... جزء عرفناه في علم الجغرافيا والجزء الآخر عرفته من إطلاعي في الصحف والمجلات وبعض الكتب الثقافية التي سنحت لي الفرصة الإطلاع عليها. وكنت فيما علمته مما قرأت أن أمة العرب تعتبر من أذكى الأمم، وهي الأمة الوحيدة المؤهلة والقادرة-وبجدارة- على قيادة العالم!! هذا الكلام قرأته عن كاتب غربي لا أذكره ... أما في غرارة نفسي فكان يكفيني أن نبي آخر الزمان كان من أمة العرب ولغة القرآن العظيم جاءت بلسان العرب ... فماذا بعد هذا ؟! ... فنحن السودانيون يجب ألا نفرح كثيراً لهذه الحقيقة لمجرد نطقنا للعربية، ونتعصب لإنتمائنا العربي وندعي أننا عرب صرف! ... فنحن في النهاية – بما فيهم العبد الضعيف- مجرد هجين يطغى علينا الدم الإفريقي الحامي "الحار"! ، وبمرور السنين والعقود والأجيال والقرون ... حتماً سيتلاشى هذا الدم العربي -الذي هو عقدة الكثير منا نحن السودانيين- فينا ولا يبقى له أي أثر!!. وفي الجانب الآخر إذا سلمنا بأننا سودانيون لهم تميزهم العرقي - رغم نطقهم بالعربية – الذي يختلف عن العرب ، فمن المضحك أن ندعي أننا أذكى منهم، أو أننا أكثر حضارة من العرب لسبب بسيط: وهو أن الحقيقة تقول غير ذلك الذي ندعيه والتاريخ يشهد! ويؤسفني أن اقول هنا: (الجمل ما بشوف عوجة رقبتو)! وأرجو ألا تنطبق علينا حكاية (الما بتلحقوا جدّعوا)!.
أعذرني أيها القارئ!.. ولنعد إلى عمِّنا فقد زعم في إحدى قصصه أنه قد تآمروا عليه وأرادوا أن يستبدلوه بسائق هندي ... صعد الأمير صباح اليوم التالي كعادته إلى عربته اللاندكروزر صالون – ليلى علوي حتى يفهم من لم يكن قد فهم- وأغلق الباب ثم التفت نحو السائق ليحيه فإذا به غير ذلك السائق الذي ألفه:
- قف عندك؟! لا دْوِّر السيارة ...! مين أنت؟ عبد الواحد وين راح؟
أجابه الهندي وهو( يتكبكب) ويرتجف:
- أنا هنا جديد سائق.. مهاجري أعطي وظيفة أقود سيارة أمير...!
والهنود كلامهم سريع وركيك، خصوصاً الذين يقدمون لأول مرة إلى المملكة ... غضب الأمير السعودي وأخرج جوالاً – هل سمعتم بهاتف سيار في الثمانينات – وجعل يتحدث بلهجة ساخنة وغاضبة مع رئيس السواقين وهو سعودي الجنسية:
- انت مخبول يا مهاجري أيش خلاك تصنع هذا؟ أسمعني جيّد ... أنا لا أبغي كلام كثير! .. خلي هذا الهندي يروح ... أنا ما أشتهي واحد يقود سيارتي غير هذا السوداني عبد الواحد .. أنت فاهم...!؟؟
ثم أنهى المكالمة وخرج من السيارة وهو غاضب!
وذكر لنا عبد الواحد أن مهاجري الذي يشغل منصب رئيس العمال والسواقين إستوقفه في نفس ذلك اليوم وهو يقود عربة المطبخ – وهي الوظيفة الجديدة التي اوكل بها بعد إستبعاده من القيادة للأمير – وكان مهاجري مرعوباً وتبدو عليه علامات الفزع والخوف:
- عبد الواحد أترك عربة المطبخ هذي.. وروح قود للأمير سيارته!...
- قلت شنو يا كلب !.. حرّم كان انطبقت السما علي الوطة تاني ما بقود للأمير انت معرّس ولا شنو؟!.. روح انت قود للأمير!...
مهاجري المرعوب يترجى عبد الواحد ويستعطفه ليرجع ويقود للأمير، وهذا الأخير يتعنت ويصر على رأيه بأن لا يعود مرة أخرى للقيادة، إلا بشرط واحد إذا قبله مهاجري فأهلاً، وإلا فلا داعي بأن يتعب نفسه بكلام لا جدوى من ورائه:
- شوف يا رجّال ما برجع أقود للأمير إلا تزيد راتبي لعشرة ألف ريال... وبي مكتوب رسمـي من الأمير.. ما دايرا عشرة ألف في الهوا ساي....!
- يا شيخ عبد الواحد.. الله يرحم والديك!.. انت الخمسة آلاف الي تأخذها هذه ما في واحد هنا يعطوه مثل هذا المبلغ! ...الحين تقول أبغي عشر ألف ريال.. أيش هذا الكلام الفارغ...!
