شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   روايات اللغة العربية الفصحى المنقولة (https://www.rewity.com/forum/f407/)
-   -   غرناطةُ الشام❣..فانتازيا تاريخية ❣للكاتبة / أميرة أندلسية ، فصحى مكتملة (https://www.rewity.com/forum/t292147.html)

لامارا 03-11-13 03:09 PM

غرناطةُ الشام❣..فانتازيا تاريخية ❣للكاتبة / أميرة أندلسية ، فصحى مكتملة
 
[/TABLE1]

[TABLE1="width:100%;background-image:url('https://www.rewity.com/vb/mwaextraedit2/backgrounds/11.gif');background-color:white;border:10px double darkblue;"]


https://upload.rewity.com/upfiles/RZx88645.png

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نقدم لكم رواية
❣غرناطة الشام❣..فانتازيا تاريخية ❣....
✿•.للكاتبة✿•..أميرة أندلسية.. ✿•.¸¸.✿•

https://upload.rewity.com/upfiles/G8411310.png

كلمة الكاتبة

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

بعد متابعتكم ليا في القصص الأربعة اللي فاتت وتشجيعكم..بقدملكم قصتي الخامسة
لكن قبل ما أبدأ فيه كام نقطة عايزة أوضحها وياريت تتقبلوها بصدر رحب ومن دون زعل

ياريت يابنات محدش يقعد يقولي الفصل صغير أو كده..انتو اكيد عارفين ان الكتابة إلهام مش زرار هتدوسي عليه عشان تكتبي..يعني أحيانا بيبقى ده غاية تفكيري ومش ببقى عارفة أكمل فأتمنى انكم تقدروا النقطة دي وتعذروني..

كمان القصة المرة دي موضوعها حساس شوية لأن فيها بعض الإسقاطات على واقعنا السياسي..فياريت ياريــــــــــــــــــــت متحصلش حرب على صفحات قصتي..لأن ده قسم القصص مش القضايا الساخنة..

انا برحب بكــــــــــــــل البنات من كل الأطياف يقرو القصة حتى لو من تيار مخالف لرأيي..لكن من فضلكم أيتها المخالفات لرأيي محدش يقولي خليكي محايدة ومتتحيزيش لفئة دون فئة..أنا مش ترزي..أنا بكتب قصة من وجهة نظري أنا..وده طبيعي إن الكاتب بيكتب وجهة نظره..أنا مش صحفية ولا مذيعة عشان أكون عالحياد..أنا بكتب أفكاري وقناعاتي واللي شايفة ومتأكده إنها الحق..ولو انتي مش شايفة انها الحق فدي حاجة ترجعلك..

ياريت محدش يزعل من كلامي..انا عارفة اننا كلنا اخوات وأكيد هتقدرو كلامي ده..

طيب ممكن نبدأ بسم الله


لامارا 03-11-13 03:14 PM

مقدمة


فتحت (ليلى) عينيها لتصطدما بظلام دامس..كانت تشعر بألم في رأسها وساقها على إثر السقطة،لكنها حاولت النهوض فخانتها قدماها وسقطت على الأرض لتتأوه بألم..

وضعت يدها على فمها في رعب خوفا من أن يكون أحد من الرجلين قد سمعها،ثم تحاملت على نفسها ونهضت مستندة إلى الجدار وهي تتلمس طريقها للخارج..


كان هناك ضوء خفيف خارج الجدار الذي كانت تختبئ خلفه،فأسندت جسدها إليه وأرهفت السمع لكنها لم تسمع أحدا..لكن قبل أن تتحرك مرة أخرى سمعت صوت أحدهم،ففزعت وحاولت الابتعاد عن الجدار لكنها توقفت عندما سمعت ذلك الشخص يتحدث العربية..


تعالت دقات قلبها واقتربت من نهاية الجدار كي تسمع ما يقول،لكنها سقطت على الأرض محدثة جلبة،فسمعت الرجل يتساءل صائحا عمن هناك ليهوي قلبها في قدميها..




* * *


لامارا 03-11-13 11:47 PM

https://www8.0zz0.com/2013/11/03/16/989317631.jpg

الفصل الأول

علا صوت الطرق على باب بيت (يعقوب) الحداد،ففزع وهرع إلى الباب بخطى سريعة رغم سنوات عمره التي جاوزت الستين..
لم تتمكن النساء من الاستتار في الحجرات؛فلم يكد (يعقوب) يفتح الباب حتى اندفع الرجال المسلحون إلى البيت دون مراعاة لحرمة،وقلبوه رأسا على عقب وسط ذعر الأطفال اللذين اختبأوا خلف أمهاتهم وقد بدأ أصغرهم بالبكاء..

خرج الرجال وقد حملوا بعض السكاكين ثم أمسكوا بـ (يعقوب) واقتادوه وهم يسبونه بالقشتالية والرجل قد عقد لسانه وهم يقيدون يديه خلفه ويدفعونه بقسوه دون مراعاة لسنه..
خرجت النسوة خلف الرجال يشيعون (يعقوب) بنظراتهم والتي بدت فيها الصدمة..ثم لطمت (صفية) وجهها وهي تقول بصوت مرتعش:
- أخذوا (أبا يوسف) ..أخذوه هو الآخر
قالت (ليلى) وهي تغلق الباب الخارجي:
- اهدئي يا أمي..
ثم تابعت وهي تمسك بذراع أمها لتساعدها على النهوض:
- هيا إلى الداخل فقد بدأ الثلج يتساقط..

ودخلت النسوة إلى المنزل ثم أشارت (ليلى) إلى (عائشة) كي تغلق الباب..
- ماذا سنفعل من دونه الآن؟ لم يعد لنا أحد يا (ليلى)
ربتت (عائشة) على كتفها وقالت وهي تحبس دموعها:
- لنا الله يا خالة..لنا الله
قالت (ليلى) وهي تحاول أن تبدوا متماسكة:
- لا تقلقي يا أمي..سيعود عندما يجدونه بريئا
التفتت (صفية) ونظرت إلى ابنتها من بين أجفان متغضنة غارقة في الدموع وقالت:
- بريء..مثل (حسن)

غص حلق (ليلى) وبدت الدموع في عينيها لكنها أبت أن تطلق سراحها وقالت مغيرة دفة الحديث:
- اصعدي إلى غرفتك يا أمي كي ترتاحي
لم يكن أمام (صفية) إلا الانصياع لأمر ابنتها؛فلم يكن هناك ما يقال..والتفتت (عاشة) إلى الأطفال آمرة إياهم أن يصعدوا مع جدتهم..ثم دخلت مع (عائشة) إلى غرفة الأخيرة وانهارت على الفراش لتتساقط دموعها بمرارة وتقول كمن يحدث نفسه:
- لماذا تفتحين الجرح مرة أخرى يا أمي؟ لماذا؟

جلست (عاشة) بجوارها وربتت على كتفها ودموعها هي الأخرى لا تكف عن الانهمار وقالت:
- ادعي له بالرحمة يا (ليلى) ..فقد ارتاح من عذاب أولئك الشياطين..
ثم استدركت:
- لكن ماذا سنفعل الآن؟
مسحت (ليلى) دموعها وقالت:
- لا أدري..أخشى أنه لن يخرج
- ما أستغربه هو أخذهم للسكاكين
نظرت لها (ليلى) وقالت بسخرية:
- سيدّعون أنه صنعها وخبأها في البيت استعدادا للقتال
- لكنها سكاكين منزلية
- لو لم يجدوها لوضعوها وادعوا اكتشافها،كما أنهم قد يضعون معها بعض السيوف والخناجر لتكون التهمة كاملة
- لكن من الذي أبلغ عنه ولماذا؟
- قد يكون أحد الذين يتعاملون مع أبي واختلف معه في شيء،فأبلغ عنه واتهمه بهذه التهمة،أو أنه أحد القشتاليين الحمقى الذين يبلغون عن أي شيء لمجرد الاشتباه فقط

ثم وضعت رأسها بين كفيها تحاول التفكير في الخطوة التالية..لكن عقلها خذلها فالمصيبة لم تكن متوقعة،خاصة وأن والدها رجل عجوز لا طاقة له لحمل السلاح،فكيف يصدقون هذه التهمة الغبية..
سخرت من نفسها..ومنذ متى وهم يهتمون بطبيعة التهم؟! ..
وتذكرت (حسن) لتسقط دموعها مرة أخرى،لكنها حاولت التماسك وهي تقول لـ (عائشة) :
- غدا سنرى ما يجب فعله
وتركتها لتذهب إلى غرفتها تشيعها نظرات (عائشة) الحزينة..

* * *



لم تعد (صفية) ترغب في الأكل رغم محاولات (ليلى) و (عائشة) ،وكانت تمضي معظم الوقت في البكاء وهي تندب حظها وتلعن رجال الديوان الذين جلبوا الحزن والهم إلى هذا البيت مرتين..

- المال الذي لدينا لن يكفينا طول العمر..يجب أن نجد عملا
كانت (ليلى) تهمس لـ (عائشة) وهما في المطبخ تعدان الطعام..
- وهل تظنين أن خالتي ستوافق؟
- ومن قال أننا سنخبرها بذلك؟ ..سأذهب اليوم إلى (زينب) فهي تعمل في أحد البيوت وقد تجد لي عملا جيدا
ضربت (عاشة) على صدرها وقالت:
- ستعملين في البيوت يا (ليلى) ؟
- اخفضي صوتك..

وألقت نظرة سريعة على (صفية) التي كانت تجلس وحولها الأطفال تحكي لهم حكاية،ثم عادت لتواصل حديثها الهامس مع (عائشة) :
- ليس أمامي خيار آخر..إما أن أعمل وإما أن نموت جوعا،وليس هناك عمل آخر أستطيع القيام به،وإلا فقد كان حانوت الحدادة أولى

بدا الضيق على وجه (عائشة) لكنها لم تجد ما تقول فلزمت الصمت..وبعد قليل خرجت (ليلى) بحجة الذهاب للسوق لشراء بعض متطلبات المنزل،لكنها ذهب إلى (زينب) ..

- كان الله في عونكم..وكيف حال الخالة (صفية) ؟
هزت (ليلى) رأسها في أسى وقالت:
- وكيف سيكون حالها؟ ..لا تأكل إلا القليل ولا يسليها إلا وجود الأطفال حولها
- لا تقلقي ستكون بخير،فكلنا تعودنا على تلك الممارسات اللعينة
وصعدتا معا الدرجات الحجرية لتدخلا في شارع آخر ثم تتوقفان أمام أحد البيوت الكبيرة..
- كان هذا بيت (إسماعيل) التاجر
قال (زينب) محذرة:
- إياك والخوض في هذه الأحاديث أمام سنيورا (خيمينا) ..صحيح أنها امرأة طيبة لكنك تعرفين..
قاطعتها (ليلى) بإيماءة برأسها وقالت:
- لا تخافي..لن أتفوه بكلمة فأمي لن تحتمل صدمة أخرى

طرقت (زينب) الباب لتفتح امرأة سمينة راحت تنظر إلى (ليلى) بريبة وهي تقول:
- خيرا يا (ماريا) ؟ ليس هذا موعد عملك
- لم آت لأعمل..بل أريد مقابلة السيدة فلدي عاملة جديدة
تأففت المرأة وقالت وهي تفسح لهما المكان:
- سأخبرها حالا
دخلت المرأتان وراحت عينا (ليلى) تتفحصان المكان..كل شيء مختلف..لم يعد البيت كالسابق..

- أهلا (ماريا) ..قالت لي (لوثيندا) أنك أحضرت عاملة جديدة
خفضت (زينب) رأسها قليلا وقالت:
- أجل يا سيدتي.. (إسميرالدا) زميلتي
نظرت لها المرأة مليا وقالت:
- هل تجيدين أعمال المنزل يا (إسميرالدا) ؟
أومأت (ليلى) برأسها وقالت:
- أجل يا سيدتي
- جيد..
وقالت موجهة كلامها لـ (زينب) :
- ستتقاسمين العمل معها يا (ماريا) ..أريها المنزل الآن..
ثم واصلت وهي تستعد للمغادرة:
- أنا لن أختبرها فأنا أثق بك..أرجوا ألا تخوني ثقتي يا (ماريا)
هزت (زينب) رأسها بسرعة وقالت:
- ثقي بها تماما يا سيدتي

* * *



- ماذا فعلت؟
خلعت (ليلى) معطفها وقالت:
- سأعمل لدى سنيورا (خيمينا رودريغو)
- التي تسكن في بيت (إسماعيل) تاجر العطور
التفتت (ليلى) إلى (عائشة) وقالت بدهشة:
- كنت تعرفين أنها هي من تسكن مكانه؟
- أجل..سمعت بعض النسوة في السوق يتحدثن قبل أيام عن الأمر..

وأكملت وهما تدخلان إلى المطبخ:
- لكني لم أكن أعرف أنك ستعملين لديها
مطت (ليلى) شفتيها وقالت:
- لو رأيت ما رأيت يا (عائشة) ..لتفطر قلبك قهرا على ما وصلنا إليه
بدأت المرأتان في تجهيز الأكل لوضعه على مائدة الطعام..
- ماذا رأيت؟
قالت (ليلى) والأسى يملأ صوتها:
- كل شيء لم يعد يمت إلينا بصلة،كل شيء صار قشتاليا..البسط والأثاث والجدران..كل شيء.. حتى الخادمة التي قابلناها،أكاد أجزم أنها تبدوا قشتالية هي الأخرى
ضحكت (عائشة) على الجملة الأخيرة وقالت:
- ليس إلى هذه الدرجة

تركت (ليلى) ما بيدها وقالت:
- بل إلى هذه الدرجة وأكثر..ألم يصبح اسمك (مانويلا) وأصبحت أنا (إسميرالدا) ؟ ..هل نرتدي زينا العربي كالسابق؟ حتى المظهر لم يريدوا لنا الاحتفاظ به..ألم نعد نتكلم القشتالية؟ ألم نتعمد في كنيسة (سان سلفادور) قسرا؟ ألا نذهب إلى دروس الآحاد كبقية النصارى؟ ..أفيقي يا (عائشة) ..لولا أن منزلنا بسيط لطردونا منه وأخذوه كما فعلوا مع (إسماعيل)

عضت (عائشة) شفتها السفلى في ضيق وقالت وهي تحاول أن تداري عصبيتها في تعاملها مع الأواني التي تستعملها:
- كفى يا (ليلى) ..لا تذكريني بما حاولت نسيانه طيلة الأعوام الأربعة الماضية
ردت (ليلى) بعصبية:
- لا يجب أن تنسي،ولن تستطيعي فأخذهم لأبي قبل أيام لن يجعلك تنسي أبدا
ربتت (عائشة) على كتفها تهدئها وقالت:
- دعينا نضع الطعام على المائدة فلابد أن خالتي والأطفال جائعون

مضى أسبوعان منذ القبض على (يعقوب) وبدأت (ليلى) بالعمل في بيت (رودريغو) ..كانت تعاون (زينب) في التنظيف،فكانت هي المسؤولة عن الطابق العلوي و(زينب) المسؤولة عن الطابق السفلي..
كانت تنظف قطع الأثاث وهي تشعر بالمرارة،فمنظر أثاث بيت (إسماعيل) المبعثر في الشارع بعد طرد الأخير منه لم يفارق ذاكرتها..

شعرت بدنو أحد ما فالتفتت لتجد أمامها رجلا في الثلاثينيات،كان ينظر لها بطريقة أخافتها، فتظاهرت بأنها لم تلحظه وواصلت عملها..
- من أنت؟
وقفت وقالت:
- أنا الخادمة الجديدة يا سيدي
دار حولها وهو يتفحصها من رأسها إلى أخمص قدميها ويقول:
- ما اسمك؟
سرت في جسدها قشعريرة وقالت:
- (إسميرالدا)
- اسمك جميل..

ارتجفت عندما أمسك بجديلتها السوداء التي تصل لمنتصف ظهرها وقال:
- وأنت جميلة أيضا..
ابتعدت عنه وقد أصابها الرعب فضحك بطريقة أشعرتها بالاشمئزاز وقال:
- ما بك؟ ..لا تخافي
كان يبدوا مستمتعا بنظرات الخوف في عينيها،فاقترب منها أكثر لكنه سمع صوت أقدام على الدرج فابتعد عنها وهو يضع سبابته على فمه في إشارة تحذير لها كي تصمت..

- (إسميرالدا) ..لقد أنهيت عملي..سأذهب الآن لأنني سأمر على السوق
نظرت (ليلى) إلى (زينب) بامتنان وكأنها تشكرها على مجيئها في هذه اللحظة..


يتبع ...........



لامارا 03-11-13 11:51 PM

https://upload.rewity.com/upfiles/ICr11814.jpg



الفصل الثاني


خرجت (ليلى) من بيت (رودريغو) وهي تتنفس الصعداء لنجاتها من ذلك الوغد..لم تكن تعرف هويته،لكنها استنتجت أنه قريب لأهل البيت فالسيد (رودريغو) مسافر في هذا الوقت..
- فيم أنت شاردة يا (ليلى) ؟
انتبهت (ليلى) لصوت أمها فحاولت رسم ابتسامة على وجهها وهي تقول:
- لا شيء..
واستطردت بسرعة قبل أن تقول أمها شيئا آخر:
- لماذا لا تأكلين جيدا يا أمي؟
زفرت (صفية) وقالت:
- ومن يستسيغ الطعام بعد ما حدث
ربتت (عائشة) على كتفها وقالت:
- ستفرج قريبا إن شاء الله يا خالتي

كان الأطفال يلعبون ويتقافزون في المكان و (ليلى) تنظر إليهم في أسى..كيف ستقوم برعايتهم وحدها؟ صحيح أن (عائشة) معها لكنها كانت في حاجة إلى رجل..إلى (حسن) ..
غص حلقها ومنعت دموعها من التساقط رغما عنها،وحاولت التلهي بالحديث مع أمها ومع (عائشة) متجاهلة أفكارها..

