انها غلطة , غلطة فظيعة , فجل ما رأته جينا من حولها هو غبار احمر وخط سكة حديد . رأت أشجارا قصيرة تنمو على طول الخط , وفي البعيد , تحول القطار إلي ضوء وامض خفيف . وقفت جينا من دون حراك , محاولة أن تستوعب فداحة ما اقترفته . عندما أعلن المذياع ان القطار سيتوقف في " مرتفعات بارينيا " , افترضت جينا انها مدينة ما . وكانت قد نظرت من النافذة فرأت العديد من الشاحنات التى وقفت الى جانب الرصيف فيما أخذ العمال ينزلون احمالا من البضاعة , وراح رجال يعتمرون قبعات عريضة ونساء يحملون البضاعة في الشاحنات . قررت أن الرحلة انتهت هنا .. وهذا أفضل بكثير من قضاء يومين آخرين في القطار , تنظر إلي برايان وهو يذل ابنته الصغيرة . كانت من الغضب بحيث استعجلت في إلقاء الحقائب من القطار وهي تعلم كارلي انهما ستترجلان من هنا في اللحظة التى ابتدأ القطار يتحرك فيها . في " مرتفعات بارينيا " ! وهو اسم لا يعني شيئا . والاسوأ من ذلك أن الشاحنات التى رأتها منذ دقائق غابت عن النظر الآن في سحابة من الغبار الأحمر . لم يكن هناك شئ على الإطلاق . أخذت تنظر من حولها بفزع , غير مصدقة . ما الذى فعلته ؟ اين تراهما نزلتا ؟ لقد استغرقت رحلتهما من سيدني يوما ونصف ويومين من " بيرت " . وهما لا تدريان أين هما الآن . طرحت عليها كارلي هذا السؤال بذلك الصوت الضعيف الخائف الذى تستعمله مع برايان وهذه هي النبرة الوحيدة التى سمعتها جينا طوال اليومين الماضيين . اجابتها جينا بصوت مرتفع وكأن التفوه بإسم هذا المكان يمنحه معني خاصا : " نحن في مرتفعات بارينيا " لكن هذا لم يطمئن " فمرتفعات بارينيا " هي عبارة عن رصيف من الإسفلت وسقف من الصفيح . ما من شجرة أو هاتف . وكانت كارلي تقف بجانبها , تنتظر منها أن تخبرها بما عليها أن تقوم به . يا إلهي .. ماذا تراني فعلت ؟ عادت جينا تخاطب نفسها وهي تتذكر كيف كان أبوها يقول دوما إنها حمقاء ... وهو علي صواب . لكن رأي أبيها لم يعد يهمها , فتشارلي سفينسن في اميركا . ولعل والدها متواطئ سرا مع برايان . كان هذا التفكير غير معقول , لكنه ليس مستحيلا , فهي وكيرلي من أم واحدة لكن من أبوين مختلفين , برايان وتشارلي , وهما اكثر من عرفت من الرجال بعدا عن المبادئ الخلقية . اغمضت جينا عينيها وهي تتذكر وجه برايان بينما كانت تستعد للنزول ثم قوله بخشونه : " انزلي إذن , فهذا لا يهمني . إننى الفائز " وكان النصر يرتسم على ملامحه وهو يراها تنزل من القطار مع اختها الصغيرة . أتراه ادرك نوع هذا المكان ؟ وانحبست انفاسها . اتري برايان ادرك ما تفعل ؟ هل كان يعلم أن " مرتفعات بارينيا " ليست شيئا يذكر ؟ من المؤكد انه لا يريد أن يري ابنته معزولة في مكان غريب موحش . جلست على حقيبتها وحاولت أن تكبح ذعرها . انها حمقاء للغاية . كانت كارلي ابنة الاعوام الخمسة تنظر اليها بقلق , فأخذتها ووضعتها على ركبتيها واحتضنتها بشدة وهي تفكر في ان عليها ان تهدأ وتحاول ان تفكر . وسألتها كارلي بثقة تامة : " هل سيأتي أحد ليأخذنا ؟ " فحاولت جينا ان تجد جوابا لهذا السؤال . واخيرا , أجابت : " ربما . على ان افكر في الأمر " اطاعتها كارلي والتزمت الصمت . وهو ما أمضت سنوات عمرها الخمس تفعله فكان الآخرون يرونها ولا يسمعونها . وقد صممت جينا على ان هذا الصمت يجب ان ينتهي . لكنها شعرت حاليا بالشكر لصمت اختها هذا , فهي بحاجة لأن تفكر في ما عليها أن تعمله . وكان هذا صعبا . كان الذعر يتملك جينا , كما كانت تشعر بحرارة الجو الخانقة بعد خروجها من القطار المكيف . انه منتصف النهار في براري استراليا . لكنها ما لبثت ان حدثت نفسها بأن تنسى حرارة الجو وتنتبه لوضعها الحالي . متى يأتي القطار التالي ؟ وحاولت ان تتذكر جدول المواعيد الذى اطلعت عليه في انكلترا . أدهشها , حينذاك , اقتراح برايان بأن يستقلوا القطار الذى يقوم برحلة طويلة عبر وسط استراليا , وتفحصت طريق القطار وجدول الرحلة عبر الإنترنت . واخذت تحدث نفسها مرة اخرى بمرارة بأنها مخطئة من دون شك . لكنها لم تكن كذلك , فهي واثقة من أن هذا القطار يعبر القارة مرتين فقط في الأسبوع , وهو يتوقف في " مرتفعات بارينيا " لينزل حمولته وليسمح للقطار القادم من الجهة المقابلة بالمرور , وقد حدث هذا منذ عشر دقائق ما يعني أن ما من قطارات قبل ثلاثة ايام , واليوم هو الخميس , وبالتالي لن يمر القطار التالي قبل يوم الاثنين . ازداد شعورها بالغثيان , فاخرجت هاتفها الخلوي وأخذت تنظر إلى شاشته . لم تجد أي اتصال . لكنها طبعا خارج نطاق الخدمة . ما الذى كانت تتوقعه ؟ لكنها رأت اولئك الفتية في الشاحنات فلابد أنهم يعيشون في مكان ما . انزلت اختها من حضنها برقة ثم سارت الى حافة الرصيف , وهذه غلطة اخرى فقد ضربتها شمس الظهيرة . عادت إلى الظل , وعادت كارلي تندس في احضانها باحثة عن الأمن والاستقرار . همست وهي تنظر من حولها مستطلعة بعينين ضيقتين : " سنكون بأحسن حال , يا كارلي " رأت طرقا وعرة تقود إلى اتجاهات مختلفة , وما من شئ آخر . لا بد من وجود حياة هنا . فكرت في ذلك وهي تصل إلى آخر الطريق . هل تلك بيوت ؟ انها غير واثقة , فهي أبعد من أن تميزها. حدقت في اختها بحيرة , ماذا عليها أن تفعل ؟ كانت خيارتها محدودة , فإما أن تمكثا على هذا الرصيف من دون طعام ومن دون شراب وتنتظرا قدوم القطار التالي . وإما أن تسيرا إلى ما لاح لها عند الأفق . وعادت بذهنها الى التعليمات التى قرأتها أثناء استعدادهما لهذه الرحلة . في حالة تعطل السيارة في البراري , ابق بجانب سيارتك , أخبر الناس بوجهتك , ليرسل اصدقاؤك فرقة للبحث عنك , فالرجل التائه في البراري علي قدميه , قد لا يعثرون عليه ؟ وخطر لها بمرارة ان هذه النصيحة ممتازة , لكن الشخص الوحيد الذى يعرف مكانهما هو برايان . وتراءى لها وجه برايان . لم تر في حياتها قط حقدا كالذى ارتسم عليه . لقد سارت امامه باعتداد وهي تعلم انه لن يفعل شيئا لإنقاذهما . وهذه الفكرة جعلتها تشعر بالغثيان . |