تذكرت الضفيرتان اللتان كانت تبرع في جذب شعر أختها منهما لتعذبها .
لقد صار شعر أختها الآن حريري جميل بفضل مستحضرات الفرد وتلوين الشعر المختلفة .
رفعت نظرها للأعلى إلى سقف الحجرة التي تجمعها مع مجموعة من النسوة فيهن أمها وأخواتها الثلاث وزوجات إخوانها الذكور .
أبرع شيء تجيد عمله في مثل هذه التجمعات هي أن تكون ملكة حقيقية داخل نفسها , ولقد أجادت فعل ذلك الأمر الليلة ببراعة .
استطاعت أن تحيط نفسها بسبعة أطياف لامرئية من العظمة والشموخ والتعالي والأبهة والسمو والأنفة والتميز , ثم تربعت على كرسي الملك الوهمي التي صنعته لنفسها في خيالها , لكنها تتعايش معه وكأنه حقيقة في حياتها .
بدأ الحديث بين النساء المجتمعات على النحو المألوف الذي اعتادته .
ماذا نحن , ماذا نكون , ماذا صنعنا , أولادنا , إخواننا , آخر المستجدات , أهم الأحداث .
شعرت بالملل يتسرب داخل نفسها مع استمرار الحوار , ورغم ذلك كان عليها أن تبقي صلة اتصال بينها وبن العالم الخارجي .
اختارت هذه المرة أن توجد هذه الصلة بفتح فمها وإظهار أسنانها في شكل ضحكة كاذبة لن تصل أبدا لعينيها . ستضحك على شيء قالته إحداهن هي في نظرها أهم الموجدات الآن .
ضحكت بصوت قهقهة , وكان لضحكتها أثر السحر على جميع الموجدات إذ توجهت جميع الأنظار إليها ثم سألتها إحداهن : وأنت هل ركبت قطار الموت من قبل ؟
أجابت : وتقيأت بعد ذلك .
ضحك الجميع على كلامها في حين مطت أختها صاحبة الشعر الحريري اللامع شفتيها .
تعرف هذه الحركة من شفتي أختها , كما تعرف معناها جيدا .
ثم وأخيرا جاءت الضربة القاصمة لها .
أعلنت المضيفة وصول أم زوجة أخيها مع ابنتيها الأخرتين .
بعد قليل دخلت امرأة في غاية الأناقة ترتدي ثوب طويل عاري الذراعين بلون لحمي جميل يلتف حول جسدها النحيل التفافا حلوا .
كانت في حقيقة الأمر في الخمسين من عمرها وإن بدت أصغر من ذلك إذ سرحت شعرها في تسريحة لا تفعل إلا في الأفراح والمناسبات كما طلت وجهها بمكياج كامل .
عند ذلك أحست بكرسي العظمة الذي أجلست نفسها عليه من بداية هذه السهرة في وهمها يهتز من تحتها .
فركت يديها في حجرها وبدأت تفقد سكونها الداخلي ثم تسألت داخل نفسها : لم هذه المرأة على هذا النحو من الاهتمام بنفسها على الرغم من كون زيارتها عائلية ؟
وبعد أن استقرت النسوة في أماكنهن بعد السلام على القادمات الجدد عاد الحديث .
أخذ الحديث منحى جديد إذ بدأت النساء الحديث في الموضوع الذي لم تكن أبدا تحب الخوض فيه لامن قريب ولا من بعيد .
أحست بأنها هي المعنية بهذا الحديث كما ولاحظت أن أولئك النسوة الضيفات أخذن يراقبنها بنظرات مخبأة .
لزمت الصمت التام وشعرت بنفسها تعجز عن قول أي شيء كما لو كانت كرة من قماش تركلها أرجل عدة .