لكن هناك ما لا يمكن تجاهله خاصة إن كان رجلا سمجا يتعمد مضايقتها..فلم يمض يومين على رؤيتها لذلك الرجل في منزل (رودريغو) حتى عاد مرة أخرى للتحرش بها..
عرفت أنه أخو (خيمينا) ويدعى (أرماندو) ،وهو يأتي لزيارتها من حين لآخر..وقد زادت زياراته بعد أن بدأت (ليلى) بالعمل في ذلك المنزل،وكانت مضايقاته تقتصر على النظرات المتفحصة وغزله الصريح لها..لكن الأيام كانت تمر ووقاحة (أرماندو) تزداد،ولا تملك (ليلى) من أمرها شيئا..

أحست (ليلى) بيد تمر على ظهرها فانتفضت واقفة والتفتت لتجد (أرماندو) ينظر إليها بوقاحة..
- لماذا تخافين مني أيتها الجميلة؟ ..
التصقت بالجدار عندما اقترب منها وهو يواصل:
- لا تحاولي تصنع العفاف..أنا أعرف أن كل الخادمات يستمتعن بمداعبات الرجال

ازدردت لعابها وقبل أن ترد أحاطها بذراعيه فصرخت وراحت تضربه وتقاومه كي يبتعد عنها.. ولدهشتها تركها وراح يضحك ثم قال:
- لا يوجد أحد في البيت،لذا فصراخك لن يجدي..لكني تركتك بإرادتي هذه المرة

ثم ألقى عليها نظرة أخيرة وغادر..غادر وقلبها يتقافز بين أضلاعها من شدة الخوف،ولم تستطع قدماها حملها أكثر من هذا فتهاوت على الأرض وراحت دموعها تتساقط رغما عنها..

هل يمكنها أن تكمل العمل في هذا البيت؟ ..إنها مرغمة وإلا فسيموتون جوعا،لكنها ليست مرغمة على العمل في هذا البيت بالذات..وقررت أنها ستكلم (زينب) علّها تجد لها مكانا آخر..


* * *

كان الدرس في الكنيسة يبدوا كالدروس التي سبقته،فالقس لا يفتأ يتحدث عن التسامح والحب والرحمة التي لا أثر لها في أرض الواقع..فكلما تكلم زاد الاضطهاد والحبس والتنكيل..يتكلم عن التسامح وقد عمّد بيديه المئات قسرا قبل أعوام..يتكلم عن الرحمة وهناك الآلاف الذين أحرقوا أحياء في احتفالات مهيبة حضر بعضها بنفسه ليباركها..

طلبت من (عائشة) أن تسبقها للبيت فهي ستقابل (زينب) للحديث معها..لكنها لم تذهب إلى (زينب) ؛فلم تكن تريد سوى الاختلاء بنفسها..لم تخبر أحدا بعد عما حدث..ولن تخبر أحدا..ربما تصارح (زينب) بهذا الأمر لكنها لم تقرر بعد..

وجدت نفسها أمام نهر (شِنيل) ..لم تنتبه بسبب شرودها إلى أنها قطعت كل تلك المسافة،فجلست على ضفة النهر تنظر إلى الغادين والرائحين،لكنها لم تكن ترى أحدا،فعقلها كان مشغولا..

كل ماحدث لم يكن في الحسبان..قتل (حسن) واعتقال والدها واللذان أديا بالضرورة إلى ذهابها للعمل في ذلك البيت الذي أصبحت ترتجف من مجرد التفكير فيه..هل ستتمكن من تركه أم ستضطر لمواصلة العمل فيه وتحمل تحرشات (أرماندو) ؟ ..

زفرت في ضيق وضمت ساقيها إلى صدرها واحتضنتهما بيديها،ثم أراحت ذقنها على ركبتيها وراحت تنظر إلى الماء..قد يتمادى (أرماندو) أكثر من هذا ويزداد وقاحة على وقاحته..فما العمل حينها؟..

سافر (أرماندو) إلى (بلنسية) ..مما جعل (ليلى) تشعر ببعض الراحة..لكنها كانت تعلم أنه سيعود حتما..وإلى ذلك الحين ستطلب من (زينب) أن تجد لها عملا آخر ثم تترك هذا البيت دون رجعة..

لكن .. "ما كل ما يتمنى المرء يدركه..تجري الرياح بما لا تشتهي السفن" ..وكأنما هذه الأبيات قد نسجت خصيصا لـ (ليلى) ،كان في انتظارها ما لم يكن بالحسبان..

- (زينب) ..ابحثي لي عن مكان آخر..لن أستطيع الاستمرار في بيت سنيور (رودريغو)
- لماذا؟
ترددت (ليلى) قليلا ثم حزمت أمرها وأخبرت (زينب) عن كل ما حدث لتضرب الأخيرة صدرها وتقول:
- سنيور (أرماندو) ؟! ..لا يبدوا عليه ذلك..يا له من خبيث..
ثم قالت بتساؤل:
- لكن ماذا ستقولين لسنيورا (خيمينا) ؟
مطت (ليلى) شفتيها في ضيق وقالت:
- لا أدري..سأحاول اختلاق أي عذر حينها،لكن أرجوك جدي لي عملا في أقرب وقت

كانت (خيمينا) متعجبة من طلب (ليلى) وهي تعرف أنها بحاجة إلى المال..
- هل لي أن أعرف ما السبب؟
أحنت (ليلى) رأسها قليلا وقالت وهي تفرك يديها:
- أمي مريضة وتحتاج لرعاية دائمة
كانت مضطرة للكذب فلم يكن بوسعها إخبارها الحقيقة لأنها لن تصدقها على أية حال..
- لا بأس..
ثم نظرت إلى (زينب) وقالت:
- سيزداد العمل مجددا بالنسبة لك يا (ماريا)
- بإمكاني إيجاد امرأة أخرى من بعد إذنك يا سيدتي

أما (أرماندو) فقد عرف السبب الحقيقي وراء ترك (ليلى) للعمل..فقرر أنه لن يتركها تكسب هذه الجولة..


* * *

طرقت (زينب) الباب لتفتح (عائشة) وتقول بابتسامة:
- أهلا يا (زينب) ..كيف حالك؟
كان التوتر باد على المرأة وهي تقول:
- بخير..أين (ليلى) ؟
تعجبت (عائشة) من لهجتها فقالت:
- ادخلي وسأناديها لك
دخلت (زينب) وألقت التحية على (صفية) قائلة:
- صباح الخير يا خالة
التفتت لها (صفية) وقالت بعد أن تهللت أساريرها:
- صباح الخير يا (زينب) ..تعالي لا تقفي هكذا
- شكرا يا خالة..أنا على عجلة من أمري

جاءت (ليلى) من الأعلى لتختفي ابتسامتها فور أن رأت علامات التوتر على وجه (زينب) ..ثم خرجت معها إلى باحة المنزل الخارجية..
- ماذا فعلت يا (ليلى) ؟
- ماذا؟
- ماذا فعلت في بيت سنيور (رودريغو) ؟
عقدت (ليلى) حاجبيها دهشة وقالت:
- ماذا به؟
أخذت (زينب) نفسا عميقا وقالت:
- سنيورا (خيمينا) تريد أن تراك الآن..وقد كانت عصبية على غير عادتها..كما أن..
بترت عبارتها وأبعدت نظرها عن (ليلى) وهي تقول:
- سنيور (أرماندو) كان معها
أصاب (ليلى) القلق وقالت:
- وهل له علاقة باستدعائها لي؟
رفعت (زينب) كتفيها وقالت:
- لا أعلم..
ثم واصلت بنفاد صبر:
- هذا ليس وقت استنتاجات..يجب أن تأتي معي حالا

دخلت (ليلى) لترتدي معطفها وتخبر (عائشة) و (صفية) أنها ستخرج مع (زينب) قليلا..
كانت المرأتان تهرولان بين الشوارع والأزقة حتى وصلتا إلى البيت..توقفتا قليلا ثم طرقت (زينب) الباب..وبعد دقائق حضرت (خيمينا) ..لكنها لم تكن وحدها..كان معها (أرماندو) ..

- سنيور (أرماندو) يريد أن يسألك عن بعض الأشياء يا (إسميرالدا)
ازدردت (ليلى) لعابها بصعوبة،وحاولت تجنب النظر إلى عيني ذلك الثعلب..
- قبل أن تتركي العمل بيومين كان هناك كيس من النقود في إحدى الغرف التي كنت تنظفينها لكنه اختفى..
نظرت له (ليلى) بعدم فهم وقالت:
- أين ذهب؟
نظر لها بخبث وقال:
- أنا الذي أسأل

بعد ثوان من التفكير فهمت ما يرمي إليه فقالت وقد أحست أن الأمر لن يمر على خير:
- أنا لم آخذ شيئا يا سيدي..إن كنت تقصد ذلك
- أجل أقصد ذلك
صدمتها وقاحته..
- صدقني لم آخذ شيئا..بل إنني لم أر ذلك الكيس من الأساس
صاحت فيها (خيمينا) :
- أتقصدين أن أخي يكذب؟
أشار لها (أرماندو) كي تهدأ ثم قال:
- من الطبيعي أن تقولي ذلك،ويبدوا أنني سأضطر لتسليمك لرجال ديوان التحقيق كي تعترفي وتعيدي المال الذي سرقته..

امتقع وجهها،وقبل أن تنطق بحرف قال:
- لكني لن أسلمك لهم في حال ما أعدت المال
قالت وهي على وشك البكاء:
- أقسم لك يا سيدي لم آخذ شيئا
- إذن تريدين الذهاب لهم؟
- لا يا سيدي لا أريد
صمت قليلا ثم قال:
- إذن أمامك خيار من ثلاثة..إما أن تعيدي المال أو أن تذهبي لديوان التحقيق أو..
وسكت وهو يتابع تعبيرات وجهها الخائفة:
- أو أن تعملي عندي بقدر ما أخذت من مال!

اتسعت عيناها من الصدمة،ونظرت لها (زينب) بقلق..

لم تجد (ليلى) ما تجيب به؛فهي لم تحسب حسابا لموقف كهذا..لم تتخيل أن تبلغ الدناءة بهذا الرجل هذا المبلغ..وحارت في أمرها..ماذا ستفعل..ليس لديها ما تسد به ماله المسروق كذبا وزورا،ولا تريد أن تذهب إلى ديوان التحقيق الذي قد يجعلونها تعترف فيه بأنها هي من قتل (يوليوس قيصر) ذاته ..إذن ما الحل؟ ..هل ستعمل لديه؟ ..

هل ستعملين لديه يا (ليلى) وأنت قد تركت بيت (رودريغو) هربا منه؟ ..ماذا ستفعلين؟ ..لو عرفت أمك بما حدث فقد تموت كمدا..ماذا ستفعلين؟ ..

لم يكن لديها الخيار؛فقد وضعها (أرماندو) في مأزق حرج..




يتبع ...........

لامارا 04-11-13 12:11 AM


في اليوم الذي بدأت (ليلى) فيه بالعمل لدى (أرماندو) ،كان هو في (بلنسية) ،وطلبت (دولوريس) زوجته من إحدى الخادمات أن تعرف (ليلى) مهامها في البيت..

- أنت محظوظة..فهناك الكثير من الخدم هنا ولن يكون العمل مرهقا لك

ابتسمت (ليلى) ابتسامة باهتة وهي تنظر لذلك الوجه الذي تبدوا عليه ملامح البراءة..كيف لهذه المرأة أن تكون زوجة لذلك الوغد؟ ..
- زوجي رجل طيب..أخبرني عن احتياجك للعمل،وأنه سيوظفك رغم أن لدينا الكثير من الخدم
هذه هي الكذبة الجديدة إذن..يبدوا أنه لن يتركها حتى بعد أن تفي بدينها المزعوم..
- هلّا ساعدتني في تغيير الثياب لطفلي؟
اقتربت منها (ليلى) وابتسمت فور أن رأت الطفل الذي لا يجاوز عمره بضعة أسابيع..
- هل لديك أطفال؟
أومأت (ليلى) برأسها وقالت:
- أجل..(عـ..) ..
وبترت جملتها ثم استدركت قائلة:
- (أدريان) و (إيزابيللا)

لم تعتد (ليلى) على مناداة الأطفال بأسمائهم القشتالية،وكاد لسانها يزل لكنها تداركت الأمر..

بعد أن عاد (أرماندو) لم يتعامل مع (ليلى) بالطريقة التي كانت تتوقعها،وقد أدهشها هذا وجعلها تتوجس منه،ليقينها بأنه يعد لها شيئا ما..

أحبت (دولوريس) كثيرا فقد كانت على النقيض تماما من زوجها..كانت امرأة متواضعة،ولم تكن كمعظم القشتاليين الذين قابلتهم (ليلى) ،والذين عُرفوا بكراهيتهم الشديدة للموريسكيين..فلم تكلفها ما لا تطيق،وكان هذا تعاملها مع بقية الخدم..


- (إسميرالدا) !

التفتت (ليلى) إلى (كارلوتا) الفتاة النحيلة والتي يغطي النمش وجهها..
- هل لي بكلمة معك؟
كانت الفتاة تبدوا متوترة فأحاطت (ليلى) كتفها بذراعها وقالت:
- بالطبع..تعالي للخارج لنتحدث
وخرجتا إلى باحة المنزل الخارجية..
- (إسميرالدا) ..أنا..
لم تكن تنظر إلى عيني (ليلى) وهي تتلعثم في كلماتها..
- أريد أن أكون مسلمة!

ألجم لسان (ليلى) ،وراحت تنظر إلى الفتاة بشك..هل هي صادقة أم تحاول استدراجها؟ .. أصيبت (ليلى) بالخوف،فقالت بسرعة بعد أن رسمت علامات الغضب على وجهها:

- ما الذي تقولينه يا (كارلوتا) ؟ هل جننت؟
ازداد ارتباك الفتاة وقالت:
- لا..ولكن..
- من دون لكن..لا تفكري في هذا الأمر مرة أخرى..
ثم واصلت وقد لانت لهجتها قليلا:
- ولا تخافي..لن أخبر أحدا بما قلته الآن كي لا يصيبك مكروه

وتركت الفتاة وقد اجتاحتها مشاعر متضاربة..هل الفتاة صادقة أم كاذبة؟ ..لو كانت كاذبة فقد أصابت (ليلى) في حديثها ونجت،لكن ماذا لو كانت صادقة؟! ..

دفنت (ليلى) وجهها بين كفيها وقد شعرت بضيق في صدرها..ربما كانت سببا في تراجع الفتاة عن قرارها..ويا له من إثم..

- ما بك يا (ليلى) ؟ ..لا تبدين بخير منذ أن عدت

رفعت (ليلى) رأسها إلى (عائشة) التي أغلقت باب الغرفة وجلست بجوارها على الفراش.. فأخبرتها بما حدث وبردها على الفتاة وشعورها بالذنب لما فعلت..
- أنت لم تخطئي..لو كانت كاذبة فقد أحسنتِ،ولو كانت صادقة فلها ربّ مطلع على ما في قلبها
- لو كانت صادقة وتراجعت عن قرارها فلن أسامح نفسي يا (عائشة) ،وسأحمل وزرها كما قال رسول الله في من دعا إلى ضلالة
- لا تحملي نفسك فوق ما تطيقين؛فدفع المفاسد مقدم على جلب المنافع..وأنت لا تعرفين نيتها هل كانت صادقة أم أنها تكذب للإيقاع بك..
ثم واصلت وهي تربت على كتفها:
- وكما قلت لك فالله مطلع على ما في القلوب،ولو أراد لها الهداية فلن يمنعها شيء..ألا نخفي نحن إسلامنا ونعلن الكفر؟ ..الله يعلم أننا مكرهون وأننا لا نقر بذلك

شعرت (ليلى) ببعض الراحة بعد هذه الكلمات،ثم أوت إلى فراشها..وبعد أيام وبينما هي ذاهبة إلى منزل (أرماندو) التقت بـ (كارلوتا) في الطريق..

- إلى أين؟
ابتسمت (كارلوتا) ببشاشة وقالت:
- إلى السوق..
ثم أكملت بعد تردد:
- (إسميرالدا) ..لقد ذهبت إلى الأب (سانشو) للاعتراف..
سقط قلب (ليلى) في قدميها لكنها حاولت التظاهر بالهدوء وهي تستمع إلى الفتاة..
- عرفت أنني كنت مخطئة في تفكيري ذاك،وأن عليّ التمسك بديني
هزت (ليلى) رأسها بحركة غير مفهومة وقالت وهي تغتصب ابتسامة:
- لقد قلت لك ذلك من قبل

كانت دموعها الحبيسة تحرق عينيها..لقد حدث ما كانت تخشاه،ها هي الفتاة تتراجع عن الطريق الصحيح،وبسببها هي..لكن ماذا كان بيدها لتفعله؟ ..

ظلت شاردة طيلة اليوم ولم تنتبه لـ (أرماندو) الذي كان يتتبعها بعينيه..صعدت للطابق العلوي فصعد وراءها وهو يعلم أنه لا أحد بالأعلى،ودخلت إلى إحدى الغرف لتنتفض على صوت غلق الباب.. التفتت لتجد (أرماندو) يقف عند الباب وفي عينيه نظرات خبيثة..

ازدردت لعابها بصعوبة وقالت بصوت متحشرج:

- هل تريد شيئا سنيور (أرماندو) ؟
اقترب منها ببطء وهو يقول:
- بالطبع أريد..
راحت تتراجع وقد بدا الخوف جليا في عينيها فقال:
- أريدك أن تعرفي أنه يمكنني إنهاء اللعبة متى أريد،وما يمنعني هو عدم الرغبة في إنهائها الآن
لم تدر ما الذي يريده منها هذا الرجل..لماذا لا يتركها وشأنها بعد أن اتهمها زورا وبهتانا بأنها سرقته من قبل؟ ..لماذا يصر على اللعب بأعصابها كل هذه المدة؟ ..
لامس وجهها بكفه فأشاحت به بعيدا،فضحك ضحكة عالية وابتعد عنها ثم غادر الغرفة..مسحت وجهها مكان أصابعه وهي تشعر بالتقزز منه..إلى أي مدى ستتحمل سخافاته؟ ..