غضب مهاجري أشد الغضب وتركه، لأنه بسبب الخمسة ألف ريال – كما يزعم صاحبنا – تآمر عليه وفصله ليقتسم المبلغ مع الهندي المسكين. ثم أنه ذهب إلى مكتبه ليتحادث مع الأمير بالتلفون مخبراً إياه بأن السوداني رفض العودة مرة أخري للأمير، واشترط أن يرفع راتبه إلى مبلغ عشرة ألف ريال حتى يعود للعمل ثانية:
- أسمع لي جيد يا مهاجري... لازم تجي لي الحين ومعاك السوداني في المكتب...!
ثم قطع الحديث بهذا الأمر ولم يزد حرفاً .. واصل العم حكايته وقال إن مهاجري عاد إليه مرة أخرى وأخبره بأن الأمير يريده شخصياً...!.
- يا شيخ عبد الواحد الأمير يبغى يتحدث اليك في المكتب...
ولما مثل الإثنان أمام الأمير، حيث كان السعودي مرعوباً بينما السوداني ثابت لا يتحرك له ساكن، وجه الأمير حديثه إلى الأخير:
- إيش خلاك يا السوداني تترك تقود سيارتي...! إيش جرى لك....!
- يا سعادة الأمير أنا ما تركت أقود سيارتك من نفسي.. مهاجري هذا قالي من الحين تروح تقود سيارة الطبخ ما نبغاك تقود للأمير بعد اليوم..!
- هلا هلا يا مهاجري... الزول هذا ايش تقول في كلامه...!!
- يا سعادة الأمير حفظك الله.. هذا السوداني ما ينفع يقود للأمير! أولاً: كسلان ما يصحى مبكر في النوم.. ويضع شيء أسود يسموه "صعود" تحت شفايفو.. وما يهتم بلبسه وشكله..هذا أبداً ما يليق يقود لسيادتك!...وو
قاطعه الأمير..
- أنا كل هذا الكلام ما يهمني... أنا أبغي هذا الرجال يقود لي سيارتي والســلاااااام !...وإياك يا مهاجري تعملي مشكلة تاني مع السوداني هذا...! مفهوووم!!.
- لكن يا سعادة الأمير هو يقول: أبغي عشرة ألف ريال.. وإلا ما أروح أرجع الشغل...!
- أعطيه لأنك انت السبب ما هو ....!
وأخذ عبد الواحد يضحك ضحكاً مجلجلاً صك به آذاننا:
- عارف يا السر ويا العوض أنا لي تمانية سنين شهرياً بصرف عشر ألف ريال ما ناقصة ولا فلس!.. والسعوديين المعاي كلهم بحترموني وبهرشو مني!!
بدأت أتيقن أن هذا الحاج يهزي، وربما هو في طريقه إلى جنون العظمة... وتفخيم الذات!. كيف لسائق سيارة حتى ولو إفترضنا أنه يقود لأمير أن يقبض شهرياً مبلغ 10 آلاف!.. -لا سيما في فترة الثمانينات- حيث كان للريال قيمة ويحسب له ألف حساب! وهذا أمر صعب عليّ أن أصدقه لأن رفاقي جميعهم كانوا يعملون بالمملكة وأخبارهم بكل تفاصيلها الدقيقة معي -وفي وقتها- ولم أسمع من أحدهم أنه يأخذ شهرياً خمس هذا المبلغ الخرافي! ومثل ما حكاه لنا عبد الواحد مر بي كثيراً، ومن عدة أشخاص حتى كدت أسلم بأن الشخصية السودانية تعاني من مرض خطير: وهو الإعتزاز الزائد بالنفس، حيث يتوهم أحدهم بأنه (الكل في الكل) وأن ما سواه ممن حوله (غنم ساي) لا يفهمون!.. لدرجة أنه يهز الثقة في ذاتك ويجعلك تتشكك في نفسك!!.. إلا أنك حينما تدقق حوله النظر وتمعن في التفتيش عن حقيقته، وعن طبيعة عمله وطريقة تفكيره وتعامله في الحياة، ستكتشف أنه يعمل في مهنة حقيرة، وربما الذين حوله في العمل يحتقرونه ويتهمونه بالغباء، ومع ذلك لا يهديه تفكيره ليطور نفسه وأسلوب تفكيره، بل وحتى مهنته، إلى مستوى يتناسب مع ما يزعمه ويدعيه من الكبرياء!. والمخدوع في أمثال هؤلاء دائماً ما يظن أنّ (القبة فيها فكي) إلا أنه في النهاية وبكثرة التكرار- التي تعلم الحمار- حين يدخلها ويرى ما بداخلها سيكتشف و يتأكد أنه إنما كان يسمع جعجعة فارغة، ومن ورائها الحقيقة الكاذبة التي لا يرى فيها طحناً!. فأنا أكره الذي يفتخر بنفسه ويحيطها بهالة من الإعظام والإدعاء الكاذب بالأهمية، فترانى أحبس أنفاسي وأحسب الثواني، حين أضطر لأن أسمع من أشباه هؤلاء الذين يعانون من مركب نقص يسميه أطباء النفس (داء الإفتخار والفشخرة). ولا أدري بكم شعرت من الراحة، عندما عادت حاجة النعمة ووضعت صينية الغداء أمامنا:
- إتغدوا يا أولادي غايتو جهزت ليكم غداياً سريع كده...!
