آخر 10 مشاركات
أهواكِ يا جرحي *مميزة & مكتمله* (الكاتـب : زهرة نيسان 84 - )           »          [تحميل] ماذا بعد الألم ! ، لـ الحلــوه دومــا ، اماراتية (جميع الصيغ) (الكاتـب : Topaz. - )           »          99 - خطوات على الضباب - ميريام ميكريغر ( النسخة الأصلية ) (الكاتـب : حنا - )           »          لعنتي جنون عشقك *مميزة و مكتملة* (الكاتـب : tamima nabil - )           »          رواية قصاصٌ وخلاص (الكاتـب : اسما زايد - )           »          مشاعر من نار (65) للكاتبة: لين غراهام (الجزء الثانى من سلسلة عرائس متمردات)×كاملة× (الكاتـب : Dalyia - )           »          530 - حلم الطفولة - باتريسيا ولسن - ق.ع.د.ن (الكاتـب : ^RAYAHEEN^ - )           »          هل حقا نحن متناقضون....؟ (الكاتـب : المســــافررر - )           »          سجل هنا حضورك اليومي (الكاتـب : فراس الاصيل - )           »          نبضات حرف واحاسيس قلم ( .. سجال أدبي ) *مميزة* (الكاتـب : المســــافررر - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > مكتبات روايتي > منتدى الـروايــات والمسرحـيات الـعـالـمـيـة

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 14-10-08, 07:38 PM   #1

ΜāŘāΜ ~ Ś

نجم روايتي

 
الصورة الرمزية ΜāŘāΜ ~ Ś

? العضوٌ??? » 134
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 17,112
?  نُقآطِيْ » ΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond repute
:sss4: ماركيزيات ..( مجموعة قصص قصيرة بقلم جابرييل غارسيا ماركيز)




القـصة الأولى

الموت أقوى من الحب

عندما وجد السيناتور أونيسمو سانشيز المرأة التي انتظرها طوال عمره، كان لا يزال أمامه ستة أشهر وأحد عشر يوماً قبل أن توافيه المنية. وكان قد التقاها في روزال دل فيري، وهي قرية متخيّلة، كانت تستخدم كرصيف ميناء سري لسفن المهربين في الليل، أما في وضح النهار، فكانت أشبه بمنفذ لا فائدة منه يفضي إلى الصحراء، وتواجه بحراً قاحلاً لا اتجاه له، وكانت قرية نائية وبعيدة عن أي شيء، إلى درجة أن أحداً لم يكن يتوقع أن يكون بوسع أي انسان أن يغيّر مصير أي فرد من سكانها. حتى أن اسمها كان يثير الضحك نوعا ما، وذلك لأن الوردة الوحيدة الموجودة في تلك القرية كان يضعها السيناتور أونيسمو سانشيز في سترته عصر ذلك اليوم الذي التقى فيه لورا فارينا.
وكانت كذلك محطة إجبارية في الحملة الانتخابية التي كان يقوم بها السيناتور كلّ أربع سنوات. فقد كانت عربات الكرنفال قد وصلت في الصباح الباكر، ثم تبعتها الشاحنات التي تقل الهنود الذين كانوا يُستأجرون ويُنقلون إلى المدن الصغيرة لزيادة عدد الحشود في الاحتفالات العامة وتضخيمها. وقبل الساعة الحادية عشرة بقليل، وصلت السيارة التابعة للوزارة التي يشبه لونها لون مشروب الفراولة الغازي، بالإضافة إلى السيارات التي تقل الموسيقيين، والألعاب النارية، وسيارات الجيب التي تقل أفراد الحاشية. أما السيناتور أونيسمو سانشيز، فكان يجلس مسترخياً في سيارته المكيّفة، لكنه ما أن فتح باب السيارة، حتى هبّت عليه نفحة قوية من اللهب، وعلى الفور تبلل قميصه المصنوع من الحرير الصافي، وأصبح وكأنه قد غمس في حساء فاتح اللون، واعتراه شعور بأنه كبر عدة سنوات، وأحس بالوحدة على نحو لم يشعر به من قبل. في الحياة الحقيقية، كان قد بلغ الثانية والأربعين من العمر، وكان قد تخرّج من جامعة غوتينجين بدرجة شرف كمهندس في استخراج المعادن. كان قارئاً نهماً للأعمال الكلاسيكية اللاتينية المترجمة ترجمة ركيكة. وكان السيناتور زوج امرأة ألمانية متألقة أنجبت له خمسة أطفال، وكانوا جميعهم يعيشون بسعادة في بيتهم، وكان هو أكثرهم سعادة إلى أن أخبروه، منذ ثلاثة أشهر، بأنه سيموت ميتة أبدية قبل أن يحل عيد الميلاد القادم.
وفيما كانت التحضيرات للاجتماع الحاشد على وشك أن تُستكمل، تمكّن السيناتور من الاختلاء بنفسه لمدة ساعة في البيت الذي كانوا قد أعدّوه له ليرتاح فيه. وقبل أن يتمدد على الفراش، وضع الوردة التي حافظ عليها طوال رحلته عبر الصحراء في كأس مليء بمياه الشرب، وابتلع الحبوب التي أخذها معه ليتحاشى تناول قطع لحم العنز المقلّي التي كانت تنتظره أثناء النهار، وتناول عدّة حبوب مسكّنة قبل وقتها المحدد خشية أن يعتريه الألم. ثم وضع المروحة الكهربائية قرب الأرجوحة واستلقى عارياً لمدة خمس عشرة دقيقة في ظلّ الوردة، وبذل جهداً كبيراً كي يبعد فكرة الموت عنه كي يغفو قليلاً. وفيما عدا الأطباء، لم يكن أحد يعرف أن أمامه أياماً معدودات سيعيشها، لأنه قرّر أن يبقي سرّه طي الكتمان، وأن لا يغيّر شيئاً في حياته، لا بدافع من الكبرياء، بل بسبب الخجل والخزي.
أحسّ أنه يمتلك زمام أموره عندما خرج للقاء الجمهور للمرة الثانية في الساعة الثالثة من بعد ظهر ذلك اليوم، مرتاحاً ونظيفاً، وهو يرتدي بنطالاً من الكتّان الخشن، وقميصاً مزّهراً، وكانت الحبوب المضادة للألم قد ساعدته في إضفاء شيء من السكينة على روحه. غير أن التآكل الذي كان الموت يحدثه فيه أكثر خبثاً مما كان يظن، لأنه ما أن صعد إلى المنصة، حتى اعتراه شعور غريب بالازدراء للذين كانوا يسعون جاهدين لأن يحظوا بشرف مصافحته، ولم يشعر بالأسف، كما في السابق، على جموع الهنود الذين قلما كان بوسعهم تحمّل جمرات نترات البوتاسيوم الملتهبة تحت أقدامهم الحافية في الساحة الصغيرة المجدبة. وبحركة من يده أوقف التصفيق، بغضب تقريباً، وبدأ يتكلم دون أن تبدو على وجهه أية تعابير محددة. وكانت عيناه مثبتتين على البحر الذي كان يئن تحت وطأة لهيب الحرارة. وكان صوته العميق الموزون يشبه المياه الراكدة، لكنه كان يعرف أنه لم يكن يقول الصدق في الخطاب الذي كان قد حفظه عن ظهر قلب، والذي كان قد ألقاه أمام الجموع مرات كثيرة، بل كان يناقض أقوال ماركوس أوريليوس صاحب النزعة الجبرية في كتاب تأملاته الرابع.
"إننا هنا لكي نلحق الهزيمة بالطبيعة"، بدأ خطابه بخلاف كلّ قناعاته. " لن نصبح لقطاء في بلدنا بعد الآن، أيتام الله في عالم العطش والمناخ الرديء، منفيين في أرض آبائنا وأجدادنا. بل سنكون أناساً مختلفين، أيها السيدات والسادة، سنكون أناساً عظماء وسعداء".
كان ثمة نمط معين في هذا السيرك الذي يقوم به. ففيما كان يلقي كلمته، كان مساعدوه يلقون بمجموعات من الطيور الورقية في الهواء، فتدّب الحياة في هذه المخلوقات الاصطناعية، وتحلّق حول المنصة المنتصبة من ألواح خشبية، وتطير باتجاه البحر. وفي الوقت نفسه، كان رجال آخرون يفرغون بعض جذوع الأشجار من الشاحنات، ويغرسونها في تربة نترات البوتاسيوم وراء الجموع الحاشدة. وكانوا قد أقاموا واجهة كرتونية من بيوت خيالية من الآجر الأحمر ذات نوافذ زجاجية، وأخفوا وراءها الأكواخ الحقيقية البائسة.
أطال السيناتور خطابه مستشهداً باقتباسين اثنين باللغة اللاتينية ليطيل أمد المهزلة. ووعد الحشد بآلات تصنع المطر، وبأجهزة نقّالة لتربية حيوانات المائدة، وبزيوت السعادة التي تجعل الخضراوات تنمو في تربة نترات البوتاسيوم، وبشتلات من أزهار الثالوث المزروعة في أصص. وعندما رأى أنه استطاع أن يخلق عالمه الخيالي، أشار إليه بيده، وصاح بأعلى صوته: "ذاك الدرب سيكون دربنا، أيها السيدات والسادة. انظروا! ذاك الدرب سيكون لنا".
التفت الحشد. كانت سفينة مصنوعة من الورق الملّون تعبر وراء البيوت، وكانت أطول من أعلى بيت في المدينة الاصطناعية. وعندها لاحظ السيناتور، أنها بعد أن شُيدت وأُنزلت وحُملت من مكان إلى مكان آخر، التهم الطقس الشنيع البلدة الكرتونية المتداخلة، وكادت تصبح سيئة كما هو حال قرية روزال دل فيري.
وللمرة الأولى منذ اثتني عشرة سنة، لم يتوجه نلسن فارينا ليرحب بالسيناتور. بل كان يستمع إلى خطاب السيناتور وهو مستلق على أرجوحته في ما تبقى من قيلولته، تحت ظلال عريشة البيت ذي الألواح غير المستوية، الذي بناه بيديّ الصيدلي اللتين جرّ فيهما زوجته الأولى والتي قطعّها إلى أشلاء. ثم هرب من جزيرة الشيطان، وظهر في روزال ديل فيري على متن سفينة محمّلة بببغاوات بريئة من نوع المقو، برفقة امرأة سوداء جميلة كافرة، كان قد التقى بها في باراماريبو وأنجب منها فتاة. لكن المرأة ماتت لأسباب طبيعية بعد فترة قصيرة، ولم تلق مصير المرأة الأخرى، التي ساهمت أعضاؤها المقطعّة إرباً في تسميد قطعة الأرض المزروعة بالقنبيط، بل ووريت التراب بكامل جسدها، محتفظة باسمها الهولندي، في المقبرة المحلية. وقد ورثت الابنة لون أمها وقوامها الجميل، فضلاً عن عينيّ أبيها الصفراوين المندهشتين، وكان يحق له أن يعتقد أنه كان يربّي أجمل امرأة في العالم.
ومنذ أن اجتمع بالسيناتور أونيسمو سانشيز خلال حملته الانتخابية الأولى، طلب منه نلسن فارينا أن يساعده في الحصول على بطاقة هوية مزورة تجعله في منأى عن قبضة القانون. إلا أن السيناتور رفض بطريقة ودّية، ولكن حازمة. غير أن نلسن فارينا لم يستسلم، بل ظل ولسنوات عديدة، وكلما أتيحت له الفرصة، يكرّر طلبه بأساليب مختلفة. أما هذه المرة، فقد بقي في أرجوحته، وقد كتب عليه أن يتعفّن حياً في عرين القراصنة اللاهب ذاك. وعندما سمع التصفيق الأخير، رفع رأسه، وأخذ يتطلع من فوق ألواح السياج، ورأى الجانب الخلفي من المهزلة: الدعائم التي أُحضرت للمباني، جذوع الأشجار، والمخادعين المتوارين الذين يدفعون السفينة فوق المحيط. ثم بصق بإحساس مفعم بالحقد والازدراء.
وبعد أن ألقى كلمته، أخذ السيناتور كدأبه يجوب شوارع القرية وسط أنغام الموسيقى والأسهم النارية، وقد تحلّق حوله سكان القرية، الذين راحوا يبثون له شكاويهم ومشاكلهم. وكان السيناتور يصغي إليهم باهتمام وود شديدين ولم يكن يتورع عن مواساة كلّ فرد منهم، دون أن يقدم لأي منهم أي خدمات هامة. وتمكنت امرأة تقف على سطح أحد المنازل مع أطفالها الستة الصغار من أن تُسمعه صوتها وسط الضجيج وأصوات الأسهم النارية.
"إني لا أطلب الكثير، أيها السيناتور"، قالت"، "حمار واحد فقط لأتمكن من سحب الماء من بئر الرجل المشنوق".
لاحظ السيناتور الأطفال النحاف الستة وسألها: "ماذا حدث لزوجك؟"
"ذهب يبحث عن الثروة في جزيرة أروبا"، أجابت المرأة بروح دمثة، "وعثر على امرأة أجنبية، من النوع الذي يضع الماس في أسنانهن".
أحدث الجواب عاصفة من الضحك.
"حسناً، قرّر السيناتور، " ستحصلين على حمارك".
وما هي إلا لحظات، حتى أحضر أحد مساعديه حماراً مزوداً بسرج جيد إلى بيت المرأة، وقد دُوِّن على كفله شعار من شعارات الحملة الانتخابية بطلاء لا يمكن إزالته لكي لا ينسى أحد أبداً أنه هدية من السيناتور.
وعلى امتداد الشارع القصير، قام ببعض الأعمال الصغيرة الأخرى، بل وحتى قدم ملعقة دواء للرجل المريض الذي أمر بإخراج سريره ووضعه عند باب بيته كي يتمكن من رؤية السيناتور عندما يمرّ.
في الزاوية الأخيرة تلك، ومن خلال ألواح السياج، رأى نلسن فارينا وهو مستلق في أرجوحته، وقد بدا شاحباً وكئيباً، لكن ومع ذلك، حيّاه السيناتور دون أن يبدي له أية مشاعر بالمودّة.
"مرحباً، كيف حالك؟"
التفت نلسن فارينا من فوق أرجوحته ورمقه بنظرته المفعمة بالارتياب والغّل.
"أنا، كما تعرف"، قال.
خرجت ابنته إلى الباحة عندما سمعت التحية.
كانت ترتدي فستاناً هندياً رخيصاً من نوع غواجيرو، وكانت تزّين رأسها أقواس ملوّنة، وكانت قد دهنت وجهها بأصباغ لتقيه من أشعة الشمس. إلا أنه، حتى في وضعها السيئ ذاك، يستطيع المرء أن يتصور أنه لا توجد امرأة أخرى في جمالها على وجه البسيطة كلها. وقف السيناتور منقطع الأنفاس وقال بدهشة: "اللعنة. يفعل الله أكثر الأشياء جنوناً".
في تلك الليلة، جعل نلسن فارينا ابنته ترتدي أجمل ثيابها، وبعث بها إلى السيناتور. وطلب منها الحارسان المسلحان بالبنادق اللذان كانا يهزان رأسيهما من شدة الحرارة في البيت المستعار، أن تنتظر على الكرسي الوحيد في الردهة.
كان السيناتور يعقد في الغرفة المجاورة اجتماعاً مع أناس على قدر من الأهمية في روزال دل فالي، الذين كان قد جمعهم لينشد على مسامعهم الحقائق التي لم يكن قد ذكرها في خطابه، والذين كانوا يشبهون إلى درجة كبيرة جميع من كان يلتقي بهم في البلدات الصحراوية كلها. وكان قد بدأ يعتري السيناتور الملل ويشعر بالتعب من تلك الجلسات الليلية التي لم تكن تتوقف. كان قميصه مبللاً بالعرق، وكان يحاول أن يجففه على جسده من التيار الحار المنبعث من المروحة الكهربائية التي كانت تصدر طنيناً كطنين ذبابة الفرس في وسط الحرارة اللاهبة التي تغمر الغرفة.
قال: "بالطبع لا نستطيع أن نأكل طيوراً ورقية" ثم أضاف: "إنكم تعرفون، وأنا أعرف أن اليوم الذي ستنمو فيه الأشجار والأزهار في كومة روث العنزات هذه، وفي اليوم الذي سيحل سمك الشابل محل الديدان في برك الماء، عندها، لن يعود لكم، ولن يعود لي شيء هنا، هل تفهمون ما أقوله لكم؟"
لم يحر أحد جواباً. وفيما كان السيناتور يتكلم، مزّق صفحة من التقويم، وشكّل منها بيديه فراشة ورقية، ثم ألقاها نحو تيار الهواء المنبعث من المروحة، فراحت الفراشة تتطاير حول الغرفة، ثم خرجت وانسلت عبر شق الباب الموارب. وتابع السيناتور كلامه، بعد أن تمالك نفسه، يساعده في ذلك الموت المتواطئ معه.
وأضاف: "لذلك، لا يتعين عليّ أن أكرّر على أسماعكم ما تعرفونه جيداً: بأن انتخابي مرة أخرى هو لمصلحتكم أنتم أكثر مما هو لمصلحتي أنا، لأني سئمت المياه الراكدة وعرق الهنود، في الوقت الذي تكسبون فيه أنتم، أيها الناس، رزقكم منه".
رأت لورا فارينا الفراشة الورقية وهي تنسرب من باب الغرفة. رأتها فقط لأن الحارسين في البهو كانا يغطان في النوم وهما جالسين على الدرج، يعانق كل منهما بندقيته. وبعد أن دارت عدة دورات، انفتحت الفراشة المثنية بكاملها، وارتطمت بالحائط، والتصقت به. حاولت لورا فارينا أن تقتلعها بأظافرها. إلا أن أحد الحارسين، الذي استيقظ على صوت تصفيق منبعث من الغرفة المجاورة، لاحظ محاولتها العقيمة.
"لا يمكنك اقتلاعها"، قال بفتور، "إنها مرسومة على الحائط". عادت لورا فارينا وجلست عندما بدأ الرجال يخرجون من الاجتماع. وقف السيناتور عند مدخل الغرفة ويده على المزلاج. ولم يلحظ لورا فارينا إلا عندما أضحت الردهة خاوية.
"ماذا تفعلين هنا؟"
قالت: "لقد أرسلني أبي".
فهم السيناتور . أمعن النظر في الحارسين النائمين، ثم تمعّن في لورا فارينا، التي كان جمالها الفائق يفوق ألمه، وهنا عرف أن الموت هو الذي اتخذ قراره نيابة عنه.
"ادخلي" قال لها.
وقفت لورا فارينا والدهشة تعتريها عند مدخل الغرفة: كانت آلاف من الأوراق النقدية تتطاير في الهواء، تخفق كالفراشات. لكن السيناتور أطفأ المروحة، فتوقفت عن السباحة في الهواء وأخذت تتهاوى وتتساقط فوق قطع الأثاث في الغرفة.
"كما ترين"، قال مبتسماً، " حتى الخراء يمكن أن يطير".
جلست لورا فارينا على المقعد المدرسي. كانت بشرتها ناعمة ومشدودة، وبلون النفط الخام وكثافته، وكان شعرها مثل عرف فرس صغيرة، وكانت عيناها الواسعتان تمنحان بريقاً أكثر لمعاناً من وهج الضوء. وتبع السيناتور مسار نظرتها ووجد أخيراً الوردة التي تلوثت بنترات البوتاسيوم.
قال: "إنها وردة".
"نعم" قالت وفي صوتها نبرة ارتباك. "لقد شاهدتها عندما كنت في ريوهاتشا".
جلس السيناتور على السرير العسكري، وراح يتحدث عن الورود فيما بدأ يفك أزرار قميصه. وعلى الجانب الذي كان يخيّل إليه أن قلبه موجود فيه داخل صدره، كان قد رُسم وشم في شكل قلب يخترقه سهم. ألقى القميص المبلل على الأرض وطلب من لورا فارينا أن تساعده في خلع حذائه الطويل.
جثت أمام السرير. لم يبعد السيناتور عينيه عنها وهو يتمعن فيها بدقّة، وفيما كانت تفكّ رباط حذائه، كان يتساءل من منهما سيكون سيء الحظ من لقائهما هذا.
قال: "إنك مجرد طفلة".
قالت: "قد لا تصدق. سأبلغ التاسعة عشرة من عمري في شهر نيسان القادم". أبدى السيناتور مزيداً من الاهتمام.
"في أيّ يوم؟"
قالت: "في اليوم الحادي عشر".
أحس السيناتور بأنه أصبح أفضل حالاً، ثم قال: " ننتمي كلانا إلى برج الحمل"، ثم أضاف مبتسماً:
"إنه برج العزلة".
لم تكن لورا فارينا تبدي اهتماماً بما كان يقوله لأنها لم تكن تعرف ماذا تفعل بالحذاء. أما السيناتور، فلم يكن يعرف ماذا يفعل بلورا فارينا، لأنه لم يكن قد اعتاد مثل علاقات الحبّ المفاجئة هذه، كما أنه كان يعرف أن أصل هذه العلاقة يعود إلى الذل والمهانة. ولكي يتاح له قليل من الوقت للتفكير، أمسك لورا فارينا بإحكام بين ركبتيه، وضمها حول خصرها، واستلقى على ظهره فوق السرير. ثم أدرك أنها كانت عارية تحت ثيابها، بعد أن انبعثت من جسدها رائحة قوية من عطر حيوان الغابة، لكن قلبها كان واجفاً، وكسا جلدها عرق جليدي.
"لا أحد يحبّنا"، قال متنهداً.
حاولت لورا فارينا أن تقول شيئاً، لكن لم يكن لديها من الهواء سوى قدر يكفيها كي تتنفس. جعلها تستلقي بجانبه ليساعدها، وأطفأ الضوء وأصبحت الغرفة في ظلّ الوردة. استسلمت إلى رحمة قدرها. وراح السيناتور يداعبها ببطء، يسعى إليها بيده، يلمسها لمساً خفيفاً، لكنه صادف شيئاً حديدياً يعوق طريقه في البقعة التي كان يسعى إليها.
"ماذا تضعين هناك؟"
قالت: "قفل".
"لماذا بحق السماء!" قال السيناتور غاضباً وسأل عن الشيء الذي يعرفه جيداً. "أين المفتاح؟"
تنفست لورا فارينا الصعداء.
أجابت: "إنه موجود عند أبي"، وأضافت: "لقد طلب مني أن أخبرك بأن ترسل أحداً من رجالك للحصول عليه، وأن ترسل معه وعداً خطياً بأنك ستحلّ مشكلته".
ازداد السيناتور توتراً. ودمدم ساخطاً: "يا له من ضفدع ابن زنى". ثم أغمض عينيه ليسترخي وألقى بنفسه في الظلام. تذكّر، تذكّر، سواء كنت أنت أو شخصاً آخر، فلن تمضي في هذه الحياة فترة طويلة وستموت حتى لن يبقى أحد يلهج باسمك.
انتظر حتى تلاشت القشعريرة التي اعترته.
سألها: "قولي لي شيئاً واحداً: ماذا سمعت عني؟"
"هل تريد أن أقول الحق؟"
"الحق".
قالت لورا فارينا: "حسناً، إنهم يقولون إنك أسوأ من الآخرين لأنك مختلف".
لم ينزعج السيناتور. لاذ بالصمت لفترة طويلة وهو مغمض العينين. وعندما فتحهما ثانية، بدا أنه أفاق من أكثر غرائزه المثيرة للخوف.
ثم قرّر: "أوه، بحقّ السماء، قولي لأبيك ابن العاهرة بأنني سأحلّ مشكلته".
"إذا أردت، يمكنني أن أذهب وأجلب المفتاح بنفسي"، قالت لورا فارينا، لكن السيناتور أوقفها.
قال: "انسِ أمر المفتاح، ونامي قليلاً معي. جميل أن يكون بصحبة المرء أحد عندما يكون وحيداً تماماً".
ثم وضعت رأسه على كتفها، وعيناها مثبتتان على الوردة. طوّق السيناتور خصرها بذراعيه، ودفن وجهه في إبطها الذي تفوح منه رائحة حيوان الغابة، واستسلم للرعب. وبعد ستة أشهر وأحد عشر يوماً مات وهو في تلك الوضعية ذاتها، مُحتقراً ومُهاناً بسبب الفضيحة التي شاعت بأنه كان مع لورا فارينا وكان يبكي بحرقة لأنه مات بدونها

ترجمة خالد الجبيلي









التعديل الأخير تم بواسطة Dalyia ; 25-11-10 الساعة 12:37 PM
ΜāŘāΜ ~ Ś غير متواجد حالياً  
التوقيع


.. يااا حضن أمي .. ماأقسى رحيل الأمهات ..
رد مع اقتباس
قديم 14-10-08, 07:44 PM   #2

ΜāŘāΜ ~ Ś

نجم روايتي

 
الصورة الرمزية ΜāŘāΜ ~ Ś

? العضوٌ??? » 134
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 17,112
?  نُقآطِيْ » ΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond repute
افتراضي