* * *

أصبحت (ليلى) أكثرعصبية في الأيام التالية،وصارت تصرخ على الأطفال لأتفه الأسباب، وركض (عليّ) إلى حضن جدته وهو يبكي بينما (ليلى) تصيح وتتوعد..

- لماذا تصرخين هكذا يا (ليلى) ؟
توقفت (ليلى) أمام أمها وهي تحاول كبح جماح غضبها،لتأتي (عائشة) من خلفها وهي تقول:
- اهدئي قليلا..الأطفال لا ذنب لهم فيما يحدث..
وسحبتها من ذراعها مبتعدة عن مجال سمع (صفية) وقالت هامسة:
- أعرف أن اعتقال (كارلوتا) أمر مؤلم..لكن أرجوك لا تصبي جام غضبك على الأطفال

عضت (ليلى) شفتها السفلى وهي تشعر بالمرارة والألم،ونظرات (كارلوتا) الخائفة عندما اقتادها الجنود للخارج لا تغيب عن ذهنها..إذن هي لم تتراجع بل اعتنقت الإسلام سرا،وهناك من وشى بها بكل تأكيد..لكن من هو؟ ..وكيف عرف بوجود المصحف معها؟ ..بل كيف حصلت هي عليه من الأساس؟ ..


وتذكرت فجأة ذلك اليوم عندما قابلت (كارلوتا) في الشارع وأخبرتها أنها ذهبت للأب (سانشو) للاعتراف..

صكت (ليلى) وجهها وهي لا تصدق..أمن الممكن أن يكون الأب (سانشو) هو من وشى بها؟ .. ابتسمت لنفسها بسخرية..وماذا في ذلك؟ ..ألا يحضرون بأنفسهم المحاكمات وجلسات التعذيب لكل من أثيرت حوله الشبهات بأنه يقيم شعائر الإسلام أو اليهودية أو حتى البروتستانتية؟! ..

لكن لم يكن هذا وحسب ما يضايق (ليلى) ،بل كان هناك (أرماندو) ..ذلك الثعلب الخبيث الذي لا يكف عن التلاعب بأعصابها طيلة الوقت..


دققت في المرآة جيدا لترى بعض الشعيرات البيضاء على جانب رأسها..مررت يدها عليها وهي تشعر بغصة في حلقها؛هي لم تكمل الخامسة والعشرين من عمرها بعد،فماذا سيكون شكلها إذا بلغت الأربعين إذن؟! ..تنهدت ومشطت شعرها ثم جدلته وغطته كي تبدأ خبز بعض الفطائر مع (عائشة) ..


- كيف حالك في بيت سنيور (أرماندو) ؟

مطت (ليلى) شفتيها في استخفاف وقالت:
- حالي كأية خادمة هناك
- لماذا ذهبت إلى ذلك البيت يا (ليلى) ؟ أو بمعنى آخر لماذا تركت العمل لدى سنيورا (خيمينا) ؟
ارتبكت (ليلى) قليلا ثم قالت:
- قلت لك قبلا أن سنيور (أرماندو) كان في حاجة إلى خدم بعد ولادة زوجته،وبما أنني لم أكن أقيم لدى سنيورا (خيمينا) فلم تمانع أن أذهب إليه،خاصة وأنه سيدفع جيدا

كانت تتجنب النظر في عيني (عائشة) والتي لم تكن مقتنعة بهذه الرواية لكنها آثرت الصمت كي لا تضايق (ليلى) ..

بعد أن انتهت المرأتان من العمل توضأت (ليلى) وصعدت إلى غرفتها..غلّقت النوافذ جيدا وأسدلت الستائر وأظلمت الغرفة تماما،ثم سترت جسدها ورأسها وبدأت في الصلاة..لكنها قطعتها عندما سمعت طرقا على الباب في الأسفل..
خلعت رداءها بسرعة ووضعته في أحد أركان الغرفة ونزلت..كانت (زينب) فتنفست (ليلى) الصعداء..

- لم نعد نراك يا (زينب) ..ما الذي يشغلك عنا؟

ضحكت (زينب) وقالت:
- لا يمكن لشيء أن يشغلني عنكم يا خالة
- ألم يعد زوجك من غيبته الطويلة؟
تغيرت ملامح (زينب) وبدا عليها الضيق..
- نعم..لم يعد بعد
رفعت (صفية) يديها إلى السماء وقالت:
- أدعوا الله أن يرده إليك سالما غانما معافى
- آمين
- وكيف حال (عامر) ؟
- بخير يا خالة
- لماذا لم تحضريه معك؟
ضحكت (زينب) وجاءت (ليلى) بطبق به بعض الفطائر الطازجة،فمدت (زينب) يدها لواحدة من الفطائر وقالت:
- لقد أصبح رجلا يا خالة؛فقد تجاوز العاشرة منذ أسابيع..

قضمت من الفطيرة ورفعت حاجبيها في إعجاب وقالت:

- لذيذة..لا بد أن (ليلى) هي من صنعتها
ضحكت (ليلى) بينما (عائشة) تقول في غضب:
- ولماذا لا أكون أنا من صنعها؟
- لأنك دائما ما تضعين الكثير من الملح في طعامك
ضحكت (ليلى) مرة أخرى وقالت:
- أنا و (عائشة) تشاركنا في صنع هذه الفطائر
قالت (زينب) مشاغبة:
- لقد تحسن أداؤك إذن
مجيء (زينب) أضفى جوا من المرح على البيت الذي أصبحت الكآبة فردا من أفراده..


* * *

ظلام دامس وصوت يبدوا كخرير المياه قريبا منها..صوت أقدام تجري هنا وهناك،ثم سمعت بعض الرجال يصيحون..

خرجت من مكانها لترى أولئك الرجال..كانوا يحملون أشخاصا بدا أنهم إما قتلى أو جرحى،فقد رأت على ضوء القمر الدماء تغطي ثياب معظم الرجال..
وفجأة سمعت صوتا مدويا وقوة خفية دفعتها لتصطدم بالجدار..

شهقت (ليلى) واستيقظت من نومها وهي تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم..مسحت حبات العرق التي علت جبينها رغم برودة الجو،ثم تفلت على يسارها ثلاثا وهي تستعيذ من الشيطان مرة أخرى..


ما هذا الحلم؟! ..وما ذاك المكان؟! ..كان غريبا..هي لا تتذكر تفاصيل المكان أو شكله جيدا لكنها كانت تشعر أن به شيئا مختلفا..

نهضت من الفراش ووضعت شالا من الصوف على كتفيها ثم فتحت النافذة لتتنسم بعض الهواء.. كانت الثلوج تتساقط لتغطي الأرض بطبقة بيضاء..كم تتوق للذهاب إلى حمام المدينة الآن..تنهدت في حسرة؛فأولئك الملاعين لم يتركوا شيئا على حاله،وقضوا على كل ما يمت للطابع العربي أو الإسلامي بصلة..هل بلغ بهم الكره لأن يدمروا معالم المدينة ويغيروها معلما تلو الآخر؟! ..

أغلقت النافذة بعد أن كاد وجهها يتجمد من البرد،واندست في فراشها الدافئ محاولة العودة إلى النوم من جديد..


لاح وجه (كارلوتا) في ذهنها..مسكينة تلك الفتاة..ترى ما حالها الآن؟ هل ستتحمل عذابات محكمة التفتيش؟ ..وماذا سيحل بها بعد ذلك؟ هل ستموت في محبسها أم ستخرج أم..؟!! ..


ارتجف جسدها عندما وصلت لهذه النقطة،فغطت رأسها وكأنما تحتمي بالغطاء من أفكارها،ولم تكن تعلم أن (كارلوتا) ستواجه الخيار الثالث،والذي لم تبح به (ليلى) لنفسها ولم تسمح له أن يتسلل بين أفكارها..


لن ترى (ليلى) عيني (كارلوتا) الزرقاوتين قبل أن يأكلهما اللهب،لن تسمع صرخاتها وسط النيران،ولن تسمع آخر كلماتها وهي تطلب الرحمة والغفران من الله،لن تكون موجودة عندما يقام حفل حرق المهرطقين والمرتدّين الذي سيحضره الأب (سانشو) بنفسه،والذي أعطاها صك الغفران قبل أسابيع..


(ليلى) لن تحضر تلك المحرقة..لأنها ستكون في مواجهة مع محرقة أخرى..




يتبع ...........

لامارا 04-11-13 12:43 AM


تكرر ذلك الحلم عدة مرات لكن مع اختلاف بعض التفاصيل،فتارة كانت تقف خلف بناية وتارة تقف في إحدى الشرفات،وزاد تكرار ذلك الحلم من عصبية (ليلى) أكثر وأكثر..كانت في حاجة إلى اعتزال العالم والجلوس في هدوء لبعض الوقت..لكن هيهات أن يتحقق ما تريد وقد تسلمت بعض مهام (كارلوتا) بعد اعتقال تلك الأخيرة..

جلست على ضفة نهر (شِنيل) الذي تعشقه..أغمضت عينيها وهي تفكر في حياتها..أبويها.. زوجها..طفليها..أخيها و زوجته (عائشة) وابنتهما..منهم من رحل ومنهم من بقي،ومنهم من لا تعرف عنه شيئا..لكن في النهاية هي من تحملت المسؤولية..


أمسكت بجديلتها وراحت تعبث بها..لم تتخيل أن يأتي يوم وتعمل خادمة،وليس ذلك وحسب وإنما لدى أحد القشتاليين أيضا،وهي التي عاشت طيلة حياتها مرفوعة الرأس..تنهدت ونهضت ثم نفضت ثيابها وعادت أدراجها إلى البيت..


في الصباح استيقظت متأخرة،فارتدت ثيابها على عجل ومشطت شعرها كيفما اتفق ثم هرعت إلى بيت (أرماندو) ..

كانت (دولوريس) خارج البيت منذ الصباح،ولم يكن هناك سوى الخدم في البيت..وبينما هي تغير غطاء أحد الفرش سمعت صوتا لطالما أقشعر جسدها اشمئزازا بسببه..

- هل انتهيت؟

التفتت إليه وقالت:
- أوشكت على الانتهاء يا سيدي
فوجئت به يغلق الباب ثم يدير المفتاح في القفل ويضعه في جيبه..تسارعت دقات قلبها رعبا..هذا اليوم لن يمر على خير..
- ماذا تريد مني؟
- أريد الكثير

امتزج الخوف في عينيها بالكره الشديد وهي تقول:

- ولماذا أنا؟
اقترب منها وهو يخلع معطفه لتلتصق (ليلى) بالحائط،وقال:
- لأنك أعجبتني..رغم كل النساء اللواتي عرفتهن،لم أشته امرأة مثلك
- اذهب إليهن واتركني وشأني
- أنا من يقرر لمن أذهب وليس أنت

وأمسكها من كتفيها ثم أحاطها بذراعيه كي يشل حركتها،وهي تحاول التملص منه دون جدوى.. حاول تقبيلها بالقوة لكنها كانت تتحرك بعنف..

صرخت كي ينقذها أحدهم فضحك (أرماندو) وقال:
- لن يسمعنا أحد هنا..اصرخي كما شئت

استطاعت التخلص من قبضته وهرعت إلى الباب لكنه كان مغلقا فلم تدر ماذا تفعل..كان (أرماندو) يقف وينظر لها باستمتاع وهي كالفأر الحبيس في المصيدة،ثم اقترب منها مجددا فهربت منه إلى الجهة الأخرى من الغرفة وهو يضحك..

- لن تستطيعي أن تهربي مني للأبد

أمسكها مرة أخرى فتبعثر شعرها بعد أن انفلتت الجديلة،وأمسكت بثيابه تستجديه أن يتركها..

- أرجوك يا سيدي لا تفعل بي هذا..أرجوك..
كانت تبكي،فارتخت قبضته لتهوي على قدميه تمسك بهما وهي تشهق من البكاء،ودموعها تغرق وجهها وتتساقط على قدميه..
- أرجوك يا سيدي..اتركني وشأني
ابتعد عنها فخفضت رأسها للأرض ودموعها لا تكف عن الانهمار..
- إياك أن تظني أن دموعك هذه هي التي منعتني،أنا فقط لا أريدك أن تنغصي عليّ هذه اللحظات بدموعك المستعارة

رفعت رأسها وقد غطى شعرها وجهها والتصق به بسبب الدموع،وراحت تنظر إليه مندهشة من لهجته،وهي تشعر بالمرارة تكاد تخنقها وهي في هذا الموضع..


لو تركت العمل فلن يتركها،هي تعرف ذلك جيدا فما الحل؟ ..كانت تكره نفسها وهي تكاد تقبل قدميه ليتركها وشأنها..


سكبت الماء على جسدها كي تطهره من لمسات يديه..ماذا لو كان قد تمكن منها؟ يا له من كابوس..سكبت المزيد على رأسها وقد أصبح الماء باردا،لكنها لم تأبه رغم الرجفة التي اعترتها والتي لم تعرف أهي من برودة الماء أم من الأفكار السوداء التي تموج في رأسها..


صعدت إلى غرفتها وقد أرخى الليل سدوله،ولم يعد هنالك من صوت سوى نباح الكلاب من بعيد..

جلست على طرف فراشها وتركت العنان لدموعها التي لم تعد تقو على حبسها..دفنت وجهها بين كفيها وراحت تبكي..إنها في أشد الحاجة إليه الآن..إلى (حسن) ..لو كان موجودا لما عملت خادمة يتحرش بها الغادي والرائح،كانت تتمنى أن تجده بجوارها يمسح عنها دموعها التي أرهقتها..

يا رب..أنا ضعيفة وإن لم ألجأ إليك فلمن ألجأ؟ ..يا رب لا تتركني وحدي،لا تتركني لذلك الرجل يفعل بي ما يشاء..احفظني واحفظ كل مظلوم في هذه القرية الظالم أهلها..

وراحت تناجي ربها من بين دموعها إلى أن غلبها النوم..


* * *

وكأنما استجاب الله لدعوات وتضرعات (ليلى) ،فقد أصيبت بالبرد بسبب استحمامها بالماء البارد ليلة الأمس،ولم تستطع الذهاب إلى بيت (أرماندو) ..

أخيرا شعرت ببعض الهدوء رغم ضجيج الأطفال في البيت،لكنه كان أحب ضجيج إلى قلبها في تلك اللحظات؛فقد أشعرها أنها في مأمن لبعض الوقت،ثم أرسلت (عائشة) لبيت (أرماندو) لتخبرهم أنها مريضة..

نظرت إلى (عليّ) ،أحست أنه قد كبر في تلك الشهور..ضمته لصدرها وهي تتمنى لو توقف الزمن عند هذه اللحظة..أقبلت عليها (زهرة) ،كانت تصغر (عليّا) بعامين فقط،فأخذتها (ليلى) في حضنها هي الأخرى،لكن (عائشة) حذرتها كي لا تنتقل العدوى للأطفال..


جاءت (زينب) بعد المغرب لتطمئن عليها،لكنها لم تكن مرحة كعادتها..


- هل (عامر) بخير؟

نظرت (زينب) إلى (عائشة) وقالت:
- الحمد لله
- ما بك إذن؟
نقلت (زينب) نظراتها بين المرأتين ثم قالت:
- (مروان) ..
وصمتت قليلا ثم قالت:
- اعتقل

شهقت (عائشة) بينما وضعت (ليلى) يدها على صدرها وقالت:

- كيف عرفت؟ ..ومنذ متى وهو معتقل؟
زفرت (زينب) زفرة حارة وهي تجاهد لمنع دموعها من التساقط وقالت:
- عرفت قبل عدة أيام عندما وصلتني رسالة منه،أحضرها صديقه الذي كان يعمل معه.. (مروان) طلب منه أن يعطيني تلك الرسالة إن حدث له مكروه

وسكتت محاولة كبت دموعها فقالت (ليلى) وقد أصابتها غصة،فقد كانت في موضعها ذات يوم:

- وماذا كان في الرسالة؟
- أخبرني أنه عندما تصلني هذه الرسالة فسيكون إما ميتا أو رهن الاعتقال،وطلب مني أن أهتم بـ (عامر) جيدا
أنهت كلماتها وانفجرت في البكاء..

جلست (عائشة) بجوارها واحتضنتها وهي تمسح على شعرها في محاولة لتهدئتها،بينما كانت دموع (ليلى) تتساقط رغما عنها؛فقد تذكرت (حسن) ..وكأن ما حدث له كان بالأمس..يا لقسوة الحياة.. كلما أرادت (ليلى) التعايش مع واقعها حدث شيء يذكرها بماضيها ويعيد أحزانها مرة أخرى..


هدأت (زينب) قليلا ثم قالت:

- صديقه أخبرني أنه اعتقل بتهمة ممارسة السحر
ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجه (ليلى) وقالت:
- التهم جاهزة سلفا
- حسبنا الله ونعم الوكيل..سينتقم الله منهم على ما فعلوه بكل أولئك الأبرياء


* * *

في اليوم التالي قررت (ليلى) أن تعود للعمل رغم إلحاح (عائشة) أن تستريح هذا اليوم أيضا،لكن (ليلى) كانت تخاف أن يظن (أرماندو) أنها تهرب منه فيسبب لها مشكلة أكبر،فأخبرت (عائشة) أن هناك أعمالا كثيرة بسبب رحيل بعض الخدم،ولن يضيرها العمل في هذا اليوم فهي تشعر أنها أفضل..