في الوقت الذي عرفت عن نفسها أنها لابد أن ترد على بعض الملاحظات وتبدي رأيها أطبقت شفتيها على نفسيهما تماما وأبى صوتها أن يخرج من حنجرتها الجافة كمن أصابها الجفاف والتصحر ووجدت عيناها هي التي تنفتح عن آخرهما بدل شفتيها المطبقتين .
رفعت نظراتها تحاول أن تلتمس العون من الآخرين فوجدت النظرات ترمقها من هنا وهناك كأنها سجين يفكر بالهرب ويحاول فيه فيجد أكثر من سجان يمنعه من ذلك .
أحست كأن هناك يد تجبرها على النزول من كرسي العظمة التي كانت تجلس فيه منذ قليل .
أحست بالخطر النفسي يحيط بها من كل مكان .
كانت وحدها وقد جردت من سلاحها الوحيد الذي تجيد الإمساك به ثم دفع بها إلى أرض القتال .
لم تعد تملك أن تفعل شيء سوى أن تستسلم لفعل اللا شيء .
لو كانت تعلم أن هذا ماسوف يحدث هذه الليلة لكانت اعتذرت عن الحضور .
لكنها حضرت لأجل ابنتها والتي ستقاتل من أجلها لآخر نفس لها في هذه الحياة .
أغمضت عينيها بقوة بينما هي تتظاهر أنها تمسد خصلات شعرها وبدأت تبحث عن أكثر الأشياء التي التفكير بها سيعيد لها التوازن الداخلي التي هي بحاجة إليه الآن أكثر من الهواء .
في الماضي لما كانت صغيرة كانت وحدها وكانت تتطلع أن تجد الدعم من قريبتها التي كانت آخر مخلوق على ظهر الأرض ساعدها في حياتها والآن هي تتطلع أن تجد الدعم من عند أختها التي طالما لامتها على قسوتها عليها والتقليل من أهميتها في حياتها .
تزاحمت الأفكار المثبتة في عقلها .
تذكرت لتعيد التوازن لنفسها : بعد 15 سنة من الآن , كيف سيكون الحال ؟
ثم نظرت للمرأة التي تفوهت بمعظم تلك الترهات التي سلبتها توازنها الداخلي وجردتها من كل الأبهة التي أحاطت نفسها بها فوجدتها إنسانة عادية تماما مثلها مثل غيرها من الناس .
أحست بجزء كبير من الثقل الذي ألقته أولئك النسوة على صدرها يزاح .
ثم نظرت للمرأة التي دخلت بكامل أناقتها .
توارد السؤال داخل نفسها : مابال السحر الذي أحاط بها لما دخلت قد تلاشى الآن ؟
أخذت ترمقها بعينين متسعتين عن آخرهما فخيل إليها أنها واحدة من عرائس مهرج تتحرك بواسطة خيوط يتحكم بها بهلوان ساحر .
فأحست عند ذلك أن جزء آخر من ذلك الثقل الجاثم على صدرها قد خف .
خطرت لها الفكرة الاخيرة التي هي متأكدة أنها ستعيد لها ماتبقى من توازنها الداخلي المفقود .
ستمد يد طلب المساعدة من أختها صاحبة الشعر الحريري الامع .
لتفعل ذلك قامت من مكانها وجلست على نفس الأريكة التي تجلس عليها أختها بينما أخذت أختها تهدهد طفلها الصغير لينام .
إن أختها مشغولة الآن بتنويم طفلها لذلك عقدت العزم أن تضحك على كلام تلك المرأة صاحبة الثوب الأنيق والمكياج الكامل والتي سحرتها بالكامل لما دخلت .
ولما ضحكت استحوذت على اهتمام تلك المرأة أخيرا فنظرت لها نظرة متعالية وكأنها تتفضل عليها بتلك النظرة التي مزجتها بنظرة شفقة عليها وكأنها تتحدث إلى معوقة .
سألتها : أين تعملين ؟
انقطع الحوار بدخول المضيفة والإعلان عن العشاء .