الـقصة الثانية

ليس لدي الكولونيل من يكاتبه

نزع الكولونيل غطاء علبة البنْ فتأكد من أنه لم يبق فيها سوي قدر ملعقة صغيرة. فتناول إبريق القهوة عن الموقد، وسكب نصف ما يحتويه من ماء على الأرض الترابية، ثم كشط بسكين محتويات العلبة ونفضه فوق الإبريق إلى أن سقطت آخر ذرات البنْ مختلطة بصدأ العلبة.
وبينما كان ينتظر غليان القهوة، شعر الكولونيل وهو يجلس إلى جانب الموقد المصنوع من لبن، وعلى وجهه تبدو مظاهر الانتظار الواثق البريء، بأن نبتات فطر وزنابق سامة تنمو في أحشائه. حدث هذا في أكتوبر. في صباح يوم من الصعب تصنيفه، وخاصة لرجل مثله عاش أصباحا كثيرة مثل هذا الصباح. فطوال ست وخمسين سنة منذ انتهت الحرب الأهلية الأخيرة لم يفعل الكولونيل خلالها شيئا سوي الانتظار، وكان مجيء أكتوبر أحد الأمور القليلة التي تمر في حياته.
رفعت زوجته الكلة عندما رأته يدخل حجرة النوم حاملا القهوة. لقد عانت تلك الليلة من نوبة ربو، وتنتابها الآن حالة من النعاس. ولكنها اعتدلت لتتناول الفنجان، وقالت:
ـ وأنت!
فكذب الكولونيل قائلا:
ـ لقد تناولت قهوتي، ومازالت لدينا ملعقة كبيرة من البنْ.
في تلك اللحظة شرعت الأجراس تقرع. كان الكولونيل قد نسي الجنازة. وبينما كانت زوجته تتناول القهوة، نزع شبكة النوم المعلقة في أحد أركان الغرفة وطواها في الركن الآخر وراء الباب. فكرت المرأة بالميت، وقالت:
ـ ولد سنة .1922 بعد شهر تماما من ميلاد ابننا. يوم السادس من نيسان (ابريل).
وتابعت رشف القهوة ما بين شهقات تنفسها المتقطع. كانت امرأة تبدو وكأنها مبنية من غضاريف بيضاء مسندة إلى عمود فقري متقوس وبلا مرونة. واختلاجات أنفاسها تضطرها إلى ضغط أسئلتها. وعندما انتهت من تناول القهوة كانت ما تزال تفكر بالميت فقال: 'لابد أن دفن المرء في أكتوبر شيء رهيب'. ولكن زوجها لم يعرها اهتماما. فتح النافذة. كان أكتوبر قد استقر في البهو. فأخذ يتأمل النباتات التي كانت تنشق عن اخضرار كثيف. والأخاديد الدقيقة التي خلفتها الديدان في الوحل، ثم أخذ يحس من جديد بالشهر المشئوم في أمعائه.
****
قال
ـ أشعر بأن عظامي رطبة.
فردت زوجته:
ـ انه الشتاء. منذ بدأ المطر يهطل وأنا أقول لك بأن تنام لابسا جرابك.
ـ منذ أسبوع وأنا أنام بالجراب.
كانت السماء تمطر ببطء ولكن دون توقف. وكان الكولونيل يود أن يلف نفسه ببطانية صوفية ويعود من جديد إلى سريره المعلق. ولكن إلحاح الأجراس البرونزية ذكٌره بالجنازة، فدمدم: 'يا لأكتوبر'، وسار نحو وسط الغرفة. وعند ذلك فقط تذكر ديك المصارعة المربوط بقائمة السرير.
وبعد أن حمل الفنجان الفارغ إلى المطبخ، ملأ الساعة ذات البندول المثبتة ضمن إطار خشبي مزخرف في الصالة. وعلى العكس من غرفة النوم الضيقة التي لا تناسب تنفس المريضة بالربو. فقد كانت الصالة واسعة. وفيها أربعة كراسي هزازة من الليف حول طاولة من الجص. وعلى الجدار المقابل لذلك الذي علقت عليه الساعة. علقت لوحة لامرأة متكئة وسط حرير ناعم شفاف ومحاطة بعشاق في مركب يغص بالزهور.
كانت السادسة وعشرين دقيقة عندما انتهي من تعبئة الساعة. بعد ذلك حمل الديك إلى المطبخ، وربطه إلى دعامة بجانب حفنة من الذرة. نفذت مجموعة من الأطفال من خلال السور المتشقق، وجلست حول الديك لتراقبه بصمت.
ـ لا تنظروا كثيرا إلى هذا الحيوان. فالديوك تتآكل من كثرة النظر إليها قال لهم الكولونيل.
ولكن الأطفال لم يرفعوا أنظارهم عن الديك، وراح أحدهم يعزف على الهارمونيكا أنغام الأغنية الدارجة 'لا تلمسني اليوم'، فقال له الكولونيل: 'هناك ميت في القرية' فدس الطفل الآلة في جيب بنطلونه ومضي الكولونيل إلى الغرفة ليرتدي ملابسه ويذهب إلى الجنازة.
لم تكن ملابسه البيضاء مكويّة بسبب نوبة الربو التي أصابت المرأة. وهكذا كان عليه أن يستقر رأيه على ارتداء بدلة الجوخ السوداء التي استخدمها في مناسبات خاصة جدا بعد زواجه. وقد كلفة العثور عليها في أسفل الصندوق جهدا ليس بالقليل. كانت ملفوفة بأوراق الصحف، ومحفوظة من العث بكرات صغيرة من النفتالين. تابعت المرأة التي كانت مستلقية على السرير التفكير بالميت وقالت:
ـ لابد وأنه التقي مع أغوستين الآن. ويمكن ألا يكون قد حكي له عن الحالة التي وصلنا إليها بعد موته.
فقال الكولونيل:
ـ لابد وانهما يتناقشان عن الديوك الآن.
عثر في الصندوق على مظلة كبيرة وقديمة. كانت زوجته قد ربحتها في سوق خيري أقيم لجمع تبرعات لصالح حزب الكولونيل. في تلك الليلة ذاتها حضروا عرضا في الهواء الطلق. ولم يتوقف العرض برغم المطر الذي كان يهطل. وشاهد الكولونيل، وزوجته، وابنه أغوستين الذي كان عمره حينئذ ثماني سنوات العرض حتى نهايته، وهم جالسون تحت المظلة. لقد مات أغوستين الآن وبطانة المظلة التي هي من الأطلس قد اهترأت يفعل العث.
ـ انظري كيف صارت مظلتنا كمظلات مهرجي السيرك. قالها الكولونيل وكأنه يقول عبارة قديمة كان يستخدمها بكثرة. وفتح فوق رأسه جهازا غامضا من القضبان المعدنية. ثم تابع:
ـ إنها تنفع الآن لعدّ النجوم فقط.
ابتسم. ولكن المرأة لم تتكلف مشقة النظر إلى المظلة ودمدمت: 'كل شيء هكذا'. 'إننا نتعفن في الحياة'. وأغمضت عينيها لتفكر بالميت بتركيز أكبر.
بعد أن حلق الكولونيل ذقنه بالتلمس إذ لم تكن عنده مرآة منذ زمن بعيد ارتدي ملابسه بصمت. كان البنطال ضيقا وملتصقا بالساقين مثل سروال داخلي طويل تقريبا، ويغلق عند الكاحلين بعقدتين منزلقتين، ويثبت عند الخصر بلسانين صغيرين من القماش نفسه يمران من خلال ابزيمين مذهبين ومخاطين على ارتفاع الكليتين، فهو لم يكن يستخدم حزاما، أما القميص الذي كان بلون الكرتون، وبقساوة الكرتون أيضا، فانه يغلق في أعلاه بزر نحاسي، وهذا الزر نفسه يثبت أيضا الياقة المستعارة. ولكن الياقة المستعارة كانت ممزقة، لذلك فان الكولونيل تخلي عن وضع ربطة العنق.
كان يقوم بكل حركة وكأنه يؤدي مهمة خطيرة. عظام يديه كانت مغطاة بالجلد اللامع المشدود والمخطط بتفرعات العروق كجلد الرقبة. وقبل أن يلبس حذاءه ذا الكعب العالي اللامع حكّ الوحل العالق بنعله. وفي هذه اللحظة فقط رأته زوجته وهو يرتدي ملابس يوم عرسه. وعندها أدركت كم هرم زوجها.
قالت:
ـ يبدو وكأنك ذاهب إلى حدث هام.
فقال الكولونيل:
ـ هذه الجنازة حدث هام. فهذا هو الميت الأول الذي يموت ميتة طبيعية منذ سنوات عديدة.
انقطع المطر بعد التاسعة. وأخذ الكولونيل يستعد للخروج عندما جذبته زوجته من كم سترته، وقالت:
ـ سرح شعرك.
حاول أن يثني شعره الخشن بمشط عظم، ولكن جهده ذهب سدي.
ـ لابد أني أبدو كببغاء.
تفحصته المرأة. وفكرت أن لا. فلم يكن الكولونيل يبدو كببغاء. كان رجلا جافا، له عظام متينة متمفصلة كبراغ وصمولات. وبسبب حيوية عينيه فقط لا يبدو ككائن محنط بالفورمول.
'حسن هكذا'، وافقت هي، وأضافت عندما كان زوجها يغادر الغرفة:
ـ اسأل الطبيب عما إذا كنا قد ألقينا عليه ماء ساخنا في هذا البيت.
كانا يعيشان في طرف القرية، في بيت سقفه من السعف وجدرانه مطلية يكلس قد تقشر. وكانت الرطوبة ما تزال منتشرة ولكن المطر كفّ عن الهطول، فهبط الكولونيل باتجاه الساحة عبر زقاق يفصل بيوتا متلاصقة. وعند وصوله إلى الشارع الرئيسي شعر برجفة، فإلى أبعد مدي يبلغه بصره كانت القرية مفروشة بالزهور. بينما جلست النساء أمام أبواب البيوت بانتظار الجنازة وقد ارتدين السواد.
عندما وصل إلى الساحة أخذ مطر ناعم يهطل من جديد. ورأي صاحب صالة البيليار الكولونيل وهو أمام محله فصرخ له وقد فتح ذراعيه:
ـ أيها الكولونيل، انتظر وسأعيرك مظلة.
فأجابة الكولونيل دون أن يلتفت:
ـ شكرا، فالحال حسنة هكذا.
لم تكن الجنازة قد خرجت بعد. وكان الرجال وهم يرتدون ملابس بيضاء وربطات عنق سوداء يتبادلون الحديث أمام بيت الميت تحت مظلاتهم. ورأي أحدهم الكولونيل وهو يقفز فوق برك الماء في الساحة فصرخ:
ـ تعال وانضم إلى أيها الصديق.
وأفسح له مكانا تحت مظلته.
قال الكولونيل:
ـ شكرا أيها الصديق.
لكنه لم يقبل الدعوة، بل دخل من فوره إلى البيت ليعزي والدة المتوفي. كان أول ما أحس به هو رائحة زهور كثيرة متنوعة. وبعد ذلك شعر بالحر. وحاول أن يشق طريقه وسط الحشد المجتمع في غرفة النوم. ولكن أحدهم وضع يده على ظهره، ودفعه نحو عمق الغرفة عبر دهليز من الوجوه الحائرة إلى حيث توجد واسعتين وعميقتين فتحتا أنف الميت.
هناك كانت الأم تهش الذباب عن التابوت بمذبة من السعف المجدول. ووقفت نساء أخريات يرتدين السواد ويتأملن الجثة وعلى وجوههن تعبير من يتأمل تدفق الماء في نهر. وفجأة انبعث صوت من آخر الغرفة. فمال الكولونيل مجانبا امرأة، ووجد نفسه بمحاذاة وجه أم الميت، فوضع احدي يديه على كتفها وضغط على أسنانه وقال:
ـ تعازي ومشاعري.
لم تلتفت إليه. فتحت فمها وأطلقت نباحا حادا. فذعر الكولونيل. وشعر بأنه مدفوع نحو الجثة بحركات الحشد المضطرب الذي انفجر يهتز من حوله. فبحث بيده عن شيء يستند إليه ولكنه لم يجد الجدار. فقد كانت أجساد أخرى مكانه. همس أحدهم في أذنه بصوت ناعم جدا: 'انتبه، أيها الكولونيل'. أدار رأسه فوجد أمامه الميت. ولكنه لم يتعرف عليه فقد كان قاسيا وديناميكيا، وتبدو عليه الحيرة مثله، وهو مغطي بخرق بيضاء والبوق بين يديه. وعندما رفع رأسه فوق الصرخات بحثا عن الهواء، ورأي التابوت المغطي وهو يهتز متقدما باتجاه الباب وعليه إكليل من زهور تتفتت وهي تصطدم بالجدران. تعرّق.
وشعر بألم في مفاصله. وبعد برهة عرف أنه أصبح في الشارع لأن قطرات المطر الخفيف أصابت رموشه، شدّه أحدهم من ذراعه وقال له:
ـ تعال أيها الصديق، لقد كنت أنتظرك.
كان هذا دون ساباس عراب ابنه الميت، والوحيد بين زعماء حزبه الذي استطاع الإفلات من الاضطهاد السياسي وبقي يعيش في القرية بعد ذلك. 'شكرا أيها الصديق'، قال الكولونيل، وسار بجانبه صامتا تحت المظلة. بدأت الفرقة الموسيقية تعزف اللحن الجنائزي. وأحس الكولونيل بأن ثمة آلة نحاسية ناقصة، وللمرة الأولي تأكد بأن المتوفي قد مات، فدمدم:
ـ يا للمسكين.
تنحنح دون ساباس. وكان يحمل المظلة بيده السري، وكانت قبضتها في مستوي رأسه تقريبا، إذ كان أقصر بكثير من الكولونيل. وعندما خرج الموكب من الساحة أخذ الرجال يتناقشون. حينئذ التفت دون ساباس نحو الكولونيل بوجهه المكتئب، وقال:
ـ ما هي أخبار الديك أيها الصديق.
ـ انه هناك أجاب الكولونيل.
وفي هذه اللحظة سمعت صرخة متسائلة:
ـ إلى أين تذهبون بهذا الميت؟
رفع الكولونيل نظره، فرأي العمدة يقف على شرفة المركز وقفة خطابية. كان يرتدي سروالا داخليا وفانلٌة، وأحد خديه متورم وغير حليق. أوقف الموسيقيون عزفهم للّحن الجنائزي.
وبعد لحظات تعرف الكولونيل على صوت الأب أنخل وهو يصرخ متحاورا مع العمدة. وفك رموز الحوار من خلال فرقعة قطرات المطر على المظلات.
ـ وماذا الآن؟ تساءل دون ساباس.
فأجاب الكولونيل:
ـ لاشيء، ولكن لا يمكن للجنازة أن تمر من أمام مركز الشرطة.
فهتف دون ساباس:
ـ لقد نسيت هذا. إنني انسي دائما أننا في حالة طوارىء.
قال الكولونيل:
ـ ولكن هذا ليس تمردا. أنها جنازة موسيقيٌ ميت مسكين. غيرٌ الموكب اتجاهه. وعند مروره في الأحياء الواطئة تطلعت إليه النسوة وهن يقضمن أظافرهن بصمت. ولكنهن خرجن بعد ذلك إلى منتصف الشارع وأطلقن صرخات الإطراء، والامتنان والوداع، وكأنهن يعتقدن بأن الميت يسمعهن وهو في تابوته. شعر الكولونيل بالتوعك وهو في المقبرة. وعندما دفعه دون ساباس نحو الجدار ليفسح الطريق أمام الرجال الذين يحملون النعش، التفت إليه مبتسما، ولكنه التقي بوجه قاس.
سأله:
ـ ماذا جري لك أيها الصديق.
فتنهد الكولونيل:
ـ انه أكتوبر يا صديقي.
رجعا من نفس الشارع. كان المطر قد انقطع. وأصبحت السماء أعمق، وأشد زرقة. وفكر الكولونيل: 'لن تمطر أكثر'، وشعر بأن حالته تتحسن، ولكنه استمر في ذهوله. وأيقظه دون ساباس:
ـ أيها الصديق، عليك أن تعرض نفسك على طبيب.
فقال الكولونيل:
ـ لست مريضا. كل ما في الأمر إنني أشعر في أكتوبر وكأن ثمة حيوانات في أحشائي.
'آه!'، قال دون ساباس. ثم ودعه أمام باب منزله، وهو بناء جديد، من طبقتين، بنوافذ من حديد مزخرفة. واتجه الكولونيل إلى منزله قانطا ليخلع بذلة المناسبات. ثم عاد وخرج من جديد بعد لحظات ليشتري من الدكان الذي على الناصية علبة قهوة ونصف رطل من الذرة للديك.
****
شغل الكولونيل نفسه بالعناية بالديك رغم انه كان يفضل قضاء يوم الخميس في سريره. لم ينقطع المطر طوال أيام. وخلال الأسبوع انبجست نباتات أحشائه. وأمضي عدة ليال في سهر متواصل، يتعذب بصفير رئتي المريضة بالربو. ولكن أكتوبر منحه هدنة مساء يوم الجمعة. وقد استغل أصدقاء اغوستين وهم معلمو خياطة مثلما كان هو، ومتعصبون لمصارعة الديكة استغلوا الفرصة ليتفحصوا الديك. فوجدوا انه في وضع جيد.
وعاد الكولونيل إلى الغرفة عندما ذهبوا وظل وحيدا مع زوجته التي بدت منفعلة. سألته:
ـ ما رأيهم.
أنهم متحمسون. وجميعهم يدخرون المال ليراهنوا على الديك.
فقالت المرأة:
ـ لست أدري ما الذي رأوه في هذا الديك القبيح. انه يبدو لي كظاهرة غريبة، فرأسه صغير جدا بالنسبة لقائمتيه.
أجابها الكولونيل:
ـ أنهم يقولون بأنه أفضل ديك في المنطقة. ويساوي حوالي خمسين بيزو.
كان متيقنا انه بهذه الوسيلة سيبرر قراره بالاحتفاظ بالديك، الموروث عن ابنه الذي مات مطعونا قبل تسعة شهور في حلبة مصارعة الديكة، لأنه كان يوزع منشورات سرية. قالت المرأة: 'أن ما تقوله حلم يكلف غاليا. فعندما تنتهي الذرة سيكون علينا أن نغذيه بأكبادنا'. فكر الكولونيل طوال الوقت الذي كان يبحث فيه عن بنطاله القطني في صندوق الملابس، وقال:
ـ سيكون هذا لبضعة شهور فقط. فقد أصبح معروفا، بشكل مؤكد أن مصارعة للديوك ستجري في كانون الثاني (يناير) وبعد ذلك نستطيع بيعه بسعر أفضل.
كان البنطال دون كي. فمسدته المرأة فوق فتحة الموقد على صفيحتين من الحديد المحمي على الفحم.
سألته:
ـ ما هي ضرورة خروجك إلى الشارع؟
ـ البريد.
'لقد نسيت أن اليوم هو الجمعة'، علقت وهي عائدة إلى الغرفة. كان الكولونيل قد ارتدي ملابسه كاملة ما عدا البنطال. ولاحظت هي حذاءه، فقالت:
ـ هذا الحذاء للرمي. داوم على لبس الجزمة اللامعة ذات الكعب.
أحس الكولونيل بالكدر. وقال معترضا:
ـ أنها تبدو كأحذية الأيتام. وكلما لبستها أشعر وكأني هارب من مأوي للأيتام.
ـ نحن أيتام من ابننا قالت المرأة.
لقد أفحمته هذه المرة أيضا. اتجه الكولونيل إلى الميناء النهري قبل أن تصفر المراكب. كان يلبس جزمة لامعة، وبنطالا أبيض دون حزام، وقميصا دون ياقة عنق مغلقا في أعلاه بزر نحاسي. وراقب مناورة المراكب وهي تحاول الدخول إلى الميناء بينما كان يقف في متجر موسي السوري نزل المسافرون منهكين بعد ثماني ساعات لم يغيروا خلالها من وضعياتهم. لقد كانوا المسافرين أنفسهم الذين يأتون دائما: باعة متجولين، وبعض أهل القرية الذين سافروا في الأسبوع الماضي وعادوا كالمعتاد.
المركب الأخير كان مركب البريد. وقد نظر إليه الكولونيل وهو يرسو بجزع قلق. واكتشف كيس البريد على السطح، معلقا بأنابيب البخار ومغطي بقطعة قماش مغلقة. فقد شحذ حسه خمسة عشر عاما من الانتظار. كما شحذ الديك أشواقه. ومنذ اللحظة التي صعد بها موظف البريد إلى المركب، وفك الكيس وألقي به على ظهره، كان الكولونيل يراقبه بنظراته.
وتابعه عبر الشارع الموازي للميناء، حيث تمتد متاهة من المخازن والباركات التي تعج ببضائع ذات ألوان استعراضية في كل مرة كان الكولونيل يفعل هذا، وكان دوما يحس بقلق مختلف ولكنه كالرعب، باعث على الترقب المتوتر.
كان الطبيب ينتظر في مكتب البريد ليستلم الصحف. فقال له الكولونيل:
ـ زوجتي تسألك عما إذا كان أحد ألقي عليك ماء ساخنا في بيتنا.
كان الطبيب شابا جمجمته مغطاة بشعر مجعد مطلي بمادة براقة. وكان ثمة شيء لا يصدق في دقة ترتيب أسنانه. وقد أبدي اهتماما بصحة المريضة بالربو. وزوده الكولونيل بمعلومات مفصلة عن حالتها دون أن يتوقف عن مراقبة حركات موظف البريد الذي كان يفرز الرسائل مصنفا إياها كلا في كوة خاصة. وقد أغاظت الكولونيل طريقته المتثاقلة في العمل.
استلم الطبيب رسائله الخاصة مع رزمة الصحف. ووضع جانبا النشرات الدعائية الطبية. ثم تصفح الرسائل الخاصة. وفي أثناء ذلك، قام الموظف بتوزيع الرسائل على أصحابها الموجودين. تطلع الكولونيل إلى الكوة الخاصة به في اللائحة الأبجدية. بينما كانت في يد الموظف رسالة مرسلة بالطائرة حوافيها زرقاء ضاعفت من توتر أعصابه.
نزع الطبيب مغلف الصحف. وقرأ الأخبار البارزة، بينما كان الكولونيل الذي يثبت نظره على كوته ينتظر من موظف البريد أن يتوقف أمامها. ولكنه لم يفعل ذلك. قطع الطبيب قراءته للصحف. ونظر إلى الكولونيل. ثم نظر إلى الموظف الذي جلس أمام جهاز البرق وعاد ينظر مرة أخرى إلى الكولونيل، وقال:
ـ فلنذهب.
قال الموظف الذي لم يرفع رأسه:
ـ لاشيء للكولونيل.
فأحس الكولونيل بالخجل، وقال كاذبا:
ـ لم أكن أنتظر شيئا والتفت نحو الطبيب بنظرة طفولية تماما، وتابع:
ـ ليس لي من يكاتبني.
رجعا صامتين. الطبيب مركزا اهتمامه في الصحف. والكولونيل بطريقته المعتادة في المشي التي تبدو كمشية رجل يذرع الشارع بحثا عن قطعة نقود ضائعة. كان مساء ساطعا. وأشجار اللوز في الساحة تلقي آخر أوراقها المتعفنة. وعندما وصلوا إلى باب العيادة كان الليل قد بدأ يخيم.
ـ ما هي الأخبار سأله الكولونيل.
فقدم إليه الطبيب عدة صحف، وقال:
ـ لست أدري... فمن الصعب قراءة ما بين السطور التي تسمح الرقابة بنشرها.
قرأ الكولونيل العناوين البارزة. كلها أخبار عالمية. في أعلى الصفحة، وعلى أربعة أعمدة، تقرير حول تأميم قناة السويس. الصفحة الأولي كانت ممتلئة كلها تقريبا بالنعوات.
ـ لا أمل في إجراء انتخابات قال الكولونيل.
فقال له الطبيب:
ـ لا تكن ساذجا أيها الكولونيل. فقد أصبحنا كبارا على انتظار المسيح المخلص.
حاول الكولونيل أن يعيد إليه الصحف، ولكن الطبيب اعترض قائلا:
ـ خذها معك إلى البيت.. اقرأها هذه الليلة وأعدها لي غدا.
بعد الساعة السادسة بقليل قرعت في برج الكنيسة أجراس الرقابة السينمائية. إذ أن الأب أنخل يستخدم هذه الوسيلة ليشير إلى النوعية الأخلاقية للفيلم استنادا إلى قائمة التصنيف التي يتلقاها بالبريد كل شهر. عدت زوجة الكولونيل دقات الناقوس، فكانت دقتين.
ـ انه فيلم سيء لجميع الأعمار... منذ سنة تقريبا وجميع الأفلام سيئة لجميع الأعمار.
أسدلت ستارة الكلة ودمدمت: 'لقد فسد العالم'. أما الكولونيل فلم يعلق بشيء. وقبل أن ينام ربط الديك إلى قائمة السرير. ثم أغلق البيت ورش مبيد الحشرات في الغرفة. وضع بعدها المصباح على الأرض، وعلق سرير نومه واستلقي ليقرأ الصحف.
قرأها جميعا حسب تسلسل تواريخها ومن الصفحة الأولي حتى الأخيرة، بما في ذلك الإعلانات. في الحادية عشرة تعالى صوت نفير منع التجول. وختم الكولونيل القراءة بعد نصف ساعة من ذلك. فتح باب البهو باتجاه الليل القاتم، وبال على دعامة السقف الخشبية، التي تعج بالبعوض.. وعندما رجع إلى الغرفة كانت زوجته مستيقظة. سألته:
ـ أليس في الصحف شيء عن قدماء المحاربين.
ـ لا شيء.
قالها الكولونيل ثم أطفأ المصباح قبل أن يدس نفسه في السرير، ثم أردف:
ـ لقد كانوا سابقا ينشرون على الأقل قائمة بأسماء المحالين الجدد على التقاعد. ولكنهم منذ حوالي خمس سنوات تقريبا لا يذكرون شيئا.
أمطرت بعد منتصف الليل. واستجاب الكولونيل للنعاس ولكنه استيقظ بعد لحظة مذعورا بسبب أمعائه. وانتبه لوجود ثقب في السقف يتسرب منه الماء إلى مكان ما من البيت. فنهض وقد لف نفسه ببطانية صوفية حتى رأسه وحاول تحديد مكان الثقب في الظلام. انزلق خيط من العرق البارد على عموده الفقري. فأدرك انه مصاب بحمي. وأحسٌ بأنه يطفو في دوائر ذات مركز واحد ضمن بركة من الهلام.
تكلم احدهم. فرد عليه الكولونيل من سريره المعلق الذي كان يستخدمه وهو ثائر.
سألته زوجته:
ـ مع من تتكلم.
ـ مع الإنجليزي المتنكر كنمر، الذي ظهر في معسكر الكولونيل اوربليانو بوينديا أجابها الكولونيل. ثم استدار في السرير، وهو يتقد بالحمى، وتابع:
ـ لقد كان دوق مارلبورو.
استيقظ في غاية الإنهاك. وعندما دق ناقوس الصلاة للمرة الثانية قفز من سريره المعلق وانتصب في واقع من الاضطراب والضوضاء التي كان يسببها صراخ الديك. كان رأسه ما يزال يلف في دوائر ذات مركز واحد. أحس بالغثيان. فخرج إلى البهو واتجه نحو المرحاض عبر الحفيف الناعم وروائح الشتاء المكفهرة. حجرة المرحاض الصغيرة المصنوعة من الأخشاب والمغطاة بسقف من التوتياء كانت تعبق بأبخرة الامونياك المنطلق من المبولة. وعندما رفع الكولونيل الغطاء انطلقت من الفتحة سحابة من الذباب.
لقد كان ذعرا مزيفا. فعندما اتخذ وضع القرفصاء على الأرضية المصنوعة من خشب لم تصقله فارة النجارة، أحسن بتفاهة رغبته الخائبة. فقد شعر بدل الغثيان بألم ثقيل في الجهاز الهضمي. 'لاشك في هذا' تمتم الكولونيل 'فدائما يحدث لي نفس الشيء في أكتوبر'. وظهرت عليه سيماء الواثق البريء الآمل إلى أن خمد الفطر الذي في أحشائه. عندئذ عاد إلى الغرفة ليري الديك.
قالت له زوجته:
ـ لقد كنت تهذي من الحمي في الليل.
كانت قد بدأت بترتيب الغرفة التي لم تنظم طوال أسبوع الأزمة، وحاول الكولونيل جاهدا أن يتذكر. ثم قال كاذبا:
ـ لم تكن الحمي، وإنما هو حلم العناكب من جديد.
وكما يحدث دائما، خرجت المرأة من الأزمة بحماسة شديدة. ففي فترة الصباح قلبت البيت رأسا على عقب. وأبدلت مكان كل الأشياء ما عدا الساعة ولوحة حورية البحيرات. لقد كانت ضئيلة ومرنة لدرجة أنها عندما كانت تتنقل بخفها الذي صنع من القطيفة وثوبها الأسود المغلق بكامله، تبدو وكأنها تملك خاصية المقدرة على اختراق الجدران. ولكن قبل أن تصل الساعة إلى الثانية عشرة كانت قد استعادت كثافتها، وثقلها الإنساني. لقد كانت في السرير فراغا. أما الآن، وهي تتحرك بين أصص السرخس والبيجونيا، فإن و جودها يملأ البيت. 'لو أن سنة مضت على وفاة أغوستين لكنت غنيت' قالت، وهي تحرك القدر الذي يغلي على الموقد والذي يحتوي على جميع أصناف نباتات الأكل التي بامكان أرض الاستواء إنتاجها، مقطعة إلى قطع متشابهة.
قال لها الكولونيل:
ـ إذا كنت تشعرين برغبة في الغناء غني. فهذا مفيد من أجل الغدة الصفراء.
بعد الغداء حضر الطبيب. كان الكولونيل وزوجته يتناولان القهوة في المطبخ عندما دفع الباب المؤدي إلى الشارع وهتف:
ـ لقد مات المرضي.
نهض الكولونيل لاستقباله، وقال وهو يقوده إلى الصالة:
ـ أن الأمر كذلك أيها الدكتور. ودائما كنت أقول لك أن ساعتك تمضي مع ساعة الدجاجات.
ذهبت المرأة إلى الغرفة لتعد نفسها للفحص. وبقي الطبيب في الصالة مع الكولونيل. ورغم الحر، فإن بدلته المصنوعة من الكتان السادة كانت تطلق نفحة من البرودة. وعندما أعلنت المرأة أنها مستعدة، قدم الطبيب إلى الكولونيل ثلاث رزم من الورق ضمن مغلف. وقال: 'هذا هو ما لم تقله صحف الأمس'. ثم دخل إلى الغرفة.
لقد خمن الكولونيل ذلك. فقد كانت تلك الأوراق تحتوي أهم آخر الأحداث على المستوي الوطني مطبوعة على آلة سحب، للتداول السري، وتقريرا عن وضع المقاومة المسلحة داخل البلاد. أحس بالانهيار. فعشر سنوات من الإعلام السري لم تعلمه بأنه ليس هناك أي خبر أكثر مفاجأة من أخبار الشهر القادم. كان قد انتهي من القراءة عندما رجع الطبيب إلى الصالة وقال:
ـ إن هذه المريضة في حالة أحسن من حالتي. فبإصابة بالربو كهذه سأكون قادرا على العيش مائة سنة.
نظر إليه الكولونيل بتجهم. وأعاد إليه المغلف دون أن يتفوه بكلمة واحدة، ولكن الطبيب رده قائلا بصوت خافت:
ـ أطلع عليه آخرين.
وضع الكولونيل المغلف في جيب بنطاله. خرجت المرأة من الغرفة قائلة: 'في يوم قريب سأموت وسأحملك معي إلى الجحيم أيها الدكتور'. رد الطبيب صامتا بإظهار ميناء أسنانه المرتبة. ثم أدار كرسيا نحو الطاولة الصغيرة وتناول من حقيبته عدة زجاجات من أدوية العينات المجانية. مضت المرأة مسرعة نحو المطبخ:
ـ انتظر ريثما أسخن لك القهوة.
ـ لا، شكرا جزيلا قال لها الطبيب وهو يكتب مقدار الجرعة على ورقة من الأوراق المرفقة بالزجاجات والتي تحتوي تركيب الدواء، وتابع:
ـ إني ارفض رفضا قاطعا منحك الفرصة لتسميمي.
ضحكت وهي في المطبخ. وعندما انتهي الطبيب من الكتابة، قرأ ما كتبه بصوت عال، إذ كان يعرف أن أحدا لا يستطيع حل رموز كتابته. حاول الكولونيل أن يركز انتباهه. وعندما رجعت المرأة من المطبخ لاحظت على وجهه الآم الليلة الماضية، فقالت للطبيب وهي تشير إلى زوجها:
ـ لقد عاني لليلة من الحمي. وأمضي حوالي ساعتين وهو يهذي بهراء عن الحرب الأهلية.
ذعر الكولونيل، وقال بإصرار:
'لم تكن حمي'، ثم تابع وهو يستعيد رصانته: 'وفوق ذلك، في اليوم الذي سأشعر فيه بأني مريض فاني لن أضع نفسي بين يدي احد. وإنما سألقي بنفسي إلى صندوق القمامة'.
ذهب إلى الغرفة لإحضار الصحف.
ـ شكرا أيها الزهرة قال الطبيب.
سارا معا نحو الساحة. كان الهواء جافا. وإسفلت الشارع بدأ يذوب بسبب الحر. وعندما ودعه الطبيب، سأله الكولونيل بصوت خافت، وقد ضغط على أسنانه:
ـ بكم نحن مدينون لك أيها الدكتور.
قال الطبيب:
ـ لاشيء في الوقت الحاضر ثم ربت على ظهره قائلا:
ـ سآتيك بلائحة ديون سمينة عندما يكسب الديك.
اتجه الكولونيل إلى دكان الخياط ليعطي الرسالة السرية لأصدقاء أغوستين. لقد كان هذا المحل هو مأواه الوحيد منذ أخذ رفاقه في الحزب يموتون أو يطردون من القرية، وتحول هو إلى مجرد رجل وحيد لا اهتمامات لديه سوي انتظار البريد كل يوم جمعة.
دفء الأصيل أثار ديناميكية المرأة. وبينما هي جالسة إلى جانب أزهار البيجونيا التي في الممر وبجانبها صندوق ملابس قديمة لا نفع منها، مرة أخرى المعجزة الخارقة بصنع ملابس جديدة من لاشيء. فقد صنعت أطواقا للمعاصم، وياقة من نسيج ظهر رداء مهترىء ثم جمعت قصاصات مربعة، ومنتظمة، من أجزاء قماشية مختلفة الألوان. أطلق صرار لصفيره العنان في البهو. والشمس مالت للمغيب. ولكن المرأة لم تنتبه إليها وهي تحتضر فوق أزهار البيجونيا. ورفعت رأسها عندما خيم الليل فقط لدي عودة الكولونيل إلى البيت. عندئذ ضغطت الياقة بيديها الاثنتين ودعكت أماكن الوصل إلى القماش، وقالت: 'لقد صار دماغي جامدا مثل هراوة'.
فقال لها الكولونيل:
ـ لقد كان هكذا دائما.
ولكنه انتبه بعد ذلك إلى جسد المرأة المغطي بقطع القماش الملونة، فقال:
ـ انك تبدين كعصفور نجار.
ـ يجب أن أكون نصف نجارة لأستطيع تأمين الملابس لك قالت ومدت إليه قميصا مصنوعا من أنسجة ذات ثلاثة ألوان مختلفة، باستثناء الياقة والمعصمين إذ كانت بلون موحد، ثم أردفت المرأة:
ـ يكفي أن تخلع الجاكيت فقط في الكرنفال.
قاطعتها أجراس الساعة السادسة. 'أن ملاك الحرب ينادي للصلاة'، صلٌت بصوت عال، وهي تتجه إلى غرفة النوم حاملة الملابس، تبادل الكولونيل الحوار مع الصبيان الذين حضروا بعد خروجهم من المدرسة للتفرج على الديك. ثم تذكر أنه لم تعد لديهم ذرة تكفي الديك لليوم التالي فدخل إلى غرفة النوم ليطلب نقودا من امرأته.
ـ أعتقد أن لم يعد لدينا سوي خمسين سنتا قالت.
كانت تخفي النقود تحت حصيرة الفراش، وقد ربطت عليها عدة عقد في طرف منديل. كانت تلك النقود ثمن ماكينة الخياطة التي كان يملكها أغوستين. لقد أنفقوا خلال تسعة شهور تلك النقود سنتا بعد سنت، مقسمين إياها ما بين ضرورياتهم وضروريات الديك. ولم يبق منها الآن سوي قطعتين من فئة العشرين وقطعة من فئة العشرة سنتات.
قالت المرأة:
ـ اشتر رطلا من الذرة. واشتر بالباقي بنا لقهوة الصباح وأربع اونصات من الجبن.
ـ وفيلاّ مذهبا لنعلقه على الباب تابع الكولونيل مقلدا إياها، ثم قال:
ـ أن الذرة وحدها تساوي اثنين وأربعين سنتا.
فكرا لبرهة. 'أن الديك حيوان، وسواء لديه أن انتظر بلا طعام'، قالت المرأة مبدئيا. ولكن تعابير وجه زوجها أجبرتها على إعادة النظر، جلس الكولونيل على السرير، وأسند مرفقيه إلى ركبتيه، بينما كانت قطع النقود المعدنية ترن بين يديه. ثم قال بعد برهة: 'أنا لا أريد الديك لنفسي... لو أن الأمر متعلق بي لقمت هذه الليلة بالذات بإعداد وجبة من الديك. ولا شك أن تخمة من خمسين بيزو ستكون شيئا جيدا'.
وتوقف قليلا ليسحق بعوضة على رقبته. ثم لاحق زوجته، بالنظر، وهي تمضي في أنحاء الغرفة. وقال:
ـ أن ما يشغل تفكيري هو أن هؤلاء الشبان المساكين يدخرون النقود للرهان على الديك.
عند ذلك بدأت هي بالتفكير. قامت بدورة كاملة في الغرفة وهي تحمل مضخة مبيد الحشرات. وأحس الكولونيل شيئا خرافيا في موقفها. شعر وكأنها تستدعي أرواح البيت لاستشارتها. وأخيرا وضعت المضخة على مذبح من الحجر المنقوش وثبتت عينيها اللتين بلون الرجبٌ، وقالت:
ـ اشترِ الذرة. والله يعلم كيف سنتدبر نحن أمرنا.
******
هذه هي معجزة تكثير الخبز'، هكذا كان الكولونيل يكرر كلما جلس إلى المائدة طوال الأسبوع التالي.
وبمهارتها المذهلة في الإصلاح والرفأ والترقيع، كانت تبدو وكأنها اكتشفت لغز تدعيم الاقتصاد البيتي في الفراغ. وقد أطال أكتوبر استراحته. وحلت الرطوبة محلٌ الغيبوبة. وانعشتها الشمس النحاسية، فخصصت المرأة ثلاث ليال لتنهمك بتسريح شعرها. 'الآن بدأت الصلاة المغناة'، هكذا قال لها الكولونيل في الأمسية التي حلٌت بها فتائل شعرها الزرقاء بمشطي أسنانه متباعدة. في الأمسية التالية، وهي جالسة في البهو وشرشف أبيض على حضنها، استخدمت مشطا أكثر نعومة لتنزع القمل الذي تكاثر خلال الأزمة. وأخيرا غسلت شعرها بماء الخزامى، وانتظرت حتى جف، ثم عقصت الشعر على الرقبة في لفتين وثبتته بمشبك.
استلقي الكولونيل في الليل مسهدا في سريره، لقد قاسي كثرا وهو يفكر بمصير الديك. ولكن عندما وزنوه يوم الأربعاء كان في حالة جيدة.
في تلك الليلة ذاتها، وعندما غادر أصدقاء أغوستين البيت، وهم يضعون حساباتهم السعيدة عن فوز الديك، أحس الكولونيل أيضا بأنه في حالة جيدة. قصت امرأته له شعره. 'لقد رفعتِ عشرين سنة عن كاهلي' قال لها وهو يتلمس رأسه بيديه. ففكرت المرأة بان زوجها على حق، وقالت:
ـ عندما أكون في حالة جيدة فاني قادرة على بعث ميت من موته.
ولكن إيمانها هذا استمر لساعات قليلة فقط. إذ لم يبق في البيت شيء يستحق البيع، ما عدا الساعة واللوحة. وفي يوم الخميس ليلا، أبدت المرأة قلقها لهذا الوضع أمام نضوب آخر الموارد.
فقال لها الكولونيل مواسيا:
ـ لا تقلقي، فغدا يأتي البريد.
في اليوم التالي، وبينما كان ينتظر مركب البريد أمام عيادة الطبيب، قال الكولونيل وعيناه معلقتان على كيس البريد:
ـ أن الطائرة لشيء عظيم، فهم يقولون بأنها قادرة على الوصول إلى أوروبا في ليلة واحدة.
'أجل، هذا صحيح' ـ، قال الطبيب وهو يهوي وجهه بمجلة مصورة. ورأي الكولونيل موظف البريد يقف بين مجموعة من الناس وهو ينتظر انتهاء المركب من مناورته ليقفز إليه. كان أول من قفز. وتسلم من الكابتن مظروفا ختم بالشمع الأحمر، ثم صعد إلى سطح المركب، حيث كان كيس البريد معلقا فوق برميلين للبترول.
ـ ولكن رغم ذلك، فإن للطائرة مخاطرها قال الكولونيل. وأضاع نظره موظف البريد، ولكنه عثر عليه من جديد إلى جانب الزجاجات الملونة في عربة المرطبات. فتابع قائلا:
ـ إن الإنسانية لا تتقدم مجانا.
قال الطبيب:
ـ أنها حاليا أكثر أمانا من السفينة. فعلى ارتفاع عشرين ألف قدم يكون الطيران فوق العواصف.
ـ عشرون ألف قدم كرر الكولونيل وهو حائر، دون أن يستوعب الرقم تماما.
اهتم الطبيب بالأمر، فشٌد المجلة بيديه الاثنتين إلى أن تمكن من تثبيتها بشكل كامل، وقال:
ـ ثمة استقرار تام.
ولكن الكولونيل كان يلاحق موظف البريد. رآه وهو يشرب مرطبا له رغوة وردية حاملا الكوب بيده اليسرى، بينما كان يمسك كيس البريد بيده اليمني.
تابع الطبيب حديثه:
ـ إضافة إلى هذا، توجد بواخر راسية في البحر وهي على اتصال دائم بالطائرات الليلية. وبهذه الاحتياطيات الكثيرة. فإن الطائرات أكثر أمانا من السفن'.
نظر الكولونيل. إليه وقال:
ـ بالتأكيد. لابد أنها مثل البساط.
اتجه الموظف نحوهما مباشرة. مال الكولونيل برغبة لا تقاوم محاولا قراءة الاسم المكتوب على الظرف المختوم بالشمع الأحمر. فتح الموظف الكيس. وسلٌم الطبيب رزمة الصحف. ثم مزق طرف المظروف الذي يضم الرسائل الخاصة وتحقق من صحة جهة الإرسال، ثم قرأ عن الرسائل أسماء المرسل إليهم. فتح الطبيب الصحف وقال وهو يقرأ العناوين البارزة:
ـ ما تزال قضية السويس مستمرة. إن الغرب يفقد مواقعه.
قال الكولونيل الذي لم يقرأ العناوين، والذي قام بمجهود ليسيطر على آلام معدته: 'منذ فرضت الرقابة والصحف لا تتحدث إلا عن أوروبا.. من الأفضل أن يأتي الأوروبيون إلى هنا ونذهب نحن إلى أوروبا. وهكذا سيعرف كل منا ما الذي يجري في بلده'.
فقال الطبيب ضاحكا، ودون أن يرفع نظره عن الصحف:
ـ أن أمريكا الجنوبية بالنسبة للأوروبيين هي رجل له شارب، يحمل غيتارا ومسدسا... أنهم لا يفهمون مشاكلنا.
ناوله موظف البريد رسائله، ودس الباقي في الكيس وعاد ليغلقه من جديد. استعد الطبيب ليقرأ رسائله الشخصية. ولكن قبل أن يشق مغلفاتها نظر إلى الكولونيل، ثم نظر إلى الموظف:
ـ ألا يوجد شيء للكولونيل.
أحس الكولونيل بالذعر. ألقي الموظف بالكيس على كتفه ونزل الرصيف وأجاب دون أن يدير رأسه:
ـ ليس لدي الكولونيل من يكاتبه.
على غير عادته، لم يذهب لتوه إلى بيته. تناول قهوة في محل الخياطة بينما كان أصدقاء اغوستين يتفحصون الصحف. أحس بأنه مغبون. وكان يفضل البقاء هناك حتى يوم الجمعة التالي كي لا يقف هذه الليلة أمام زوجته صفر اليدين. ولكن عندما أغلقوا المحل كان عليه أن يواجه الواقع. سألته المرأة التي كانت تنتظره:
ـ لاشيء.
ـ لاشيء أجابها الكولونيل.
يوم الجمعة التالي ذهب إلى حيث المراكب. ومثل كل جمعة رجع إلى البيت دون الرسالة المنتظرة. قالت له زوجته هذه الليلة: 'لقد انتظرنا ما فيه الكفاية. يجب أن يكون للمرء صبر الجواميس مثلك لينتظر رسالة طوال خمس عشرة سنة'. فقال الكولونيل وهو يدس نفسه في السرير ليقرأ الصحف.
ـ يجب أن ننتظر دورنا أن رقمنا هو ألف وثمانمائة وثلاثة وعشرون.
ردت المرأة:
ـ لقد كسب هذا الرقم مرتين في اليانصيب منذ بدأنا الانتظار.
قرأ الكولونيل الصحف كالعادة، من الصفحة الأولي حتى الأخيرة، بما في ذلك الإعلانات. ولكنه لم يركز انتباهه هذه المرة. إذ كان يفكر خلال القراءة بمعاشه التقاعدي: قبل تسع عشرة سنة، عندما أصدر الكونجرس القانون، بدأت عملية مماطلة استمرت ثماني سنوات، وبعد ذلك احتاج لست سنوات أخرى حتى تمكن من ضم اسمه إلى قائمة قدماء المحاربين. وكانت تلك آخر رسالة يتلقاها الكولونيل.
انتهي من القراءة بعد سماعه إشارة منع التجول. وعندما مضي ليطفىء المصباح تأكد اعتقاده بان زوجته مازالت مستيقظة:
ـ أما زلت تحتفظين بتلك القصاصة
فكرت المرأة، وقالت:
ـ أجل، يجب أن تكون محفوظة مع الأوراق الأخرى.
خرجت من تحت الكلٌة وأخرجت من الخزانة صندوقا خشبيا به حزمة من الرسائل المرتبة حسب تواريخها والمشدودة إلى بعضها برباط مطاطي. سحبت من بينها إعلانا من وكالة للمحاماة يعد بمتابعة فعالة لقضية رواتب المتقاعدين بعد الحرب.
ـ لو أنك فعلت هذا منذ بدأت أحدثك بموضوع استبدال المحامي لكان لدينا متسع من الوقت حتى لإنفاق المال قالت المرأة وهي تسلم لزوجها قصاصة الجريدة، ثم أردفت:
ـ إذا ما وضعوه لنا في صندوق كما يفعلون بالهنود.
قرأ الكولونيل القصاصة التي تحمل تاريخا مضت عليه سنتان، ووضعها في جيب القميص المعلق وراء الباب.
ـ السيئ في الأمر هو أن استبدال محام بآخر يتطلب نقودا.
فقالت المرأة بتصميم:
ـ لاشيء من هذا. اكتب لهم قائلا بان يحسموا المبلغ الذي يريدونه من الراتب التقاعدي نفسه عندما يحصلون عليه. أنها الطريقة الوحيدة لجعلهم يهتمون بالقضية.
وهكذا ذهب الكولونيل مساء يوم السبت لزيارة محاميه فوجده مستلقيا على السرير المعلق دون هموم. كان رجلا اسود يشبه تمثالا ضخما، ليس له سوي نابين في فكه العلوي. دسٌ المحامي قدميه في خفٌ نعله من الخشب وفتح نافذة المكتب من فوق بيانو أوتوماتيكي يغطيه الغبار وعليه أوراق محشوة في فراغات لفافات اسطوانية وقصاصات من 'الجريدة الرسمية' ملصقة بالصمغ على دفاتر قديمة لمسك الحسابات، ومجموعة من نشرات المحاسبة للإطلاع. وكان البيانو الأوتوماتيكي الذي بلا مفاتيح يستخدم كطاولة للكتابة.
بدأ الكولونيل بعرض ما يساوره من قلق قبل أن يعلن عن غرض زيارته.
'لقد حذرتك من قبل بأن القضية لن تحل بين يوم وآخر'، قال المحامي مستغلا احدي وقفات الكولونيل عن الحديث. كان الحر يسحقه. فشّد إلى الوراء نوابض مسند الكرسي وحرك أما وجهه قطعة من الورق المقوي عليها كتابة دعائية مستخدما إياها كمروحة، وقال:
ـ أن وكلائي كثيرا ما يكتبون إلى بأنه يجب ألا نيأس. فرد الكولونيل:
ـ إني أسمع هذا الكلام ذاته منذ خمسة عشر عاما. لقد أصبح هذا الكلام مثل حكاية الديك المخصي.
قدم المحامي شرحا بيانيا مسهبا للصعوبات الإدارية التي تعترضه. كان الكرسي ضيقا جدا بالنسبة لاليتيه الخريفتين.
قال 'منذ خمس عشرة سنة كان الأمر أكثر سهولة، ففي ذلك الوقت كانت عناصر الجمعية البلدية لقدماء المحاربين مؤلفة من كلا الحزبين'. ملأ رئتيه بهواء حارق، ثم تلفظ بعبارة حكيمة وكأنه انتهي من اختراعها لتوه:
ـ الاتحاد يصنع القوة.
قال الكولونيل، وقد تنبه لأول مرة في حياته إلى عزلته:
ـ ولكنه لم يفعل ذلك في قضيتنا. فجميع رفاقي ماتوا وهم ينتظرون البريد.
لم يتأثر المحامي. وقال:
ـ لقد صدر القانون متأخرا جدا. ولم يحظ الجميع بحظ مثل حظك فقد كنت كولونيلا في العشرين من العمر. وأضيفت بعد هذا مادة خاصة للقانون، ولهذا كان على الحكومة أن تقوم بترقيع في الميزانية.
دائما نفس القصة. وفي كل مرة يسمعها الكولونيل يشعر بحقد أصم. 'أن ما اطلبه ليس صدقة. ليس قضية تقديم إحسان. لقد تمزقت جلودنا لننقذ الجمهورية'.
فتح المحامي ذراعيه وقال:
ـ نعم. الأمر هكذا أيها الكولونيل. ولكن الجحود البشري لا حدود له وهذه لقصة يعرفها أيضا الكولونيل. فقد بدأ يسمعها منذ اليوم التالي لاتفاقية 'نيرلانديا' عندما وعدت الحكومة بتقديم بدل سفر وتعويض لمائتين من ضباط الثورة. وعسكرت حول شجرة الثييبا العملاقة في نيرلانديا فرقة ثورية مؤلفة في غالبيتها من شبان يافعين هاربين من مدارسهم، وانتظرت الفرقة طوال شهور ثلاثة. رجع أفرادها بعد ذلك إلى بيوتهم على نفقتهم الخاصة وهناك تابعوا الانتظار. وبعد مرور ستين سنة تقريبا مازال الكولونيل ينتظر.
وهاج الكولونيل بتأثير هذه الذكريات، فاتخذ وضعا خطيرا: اسند يده اليمني على عظم الفخذ، ودمدم:
ـ لقد صممت على اتخاذ قرار.
وقف المحامي حائرا:
ـ ماذا تعني
ـ استبدال المحامي.
دخلت بطة يتبعها عدد من فراخها إلى المكتب. فنهض المحامي ليطردها خارجا، 'كما تشاء أيها الكولونيل'. قال وهو يهش تلك الحيوانات. 'سيكون لك ما تريد. ولو كنت قادرا على تحقيق المعجزات لما عشت في هذا القن'. وضع حاجزا خشبيا على باب البهو ثم عاد إلى مقعده.
قال الكولونيل:
ـ لقد اشتغل ابني طوال حياته، وبيتي مرهون.. لقد أصبح قانون التقاعد مصدر تقاعد للمحامين مدي الحياة.
فاعترض المحامي:
ـ ولكنه ليس كذلك بالنسبة لي. فقد أنفقت النقود حتى أخرها في تقديم الالتماسات.
تألم الكولونيل لتفكيره بأنه وقع ضحية ظلم. فقال مصححا:
هذا ما أردت قوله ثم جفف جبهته بكم قميصه، وتابع:
ـ أن براغي الرأس قد صدئت بسبب هذا الحر.
بعد لحظة، قلب المحامي المكتب بحثا عن التوكيل. وتقدمت الشمس نحو منتصف الغرفة الضيقة المشادة من أخشاب دون سحج. وبعد أن بحث في كل مكان دون فائدة، انحني على يديه ورجليه، وهو يزفر، وتناول لفافة أوراق من تحت البيانو الأوتوماتيكي:
ـ هاهو.
ثم قدم للكولونيل ورقة عليها عدة أختام، وأضاف: 'يجب أن اكتب إلى وكلائي لأتلاف النسخ التي لديهم'، نفض الكولونيل الغبار ووضع الورقة في جيب قميصه.
ـ مزقها أنت بنفسك.
'لا'، أجاب الكولونيل. 'أنها عشرون سنة من الذكريات'. وانتظر أن يتابع المحامي بحثه. ولكنه لم يفعل ذلك. مضي نحو السرير المعلق ليجفف العرق. ومن هناك نظر إلى الكولونيل من خلال الفراغ المتلالىء.
ـ إنني بحاجة للوثائق أيضا قال الكولونيل.
ـ أية وثائق.
ـ الإثباتات.
فتح المحامي ذراعيه قائلا:
ـ سيكون هذا مستحيلا أيها الكولونيل.
ذعر الكولونيل. لأنه عندما كان ضابطا ماليا للثورة في إقليم ماكوندو، قام برحلة شاقة استمرت ستة أيام وهو يحمل أرصدة وأموال الحرب الأهلية في صندوقين مربوطين على متن بغلة ليصل إلى معسكر نيرلانديا، وهو يجر البغلة التي قتلها الجوع. قبل نصف ساعة من توقيع الاتفاقية. وقد أعطاه الكولونيل اوريليانو بوينديا رئيس إدارة التموين العامة للقوات الثورية على شاطىء الأطلنطي إيصالا بالأموال وأدخل الصندوقين في قائمة الجرد الخاصة بالاستلام.
قال الكولونيل:
ـ أنها وثائق ذات قيمة لا تقدر. ويوجد بينها إيصال مكتوب بخط ويد الكولونيل اوريليانو بوينديا.
قال المحامي:
ـ أعرف ذلك. ولكن هذه الوثائق مرت على آلاف وآلاف الأيدي، وعلى آلاف وآلاف المكاتب حتى وصلت، من يدري، إلى أية دائرة في وزارة الحربية.
ـ إن وثائق من هذا النوع لا يمكن أن تمر على أي موظف دون أن يوليها الأهمية. قال الكولونيل.
فرد المحامي مدققا:
ـ ولكن الموظفين تبدلوا عدة مرات خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة.. تذكر بأن ستة رؤساء قد تبادلوا السلطة وكل رئيس غير أعضاء حكومته عشر مرات على الأقل وكل وزير استبدل موظفيه مائة مرة على الأقل.
قال الكولونيل :
ـ ولكن لا يمكن لأي منهم أن يأخذ تلك الوثائق إلى بيته. ولا بد أن كل موظف كان يجد الأوراق في مكانها.
يئس المحامي، فقال له:
ـ وإضافة إلى هذا، فان هذه الأوراق إذا ما خرجت الآن من وزارة الحربية ستخضع للسير في الدور من جديد في جدول أقدمية المتقاعدين.
ـ هذا لا يهمني قال الكولونيل.
ـ ولكنها ستكون مسألة قرون من الزمن.
ـ ليس مهما، فمن انتظر الكثير ينتظر القليل.
*******
حمل إلى الطاولة الصغيرة في الصالة دفترا من ورق مسطر، وريشة ومحبرة وورقة نشاف، وترك الباب المؤدي إلى الغرفة مفتوحا حتى يستطيع استشارة زوجته إذا ما لزم الأمر. بينما كانت هي تصلي صلاة المساء.
سألها:
ـ في أي يوم نحن
27 أكتوبر (تشرين الأول).
بدأ يكتب متخذا وضعية مدروسة، فاليد التي تحمل الريشة موضوعة فوق ورقة النشاف، والعمود الفقري عمودي لتسهيل التنفس، كما علموه في المدرسة. أصبح الحر لا يطاق في الصالة المغلقة. وانزلقت منه قطرة عرق على الرسالة. فالتقطها الكولونيل بورقة النشاف. حاول بعد ذلك أن يحكٌ الكلمات التي تحلل حبرها، ولكنه أحدث لطخة. لم ييأس كتب نداء ودوٌن في الهامش: 'الحقوق محفوظة'. ثم قرأ الفقرة بكاملها.
ـ في أي يوم ادخلوا اسمي في قائمة قدماء المحاربين. لم تقطع المرأة صلاتها لتفكر، بل قالت:
ـ في 21 أغسطس (آب) .1949
بعد لحظات بدأ المطر يهطل. ملأ الكولونيل صفحة كاملة بخط كبير مشوش وطفولي بعض الشيء، كما علموه في المدرسة العامة في 'ماناوري'. ثم ملأ صفحة أخرى حتى منتصفها، ووضع توقيعه.
قرأ الرسالة على زوجته. ووافقت هي على كل جملة بحركة من رأسها. وعندما انتهي من القراءة أغلق المظروف وأطفأ المصباح.
ـ يمكنك أن تطلب من احدهم أن ينسخها لك على آلة كاتبة.
ـ لا، لقد تعبت وأنا اطلب المعروف من الآخرين. أجابها الكولونيل.
ولمدة نصف ساعة، أحس بالمطر الذي يتساقط على سفح السطح. وغرقت القرية كلها بالوابل. وبعد نفير منع التجول بدأت قطرات المطر تنزلق من مكان ما من البيت.
ـ كان يجب إصلاح هذا منذ زمن طويل قالت المرأة، ثم أردفت:
ـ من الأفضل دائما أن نفهم الأمور في حينها.
قال الكولونيل، مشيرا إلى الماء المتسرب:
ـ لاشيء متأخرا أبدا. يمكن أن تحل جميع هذه الأمور عندما ينتهي رهن البيت.
ـ بقيت سنتان.
أشعل المصباح ليحدد مكان الثقب الذي في سقف الصالة. ثم وضع تحته علبة الصفيح التي يشرب منها الديك وعاد إلى غرفة النوم تلحقه الفرقعة المعدنية التي يحدثها الماء. عند اصطدامه بالعلبة الفارغة.
ـ ربما فكوا الرهن قبل كانون الثاني (يناير) ساعين لكسب النقود قال، وأقنع نفسه بذلك، ثم تابع:
ـ عندها تكون قد انقضت سنة على وفاة اغوستين ونستطيع الذهاب إلى السينما.
ضحكت هي بصوت خافت وقالت: 'حتى إني ما عدت اذكر صورا مشوشة منها'. حاول الكولونيل رؤيتها من خلال الكلة:
ـ متى ذهبت إلى السينما لآخر مرة؟
فقالت:
ـ سنة .1931 وكان يعرضون يومها فيلم 'إرادة الميت'.
ـ وهل كان به رعب.
ـ لم يعرف ذلك أبدا. فقد انقطع وابل المطر عندما كان الشبح يحاول سرقة العقد من الفتاة.
هسسة المطر جعلتهما يغفوان. شعر الكولونيل بألم خفيف في أمعائه، ولكنه لم يفزع. كان على وشك أن يجتاز أكتوبر آخر وهو حي. لف نفسه ببطانية صوفية وأحس للحظة بتنفس المرأة المتقطع أحسه نائيا وهي تبحر في حلم آخر. عندئذ تكلم، وهو واع تماما.
استيقظت المرأة:
ـ مع من تتكلم
فرد الكولونيل:
ـ ليس مع احد. كنت أفكر بأننا كنا محقين عندما قلنا للكولونيل اوريليانو جوينديا، في اجتماع ماكوندو بأن لا يستلم. فهذا هو السبب في ضياع الجميع.
أمطرت طوال الأسبوع. وفي اليوم الثاني من نوفمبر (تشرين الثاني) وضد مشيئة الكولونيل - أخذت المرأة زهورا إلى قبر اوغستين. وعند عودتها من المقبرة، كانت مصابة بنوبة ربو جديدة. كان أسبوعا قاسيا.. أكثر قسوة من أسابيع أكتوبر الأربعة التي اعتقد الكولونيل انه لن يجتازها حيا.
حضر الطبيب لعيادة المريضة وخرج من الغرفة صارخا: 'بربو كهذا، سأكون مستعدا لدفن القرية بكاملها'. ولكنه تحدث مع الكولونيل على انفراد ووصف للمريضة علاجا يعتمد نظاما خاصا.
عاني الكولونيل أيضا من نكسة صحية. واحتضر لساعات طويلة في المرحاض، وتعرق ثلجا، وهو يحس بنباتات أحشائه تتعفن وتسقط متفتتة إلى قطع صغيرة. 'انه الشتاء'، كرر دون يأس. 'كل شيء سيكون مختلفا عندما تنتهي الأمطار'. واقتنع بذلك فعلا، متأكدا انه سيكون على قيد الحياة عندما ستصله الرسالة.
لقد أصبح من واجبه هذه المرة أن يعني بترقيع الاقتصاد المنزلي. وكان عليه أن يضغط على أسنانه مرات ومرات وهو يطلب الاستدانة من الدكاكين المجاورة. 'حتى الأسبوع القادم فقط'، كان يقول لهم، دون أن يكون متأكدا هو نفسه بأن هذا صحيح. 'ثمة' نقود كان يجب أن تصلني منذ يوم الجمعة'. وعندما خرجت المرأة من أزمتها تعرفت عليه مذهولة:
ـ لقد صرت عظما اجرد.
فقال لها الكولونيل:
ـ إنني اعتني بنفسي لأكون صالحا للبيع. وقد بعت نفسي لمصنع يصنع المزامير.
ولكنه في الواقع بالكاد كان يقف مستندا على أمل الرسالة. وبسبب إرهاقه، وبسبب عظامه التي سحقها الإجهاد، فانه لم يستطع أن يعتني بحاجاته وحاجات الديك الضرورية في الوقت ذاته. في النصف الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر) رأي أن الديك سيموت بعد أن أمضي يومين بلا ذرة. عندئذ تذكر حفنة من اللوبيا كان قد علقها في شهر يوليو (تموز) فوق الموقد. فتح الكيس الذي يحتوي على اللوبيا ووضع أمام الديك علبة ممتلئة بالحبوب الجافة.
فقالت له:
ـ تعال هنا.
أجابها الكولونيل:
ـ سآتيك حالا
ثم قال لنفسه وهو يراقب ردة فعل الديك:
ـ عند الجوع لا يوجد خبز سيء.
وجد زوجته تحاول الاعتدال في السرير. ومن الجسد التالف كانت تصدر روائح إعشاب طيبة. تلفظت بالكلمات، كلمة كلمة، بتدقيق محسوب:
ـ اخرج بهذا الديك حالا من هنا.
كان الكولونيل قد أعد نفسه لهذه اللحظة. كان ينتظرها منذ الأمسية التي قتل بها ابنه وقرر هو الاحتفاظ بالديك. لذلك كان لديه وقت طويل ليفكر.
قال:
ـ لم يعد الأمر يستحق ذلك، فخلال ثلاثة شهور ستجري مباراة مصارعة الديكة وعندها نستطيع أن نبيعه بأغلى الأسعار.
فقالت المرأة:
ـ القضية ليست قضية نقود. عندما يأتي الشباب قل لهم أن يأخذوه وليفعلوا به ما يرغبون.
قال لها الكولونيل مستخدما حجة محضرة مسبقا:
ـ إني احتفظ به من أجل أغوستين... تصوري وجهه لو انه اتى يومها ليخبرنا بفوز الديك.
صرخت المرأة وقد فكرت فعلا بابنها:
'لقد كانت هذه الديكة اللعينة هي سبب ضياعه. فلو انه بقي في البيت يوم الثالث من يناير (كانون الثاني) ذاك، لما كانت فاجأته ساعة الشر'. ثم وجهت سبابتها الضامرة نحو الباب وهتفت:

ـ يبدو لي وكأني كنت أري ما سيجري عندما خرج حاملا الديك تحت ذراعيه. لقد حذرته بألا يذهب بحثا عن موته في ملعب مصارعة الديوك، ولكنه كشر عن أسنانه وقال لي: 'اصمتي، فهذا المساء سنتعفن من كثرة النقود'.
سقطت منهكة دفعها برفق الكولونيل نحو الوسادة. واصطدمت عيناه بعينين مشابهتين تماما لعينيه. 'حاولي ألا تتحركي'، قال لها وهو يحس بالصفير وكأنه في رئتيه هو. راحت المرأة في غيبوبة قصيرة. أطبقت عينيها. وعندما فتحتهما من جديد كان تنفسها يبدو أكثر انتظاما.
قالت:
ـ أن هذا بسبب الحالة التي أصبحنا بها. فمن الكفر اقتطاع الخبز عن أفواهنا وإعطاؤه للديك.
جفف لها الكولونيل جبهتها بشرشف السرير.
ـ لا أحد يموت في ثلاثة شهور.
ـ وماذا سنأكل خلال هذا الوقت
تساءلت المرأة.
فقال الكولونيل:
ـ لست أدري ولكن لو إننا سنموت من الجوع لكنا قد متنا منذ زمن.
كان الديك يقف الآن بكامل حيويته أمام العلبة الفارغة. وعندما رأي الكولونيل أطلق صوتا حلقيا، شبه إنساني، وقذف رأسه إلى الوراء. فبادله الكولونيل ابتسامة شريك في الجريمة، وقال:
ـ إن الحياة قاسية أيها الرفيق.
خرج إلى الشارع. وتسكع في القرية التي تنام القيلولة دون أن يفكر بشيء، وحتى دون أن يحاول إقناع نفسه بان مشكلته ليس لها من حلٌ. سار في شوارع مقفرة إلى أن وجد نفسه منهكا. عندها رجع إلى البيت. أحست المرأة بدخوله ونادته إلى الغرفة.
ـ ماذا تريدين؟
فأجابت دون أن تنظر إليه:
ـ يمكننا أن نبيع الساعة.
كان الكولونيل قد فكر بهذا. قالت المرأة: 'إني متأكدة بان ألفارو سيعطيك أربعين بيزو في الحال.. تصور بأية سهولة اشتري منا قبلا ماكينة الخياطة'.
أنها تتكلم عن الخياط الذي كان اغوستين يعمل عنده.
ـ يمكنني أن أحدثه في الصباح بهذا الخصوص - قال الكولونيل بضيق.
فقالت هي بصراحة:
ـ لاشيء للكلام في الصباح. خذ الساعة إليه الآن، وضعها أمامه على الطاولة وقل له: 'يا الفارو، لقد أحضرت لك هذه الساعة لتشتريها مني'. وسيفهم هو في الحال.
شعر الكولونيل بالتعاسة، وقال معترضا:
ـ أن حملها سيكون كمن يحمل لحدا. ولو رآني الناس في الشارع حاملا هذه الواجهة فإنهم سيؤلفون عني أغنية من أغاني رافائيل اسكالونا.
ولكن زوجته أقنعته هذه المرة أيضا. ونزعت بنفسها الساعة عن الجدار، لفتها بورق الصحف ووضعتها بين يديه قائلة: 'لن ترجع إلى هنا دون الأربعين بيزو'.
اتجه الكولونيل إلى دكان الخياط حاملا اللفافة تحت ذراعه. ووجد أصدقاء أغوستين يجلسون أمام الباب.
قدم إليه أحدهم مقعدا. 'شكرا'، قال الكولونيل وقد تبلبلت أفكاره، ثم أردف: 'لقد كنت مارا من هنا بالصدفة'.
خرج الفارو من الدكان حاملا قطعة قماش قطني مبللة بالماء وعلقها في الممر على سلك ممتد بين دعامتين. كان شابا، له تركيب قاس كثير النتوءات وعينان ذاهلتان. وقد دعاه هو أيضا للجلوس. أحس الكولونيل بالانتعاش. أسند الكرسي الذي بلا مسند إلى إطار الباب وجلس ينتظر ريثما يبقي الفارو وحيدا ليعرض عليه الصفقة. وفجأة أحس بأنه محاط بوجوه مقطبة.
قال:
ـ ألا أزعجكم.
اعترضوا جميعهم على هذا. وانحني أحدهم نحوه وقال بصوت لا يكاد يسمع:
ـ لقد كتب أغوستين.
راقب الكولونيل الشارع المقفر، وسأل:
ـ ماذا يقول؟
ما يقوله دائما.
أعطوه المنشور السري، فأخفاه الكولونيل في جيب البنطال. وبقي صامتا ينقر بأصابعه على الساعة المغطاة حتى انتبه إلى أن هناك من يكلمه. فتوقف عن النقر حائرا.
ـ ماذا تحمل معك أيها الكولونيل؟
تفادي الكولونيل عيني خيرمان الخضراوين النافذتين. وقال كاذبا:
ـ لا شيء. إني أحمل الساعة إلى الألماني ليصلحها لي.
ـ 'لا تكن أحمق أيها الكولونيل. انتظر، وسأفحصها لك'، قال خيرمان وهو يحاول انتزاع الساعة منه.
قاوم. لم يقل شيئا ولكن رموشه أصبحت شهباء. فأصر الآخرون:
ـ أعطه الساعة أيها الكولونيل، فهو يفهم في الآلات.
ـ إنني لا أريد إزعاجه.
فرد عليه خيرمان، وهو يأخذ الساعة منه:
ـ أي إزعاج هذا. أن الألماني سينتزع منك عشرة بيزوات ويترك الساعة على حالها.
دخل خيرمان إلى الدكان حاملا الساعة. كان الفارو يعمل وراء ماكينة الخياطة. و في آخر الدكان، تحت غيتار. معلق بمسمار، كانت تجلس فتاة تقوم بتثبيت الأزرار. وفوق الغيتار لوحة كتب عليها: 'ممنوع التكلم بالسياسة'.
أحس الكولونيل بأن جسده أصبح أثقل. فأسند أقدامه على عارضة الكرسي.
ـ خراء، أيها الكولونيل.
فوجىء الكولونيل لهذه العبارة، وقال: 'بدون كلمات نابية'.
ثبت الفونسو النظارات على أنفه ليتفحص بشكل أفضل حذاء الكولونيل ذا الكعب العالي، ثم قال:
ـ إني أتكلم عن الحذاء. فأنت تلبس حذاء مريعا.
ـ ولكنك تستطيع قول ذلك دون كلمات نابية قال الكولونيل، وعرض عليه نعل الحذاء قائلا:
ـ لقد أصبح عمر هذا الحذاء الفظيع أربعين عاما، وها هو يسمع الآن لأول مرة كلمة نابية.
ـ 'قضي الأمر'، صرخ خيرمان من الداخل في نفس الوقت الذي انطلقت به دقات الساعة. وفي البيت المجاور، ضربت امرأة على الجدار الفاصل، وصرخت:
ـ دعوا هذا الغيتار جانبا، فلم تمض سنة بعد على موت اغوستين.
انفجرت قهقهة عالية.
أنها الساعة.
خرج خيرمان حاملا الساعة الملفوفة، وقال:
ـ لم يكن بها شيء، إذا أردت فسأصطحبك إلى البيت لأعلقها مكانها.
رفض الكولونيل العرض.
ـ بكم أنا مدين لك؟
ـ لا تهتم بهذا أيها الكولونيل، فالديك سيدفع في كانون الثاني (يناير). رد عليه خيرمان وهو يحتل مكانه بين المجموعة.
عندها وجد الكولونيل أن الفرصة مواتية، فقال له:
ـ إني أعرض عليك شيئا.
ـ ما هو؟
ـ أهديك الديك. ثم تفحص الوجوه المحيطة به وقال:
ـ إني أهدي الديك لكم جميعا.
تطلع إليه خيرمان حائرا.
ـ 'لقد أصبحت عجوزا على هذه الأمور'، تابع الكولونيل كلامه وقد هيمنت على صوته صرامة مقنعة.
ـ 'انه مسئولية كبيرة بالنسبة لي. ومنذ أيام وأنا أشعر بأن الحيوان يموت شيئا فشيئا'.
قال ألفونسو:
ـ لا تهتم لهذا أيها الكولونيل، كل ما في الأمر أن الديك يبدل ريشه في هذه الفترة، ولذا فإن منابت الريش تكون ملتهبة.
وقال خيرمان مؤكدا:
ـ في الشهر القادم سيكون في حالة جيدة.
ـ على كل حال أنا لا أريده. قال الكولونيل.
اخترقه خيرمان بنظرات حدقتيه، وقال بإصرار:
ـ تذكر أيها الكولونيل أن الأمر المهم، هو أن تكون أنت من يضع ديك اغوستين في حلبة الصراع يوم المباراة.
فكر الكولونيل بهذا، وقال: 'إني مدرك للأمر. ولهذا السبب احتفظ بالديك حتى الآن'. ضغط على أسنانه وأحس بقوة تجعله يتقدم:
ـ ولكن السيئ في الأمر هو مازال أمامنا ثلاثة شهور. كان خيرمان أول من فهمه، فقال:
ـ إذا لم يكن هناك شيء آخر سوي هذا الأمر فليس من مشكلة.
ثم اقترح حله للمسألة.. ووافق الآخرون. وفي أوائل الليل، عندما دخل إلى البيت واللفافة تحت ذراعه، شعرت امرأته بالإحباط، وسألته:
ـ لا شيء.
ـ لا شيء أجابها الكولونيل، ثم أردف:
ـ ولكن الأمر ليس مهما الآن، فالشباب سيؤمنون الغذاء للديك.
ـ انتظر وسأعيرك مظلة أيها الصديق.
فتح دون ساباس خزانة مركبة في جدار المكتب. وكشف عن محتوياتها المكركبة، منها جزم متلبدة لركوب الخيل، وحلقات ركائب، وأحزمة وسيور جلدية وإناء من الألمنيوم مليء بالمهاميز التي يستخدمها الخيالة. وفي القسم العلوي من الخزانة توجد نصف دزينة من المظلات المعلقة إلى جانب قبعة نسائية.
ـ 'شكرا يا صديقي'. قالها الكولونيل وهو يستند بمرفقيه إلى النافذة، 'أفضل الانتظار حتى يتوقف المطر'.
لم يغلق دون ساباس الخزانة. وجلس وراء المكتب ضمن مجال المروحة الكهربائية. ثم أخرج من الدرج حقنة ملفوفة بالقطن، وأخذ الكولونيل يتأمل أشجار اللوز الرصاصية من خلال المطر. لقد كان مساء مقفرا.
قال:
ـ أن المطر مختلف من خلال هذه النافذة، فهو يبدو كأنه يهطل في قرية أخرى.
ـ المطر هو المطر من أية زاوية نظرت إليه. رد دون ساباس، وهو يضع الحقنة ليغليها على اللوح الزجاجي الذي يغطي المكتب، ثم أردف:
ـ ما هذه القرية سوي براز.
هز الكولونيل كتفيه. وسار إلى وسط المكتب: صالة واسعة بلاطها أخضر وبها قطع موبيليا مغطاة بقماش ألوانه حيوية. وفي طرفه أكياس ملح، وخوابي عسل، وسروج خيل مكومة بفوضى. تابعه دون ساباس بنظرة فارغة تماما.
ـ لو كنت مكانك لما فكرت هكذا قال الكولونيل. جلس مقاطعا ساقيه، وثبت نظرته الهادئة على الرجل المنحني فوق المكتب. كان رجلا قصيرا، ضخما ولكن لحمه مترهل، وفي عينيه حزن ضفدع حديثة الولادة.
قال دون ساباس:
ـ اعرض نفسك على طبيب أيها الصديق. فأنت تبدو جنائزيا بعض الشيء منذ يوم الدفن.
رفع الكولونيل رأسه، وقال:
ـ إنني في حالة جيدة.
انتظر دون ساباس حتى تغلي الحقنة. وقال متأسفا: 'لو إني أستطيع أن أقول هذا! كم أنت محظوظ! فأنت قادر على أكل ركاب نحاسي'. تأمل ظاهر كفه ذات الشعر الغزير والمليئة بالنمش البني. كان يضع خاتما به فص أسود فوق خاتم الزواج.
ـ هذا صحيح قال الكولونيل موافقا.
نادي دون ساباس زوجته من خلال الباب الذي يصل ما بين المكتب وبقية البيت. ثم بدأ بشرح مؤلم للنظام الغذائي الذي يتبعه. تناول زجاجة دواء صغيرة من جيب قميصه ووضع فوق المكتب قرص دواء أبيض بحجم حبة لوبيا، وقال:
ـ انه تعذيب أن أحمل هذا معي في كل مكان أذهب إليه. انه كمن يحمل الموت في جيبه.
اقترب الكولونيل من المكتب. وتفحص قرص الدواء في كف يده إلى أن دعاه دون ساباس لتذوقه. ثم قال له شارحا:
ـ انه لتحلية القهوة. أي، سكر ولكن بدون سكر.
فقال الكولونيل، ولعابه مضمخ بطعم الحلاوة الحزين:
ـ فعلا، انه شيء يشبه قرع الأجراس ولكن دون أجراس. اتكأ دون ساباس على المكتب بمرفقيه ووجهه بين يديه بعد أن زرقته زوجته بالحقنة. لم يعد الكولونيل يعرف ما يفعله بجسده. أطفأت المروحة الكهربائية، ووضعتها فوق الصندوق المصفح ثم اتجهت نحو الخزانة قائلة:
ـ أن للمظلات علاقة ما بالموت.
لم يعرها الكولونيل اهتماما. كان قد خرج من بيته في الساعة الرابعة وغرضه انتظار البريد، ولكن المطر اضطره إلى أن يلتجىء إلى مكتب دون ساباس. وعندما صفرت المراكب كان المطر ما يزال يهطل.
ـ 'الجميع يقولون بأن الموت هو امرأة'، تابعت المرأة حديثها. لقد كانت بدينة وأطول من زوجها، ولها تؤلول مغطي بالشعر على شفتها العليا. تذكر طريقتها في الحديث بأزيز المروحة الكهربائية. 'ولكني لا أعتقد بأنه امرأة'، قالت. ثم أغلقت الخزانة والتفتت وكأنها تستشير عيني الكولونيل:
ـ إني اعتقد بأن الموت هو حيوان بأظلاف.
فقال لها الكولونيل موافقا:
ـ ربما. فأحيانا تحدث أمور غريبة جدا.
فكر بموظف البريد وتخيله وهو يقفز إلى المركب مرتديا ممطرا من المشمع. لقد انقضي شهر على استبداله المحامي. وله الحق الآن بانتظار الرد. وتابعت زوجة دون ساباس الحديث عن الموت إلى أن انتبهت لتعابير الذهول التي تلف الكولونيل. فقالت:
ـ لابد أن هنالك ما يشغل تفكيرك أيها الصديق.
استعاد الكولونيل وعيه، وقال كاذبا:
ـ أجل أيتها الصديقة. إني أفكر بأن الساعة قد تجاوزت الخامسة ولم أعط الحقنة للديك بعد.
وقفت مشدوهة، ثم هتفت:
ـ حقنة لديك وكأنه كائن بشري. أن هذا دنس.
لم يعد بامكان دون ساباس احتمالها. فرفع وجهه المحتقن، وأمر زوجته:
ـ أغلقي فمك للحظة.
وفعلا رفعت يديها إلى فهمها. فتابع هو:
ـ منذ نصف ساعة وأنت تزعجين صديقي بحماقاتك.
ـ لا، أبدا قال الكولونيل معترضا.
صفقت المرأة الباب. وجفف دون ساباس رقبته بمنديل مضمخ بالخزامى.
اقترب الكولونيل من النافذة. كان المطر يهطل دون توقف. ودجاجة لها قوائم صفراء طويلة تعبر الساحة المقفرة.
ـ هل صحيح أنكم تحقنون الديك؟
ـ أجل صحيح. فالتمرينات ستبدأ في الأسبوع القادم قال الكولونيل.
فقال دون ساباس:
ـ أن هذا تهور. فأنت لست مهيئا لهذه الأعمال.
قال الكولونيل:
ـ أجل، ولكن هذا ليس سببا للوي عنق الديك.
ـ 'أنها مجازفة حمقاء' قال دون ساباس وهو يتجه إلى النافذة. أخذ الكولونيل نفسا ككير حداد. وعينا صديقه جعلته يشعر بالشفقة على نفسه.
قال دون ساباس:
ـ خذ نصيحتي أيها الصديق. خير لك أن تبيع هذا الديك قبل أن يصبح الوقت متأخرا.
ـ ليس ثمة ما يؤسف عليه أبدا.
فقال دون ساباس بإصرار:
ـ لا تكن واهما. أن هذا الديك صفقة بحدين: فمن ناحية سترفع عن كاهلك وجع الرأس، ومن ناحية أخرى ستضع في جيبك مبلغ تسعمائة بيزو.
ـ تسعمائة بيزو هتف الكولونيل.
ـ أجل، تسعمائة بيزو.
ـ أتعتقد بأنهم يدفعون هذا الثمن مقابل الديك؟
أجابه دون ساباس:
ـ ليس الأمر اعتقادا. إني متأكد من هذا.
كان هذا الرقم هو أعلى رقم دخل رأس الكولونيل منذ سلم ميزانية الثورة. وعندما خرج من مكتب دون ساباس أحس بأحشائه تتلوي، ولكنه كان على يقين هذه المرة بأن الألم لم يكن بسبب الطقس. وفي مكتب البريد اتجه مباشرة إلى الموظف، وقال:
ـ إني انتظر رسالة مستعجلة. ستصل بالطائرة.
بحث الموظف في الكوى المصنفة وعندما انتهي من القراءة وضع الرسائل حسب الحروف المطابقة لها ولكنه لم يقل شيئا. نفض راحتيه ووجه إلى الكولونيل نظرة ذات مغزى.
ـ كان يجب أن تصلني اليوم بكل تأكيد قال الكولونيل.
هز الموظف كتفيه. وقال
ـ الشيء الوحيد الذي يصل بكل تأكيد هو الموت أيها الكولونيل.
استقبلته زوجته بطبق من عصيدة 'ماثامورا' الذرة. أكله صامتا، وكان يتوقف طويلا ليفكر ما بين ملعقة وأخرى. خمنت امرأته التي كانت تجلس مقابله بأن ثمة أمرا قد تغير في البيت، فسألته:
ـ ماذا جري لك؟
قال الكولونيل كاذبا:
ـ إني أفكر بالموظف المسئول عن التقاعد. فخلال خمسين عاما سنكون تحت التراب مطمئنين. بينما هذا الرجل المسكين سيحتضر كل يوم جمعة وهو ينتظر راتبه التقاعدي.
ـ 'أنها بادرة سيئة.. فهذا يعني انك بدأت تخضع للقدر'. قالت المرأة، وتابعت تناول العصيدة. ولكنها انتبهت بعد برهة إلى أن زوجها مازال غائبا.
ـ أن ما عليك عمله الآن هو أن تلتهم هذه العصيدة. فقال الكولونيل:
ـ أنها لذيذة جدا. من أين طلعت بها؟
أجابت المرأة:
ـ من الديك. فقد أحضر له الشبان كثيرا من الذرة، وقرر هو أن يقاسمنا إياها.. هكذا هي الحياة.
تنهد الكولونيل:
ـ نعم هكذا. أن الحياة هي أفضل شيء تم اختراعه.
نظر إلى الديك المربوط بدعامة الموقد وبدا له هذه المرة حيوانا مختلفا. ونظرت المرأة إليه أيضا، وقالت:
ـ هذا المساء اضطررت لإخراج الصبيان بالعصا. فقد أحضروا دجاجة هرمة ليجامعوها مع الديك.
قال الكولونيل:
ـ ليست المرة الأولي التي يحدث هذا. فهكذا كانوا يفعلون في القرى مع الكولونيل أوربليانو بوينديا. إذا كانوا يحضرون له الصبايا ليضاجعهن.
أعجبت هي بالمقارنة الطريفة. وأصدر الديك صوتا من حلقه وصل إلى الممر كصوت إنساني مكتوم. ـ 'أحس أحيانا وكأن هذا الحيوان سينطلق متكلما' قالت المرأة. وعاد الكولونيل لينظر إليه، وقال:
ـ انه ديك حاك وصائح.
ثم أجري بذهنه عمليات حسابية بينما كان يتناول ملعقة من العصيدة، وقال:
ـ انه يكفي لإطعامنا ثلاث سنوات.
ـ الأحلام لا تؤكل قالت المرأة.
ـ لا تؤكل، ولكنها تغذي رد الكولونيل، ثم تابع: أنها شبيهة بعض الشيء بالحبوب العجيبة التي يتناولها صديقي دون ساباس.
نام نوما سيئا هذه الليلة وهو يحاول أن يمحو أرقاما من رأسه. في اليوم التالي عند الغداء قدمت المرأة صحنين من عصيدة الذرة، والتهمت طبقها ورأسها منحنيا، دون أن تتلفظ بكلمة واحدة. أحس الكولونيل وكأنه مصاب بعدوي تعكر المزاج.
ـ بماذا تفكرين؟
ـ لا شيء قالت المرأة.
سيطر عليه انطباع بأن دور زوجته في الكذب قد جاء هذه المرة. حاول أن يجرها للكلام. ولكن المرأة أصرت:
ـ لست أفكر بشيء غريب. إني أفكر بأن قرابة شهرين قد انقضيا على رحيل الميت ولم أذهب لأعزي حتى الآن.
وهكذا ذهبت لتقديم العزاء هذه الليلة. اصطحبها الكولونيل حتى بيت الميت ثم توجه إلى صالة السينما تجذبه الموسيقي المنبعثة من مكبرات الصوت. كان الأب أنخل يجلس على باب مكتبه مراقبا مدخل السينما ليعرف الذين يحضرون العرض بالرغم من تحذيراته الإثني عشر. تموجات الضوء، والموسيقي الصاخبة وصرخات الأطفال فرضت مقاومة طبيعية في الحي. هدد أحد الأطفال الكولونيل ببندقية خشبية وقال له بصوت متسلط فوقي:
ـ ما هي أخبار الديك أيها الكولونيل.
رفع الكولونيل يديه.
ـ ها هو الديك.
كان ثمة ملصق بأربعة ألوان يحتل واجهة الصالة بكاملها كتب عليها (عذراء منتصف الليل). وعليه رسم امرأة ترتدي ملابس الرقص وإحدى ساقيها عارية حتى الفخذ. تابع الكولونيل التسكع في المكان إلى أن انفجرت رعود وبروق بعيدة. وعندما عاد إلى حيث ذهبت زوجته، لم يجدها في بيت الميت، ولا في بيتها وقدر الكولونيل بأنه لم يبق وقت قصير على بدء منع التجول، ولكن الساعة كانت متوقفة، انتظر، وهو يشعر بالعاصفة تقترب من القرية. وعندما تأهب ليخرج من جديد دخلت زوجته إلى البيت.
حمل الديك إلى غرفة النوم. وأبدلت هي ثيابها ثم مضت لتشرب ماء من الصالة في الوقت الذي كان به الكولونيل قد انتهي من ملء الساعة وجلس ينتظر إشارة منع التجول ليضبط الساعة.
سألها الكولونيل:
ـ أين كنت؟
ـ 'هنا'، أجابت المرأة. ووضعت الكأس على الخابية دون أن تنظر إلى زوجها وعادت إلى غرفة النوم، وقالت: 'لم يكن أحد يصدق بأنها ستمطر بهذه السرعة'. لم يعلق الكولونيل بشيء. وعندما دقت إشارة منع التجول ضبط الساعة على الحادية عشرة، ثم أغلق الزجاج وأعاد الكرسي إلى وضعه. وجد زوجته تصلي صلاة المساء.
ـ لم تجيبي على سؤالي قال لها الكولونيل.
ـ أي سؤال.
ـ أين كنت؟
فقالت هي:
ـ لقد كنت أتحدث مع الناس. فمنذ زمن طويل لم أخرج إلى الشارع.
علق الكولونيل سرير نومه. وأغلق باب البيت ورش الغرفة بالمبيدات. بعد ذلك وضع المصباح على الأرض واستلقي في السرير. ثم قال بأسي:
ـ إني أفهمك. فأسوأ ما في حالات الشدة هو أنها تجبر المرء على الكذب.
نفثت هي زفرة طويلة، وقالت:
ـ لقد ذهبت إلى الأب أنجل. ذهبت لأطلب منه قرضا مقابل خاتمي الزواج.
ـ وماذا قال لك؟
قال: إن المتاجرة بالأغراض المقدسة، خطيئة.
وتابعت من وراء الكلة: 'منذ يومين حاولت أن أبيع الساعة. ولكن لم يقبل شراءها أحد، لأنهم يبيعون الآن بالتقسيط ساعات حديثة لها أرقام مضيئة، يمكن رؤية الوقت بها في الظلام'. تحقق الكولونيل من أن أربعين سنة من الحياة المشتركة ، ومن الجوع المشترك، والمقاساة المشتركة، لم تكن كافية ليتعرف على زوجته. وأحس بأن شيئا قد شاخ في الحب أيضا.
قالت هي:
ـ ولم يقبل أحد شراء اللوحة. فالجميع تقريبا لديهم نفس اللوحة.. حتى إنني ذهبت إلى منطقة الأتراك.
شعر الكولونيل بالمرارة:
ـ وبهذا أصبح الجميع الآن يعرفون بأننا نموت جوعا.
فقالت المرأة:
ـ لقد تعبت. فأنتم معشر الرجال لا تنتبهون إلى مشاكل البيت. لقد وضعت عدة مرات حجارة في القدر وغليتها كي لا يعرف الجيران بأنه ليس لدينا ما نملأ به القدر.
شعر الكولونيل بالاستفزاز، فقال:
ـ أن هذا الذي فعلته هو المسكنة الحقيقية.
غادرت المرأة الكلة واتجهت نحو السرير المعلق قائلة: 'إني مستعدة لأقضي على التصنع والأوهام في هذا البيت'.. بدأ صوتها يكفهر غضبا: 'لقد طفح كيلي من الصبر والوقار'.
لم يحرك الكولونيل عضلة واحدة في جسده.
وتابعت هي:
ـ عشرون سنة وأنا أنتظر العصافير الملونة التي يعدونك بها بعد كل انتخابات، ومن كل هذا الانتظار بقي لنا ابن ميت.. لا شيء سوي ابن ميت.
قال الكولونيل الذي كان معتادا على هذا النوع من المهاترات:
ـ لقد قمنا بواجبنا.
فردت المرأة:
ـ وهم قاموا بكسب ألف بيزو شهريا في مجلس النواب طوال عشرين سنة. فهذا صديقنا دون ساباس وبيته ذو الطبقتين الذي لا يتسع لأمواله. لقد أتي إلى القرية كبائع أدوية يعلق أفعى حول عنقه.
ـ ولكنه يموت شيئا فشيئا بالسكري قال الكولونيل. فردت المرأة:
ـ وأنت تموت جوعا. كل هذا لتتأكد أن الوقار لا يؤكل.
قطع البرق عليها حديثها، ثم انفجر الرعد في الخارج، ودخل إلى غرفة النوم ومرق إلى ما تحت السرير مثل سيل من الحجارة. قفزت المرأة بحثا عن مسبحتها.
ابتسم الكولونيل وقال:
ـ أن هذا يصيبك لأنك لا تكبحين لسانك. لقد قلت لك دائما أن الرب عضو في حزبنا.
ولكنه في الواقع كان يشعر بالمرارة. بعد لحظات أطفأ المصباح وغرق في التفكير وسط ظلام يشقه البرق. تذكر ماكوندو، لقد انتظر الكولونيل عشر سنوات حتى تتحقق مواثيق ميرلانديا. وفي غيبوبة قيظ الظهيرة رأي قطارا أصفر يصل معفرا بالغبار ومحملا بالرجال والنساء والحيوانات الذين سحق الحر أنفاسهم، وهم مكدسون في كل مكان، وحتى على سطح العربات. تلك الفترة كانت فترة حمي الموز.
وخلال أربع وعشرين ساعة عمروا القرية. عندها قال الكولونيل: 'إني ذاهب، فرائحة الموز تعفن أمعائي' وغادر ماكوندو في قطار العودة، يوم الأربعاء السابع والعشرين من يوليو (تموز) سنة ألف وتسعمائة وست، في الساعة الثانية وثماني عشرة دقيقة بعد الظهر. لقد احتاج لنصف قرن بعدها ليكتشف. انه لم ينعم بدقيقة راحة بعد الاستسلام في نيرلانديا.
فتح عينيه، وقال:
ـ إذن يجب ألا نفكر في الأمر بعد الآن.
ـ ماذا؟
قال الكولونيل:
ـ أعني مسألة الديك.. غدا بالذات سأبيعه إلى صديقي ساباس بمبلغ تسعمائة بيزو.
******
نفذ إلى المكتب، من خلال النافذة، أنين الحيوانات المخصية مختلطا بصرخات دون ساباس. 'إذا لم يأت خلال عشر دقائق فسوف اذهب'، هكذا عاهد الكولونيل نفسه بعد أن أمضي ساعتين في الانتظار، ولكنه انتظر عشرين دقيقة أخرى. وكان يتهيأ للخروج عندما دخل دون ساباس إلى المكتب تتبعه مجموعة من العمال المساعدين. مر دون ساباس عدة مرات أمام الكولونيل دون أن يلتفت إليه. وانتبه لوجوده عندما خرج العمال فقط.
ـ هل تنتظرني أيها الصديق؟
قال الكولونيل:
ـ أجل يا صديقي. ولكن إذا كنت مشغولا فسأعود فيما بعد.
لم يسمعه دون ساباس لأنه أصبح في الناحية الأخرى من الباب ولكنه قال له وهو يخرج:
ـ سأعود حالا.
كانت ظهيرة متقدة. والمكتب يلتهب بالحر المنعكس إليه من الشارع. أغمض الكولونيل، الذي خدره الحر، عينيه رغم أرادته. وفي الحال بدأ يحلم بزوجته.
دخلت زوجة دون ساباس على رؤوس أصابعها وقالت له:
ـ لا تستيقظ أيها الصديق، سأغلق الأباجور فقط، لأن المكتب صار جهنما.
لاحقها الكولونيل بنظرة غائبة عن الوعي تماما. قالت وهي في الظل بعد أن أغلقت الأباجور:
ـ هل تحلم كثيرا في نومك؟
شعر الكولونيل بالخجل لأنه نام، وأجابها :
ـ أحيانا وأري نفسي في جميع أحلامي تقريبا وأنا أتخبط في شبكة عنكبوت.
قالت المرأة:
ـ أنا أعاني من الكوابيس كل ليلة. ولكني بدأت أعرف الآن من هم هؤلاء الناس المجهولون الذين يظهرون لنا في الأحلام.
أدارت المروحة الكهربائية، وقالت: 'في الأسبوع الماضي ظهرت لي في الحلم امرأة وقفت على رأس سريري. وقد وجدت الشجاعة لأسألها من تكون، فأجابتني قائلة: أنا المرأة التي ماتت في هذه الغرفة منذ اثنتي عشرة سنة'.
فقال الكولونيل:
ـ ولكن لم تكد تمضي سنتان بعد على بناء هذا البيت.
ـ نعم. وهذا يعني أن الأموات يخطئون أيضا.
جعل أزيز المروحة الكهربائية البرودة أكثر رسوخا. وشعر الكولونيل بفقدان الصبر والاضطراب بسبب النعاس الذي غلبه وبسبب هذه المرأة البدينة التي انتقلت فورا من الحديث عن الأحلام إلى تجسد الموتى وعودتهم ثانية إلى الحياة. وكان ينتظر فرصة تتوقف فيها عن الحديث لينصرف عندما دخل ساباس إلى المكتب مع رئيس عماله. فقالت له المرأة:
ـ لقد سخنت لك الحساء أربع مرات حتى الآن.
قال دون ساباس:
ـ سخنيه عشر مرات إذا شئت. ولكن لا تثيري أعصابي وتجعليني أفقد صبري الآن.
فتح صندوق السيولة النقدية وسلم لرئيس عماله رزمة من الأوراق المالية ومعها قائمة تعليمات. فتح رئيس العمال الأباجورات ليعد النقود. لمح دون ساباس بالكولونيل في طرف المكتب ولكنه لم يبد أي تأثر، بل تابع حديثه مع رئيس عماله. نهض الكولونيل في اللحظة التي كان الرجلان يستعدان بها لمغادرة المكتب من جديد. فتوقف دون ساباس قبل أن يفتح الباب، وقال:
ـ ماذا أستطيع أن أقدم لك أيها الصديق؟
انتبه الكولونيل إلى رئيس العمال ينظر إليه، فقال:
ـ لا شيء يا صديقي، كنت أود التحدث إليك. فقال دون ساباس:
ـ مهما كان الأمر، يمكنك قوله الآن حالا. لأني لا أستطيع إضاعة دقيقة واحدة.
وظل واقفا ويده ممسكة بقبضة الباب الكروية. شعر الكولونيل بانقضاء أطول خمس ثوان في حياته، فضغط على أسنانه ودمدم:
ـ إن الأمر يتعلق بمسألة الديك.
عندها كان دون ساباس قد انتهي من فتح الباب. 'مسألة الديك'، كرر مبتسما، وقاد رئيس عماله نحو الممر 'إن العالم يهوي بينما صديقي مشغول بهذا الديك'. ثم قال موجها حديثه إلى الكولونيل:
ـ حسنا جدا أيها الصديق، سأعود حالا.
وقف الكولونيل وسط المكتب بلا حراك حتى تلاشي وقع خطوات الرجلين في آخر الممر. وخرج بعد ذلك ليسير في شوارع القرية المشلولة في قيلولة الأحد. لم يجد أحدا في دكان الخياط. وعيادة الطبيب كانت مغلقة. ولم يكن هناك من يحرس البضائع المعروضة في متاجر السوريين. كان النهر كصفحة من الرصاص. وثمة رجل نائم على أربعة براميل بترول في الميناء، يقي وجهه من الشمس بقبعة. اتجه الكولونيل إلى بيته متيقنا بأنه المكان الوحيد الحيوي في القرية. كانت زوجته تنتظره وقد أعدت وجبة غداء كاملة.
قالت مفسرة:
ـ لقد استدنت ووعدت أن أدفع غدا صباحا.
خلال تناول الغداء روي لها الكولونيل أحداث الساعات الثلاث الأخيرة. واستمعت إليه جزعة، ثم قالت عندما انتهي:
ـ كل ما في الأمر انك لا تملك شخصية قوية. فأنت تذهب وكأنك ذاهب لطلب صدقة بينما يجب عليك أن تدخل مرفوع الرأس وتنادي صديقك جانبا وتقول له: 'أيها الصديق، لقد قررت أن أبيعك الديك'.
فقال الكولونيل:
ـ هكذا هي الحياة، أنها نفحة.
كانت تسيطر عليها حالة من الحماس. فقد رتبت البيت صباح هذا اليوم وارتدت ملابسها بطريقة غير مألوفة، إذ لبست حذاء زوجها القديم، ومريلة من المشمع، وربطت على رأسها مزقة من القماش معقودة بعقدتين عند الأذنين. قالت له: 'ليس لديك أدني حس تجاري. فمن يذهب ليبيع شيئا ما يجب أن يتخذ نفس هيئة من يذهب ليشتري'.
لاحظ الكولونيل بعض الطرافة في شكلها. فقاطعها ضاحكا:
ـ ابق هكذا كما أنت الآن، لأن تشبهين الرجل القصير بائع الجلبان.
نزعت مزقة القماش عن رأسها، وقالت:
ـ إني أكلمك بجدية.. سآخذ الديك حالا إلى صديقنا وأراهنك على ما تشاء بأني سأعود خلال نصف ساعة ومعي تسعمائة بيزو.
قال لها الكولونيل:
ـ لقد أدارت الأرقام رأسك. وها قد بدأت تلعبين بثمن الديك.
لقد كلفه كثيرا إقناعها بالعدول عن رأيها. إذ أنها بدأت منذ الصباح بتنظيم برنامج في ذهنها. للسنوات الثلاث القادمة التي سيمضيانها دون احتضار أيام الجمعة في انتظار البريد. وأعدت البيت لاستقبال التسعمائة بيزو، فنظمت لائحة بالأشياء الأساسية التي لا يملكانها، دون أن تنسي تسجيل حذاء جديد للكولونيل. وأفسحت مكانا في حجرة النوم للمرآة. إن هذه الضربة المفاجئة لجميع مشاريعها جعلتها تضطرم بإحساس من الخجل والحقد.