لحسن حظها كان (أرماندو) قد سافر،فتنفست الصعداء لأنها تعرف أنه لن يعود قبل أسبوع كعادته،ودب فيها النشاط فجأة وراحت تعمل في هدوء..وانتهى يومها على خير..لكنها عادت متعبة وقد ازداد مرضها خاصة مع تزايد برودة الجو..


- قلت لك ألا تذهبي اليوم لكنك عنيدة

أغلقت (عائشة) الستائر وأقبلت على (ليلى) تضع على كتفيها شالا من الصوف لتدفئها..
- كان لدي عمل يا (عائشة) ..وأنت تعرفين أن هؤلاء القوم لا يقبلون الأعذار،وغالبا يقومون بالطرد وإحضار البديل
- فليفعلوا ما شاءوا..بإمكانك العمل في أي مكان آخر
نظرت لها (ليلى) وقالت بسخرية:
- الكلام سهل لكن..
قاطعتها (عائشة) :
- لن نتحدث في هذا الأمر الآن..ارتاحي ريثما أحضر لك حساءً ساخنا

وتركتها لتسبح في أفكارها..الأوضاع تزداد سوءا في البلاد،فالاعتقالات تزداد والأسر تتشرد، وها هو زوج (زينب) ينضم لقائمة المعتقلين من المورسكيين..

انزلقت قليلا في فراشها وشدت الوشاح عليها طلبا للمزيد من الدفء..
مضى وقت كبير منذ اعتقال أحد القشتاليين الذي اشتبه أنه يمارس السحر،ربما كان ذلك منذ خمسة أشهر،لكنها لم تسمع عن المزيد منهم..

انتبهت من شرودها عندما دخلت أمها للغرفة وأغلقت الباب خلفها،فاعتدلت (ليلى) في فراشها لتجلس أمها على طرفه وتقول:

- طهور إن شاء الله يا ابنتي
- إن شاء الله يا أمي
- لا تنسي أن الآمك تحط من خطاياك..فقط عليك بالصبر
- صابرة يا أمي
وصمتت الأم قليلا ثم قالت:
- لا تظني أني حمقاء ولا أعرف أنك تعملين لتنفقي علينا

شهقت (ليلى) ثم سعلت بقوة..ناولتها أمها كأسا من الماء فأخذته (ليلى) وجرعت منه ثم قالت:

- من قال لك هذا الكلام؟
- لست في حاجة لأن يخبرني أحد..عندما أسأل عنك وتخبرني (عائشة) بعلل مختلفة لغيابك في كل مرة،فلا بد أن أعرف
قالت (ليلى) بسرعة وهي تمد يدها لتمسك بيد أمها:
- نحن في حاجة للعمل يا أمي فمدخراتنا لن تكفينا للأبد
زفرت (صفية) وهي تشعر بالأسى..لم يكن بمقدورها منع ابنتها من العمل وهي لا تستطيع أن تعمل أيضا..

تشاجرت (عائشة) مع (ليلى) في اليوم التالي لإصرار الأخيرة على الذهاب لعملها..

- أنت تقتلين نفسك يا (ليلى)
قالت (ليلى) وهي تلبس معطفها استعدادا للذهاب:
- كلنا نعمل ونحن متعبون،لا تحملي الأمور أكثر من طاقتها يا (عائشة)
كانت (عائشة) تعرف أن (ليلى) عنيدة وستفعل ما تريد،فسكتت بينما (ليلى) تقبل يدي أمها ثم احتضنت الأطفال بشدة،وذهبت إلى (عائشة) لتطبع قبلة على وجنتها وتحتضنها وهي تقول:
- لا أحب أن أراك هكذا..أنت تعرفين أنك لست زوجة أخي وحسب،أنت أكثر من أخت..
ثم ابتعدت عنها وهي تحاول رسم ابتسامة على شفتيها وهي تقول:
- انتبهي على الأطفال جيدا،وانتبهي على أمي أيضا

قطبت (عائشة) جبينها دهشة وهي تقول:

- ما بك يا (ليلى) ؟ تتحدثين وكأنك تودعيننا
ابتسمت (ليلى) ولكزتها في كتفها وقالت:
- تقولين هذا كي لا تعترفي أنك لا تحبين تلقي الأوامر

ضحكت (عائشة) وهي تهز رأسها ثم ودعت (ليلى) لتذهب الأخيرة إلى بيت (أرماندو) ..



* * *

كانت قد قاربت على الانتهاء من عملها عندما سمعت صوت الباب يغلق،فانتفضت والتفتت بسرعة إليه لتجده.. (أرماندو) ..لم يُطِل السفر هذه المرة..

- هذه المرة لو بكيت بحورا من الدم فلن أتركك..
تراجعت للخلف لتفاجأ به يفتح الباب ويخرج وهو يقول:
- إياك أن أسمع لك صوتا حتى أعود

وخرج من الغرفة ثم أغلقها بالمفتاح من الخارج..أسرعت إلى الباب تحاول فتحه لكنه كان موصدا بإحكام..خفق قلبها بشدة وقد تيقنت أنه لن يتركها بالفعل..


ماذا ستفعلين يا (ليلى) ؟ لماذا توقف عقلك بهذا الشكل؟ فكري في أي شيء لتخرجي من هذا المأزق..فكري..

ظلت متجمدة في مكانها لدقائق ثم جلست على الأرض..كان المرض قد أنهكها،فرفعت يدها إلى جبينها لتشعر به ساخنا وكأن دماءها من تحته تغلي..

ليتها لم تذهب..ليتها استمعت لـ (عائشة) ..لكنها كانت تعلم أنه خارج المدينة..ما الذي عاد به؟ ..

مرت دقائق ثم نهضت من مكانها وراحت تطرق على الباب بعنف،ليفتح الباب فجأة فتراجعت حتى كادت تسقط على الأرض..

- ألم أقل أني لا أريد أن أسمع لك صوتا؟

- دعني أذهب
أغلق الباب بالمفتاح ووضعه في جيبه وقال بهدوء استفزها:
- أنا السيد هنا،وأنا من ألقي الأوامر..
ثم تابع وهو ينظر لها بوقاحة:
- واصرخي كما شئت،فليس هناك أحد في المنزل..
اتسعت عيناها رعبا..بالتأكيد لن تفلت هذه المرة..

اقترب منها فأمسكت بمزهرية قريبة وألقتها في وجهه لكنه ابتعد بسرعة،ثم انقض عليها وهو يشل حركتها بينما هي تصارع لكن دون جدوى؛فبنيته القوية وضعفها بسبب المرض جعلا الصراع غير متكافئ..

ألقي بها على الأرض لتصرخ فصفعها على وجهها ومزق ثوبها وهو يقول:
- لو أنك أعطيتني ما أريد في المرة الماضية ما كنت لأستخدم معك العنف أيتها الجميلة..لا تنسي أنك مدينة لي بما سرقته من مال

قالت بغضب وهي تقاوم باستماتة:

- لم أسرق منك شيئا أيها الكاذب الحقير
- أعرف..لكنك سرقت هيبتي..فلست أنا من تنفر منه امرأة،خاصة إن كانت خادمة عربية قذرة مثلك

مر وقت من المقاومة والصراخ والألم المختلط بدموعها،ليتركها بعده وهو يعدل من ثيابه ويقول وعلى وجهه ابتسامة مخيفة:

- الآن لم تعودي مدينة لي بشيء
وخرج من الغرفة تاركا الباب مفتوحا..

اعتدلت وهي لا تستطيع السيطرة على نفسها أو دموعها..مدت يدين مرتجفتين تحاول بهما لمّ شعرها المبعثر وستر جسدها ببقايا ثيابها الممزقة..

تحاملت على نفسها وارتدت معطفها وخرجت من البيت وهي تشعر بالقهر،تشيعها نظرات (أرماندو) الشامتة.. فأسرعت الخطى لتبتعد عنه وعن البيت،ولو استطاعت أن تبتعد عن الدنيا كلها لفعلت..


يتبع ...........

لامارا 04-11-13 12:47 AM

https://upload.rewity.com/upfiles/qYB15123.jpg

الفصل الخامس

كانت الشمس قد غابت والجو بارد جدا لكنها لم تعد لبيتها..كيف ستعود وهي بهذا الشكل؟ ..ماذا ستقول لهم؟ ..ورغم إعيائها الذي يشعرها بالمزيد من البرد،راحت تمشي بلا هدى ودموعها تسيل بلا توقف وهي تريد أن تهرب من نفسها ومن تلك الذكرى السوداء التي لن تفارقها أبدا..


سمعت صوتا خلفها فالتفتت لتجد أحد رجال الشرطة يتمشى في الشارع شبه الخالي من المارة، فانحرفت لتعود لبيتها لكنها فوجئت أنه يتبعها..أسرعت في مشيتها وقلبها يخفق بأضعاف قوته..هي لن تتحمل صدمة أخرى..


لكنها توقفت عندما سمعت ذلك الشرطي يصفر بفمه لشرطي آخر ظهر عند الزاوية،فانحرفت مرة أخرى مبتعدة عنهما وهي تدعوا الله أن ينجيها منهما..


كان مرضها قد اشتد وراحت تسعل وهي لا تكاد ترى أمامها،وحاولت الركض بأقصى ما تستطيع من قوة..

اقتربت من نهر (حدرُّه) وراحت تركض على ضفته ثم نزلت فيه وهي تحاول الاختباء منهما.. واصلت المشي حتى وصلت المياه الباردة لخصرها،ثم نظرت للخلف فلم تجد أحدا،لكنها تابعت المشي حتى اختبأت خلف جذع شجرة ضخمة..

ساعدها الظلام أيضا على الاختباء وسمعت صوت أحدهما يتحدث إلى صاحبه ثم ابتعدا عن المكان..خرجت من مكانها ثم من النهر تجر ثيابها المبتلة جرا متجهة إلى البيت،لكن يبدوا أن أحد الرجلين رآها فسمعته ينادي صاحبه ويخبره عنها..


ركضت مرة أخرى لكن هذه المرة كان الأمر أصعب،فثيابها المبتلة كانت ثقيلة ومرضها زاد من ضعفها..فحاولت أن تضللهما بأن تدخل في الأزقة الضيقة حتى وجدت مبنى متهدما لم تره من قبل في هذا المكان..لكن لم يكن أمامها وقت للتعجب أو التفكير فدخلت فيه على الفور..


كان الصوت قد اقترب فتراجعت قليلا،وبسبب الظلام لم تنتبه لتلك الحفرة،فسقطت واصطدم رأسها بالأرض لتغيب عن الوعي فورا..



* * *

فتحت (ليلى) عينيها لتصطدما بظلام دامس..كانت تشعر بألم في رأسها وساقها على إثر السقطة،لكنها حاولت النهوض فخانتها قدماها وسقطت على الأرض لتتأوه بألم..


وضعت يدها على فمها في رعب خوفا من أن يكون أحدا من الرجلين قد سمعها،ثم تحاملت على نفسها ونهضت مستندة إلى الجدار وهي تتلمس طريقها للخارج..


كان هناك ضوء خفيف خارج الجدار الذي كانت تختبئ خلفه،فأسندت جسدها إليه وأرهفت السمع لكنها لم تسمع أحدا..لكن قبل أن تتحرك مرة أخرى سمعت صوت أحدهم،ففزعت وحاولت الابتعاد عن الجدار لكنها توقفت عندما سمعت ذلك الشخص يتحدث العربية..


تعالت دقات قلبها واقتربت من نهاية الجدار كي تفهم ما يقول،لكنها سقطت على الأرض محدثة جلبة،فسمعت الرجل يتساءل صائحا عمن هناك ليهوي قلبها في قدميها..


سمعت صوت أقدام الرجل تقترب من مخبئها فحاولت النهوض عندما واجهها ضوء قوي كاد يعمي عينيها..رفعت يدها كي تحمي عينيها من ذلك الضوء المبهر عندما سمعت الرجل يقول:


- مين إنتي؟


أبعدت يدها عن وجهها وقد انتبهت للهجته الغريبة،وكان الرجل قد أبعد الضوء عن عينيها وهو ينظر لها نظرات تعجب ويكرر سؤاله..

- ومن أنت؟
- أنا يلي بسألك

لم ترد فقد كانت تشعر أن هناك شيئا غريبا في ذلك الرجل..هل هو من خارج (غرناطة) ؟ يبدوا ذلك فلهجته لا تدل على أنه أندلسي أصلا..

- طيب إنتي من وين؟ وشو اللي جابك لهون بها الوقت؟
لم تفهم كلامه فراحت تنظر له بتساؤل..
- هل أنت عربي؟
نظر لها الرجل بدهشة أكبر وقال:
- شو شايفتيني بحكي هندي؟ إيه أكيد عربي

كان الإعياء قد بلغ من (ليلى) مبلغه فاستندت إلى الحائط وراحت تسعل وقد بدأت تشعر بالدوار..

- شكلك تعبانة..
لم ترد..كانت متعبة وكل مفصل في جسدها يصرخ ألما،كما أن رأسها وساقها لا يزالان يؤلمانها،فجلست على الأرض ليقترب منها الرجل ويقول:
- باينتك مو من هون..أكيد هربانة من الشبيحة..
ثم واصل وهو يعتدل واقفا:
- تعي معي اقعدي عنا بالبيت وبكرة بنشوف شو بدنا نساوي
قالت (ليلى) وهي تحاول الوقوف:
- سأعود للبيت..أنا أسكن قريبا من هنا

كانت تتسند على الجدار لتخرج من المكان لكنها سقطت على الأرض،فأسرع الرجل بمساعدتها، وعندما أمسك بذراعها فوجئ أن جسدها يشتعل من الحمى..لم يتكلم مرة أخرى بل حملها على الفور وخرج من ذلك المكان ليذهب بها إلى بيته..


لم تقاوم (ليلى) رغم خوفها من أن يؤذيها هو الآخر لكنها لم تعد تملك القدرة على المقاومة،وبدأ جفناها بالارتخاء..لكنها ومن بين أجفانها نصف المغمضة رأت بيوتا لا تشبه تلك البيوت التي تعرفها في (البيازين) ..ولم تجد الوقت لتفكر في كنه ذلك المكان فقد فقدت وعيها من شدة الإعياء..



* * *

" مين هاي يا (رسلان) ؟ "

" ما بعرف..لقيتها بحوش البناية اللي عالشارع "
" تيابها شكلها غريب "
" البنت حرارتها مرتفعة وتيابها مبلولة،غيرولها تيابها لبين ما أنادي دكتور (علاء) "


* * *

فتحت (ليلى) عينيها ببطء لتجد نفسها في غرفة غريبة،تدخلها إضاءة خافتة من زجاج نافذتها.. رفعت رأسها بصعوبة واتكأت على مرفقها لترى المكان بصورة أفضل..


عطست بقوة ثم ارتمت على الفراش..كان جسدها منهكا جدا،من المرض ومن العمل ومن الركض ومن ..

أغمضت عينيها بقوة وهي تحاول طرد ذلك الوجه اللعين من مخيلتها،وانحدرت من عينها دمعة ساخنة،سارعت بمسحها عندما وجدت الباب يفتح ويطل منه وجه فتاة..

- مسا الخير..إنتي منيحة هلق؟

تساءلت (ليلى) في نفسها عن هذه اللهجة الغريبة،لتجد الفتاة تمد يدها إلى جبينها تتحسسه ثم تقول وقد بدت السعادة على وجهها:
- الحمد لله اتحسنتي كتير
- أين أنا؟
خرج صوتها ضعيفا..فقالت الفتاة وهي تجلس على طرف الفراش:
- لا تخافي إنتي بأمان هون

حاولت (ليلى) أن تعتدل جالسة فساعدتها الفتاة وهي تقول:

- شو إسمك؟
- إسمي؟
- إيه
- (ليلى)
- أنا (ملك)

رغم الإضاءة الخافتة إلا أن (ليلى) كانت ترى البسمة المرسومة على وجه الفتاة لا تفارقها،مما أعطى (ليلى) إحساسا ببعض الأمان،لكنها رغم ذلك كان يكتنفها شعور بالقلق،فالغرفة يبدوا طابعها غريبا جدا..كررت سؤالها:

- أين أنا؟
قالت (ملك) :
- إنتي بالبيت
- بيت من هذا؟
- بيتنا..بيت (رسلان الرفاعي)
لم تسمع (ليلى) عن هذا الاسم من قبل..
- هل هو الذي أحضرني إلى هنا؟
- إيه هو..

وصمتت (ملك) قليلا ثم قالت:

- إنتي ليش بتحكي هيك؟ ..
نظرت لها (ليلى) في عدم فهم فقالت (ملك) :
- ليش بتتكلمي بالفصحى؟ إنتي مو من هون؟
حاولت (ليلى) استنتاج معنى الجملة وقالت:
- أنا من (غرناطة)
- بس ما في شارع أو حي هون بها الاسم
- أنا من مملكـ ..
استدركت بسرعة وقالت:
- من مدينة (غرناطة)
- وينها هالمدينة؟

كانت نبرة الدهشة تتصاعد في الحوار بين المرأتين وكأن كلا منهما تتحدث في موضوع مختلف..لم تعرف (ليلى) بم ترد..هناك شيء ما خطأ..المكان..اللهجة..الثياب.. انتبهت لثيابها لتجد نفسها تلبس عباءة واسعة لها طابع مختلف أيضا عما اعتادته..

- أنا وإمي غيرنالك تيابك،كانت مبلولة كتير..
صمتت (ملك) قليلا ثم قالت:
- وكانت مشقوقة..

تذكرت (ليلى) ذلك التمزق الذي أصاب ثوبها بيد (أرماندو) الآثمة..ارتجف جسدها وتجمعت الدموع في عينيها لكنها منعتها بالقوة،وانتبهت على صوت جرس غريب فأخرجت (ملك) شيئا ما من جيبها وضغطت فيه زرا ما ليتوقف ذلك الجرس..