بعد أن عادوا من العشاء أسرعت تجلس إلى جوار أختها التي عادت لتهدهد ابنها ليعود للنوم من جديد .
أعطت أختها أصدق وأعذب وأخلص نظرة قد تعطيها أخت لأختها .
كانت تستنجد بأختها , تطلب منها أن تمد لها يد المساعدة وتعطيها الدعم لتستعيد ماتبقى من توازنها النفسي المفقود .
نظرت أختها إليها نظرة جوفاء حذرة بينما مازالت يداها تعملان في هدهدة طفلها الصغير .
لما نام الطفل وضعته بهدوء على الأريكة ثم مطت جسدها وقوفا وتوجهت للجهة الأخرى من المكان حيث اجتماع أولئك النسوة .
هذا الذي فعلته أختها هو تصريح واضح يقول لها : أنا في حزبهن ولست معك أبدا .
اندمجت تلك الأخت معهن في نفس الأحاديث التي بدأن بها السهرة فازدرت آخر قطرة مرارة تشعر بها لهذه الليلة والتي رطبت بها حلقها المتصحر .
رفعت رأسها للسقف من جديد .
لن تجعل أي أحد ولا أي شيء يمنعها من أن تعود للجلوس على كرسي العظمة الخاص بها .
في الوقت التي ظلت طوال السبع سنوات الأخيرة تلوم نفسها على قسوتها على أختها في الصغر صارت تعرف الآن أن قسوتها نابعة من إحساس خفي من خذلان أختها لها في أشد المواقف التي ستكون هي في حاجة فيها إليها .
نظرت لمرة الأخيرة لأختها فوجدتها قد أولتها ظهرها تماما وبدا لها شعرها الحريري اللامع يغطي جزء من ظهرها فعاودتها الرغبة القديمة التي كانت في صغر أختها لاتتوانى على تنفيذها على أرض الواقع .
تمنت أن تتوجه نحو أختها وتشد لها خصلة كبيرة من شعرها كما كانت تفعل في الماضي لتتألم من جديد .
شعرت بموجة كبيرة من الضحك تمور داخل نفسها ولم تستطع أن تمنع تلك الضحكة من المرور عبر حنجرتها الجافة ثم امتلاء فمها بها ثم انفلاتها منها في شكل قهقهة .
هاهاهاهاهاهاهاهاهاهاهاهاه اهاهاهاهاهاهاهاهاهاهاهاها هاهاهاهاهاهاهاهاهاهاهاهاه اهاهاهاهاهاهاهاهاهاهاهاها هاهاهاهاهاهاها
التفتت كل الرقاب نحوها وحدقت بها كل العيون في حنق شديد .
عند ذلك فقط زال عنها آخر إحساس لها بالثقل الذي رمت به أولئك النسوة على صدرها .
زال الإحساس بالثقل كما زال الإحساس بالعجز عن فعل شيء ووجدت نفسها تقول : أضحك لأنني تذكرت شيء كنت أفعله قبل الان بسنوات عديدة .
تفرست فيها العيون بحنق شديد .
وأخيرا عادت ترتقي درجات سلم العظمة بكل ثقة ووصلت إلى كرسي الملك حيث جلست عليه بهدوء .
الوقت الذي كانت تظن فيه أن أختها على شيء من المثالية التي تجعلها تصفها بواسطة العقد قد ولى إلى غير رجعة . الآن تدرك أن عليها أن تقوم بدور الاخت الكبرى لآخر يوم من عمرها دون أن تستمد الدعم من أحد .
رفعت عينيها من جديد للجميع وشملتهم بنظرة واعية وعميقة وعاقلة وأعقبت ذلك بابتسامة قد تكون أصدق وأخلص وأصفى إبتسامة ابتسمتها طوال هذه الأمسية الثقيلة من أمسيات شهر شوال الطويل .
16-08-13, 05:05 AM
سبعة أطياف لامرئية 
.png)
.png)
.png)
العرض العادي