نامت قيلولة قصيرة. وعندما استيقظت كان الكولونيل جالسا في البهو.
ـ وماذا ستفعل الآن؟ سألته هي:
فقال الكولونيل:
ـ إني أفكر.
ـ إذن، فقد حلت المشكلة: سنحصل على تلك النقود خلال خمسين سنة.
ولكن الكولونيل كان قد قرر. في الواقع، أن يبيع الديك مساء هذا اليوم بالذات. فكر بدون ساباس، وتخيله وحيدا في مكتبه، يتهيأ أمام المروحة الكهربائية لأخذ حقنة الأنسولين اليومية. كان قد أعد ما سيقوله.
خذ الديك معك. فرؤية وجه القديس تصنع المعجزات قالت له زوجته وهو خارج.
رفض الكولونيل ذلك. ولكنها تبعته حتى الباب الخارجي بقلق يائس، وقالت:
ـ ليس مهما أن يكون هناك فيلق من الناس، خذه من ذراعه وتنح به جانبا ولا تدعه يتحرك قبل أن يعطيك التسعمائة بيزو.
ـ سيظنون إننا نعد الانقلاب.
لم تهتم هي بهذا. وقالت بإصرار:
ـ تذكر أنك أنت صاحب الديك. وتذكر أنك أنت الذي ستقدم له معروفا ببيعه الديك.
ـ حسنا.
كان دون ساباس في غرفة نومه مع الطبيب. فقالت زوجته للكولونيل: 'انتهز الفرصة الآن أيها الصديق. إن الطبيب يفحصه لأنه سيذهب إلى المزرعة ولن يعود حتى يوم الخميس'.
درس الكولونيل الأمر وهو بين قوتين متعارضتين تتجاذبانه فرغم قراره الحاسم ببيع الديك. رغب لو أنه وصل بعد ساعة حتى لا يجد دون ساباس.
ـ أستطيع أن أنتظر. قال لها.
ولكن زوجة دون ساباس أصرت عليه. وقادته إلى غرفة النوم حيث كان زوجها جالسا بسرواله الداخلي على سرير كالعرش، بينما ثبت على الطبيب عينيه اللتين بلا بريق. وانتظر الكولونيل حتى انتهي الطبيب من تسخين أنبوب زجاجي به عينه من بول المريض، ثم شم البخار المتصاعد منه وأشار إلى دون ساباس إشارة النجاح.
قال الطبيب متوجها إلى الكولونيل:
ـ يجب رميه بالرصاص. فالسكري يتباطأ كثيرا بالقضاء على الأغنياء.
'لقد فعلت أنت كل ما تستطيع لذلك بواسطة حقن الأنسولين اللعينة التي أعطيتني إياها'. قال دون ساباس وهو يربت على اليتيه المترهلتين، وتابع: 'ولكني مسمار قاس على الأكل'. بعدها اتجه نحو الكولونيل قائلا:
ـ اقترب أيها الصديق.. عندما خرجت في الظهيرة بحثا عنك لم أجد حتى ولا قبعتك.
ـ لا أستخدم قبعة كي لا أضطر لرفعها أمام أحد.
بدأ دون ساباس بارتداء ملابسه. ودس الطبيب في جيب سترته انبوبا زجاجيا به عينة من الدم. ثم رتب محتويات حقيبته. وظن الكولونيل بأن الطبيب يستعد للذهاب، فقال له:
ـ لو كنت مكانك يا دكتور لقدمت لصديقنا قائمة حساب بمئة ألف بيزو. فهكذا ستصبح همومه أقل.
قال الطبيب:
ـ لقد عرضت عليه هذه الصفقة، ولكني طلبت مليونا. فالفقر هو أفضل علاج للسكري.
ـ 'شكرا لهذه الوصفة'، قال دون ساباس وهو يحاول أن يحشر كرشه الضخم في البنطال الخاص بركوب الخيل، ثم أردف 'ولكني لن أقبل بها لأحول دون أن تصبح أنت غنيا وتصاب بالمرض'.
رأي الطبيب أسنانه التي انعكست على غطاء حقيبته المعدني. ثم نظر إلى ساعته دون أن يبدو عليه الاستعجال. وعندما بدأ دون ساباس بلبس جزمته اتجه نحو الكولونيل الذي أتي في وقت غير مناسب.
ـ حسنا أيها الصديق، ما الذي حصل للديك.
وانتبه الكولونيل إلى أن الطبيب أيضا سيسمع جوابه. فضغط على أسنانه ودمدم:
ـ لا شيء أيها الصديق. أني آت لأبيعك إياه.
انتهي دون ساباس من لبس الجزمة، وقال دون تأثر:
ـ حسنا أيها الصديق.. أنها أعقل فكرة خطرت لك.
وأمام تعابير عدم الفهم التي ظهرت على وجه الطبيب، قدم الكولونيل تبريره قائلا:
ـ لقد أصبحت كبيرا على هذه الأمور. ولو أن عمري أقل بعشرين سنة مما أنا عليه لكان الأمر مختلفا.
فرد الطبيب: أنت دائما أصغر من عمرك بعشرين سنة.
استرد الكولونيل أنفاسه. وانتظر من دون ساباس أن يقول له شيئا، ولكنه لم يفعل، وإنما ارتدي سترة جلدية لها سحاب وتأهب للخروج من غرفة النوم فقال الكولونيل:
ـ يمكننا أن نتحدث بهذا الأمر في الأسبوع القادم إذا شئت.
ـ هذا ما كنت سأقوله لك قال دون ساباس، ثم أردف:
ـ لدي زبون قد يدفع لك أربعمائة بيزو ثمنا للديك.
ـ ولكن يجب الانتظار حتى يوم الخميس.
ـ كم؟ تساءل الطبيب.
ـ أربعمائة بيزو.
فقال الطبيب:
ـ لقد سمعت بأنه يساوي أكثر من هذا المبلغ بكثير.
استغل الكولونيل استغراب الطبيب ليقول لصديقه:
ـ كنت قد حدثتني عن تسعمائة بيزو.. إنه أفضل ديك في الناحية كلها.
رد دون ساباس على الطبيب شارحا:
ـ 'في وقت سابق كان يمكن لأي كان أن يدفع ألف بيزو ثمنا له. أما الآن فليس هناك من يتجرأ على إطلاق ديك جيد. فثمة خطر دائما في أن يخرج من حلقة المصارعة صريعا بالرصاص'.
ثم التفت نحو الكولونيل بحزن مفتعل بإتقان وقال:
ـ هذا ما كنت أنوي قوله لك أيها الصديق.
أشار الكولونيل برأسه موافقا، وقال:
ـ حسنا.
تبعهما في الممر وهما خارجان. ولكن الطبيب ظل في الصالة بدعوة من زوجة دون ساباس التي طلبت منه علاجا 'لتلك الأشياء التي تصيب المرأة فجأة ولا أحد يعرف ما هي'. انتظر الكولونيل في المكتب. بينما فتح دون ساباس صندوق الخزنة، ودس نقودا في جميع جيوبه ثم مد إلى الكولونيل أربع أوراق نقدية. وقال:
ـ هذا ستون بيزو أيها الصديق. وعندما يباع الديك نصفي الحساب.
سار الكولونيل برفقه الطبيب عبر متاجر شارع الميناء وقد أنعشتهما برودة المساء، بينما كان مركب شحن محمل بقصب السكر ينزلق مع تيار الماء البارد. لاحظ الكولونيل احتقانا في وجه الطبيب:
ـ وأنت كيف حالك أيها الدكتور؟
هز الطبيب كتفيه وقال:
ـ لا بأس. ولكني أعتقد بأني محتاج لاستشارة طبيب فقال الكولونيل:
ـ إنه الشتاء، فهو يجعل أمعائي تتعفن.
تأمله الطبيب بنظرة خالية تماما من أي اهتمام مهني. وحيا السوريين الجالسين أمام أبواب متاجرهم واحدا واحدا. وأمام العيادة عرض الكولونيل موقفه في صفقة بيع الديك، إذ قال مفسرا:
ـ لم أعد قادرا على عمل شيء آخر. لقد أصبح الحيوان يتغذى باللحم البشري.
قال الطبيب:
ـ إن الحيوان الوحيد الذي يتغذى باللحم البشري هو دون ساباس.. إني متأكد انه سيبيع الديك بتسعمائة بيزو.
ـ أتعتقد ذلك؟
ـ إني متأكد.. فهذه صفقة تجارية مكشوفة مثلها كمثل صفقة التحالف الوطني مع العمدة.
رفض الكولونيل تصديق ذلك، وقال: 'لقد قام صديقي بذلك التحالف مع العمدة لكي ينقذ جلده. وهكذا استطاع البقاء في القرية'.
فرد الطبيب:
ـ 'وهكذا استطاع أيضا شراء أملاك أعضاء حزبه الذين طردهم العمدة من القرية بنصف ثمنها'. ثم دق على باب العيادة لأنه لم يجد المفتاح في جيوبه. والتفت بعد ذلك ليلتقي بوجه الكولونيل الذي لم يصدق كلامه، وقال:
ـ لا تكن ساذجا. فصديق دون ساباس يهتم بالمال أكثر بكثير مما يهتم بجلده.
خرجت زوجة الكولونيل في هذه الليلة للتسوق. وقد رافقها زوجها حتى متاجر السوريين وهو يجتر في تأملاته ما قاله الطبيب.
قالت له زوجته:
ـ أبحث حالا عن الشباب وأخبرهم بأنك قد بعت الديك.. يجب ألا تبقيهم على الأمل.
أجابها الكولونيل:
ـ لا يمكن اعتبار الديك مباعا إلى أن يعود صديقي ساباس.
عندما ترك زوجته ذهب إلى صالة البلياردو وهناك وجد ألفارو وهو يلعب الروليت. كان المحل يعج بالناس ليلة الأحد. والحر يبدو أكثر كثافة بسبب جهاز الراديو الذي يبث بأعلى صوته. سرح الكولونيل في الأرقام ذات الألوان الحيوية المكتوبة على بساط مائدة الروليت الذي من الشمع الأسود،و المضاءة بمصباح بترولي موضوع على صندوق وسط الطاولة. كان الفارو وكأنه يصر على الخسارة يكرر المراهنة على الرقم ثلاثة وعشرين. وبينما كان الكولونيل يتابع اللعب من فوق كتف الفارو لاحظ أن الرقم أحد عشر قد كسب أربع مرات من أصل تسع. فهمس في أذن الفارو:
ـ راهن على الأحد عشر، فهو الذي يكسب أكثر من غيره.
تفحص الفارو البساط. ولم يراهن في الدورة التالية. وإنما أخرج نقودا من جيب بنطاله، وبين النقود كانت توجد ورقة مطوية، قدمها إلى الكولونيل من تحت الطاولة، وقال:
ـ أنها من اغوستين.
أخفي الكولونيل الورقة السرية في جيبه، وراهن الفارو على الرقم أحد عشر بنقود كثيرة. فقال له الكولونيل:
ـ ابدأ بالقليل.
ـ 'ربما تكون إصابة جيدة'، رد عليه الفارو. سحبت مجموعة من اللاعبين على الرقم أحد عشر بنقود كثيرة. فقال له الكولونيل:
ـ ابدأ بالقليل.
ـ 'ربما تكون إصابة جيدة'، رد عليه ألفارو. سحبت مجموعة من اللاعبين على الرقم أحد عشر عندما بدأت العجلة الكبيرة الملونة بالدوران. شعر الكولونيل بالتململ، فهو يجرب للمرة الأولى فتنة،و ذعر، وقلق الحظ.
كسب الرقم خمسة فقال الكولونيل خجلا:
ـ إني آسف أشد الأسف.
ثم تابع بعينيه الذراع الخشبية وهي تسحب نقود الفارو، وقد سيطر عليه إحساس لا يقاوم بالشعور بالذنب، وقال:
ـ أن هذا يصيبني لأني أحشر نفسي فيما لا يخصني. ابتسم الفارو دون أن ينظر إليه، وقال:
ـ لا تهتم أيها الكولونيل. جرب حظك في الحب.
وفجأة قاطع الجميع نفير أبواق. فتفرق اللاعبون وقد رفعوا أيديهم إلى الأعلى. شعر الكولونيل بالصرير الجاف والبارد لأقسام بندقية تتهيأ من ورائه ففهم انه قد وقع وقعة مشئومة في مصيدة للشرطة وهو يحمل المنشور السري في جيبه. دار نصف دورة دون أن يرفع يديه. وعندها رأي بالقرب منه، ولأول مرة في حياته، الرجل الذي أطلق النار على ابنه. كان يقف مقابله وفوهة بندقيته مصوبة نحو بطنه. كان صغيرا، قصير الشعر، ويعبق برائحة طفولية. ضغط الكولونيل على أسنانه وأبعد عنه برفق وبأطراف أصابعه ماسورة البندقية، وقال:
ـ بعد إذنك.
فواجهته عينان صغيرتان ودائريتان كعيني خفاش. وأحسٌّ لبرهة بأن هاتين العينين قد ابتلعتاه. ومضغتاه وهضمتاه، ثم لفظتاه مباشرة:
ـ تفضل بالذهاب أيها الكولونيل.
****
لم يكن بحاجة إلى فتح النافذة ليتأكد من أن كانون الأول 'ديسمبر' قد حل. فقد اكتشف ذلك في عظامه ذاتها عندما كان يقطع الفواكه من أجل إفطار الديك في المطبخ. بعد ذلك فتح الباب ورأي البهو فتأكد إحساسه. كان البهو بديعا، تغطيه الإعشاب والأشجار، أما المرحاض فكان يطفو في الضوء، على ارتفاع ميليمتر عن الأرض.
بقيت زوجته في الفراش حتى الساعة التاسعة. وعندما ظهرت في المطبخ كان زوجها قد انتهي من ترتيب البيت، ووقف يتحدث مع الصبيان عن الديك. واضطرت هي أن تقوم بالالتفاف من حولهم لتصل إلى الموقد. فصرخت بهم:
ـ ابتعدوا من طريقي ثم وجهت نظرة عابسة إلى الديك وقالت:
ـ لا أصدق تلك اللحظة التي سيخرج بها طير الشؤم هذا من البيت.
تفحص الكولونيل، من خلال الديك، مزاج زوجته. فلم يجد في الحيوان شيئا يدعو إلى التهجم. بل رآه مستعدا لبدء التدريب. كان عنق الحيوان وقوائمه وعرفه المخطط قد اتخذت صورة تامة، وزهوا لا يقاوم.
قال لها الكولونيل بعد ذهاب الصبيان:
ـ أطلي من النافذة وانسي الديك. فالمرء يشعر في صباح كهذا برغبة لأخذ صورة.
أطلت هي من النافذة، ولكن وجهها لم يعكس أي تعبير.
ـ 'أرغب بزرع الأزهار' قالت وهي تعود إلى جانب الموقد. علق الكولونيل المرآة على الدعامة ليحلق ذقنه، وقال:
ـ إذا كنت ترغبين بزراعة الأزهار، فازرعها.
ـ حاول أن يتذكر حركاته من خلال حركات صورته المنطبعة في المرآة.
قالت:
ـ ولكن الخنازير ستأكلها!
فقال الكولونيل:
ـ هذا أفضل. إذ لابد أن الخنازير المعلوفة بالأزهار ستكون لذيذة جدا.
تطلع من خلال المرآة إلى المرأة ولاحظ أنها مازالت تحمل نفس التعابير. وعلى بريق النار كان وجهها يبدو وكأنه مصاغ من مادة الموقد. ودون أن ينتبه إلى نفسه، وبينما عيناه معلقتان بزوجته، تابع الكولونيل حلاقة ذقنه باللمس كما فعل طوال سنوات كثيرة. فكرت المرأة خلال صمتها الطويل، ثم قالت:
ـ ولكني لا أريد أن ازرع أزهارا.
فقال الكولونيل:
ـ حسنا إذن لا تزرعيها.
شعر بأنه قد تحسٌن. فقد أذبل كانون الأول 'ديسمبر' مملكة النباتات التي في أحشائه. لقد لاقي صعوبة وهو يحاول لبس الحذاء الجديد هذا الصباح، وبعد أن حاول ذلك عدة مرات تأكد بأن جهده يذهب سدي، فعاد يلبس الجزمة ذات الكعب العالي. ولاحظت زوجته التغيير، فقالت:
ـ إذا أنت لم تلبس الحذاء الجديد فانه لن يتروض على قدميك أبدا.
فقال الكولونيل معترضا:
ـ إنه كأحذية المشلولين. واعتقد بأن على بائعي الأحذية أن يبيعوها بعد شهر من استخدامها.
خرج إلى الشارع يدفعه هاجس بأن الرسالة ستصله هذا المساء. وبما أن موعد المراكب لم يكن قد حان، فانه ذهب لينتظر دون ساباس في مكتبه. ولكنهم أكدوا له بأنه لن يأتي حتى يوم الاثنين. لم ييأس على الرغم من أنه لم يكن يتوقع هذا التغيير في موعد عودته. 'يجب أن يأتي عاجلا أم آجلا' قال لنفسه، ثم اتجه إلى الميناء.
دمدم الكولونيل وهو يجلس في متجر موسي السوري:
ـ السنة بكاملها يجب أن تكون ديسمبر 'كانون الأول'. فالمرء يشعر في هذا الشهر وكأنه مصاغ من بلور.
ولابد أن موسي السوري قد قام بمجهود ذهني كبير ليترجم الفكرة إلى عربيته التي نسيها تقريبا. كان رجلا شرقيا هادئا، مغطي حتى جمجمته ببشرة ناعمة وكأنه ناج من الماء فعلا.
قال:
ـ لقد كانت الأمور هكذا فيما مضي. ولو أن الأمر ما يزال كذلك الآن فان عمري سيكون ثمانمائة وسبعة وتسعون عاما.
ـ وأنت؟
ـ 'سبعة وخمسون' قال الكولونيل، وهو يلاحق موظف البريد بنظره. وعندها فقط اكتشف وجود السيرك. إذ رأي الخيمة المرقطة على سطح مركب البريد بين أكوام من الأغراض الملونة.
وضاعف موظف البريد من مجال رؤيته للحظة وهو يبحث بعينيه عن الوحوش ما بين الصناديق المتراكمة في مركب آخر. ولكنه لم يعثر عليها..
قال:
ـ ثمة سيرك. أنه أول سيرك يأتي منذ عشر سنوات.
تحقق موسي السوري من الخبر. ثم تحدث إلى زوجته بخليط من العربية والأسبانية. وأجابته هي من الغرفة المجاورة للمتجر. وبعدها قال شيئا لنفسه ثم ترجم للكولونيل ما يدور بذهنه:
ـ لابد من إخفاء القط أيها الكولونيل. فقد يسرقه الصبيان ويبيعونه للسيرك.
قال الكولونيل وهو يتهيأ ليلحق بالموظف:
ـ ولكنه ليس سيركا لحيوانات مفترسة.
فرد السوري:
ـ ليس مهما. فالبهلوانات يأكلون القطط كي لا تتحطم عظامهم.
لحق بالموظف بين متاجر الميناء حتى الساحة. وهناك فاجأته الضجة القادمة من ملعب مصارعة الديوك. وقال له أحدهم. وهو يمر. شيئا ما عن الديك. وعندها فقط تذكر بأن اليوم هو اليوم المحدد لبدء التدريب.
مر من أمام مكتب البريد دون اكتراث. وبعد هنيهة كان ينتصب وسط ملعب المصارعة المضطرب. رأي ديكه في حلبة الصراع وحيدا. بلا دفاع، ومخالب أطرافه مربوطة بخرق من القماش ويبدو عليه شيء من الخوف الواضح وسط صخب الساحة. وكان الخصم أمامه ديكا حزينا رمادي اللون..
لم يظهر على الكولونيل أي تأثير. فقد كان السجال بين الديكين بهجمات متكافئة. مرت لحظة سريعة متواصلة اشتبكت فيها القوائم والريش والأعناق وسط الهتاف الصاخب. ثم طار الديك الخصم مصطدما بالحاجز الخشبي وقام بالدوران حول نفسه وعاد للهجوم. أما ديكه فلم يهاجم، وإنما كان يدفع كل هجوم ويعود ليسقط في نفس المكان تماما. ولكن قوائمه لم تعد ترتجف الآن.
قفز خيرمان عن الحاجز الخشبي، ورفع الديك بيديه الاثنتين وعرضه للجمهور الذي على المدرجات. فحدث انفجار مجنون من التصفيق والصراخ. ولاحظ الكولونيل عدم التناسب ما بين حماسة الهتاف وزخم المشهد. وبدا له كل ذلك مجرد مهزلة تشارك بها الديكة بمشيئتها ووعيها.
تفحص الرواق الدائري الذي ينبض، بفضول يخالطه بعض الاحتقار. ثم نزلت مجموعة من الحشد الهائج عن المدرجات نحو الحلبة. ولاحظ الكولونيل. فوضي الوجوه الحارة، والجشعة، والحيوية بشكل رهيب. كانوا أناسا جديدين، جميع أهل القرية الجدد. وعادت لتحيا في مخيلته فجأة كما في نبوءة لحظة ضائعة في أفق ذكرياته. عندها قفز عن الحاجز الخشبي، وشق طريقه بين الحشد المتركز في ميدان المصارعة واصطدم بعيني خيرمان الهادئتين. اللتين تطلعتا إليه دون أن ترمشا.
ـ مساء الخير أيها الكولونيل.
أخذ الكولونيل الديك منه، ودمدم: 'مساء الخير' ولم يقل شيئا آخر، فقد هزه نبض الحيوان العميق والدافىء. وفكر بأنه لم يلمس أبدا في حياته شيئا بهذه الحيوية بين يديه.
قال خيرمان متلعثما:
ـ لم تكن موجودا في البيت.
وقاطعته موجة جديدة من الهتاف. فشعر الكولونيل بالفزع. وعاد يشق طريقه، دون أن ينظر إلى أحد، ذاهلا بتأثير التصفيق والصراخ، وخرج إلى الشارع والديك تحت ذراعه.
القرية كلها الناس الذين تحت خرجوا ليروه، وتبعه أطفال المدرسة. كان ثمة زنجي عملاق يقف فوق طاولة وقد أحاط عنقه بأفعى، يبيع أدوية بلا ترخيص في أحد أركان الساحة. وكانت تلتف حوله ثلة كبيرة ممن كانوا عائدين من المينا. يستمعون إلى مناداته الرتيبة، ولكن عند مرور الكولونيل حاملا الديك اتجه إليه. لم يشعر أبدا بأن طريق البيت كان أطول مما هو عليه اليوم.
كانت القرية ترقد منذ زمن طويل في نوع من السبات، الذي عاشت به عشر سنوات من التاريخ، وفي هذا المساء مساء يوم جمعة آخر دون وصول الرسالة المنتظرة استيقظ الناس. وتذكر الكولونيل حقبة أخرى، فقد رأي نفسه مع زوجته وابنه وهم يجلسون تحت المظلة يشاهدون عرضا لم يتوقف برغم المطر الغزير. وتذكر زعماء حزبه ذوي الشعور المسرحة بدقة، وهم يجلسون في بهو بيته يهوون وجوههم على أنغام الموسيقي.
عبر من خلال الشارع الموازي للنهر، وهناك التقي أيضا بجلبة الحشود كما في أيام الأحد الانتخابية الصاخبة. رأي عملية إنزال السيرك ومعدٌاته إلى البر. ومن داخل أحد المتاجر صرخت امرأة بشيء له علاقة بالديك. استمر في ذهوله حتى البيت، وهو ما يزال يسمع أصوانا متفرقة، وكأن بقايا هتافات ملعب الصراع تلاحقه.
عندما وصل أمام باب البيت، التفت إلى الأطفال قائلا:
ـ ليذهب كل إلى بيته. وإذا ما دخل أحدكم فسأخرجه بالحزام.
أغلق الباب بالرتاج ومضي مباشرة إلى المطبخ. خرجت امرأته من غرفة النوم وهي تشهق، وصرخت:
ـ 'لقد أخذوه بالقوة، قلت لهم أن الديك لن يخرج من هذا البيت مادمت على قيد الحياة'. ربط الكولونيل الديك إلى دعامة الموقد. وأبدل الماء الذي في العلبة، بينما كان لصوت زوجته المحتدم يلاحقه:
ـ قالوا بأنهم سيأخذونه من فوق جثتينا، وقالوا أن الديك ليس لنا وحدنا وإنما هو للقرية كلها.
وعندما انتهي من الديك، التفت الكولونيل ليلتقي بوجه زوجته القلق. واكتشف، دون دهشة، أنها لم تثر فيه أي تأنيب أو شفقة.
ـ 'حسنا فعلوا' قال بهدوء، ثم أضاف، وهو يفتش جيوبه، بلهجة عميقة عذبة:
ـ لن يباع الديك.
تبعته حتى غرفة النوم. وأحست بأنه إنساني تماما، ولكنه لا يمس، وكأنها تراه على شاشة سينما. أخرج الكولونيل من الخزانة رزمة من الأوراق النقدية وجمعها مع تلك التي كانت في جيوبه، ثم عدٌها جميعا وأعادها إلى الخزانة قائلا:
ـ ها هنا تسعة وعشرون بيزو سنعيدها إلى صديقي ساباس. والباقي سأدفعه له عندما يصل الراتب التقاعدي.
ـ وإذا لم يصل الراتب التقاعدي؟. سألته المرأة.
ـ سيصل
ـ ولكن، إذا لم يصل.
ـ عندها لن أدفع له.
عثر على الحذاء الجديد تحت السرير. فرجع إلى الخزانة بحثا عن علبة الحذاء، ثم نعليه بخرقة قماش ووضعه في العلبة، كما كان عندما أحضرته زوجته يوم الأحد ليلا. لم تتحرك من مكانها.
قال الكولونيل:
ـ وسنعيد الحذاء. وهكذا يصبح لدينا ثلاثة عشر بيزو آخر.
ـ لن يقبلوا إعادته.
فرد الكولونيل:
ـ يجب أن يقبلوا. لقد لبسته لمرتين فقط.
ـ ولكن الأتراك لا يفهمون هذه الأمور.
ـ يجب أن يفهموها.
ـ وإذا لم يفهموها؟
ـ عندئذ دعيهم لا يفهمون.
استلقيا للنوم دون طعام. وانتظر الكولونيل ريثما تنتهي زوجته من صلاتها ليطفىء المصباح. سمع أجراس الرقابة السينمائية، وبعدها على الفور بعد ثلاث ساعات سمع إشارة منع التجول.
أصبح تنفس المرأة المتحشرجة محزنا مع هواء الفجر البارد.
كانت عينا الكولونيل ما تزالان مفتوحتين عندما تكلمت هي بصوت استرضائي رصين:
ـ هل أنت مستيقظ؟
ـ أجل
فقالت المرأة:
ـ حاول أن تفكر بالعقل. وتحدث غدا مع الصديق ساباس.
ـ لن يأتي حتى يوم الاثنين.
ـ هذا أفضل. سيكون أمامك ثلاثة أيام للتفكير.
ـ ليس ثمة ما يستدعي التفكير.
كان هواء أكتوبر قد مضي وحلت محله برودة معتدلة. وعاد الكولونيل يشعر بكانون الأول 'ديسمبر' من خلال دقات الساعة التي تطلقها طيور الكروان. وعندما دقت الساعة الثانية. لم يكن قد نام بعد، ولكنه كان يعرف أيضا أن زوجته مازالت مستيقظة أيضا. حاول تغيير وضعيته في السرير.
ـ هل أنت مستيقظ، قالت المرأة:
ـ نعم.
فكرت للحظة، وقالت:
ـ لسنا في وضع يمكننا من فعل هذا. فكر جيدا بما تعنيه أربعمائة بيزو مجتمعة.
ـ بعد وقت قصير سيصلنا الراتب التقاعدي قال الكولونيل.
ـ انك تقول هذا الكلام منذ خمس عشرة سنة.
فقال الكولونيل:
ـ لهذا لا يمكن أن يتأخر الراتب كثيرا.
صمتت. ولكن عندما عادت للحديث، بدا للكولونيل وكأن الزمن لم يمر.
ـ إني أشعر وكأن هذه النقود لن تصل مطلقا قالت المرأة.
ـ ستصل.
ـ وإذا لم تصل.
لم يجد صوتا ليرد عليها. وعند صياح أول ديك في الفجر اصطدم بالواقع، ولكنه عاد ليغطٌ في نوم عميق، دون أي شعور بالندم. وعندما استيقظ، كانت الشمس قد ارتفعت. وكانت زوجته ما تزال نائمة. وكرر الكولونيل، بشكل إلى ومنهجي، حركاته التي يقوم بها كل صباح، ولكنه في هذا اليوم كان متأخرا ساعتين عن الأيام الأخرى، وانتظر زوجته لتناول طعام الإفطار.
استيقظت مكتئبة. تبادلا تحية الصباح وجلسا لتناول الإفطار صامتين. رشف الكولونيل فنجانا من القهوة مع قطعة من الجبن وشريحة من الخبز الحلو. ثم أمضي فترة الصباح بكاملها في دكان الخياط. وفي الساعة الواحدة رجع إلى البيت ووجد زوجته ترقع بعض الملابس وهي جالسة إلى جانب أزهار البيجونيا. قال لها:
ـ لقد حان موعد الغداء.
ـ لا يوجد شيء للغداء ردت المرأة.
هز كتفيه، ثم مضي يعمل على إغلاق الفتحات التي في سور البهو ليمنع الأطفال من الدخول إلى المطبخ. وعندما رجع إلى الممر كانت المائدة قد أعدت.
خلال تناول الغداء شعر الكولونيل بأن زوجته تجهد نفسها كي لا تبكي. وقد أفزعه هذا الشعور . فهو يعرف شخصية امرأته القاسية بطبيعتها، والتي زادت من قسوتها أربعون سنة من المرارة. حتى أن موت ابنها لم يجعلها تذرف دمعة واحدة.
ثبت عينيه التي تحمل نظرة لوم بعينيها مباشرة. فعضت هي على شفتيها، وجففت رموشها بكمها وتابعت تناول الطعام.
ـ انك بلا ضمير.
ولكن الكولونيل لم يقل شيئا.
ـ 'انك متكبر، وعنيد، وبلا ضمير' كررت هي. ثم وضعت أدوات طعامها متقاطعة في الطبق، ولكنها عادت لتعدل وضع الأدوات وتبعدها عن بعضها لاعتقاداتها الخرافية. وقالت: 'لقد أمضيت حياة بكاملها وأنا آكل التراب لأجد نفسي الآن أقل اعتبارا من مجرد ديك'.
ـ ليس الأمر هكذا. قال الكولونيل.
فردت المرأة:
ـ بل هو كذلك. وعليك أن تعرف بأني أموت، وأن هذا الذي يصيبني ليس مرضا وإنما هو الاحتضار.
لم يقل الكولونيل شيئا حتى انتهي من طعامه:
ـ إذا ما ضمن لي الدكتور بأن الربو سيفارقك إذا ما بعت الديك، فاني سأبيعه في الحال، أما بغير هذا فلن أبيعه.
أخذ الديك إلى ملعب المصارعة في هذا المساء. وعندما رجع وجد زوجته على حافة نوبة جديدة. كانت تتمشي على طول الممر، وشعرها مسدل على ظهرها، وذراعاها مفتوحتان وهي تبحث عن الهواء من خلال صفير رئتيها. وبقيت في الممر حتى أول الليل. وبعدها استلقت في فراشها دون أن تقول شيئا لزوجها.
مضغت صلواتها حتى ما بعد منع التجول بقليل، حينئذ أراد الكولونيل إطفاء المصباح. ولكنها منعته قائلة:
ـ لا أريد أن أموت في الظلام.
ترك الكولونيل المصباح على الأرض. وبدأ يشعر بالاستنزاف. كان يرغب لو انه ينسي كل شيء، لو انه ينام أربعة وأربعين يوما دفعة واحدة ليستيقظ يوم العشرين من كانون الثاني 'يناير' في الساعة الثالثة مساء، في ملعب مصارعة الديكة وفي اللحظة التي سيفلت بها الديك تماما، ولكنه أحس بأنه مراقب من زوجته.
قالت بعد هنيهة:
ـ 'أنها نفس القصة دائما. نحصل على الجوع ليأكل الآخرون. أنها نفس القصة تتكرر منذ أربعين سنة'.
احتفظ الكولونيل بصمته إلى أن توقفت زوجته عن الحديث لتسأله ما إذا كان لا يزال مستيقظا. وأجابها بنعم.
فتابعت المرأة حديثها بوتيرة متدفقة، لا تهدأ.
ـ الجميع سيكسبون من الديك، ألا نحن. فنحن الوحيدون الذين لا نملك سنتا واحدا لنراهن به.
ـ لصاحب الديك حق يناله هو عشرون بالمئة.
ردت المرأة:
ـ وكان لك حق أيضا بالحصول على منصب لائق عندما كانوا يمزقون جلدك في الانتخابات . ولك الحق أيضا بالحصول على راتبك التقاعدي كمحارب قديم بعد أن حشرت انفك في الحرب الأهلية. ولكن ها هم الآن يعيشون جميعا حياتهم المأمونة بينما أنت وحيد تماما، تموت جوعا.
ـ لست وحيدا قال الكولونيل.
وحاول أن يشرح لها أمرا، ولكن النعاس غلبه. واستمرت هي تتكلم إلى أن تنبهت لنوم زوجها. عندها خرجت من تحت الكلة وتمشت في الصالة المظلمة. وهناك تابعت الكلام، حتى ناداها الكولونيل في الصباح الباكر.
ظهرت في الباب، كطيف. كان ضوء المصباح الذاوي ينعكس عليها من أسفل، فأطفأته قبل أن تدخل تحت الكلة. ولكنها استمرت في الكلام. فقاطعها الكولونيل:
ـ اقترح أن نعمل شيئا.
ـ الشيء الوحيد الذي نستطيع عمله هو أن نبيع الديك.
ـ يمكننا أيضا أن نبيع الساعة.
ـ لن يشتريها أحد.
ـ سأحاول غدا أن اجعل ألفارو يدفع لي أربعين بيزو ثمنا لها.
ـ لن يدفع لك شيئا.
عندما عادت المرأة لتتكلم هذه المرة كانت قد خرجت من جديد من تحت الكلة. وأحس الكولونيل بأنفاسها المضمخة بروائح الإعشاب الطبية.
ـ لن يشتريها أحد.
فرد الكولونيل برقة، ودون أي أثر للخداع في صوته:
ـ سنري ذلك. نامي الآن، وإذا لم نستطع أن نبيع شيئا في الغد فإننا سنفكر بوسيلة أخرى.
حاول الاحتفاظ بعينيه مفتوحتين، ولكن النعاس غلبه وسقط في أعماق هلام بلازمان ولا مكان، حيث أصبح لكلام زوجته معني مختلف. ولكنه أحس، بعد برهة، بأن هناك من يهز كتفه.
ـ اجبني.
لم يعرف الكولونيل إذا ما سمع هذه الكلمة وهو نائم أم بعد استيقاظه. كان الفجر قد بدأ بالبزوغ. ومن النافذة كان يبدو النور الأخضر ليوم الأحد. وفكر بأنه مصاب بحمي، فقد كانت عيناه ملتهبتين، وكلفته استعادة الرؤية عناء كبيرا.
ـ ماذا نستطيع أن نفعل إذا لم نتمكن من بيع شيء كررت المرأة.
فأجابها الكولونيل وقد صحا تماما:
ـ عندها يكون يوم العشرين من كانون الثاني 'يناير' قد اتى. ويومها سيدفعون لنا عشرين بالمئة من قيمة المراهنات.
فقالت المرأة:
ـ هذا إذا كسب الديك. ولكن إذا ما خسر.. ألم يخطر ببالك أن الديك قد يخسر.
ـ انه ديك لا يمكن أن يخسر.
ـ ولكن افترض انه خسر.
ـ مازال أمامنا خمسة وأربعون يوما لنبدأ التفكير بهذه الأمور.
سيطر اليأس على المرأة، فسألته:
ـ 'حتى ذلك الحين، ماذا سنأكل' ثم جذبت الكولونيل من عنق قميصه الداخلي، وهزته بقوة.
ـ قل لي، ماذا سنأكل؟
لقد احتاج الكولونيل لخمس وتسعين سنة الخمس وتسعين سنة التي عاشها، دقيقة دقيقة، ليصل إلى هذه اللحظة، فأحس بالنقاء، الوضوح، وبأنه لا يقهر في اللحظة التي رد بها ـ خراء