- هلق صار موعد الدوا..

نهضت (ملك) وتناولت علبة أسطوانية صغيرة فتحتها وأخرجت منها بعض الحبوب،أخذت أحدها وأعطتها لـ (ليلى) ثم ناولتها كأسا من الماء..كان مذاق الدواء غريبا كباقي الأشياء الغريبة التي في هذا المكان..


كان في رأس (ليلى) الكثير والكثير من الأسئلة..لكنها لم تكن تعرف من أين تبدأ..عقلها كان مشوشا..

انزلقت قليلا في الفراش فقامت (ملك) بتغطيتها وهي تقول:
- إذا احتجتي شي بس ناديني

هزت (ليلى) رأسها وابتسمت ابتسامة مرهقة،فخرجت (ملك) وأغلقت الباب خلفها بهدوء..

راحت (ليلى) تسترجع أحداث اليوم في محاولة للوصول إلى النقطة التي أوصلتها إلى هذا المكان..عندما خرجت من بيت (أرماندو) لاحقها أولئك الرجلين،هربت منهما إلى النهر ثم عاودا ملاحقتها لتدخل في ذلك البيت..

اعتدلت في الفراش وقد تذكرت..ذلك البيت لم تره (ليلى) من قبل وهي التي تحفظ شوارع (البيازين) وأزقتها عن ظهر قلب..كيف ظهر فجأة؟ ..

دار رأسها وقد بدأت تشعر بالخوف..هل هي تحت سيطرة عمل سحري مثلا؟ ..أم أنها تحلم؟ ..لا إنها لا تحلم،هذا واقع..

أغمضت عينيها وتدثرت بالغطاء جيدا فقد داعب النوم عينيها واستسلمت له،لعلها تفيق فتجد نفسها في بيتها بـ (البيازين) ..



يتبع ...........

لامارا 04-11-13 12:50 AM

https://upload.rewity.com/upfiles/hL915340.jpg

الفصل السادس

صوت الأذان الجميل..تسلل إلى أذني (ليلى) لتتململ في فراشها وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة..فتحت عينيها وهي تشعر بالحسرة..يا له من حلم جميل ليته يتحقق،ليتها تعود إلى المسجد الكبير في (غرناطة) حيث كانت تصلي العيد وهي صغيرة مع أبيها وأخيها وأبناء عمومتها..قبل أن تُرفع عليه الصلبان وتعلق الأجراس..

" الصلاة خير من النوم "

انتفضت (ليلى) جالسة وهي تسمع ذلك الصوت..هذا ليس حلما..
" الصلاة خير من النوم "

هبت من الفراش رغم إعيائها..ثم جلست بسرعة لشعورها بالدوار..فتح الباب لتسمع صوت (ملك) :
- ما شاء الله..شو هالنشاط
التفتت (ليلى) إليها لترى امرأة تدخل وتقول:
- كيفك هلق يا بنتي؟
لكن (ليلى) بدت وكأنما لم تسمع شيئا وقالت:
- ما هذا الصوت؟
قالت المرأة:
- هاد الأذان

قامت (ليلى) من مكانها رغم ألم قدمها،واقتربت من النافذة وهي تقول بصوت يملؤه الذعر:
- سيعتقلونه حتما..
جذبت الستائر وألصقت وجهها بالزجاج البارد لترى بعض المآذن المضيئة في عتمة الليل،ثم قالت وهي تكلم نفسها:
- كيف تركوا هذه المساجد؟ ..
فتحت النافذة لتسمع صوت الأذان يتردد من مساجد أخرى،فالتفتت إليهما وقالت:
- هل سمحوا لكم بالصلاة في المساجد؟

كانت (ملك) تتبادل النظرات مع أمها التي قالت:
- والله ما منعوها يا بنتي..الله يستر..هنن خونة ويعملوها

ظلت (ليلى) تستمع إلى الأذان وتدموعها تسيل بلا توقف..آخر مرة سمعت صوت الأذان كان منذ سنوات مضت،بعده لم تعد تسمع سوى صوت أجراس الكنائس ..
عطست بقوة ثم استندت إلى الجدار فاتجهت (ملك) إليها وقالت وهي تغلق النافذة:
- رح تتعبي مرة تانية بعد ما اتحسنتي
ثم أخذتها من يدها وأوصلتها للفراش بينما الأم تقول وهي تخرج من الغرفة:
- رح شوف (محمود) فاق ولا لسة..وجهزي حالك لنصلي
- طيب ماما..
والتفتت إلى (ليلى) وقالت وهي تربت على كتفها:
- تعي اتوضي..رح ساعدك..
ثم قالت:
- وبعدها رح اربطلك رجلك

كادت (ليلى) أن تنهض لكنها تذكرت ما حدث قبل ساعات..ارتجف جسدها وشعرت بالغثيان ثم قالت:
- يجب أن..
وأصيبت بالارتباك فكيف ستفسر موقفها؟ ..
- يجب أن أغتسل قبلا
- طيب حبيبتي رح شوف الحمام وجهزلك تياب نضيفة
وخرجت..لتجد (محمود) يخرج من البيت للصلاة..
- إمي.. (ليلى) بدها تتحمم.. (رسلان) هون؟
- لا بنتي..نزل قبل شوي

دخلت (ملك) إلى الغرفة وأحضرت ثيابا نظيفة وأعطتها لـ (ليلى) كي تستحم..خرجت (ليلى) مستندة على (ملك) إلى الصالة وهي تنظر حولها ودهشتها تتزايد..هناك الكثير من الأشياء الغريبة في هذا المكان..
أشارت لها (ملك) إلى الحمام لتدخل (ليلى) وتقف مشدوهة..
- شو؟ تعبتي مرة تانية؟
التفتت إليها (ليلى) وقالت:
- كيف سأستحم هنا؟
نظرت (ملك) لأمها في دهشة ثم قالت:
- عادي..
ودخلت إلى الحمام ثم فتحت المرش وهي تقول:
- هيك
تقدمت (ليلى) خطوة للداخل ثم قالت بخجل:
- وأين سأقضي حاجتي؟
تبادلت الأم وابنتها النظرات مرة أخرى ثم أشارت (ملك) إلى المرحاض وشرحت لها كيفية استخدامه،لتدخل (ليلى) وتغلق خلفها الباب..

- (ملك) ..هالبنت مجنونة شي؟
هزت (ملك) كتفيها وقالت:
- ما بعرف..شكلها غريب..تيابها..كلامها..نظراته ا..شكلها مو من هون أصلا..
تابعت وهي تسمع صوت الماء في الحمام:
- ممكن تكون تركية وضيعت طريقها..أو..
سكتت قليلا ثم قالت:
- أو إنها فاقدة الذاكرة مثلا؟
- ممكن..الله أعلم يا بنتي

بعد ربع ساعة خرجت (ليلى) من الحمام وشعرها لا يزال يقطر ماء..
- نعيما حبيبتي
كانت (ملك) تبتسم كعادتها..ثم قامت لتساعد (ليلى) على تجفيف شعرها..
- ما شاء الله شو هالشعرات الحلوين..
والتفتت إلى أمها وهي تقول:
- ماما..شوفي قديش شعرها حلو

كانت (ليلى) صامتة كالتمثال..لا تعرف ماذا تقول..هي لا تعرف كيف جاءت إلى هنا،ولا تعرف من هؤلاء الناس..
دخلت النسوة إلى الغرفة التي كانت تنام بها (ليلى) وبسطت (ملك) السجاجيد للصلاة،ثم أعطت (ليلى) ثوبا لتصلي..

- الله أكبر..الحمد لله رب العالمين..الرحمن الرحيم..مالك يوم الدين..إياك نعبد وإياك نستعين..

عند هذه الآية دمعت عينا (ليلى) ..نعم يا رب إياك نعبد..إياك نعبد..وبك نستعين على هذه الدنيا.. نحن مسلمون لك لكننا مكرهون على الكفر..اللهم ثبتنا على ديننا..

- اهدنا الصراط المستقيم..صراط الذين أنعمت عليهم..غير المغضوب عليهم ولا الضالين

بدأ جسد (ليلى) يرتجف..إنقذنا يارب من الضالين..لا تسلطهم علينا أكثر من هذا..يا رب مسنا الضر وأنت أرحم الراحمين..
كان صوت (ملك) جميلا في التلاوة،مما زاد من بكاء (ليلى) ..لا تذكر متى كانت آخر مرة صلت في جماعة مع (عائشة) أو مع أمها..فور أن مس جبينها الأرض علا نشيجها،كانت تسجد بقلبها وتمنت لو ظلت ساجدة للأبد،أربع سنوات تصلي في الخفاء وحدها،تتخفى وكأنها مقدمة على جريمة، وتخشى أن يراها الأطفال فيتكلمون دون وعي أمام العامة،ليسمعهم أحد القشتاليين أو الخونة فينفضح أمرها..

لم تتوقف عن البكاء حتى بعد أن سلمت..

- شو بك يا (ليلى) ؟ في حدا مضايقك؟ عندك مشكلة؟
حاولت (ليلى) أن توقف دموعها المنهمرة،بينما (ملك) تمسح على رأسها..فقالت الأم:
- رح حضر لفطور..أكيد جوعانة من أمس ما أكلتي شي

وخرجت من الغرفة كي تترك لهما حرية الحديث..فقامت (ملك) بمساعدة (ليلى) على خلع ثوب الصلاة،ثم جلست على طرف الفراش وهي تربط قدمها وتقول:
- (ليلى) ..إنتي وين أهلك؟ منين إجيتي؟
- أهلي؟ ..
زفرت (ليلى) ثم قالت:
- أهلي في (غرناطة)
- أخي قال إنو شافك قريب من هون..كنتي هربانة من حدا؟
- هاربة؟
- إيه
ران الصمت عليهما لثوان ثم قالت (ليلى) :
- كان هناك رجلان يتتبعانني
- من الشبيحة؟
نظرت لها (ليلى) بغير فهم..
- يعني مجرمين؟
- لا..بل كانا من الشرطة
- ولي! ..شرطة؟ بس ما في شرطة هون!
- ليس لديكم شرطة؟
- إيه بلى عنا..بس هالإيام لجان الحماية المدنية بتقوم بعمل الشرطة..وأخي كان راجع من اللجنة لما شافك

ساد الصمت وكل منهما تفكر فيما قالته الأخرى..ثم قامت (ملك) وأحضرت مشطا لتمشط شعر (ليلى) التي أرادت أن تسأل سؤالا لكنها كانت خائفة من الإجابة..خائفة من أن تتأكد شكوكها..لكن صوت الأم أنقذها وهي تناديهما لتناول الطعام..
- استني..رح تخرجي هيك؟ ..
وفتحت خزانتها لتعطيها حجابا تغطي به رأسها..
- إخواني الرجال برة
أمسكت (ليلى) قطعة القماش تتحسسها وقد لمعت الدموع في عينيها،ها هي تلبس حجابها دون خوف..

خرجت مع (ملك) التي جذبت لها أحد المقاعد لتجلس عليه،ثم ذهبت تساعد أمها في إحضار الطعام من المطبخ،وبعد دقائق جلست بجوارها بينما أمها تنادي ولديها..
- صباح الخير..
أتى الشاب الذي التقت به (ليلى) بالأمس..
- كيفك هلق؟ إن شاء الله منيحة
هزت (ليلى) رأسها..لا بد أنه (رسلان) فقد سمعت اسمه وهي تتأرجح بين الوعي واللاوعي عندما أحضرها إلى هنا..ثم ظهر شاب آخر وجلس وهو يقول:
- صباح الخير..
ثم وجه حديثه إلى (ليلى) :
- كيف حال ضيفتنا؟
هزت (ليلى) رأسها مرة أخرى ثم راحت تجول بعينيها في المكان..كل شيء غريب..غريب.. لطالما رأت اختلاف بيوت القشتاليين عن بيوتهم الأندلسية،ورغم ذلك كانت هناك أشياء مشتركة..لكن هنا يوجد الكثير من الأشياء التي لم ترها من قبل في حياتها،ولا تظن أن ملكي (قشتالة) بنفسيهما قد رأوها..
- ليش ما بتاكلي يا بنتي؟
انتبهت (ليلى) من شرودها ثم بدأت تأكل..مد (محمود) يده إليها بكوب من الحليب الدافئ وقال:
- لا تخجلي

بعد قليل نهض (محمود) وهو يقول:
- رح روح هلق..بدكن شي؟
- يسلمو..الله معك
- استناني يا (محمود) ..بدي روح معك
قبل الشابان يد أمهما وخرجا..ثم أحضرت (ملك) الدواء لـ (ليلى) مرة أخرى فأخذته شاكرة لتقول الأم:
- بنتي..بعرف إنك تعبانة بس بدنا نعرف إنتي من وين حتى نكلم أهلك ونطمنهن عليكي
- بتقول إنها من..
وسكتت قليلا ثم قالت لـ (ليلى) :
- قلتي بلدك شو إسمها؟
- (غرناطة)
- وينها هاي يا بنتي؟ بأي بلد؟
أدارت (ليلى) بصرها بين المرأتين ثم قالت:
- في (قشتالة)
قالت (ملك) بدهشة متزايدة:
- وينها (قشتالة) هاي؟
قالت الأم:
- إنتي مو من هون صح؟
فهمت (ليلى) العبارة فأومأت برأسها أن نعم..فقالت (ملك) :
- ما بدي دايقك بس..شو اللي جابك عا (سورية) بها الإيام؟! ..

بدت الصدمة على وجه (ليلى) فقالت (ملك) بسرعة:
- والله مو بقصدي..بس نحنا بحالة حرب وأنا خايفة عليكي لهيك سألت
كانت هذه هي إجابة السؤال الذي تخشاه..لقد خرجت أو أُخرِجت بطريقة ما من (غرناطة) ،بل من (الأندلس) كلها..


يتبع ...........




لامارا 04-11-13 12:57 AM




- (سورية) ! ..
هبت (ليلى) واقفة لكن قدمها آلمتها فجلست مرة أخرى وهي تقول:
- كيف جئت إلى هنا؟ من أحضرني؟
- ليش إنتي وين كنتي قبل ما تجي لهون؟
- كنت في (غرناطة)
أخذت (ملك) نفسا عميقا ثم قالت:
- (ليلى) ..احكيلي كل شي من الأول،بركي نقدر نساعدك

من أين تبدأ؟ ..منذ أن عملت لدى (أرماندو) ؟ ..أم منذ الحادث..

أغمضت عينيها وقد اعترتها رجفة..لا..لن تذكر شيئا عن (أرماندو) ..بدأت تروي لهما كل ما حدث منذ أن خرجت من بيته حتى وجدت نفسها في هذا البيت..

ساد الصمت للحظات قبل أن تقول (ملك) :

- قصتك غريبة كتير..
ثم التفتت إليها وهي تقول:
- وهاي (غرناطة) تبع أي بلد؟
- (الأندلس)
عقدت (ملك) حاجبيها دهشة وقالت:
- (الأندلس) ؟! ..بس هاي ما عادت موجودة من زمان
- أعرف..لقد احتلها القشتاليون منذ سنوات
ساد الصمت مرة أخرى لتقطعه الأم قائلة:
- خلاص خلي (أحمد) لما يرجع يقعد معها..بركي بيقدر يساعدها
- إيه صح..
ثم التفتت إلى (ليلى) لتجدها تتثاءب فقالت:
- قومي نامي هلق..أكيد هاد تأثير الدوا

لم تعترض (ليلى) ؛فقد كانت تريد الاختلاء بنفسها لتفكر في تلك الورطة التي وقعت بها..قامت بمساعدة (ملك) التي أوصلتها حتى الفراش ثم دثرتها جيدا كي لا تبرد..


شكرتها (ليلى) وعقلها يكاد ينفجر من كثرة التفكير..ترى ماذا حل بـ (عائشة) وأمها والأطفال؟ .. هل يبحثون عنها الآن؟ ..لا بد أنهم قلقون،ولا بد أن طفليها يبكيان الآن..دمعت عيناها وهي تشعر بالشوق إليهما..لقد انشغلت عنهما كثيرا في الآونة الأخيرة بعد اعتقال أبيها وبدئها بالعمل..تذكرت عندما احتضنتهما بالأمس وما قالته (عائشة) ..


" ..ما بك يا (ليلى) ؟ تتحدثين وكأنك تودعيننا.. "


أغمضت عينيها بقوة تحاول منع سيل الدموع الذي أغرق وجهها..دوما ما تكون (عائشة) على حق..ليتها أطاعتها وظلت في البيت،لكن هذا قدر وما كانت لتهرب منه على أية حال..


- مسكينة هالبنت والله

تنهدت (ملك) وقالت:
- الله يعينها..شكلها مصدومة..
ثم تابعت:
- وشفتي شلون عيونها كانت عم تطلع بالمكان؟ كأنها جاية من عالم تاني
ولم تدر (ملك) كم كانت محقة..


* * *


استيقظت (ليلى) على صوت أذان الظهر،فنهضت لتقف عند النافذة لتمتع أذنيها بذلك الصوت.. كانت السماء تمطر والجو بارد لكنها رغم ذلك استندت إلى النافذة ترقب قطرات المطر التي ترتطم بزجاج النافذة بقوة وكأنما تريد تحطيمه،لكنها تنهزم أمام صلابة الزجاج فتسيل لتختلط بقطرات أخرى لاقت نفس المصير..مثلها تماما..إن هي إلا قطرة في هذه الدنيا حاولت التغلب على مصاعب الدنيا لكنها فشلت..هزمت..تحطمت..


لكنها لم تكن وحدها،فأهل (الأندلس) كلهم كانوا كقطرات المطر..كثر لكن لا تأثير لهم أمام جحافل النصارى التي كانت تقضم من أرض (الأندلس) القطعة تلو الأخرى وتلوكها في استمتاع وهي تفرض الجزية على المسلمين،وترفع صلبانها فوق مساجدهم..تحرق كتبهم ومصاحفهم..تخلع عن نسائهم حجابهن،وتبدل لغتهم بلغة المحتل..