- تسلمي يا بت عمي يا خي تعبناك معانا...
- أجي يا ولادي تعب شنو..؟ دا الواجب!.
ثم أن السر خرج وهو يكفكف كمي (جلابيته) التي بدأ بياضها يذبل، بفعل ما لصق بها من أوساخ وأتربة أثناء التنقل، خصوصاً تلك التي تكون متجمعة على مقاعد المواصلات الداخلية , توجه نحو الحنفية ليغسل يديه وتبعته أنا الآخر ، ثم جلسنا لنأكل طعام الغداء:
- حاج عبد الواحد أرح أكل معانا!...
- لا لا يا ولادي ...أكلو طوالي باقي نحن بناكل متأخرين شوية...نحن ما قاعدين نتغدى أقل من الساعة خمسة!!0
وللحق والحقيقة كان غداءً متأخراً جداً بالنسبة لقرويين أمثالنا.. أضف إلى أن كميته كبيرة جداً بالنسبة إلى شخصين – أربعة أصناف من الملاح والعيش مردوم على جوانب السفرة – جعلنا نأكل بشراهة وبتسابق ونهم ، حتى تعرقت جباهنا وصار العرق يسيل على جوانب رأسينا ، فأنا لا أنسى تلك الشطة (المَصلّحة) بعصير الليمون والدكوة ، فقد كانت حارة و(سُخْنَة)!، وقد التهب لساني من حرِّها وجعلت آذاني (تُطَقْطِقْ) من فرط سخونتها، وشعرت بأن إحدى أذناي قد انفتحت (طق!) - بصوت – بعد أن كانت مغلقة!!. وما هي إلا دقائق معدودة فإذا بالصينية – التي كانت قبل قليل معبأة تماماً بالطعام – فارغة من كل شئ إلا من بعض العظام في بعض جوانبها أما (الصحون) الأربعة التي كانت عليها فهي نظيفة تماماً، ولا أظنها كانت ستحتاج إلى أن تغسل أو تنظف مرة أخرى.
إتكأ السر بظهره على الكرسي بعد أن لعق أصابعه جيداً وأطلق (دشوة) طويلة مدوية:
-عااااع ع ع... الحمد ليك يا رب ...وربنا يدوم النعمة!
ثم قمنا لغسل أيدينا فصاح عبد الواحد:
- أقعدوا ياخي تمُّو غداكم خلي الولد يجيب ليكم الزيادة...
- لا لا والله الحمد لله ... ما فضلنا فضلة.. شبعنا تب ما بنختشي والله!.
وما أن عدنا إلى الصالون بعد أن غسلنا أيدينا فإذا بنا نجد أن الشاي قد حضر! ما هذا الكرم الغامر...؟! وعقب تلك الوجبة الدسمة والتى أعقبتها بثلاثة أكواب من الماء البارد... عند ذلك فقط بدأت أحس بأن الحياة أخذت تدب في جسدي وكفَّت بطني من العواء والقرقرة. وما أن وضعت كوب الشاي الراقي الذي كانت تفوح منه رائحة (الهبهان) على المنضدة التي أمامي بعد أن أفرغتها إثر رشفات و(شفطات) معدودة وسريعة، فإذا برأسي يكف هو الآخرعن الضربان ويختفي الصداع، وهنا بالذات إستعاد جسمي نشاطه بالكامل!.
نهضنا مودعين ..ثم قمنا بنقل حقائبنا -مع الكرتونة الأمانة- من الصالون ووضعنا الجميع بجانب البوابة:
- ودعناك الله يا حاج عبد الواحد والله متشكرين وربنا يزيدكم...
- مع السلامة يا ولادي سلِّمو لي كتير على ناس الحلة وبالأخص مولانا فضل المولى والأمانة سلموها ليهو في إيدو.
ثم جاءت النعمة ومعها كيس بداخله عرّاقي لأبيها وتوب لأمها:
- ودعتكم الله يا ولادي الوصية دي تدوها لي أمي وسلموا لي على ناس الحلة كلهم بدون فرز وقولو لي أمي بِتِّك النعمة وعبد الواحد جايين الحلة بعد عشرة يوم كان الله سهل ما كدي يا عبد الواحد!.
- إن شاء الله عشرة خمستاشر يوم بالكثير بنجي الحلة والله طولنا شديد منها بس ما تنسو سلموا لينا عليهم كلهم!.
- يبلغ إن شاء الله أها مع السلامة.

4ـ إلى السوق العربي


جعفر السوداني غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
رواية سودانية معاصرة

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:22 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.