ترجمها عن الأسبانية : صالح علماني
ودققها : سعيد حورانية




ΜāŘāΜ ~ Ś غير متواجد حالياً  
التوقيع


.. يااا حضن أمي .. ماأقسى رحيل الأمهات ..
رد مع اقتباس
قديم 14-10-08, 07:48 PM   #3

ΜāŘāΜ ~ Ś

نجم روايتي

 
الصورة الرمزية ΜāŘāΜ ~ Ś

? العضوٌ??? » 134
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 17,112
?  نُقآطِيْ » ΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond repute
افتراضي

القـصة الثالثة


رجل عجوز بجناحين كبيرين



بعد اليوم الثالث للمطر كانوا قد قتلوا الكثير جداً من السرطانات داخل البيت مما اضطر بيلايو أن يعبر باحته الموحلة ليرميها في البحر، ذلك لأن الوليدة الجديدة قد أصيبت بالحمى طوال الليل واعتقدوا أن ذلك بسبب الرائحة النتنة.
العالم حزيناً منذ الثلاثاء. صار البحر والسماء قطعة واحدة من الرماد ورمال الشاطئ التي تلمع في ليالي آذار مثل ضوء مطحون، وقد أمست مزيجاً من الطين والمحار. وهن الضوء جداً في وقت الظهيرة حتى أن بيلايو عندما عاد إلى بيته بعد أن رمى السرطانات، كان من الصعب عليه أن يرى ذلك الذي يتحرك ويئن في آخر الباحة. تحتم عليه أن يقترب جداً ليرى أنه رجل عجوز، عجوز جداً، منكب على وجهه في الطين، وهو على الرغم من كل الجهود المضنية التي يبذلها، لا يستطيع النهوض، إذ أن جناحين هائلين كانا يعيقانه. أرعبه هذا الكابوس فهرع ليأتي بأليسندا زوجته، التي تضع الكمادات على الطفلة المريضة، وأخذها إلى آخر الباحة.
نظرا إلى الجسد الملقى بذهول أخرس. كان يرتدى أسمال جامعي الخرق. لم تكن هناك سوى بضعة شعيرات على صلعته وبضعة اسنان في فمه، وحالته المثيرة للشفقة لجد كبير واقع في الوحل أزالت أي شعور بالمهابة كان من الممكن أن يحمله. جناحاه الصقريان الضخمان، الوسخان والنصف منتوفان، عالقان أبداً في الطين. كان بيلايو وأليساندا قد نظرا إليه طويلاً وعن قرب حتى تغلبا على ذهولهما فوجداه في الأخير أليفاً. ثم تجرأا للكلام معه وأجابهما بصوت قوي غير مفهوم لبحار. هكذا تخطيا غرابة الجناحين واستخلصا بذكاء أنه قد قذف بمفرده من سفينة أجنبية غارقة بفعل عاصفة. ولذلك استدعيا جارتهما، التي كانت تعرف كل شيء عن الحياة والموت، لتراه. كلما كانت تحتاج إليه هي نظرة واحدة لتبين لهما خطأهما.
قالت لهما،"إنه ملاك. لابد أنه قد جاء من أجل الطفلة، لكن المسكين هرم جداً مما جعل المطر يطيح به."
في اليوم التالي عرف الجميع قد أن ملاكاً بدمه ولحمه قد وقع أسيراً في منزل بيلايو. وإزاء الرأي الحكيم الذي طرحته الجارة، التي كانت ترى أن الملائكة في تلك الأزمنة لاجئون انقذوا من مؤامرة روحية، لم تطاوعهم قلوبهم على ضربه بالهراوات حتى الموت. كان بيلايو يراقبه طوال وقت العصر من نافذة المطبخ، متسلحاً بهراوته البوليسية، وقبل أن يأوي إلى فراشه أخرجه من الطين وحشره في القن مع الدجاجات. وعند منتصف الليل، عندما توقف المطر، كان بيلايو وأليساندا لايزالان يقتلان السرطانات. بعد ذلك بوقت قصير أفاقت الطفلة من الحمى وصارت لديها رغبة في تناول الطعام. فشعرا بشهامة دفعتهما إلى أن يقررا أن يضعا الملاك على طوف مع ماء عذب وزوادة لثلاثة أيام ويتركانه لمصيره في أعالي البحار. لكنهما حين ذهبا إلى الباحة مع ظهور أول خيط للفجر، شاهدا أن الجيران كلهم هناك أمام قن الدجاج ويتسلون بالملاك، ومن دونما وازع، يرمونه عبر الفتحات بمختلف الأشياء ليأكلها كأنه لم يكن كائناً سماوياً بل مجرد حيوان سيرك.
وصل الأب غونزاكا قبل السابعة، بعد أن ذعرته الأخبار الغريبة. خلال ذلك الوقت كان قد وصل متفرجون أقل طيشاً من أولئك الذين جاؤوا مع الفجر وكانوا يقومون بكل انواع الحدوس التي تتعلق بمستقبل الأسير. وأبسطها فكرة أن من الأحرى تعيينه عمدة للعالم. آخرون من امتلكوا عقلاً صارماً شعروا أنه من الأحرى أن يرقى مرتبة جنرال بخمس نجوم من أجل كسب جميع الحروب. البعض من الحالمين تأملوا أنه من الممكن أن يوضع للاستيلاد من أجل أن تنتشر في الأرض سلالة من البشر المجنحين الحكماء الذين من الممكن أن يتولوا مسؤولية الكون. لكن الأب قبل أن يكون كاهناً، كان يعمل في تقطيع الأخشاب. فراجع ثقافته الشفاهية بلحظة وطلب منهم فتح الباب كي يلقي نظرة فاحصة على ذلك الرجل المسكين الذي كان يبدو أشبه بدجاجة ضخمة عاجزة بين الدجاجات الرائعات. كان يضطجع في الزاوية يجفف جناحيه المفتوحين تحت ضوء الشمس بين قشور الفواكه وبقايا طعام الإفطار التي رماها عليه من جاؤوه مبكرا. وعندما دخل الأب غونزاكا القن وقال له صباح الخير باللاتينية. وشعر بالغربة إزاء وقاحة العالم فلم يستطع الملاك إلا أن يرفع عينيه الأثريتين ويتمتم بشيء ما بلغته الخاصة. عندما لم يفهم لغة الرب ولم يعرف كيف يحيي كهنته صار لدى كاهن الإبرشية شك بأن هذا دجال لا غير. وعندما اقترب منه لاحظ أنه اقرب إلى البشر؛ فلديه رائحة مشردين لا تطاق، الجانب الخلفي من جناحيه قد اكتسى بالطفيليات كما أن الريش الكبيرة قد عبثت بها الريح، وليس ثمة شيء يمكن أن يحيله إلى كرامة وفخر الملائكة. ثم خرج من قن الدجاج وبموعظة موجزة حذر من المتطفلين ومن خطر كونه مخلصاً. وذكرهم أن الشيطان كانت له تلك العادة السيئة في استعمال خدع الكرنفال من أجل إيهام الغافلين. وكانت حجته أنه إذا كانت الأجنحة هي العنصر الأساسي في الأقرار بالاختلاف بين الصقر والطائرة، فهي اقل من ذلك أهمية لدى التعرف على الملائكة. لكنه رغم ذلك قد وعد بأن يكتب رسالة إلى اسقفه كي يكتب الأخير رسالة إلى كبير أساقفته الذي بدوره سيكتب إلى الحبر الأعظم لغرض الحصول على الحكم الأخير من أعلى السلطات.
لقد وقعت حكمته على قلوب عقيمة. وانتشرت أخبار الملاك الأسير بسرعة هائلة حتى أن الباحة قد امتلأت بعد سويعات بضجة كضجة السوق وتحتم عليهم أن يطلبوا النجدة من قوات يحملون حراب مشرعة لتفريق جمهور الغوغاء الذين أوشكوا أن يطيحوا بالبيت. وكان ظهر أليسندا قد انقصم من تنظيف نفايات ذلك السوق، حتى تولدت لديها فكرة وضع سياج للباحة وطلب خمس سنتات رسم دخول لمشاهدة الملاك.
وجاء حب الاستطلاع من مكان بعيد. إذ وصل كرنفال من الرحالة ومعهم بهلوان طائر كان يئز فوق الجمهور المزدحم مرة إثر مرة من دون أن ينتبه إليه أحد لأن جناحيه لم يكونا لملاك بل، بالأحرى، لخفاش نجمي. وحضر أغلب التعساء من المرضى الباحثين عن الشفاء؛ إمرأة مسكينة تحصي دقات قلبها وقد نفدت الأرقام لديها؛ رجل برتغالي لم يستطع النوم لأن ضوضاء النجوم تقلق راحته؛ سائر في نومه نهض في الليل وألغى كل ما عمله عندما كان في اليقظة، والكثير ممن لديهم مصائب أقل جدية. في خضم تلك الفوضى التي جاءت من السفينة الغارقة، كان بيلايو وأليسندا سعيدان ومرهقان، لأنهما في أقل من أسبوع امتلأت غرفهما بالأموال ولا يزال هنالك طابور جد طويل للحجاج ينتظر دوره للدخول يصل مداه إلى ما بعد الأفق.
كان الملاك هو الوحيد الذي لم يشترك في مشهده. فقضى وقته محاولاً أن يستريح في عشه المستعار، مربكاً من الحرارة الجحيمية لمصابيح الزيت وشموع السر المقدس التي وضعت بمحاذاة أسلاك القن. حاولوا في البداية أن يجعلوه يأكل كرات العث، الطعام الذي يوصف للملائكة تبعاً إلى توصية الجارة الحكيمة. لكنه رفضها كما رفض وجبات الطعام البابوية التي جلبها له المرضى، ولم يعرفوا أن رفضه قد جاء بسبب أنه كان ملاكاً أو بسبب أنه رجل عجوز. ولم يأكل في الأخير غير الباذنجان المهروس. كانت ميزته الخارقة للطبيعة الوحيدة هي الصبر. خصوصاً في الأيام الأولى، عندما نقرته الدجاجات بحثاً عن الطفيليات المفضلة لديها والتي تتكاثر في جناحيه وكان المشلولون ينزعون عنه الريش ليضعوه على أعضائهم المصابة، وحتى أكثرهم عطفاً عليه كانوا يرجمونه بالأحجار محاولين إيقافه لينظروا إليه وهو منتصبا. والمرة الوحيدة التي نجحوا في إيقافه عندما حرقوا جنبه بسيخ لوسم الثيران المخصية، لأنه كان جامداً لساعات طويلة حتى ظنوا أنه ميت. نهض مذعوراً زاعقاً بلغته السحرية تتساقط الدموع من عينيه ونفض جناحيه عدة مرات مما اثار زوبعة من غبار ذروق الدجاج ونوبة ذعر بدت آتية من عالم غير هذا العالم. ورغم أن الكثيرين ظنوا ان رد الفعل هذا لم يأت من الغضب بل من الألم، صاروا حذرين في أن لا يزعجونه، لأنهم أدركوا أن سلبيته لم تتأت من انه يريد أن يستريح بل هو هدوء العاصفة. كان الأب غونزاكا يرد الجموع المندفعة بكلمات مستوحات من الخادمة بينما كان في انتظار وصول الحكم النهائي بشأن طبيعة الأسير. ولكن بريد روما لم تبد عليه العجلة. فالوقت في معرفة إذا كان الاسير له سرة، أو إن كانت لغته لها علاقة بالآرامية، وكم مرة يمكنه أن يثبت رأس الدبوس، أو فيما إذا لم يكن غير نرويجي له أجنحة. هذه الرسائل الهزيلة لربما تستمر في أن تأتي وتذهب إلى آخر الزمان لو لم تضع العناية الألهية نهاية للمصائب التي على رأس الكاهن.
وحدث في تلك الأيام، أن من بين كرنفالات الجذب، وصل المدينة عرض لرحالة ظهرت فيه المرأة التي انقلبت إلى عنكبوت لأنها لم تطع والديها. كان الرسم الذي يدفع لرؤيتها ليس أقل مما يدفع لرؤية الملاك فحسب، بل سمح للناس أن يسألوها كل أنواع الأسئلة حول حالتها المزرية ويتفحصونها من كل جوانبها حتى لايشك أحد بحقيقة رعبها. كانت عبارة عن عنكبوت ضخم بحجم الكبش ولها رأس فتاة حزينة. وما كان يمزق القلب هو ليس شكلها الغريب بل الألم الصادق المنبعث من روايتها لتفاصيل حظها العاثر. فعلى الرغم من أنها كانت لاتزال طفلة تسللت من منزل والديها لتذهب للرقص، وأثناء عودتها عبر الغابات بعد أن قضت الليل بطوله ترقص من دون السماح لها بذلك، صعق رعد السماء وفلقها وعبر ذلك الانفلاق جاء صاعق برقي كبريتي وحولها إلى عنكبوت. كان غذاؤها الوحيد هو من الكرات اللحمية التي يتصدق بها المحسنون ويدفعونها في فمها. مشهد مثل هذا، مليء بالحقيقة البشرية وبدرس مروع، كان على وشك أن يقضي على مشهد ملاك متعجرف نادراً ما كان يتلطف بالنظر إلى الناس. فضلاً عن ذلك ثمة بضعة معجزات أوعزت إلى الملاك توضح اختلاله العقلي، مثل الرجل الأعمى الذي لم يشفه بل زرع له ثلاثة اسنان جديدة، والمشلول الذي لم يتمكن من السير بل كاد يربح اليانصيب، والمجذوم الذي نبتت في تقرحاته زهور عباد الشمس. عزاء المعجزات هذا، الذي كان أشبه بالسخرية، كان قد حطم سمعة الملاك التي سحقت تماماً في الأخير مع مجيء المرأة التي تحولت إلى عنكبوت. وهكذا شفي الأب غونزاكا تماماً من أرقه وخلت باحة دار بيلايو مثلما كانت خالية عندما أمطرت السماء لثلاثة أيام ودخلت السرطانات إلى غرف النوم.
لم يكن ثمة من داع لإلقاء اللوم على صاحبي المنزل. فقد بنيا بالمال الذي حصلا عليه بيتا بطابقين وله شرفات وحدائق وشبكة عالية تمنع السرطانات من النزول داخل البيت عند الشتاء، ووضعا قضباناً حديدية تمنع الملائكة من الدخول. وعمل بيلايو مزرعة أرانب قرب المدينة وتخلى عن عمل وكيل مزرعة إلى الأبد، واشترت أليسندا أحذية ساتانية فاخرة بكعب عال والكثير من الثياب القزحية الحريرية، التي ترتدى في تلك الأيام من قبل اغلب النساء في يوم الأحد. كان قن الدجاج هو الوحيد الذي لم ينتبهوا إليه. وإن كانوا يغسلونه بالكريولين وقطرات من الصمغ الراتينجي بين الحين والحين. لكن ذلك ليس إجلالاً للملاك بل لإبعاد رائحة الروث التي لاتزال عالقة في كل مكان كالشبح وتحيل البيت الجديد إلى بيت قديم. وعندما تعلمت الطفلة المشي لأول مرة حرصا على أن لا تقترب من قن الدجاج. لكنهما فيما بعد أبعدا مخاوفهما وألفا الرائحة، وقبل أن يظهر السن الثاني لطفلتهما كانت قد ذهبت لتلعب قرب قن الدجاج حيث تداعى الجدار السلكي للقن. كان الملاك فاتراً معها مثلما كان مع باقي الكائنات، لكنه تحمل أبشع سلوك بريء بصبر كلب لا أوهام لديه. وأصيبا كلاهما بجدري الدجاج. الطبيب الذي جاء لمعلجة الطفلة لم يستطع مقاومة أغراء الاستماع إلى قلب الملاك، ووجد صوت صفير في القلب وسمع الكثير من الأصوات في كليتيه حتى بدا للطبيب أن من الاستحالة أن يكون حيا. الشيء الأغرب هو منطق جناحيه. لقد كانا يبدوان طبيعيين على ذلك الجسم البشري حتى أنه استغرب لماذا لا يملك البشر الآخرون مثلهما.
عندما بدأت الطفلة بالذهاب إلى المدرسة كان قد مر بعض الوقت الذي هدمت فيه الشمس والأمطار قن الدجاج. وظل الملاك يجر نفسه هنا وهناك مثل رجل ضال يلفظ أنفاسه الأخيرة. كانوا يطردونه من غرفة النوم بالمكنسة فيجدونه قد ذهب إلى المطبخ. حتى ظهر لهم أنه موجود في عدة أماكن في اللحظة نفسها وظنوا أنه صار أكثر من واحد، كأنه يولد من نفسه آخرين ينتشرون داخل البيت، مما جعل أليسندا الساخطة والمشوشة أن تصرخ أن هذه حياة بائسة في جحيم مليء بالملائكة. كان نادراً ما يأكل وأمست عيناه الأثريتين مضببتين أدت به إلى أن يصطدم بالأعمدة.
كل ما بقي له هي الإبر المجردة لآخر ريشات له. رمى عليه بيلايو بطانية وتفضل عليه أيضاً بالسماح له بالمنام في السقيفة ولاحظوا عندذاك أن حرارته قد ارتفعت في الليل وبدأ بالهذيان ملتوي اللسان مثل عجوز نرويجي. وكانت تلك هي من المرات القليلة التي يشعرون فيها بالخطر، لاعتقادهم أنه سوف يموت ولن تستطيع حتى جارتهم الحكيمة أن تنصحهم بما يجب أن يعملونه بملاك ميت.
ولكنه لم يعش طوال الشتاء فحسب بل بدا أنه تحسن مع الأيام المشمسة الأولى. وبقي دون حراك لعدة أيام في ابعد زاوية من الباحة، حيث لا أحد يراه، ومع بواكير كانون الثاني نبتت له بعض الريش الكبيرة الصلبة، ريش فزاعة، هي اشبه بعجز مأساوي آخر. ولكن لابد أنه كان يعلم سبب تلك التغيرات، لأنه كان حريصاً جداً على أن لا يلاحظه أحد ، ولا أحد يسمع الأناشيد البحرية التي كان يغنيها أحياناً تحت النجوم. وفي احد الأيام عندما كانت أليسندا تقطع البصل للغداء دخلت إلى المطبخ ريح بدت كأنها آتية من أعالي البحار. ثم أطلت من النافذة ورأت الملاك وهو في أولى محاولاته للطيران. كانت غير متقنة لدرجة أن أظافره قد فتحت حفرة في البقعة الخضراء وكان على وشك أن يطيح بالسقيفة برفرفته الخرقاءالمنفلتة في الضياء والتي لم توفق في قبض الهواء. ولكنه تمكن من تحقيق بعض العلو. وأطلقت اليسندا تنهيدة راحة، من أجل نفسها ومن أجله، عندما راقبته يمر من فوق أخر المنازل، رافعاً نفسه على نحو ما برفرفة مجازفة كأنها لنسر عجوز. ظلت تراقبه وهي لاتزال تقطع البصل واستمرت تراقبه حتى حين لم يعد
بإمكانها رؤيته، لأنه عند ذاك لم يعد يمثل أي قلق لحياتها بل مجرد نقطة خيالية في أفق البحر.

ترجمة : سهيل نجم




ΜāŘāΜ ~ Ś غير متواجد حالياً  
التوقيع


.. يااا حضن أمي .. ماأقسى رحيل الأمهات ..
رد مع اقتباس
قديم 14-10-08, 07:51 PM   #4

ΜāŘāΜ ~ Ś

نجم روايتي

 
الصورة الرمزية ΜāŘāΜ ~ Ś

? العضوٌ??? » 134
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 17,112
?  نُقآطِيْ » ΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond repute
افتراضي

القصة الرابعه


أجمل غريق في العالم



ظنّه الأطفال لمّا رأوه ، أول مرة ، أنه سفينة من سفن الأعداء. كان مثلَ رعنٍ أسود في البحرِ يقترب منهم شيئا فشيئا. لاحظ الصبيةُ أنه لا يحمل راية ولا صاريًا فظنوا حينئذٍ أنه حوتٌ كبير، ولكن حين وصل إلى ترابِ الشاطيء وحوّلوا عنه طحالبَ السرجسِ و أليافَ المدوز و الأسماكَ التّي كانت تغطيهِ تبيّن لهم أنّه غريق. شرعَ الصبيةُ يلعبون بتلك الجثة يوارونها في الترابِ حينًا ويخرجونها حينًا حتّى إذا مرّ عليهم رجلٌ ورأى ما يفعلون نَهَرهم وسعى إلي القريةِ ينبه أهلها بما حدث. أحسّ الرجالُ الذين حملوا الميّتَ إلى أول بيتٍ في القرية أنه أثقل من الموتى الآخرين ، أحسّوا كأنهم يحملون جثّةَ حصانٍ وقالوا في ذات أنفسهم :
"ربما نتج ذلك عن بقاء الغريق فترة طويلة تحت البحرِ فدخل الماءُ حتى نخاع عظامه." عندما طرح الرجالُ الجثةَ على الأرضِ وجدوا أنّها أطولُ من قامة كلّ الرجال ، كان رأس الميتِ ملتصقًا بجدار الغرفة فيما اقتربت قدماه من الجدارِ المقابلِ ، وتساءل أحد الرجال عمّا لو كان ذلك ناتجًا عن أن بعض الغرقى تطول قاماتُهم بعد الموت. كان الميتُ يحمل رائحةَ البحر ، وكانت تغطيه طبقةٌ من الطين و الأسماك. لم يكن من الضرورة تنظيف الوجه ليعرف الرجال أن الغريق ليس من قريتِهم ، فقريتهم صغيرة لا تحوي سوى عشرين من البيوت الخشبية الصغيرة ، و كانت القرية نادرةَ التربة مما جعل النسوة يخشين أن تحمل الريحُ الأطفال ومنع ذلك الرجالَ من زرع ِ الأزهار ، أمّا الموتى فكانوا نادرين لم يجد لهم الأحياءُ مكانًا لدفنهم فكانوا يلقون بهم من أعلى الجرف..
كان بحرُهم لطيفًا ، هادئًا و كريمًا يأكلون منه. لم يكن رجالُ القرية بكثيرين حيث كانت القوارب السبعةُ التي في حوزتهم تكفي لحملهم جميعًا ، لذلك كفى أن ينظروا إلى أنفسهم ليعلموا أنه لا ينقص منهم أحد.. في مساءِ ذلك اليوم لم يخرج الرجال للصيدِ في البحر. ذهبوا جميعًا يبحثون في القرى القريبة عن المفقودين فيما بقتِ النسوة في القريةِ للعناية بالغريق ...أخذن يمسحن الوحلَ عن جسده بالألياف ويمسحن عن شعره الطحالب البحرية ويقشّرن ما لصق بجلده بالسكاكين..
لاحظت النسوة أن الطحالب التي كانت تغطي الجثة تنتمي إلي فصيلة تعيش في أعماقِ المحيطِ البعيدة ، كانت ملابسه ممزقة وكأنه كان يسبح في متاهةٍ من المرجان. ولاحظت النسوة أيضا أن الغريقَ كان قد قابل مَلَكي الموتِ في فخرٍ و اعتزاز فوجهه لا يحمل وحشةَ غرقى البحرِ ولا بؤس غرقى الأنهار. وعندما انتهت النسوة من تنظيف الميّت وإعداده انقطعت أنفاسهن ، فهن لم يرين من قبل رجلاً في مثل هذا الجمال و الهيبة..
لم تجد نساء القرية للجثة ، بسبب الطولِ المفرطِ ، سريرًا ولا طاولة قادرة على حملها أثناء الليل. لم تدخل رِجْلا الميتِ في أكبرِ السراويل و لا جسدُه في أكبرِ القمصان ، ولم تجد النسوة للميّت حذاءً يغطي قدميه بعد أن جربوا أكبر الأحذية. فقدت النسوة ألبابَهن أمام هذا الجسدِ الهائلِ فشرعن في تفصيل سروالا من قماشِ الأشرعة و كذلك قميصًا من "الأورغندي" الشفاف فذلك يليق بميّتٍ في مثل هذه الهيبة و الجمال.. جلست النسوة حول الغريق في شكلِ دائرةٍ بين أصابع كل واحدةٍ منهن إبرة وأخذت في خياطة الملابس ، كن ينظرن بإعجاب إلى الجثة بين الحين و الحين؛ بدا لهن أنه لم يسبق للريح ِ أن عصفت في مثل هذه الشدة من قبل ولا لبحر "الكاراييب" أن كان مضطربًا مثل ذلك المساء. قالت إحداهن " أن لذلك علاقة بالميّت" ، وقالت أخرى " لو عاش هذا الرجل في قريتنا لاشك أنه بنى أكبر البيوت وأكثرهن متانة ، لاشك أنه بنى بيتًا بأبواب واسعة وسقفٍ عالٍ وأرضيةٍ صلبة ولاشك أنه صنع لنفسه سريرًا من الحديد و الفولاذ ، لو كان صيادًا فلاشك أنه يكفيه أن ينادى الأسماك بأسمائها لتأتى إليه. ، لاشك أنه عمل بقوة لحفر بئرٍ ولأخرج من الصخور ماءً ولنجح في إنبات الزهر على الأجراف".. أخذت كل واحدة منهن تقارنه بزوجها ، كان ذلك فرصة ثمينة للشكوى والقول أن أزواجهن من أكبر المساكين..
دخلت النسوة في متاهات الخيال. قالت أكبرهن:" للميّت وجه أحد يمكن أن يسمّى إستبان". كان هذا صحيحًا..كفي للأخريات أن ينظرن إليه لفهم أنه لا يمكن أن يحمل اسمًا آخر ، أمّا الأكثر عنادًا والأكثر شبابا فقد واصلت أوهامها بأن غريقًا ممدّدًا بجانب الأزهار وذا حذاء لامع لايمكن إلا أن يحمل اسمًا رومنطقيًا مثل "لوتارو". في الواقع ما قالته أكبرهن كان صحيحًا فلقد كان شكل الميت بلباسه مزريًا حيث كان السروال غير جيد التفصيل فظهر قصيرًا و ضيقًا ، حيث لم تحسن النسوة القياس وكانت الأزرار قد تقطعت وكأن قلب الميت قد عاد للخفقان بقوة..
بعد منتصف الليل هدأت الريحُ ، وسكت البحرُ ، وساد الصمتُ كل شيء . أتفقت النسوة عندها أن الغريق قد يحمل بالفعل اسم إستبان ، ولم تسُدْ الحسرة أية واحدة منهن: اللاتي ألبسن الميّتَ واللاتي سرحن شعره واللاتي قطعن أظافره وغسلن لحيته. لم تشعر واحدة منهن بالندم عندما تركن الجثة ممدّدة على الأرض ، وعندما ذهبت كل واحدة إلى بيتها فكرن كم كان الغريق مسكينًا وكم ظلت مشكلات كبر حجمه تطارده حتى بعد الموت ، لاشك أنه كان ينحني في كل مرة يدخل فيها عبر الأبواب .. لاشك أنه كان يبقي واقفا عند كل زيارة ، هكذا كالغبي، قبل أن تجد ربة البيت له كرسيا يتحمله...ولاشك أن ربةَ البيتِ كانت تتضرع للربّ في كل مرة ألا يتهشم الكرسي. وكان في كل مرة يرد عليها إستبان في ابتسامةٍ تعكس شعوره بالرضا لبقائه واقفا ..لاشك أنه ملّ من تكرر مثل هذه الأحداث ، ولاشك أيضا أن الناس كانوا يقولون له "ابق وأشرب القهوة معنا" ثم بعد أن يذهب معتذرا يتهامسون: "حمدا لله لقد ذهب هذا الأبله". هذا ما فكرت فيه النسوة فيما بعد عطفًا على الغريق..
في الفجر، غطت النسوة وجه الميّت خوفًا عليه من أشعة الشمسِ عندما رأين الضعف على وجهه. لقد رأين الغريق ضعيفًا مثل أزواجهن فسقطت أدمع من أعينهن رأفة ورحمة ، وشرعت أصغرهن في النواح فزاد الإحساس بأن الغريق يشبه إستبان أكثر فأكثر..
وزاد البكاء حتى أصبح الغريق أكبر المساكين على وجه الأرض.. عندما عاد الرجال بعد أن تأكدوا من أن الغريق ليس من القرى المجاورة امتزجت السعادة بالدموع على وجوه النسوة. قالت النسوة: "الحمد لله ، ليس الميت من القرى المجاورة إذا فهو لنا!".. أعتقد الرجال أن ذلك مجرد رياء من طرف النسوة ، لقد أنهكهم التعب وكان كل همّهم هو التخلص من هذا الدخيل قبل أن تقسو الشمس وقبل أن تشعل الريح نارها. أعدّ الرجال نقالة من بقايا شراع وبعض الأعشاب التي كانوا قد ثبّتوها بألياف البحر لتتحمّل ثقل الغريق حتى الجرف وأرادوا أن يلفّوا حول رِجلي الجثّة مرساة لتنزل دون عائق إلى الأعماق حيث الأسماك العمياء وحيث يموت الغواصون بالنشوة ، لفوا المرساة حتى لا تتمكن التيارات الضالة من العودة به إلى سطح البحر مثلما حدث مع بعض الموتى الآخرين. ولكن كلّما تعجّل الرجال فيما يبغون كلّما وجدت النسوة وسيلة لضياع الوقت حيث تكاثر الزحام حول الجثة ؛ بعض من النسوة يحاول أن يلبس الميّت "الكتفيّة" حول كتفه اليمين لجلب الحظ حاول بعضٌ آخر أن يضع بوصلة حول رسغه الأيسر، وبعد صراع لغويّ وجسديّ رهيب بين النسوة شرع الرجال ينهرون ويصرخون :" مالهذه الوشايات والفوضى، ماذا تعلقن؟ ألا تعلمن أن أسماك القرش تنتظر الجثّة بفارغ الصبر؟ ما هذه الفوضى، أليس هذا إلا جثّة؟"..
بعدها رفعت امرأة الغطاء عن وجه الميّت فانقطعت أنفاس الرجال دهشة: "إنه إستبان!" لا داعي لتكرار ذلك لقد تعرفوا عليه. من يكون غيره، هل يظن أحد أن الغريق يمكن أن يكون السير والتر روليك على سبيل المثال؟ لو كان ذلك ممكنا فلاشك أنهم سيتخيلون لكنته الأمريكية وسيتخيلون ببغاء فوق كتفه وبندقية قديمة بين يديه يطلق بها النار على أكلة البشر..
لكن الجثة التي أمامهم غير ذلك، إنها من نوع فريد! إنه إستبان يمتد أمامهم مثل سمكةِ السردين حافي القدمين مرتديًا سروال طفلٍ رضيع ، ثم هذه الأظافر التي لا تُقطع إلا بسكين. بدا الخجل على وجه الغريق ، ما ذنبه المسكين إذا كان طويلاً وثقيلاً وعلى هذا القدر من الجمال؟ لاشك أنه اختار مكانًا آخر للغرق لو عرف ما كان في انتظاره. قال أحد الرجال: "لو كنت محله لربطت عنقي بمرساة قبل أن اقفز من الجرف.. لا شك أنني سأكون قد خلصتكم من كل هذه المتاعب ومن جثتي المزعجة هذه."
أعد سكان القرية أكبر جنازة يمكن تخيلها لغريقٍ دون هوية. رجعت بعض النسوة اللاتي كن قد ذهبن لإحضار الزهور من القرى المجاورة برفقة أخريات للتأكد من صحة ما سمعن.
عندما تأكدت نساء القرى المجاورة من شكل الغريق ذهبن لإحضار زهور أخرى ورفيقات أخريات حتى ازدحم المكان بالزهور وبالنساء.. في اللحظات الأخيرة تألّم سكانُ القرية من إرسال الغريق إلي البحر مثل اليتيم فاختاروا له أمًا وأبًا من بين خيرتهم وسرعان ما أعلن آخرون أنهم أخوته وآخرون أنهم أعمامه حتى تحول كل سكّان القرية إلى أقارب ، وبينما كان الناس يتنافسون في نقل الجثمان فوق أكتافهم عبر المنحدر العسير المؤدّي إلى الجرف لاحظ سكان القرية ضيق شوارعهم وجفاف أرضهم ودناءة أفكارهم مقارنة بجمالِ هذا الغريق. ألقى الرجال بالجثة عبر الجرف دون مرساة لكي تعود إليهم كيفما تشاء ومسكوا أنفاسهم في تلك اللحظة التي نزل فيها الميت إلى الأعماق ، أحسوا أنهم فقدوا أحد سكّان قريتهم وعرفوا، منذ تلك اللحظة، أن ثمة أشياء كثيرة لابد أن تتغير في قريتهم..
عرفوا أن بيوتهم تحتاج إلى أبواب عالية وأسقف أكثر صلابة ليتمكن شبح إستبان من التجول في القرية ومن دخول بيوتها دون أن تضرب جبهته أعمدة السقف ودون أن يوشوش أحد قائلاً لقد مات الأبله..
منذ ذلك اليوم قرر سكّان القرية دهن بيوتهم بألوان زاهية احترامًا لذكرى إستبان.. سوف ينهكون ظهورهم في حفر الآبار في الصخور وفي زرع الأزهار عبر الأجراف لكي يستيقظ بحارةُ السفنِ المارةِ في فجرِ السنواتِ القادمةِ علي رائحةِ الحدائق ولكي يضطر القبطان للنزول من أعلى السفينةِ حاملاً اسطرلابه ونجمتَه القطبية و يقول مشيرًا إلي الجبلِ الذي ينشر زهورَه الورديةَ نحو الأفق وفي كلّ لغاتِ العالم: "أنظروا إلى هناك حيث هدوء الريح ِ وحيث ضوء الشمس. هناك هي قرية إستبان .

ترجمة الدكتور محمد قصيبات



ΜāŘāΜ ~ Ś غير متواجد حالياً  
التوقيع


.. يااا حضن أمي .. ماأقسى رحيل الأمهات ..
رد مع اقتباس
قديم 14-10-08, 07:53 PM   #5

ΜāŘāΜ ~ Ś

نجم روايتي

 
الصورة الرمزية ΜāŘāΜ ~ Ś

? العضوٌ??? » 134
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 17,112
?  نُقآطِيْ » ΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond repute
افتراضي

القصة الخامسة


ضوء مثل الماء



في عيد الميلاد، عاد الطفلان الى طلب زورق التجديف.
قال الأب:
حسن، سنشتريه حين نعود الى كارتاخينا.
لكن توتو، في التاسعة من عمره، وجويل في السادسة، كانا أشد تصميماً مما اعتقده أبواهما. فقد قالا معاً:
-لا. إننا نحتاجه الآن وهنا.
قالت الأم: أولاً لا يوجد ماء للإبحار سوى الماء الذي ينزل من الدش.
وقد كانت هي وزوجها على حق، ففي بيتهم في كارتاخينا دي اندياس يوجد فناء فيه رصيف على الخليج، ومكان يتسع ليختين كبيرين، أما هنا في مدريد فيعيشون محشورين في شقة في الطابق الخامس من المبنى رقم «47» في شارع باسيودي لاكاستيانا. ولكنهما في النهاية لم يستطيعا هو أو هي، أن يرفضا، لأنهما كانا قد وعدا الطفلين بزورق تجديف مع آلة سدس وبوصلة، فإذا فازا بإكليل الغار في السنة الثالثة ابتدائية، وقد فازا به. وهكذا اشترى الأب كل شيء، دون أن يخبر زوجته، وهي الأكثر معارضة لتحمل ديون من أجل الألعاب، كان زورقاً بديعاً من الألمونيوم، مزين بخط ذهبي عند حد الغطاس. وقد كشف الأب السر عند الغداء.
ـ الزورق موجود في الكراج.
المشكلة أنه لا يمكن الصعود به في المصعد أو على السلم، وفي الكراج لا يوجد مكان كاف. ومع ذلك، دعا الطفلان أصدقاءهما يوم السبت التالي للصعود بالزورق على السلم، وتمكنوا من حمله الى غرفة المستودع في البيت.
قال لهم الأب: تهانينا.. ثم ماذا الآن؟
قال الأطفال - الآن لا شيء كل ما كنا نريده هو حمل الزورق الى الغرفة، وها هو ذا هنا.
يوم الاربعاء ليلاً، وكما في كل أربعاء، ذهب الأبوان الى السينما، أما الطفلان اللذان صاحبا وسيدا البيت، فقد أغلقا الأبواب والنوافذ، وكسرا أحد مصابيح الصالة المضاءة. فبدأ يتدفق تيار من الضوء الذهبي والبارد من المصباح المكسور، وتركاه يسيل الى أن بلغ ارتفاعه أربعة أشبار. عندئذ أقفلا التيار، وأخرجا الزورق وأبحرا بمتعة بين جزر البيت.
وقد كانت هذه المغامرة الخرافية نتيجة طيش مني حين شاركت في ندوة حول شعر الأدوات المنزلية، فقد سألني توتو كيف يضاء النور بمجرد ضغط الزر، ولم تكن لدي الشجاعة للتفكير بالأمر مرتين حين أجبته:
الضوء مثل الماء: يفتح أحدنا الصنبور، فيخرج.
وهكذا واصلا الابحار كل أربعاء ليلاً، وتعلما استخدام آلة السدس والبوصلة، وحين كان الأبوان يرجعان من السينما يجداهما نائمين على اليابسة كملاكين. وبعد عدة شهور، كانا يتحرقان للمضي الى ما هو أبعد من ذلك، فطلبا أجهزة للصيد تحت الماء، مجموعة كاملة، أقنعة، أقدام زعنفية، أسطوانات أكسجين، وبنادق هواء مضغوط.
قال الأب: أمر سيء. أن يكون لديكما في غرفة المستودع زورق تجديف لا يمكن استخدامه في شيء. ولكن الأسوأ من ذلك هو أن تطلبا حيازة أجهزة غوص.
قال جويل: وإذا فزنا بالغار الذهبية في الفصل الأول من السنة؟
فقالت الأم مذعورة - لا - لا شيء آخر.
لامها الأب على عدم تساهلها.
فقالت: المشكلة أن هذين الولدين لا يفوزان بقلامة ظفر لمجرد القيام بالواجب، أما من أجل نزواتهما فإنهما مستعدان للفوز حتى بكرسي المعلم.
ولم يقل الأبوان في نهاية الأمر «نعم» ولم يقولا «لا». ولكن توتو وجويل اللذين كان ترتيبهما الأخير في السنوات السابقة، فازا في يوليو بالغارونيتين الذهبيتين وثناء المدير العلني. وفي ذلك المساء بالذات، ودون أن يطلبا، وجدا في غرفة نومهما أجهزة الغوص في علبتها الأصلية. وفي يوم الاربعاء التالي، بينما كان الأبوان يشاهدان «التانغو الأخير في باريس» ملأ الطفلان الشقة الى ارتفاع ذراعين، وغاصا مثل سمكتي قرش وديعتين تحت الأثاث والأسِرّة، وأخرجا من أعماق الضوء الأشياء التي كانا قد فقداها منذ سنوات في الظلام. وعند منح الجوائز النهائية، أختير الأخوان كتلميذين مثاليين في المدرسة، وقدمت لهما شهادات امتياز. وفي هذه المرة لم يطلبا شيئاً، لأن الأبوين سألاهما عما يريدانه، وقد كانا عاقلين لدرجة أنهما لم يرغبا إلا في إقامة حفلة في البيت لتكريم زملائهم في الصف.
كان الأب متألقاً وهو يتحدث على انفراد مع زوجته.
ـ هذا دليل على نضجهما.
فقالت الأم:
ـ الله يسمع منك.
وفي يوم الاربعاء التالي وبينما الأبوان يشاهدان فيلم «معركة الجزائر» رأى الناس الذين كانوا يمرون في شارع كاستيانا شلالاً من الضوء يهوي من عمارة قديمة مختفية بين الأشجار، كان يخرج من الشرفات، ويتدفق بغزارة على واجهة المبنى، ويجري في الجادة العريضة في سيل ذهبي يضيء المدينة حتى غواداراما.
حطم رجال الإطفاء الذين استدعوا على عجل باب الطابق الخامس.
ووجدوا البيت طافحاً بالضوء حتى السقف. كانت الاريكة والمقاعد المغلفة بالجلد تطفو في الصالة على مستويات متعددة ما بين زجاجات البارد والبيانو بشرشفه الذي صنع من المانيلا، والذي كان يتحرك وسط الماء مثل سمكة مانتاريا ذهبية. وكانت الأدوات المنزلية في أوج شاعريتها، تطير بأجنحتها الخاصة في سماء المطبخ. وأدوات الجوقة الحربية التي كان الطفلان يستخدمانها للرقص، كانت تطفو على غير هدى بين الأسماك الملونة التي تحررت من الحوض الذي تحبسها فيه ماما. وكانت تلك الأسماك الملونة التي تحررت هي الوحيدة التي تطفو حية وسعيدة في المستنقع الفسيح المضيء. وفي الحمام كانت تطفو فراشي أسنان الجميع وواقيات منع الحمل المطاطية التي يستخدمها بابا. وأنابيب الكريمة وطقم أسنان ماما الاصطناعية. وكان تلفزيون الصالة يطفو مائلاً وهو لا يزال مفتوحاً يبث الحلقة الأخيرة من فيلم منتصف الليل المحظور على الأطفال.
وفي نهاية الممر، كان الصغيران يطفوان بين ماءين.. توتو جالساً في مقدمة الزورق، متشبثاً بالمجدافين والقناع على وجهه، وهو يبحث عن فنار الميناء الى حيث سمح له الهواء الذي في الاسطوانة، وجويل يطفو في مؤخرة المركب وهو لا يزال يبحث بآلة السدس عن موقع نجم القطب. وكان يطفو في جميع أرجاء البيت رفاقهم في الصف السبعة والثلاثين وقد تخلدوا في لحظة تبولهم في أصيص الجرانيوم، وغنائهم النشيد المدرسي بكلمات محورة من سخرية المدير، أو تناولهم خفية كأس براندي من زجاجة بابا. ذلك أنهم كانوا قد فتحوا أنواراً كثيرة في وقت واحد جعلت البيت يطفح، وغرق جميع التلاميذ.. تلاميذ الصف الرابع الابتدائى في مدرسة سان خوليان في الطابق الخامس من المبنى «47» في باسيو دي كاستيانا في مدريد بأسبانيا المدينة البعيدة عن الأصياف الملتهبة والرياح المتجمدة، والتي لا بحر فيها ولا نهر، والتي لم يكن سكان يابستها يوماً من الأيام ماهرين في فنون الإبحار في الضوء