كل هذا والأمراء المسلمون يتعاركون على الفتات الذي يلقيه إليهم النصارى،ويبيعون بعضهم بعضا لعرض من الحياة الدنيا..يبيعون إخوانهم للنصارى حفاظا على كراسي ومناصب..وهم لا يعلمون أنهم أُكِلوا يوم أُكِل الثور الأبيض..


سمعت طرقا خفيفا على الباب..التفتت لتجد (ملك) تفتح الباب بهدوء ثم تبتسم لمرآها..


- منيح إنك صحيتي..تعي اتوضي لنصلي سوا

ابتسمت لها (ليلى) وأومأت برأسها،وخرجت للوضوء ثم صلت مع (ملك) وأمها..
- هل لديكم مصحف؟
تعجبت (ملك) وقالت أمها:
- طبعا يا بنتي..ما في بيت إلا وفيه أكتر من واحد
أحضرت لها (ملك) أحد المصاحف وأعطتها إياه ودهشتها تتزايد من تصرفات (ليلى) ..ثم تركتها في الغرفة وخرجت..

- ماما..أنا شوي ورايحة لخالة (مريم) ..ديري بالك عا (ليلى) ماشي؟

- شو يا بنتي مفكرتيني صغيرة
طبعت (ملك) قبلة على خد أمها وقالت:
- إنتي ست الكل

أمسكت (ليلى) بالمصحف ثم ألصقته بوجهها وقد بدأت تبكي..منذ زمن لم تر مصحفا ولم تلمسه بيدها..فتحته لتقع عيناها على سورة (العنكبوت) ..



(الم * أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون * ولقد فتنا الذين من قبلهم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين * أم حسب الذين يعملون السيئات أن يسبقونا ساء ما يحكمون) ..


انهمرت دموعها حتى لم تعد ترى الكلمات أمامها..ولم تدر هل ذلك من حنينها إلى المصحف أم من وقع الآيات عليها..مسحت دموعها وواصلت القراءة وهي لا تكاد تصدق أنها تقرأ القرآن دون أن تشعر بأن أحدا ما يراقبها..


ارتدت (ملك) ملابسها واتجهت إلى الباب لتخرج،فسمعت صوت قراءة (ليلى) ..ابتسمت ثم خرجت من البيت..



* * *


بعد العصر وبينما (ملك) وأمها تضعان الطعام على المائدة،سمعت (ليلى) صوت جرس غريب لتتجه على إثره (ملك) إلى الباب لفتحه بعد أن ارتدت حجابها وأحضرت لـ (ليلى) حجابها ثم فتحت الباب..

- السلام عليكم..
التفتت لتجد شابا طويلا أحنت (ملك) أمامه رأسها قليلا وهي تقول بخفوت:
- وعليكم السلام
مال الشاب على أذنها فأشاحت (ليلى) بوجهها..
- اشتقتلك

احمر وجه (ملك) حياء ولم ترد ثم ابتعدت عن الباب لتفسح له المجال ليدخل،لكنه توقف عندما رأى (ليلى) وقال بصوت منخفض:

- عنا ضيوف؟
- مو بالضبط..
نظر لها مستفسرا فقالت:
- ادخل وبعدين منحكي
- السلام عليكم
ردت (ليلى) السلام لتقول (ملك) :
- هاد (أحمد) يلي حكيتلك عنه..
ثم التفتت إلى (أحمد) وقالت:
- هاي (ليلى) ،عندها مشكلة صغيرة وما في غيرك بيقدر يحلها

قبل أن يقول شيئا جاءت الأم وهي ترحب به..

- كيفك (أحمد)
- الحمد لله يا خالتي..إنتي شلونك؟
- نشكر الله..
بدؤوا بالأكل والأم تقول:
- شو (رسلان) و (محمود) ما هم جايين؟
- إي والله نسيت قلك..(رسلان) اتصل فيني وقالي إنهن رح يتأخروا مشان إجتهم بضاعة وراحوا يستلموها
كانت (ليلى) تأكل في صمت فقالت (ملك) :
- شو عجبك الأكل يا (ليلى) ؟
أومأت برأسها إيجابا وهي لا تزال في صمتها..
- (ليلى) .. بعد الأكل رح تحكي لـ (أحمد) قصتك مرة تانية،وإن شاء الله يلاقيلك حل

أومأت (ليلى) برأسها مرة أخرى بينما (أحمد) ينظر إلى (ملك) في عدم فهم،لكنها أشارت له أن يواصل طعامه..وبعد أن انتهوا روت (ليلى) حكايتها مرة أخرى لـ (أحمد) ،والذي كانت نظراته تقطر منها الدهشة..


- والله قصتك غريبة كتير..

ثم حك رأسه وهو يقول:
- متأكدة إنك إجيتي من (الأندلس) ؟
قطبت (ليلى) جبينها في ضيق وقالت:
- لماذا لا يصدقني أحد؟ ما الذي سأجنيه إن كذبت عليكم؟
قال (أحمد) بسرعة:
- والله مو قصدي..بس..
وسكت لثوان ثم قال:
- إنتي بتعرفي إن (الأندلس) سقطت من زمان؟
- أعرف فقد احتلها القشتاليون ،والذي كان يتتبعني رجلان منهم
- لا مو هيك.. (الأندلس) سقطت من أكتر من خمسمية سنة!

بدت الصدمة على وجة (ليلى) ..هل سمعت جيدا؟ هل قال خمسمئة؟ ..


- (ليلى)

نظرت (ليلى) إلى (ملك) ثم إلى (أحمد) ..
- لا يمكن..أنت مخطئ..لقد كنت بالأمس هناك
- والله مصدقك..بس يلي حكيتيه ما إلو تفسير تاني
قالت (ليلى) وكأنما تحادث نفسها:
- خمسمئة سنة!

- شوفي..هلق يلي فهمته إنك كنتي عم تهربي من هادول الرجال وبعدين دخلتي بيت ما شفتيه قبل هيك صح؟

أومأت (ليلى) برأسها فواصل (أحمد) :
- هداك البيت يمكن يكون نقطة انتقال في الزمان والمكان
- أتريد مني أن أصدق أنني انتقلت من أقصي الغرب إلى أقصى الشرق،ومن زمن إلى زمن آخر؟ ..أي عقل يصدق هذا
- طيب هاتيلي عقل يفسر هالموضوع؟ ..
لم ترد فقال:
- على كل حال لمن يرجع (رسلان) رح نخليه يورجينا المكان يلي شافك فيه..طيب؟

كانت (ليلى) تنقل بصرها بين (أحمد) و (ملك) وأمها..تنهدت ثم قالت:

- لا بأس..سأنتظر


* * *


- هاد هو المكان..

كان (رسلان) يحمل كشافا قويا يضيء المكان كله..
- لقيتها هون

اقترب (أحمد) و (ليلى) و (ملك) من المكان وهما يتفقدانه جيدا بحثا عن أي شيء قد يساعدهما، لكن لم يكن هناك شيئا يستحق الاهتمام..بعض القراميد المبعثرة على الأرض وسط التراب والأحجار، وبعض أدوات البناء..فعاد الجميع أدراجهم في صمت..


شعرت (ليلى) أن رأسها يكاد ينفجر من كثرة التفكير..هل هي في حلم؟ ..لا هذا ليس حلما وليس سحرا كما كانت تظن من قبل،إذن فهي قد انتقلت بالفعل إلى زمن آخر..أغمضت عينيها بقوة لترى صورة أطفالها في مخيلتها..ماذا يفعلون الآن من دونها؟ ..هل يعقل أنها لن تتمكن من رؤيتهم مجددا؟ ..


تعجبت من حالها،فالحزن لم يكن ما تشعر به..لماذا لا تبكين يا (ليلى) ؟ ..هل جفت دموعك؟ ..

قطع تفكيرها صوت أحدهم يتحدث خارج الغرفة..فوضعت الشال الذي أحضرته لها (ملك) ـ وضعته على كتفيها بعد أن غطت رأسها وخرجت من الغرفة لتلتفت لها أعين الجالسين،وتنهض (ملك) لمساعدتها على الجلوس..

لكن عيني (ليلى) تعلقتا بذلك الصندوق الذي تتحرك على سطحه الأمامي صورا لأحد الشوارع، فجلست وهي تحملق فيه بخوف..


- ما هذا؟ ..هل هذا سحر؟

- أعوذ بالله يابنتي..سحر شو؟ ..هاد تلفزيون
نظرت (ليلى) للأم في غير فهم فقال (محمود) :
- هاد جهاز بيعرض صور لأماكن بعيدة عن هون مشان العالم كله يشوفها
اعتدلت (ليلى) وقالت:
- وهل يمكن أن أرى (غرناطة) من هنا؟
ضحك (محمود) و (ملك) ثم قال:
- لأ..هو ما بيعرض يلي بدك تشوفيه

ثم شرح لها ما هية الجهاز و (ليلى) تستمتع له وكأنه يروي إحدى حكايات (ألف ليلة وليلة) .. التفتت إلى الجهاز مرة أخرى تحملق في الصور..بشر وشوارع وبيوت..


ورغم كل ما مرت به ارتسمت على وجهها ابتسامة..يبدوا أنها سترى الكثير من العجائب هنا..



يتبع ...........

لامارا 04-11-13 01:05 AM

https://upload.rewity.com/upfiles/IOI16219.jpg

الفصل الثامن




- (أحمد) ابن خالتي الله يرحمها،وهو بيكون خطيبي..

كانت (ملك) تهمس لـ (ليلى) وهي مستلقية بجوارها في الفراش..
- اتخطبنا من سنة وبعد ما جهزنا بيتنا..
سكتت قليلا ثم تابعت:
- اتهدم بصاروخ من صواريخ الكلب (بشار)
قالت (ليلى) بدهشة:
- ومن هو الكلب (بشار) ؟!
ضحكت (ملك) وقالت:
- مو كلب..هاد رئيس البلد
- تقصدين الحاكم؟
- إيه..بس الله يلعنه خرب البلد ولساته عم يخرب فيها أكتر
- وأين الخليفة من كل هذا؟

نظرت إليها (ملك) ثم انفجرت ضاحكة،ووضعت يدها على فمها كي لا يسمع أحد ما صوتها وقالت:

- أي خليفة يا (ليلى) ؟ الخليفة مات من شي مية سنة
- مات!
- إيه وماتت معه الخلافة كلها..
ساد الصمت عليهما لثوان قبل أن تقطعه (ملك) قائلة:
- بكرة رح خلي (أحمد) يحكيلك عن كل شي بدك تعرفيه،هو صحيح معلم لغة عربية بس بيحب التاريخ..

التاريخ! ..ارتسمت ابتسامة ساخرة على وجه (ليلى) ..كنتِ بالأمس فقط من التاريخ،واليوم ستسمعين بأذنيك أحداثا عاصرتها وأحداثا لم تشهديها..


- أخوه لـ (أحمد) مهندس اتصالات،بس بيعشق التاريخ عشق،وهو يلي خلى (أحمد) يتعلق بالتاريخ

انتبهت (ليلى) من شرودها ثم قالت:
- ما معنى مهندس اتصالات؟
أجابتها (ملك) ثم ابتسمت؛فهذه الفتاة تسأل عن كل شيء كالأطفال..بدا لها هذا الخاطر مضحكا، لكنه كان محزنا أيضا،فلا بد أن (ليلى) تشعر بالاضطراب لعدم فهمها ما حدث،كما لم تفهم (ملك) أيضا..

- آسفة لأني جعلتك تنامين خارج غرفتك بالأمس

هزت (ملك) رأسها وقالت:
- لا تقولي هيك..نحنا إخوات
سمعت (ليلى) صوت الجرس الغريب مرة أخرى والذي يصدر من شيء صغير،ضغطت (ملك) فيه زرا ثم قالت:
- موعد الدوا
- (ملك) ..ما هذا الشيء؟
وأشارت إلى الجهاز الذي كان يصدر الرنين قبل ثوان..
- هاد موبايل
وشرحت لها ما هيته والدهشة لا تزال هي المسيطرة على (ليلى) منذ أن أتت لهذا المكان..



لامارا 04-11-13 01:11 AM



https://upload.rewity.com/upfiles/0d416537.jpg


الفصل التاسع

الأموات لا يعودون للحياة..
للوهلة الأولى أصيبت (ليلى) بالرعب لمرآه،لكنها فطنت إلى أنها ليست في (غرناطة) ،إذن فكل شيء ممكن..

هي تعرف هذا الوجه جيدا ولا يمكنها أن تنساه..شعره الأسود الكثيف،حاجباه العريضان،عيناه المكحولتان الخضراوتان كالزيتون الإشبيليّ،أنفه الأقنى،شفتاه المقوستان،ذقنه المرصوع ولحيته الخفيفة النابتة..

مدت يديها واحتضنت وجهه بين كفيها..إنه هو..نظرت في عينيه مباشرة وقلبها يكاد يقفز من صدرها من الانفعال..

- (حسن) !

وقف الشاب مذهولا كالبقية الذين لحقوا به إلى المطبخ..
- شلون عرفت إسمي؟!
خرج صوته مضطربا كيديه اللتان رفعهما ليمسك بيدي (ليلى) ويبعدهما عن وجهه برفق..
أفاق الجميع من ذهولهم فأسرعت (ملك) إلى (ليلى) تجذبها من ذراعها بعيدا وهي تقول:
- شو بك يا (ليلى) ؟! ..
لكن عيني (ليلى) ظلتا معلقتان بوجه (حسن) ..الضيف المنتظر..
- إنتي شفتيه من قبل؟
قالت (ليلى) وكأنما لم تسمع شيئا:
- أنت لم تمت..لقد جئت إلى هنا ولم تمت

بدا لـ (ملك) أنها تهذي فأخرجتها من المطبخ وهي تقول بصوت منخفض:
- شو عم بتقولي؟ الزلمة عايش الله يحميه..شو قصدك بها الحكي؟
التفتت (ليلى) إليها وقالت وقد سمعتها أخيرا:
- كيف جاء إلى هنا؟ منذ متى وأنتم تعرفونه؟
- بسم الله الرحمن الرحيم.. (ليلى) إنتي شو حصلك؟ هاد إبن خالتي،أخوه لـ (أحمد) ..مهندس الاتصالات اللي خبرتك عنه من قبل

كان جسد (ليلى) يرتجف وهي لا تعي ما يحدث حولها..أمن المعقول ألا يكون هو؟ ..لكن كيف وصل الشبه لهذه الدرجة؟ والاسم أيضا! ..
خرج (حسن) من المطبخ برفقة (أحمد) والذي كان ذهوله لا يقل عن ذهول أخيه..وسمعت (ملك) أمها تناديها كي تضع الطعام على المائدة..فربتت (ملك) على كتف (ليلى) ودخلت إلى المطبخ..
جلس (حسن) على أحد المقاعد محاولا تجنب النظر إلى (ليلى) والتي لم ترفع عينيها عنه وقد أغلقت قبضتيها بقوة محاولة تخفيف ارتجافهما..لكن هيهات وحبيبها يجلس أمامها لا تقو على لمسه مرة أخرى..أصابها الاضطراب..هل هو زوجها أم لا؟ ..

نظر إليها ليجدها لا تزال مسددة نظراتها إليه،فتعجب منها ثم تنحنح وقال:
- يا آنسة..أنا بشبه حدا تعرفيه؟
حتى صوته مثل صوت زوجها..كادت تجن..
- يلا يا شباب الأكل جاهز
التفت (حسن) إلى خالته وقام محاولا الهرب من تلكما العينين..
- (ليلى) ..قومي يا بنتي مشان تاكلي
ساعدتها (ملك) على القيام وأجلستها على أحد الكراسي ثم جلست بجوارها..مضت دقائق من الصمت قطعها (أحمد) في محاولة لتلطيف الجو العام:

- شو رأيك يا خالتي بها المفاجأة؟
ابتسمت الأم وقالت:
- والله اشتقنالك يا (حسن) ..لإيمتى رح تضل بـ (دركوش) ؟
قال (حسن) ممازحا:
- رح ضل لحتى تقلعيني من هون
قالت (ملك) بحبور:
- والله مو مصدقة..كنت فقدت الأمل إني شوفك مرة تانية..معقول أنت هون وكمان رح تضل عنا؟ ..أكيد أنا بحلم ما؟

كانت (ليلى) تستمع للحوار وهي تعبث في صحنها بالملعقة..هذا (حسن) آخر..له عالمه وأقرباؤه وأحباؤه الذين يفتقدونه ويسعدون لعودته..
رفعت ناظريها إليه لتجده يتحدث مبتسما ثم تلتقي عيناه بعينيها فتتلاشى الابتسامة من على وجهه،وتحل محلها الدهشة والارتباك في نفس الوقت من تلك المرأة التي لا تكف عن مطاردته بعينيها..

- أكلك بعده طيب يا خالتي..بس يا ترى (ملك) مستواها هيك ولا رح تعذب (أحمد)
ضحكت الأم وقالت:
- (ملك) أكلها أطيب من أكلي
نظرت له (ملك) بانتصار وبدأت تساعد والدتها لتنظيف المائدة ومعهما (ليلى) ..
- أرجو المعذرة..سأذهب إلى الغرفة قليلا
كانت (ليلى) قد انتهت من غسل الصحون لتقول (ملك) :
- طبعا حبيبتي خدي راحتك

خرجت (ليلى) من المطبخ وكانت مجبرة على المرور من أمام الشابين للدخول إلى غرفة (ملك) فحاولت تجنب النظر إلى (حسن) لكنها لم تستطع..لم ترتو ولن ترتوي من النظر في وجهه..وجه حبيبها..
ألقى نظرة سريعة عليها وهي تدخل إلى الغرفة،وبعد أن أغلقت الباب خلفها سأل (أحمد) بصوت خافت:
- مين هاي البنت؟ وشو قصتها؟
نظر له (أحمد) مليا ثم قال:
- لو خبرتك قصتها ما رح تصدقني
- ليش؟
- لأن قصتها ما في عقل يستوعبها،شي خيالي
- والله شوقتني لأعرف..احكي لشوف
انضمت إليهما (ملك) وأمها وراحت (ملك) تضيف بعض التفاصيل التي لا يعرفها (أحمد) ،و (حسن) ينظر إليهما فاغرا فاه وهو يحاول استيعاب كل ما يقال..

- متأكدين إنها مو مجنونة؟
- لا طبعا مجنونة شو؟ وحتى لو مجنونة فيه حدا مجنون بيكون عارف تفاصيل تاريخية متل هيك؟
أمسك (حسن) بذقنه وهو يقول:
- فعلا شي غريب..
ثم تابع بحذر:
- طيب فيني إحكي معها لأعرف شو القصة؟
رفعت (ملك) إحدى حاجبيها في دهشة وقالت:
- نحنا قلنالك كل شي
التفت إليها وقال:
- بدي إسمعها منها واسألها كم سؤال
- ليش؟

ارتبك (حسن) لكنها نجح في إخفاء ارتباكه وهو يقول:
- يعني مشان نعرف كيف نقدر نساعدها..
وأمسك بذقن (ملك) يقرصه مداعبا وهو يقول:
- وبطلي أسئلتك اللي بلا طعمة..
ثم أحاط كتفها بذراعه وهو يقول:
- اشتقتلك يافصعونة..
وطبع قبلة على خدها وهو يقول لأمها:
- وينن (رسلان) و (محمود) ؟
- رح يتأخرو شوي..
ثم قالت لـ (ملك) :
- اتركي يرتاح يا بنتي أكيد هو تعبان
قام (حسن) فنهضت معه (ملك) ..
- لا خليكي..أنا ماني غريب

وذهب إلى غرفة ابني خالته،وأغلق الباب ثم جلس على طرف الفراش..
رفع يده ولمس موضع كفي (ليلى) على وجهه قبل قليل..أحس بقشعريرة تسري في بدنه..لقد فزع في البداية عندما اقتربت منه إلى هذا الحد،وتجمد جسده وعقله عندما مدت يديها تلمس وجهه بتلك الطريقة..انتبه إلى أنها كانت تعرف اسمه،لكنه رجح أن يكون أحدهم قد تحدث أمامها عنه..تنهد ثم استلقى على الفراش محاولا النوم،لكنه ظل يفكر في قصتها الغريبة..



* * *

كان الضيق باديا على وجه (ليلى) ..
- أعطهم الكتب يا (حسن) وإلا قلبوا حياتنا جحيما
التفت إليها (حسن) وهو يقول:
- ليفعلوا ما يريدون
قالت تحاول إقناعه:
- أعطهم الكتب وأبق المصاحف
- لا يا (ليلى) لن أفعل
- لا تكن عنيدا
- ولا تكوني ملحاحة

لم يبرح ذهنها مشهد ألسنة اللهب التي تأكل الورق في جشع ونهم..كان ذلك منذ عام يقل أو يزيد، لم تعد تذكر فقد تشابهت الأيام بعد احتلال القتشاليون بلادهم،وجمعهم لكل الكتب في المدينة وحرقها أمام الأعين الملتاعة..

وكانت تخاف على زوجها أن يمسه أذى لو عرف أحدهم بوجود بعض الكتب لديهم؛لذا فقد فكانت تحاول إقناعه بتسليم الكتب التي لديهم حتى لا يصيبهم مكروه،لكنه كان عنيدا كعادته..مثلها تماما..لهذا كانا دائمي الجدل..يتعالى صياحهما في النهار ثم ينتهي الأمر بقبلة على الرأس منه أو منها..

بعد أيام حمل (حسن) الكتب وخبأها في حانوته..
- لماذا لم تتخلص منها؟
- لن أتخلص منها وأنت تعرفين ذلك فلا تحاولي معي يا (ليلى)
- لماذا إذن كبدت نفسك عناء حملها من هنا إلى هناك،والمخاطر تحدق بنا؟
نظر إليها بعينيه ذواتي اللون الزيتوني وقال وهو يمسح على شعرها:
- كي لا تتعرضي للخطر أنت أو أي أحد في هذا البيت
- لكنك أنت من ستتعرض للخطر
- لا يهمني..طالما أنك ستكونين بخير

خفق قلبها ثم ارتمت بين ذراعيها لتدفن وجهها في صدره،فتسللت إلى أنفها رائحة الخزامى العطرة التي تفوح من ثيابه..
- لا أريد أن يصيبك سوء يا (حسن)
ضمها إليه أكثر وقال:
- كل شيء مكتوب..
وأبعدها عنه برفق ثم احتوى وجهها بين كفيه وقال:
- والله لم يكتب شيئا علينا ليضرنا به..كل أمرنا خير

كانت تحب النظر في عينيه المكحلتين،وكانت تضحك كثيرا عندما يحاول (عليّ) تقليد أبيه وهو يضع الكحل أمام المرآة،فيدخل إصبعه في عينه ويبكي..لكنها لم تضحك تلك الليلة،ولم تستطع النوم..لا تدري لماذا..كان قلبها يضطرب كل حين وهي تسمع صوت زوجها يتحدث مع أبيها وهي تتحرك في المنزل..
أوت إلى فراشها لتشعر بزوجها يحيط جسدها بذراعه..
- (ليلى)
- إمم
- أنا أحبك

التفتت إليه وقد علت الدهشة وجهها..لماذا يقول هذا الكلام في هذا الوقت؟ ..لكنها لم تقل شيئا فقد كانت تشعر بالقلق..لماذا تشعرين بالقلق يا (ليلى) ؟..حاولت تهدئة نفسها بأن التصقت به كمن يختبئ من عدو ما فضحك زوجها وهو يقول:
- ما الأمر؟ ..هل تخافين من الظلام؟
ضحكت رغما عنها وقالت بعد أن اتكأت على ذراعها:
- أنا لا أخاف من الظلام..هو من يخاف مني
اتكأ على ذراعه هو الآخر في مواجهتها ثم مد يمناه وراح يداعب شعرها الأسود..لكن قبل أن يقول شيئا سمع جلبة في الخارج،فهب من الفراش وخرج من الغرفة ليجد رجال الديوان يصيحون بالقشتالية والتي يفهمها بصعوبة..
انقضوا عليه وقيدوا يديه ثم جروه جرا إلى الخارج وقد ألجمت المفاجأة لسانه وألسنة كل من في المنزل..


* * *

هرعت (ملك) إلى غرفتها عندما سمعت صوت صياح (ليلى) ..
- بسم الله الرحمن الرحيم..شو بك يا (ليلى) ؟
انفجرت (ليلى) في البكاء فضمتها (ملك) إلى صدرها وهي تقرأ المعوذتين وتمسد على شعرها، لكن (ليلى) لم تكف عن البكاء فنادت (ملك) أمها كي تحضر بعض الماء..خرج (حسن) من غرفته على صوت خالته و (أحمد) ليجد خالته تدخل غرفة (ملك) ..

- شو في؟
- شكل (ليلى) شافت كابوس..
ثم التفت إليه وقال مشاكسا:
- سبحان الله شافت وشك إجتها الكوابيس

لكن (حسن) لم يضحك على دعابة أخيه واتجه إلى الغرفة بينما (أحمد) يناديه:
- لوين؟
وقف قرب الباب لكنه لم يجرؤ على الاقتراب أكثر..وسمع صوت (ملك) تقول:
- انتي منيحة هلق؟ ..
أومأت (ليلى) برأسها أن نعم..
- الحمد لله..تعي اقعدي معنا برة ولا تضلي لحالك

قامت (ليلى) ووضعت حجابها على رأسها ثم خرجت مع المرأتين لتفاجأ بـ (حسن) يقف قرب الباب..تبادلا النظرات ثم خفضت رأسها لتجلس على أول مقعد أمامها و (أحمد) يسألها عن حالها.. رفعت عينيها لتصطدما بعيني (حسن) ،ويخفق قلبها مجددا..


يتبع ...........

لامارا 04-11-13 05:44 AM

https://upload.rewity.com/upfiles/nOB16797.jpg

الفصل العاشر

أعدت (ملك) أكواب الشاي لهم وجلست بجوار (ليلى) ..
- (حسن) كان زوجي!

التفتت إليها الرؤوس لتقول (ملك) :
- ليش..إنتي متزوجة؟!
أومأت (ليلى) برأسها إيجابا لتقول (ملك) :
- كيف ما إجا عابالي إسألك؟ ..
ثم أردفت:
- بصراحة مو مبين عليكي

ساد الصمت للحظات فقال (حسن) :

- لها الدرجة بيشبهني؟
نظرت له (ليلى) مليا ثم قالت وعيناها في عينيه:
- لو رأيته لظننت أنك تنظر في مرآة..
اتسعت عيناه وقد ساد الصمت مرة أخرى..

- آسفة لما حدث

- لأ..لا تعتذري..ما حصل شي
نظر له (أحمد) باستغراب لكن (حسن) لم يلحظ ذلك،وقالت (ملك) :
- أكيد هو قلقان عليكي هلق
نظرت لها (ليلى) بنظرة حزينة وقالت:
- زوجي مات
- يا الله..آسفة كتير..العمر إلك
- كيف مات؟

نظر (أحمد) إلى أخيه ثم لكزه في ذراعه خفية..

- قتله القشتاليون..
وأخذت نفسا عميقا ثم بدأت تقص عليهم تلك الأحداث التي أرقت مضجعها مرارا وتكرارا..

- زوجي كان ابن عمي،وبعد أن بدأت حملات التنصير رحل أبوه وأمه وبعض من إخوته إلى (فاس) ،لكنه رفض الذهاب معهم وترك (غرناطة) ،كما أنني كنت حاملا بطفلي الثاني بعد إجهاض، فدعاه أبي للعيش في بيتنا..انتقلنا إلى هناك وبدا أن الحياة ستسير هادئة..أنجبت (عليّا) وبعده بعام أنجبت (زهرة) ..


كان (حسن) يعمل نجارا..يذهب لحانوته في الصباح ويعود بعد الظهر ثم يذهب مرة أخرى قبيل المغرب ليرى ما فعل الصبية ويغلق الحانوت..


صدر أمر لأهل (غرناطة) بتسليم كل ما لديهم من كتب وإلا تعرضوا للعقوبة..لكن (حسن) كان مولعا بالقراءة،طلبت منه أن يسلمهم الكتب ويترك المصاحف فقط لكنه رفض..أنا أيضا أحب القراءة لكني كنت أخشى عليه من بطش القشتاليين..خاصة رجال ديوان التحقيق..


أغمضت عينيها في ألم وازدردت لعابها ثم واصلت حكايتها:

- نقل الكتب إلى حانوته ليجنبنا أي خطر..ويبدوا أن أحد الخونة وشى به فقبض عليه رجال الديوان..اقتحموا البيت ليلا واعتقلوه،وبعدها صرنا نسأل كل من يمكن أن يكون له صلة أو معرفة بأحد رجال الديوان حتى وصلنا إلى (غارثيا أليخاندرو) ،رجل من أعيان المدينة وله الكثير من العلاقات،كما كان من القلة الذين لا يحملون ضغينة لأهل (غرناطة) ،لذا فقد وافق على مساعدتنا..

سكتت مرة أخرى ثم تابعت وهي تشعر بغصة في حلقها:

- عرفنا أنهم وجهوا لزوجي عدة تهم منها ممارسة السحر!
- سحر؟! ..
كانت (ملك) لا تكاد تصدق ما تسمع..
- ليش..شو علاقة الكتب بالسحر؟!
ارتسمت ابتسامة ساخرة على فم (ليلى) وقالت:
- بعض الكتب كانت عن التداوي بالأعشاب،فأعدوها أعمالا سحرية وتم الحكم عليه
صمتت وهي تقاوم دموعها،فقالت (ملك) في فضول:
- بشو اتحكم عليه؟

- الحرق حيا!


وانفجرت في البكاء وسط ذهول الجميع،فراحت (ملك) تربت على كتفها محاولة تهدئتها..مسحت (ليلى) دموعها وقال (حسن) :

- بعتذر منك..ما بعرف شو بدي قول
رفعت (ليلى) عينيها الدامعتين إليه وقالت:
- ليس ذنبك أنك تشبهه
وساد الصمت مرة أخرى ليقطعه هذه المرة رنين هاتف (أحمد) ،فقام ليرد ثم استأذن منهم وأخبرهم أنه سيعود بعد ساعة..فقامت (ملك) وقالت محاولة تلطيف الجو:
- أنا عملت حلو..رح جيبو هلق
وذهبت إلى المطبخ لتلحق بها أمها..

نظر (حسن) إلى (ليلى) ..مسكينة هذه المرأة،لقد عاشت مأساة مرعبة..لكن موت زوجها كان رحمة به بعد الأهوال التي لاقاها في السجن..


رفعت عينيها إليه مرة أخرى..كان قريبا منها بدرجة تكفي لرؤية عينيها..كانتا سوداوتين كالليل، ولم تكن (ليلى) بيضاء بل كانت قمحية اللون،ذات جبهة عريضة،وأنف أشم..شفتاها رقيقتان مع قليل من التحدب..

- قلتي عندك ولاد..قديش أعمارهم؟
- (عليّ) أربع سنوات،و (زهرة) ثلاث سنوات
ظل صامتا لثوان ثم قال:
- إنتي أصلك عربي؟
ابتسمت وقالت:
- لا..أنا أندلسية الأصل..أجدادي كانوا من المولَّدين
- كنت مفكر إنك عربية..لون بشرتك وعيونك بيقولو هيك
احمر وجهها قليلا وخفضت عينيها ثم قالت:
- أهل (الأندلس) خليط من العرب والإسبان والبربر،ومن الصعب أن تجد أحدا منا نقي الأصل
قال محاولا إطالة الحديث بينهما:
- لو ضليتي سهرانة رح ورجيكي صور حلوة كتير لـ (غرناطة) وأماكن تانية بـ (إسبانيا)
بدأ شبح ابتسامة يظهر على شفتيها..

- الحلو للحلو

جاءت (ملك) وأمها حاملتين صحونا بها (كريم كاراميل) ..حملقت (ليلى) في صحنها لتضحك (ملك) وتقول:
- هاد إسمه (كاراميل) ..طيب كتير،ورح عرفك شلون منعمله
بدأت (ليلى) بالأكل ليرتفع حاجباها وتبتسم ثم تواصل الأكل وهي تنظر في الملعقة كل مرة.. أعجبها الطعم المر لطبقة السكر التي تعلو الحلوى..وكان (حسن) يتابعها بعينيه ويبتسم هو الآخر،تبدو كطفلة صغيرة تكتشف الأشياء لأول مرة..


* * *

عاد (أحمد) ومعه (رسلان) و (محمود) ليعلو صوت ضحكاتهم مرحبين بابن خالتهم..وبعد صلاة العشاء اعتذر (رسلان) و (محمود) للجميع وذهبا للنوم فلديهم عمل عند الفجر..

- طيب..وأنا بدي روح هلق بدكن شي؟
قام (أحمد) من مكانه بينما (ملك) تقول:
- خليك شوي..لسة بكير
- إيه لسة بكير يا (أحمد) ..واستنى شوي رح إعمل سهرة ولا بالأحلام..
ثم قال لـ (ملك) :
- ممكن تساويلنا شاي يا (ملك) ؟
- طبعا حبيبي تكرم عينك

تعجبت (ليلى) من طريقة كلام (ملك) مع (حسن) ..

- طيب أنا ما في إلي حبيبي؟
قالت (ملك) وهي في طريقها للمطبخ:
- لا ما حزرت..لسة بكير لتسمع هالكلام
ضحك (حسن) ثم قال لأخيه:
- أنا لو محلك كنت تركت البيت من هاللحظة

ضحك الأخوان بينما (ليلى) تنظر إليه..إلى (حسن) ..حتى ضحكته تشبه ضحكة زوجها..كان عندما يضحك ترتفع زاوية فمه اليمنى عن اليسرى قليلا..


قام (حسن) وأحضر حقيبته التي كان قد وضعها قرب الباب ثم أخرج منها جهازا فتحه كالكتاب، ثم ضغط فيه على زر لتضيء شاشته..حانت منه التفاتة إلى (ليلى) ليجدها تنظر للجهاز بفضول فقال:

- هاد إسمه (لاب توب) أو كمبيوتر محمول
- مثل التلفزيون؟
- يعني..بس مو كتير..بس لما تستعمليه رح تعرفي الفرق
خرجت الأم من المطبخ وقالت:
- أنا داخلة نام..بدكن شي يا ولاد؟
- يسلمو خالتي..بس خليكي قاعدة شوي
- لا إبني..ما فيني إسهر متلكن
عادت (ملك) بعد قليل حاملة أكواب الشاي،ثم جلست بجوار (حسن) وبجانبها (ليلى) ..

- هذا قصر الحمراء!


صاحت (ليلى) بتلك العبارة وهي تشير للشاشة عندما رأت خلفيتها،فابتسم (حسن) وقال:

- إيه صح
مدت يدها لتلمس الشاشة وقد تسارعت نبضاتها من الانفعال..ترى ما حال الحمراء الآن؟ ..
- هل لا يزال موجودا؟
قال وهو يحرك يده على لوحة اللمس:
- طبعا..هاي الصورة من وقت قريب
- الذي رسمها شخص محترف
التفتت (ملك) إليها وقالت:
- رسمها؟ ..لأ يا (ليلى) ..هاد مو رسم..هاد تصوير بالكاميرا
- كاميرا!