ترجمة: صلاح علماني





ΜāŘāΜ ~ Ś غير متواجد حالياً  
التوقيع


.. يااا حضن أمي .. ماأقسى رحيل الأمهات ..
رد مع اقتباس
قديم 14-10-08, 07:55 PM   #6

ΜāŘāΜ ~ Ś

نجم روايتي

 
الصورة الرمزية ΜāŘāΜ ~ Ś

? العضوٌ??? » 134
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 17,112
?  نُقآطِيْ » ΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond repute
افتراضي

القصة السادسة

بائعة الورد

تحسست مينا طريقها في عتمة الفجر, و لبست ثوبها القصير الأكمام الذي كانت قد علقته في الليلة الماضية قرب الفراش, و جعلت تفتش في الصندوق الكبير عن الكمين المنفصلين الذين يكسوان الذراعين امتثالاً للواجب قبل الذهاب إلى الكنيسة ... ثم بحثت عنهما فوق المسامير المعلقة على الحائط و خلف الأبواب, حريصة في كل ذلك ألا تحدث أقل جلبة لكيلا توقظ جدتهما العمياء, التي كانت نائمة في نفس الغرفة ... و لكن ما أن اعتادت عيناها العتمة, حتى لاحظت أن جدتها قد نهضت من الفراش, فذهبت إليها في المطبخ لكي تسألها عن الكمين .. فقالت الجدة العمياء :
- هما في الحمام .. إنني غسلتهما أمس بعض الظهر ..
و فعلاً وجدتهما في المطبخ, معلقين من سلك ممدود بمشبكين .. و لكنهما كانا لا يزالان مبتلين .. فعادت مينا بهما إلى المطبخ و بسطتهما فوق أحجار الموقد .. و كانت الجدة العمياء تقلب القهوة و قد سمرت حدقتي عينيها الجامدتين على جدار الشرفة التي رصت فيها أصص الزهور مليئة بأعشاب طيبة ..
قالت لها مينا : لا تأخذي أشيائي مرة ثانية .. لا يمكنك هذه الأيام أن تتأكدي من طلوع الشمس ..
حركت المرأة العمياء وجهها نحو الصوت و قالت :
ـ إنني نسيت أن هذا يوم الجمعة الأول من أسبوع الفصح, موعد القداس ..
و بعد أن تأكدت الجدة بنفس قوي من فمها أن القهوة نضجت, رفعت الإناء عن الموقد, ثم قالت :
ـ ضعي قطعة من الورق تحت الكمين, لأن أحجار الموقد متسخة .
أجرت مينا أصابعها على أحجار الموقد .. فوجدها متسخة فعلاً, و لكن بطبقة من السناج المتحجر الذي لا يمكن أن يلوث الكمين إذا لم يحتكا بالأحجار .. على أنها قالت لجدتها :
ـ إذا اتسختا فستكونين أنت المسؤولة !..
و ما لبثت الجدة العمياء أن صبت لنفسها قدحاً من القهوة, و قالت و هي تجذب مقعداً شطر الشرفة :
ـ أنت غاضبة .. و من المحرم أن يذهب الانسان للقداس و هو غاضب ...
و جلست لشرب القهوة عن كثب من الزهور في الحوش .. و عندما انبعث رنين دقات الناقوس الأولى إيذاناً بموعد القداس رفعت مينا الكمين عن الموقد, فكانا لا يزالان مبتلين .. بيد أنها لبستهما .. فإن القس لا يرضى دخول أحد إلى الكنيسة بثوب عاري الذراعين .. ثم مسحت آثار الأحمر من وجهها بمنشفة, و أخذت كتاب الصلاة و الشال من غرفتها, و خرجت للشارع ...
و بعد ربع ساعة عادت أدراجها ...
فقالت الجدة العمياء و هي جالسة في مواجهة الزهور في الحوش :
ـ سوف تصلين إلى هناك بعد القراءة الأولى ..
أما مينا فقالت و هي تتجه إلى دورة المياه :
ـ لن أتمكن من الذهاب إلى القداس اليوم .. الأكمام مبتلة, و الثوب كله " مكركش " ..
و على الأثر شعرت بعينين فاهمتين تتبعانها ..
و ما لبثت العجوز أن هتفت : يوم الجمعة الأول و لا تذهبين للقداس !..
و لما عادت مينا من دورة المياه صبت لنفسها قدحاً من القهوة و جلست في المدخل المطلي بالمصيص الأبيض عن قرب من العجوز العمياء .. بيد أنها لم تستطع أن تشرب القهوة .. و غمغمت في سخط كامن و هي تشعر بأنها توشك على الغرق في دموعها الحبيسة :
ـ أنت السبب !..
فهتفت العجوز العمياء : أنت تبكين !..
و أضافت و هي تمر قرب جدتها بعد أن وضعت قدح القهوة على الأرضية : يجب أن تذهبي للاعتراف لأنك جعلتني أضيع قداس يوم الجمعة الأول !..
أما الجدة العجوز فقد لزمت مكانها جامدة تنتظر أن تغلق باب غرفة النوم .. و ما لبثت أن اتجهت إلى آخر الشرفة ثم انحنت تتحسس حتى عثرت على قدح القهوة على الأرض غير مشروب .. فقالت و هي تسكب القهوة في الإناء الخزفي :
ـ الله يعلم أن ضميري مستريح ..
و في هذه اللحظة خرجت أم مينا من غرفة النوم, و قالت للعجوز :
ـ مع من تتكلمين ؟..
فأجابت : مع نفسي !.. قلت لك قبل الآن انني في طريقي إلى الجنون !..
و عندما احتجبت مينا في غرفتها فكت أزرار " المشد " و أخرجت ثلاثة مفاتيح صغيرة معلقة في مشبك .. ففتحت بأحدها الدرج السفلي في " التواليت " و أجرت منه علبة متوسطة فتحتها بمفتاح آخر .. و من داخلها أخرجت مجموعة خطابات مكتوبة على ورق ملون و مربوطة بحزام من المطاط .. فأخفت الخطابات داخل مشدها ثم أعادت العلبة إلى مكانها و أغلقت الدرج .. و أخيراً ذهبت إلى دورة المياه و ألقت بالرسائل في المرحاض .. ولما رجعت مينا إلى المطبخ قالت لها أمها :
- حسبتك في الكنيسة ..
فتولت الجدة العمياء الرد قائلة : لم تتمكن من الذهاب .. أنا نسيت أن هذا يوم الجمعة الأول, و غسلت الأكمام بعد ظهر أمس ..
فغمغمت مينا : انها لا تزال مبتلة ..
فقالت العجوز العمياء : انني أقوم بأعمال كثيرة هذه الأيام ..
و قالت مينا : و أنا مطالبة بتسليم مائة و خمسين " دستة " ورد لمناسبة عيد الفصح ..
و لم تلبث حرارة الشمس أن تزايدت مبكراً .. و قبل الساعة السابعة كانت مينا قد أعدت " مشغل الورد الصناعي " في غرفة المعيشة : سلة مليئة بأوراق الورد, و لفافة سلك, و علبة من ورق الكريب, و مقصان, و بكرة خيط, و إناء به غراء.. و بعد برهة جاءت ترينيداد التلميذة المترهبة في الكنيسة تحمل علبة كرتون تحت إبطها, و سألتها على الفور لم لمْ تذهب لحضور القداس .. فأجابت مينا :
ـ لم تكن الأكمام جاهزة ..
فقالت ترينيداد : كان يمكن استعارة كمين من أي أحد ..
و جذبت كرسياً و جلست قرب سلة أوراق الورد .. فقالت مينا :
ـ وجدتني متأخرة كثيراً ..
و فرغت من صنع وردة .. فوضعت ترينيداد علبة الكرتون على الأرض و اشتركت في العمل .. فنظرت مينا إلى العلبة قائلة :
ـ هل اشتريتِ حذاءً جديداً ؟
فأجابت ترينيداد : هي فئران ميتة ..
و لما كانت ترينيداد ماهرة في تركيب أوراق الورد, فقد تفرغت مينا لعمل سيقان من السلك مغلفة بورق أخضر .. و ظلت كلتاهما تعمل في صمت دون أن تلاحظا تقدم الشمس في غرفة المعيشة, التي كانت مزخرفة بصور تزينية و عائلية .. و عندما تفرغت مينا من صنع السيقان تحولت إلى ترينيداد بنظرة تفيض أسى, فكفت هذه عن العمل و قالت لها :
ـ ماذا جرى ؟
فمالت مينا نحوها و قالت : إنه رحل !..
فألقت ترينيداد المقص في حجرها قائلة : لا ... لا تقولي هذا !؟؟
فكررت مينا كلماتها قائلة : إنه رحل !..
فحدقت ترينيداد فيها طويلاً, و قالت مقطبة : و الآن ؟..
فأجابت مينا بصوت ثابت : الآن لا شيء ..
و قبيل الساعة العاشرة تأهبت ترينيداد للانصراف, فاستمهلتها مينا لكي تلقي الفئران في المرحاض, و في طريقها مرت بالعجوز العمياء التي كانت تستقي الزهور في الأصص, فقالت لها مينا :
- أراهن أنك لن تعرفي ما بداخل هذه العلبة ..
و هزت العلبة بالفئران ... فأرهفت العجوز حواسها, قائلة :
- هزيها مرة ثانية ...
فكررت مينا العملية, بيد أن العجوز لم تستطع أن تتعرف على ما بداخل العلبة رغم هزها مرة ثالثة, فقالت مينا :
ـ هي الفئران التي وقعت في المصيدة في الكنيسة الليلة الفائتة .
و عندما عادت أدراجها مرت بجانب الجدة العمياء دون أن تكلمها .. بيد أن العجوز تبعتها إلى غرفة المعيشة لكي تستكمل مينا عملية الورد الصناعي, و قالت لها :
ـ يا مينا .. إذا أردت أن تكوني سعيدة, فلا تعترفي بشيء لشخص غريب عنك ..
تطلعت إليها مينا دون أن تتكلم .. فجلست الجدة العجوز في المقعد المواجه لها محاولة أن تساعدها في العمل . بيد أن مينا استوقفتها ..
فقالت الجدة العمياء : أنت عصبية .. لماذا لم تذهبي إلى القداس ؟..
ـ أنت تعرفين السبب أكثر من غيرك ..
فقالت العجوز العمياء : لو كان السبب الأكمام, لما فكرت في الخروج من البيت .. هناك شخص كان ينتظرك في الطريق, و هو الذي سبب لك الشعور بخيبة الأمل ..
مرت مينا بيديها أمام عيني جدتها, كأنما تمسح لوحاً غير مرئي من الزجاج, و قالت :
ـ أنت ساحرة !..
فقالت المرأة العمياء : إنك ذهبت إلى دورة المياه مرتين هذا الصباح .. و أنت لا تذهبين دائماً أكثر من مرة.. استمرت مينا في استكمال الورد الصناعي, بينما عادت العجوز تقول :
- هل تجسرين على أن تريني ما تخفينه في درج "التواليت" ؟..
فتركت مينا الوردة التي بيدها متمهلة و أخرجت المفاتيح الثلاثة الصغيرة من مشدها و وضعتها في يد العجوز قائلة:
ـ اذهبي و انظري بعينيك …
فجعلت العجوز تفحص المفاتيح بأناملها, و قالت :
ـ إن عيني لا يمكنها الرؤية في قاع المرحاض !..
رفعت مينا رأسها, و عندئذ اعتراها إحساس مختلف .. فقد شعرت أن الجدة العمياء عرفت انها تتطلع إليها .. و لهذا قالت لها :
ـ انزلي في المرحاض إذا كان ما افعله يهمك إلى هذه الدرجة !..
تجاهلت الجدة العجوز هذا الرد اللاذع, و قالت :
ـ أنت دائماً تجلسين في الفراش و تكتبين حتى الصباح المبكر ..
فقالت مينا : أنت نفسك تطفئين النور قبل النوم ..
فعاجلتها العمياء قائلة : و في الحال تنيرين أنت بطاريتك .. و بإمكاني أن أعرف أنك تكتبين, من صوت انفاسك
بذلت مينا جهداً للاحتفاظ بهدوئها, و قالت دون أن ترفع رأسها :
ـ جميل .. و لنفرض أن هذا هو ما يحدث, فما هو الغريب في ذلك ؟..
فردت العجوز قائلة : لا شيء .. إلا أن هذا أضاع منك حضور قداس يوم الجمعة الأول ..
و عند هذا الحد حملت مينا بكلتي يديها بكرة الخيط و المقصين و كومة من الورود التي لم تتم, و ألقت بها جميعاً في السلة, ثم واجهت الجدة العمياء قائلة :
ـ هل تحبين أن أقول لك ماالذي ذهبت لكي أفعله في المرحاض ؟
و ظلت الإثنتان متحفزتين إلى أن تولت مينا الرد بنفسها, قائلة :
ـ ذهبت لكي آتي ببعض المخلفات !..
و عندئذ طوحت الجدة العمياء بالمفاتيح الصغيرة في السلة, و غمغمت قائلة و هي تتجه إلى المطبخ :
ـ كان يمكن أن يكون سبباً لا بأس به, و كان يمكن أن تقنعيني لولا أنها المرة الأولى في حياتك التي سمعتك فيها تشتمين !..
و في هذه اللحظة كانت أم مينا آتية في الممشى من الناحية المقابلة محتضنة كومة من الورود الشائكة , و قالت :
ـ ماذا جرى ؟..
فتولت الجدة العمياء الرد قائلة :
ـ إنني جننت .. لكن الظاهر أنكم لا تفكرون في إرسالي إلى مستشفى المجانين طالما لا أرمي أحداً بالحجارة




ΜāŘāΜ ~ Ś غير متواجد حالياً  
التوقيع


.. يااا حضن أمي .. ماأقسى رحيل الأمهات ..
رد مع اقتباس
قديم 14-10-08, 07:58 PM   #7

ΜāŘāΜ ~ Ś

نجم روايتي

 
الصورة الرمزية ΜāŘāΜ ~ Ś

? العضوٌ??? » 134
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 17,112
?  نُقآطِيْ » ΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond repute
افتراضي

القصة السابعة


في يوم من الإيام



فجر الاثنين ، دافئ وغير ممطر. أوريليو أسكوفار، طبيب أسنان من دون شهادة، مبكر جدا في النهوض، فتح عيادته عند الساعة السادسة. تناول بضعة أسنان اصطناعية، مازالت موضوعة في قوالبها الكلسية، من علبة زجاجية ، ووضع مجموعة من الأدوات على الطاولة مرتبا إياها حسب حجمها كما لو كان يجهزها للعرض. كان يرتدي قميصا عديم الياقة مغلقا عند العنق بزر ذهبي، وبنطلونا بحمالات. وكان منتصب القامة، نحيفا، قلما ينسجم مظهره مع الموقف، تماما كما هي حالة الأصم.
عندما انتهى من ترتيب العدة على الطاولة، سحب المثقاب ناحية كرسي المعالجة وجلس ليباشر في صقل الأسنان الاصطناعية. وكان يبدو شارد الذهن، لا يفكر في تفاصيل العمل الذي يؤديه بدقة وثبات متواصلين، وكانت قدمه تظل تضغط على عتلة المثقاب حتى عندما تنتفي حاجته إلى الآلة.
بعد الثامنة توقف لبرهة كي ينظر إلى السماء من خلال النافذة فرأى صقرين منشغلين في تجفيف نفسيهما تحت الشمس على سقيفة البيت المجاور. عاد إلى عمله وهو يقول لنفسه بأن المطر سيسقط قبل موعد الغداء.
صوت ابنه الحاد والمفاجئ شتت تركيزه
ـ بابا.
ـ ماذا ؟
ـ العمدة يريد أن يعرف إذا كنت ستخلع له ضرسه.
ـ قل له بأنني غير موجود.
كان منشغلا بصقل سن ذهبية. حملها أمامه وراح يتفحصها بعينين نصف مغلقتين. عاد ابنه ذو الأحد عشر عاما يصرخ مجددا من غرفة الانتظار.
ـ يقول بأنك موجود، وأيضا لأنه يستطيع أن يسمعك.
ظل الطبيب منشغلا بتفحص السن. وعندما أنجز عمله واخذ السن شكله النهائي وضعه على الطاولة وقال:
ـ هذا أفضل.
شَغَّل المثقاب ثانية، وأخذ بضعة قطع تركيب من علبة كارتونية حيث يحتفظ بالأشياء التي تحتاج إلى انجاز، وباشر بعملية التعديل والصقل.
ـ بابا.
أجابه مستخدما نفس التعبير
ـ ماذا؟
ـ يقول بأنك إذا لم تخلع له سنه فسوف يطلق النار عليك.
دون تعجل، وبحركة شديدة الهدوء أوقف المثقاب، دفعه بعيدا عن الكرسي، وسحب الدرج السفلي للطاولة، وكان هنالك مسدس. قال:
ـ حسنا، قل له أن يأتي ويطلق النار علي.
دفع الكرسي بمواجهة الباب، وكانت يده تستقر على حافة الدرج. ظهر العمدة عند الباب. كان قد حلق الجانب الأيسر من وجهه، لكن الجانب الآخر كان متورما وبلحية لم تحلق منذ خمسة أيام. رأى الطبيب في عينيه ليالي من التوجع والأرق، فأغلق الدرج بأطراف أصابعه وقال برفق:
ـ اجلس.
ـ صباح الخير.
أجابه الطبيب:
ـ صباح الخير.
وبينما انشغل الطبيب بتسخين أدواته، أسند العمدة رأسه على مسند الكرسي الخلفي فشعر بشيء من الارتياح. كانت أنفاسه تطلق بخارا في الهواء. كانت عيادة بائسة: كرسي خشبي قديم، مثقاب يعمل بدواسة، وعلبة زجاجية تحوي قناني السيراميك. في المواجهة للكرسي نافذة تغطيها ستارة من القماش. عندما شعر العمدة باقتراب الطبيب شبك ساقيه وفتح فمه.
أدار أسكوفار رأس العمدة باتجاه الضوء. وبعد أن تفحص السن الملتهبة، أغلق فك العمدة بحركة حذرة، ثم قال:
ـ سأقلعه ولكن من دون مخدر.
ـ لماذا؟
ـ لأنه لديك خرّاج.
نظر العمدة في عيني الطبيب. قال أخيرا وهو يحاول أن يتبسم.
ـ حسناً.
ولم يرد الطبيب على ابتسامته. جلب إناء الأدوات المعقمة إلى الطاولة وراح يخرجها من الماء المغلي بملقط صغير بارد، دون أن يبدو عليه بأنه في عجلة من أمره. دفع المبصقة بطرف حذائه، وذهب ليغسل يديه في المغسلة. قام بكل ذلك دون أن ينظر إلى العمدة، لكن العمدة لم يرفع عينيه عنه.
كان سن عقل سفلي. فتح الطبيب قدميه وأمسك بالسن بالكلاّب الساخن. تشبث العمدة بذراعي الكرسي، واضعا كل قوته في قدميه. شعر عندها بفجوة باردة في كليتيه، لكنه لم يصدر صوتا. حرك الطبيب رسغه فقط. ومن دون حقد، وبرقة لاذعة قال:
ـ الآن ستدفع لموتانا العشرون.
شعر العمدة بانسحاق العظام في فكه، وامتلأت عيناه بالدموع. لكنه لم يتنفس حتى أدرك بأن السن قد أقتلع، ثم رآه من خلال دموعه. في تلك اللحظة كان عاجزا تماما عن فهم عذاب الليالي الخمس الفائتة.
انحنى على المبصقة، لاهثا يتصبب منه العرق. فتح أزرار سترته الضيقة ومد يدا الى جيب بنطلونه ليخرج المنديل. ناوله الطبيب قطعة قماش نظيفة. قال له:
ـ جفف دموعك.
كان العمدة يرتعش وهو يجفف دموعه. وأثناء انشغاله بغسل يديه، رأى أسكوفار السقف المتداعي وشبكة العنكبوت المغبرة وبيض العنكبوت والحشرات الميتة. عاد الطبيب وهو يجفف يديه. قال للعمدة:
ـ خذ غرغرة ماء بالملح، ثم اذهب إلى الفراش .
نهض العمدة واقفا. أدى تحية وداع عسكرية ثم تحرك باتجاه الباب وهو يدفع ساقيه، ودون أن يغلق أزرار سترته الضيقة. قال:
ـ ابعث بالفاتورة.
ـ لمن ؟ لك أم للبلدة ؟
لم ينظر إليه العمدة. أغلق الباب وراءه وهو يقول:
ـ لا فرق.


ترجمة رافع الصفار




ΜāŘāΜ ~ Ś غير متواجد حالياً  
التوقيع


.. يااا حضن أمي .. ماأقسى رحيل الأمهات ..
رد مع اقتباس
قديم 14-10-08, 08:00 PM   #8

ΜāŘāΜ ~ Ś

نجم روايتي

 
الصورة الرمزية ΜāŘāΜ ~ Ś

? العضوٌ??? » 134
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 17,112
?  نُقآطِيْ » ΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond repute
افتراضي

القصة الثامنة

عينا كلبٍ أزرق


ثمَّ ، نظرتْ إليّ . في البداية اعتقدتُ أنها تراني للمرة الأولى ، لكنها عندما استدارت خلف الموقد ، و بقيتُ أشعر بنظرتها المراوغة تنزلق على ظهري ، و تعبر فوق كتفي ، عندها أدركتُ أنني من يراها للمرة الأولى. أشعلتُ سيجاراً ، و سحبتُ نفساً عميقاً و قوياً من الدخان قبل أن أدير المقعد لأجعله يتزن على ساق خلفية واحدة. وبعدها أصبح بإمكاني مشاهدتها حقاً ، كما كانت تقف بجانب الموقد و ترمقني ، كل ليلة. لدقائق وجيزة كان ذلك كلّ ما فعلناه : تبادل النظرات. أنا رمقتُها من مقعدي المتزّن على ساق خلفية واحدة ، فيما هي واقفة ويدها الطويلة الساكنة فوق الموقد ، ترمقني بدورها . شاهدت الألق الذي انفرج عنه جفناها ، كما في كل ليلة ؛ فتذكرتُ عادتي في أن أقول لها : ( عينا كلبٍ أزرق ). وبدون أن ترفع يدها عن الموقد قالت: ( تلك العبارة، لن ننساها أبداً. (. ثم غادرت مكانها و تابعت متنهدة : ( عينا كلبٍ أزرق. لقد كتبتُها في كل مكان.(
راقبتها تسير متجهة إلى منضدة التزين، وشاهدتُ صورتها تظهر في المرآة المستديرة ترمقني كلما طالني شيء من الضوء. مستمرة في مراقبتي بعينيها البراقتين كجمر ، بدأتْ بفتح العلبة الصغيرة المغطاة بنسيج وردي ذو لآلئ ، ثم رشتْ المسحوق على أنفها ، كل هذا و أنا أراقب. حين انتهتْ أغلقت العلبة و انتصبتْ معاودة السير نحو الموقد ، قالت : ( أخشى أنَّ أحدهم يحلم بهذه الغرفة ويستكشف أسراري.) ، ومدت ذات اليد الطويلة المرتجفة فوق الوهج ، تلك التي كانت تعمل على تدفئتها قبل الجلوس للمرآة. قالت : ( أنت لا تشعر بالبرد. ) فأجبت : ( أحياناً ). وعادت تقول : ( يجب أن تكون تشعر به الآن ). وعندها أدركتُ لِمَ لمْ يمكنني البقاء وحيداً على الكنبة ؛ لقد كان البرد هو الباعث على شعوري بالوحدة. قلت : ( الآن أشعر به.) ثم استطردتُ : ( وهذا غريب لأن الليل صافٍ ، ربما سقطت الملاءة). لكنها لم تحر جواباً. مرة أخرى أراها تغادر مكانها لتتجه إلى المرآة ، فأدير المقعد لأبقي على ظهري مواجهاً لها. و بدون النظر إليها ، عرفتُ ما كانت تقوم به. عرفتُ أنها جلست أمام المرآة مرة أخرى ، تراقب ظهري الذي حظي بالوقت ليصل إلى أعماق مرآتها ، ويُقبض عليه من قِبل نظراتها ، تلك التي بدورها حظيت بالوقت لتصل إلى الأعماق و ترجع – كل هذا قبل أن تبدأ اليد دورتها الثانية – حتى أصبحت شفتاها مرسومة بالقرمزي في دورة واحدة من يدها ، وهي جالسة أمام المرأة.
في مقابلي ، كنت أتطلع الى الجدار الاملس، الذي بدا كمرآة عمياء لا يمكنني عبرها النظر إلى تلك الجالسة خلفي، ولكن بوسعي تخيلها كما لو كانت هناك مرآة معلقة على الحائط تنقل إليّ صورتها، و قلت (أنا أراكِ). و على الجدار أمكنني أن أراها فعلاً ، كما لو رفعت عينيها إلى المرآة وشاهدتني بظهري المقابل لها على المقعد ، و في عمق المرآة ، وجهي المصوب باتجاه الحائط. ثم شاهدتُها تخفض عينيها ، دون أن تنطق بكلمة. قلت لها مرة أخرى ( أنا أراكِ ). فرفعت عينيها ثانية وقالت: ( هذا مستحيل. ) سألتها عن السبب الذي يجعله مستحيلاً ، و بعيون هادئة و منخفضة أجابت : ( لأن وجهك بإتجاه الحائط ). عندها أدرتُ المقعد ، قابضاً على السيجار في فمي . وحين بقيتُ مواجهاً لها عادتْ إلى مكانها خلف الموقد . هاهي ترفع كفيها فوق الموقد، كما ترفع دجاجة جناحيها ، تدفيء نفسها ، بينما ظلال أصابعها تغطي وجهها ، و قالت : ( أعتقد أني على وشك الإصابة بالبرد. لابد أن تكون هذه مدينة الصقيع. ) أدارت وجهها جانباً ، فتحولت بشرتها من النحاسية إلى الحمراء ، و فجأة بدت حزينة. قالت : ( افعل شيئاً بهذا الصدد.) و بدأت بخلع ملابسها. قلت : (سأدير وجهي للحائط) لكنها قاطعتني : (لا جدوى ، سيمكنك رؤيتي على أية حال ، كما فعلت قبلاً.)
الوهج ينزلق على بشرتها النحاسية فيجعلها تلمع ، قلت لها : (لطالما أردتُ رؤيتك هكذا ، و بطنك المكسوة بالحفر كما لو تم ضربك.) و قبل أن أدرك كم كانت كلماتي غبية و غير لبقة ، كانت هي قد أصبحت عديمة الحس بماحولها ، مشغولة بتدفئة نفسها قرب الموقد. قالت : ( أحياناً أشعر أني مصنوعة من معدن.) ، وصمتت فيما تحرك كفيها بخفة فوق اللهب. قلت : ( أحياناً ، في أحلام أخرى ، اعتقدتُكِ مجرد تمثال برونزي صغير مقام في زاوية أحد المتاحف ؛ ربما لهذا أنتِ باردة.(
ـ ( في بعض الأوقات، عندما أنام على قلبي ، أستطيع أن أشعر بالفراغ يكبر في جسدي ، بشرتي تصبح رقيقة كصفيحة معدن ، ثم عندما يزداد تدفق الدم ، أشعر بالقرع في داخلي. كما لو أن شخصاً يناديني بالطرق على معدتي ، يصبح حتى بوسعي سماع صوت النحاس خاصتي في الفراش، يبدو مثل – ماذا يسمونه ؟ - المعدن المصفح.)
ثم سكتت و اقتربتْ أكثر من الموقد . قلتُ لها : (أحبُّ أن أسمعكِ).
ـ (اذا استطعنا العثور على بعضنا يوماً ، ضع أذنك على أضلعي عندما أنام على جانبي الأيسر ، و ستسمعني أقرع. لطالما أردتكُ أن تفعلها يوماً.(
سمعتُها تلهث بقوة فيما تتحدث. قالت أنها لسنوات لم تفعل شيئاً مختلفا ً؛ وهبتْ عمرها للبحث عني في أرض الواقع. ودليلها الوحيد إليّ كان تلك العبارة : (عينا كلبٍ أزرق). سارت عبر الشارع و صرخت عالياً بها ، أرادت أن تخبر ذلك الشخص الوحيد القادر على الفهم : ( أنا الشخص الذي يزورك في أحلامك كل ليلة ، ليقول لك : عينا كلبٍ أزرق ). كانت تذهب إلى المطاعم ، و قبل أن تطلب شيئاً تقول للنادل : (عينا كلبٍ أزرق) لكن الندل جميعهم كانوا ينحنون مجاملين باحترام، دون أن يتذكر أحدهم أنه قال تلك العبارة في أحلامه قط. بعدها لجأتْ إلى الكتابة على الشراشف أو الحفر بسكين على أسطح الطاولات المصقولة: (عينا كلبٍ أزرق). وعلى النوافذ المتشحة بالضباب جميعها، نوافذ الفنادق، و المحطات، و جميع المباني الحكومية، خطتها بسبابتها: (عينا كلبٍ أزرق).
قالت أنها ذات مرة دخلت محل صيدلة، شمّت هناك ذات الرائحة التي شمتها مرّة في غرفتها، بعد أن حلمتْ بي، ذات ليلة. قالت لنفسها: (لابد أنه قريب) و بعد أن تفحصت القرميد الجديد النظيف اتجهت للصيدلي و قالت: (أحلمُ كل ليلة برجلٍ يقول لي: عينا كلبٍ أزرق.) يومها حدق الصيدلي بعينيها ثم قال: (بالواقع يا آنستي، إن لك عيوناً كتلك بالفعل.). قالت له: (عليّ أن أعثر على الرجل الذي قال لي هذه الكلمات حرفياً، في أحلامي.) لكن الصيدلي بدأ بالضحك ثم اتجه للزاوية البعيدة من منضدة العرض. بقيتْ ترمق القرميد النظيف و تشم تلك الرائحة المميزة، ثم فتحت حقيبتها و أخرجت حمرة شفاهها القرمزية وكتبت بحروف مُحمرّة: (عينا كلبٍ أزرق.). و حين عاد الصيدلي قال لها: (سيدتي، لقد لوثتِ القرميد.) ثم أعطاها قطعة قماش رطبة مستطرداً: (نظّفيها الآن(.
وتابعت الحديث من موقعها بجوار الموقد، لتقول أنها أمضت طوال فترة ما بعد الظهر جاثية على أربع، تنظف القرميد و تردد دون انقطاع: (عينا كلبٍ أزرق.) حتى تجمع الناس عند الباب و قالوا أنها مجنونة.
و الآن بعد أن توقفتْ عن الكلام، كنتُ ما أزال جالساً في الزاوية، أتأرجح فوق المقعد. قلت لها: (في كل يوم أحاول تذكر العبارة التي ستقودني اليكِ، و الآن أعتقد أني لن أنساها. لكني لم أفتأ أبيّت النية ذاتها، و عندما أستيقظ أكون قد نسيت الكلمات التي تمكنني من العثور عليكِ).
ـ (أنتَ من ابتكرها في اليوم الأول(.
ـ ) لقد ابتكرتُها لأني شاهدت عيناكِ الرماديتين ، لكن لم يكن بوسعي أبداً التذكر في الصباح التالي(.
بقبضة مطبقة مرفوعة فوق الوهج ، تنهدتْ بعمق ، وقالت : (لو أن بوسعك على الأقل أن تذكر الآن اسم المدينة التي كتبتُ بها تلك العبارات(
أسنانها المتراصة المنتظمة تعكس وميض اللهب ؛ قلت لها : ( أودُّ لو ألمسكِ الآن.)
رفعتْ وجهها الذي كان مسلّطاً على الموقد ، رفعتْ أنظارها الملتهبة ، الدافئة في الآن ذاته ، تماماً مثلها و مثل يديها ، و شعرتُ بها ترمقني ، في الزاوية حيث أجلس متأرجحاً فوق المقعد. نطقت : ( لم تخبرني بهذا قبلاً)
ـ ) أنا أقولها لكِ الآن، و هي الحقيقة. )
و من الجهة الآخرى خلف الموقد ، طلبَتْ سيجاراً. عندها شعرتُ بسيجاري الذي توارى بين أصابعي ؛ كنتُ قد نسيت أني أدخنُ واحداً. قالت : ( لا أدري لم لا يمكنني التذكر .. أين كتبتُها تلك العبارات(
ـ (للسبب نفسه ، غداً لن يكون بوسعي تذكر الكلمات(
و بحزن قالت : ( لا . أحياناً أفكر أني ربما أكون قد حلمتُ بتلك الكتابة أيضاً.(
وقفتُ ، وسرت باتجاه الموقد ، حيث تجلس هي خلفه ، حاملاً السيجار و عود الثقاب في يدي ، التي لن يكون بوسعها الوصول الى ما خلف الموقد . مددتُ لها السيجار فوق الموقد فالتقطته بشفتاها ، ثم مالت على اللهب قبل أن يتاح لي الفرصة لإشعال عود ثقاب. قلت لها : ( في مدينة ما في العالم ، على كل الجدران ، لابد أن تلك الكلمات مكتوبة : عينا كلبٍ أزرق. و اذا تذكرتُها في الصباح فسيكون بإمكاني العثور عليكِ.) . رفعت وجهها ثانية عن الموقد ، بسيجار مشتعل بين شفتيها. همستْ : ( عينا كلبٍ أزرق) ، و بدأت تسترجع الذكرى فيما تذر الرماد ، و عينها نصف مفتوحة. نفثت الدخان ، قبضت على السيجار بين أصابعها و استطردت : (شيءٌ قد اختلف الآن . بدأتُ أشعر بالدفء.) قالتها بصوتٍ فاتر و سريع ، كما لو أنها لم تقلها حقاً. كما لو أنها كتبتها على قطعة ورق و قربتها من النور فيما أقرأ: (بدأتُ اشعر بالدفء) ممسكة اياها بسبابتها وابهامها، قبل أن تبدأ بلفها وإتلافها، و فيما أنا بالكاد أكمل القراءة ( .. دفء) كانت قد صيرتها كرة و ألقتها إلى النار ، لتصير خيوطاً من رمادٍ و وهج.
قلتُ لها : (هكذا أفضل. أحياناً يُشعرني مرآكِ ترتجفين بجوار اللهب ، بالخوف(.
كانت قد مرت سنين طوال علينا و نحن مستمرين في رؤية بعضنا . في بعض الأوقات عندما نكون معاً ، شخصٌ ما كان يلقي ملعقة بالخارج ، و كنا عندها نستيقظ. وببطء أدركنا أن صداقتنا كانت خاضعة للأشياء الخارجية ، لأبسط حدث. لقاءاتنا جميعها انتهت بالطريقة ذاتها ، سقوط الملعقة ، حالما يحلّ الفجر. و الآن ها هي بجوار الموقد تحدق بي ، مما يجعلني أتذكر أنها نظرت لي بالطريقة ذاتها في الماضي أيضاً ، منذ ذلك الحلم البعيد ، حين جعلت المقعد يدور على ساق خلفية واحدة ، و بقيت أحدق في إمراة غريبة ذات عيون رمادية. لقد حدث عندها ، في ذلك الحلم أن سألتها للمرة الأولى : ( من أنتِ ؟ ) و أجابتني : ( لا أتذكر. ) و عدت أقول لها مصرّا : ( لكني أعتقد أننا شاهدنا بعضنا قبلاً . ) و بغير اكتراث جاءني جوابها :
ـ ( أعتقد أني حلمتُ بكَ مرة ، و بهذه الغرفة ذاتها)
ـ ( صحيح . لقد بدأتُ أتذكر الآن)
ـ ) يا للغرابة . من المؤكد أننا التقينا قبلاً ، في أحلام أخرى. )
سحبتْ نفسين من السيجار. كنتُ لم أزل واقفاً أمام الموقد ، و فجأة وجدتني لا أنفك عن التحديق بها، ارتفاعا و هبوطاً ، كانت لم تزل نحاسية. ليس ذاك النحاس القاسي البارد ، بل كان نحاسها أصفراً ، ناعماً ، و لين. و قلت لها ثانية : ( أودُّ لو ألمسكِ الآن(.
ـ ( ستفسد كل شيء(.
ـ ( لم يعد مهماً. كل ما علينا فعله هو قلب المخدة ليتسنى لنا اللقاء ثانية(.
و رفعتُ يدي فوق الموقد ، لكنها لم تتحرك . فقط كررت الجملة ذاتها ( ستفسد كل شيء.) ، قبل أن أتمكن من لمسها.
قالت : ( ربما إن استطعتَ الوصول إلى خلف الموقد ، سيكون بإمكاننا أن نستيقظ معاً ، من يدري في أي بقعة من العالم(.
ـ ( لم يعد مهماً.)
قالت : ( ان استطعنا قلب المخدة سيكون بامكاننا اللقاء ثانية ، لكنك عندما تستيقظ ستكون قد نسيت على أية حال.(
كنتُ قد عاودتُ سيري تجاه الزاوية ، فيما هي خلفي مستمرة في الإستدفاء بالوهج. و قبل أن أبلغ المقعد سمعتها تقول :
(عندما أستيقظ في منتصف الليل ، أبقى أتقلب في الفراش ، حاشية المخدة تحرق ركبتي ، لكني أبقى أردد حتى الفجر : عينا كلبٍ أزرق).
قلت لها وأنا أحدق في الجدار، كما كنتُ قبلاً: (إنه الفجر فعلاً.)، و واصلتُ دون الإلتفات إليها : (عندما قرعتْ الساعة الثانية بعد منتصف الليل كنتُ مستيقظاً، و لكن ذلك كان منذ وقتٍ بعيد.)
اتجهتُ للباب و حين أوشكتُ على لمس المقبض، جاءني صوتها مجدداً، بذات الثبات: (لا تفتح ذلك الباب.) وتابعتْ بعد صمت (إن الرواق مليء بالأحلام المبهمة.) سألتُها: (ما أدراك؟) وأجابت: (لأني كنتُ هناك بالفعل قبل لحظةٍ مرت ، لكني عدت إلى هنا حين اكتشفت أني نائمة على قلبي).
كنتُ قد فتحت الباب تقريباً، و من الفرجة الصغيرة جاءني نسيم بارد ناعم حمل لي رائحة منعشة للأرض المخضرّة و الحقول الندية. عادتْ تتحدث لكني واصلتُ فتح الباب و قلت لها: (لا أعتقد أن هناك أي رواق في الخارج، أني اشم رائحة الريف(.
ـ (أنا أدرى بهذا خيراً منك. هناك إمرأة بالخارج تحلم بالريف.) و عقدتْ ذراعيها فوق اللهب متابعة: (إنها تلك المرأة التي طالما تمنت أن يكون لها بيت بالريف ، لكنها لم تكن قادرة قط على مغادرة المدينة.(
عندها تذكرتُ رؤيتي لتلك المرأة في بعض أحلامي السابقة، لكني أدركتُ أيضاً ، فيما الباب شبه مفتوح، أن أمامي نصف ساعة قبل أن يتوجب عليّ الذهاب لتناول إفطاري. لذا قلت: (على أية حال ، يجب عليّ أن أغادر هذه الغرفة ، استعدادًا للإستيقاظ).
في الخارج عوت الريح للحظة، ثم هدأت، وأصبح بإمكاني سماع الأصوات الناجمة عن تنفس شخص نائم ، انقلب في فراشه للتو. النسيم القادم من الحقول توقف ولم يعد هناك روائح. قلت لها: (في الغد سأتذكرك بهذا؛ عندما أسير في الشارع وأشاهد امرأة تكتب عبارة (عينا كلبٍ أزرق) على الجدران.) قالت فيما ارتسمت بسمة حزينة على شفتيها - بسمة مذعن للمستحيل ـ : (رغم ذلك لن تتذكر شيئاً أثناء النهار.) و عادت تضع كفيها فوق الموقد فيما تغيب ملامحها وسط غمامة أسى .
(أنتَ الرجل الوحيد في العالم ، الذي لا يتذكر شيئاً مما حلم به ، حين يستيقظ





ΜāŘāΜ ~ Ś غير متواجد حالياً  
التوقيع


.. يااا حضن أمي .. ماأقسى رحيل الأمهات ..
رد مع اقتباس
قديم 14-10-08, 08:03 PM   #9

ΜāŘāΜ ~ Ś

نجم روايتي

 
الصورة الرمزية ΜāŘāΜ ~ Ś

? العضوٌ??? » 134
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 17,112
?  نُقآطِيْ » ΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond repute
افتراضي

القصة التاسعة

أشباح أغسطس



وصلنا إلي أريزو قبل منتصف النهار بقليل، وقضينا أزيد من ساعتين في البحث عن القصر الذي يدل علي عصر النهضة، الواقع في ذاك المكان الشاعري من القرية البدائية، والذي اشتراه الكاتب الفنزويلي ميغيل أوتيرو سيلفا. كان يوم أحد من أول أسبوع من شهر آب (أغسسطس)، حارا ومثيرا للأعصاب، ولم يكن من السهل مصادفة شخص يعرف شيئا عن القصر في الشوارع التي تغص بالسائحين. وبعد عدة محاولات للبحث بدون جدوي عدنا إلي السيارة وغادرنا البلدة عبر طريق صغير تحفه أشجار السرو دون هدف واضح، لكن امرأة عجوزا كانت ترعي الإوز دلتنا في النهاية علي مكان القصر بالتحديد، وقبل أن تودعنا سألتنا إن كنا سنقضي الليلة هناك، فأجبناها، وفقا لما كان مقررا في الدعوة، بأننا ذاهبون فقط للغذاء، فقالت:
ـ هذا لحسن الحظ، لأن المكان يثير الرعب.
وبما أننا، زوجتي وأنا، لم نكن نؤمن بأشباح منتصف النهار، فقد سخرنا من كلامها، لكن طفلينا، البالغين من العمر تسعا وست سنوات، انتابهما الفرح لكونهما سوف يريان أشباحا حقيقية.
وجدنا ميغيل أوتيرو سيلفا، الذي كان علاوة علي كونه كاتبا جيدا مضيافا رحب الصدر، ينتظرنا بطعام الغذاء الذي لا يمكن نسيانه أبدا. وبما أننا وصلنا متأخرين فلم يكن لدينا وقت لكي نتجول في أرجاء القصر قبل الجلوس إلي مائدة الطعام، ولكن منظره من الخارج لم يكن مما يثير الخوف، بل إن مشهد المدينة التي كانت تبدو لنا من المكان المرتفع الذي نتغذي فيه كان كافيا لطرد أي شعور بالكآبة.
كان من الصعب أن يتصور المرء كيف يمكن أن يولد في هذه البيوت المتكاتفة فيما بينها فوق هذه الهضبة، حيث يعيش حوالي تسعة آلاف من الأفراد متزاحمين أشخاص ذوو عبقرية دائمة، لكن ميغيل أوتيرو سيلفا قال لنا بمزاجه الكاريبي أن أيا من هؤلاء الأشخاص الممتازين ليس أفضل ما في أريزو، وأضاف:
ـ إن أفضلهم كان هو لودوفيكو.
هكذا: لودوفيكو، بدون ألقاب زائدة، أحسن رجال الفن والحرب الذي بني هذا القصر الحزين، والذي استفاض ميغيل أوتيرو سيلفا في الحديث عنه طيلة وقت الغذاء، عن قوته التي لا تقهر وغرامياته التعسة وموته المأساوي، وكيف أنه في لحظة جنون قاسية قتل عشيقته علي السرير الذي مارسا فيه الحب ثم أثار عليه بعد ذلك كلاب الحرب الذين قطعوه أربا. وأكد لنا، بلهجة يقينية، أن شبح لودوفيكو يخرج بعد منتصف الليل ويبدأ في التسكع في جنبات القصر وسط الظلمة محاولا إعادة السكينة إلي مطهر حبه.
لقد كان القصر في الحقيقة واسعا جدا ومعتما، غير أن قصة ميغيل لم تبد لنا في واضحة النهار مع امتلاء المعدة وانشراح القلب إلا مجرد مزحة شبيهة بمزحاته الكثيرة التي يحاول الترويح بها علي ضيوفه. وخلال تجوالنا بعد فترة القيلولة من دون أي شعور بالخوف بدت لنا الغرف الإثنتان والثمانون التي يتكون منها القصر وكأنها خضعت لتغييرات كثيرة من طرف ملاكيه المتعاقبين. قام ميغيل بإصلاح الطابق الأسفل كاملا وبني غرفة نومه بطريقة حديثة وجعل أرضيتها من الرخام، وحماما بخاريا علي الطريقة الفنلدنية، وشرفة زودها بورود فاقعة حيث تناولنا طعام الغذاء. أما الطابق الثاني الذي خضع للاستعمال كثيرا خلال القرون الماضية فقد كان عبارة عن سلسلة من الغرف التي لا تحمل سمات معينة خاصة بها، فيها أثاث ينتمي إلي مختلف العصور ترك بلا عناية. لكن في الطابق العلوي كانت هناك غرفة لم تمس في السابق يبدو أن الزمن لم يتمكن من الوصول إليها فبقيت كما كانت. إنها غرفة نوم لودوفيكو.
كانت لحظة ساحرة. فهناك كان السرير المحاط بالستائر الموشاة بخيوط من الذهب، والأغطية الحريرية العجيبة المتغضنة التي لا يزال بها أثر دم العشيقة المقتولة، والمدفئة الرمادية المتجمدة التي تحول فيها الحطب الأخير إلي حجر، والدولاب التي لا تزال به الأسلحة الفتاكة، والبورتريه الزيتي في إطار من الذهب للفارس وهو يتأمل، مرسومة بيد واحد من كبار فناني فلورنسة، لكن الذي أثار اندهاشنا هو وجود رائحة الفراولة ما تزال نفاذة في غرفة النوم دون تفسير واضح.
الأيام في الصيف في توسكانا طويلة وبطيئة، حيث يبقي الأفق مستقرا في مكانه حتي التاسعة ليلا. وعندما انتهينا من التجول داخل القصر كانت الساعة تشير إلي الخامسة من بعد الظهر، ولكن ميغيل أصر علينا بأن يأخذنا لنري اللوحات الجدارية لبييرو ديلا فرانسيسا في كنيسة سان فرانسيسكو، وبعد ذلك جلسنا لتناول القهوة والدردشة تحت تعريشة المكان، وحينما عدنا إلي القصر لحمل حقائبنا وجدنا أنهم أعدوا طعام العشاء، وهكذا اضطررنا للبقاء.
فيما كنا نتعشي تحت سماء خبازية اللون لا توجد بها سوي نجمة يتيمة، أخذ الولدان المشاعل من المطبخ وراحا يستكشفان غرف الطابق العلوي وسط الظلمة. ومن مكاننا في الأسفل سمعنا أصوات ركضهم الذي كانا يقلدان به الخيول علي السلم، وأنين الأبواب، والأصوات الناعمة السعيدة التي تنادي لودوفيكو في الغرف المظلمة. وخطرت للولدين تلك الفكرة السيئة بأن نقضي الليلة هنا، وساندهم ميغيل أوتيرو سيلفا سعيدا بها، فلم نجد في أنفسنا الشجاعة الأدبية لنرفض الدعوة. بعكس ما كنت أتخوف، نمنا تلك الليلة جيدا، زوجتي وأنا، في غرفة نوم بالطابق السفلي بينما نام الولدان في الغرفة المجاورة. كانت الغرفتان معا قد أدخلت عليهما إصلاحات بشكل جعلهما حديثتين، لذلك لم تكونا معتمتين. وفي انتظار أن يأخذني النوم بدأت أتلهي بتعداد الضربات الإثنتي عشرة للساعة الجدارية الكبيرة، فتذكرت تحذير راعية الإوز، لكننا كنا متعبين جيدا فنمنا نوما ثقيلا مليئا بالأحلام، وصحوت بعد الساعة السابعة صباحا بقليل علي نور الشمس المتسلل عبر فتحات النوافذ، وكانت زوجتي إلي جانبي ما تزال نائمة، فقلت في نفسي: يا لها من حماقة، أن يؤمن المرء في هذا الزمن بالأشباح.
وفي تلك اللحظة بالذات اجتاحتني رائحة الفراولة التي كأنها قطفت للتو، وصورة المدفئة الرمادية المتجمدة التي تحول فيها الحطب الأخير إلي حجر، والبورتريه الزيتي للفارس الحزين في الإطار المذهب وهو ينظر إلينا من وراء ثلاثة قرون. واكتشفت بأننا لم نكن في الحقيقة نائمين في نفس الغرفة التي نمنا فيها ليلة أمس بالطابق السفلي، بل في غرفة نوم لودوفيكو، تحت الستائر التي علق بها الغبار والأغطية الملطخة بالدم الذي لا يزال طريا علي السرير اللعين

المترجم:إدريس الكنبوري





ΜāŘāΜ ~ Ś غير متواجد حالياً  
التوقيع


.. يااا حضن أمي .. ماأقسى رحيل الأمهات ..
رد مع اقتباس
قديم 14-10-08, 08:07 PM   #10

ΜāŘāΜ ~ Ś

نجم روايتي

 
الصورة الرمزية ΜāŘāΜ ~ Ś

? العضوٌ??? » 134
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 17,112
?  نُقآطِيْ » ΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond reputeΜāŘāΜ ~ Ś has a reputation beyond repute
افتراضي

القصة العاشرة


الجمال النائم والطائرة

كانت جميلة فاتنة ، رشيقة القوام ، وبشرتها ناعمة بلون الخبز ؛ عيناها مثل اللوز الأخضر و شعرها الأسود مسدول على كتفيها ؛ ذات هيئة أندونيسية ، كما قد تكون قادمة من بلاد الأنديز .
كانت ترتدي لباسا ذا نسق خلاق ينم عن ذوق رفيع ؛
سترة مصنوعة من فراء اللينكس ، قميصا من الحرير الخالص بأزهار متناسقة ، سروالا ذا قماش طبيعي مع حذاء ذي حزام ضيق بلون نبات البوغنفيليا (bougainvillea ).
"هذه أجمل امرأة على الإطلاق شاهدتها في حياتي "؛ قلت في نفسي عندما لمحتها عيناي
وهي تمر أمامي بخطوات رهيفة حذرة كخطوات اللبؤة ، و أنا واقف في الصف أمام مكتب التسجيل لدفع الأمتعة بمطار شارل ديغول بباريس ، إستعدادا لرحلتي إلى نيويورك . لقد كان ظهورا خارقا لملاك فائق الجمال وللحظات فقط بحيث سرعان ما اختفى في زحمة بهو المطار .
كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا ، و كان الثلج يتساقط منذ الليلة المنقضية . كانت حركة المرور أبطأ من العادي في شوارع باريس ، و أكثر بطئا على الطرق السريعة أين اصطفت الشاحنات الكبيرة على جانب الطريق ، بينما تزاحمت السيارات و اختلط دخانها بالثلج ؛ أمّا بداخل بهو المطار فكان الجو لايزال ربيعيا .
وقفت في الطابور أنتظر دوري ، خلف مسنّة هولندية أمضت ساعة كاملة في الحديث عن حقائبها الإحدى عشر ؛ و بدأت أشعر بقليل من الملل عندما وقعت عيناي على الجمال الفاتن الذي قطع عليّ أنفاسي وأنقذني من تلك الضوضاء ، و لم أدر بعدها كيف انتهى مسلسل المرأة الهولندية وحقائبها ؛ ولم أنزل من تحليقي في السحاب إلاّ على صوت مضيفة المكتب وهي تعاتبني عن شرود ذهني ؛ وبادرتها ملتمسا عذرها إن كانت تؤمن بالحب من أوّل نظرة . " طبعا ، أمّا بقية الأصناف فهي مستحيلة " ردّت عليّ دون أن تحوّل عينيها من شاشة الكمبيوتر ، ثمّ سألتني إن كنت أفضّل مقعدا في مساحة التدخين أو عكس ذلك . رددت عليها بلهجة تهجّم قصدت بها السيّدة الهولندية " لا يهم ، ما دام أنّني لن أجاور الإحدى عشر حقيبة ."
أبدت قبولها للتعليق ببسمة تجارية ، ثمّ قالت لي دون أن تفارق عيناها الشاشة لحظة : " اختر أحد الأرقام التالية ؛ ثلاثة ، أربعة أو سبعة "
قلت : " أربعة " .
ردّت ، و قد كشفت ابتسامتها عن نشوة وسعادة : " منذ خمسة عشر عاما و أنا أشغل هذا المكان ، ما رأيت أحدا قبلك اختار غير الرقم سبعة " .
كتبت رقم المقعد على بطاقة الركوب ، ثم أرجعتها إليّ مع بقية الوثائق . نظرت إليّ لأوّل مرة بعينين بلون العنب أغدقتا عليّ عزاء ، و خفّفتا من حرقتي ريثما يظهر الجمال الفاتن من جديد . و في هذه اللحظة بالذات ، أخبرتني أنّ المطار قد أغلق للتو في وجه الملاحة ، و أنّ كلّ الرحلات قد أجّلت إلى مواعيد لاحقة .
"إلى متى يدوم هذا التأجيل ؟ "
"علم ذلك عند الله " ، ردّت عليّ بابتسامة ، وواصلت : " لقد أذيع هذا الصباح بأنّ هذه العاصفة هي الأعنف خلال العام كلّه " .
لقد كانت على خطأ ؛ لقد كانت عاصفة القرن كلّه ؛ إلاّ أنّ الجو ظلّ ربيعيا في قاعة الإنتظار ذات الدرجة الأولى ، و يمكنك ملاحظة ورود حقيقية لازالت حيّة في إصّيصاتها ، وحتى الموسيقى المنبعثة تضفي سحرا وهدوءا تماما كما تصوّرها مبدعوها ؛ ثمّ فجأة قرّرت في نفسي أنّ هذه الظروف تمثّل ملجأ مناسبا للجمال الفاتن ، و كذلك رحت أبحث عنها في قاعات الإنتظار الأخرى تائها ولهانا و غير آبه بما قد أسبّبه من لفت أنظار الجمهور إليّ .
كان معظم المنتظرين رجالا من الحياة الواقعية ، يقرؤون صحفا بالإنجليزية ، بينما كانت زوجاتهم يفكرن في أشخاص آخرين وهن ينظرن من خلال النوافذ إلى الطائرات الجامدة في الثلج وإلى المصانع الخامدة المتجمّدة وحقول " رواسي " الواسعة التي حطّمتها أسود جائعة .
وما أن حلّ منتصف النهار حتى شغلت كل أماكن الجلوس وارتفعت درجة حرارة القاعة ، و باتت لا تحتمل إلى درجة أنّني غادرت لآخذ جرعة هواء منعشـة . وبالخارج شاهدت منظرا غير عادي ؛ لقد تجمهر كل أصناف البشر داخل قاعات الإنتظار ، و منهم من قبع في الأروقة وعلى المدرّجات منقوصة الهواء ، ومنهم من ألقى بنفسه على الأرض رفقة الحيوانات الأليفة والأمتعة والأبناء . وانقطعت الإتصالات مع المدينة وأضحى القصر البلاستيكي الشفاف أشبه بكبسولة فضائية عملاقة تركت قابعة على الأرض في وجه العاصفة . ولم يفارق ذهني التفكير في أن الجمال الفاتن يقبع في مكان ما وسط هذا الحشد المدجّن ( المروّض ) ، و ألهمني ذلك شجاعة و صبرا لأظلّ منتظرا ظهوره .
ما أن حلّ وقت الغذاء حتى أدركنا أنّ حالنا أضحى شبيها بمن تحطّمت سفينتهم في البحر ، وأضحت الطوابير غير منتهيّة خارج مطاعم المطار السبعة ، و خارج المقاهي و الحانات ؛ وفي أقلّ من ثلاث ساعات أوصدت أبوابها لأنّه لم يبق بها شيء للإستهلاك . و حتى الأطفال ، الذين ظهروا في لحظة ما و كأنّهم كل أطفال العالم قد اجتمعوا هنا ، شرعوا في البكاء دفعة واحدة . ثمّ ما لبثت أن انبعثت رائحة القطيع من الجمهور الغفير ؛ لقد كان نداء الفطرة .
وفي تلك الزحمة ، لم أستطع الحصول سوى على كأسين من مثلّجات الفانيلا من محلّ بيع للأطفال . لقد كان الناذلون يضعون الكراسي على الطاولات عندما غادر أصحاب المحل ، في حين كنت أتناول وجبتي ببطء عند الكونتوار وأنا أتأمّل نفسي في المرآة المقابلة مع آخر كأس وآخر ملعقة صغيرة ، ولكن دائم التفكير في الجمال الفاتن .
في الثامنة ليلاّ ، غادرت رحلة نيويورك المبرمجة أصلاّ على الساعة الحادية عشر صباحاّ . وما أن امتطيت الطائرة حتى كان مسافرو الدرجة الأولى قد أخذوا أماكنهم ؛ واصطحبتني المضيفة إلى مقعدي ؛ وفجأة كاد قلبي يتوقّف عن النبض . يا لغريب الصدف ! رأيت الجمال الفاتن جالسا على المقعد المجاور أمام النافذة . لقد كانت مستغرقة في ترتيب مجالها الحيوي بأستاذية المسافر الخبير ؛ و قلت في نفسي : " لو قدّر لي أن أكتب هذا ، فلن يصدّقني أحد ". ثمّ نجحت في إلقاء تحية متردّدة بعد تلعثم لم تسمعها و لم تنتبه لها .

لقد شغلت مقعدها كما لو كانت تنوي أن تعمّر هنالك لأعوام ؛ وضعت كلّ شيء في مكانه المناسب و في متناول يدها حتى أنّ محيط مقعدها أصبح مصفّفا كالبيت المثالي . و في أثناء ذلك ، أحضر لنا المضيف شامبانيا الضيافة . أخذت كأسا لأناولها إياه ، لكنّني تمهلت قليلا و فكّرت في ذلك ثمّ عدلت عن رأيي في الوقت المناسب . لم تكن تريد سوى كأس ماء ، ثمّ أوعزت إلى المضيف ، أوّل الأمر بلغة فرنسية غير مفهومة ثمّ بلغة إنجليزية لم تكن أوضح من سابقتها إلاّ بقليل، بأن لا يوقظها خلال الرحلة، و لأيّ سبب كان. لقد كان يشوب صوتها الدافىء بعض الحزن الشرقي .
وعندما أحضر المضيف الماء ، كانت تضع في حجرها محفظة تجميل ذات زوايا نحاسيّة ؛ أخذت قرصين ذهبيين من علبة تحتوي على أقراص أخرى ذات ألوان مختلفة . كانت تفعل كلّ شيء بطريقة منهجيّة و بثقة كبيرة وكأن لا شيء غير متوقع قد حدث لها منذ ولادتها . وما إن انتهت حتى أسدلت الستار على النافذة ، سحبت مقعدها إلى الخلف في اتجاه عمودي ومدّدته إلى أقصى ما يمكن ، غطّت جسمها ببطانية إلى الخصر دون أن تنزع حذاءها ، وضعت قناع النوم على رأسها ، استدارت وولّتني ظهرها ثمّ سرعان ما غرقت في نوم عميق . لم تصدر عنها تنهيدة واحدة ، ولا أدنى حركة طيلة الساعات الثمانية الأبدية ودقائقها الإثني عشر الإضافية ، زمن الرحلة إلى نيويورك .
لقد كانت الرحلة خارقة واستثنائية بالنسبة إليّ . لقد آمنت دائما ولازلت أؤمن بأن لا شيء أجمل في الوجود من امرأة جميلة ؛ وكان يستحيل عليّ أن أهرب للحظة واحدة من أسر ذلك المخلوق الفاتن الذي ينام بجانبي ، والذي كثيرا ما تردّده الروايات والقصص .
ما إن أقلعت الطائرة حتى اختفى المضيف وخلفته مضيفة شابة ، حاولت أن توقظ الملاك النائم لتناولها محفظة النظافة وسماعات الموسيقى . ردّدت عليها التعليمات التي أملاها الملاك على زميلها ، غير أنها أصرّت على السماع منه شخصيا ممّا اضطر المضيف أن يؤكد أوامرها مع أنّه ألقى ببعض اللوم عليّ لأنّ الملاك لم يعلّق إشارة " أرجو عدم الإزعاج " حول رقبتـه .
تناولت وجبة العشاء بمفردي ، محدّثا نفسي في سكون بكلّ ما كنت سأقوله لها لو شاركتني عشائي . كان نومها هادئا منتظما إلى درجة أنّ نفسي حدّثتني في إحراج بأنّ الأقراص المنوّمة التي تناولتها لم تكن للنوم بل كانت للموت . و مع كلّ شراب كنت أرفع كأسي لأشرب نخب صحّتها .
خفتت الأضواء ، و كان يعرض على الشاشة فيلم لم يكن لينتبـه إليه أحد ، و كنّا ولا أحد معنا في ظلمة هذا العالم . لقد ولّت عاصفة القرن وكان ليل الأطلسي صافيا ورهيبا ، وكانت الطائرة تبدو جاثمة غير متحرّكة بين النجوم . ثمّ رحت أتأمّلها بتمعّن لعدّة ساعات ، وأدقّق في جسمها شبرا بشبر، ولم أكن ألاحظ أية إشارة تدلّ على الحياة سوى ظلال الأحلام التي كانت تعبر من خلال جبهتها عبور السحب فوق الماء . كانت تضع حول رقبتها سلسلة رقيقة تكاد لا ترى نظرا للون بشرتها الذهبي . لم تكن أذناها المكتملتان مثقوبتين ، وأظافرها الوردية تعكس صحتها الجيدة . وكان يزيّن يدها اليسرى خاتم بسيط ؛ ولأنّها لا تبدو أكبر من العشرين عاما ، كان عزائي أنّه لا يمثّل خاتم زفاف بل لا يعدو أن يكون علامة خطبة عابرة أو ارتباط آني. ورحت على وقع تأثير الشامبانيا أردّد في سرّي روائع جيراردو دييغو حول المرأة والحب والجمال . خفّضت ظهر مقعدي ليصل إلى نفس مستوى مقعدها ، وألقيت بجسمي عليه ، فكنّا أقرب إلى بعضنا البعض من لو كنّا ممدّدين على سرير الزوجية .
كانت بشرتها تحرّر عبيرا منعشا ، محاكيا صورتها ، لم يكن سوى رائحة جمالها . لقد كان شيئا مدهشا حقا . لقد قرأت في الربيع الماضي قصّة جميلة للكاتب ياسوناري كاواباتا عن أثرياء كيوتو القدامى الذين كانوا يدفعون مبالغ ضخمة من المال مقابل قضاء ليلة في التفرج على أجمل فتيات المدينة وهنّ مخدرات و مستلقيات عرايا على نفس السرير ، يتعذبون من حرقة الشغف والحب ولا يستطيعون ايقاظهن أو لمسهن ، بل ولا يجرؤون حتى على المحاولة لأنّ مبعث لذّتهم و تلذذهم هو رؤية الفتيات العاريات وهنّ نائمات .
في تلك الليلة ، وأنا أراقب الجمال النائم ، لم أصل فقط إلى إدراك معنى التألم الناجم عن الضعف النفسي والحسّي ، بل مارسته وجرّبته وتذوّقت مرارته إلى أبعد الحدود ؛ وقلت في نفسي وقد ازدادت آلامي واتقدت أحاسيسي بفعل الشمبانيا : " ما فكّرت يوما في أن أصبح من قدماء اليابانيين عند هذا العمر المتأخّر ".
أعتقد أنّني نمت لعدة ساعات تحت تأثير الشامبانيا وتفجيرات الفيلم الصامتة ؛ وعندما استيقضت كانت رأسي تؤلمني بشدّة . ذهبت إلى الحمّام ، وألفيت المرأة المسنّة مستلقيّة على مقعدها تماما كالجثّة الهامدة في ساحة المعركة . كانت نظاراتها متساقطة على الأرض في وسط الرواق ، و للحظة ، إنتابني شعور عدواني ممتع في عدم التقاطها . ما إن تخلّصت من الشمبانيا الزائد في دمي ، حتى رحت أتأمّل نفسي في المرآة ، فوجدتني قبيح المنظر وتعجّبت كيف يحطّم الحب صاحبه إلى هذا الحد .
فقدت الطائرة علوّها من دون سابق إنذار ، ثمّ عادت واستوت وواصلت تسابق الأجواء بسرعة كاملة إلى الأمام . ظهرت فجأة إشارة " ألتزموا أماكنكم " ، فأسرعت إلى مقعدي على أمل أن أجد الجمال النائم قد استيقظ بفعل الإضطراب ، لعلّه يلجأ إلى حضني ليحتمي به ويدفن فيه خوفه وذعره . وخلال حركتي الخاطفة، كدت أن أدوس على نظارات المرأة الهولندية وكنت سأسعد لو أنّني فعلت ؛ غير أنّتي غيرت موضع قدمي في آخر لحظة ، ثمّ التقطتها ووضعتها في حجرها شكرا لها وامتنانا لعدم اختيارها للمقعد ذي الرقم أربعة.
كان نوم الملاك الجميل أعمق من أن تعكره حركة الطائرة . وعندما استوت الطائرة في مسارها من جديد ، كان عليّ أن أقاوم رغبتي الجامحة في ايقاظها بافتعال عذر ما ، لأنّ كل ما كنت أرغب فيه خلال الساعة الأخيرة من الرحلة هو فقط رؤيتها يقظة ، حتى ولو كانت غاضبة ، لأستردّ حريّتي المسلوبة وربما لأستعيد شبابي كذلك ؛ غير أنّني افتقدت الشجاعة الكافية لذلك ، و قلت لنفسي باحتقار شديد : " إذهب إلى الجحيم ! لماذا لم أولد ثورا ؟ "
استفاقت من نومها ، ومن تلقاء نفسها ، عند اللحظة التي اشتعلت فيها أضواء الهبوط . كانت جميلة ناعمة و مرتاحة كما لو أنها نامت في حديقة للورود ؛ وحينها أدركت أنّ الأشخاص الذين يتجاورون في مقاعد الطائرة لا يبادرون بتحية الصباح تماما كما هو شأن الأزواج القدامى ؛ و كذلك هي لم تفعل .
خلعت قناعها ، فتحت عيناها المشعّتين ، أرجعت ظهر المقعد إلى وضعيته العاديّة ، وضعت البطانية جانبا ، حرّكت شعرها ليعود إلى نسقه بفعل وزنه ، وضعت محفظة التجميل على ركبتيها ، عالجت وجهها ببعض المساحيق غير الضرورية لتستهلك وقتا كافيا يعفيها من النظر إليّ ريثما تفتح أبواب الطائرة ، ثمّ لبست سترتها اللينكسيـة . تخطّتنـي مع عبارة عفو تقليدية بلغة اسبانية لاتينوأمريكية نقيّة ، وغادرت من غير كلمة وداع ، أو على الأقل كلمة شكر على ما بذلته من أجل أن أجعل ليلتنا سعيدة ، ثمّ سرعان ما اختفت في شمس يومنا الجديد في غابة نيويورك الأمازونية



ترجمة : بن سويعد عبد الحليم






ΜāŘāΜ ~ Ś غير متواجد حالياً  
التوقيع


.. يااا حضن أمي .. ماأقسى رحيل الأمهات ..
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:41 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.