شرحت لها (ملك) الأمر،فأعادت (ليلى) النظر إلى الشاشة وهي تشعر بمزيج من المشاعر المتضاربة..خمسمئة عام مرت عليه وهو لا يزال شامخا..

- أكيد إنتي بتعرفيه أكتر مني
قطع صوت (حسن) تفكيرها لتقول:
- ليس تماما..فأنا لم أدخله في حياتي..
ثم تابعت:
- لكني كنت أراه كثيرا عندما أمر على ضفة نهر (حدرُّه)
اقشعر جسدها عندما تذكرت آخر مرة مرت قربه..
- بتعرفي إنه هلق صار مزار سياحي؟ ..
نظرت إليه مستفهمة فقال:
- يعني الناس صاروا يجو من كل العالم ليدخلو هاد القصر ويتفرجو على كل شي فيه
- وسمح لهم القشتاليون بذلك؟
- القشتاليين اليوم مو متل قبل..هلق صار إسمهم الإسبان،وأصلا محل حكمهن صار بـ (مدريد)

لزمت الصمت..العالم تغير كثيرا..لم تكن قد اعتادت بعد على أنها في زمن آخر،لم تستوعب الأمر بعد..

فتح (حسن) معرض الصور وراح يريهم الصورة تلو الأخرى،وتختلف ردود فعل (ليلى) مع كل صورة،لكن القاسم المشترك بين كل أحاسيسها كان الحنين إلى (غرناطة) ..
كانت (ملك) تستند على كتف (حسن) مما جعل (ليلى) تتعجب مرة أخرى من مدى العلاقة بينها وبين (حسن) ،وللحظة شعرت بالغيرة..كانت تراه زوجها..


* * *

- (ملك) ..هل (حسن) قريب منك جدا؟

أغلقت (ملك) الضوء واندست بين الأغطية بجوار (ليلى) ثم قالت:
- إيه..هو بيكون أخي بالرضاعة أصلا..
أجابتها (ملك) على سؤالها قبل أن تسأل..
- ليش بتسألي؟
- لقد تعجبت فقط من تبسطك معه لتلك الدرجة
ضحكت (ملك) ثم قالت:
- (حسن) رضع مع أخي (محمود) من إمي
وواصلت (ملك) الحديث وهي لا تدري أنها أثلجت صدر (ليلى) بكلامها..

في اليوم التالي وبعد عودة (رسلان) و (محمود) من العمل أخبراهم أنهما مضطران للسفر إلى (دمشق) ..

- ليش يا إبني؟ البلد في حرب الله يسترها عليك
قال (رسلان) :
- شغل يا إمي..شو بدنا نساوي يعني..وكمان مو كل البلد فيها مشاكل
- طيب قديش رح تضلو هونيك؟
- يعني ممكن أسبوع
- الله يحفظكن

نظر إليه (حسن) نظرة ذات مغزى لكنه لم يتكلم،وبعد الغداء جلس مع الأخوين في غرفتهما وتحدثا طويلا..وفي الصباح انطلق الشابان تصحبهما دعوات أمهما..




يتبع ...........

لامارا 04-11-13 05:50 AM


https://upload.rewity.com/upfiles/ujP33206.jpg

الفصل الحادي عشر


لم تكن (ليلى) وحدها السعيدة بوجود (حسن) ..بل كان هو الآخر يسعد بوجودها وبانبهارها عند رؤية ما هو غريب عنها وعن عالمها..كان يشعر أنه أصبح مصدرا لسعادتها،فبعيدا عن كونها ترى فيه صورة زوجها،كان هو الذي يعرفها بكل جديد..يريها الصور ويشرح لها تاريخ (غرناطة) التي لم ترها، وكيف أن الإسبان صاروا يقدرون الحضارة الأندلسية في هذه الأيام،وأن المسلمين يعيشون بحرية في (إسبانيا) ،سواء كانوا من الوافدين أو من أهل البلد نفسها..

كانت تلك المعلومات تسر (ليلى) بقدر ما تحزنها؛فقد تبدل الحال وصار أهل البلد بالأمس هم أقلية اليوم..


عندما يكون (حسن) في الخارج كانت تتربع أمام التلفزيون..ذلك الجهاز العجيب،كانت تتعجب كيف يعرض ما يحدث في العالم على قطعة الزجاج تلك،وخطر لها خاطر..لو رأى القشتاليون هذا الجهاز لحاكموا كل من بهذا المنزل بتهمة ممارسة السحر..


صدرت عنها ضحكة خافتة،خاصة عندما تخيلت أنهم سيصابون بالجنون عندما يجدون هذا الجهاز في معظم البيوت،قد يبنون زنازين جديدة لاستيعاب كل تلك الأعداد من المعتقلين..


كانت أيضا تتخيلهم وهم يسبون أهل الدار وقد ثارت ثائرتهم عندما يجدون بقية الأجهزة الغريبة..ربما لن يعتقلوا أحدا،بل سيعودون أدراجهم معلنين للملك والملكة أنهم فشلوا،وسيتركون عملهم للحفاظ على ما تبقى لهم من عقل ولحماية أنفسهم من كل ذلك السحر،وليس بعيدا أن يتركوا (غرناطة) بأكملها..


ضحكت مرة أخرى ثم وضعت يدها على فمها خشية أن يكون أحد ما قد استيقظ..تلفتت حولها ثم عاودت مشاهدة التلفزيون..كانت تمسك بيدها أداة التحكم عن بعد وقد تعلمت من (ملك) كيفية استخدامها فراحت تتنقل بين المحطات ثم توقفت عند إحداها..كانت هناك امرأة ذات شعر بني قصير تصيح وتولول كالثكالى..


" ولادنا اللي ماتوا في (سينا) يا دكتور (مرسي) ..فين حقهم؟ ..إنت رئيس الدولة والمسؤول عنها..قربت تكمل سنة في الحكم ومفيش حس ولا خبر..انت فاتح الباب عالبحري لـ (غزة) أهلك وعشيرتك عشان يموتو في ولادنا اللي هم مش من أهلك وعشيرتك وعشان كده مش هامك أمرهم "


تجعدت جبهة (ليلى) وقد اشمأزت من تلك المرأة التي تنعق كالغربان،ولاحت منها نظرة لأعلى يمين الشاشة لتجد ثلاثة أحرف غير عربية..غيرت المحطة ثم انتبهت إلى أن المرأة قد ذكرت كلمة (غزة) وأن هناك من مات..هل هناك حرب في (غزة) أيضا؟ ،وتذكرت ذلك اليوم عندما أخبرها (أحمد) أن اليهود قد أقاموا دولة على أرض (فلسطين) ..يا الله..ما هذه النكبات التي تتعرض لها الأمة الإسلامية! ..


اتكأت على الأريكة وقد شدت الشال الصوفي على كتفيها جيدا،وراحت تتابع ما يجري على تلك الشاشة..


بعد نصف ساعة فتح (حسن) باب الشقة بهدوء ليجد البيت مظلما إلا من ضوء خفيف،فأغلق الباب وأضاء المصباح الصغير الذي يعلو باب الشقة ليعطي إضاءة خافتة..دخل ليجد شخصا ما ينام على الأريكة المواجهة للتلفزيون المفتوح على إحدى المحطات..ظن أنها (ملك) فاتجه إليها وهو يقول بصوت منخفض:


- (ملك) ..قومي نامي جوة..

ثم اقترب وهزها من كتفها..
- (ملـ..) ..
ارتد عنها عندما وجدها ليست (ملك) ..كانت (ليلى) ..وقد غفت أمام التلفزيون..توقف للحظات لا يدري ماذا يفعل..تأملها وهي نائمة في هدوء..كان جزء من شعرها قد ظهر من تحت حجابها ليراه (حسن) ..أسود كالليل..كعينيها..

انتبه من شروده ثم أشاح ببصره بعيدا وهزها من كتفها بحذر هذه المرة كي تنهض..فتحت عينيها في كسل لترى وجهه،ابتسمت ثم اعتدلت في جلستها لينحسر الحجاب من على رأسها،فوجدته يشيح ببصره ويلتفت قليلا بجسده بعيدا عنها وهو يقول:

- قومي نامي جوة..هيك رح تبردي

انتبهت للهجته وتصرفه فتذكرت أنه (حسن) آخر..تلفتت حولها تبحث عن حجابها،ثم شدته على رأسها وقامت من على الأريكة وذهنها لا يزال مشوشا،ثم دخلت الغرفة دون كلمة أخرى..


لم تشعر بالحرج منه،ولم يفهم عقلها بعد كيف ولماذا تتستر أمامه،وكانت تجاهد لإقناع نفسها أنه ليس زوجها لكن الأمر لم يكن هينا..استلقت بجوار (ملك) ولم تفكر كثيرا،فقد غلبها النوم بسرعة..



* * *

- (حسن) ..خد (ملك) و (ليلى) وروحو شي محل،البنت ما شافت الشارع من يوم اللي إجت

نظرت إليها (ليلى) ثم إلى (حسن) ..
- طبعا..أكيد (ليلى) رح تنبسط..
ثم التفت إلى (ليلى) وهو يقول:
- مو هيك يا (ليلى) ؟
ابتسمت (ليلى) وأومأت برأسها إيجابا،ثم أنهت طعامها بسرعة ودخلت مع (ملك) لترتدي ثيابها.. ثم نزلت معها هي و (حسن) ..
- رح فرجيكي نهر (العاصي) يا (ليلى) ..أحلى نهر بنظري

كانت هذه هي المرة الثانية التي تخرج فيها من البيت،لكنها المرة الأولى نهارا..مشت معهما وهي تنظر إلى الشارع حولها..كانت هناك عبارات مكتوبة على جدران المنازل،استطاعت قراءة بعضها..


" الله أكبر عليك يا بشار "

" الله..سوريا..حرية وبس "
" بشارالكلب خائن عميل "
" الله يلعنك يا حسن نصر اللات "

فهمت أن هذه عبارات مناوئة للحاكم الظالم والذي يدعى (بشار) ،فيوميا تسمع دعاء أم (ملك) عليه..

كان هناك بعض المارة القليلون،ثم خرجوا إلى شارع آخر،وظلوا هكذا حتى وجدت نفسها أمام نهر كبير،وعلى الضفة الأخرى كان هناك الكثير من الأشجار ورأت جبلا يقف شامخا على مسافة ليست بالقريبة..ذكرها بجبال الثلج في (غرناطة) ،لكن جبال الثلج كانت بعيدة جدا..تذكرت نهر (حدرُّه) وقصر الحمراء..كانت كلما مرت على ذلك النهر رأته وهو شامخ كهذا الجبل..

- شو..عجبك المنظر؟

- كثيرا..
ثم التفتت إلى (حسن) وقالت:
- هل يمكنني النزول فيه؟
ابتسم (حسن) ونظر إلى (ملك) التي بدا على وجهها الحماس فقال:
- طيب تعي معي..
سارت الفتاتان بجوار (حسن) وهو يخبر (ليلى) عن هذه البلدة الساحرة..
- (دركوش) ..نحنا منسميها عروس (العاصي) ..لو شفتيها من فوق رح تشوفي شلون الجبال حاميتها بعد الله،ورح تشوفي كمان (العاصي) وهو بيمر بوسطها متل الزئبق..
الشجر دايما موجود على جوانب النهر،بس في بعض الأماكن رح تلاقي البيوت بتطل دغري عالماي..

ثم أشار لجهة ما وهو يتابع:

- في مكان بعيد شوي عن هون بتلاقي النهر بيفصلنا عن (تركيا) ..
والتفت إليها وقال وهو ينظر لها مباشرة:
- بلد العثمانيين
اتسعت عينا (ليلى) وقالت:
- لا زالوا موجودين؟
- الموجودين هلق هن الأتراك،أحفاد العثمانيين،بس اتغيروا كتير للأسف..
وتابع سيره وهو يواصل:
- رح احكيلك عن (تركيا) بيوم..
واصلوا المسير حتى وجدت نفسها قريبة من الماء..
- هلق تقدري تنزلي

نظرت له وعلى وجهها ابتسامة طفولية..خلعت نعليها،ورفعت عباءتها قليلا ثم نزلت..كانت تفعل ذلك في نهر (حدرُّه) ..واقشعر جسدها عندما تذكرت تلك المطاردة التي اضطرت فيها للنزول إلى النهر مرغمة..


كانت المياه باردة فانتابتها رجفة لكنها اعتادت عليها بعد قليل،انضمت لها (ملك) وراحت تمشي معها وهي تركل الماء بقدمها..عندما كانت صغيرة كانت تلعب مع أبناء أخوالها وأبناء عمومتها بهذا الشكل..لم يكن هنالك قشتاليون أو غيرهم..فقط أهل (غرناطة) الطيبين الذين لا هم لهم إلا أن يعيشوا بسلام..


كان (حسن) يتابع الفتاتين بعينيه وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة واسعة،وقد سره رؤية (ليلى) وهي تلهو مع (ملك) كطفلتين صغيرتين..


- (حسن) ..تعا معنا

نظر (حسن) إلى (ملك) التي كانت تلوح له بيدها،فأشار لها أنه لن ينزل فتقدمت إليه وهي تحاول إقناعه..

توغلت (ليلى) في الماء قليلا وأغمضت عينيها متخيلة نفسها في (غرناطة) ..تكاد تسمع صوت الأطفال يلعبون هنا وهناك..وتسلل إلى أذنيها صوت الأذان ففتحت عينيها لتسقط دمعة كانت قد تجمعت بين جفنيها..كان هذا الصوت يصدح خمس مرات كل يوم،قبل أن يحرمهم منه القشتاليون للأبد..


- (ليلى) ..اطلعي من الماي،بدنا نروح لنصلي

خرجت (ليلى) وقد ابتل طرف ثوبها وسارت معهما وهي تنظر إلى أشكال البيوت،كانت تختلف كثيرا عما اعتادت عليه،لكن هذا الاختلاف لم يعجبها،فبيوت الأندلسيين كانت أكثر جمالا..

دخلت مع (ملك) إلى مصلى النساء في أحد المساجد لأداء صلاة الظهر،ارتعد جسدها لذلك الصوت المجلجل في أرجاء المسجد..يا الله..آخر مرة دخلت فيها مسجد (غرناطة) كانت أثناء التعميد بعد أن تحول إلى كنيسة..شعرت بغصة في حلقها..كان ذلك اليوم مؤلما،فلم يكن أحد يعي ما يحدث وهم يتلقون ماء التعميد على رؤوسهم،وقد اختلطت دموعها بقطرات ماء التعميد التي تناثرت على وجهها، شعرت حينها بالخزي والضعف وهي تنهض والقس يرسم علامة الصليب عليها..


- الله أكبر الله أكبر

انتبهت على صوت الأذان الذي انتزعها من ذكرياتها القاسية..التفتت إلى (ملك) فوجدتها تنظر إليها لكن شفتيها كانتا تتحركان بالتسبيح،ثم قامت لتبدأ الصلاة..لم يكن هناك سوى ثلاثة نساء في المسجد بخلاف (ملك) و (ليلى) ،وقد اصطففن بجوار بعضهن البعض لأداء الصلاة..

وبعد أن انتهت الصلاة التقت الفتاتان بـ (حسن) ليعودا إلى البيت..

- (حسن) ..إمي بدها شوية اغراض
- قولي لشوف
وأملت عليه (ملك) ما تريد وهي تسير معه إلى إحدى البقالات القريبة..
- أهلين إستاذ (حسن) ..صارلنا زمان ما شفناك
سلم (حسن) على البائع وهو يقول:
- بتعرف الشغل وظروف البلد هالإيام
زفر البائع وقال:
- الله يزيح هالغمة
- آمين

وأملاه ما يريد ثم التفت إلى الفتاتين وقال وهو يشير للطاولة التي اصطفت عليها بعض العلب الصغيرة:

- شوفو شو بدكن من هون..
راحت (ملك) تفكر بينما (ليلى) لا تعرف ما هية ما ترى،فضحك (حسن) وهو يقول:
- خلاص لا تعذبي حالك،أنا رح جيبلك شي طيب..
ثم اتجه إلى ثلاجة ذات باب زجاجي و (ليلى) تنظر له بامتنان..أحضر أشياء مخروطية الشكل ملفوفة بورق ملون،ثم نقد البائع ماله وانصرف مع الفتاتين وهو يقول موجها كلامه لـ (ليلى) ويشير إلى الحقيبة البلاستيكية الصغيرة:
- رح يعجبك كتير

ابتسمت (ليلى) ..كانت تشعر أنه معلمها،ولكن لم العجب؟ فلطالما كان زوجها هو معلمها وحبيبها..شعرت بقلبها يخفق..أجل إنه حبيبها لكنها الآن مكرهة على التعامل معه كأي رجل غريب.. وكم كان هذا يؤلمها..


عاد الثلاثة إلى البيت وقد أحست (ليلى) بالانتعاش..ثم بدأت بمساعدة (ملك) وأمها في تحضير الطعام..وجاء (أحمد) ليتناولوا طعامهم جميعا ثم يحضر (حسن) الأشكال المخروطية ويقدم أولاها لـ (ليلى) ،لتتركها على الفور وهي تقول:

- إنها مثلجة
ضحك (حسن) وقال:
- إيه..هيك بناكلها..
ثم واصل وهو يمزق الغلاف الورقي ويقول:
- إسمها بوظة

أمسكتها (ليلى) مرة أخرى وفتحتها كما فعل (حسن) ،ثم راحت تراقبه وهو يأكل منها فنظرت إليها وقضمت منها قضمة..بدت الدهشة على وجهها وهي تستشعر مذاقا لم تعهده من قبل..

- طعمها غريب
- فيها شوكولا
- ماذا؟
قال (حسن) :
- هي ما بتعرفها يا (ملك) ..
ثم التفت إلى (ليلى) وقال:
- الشوكولا من شجرة إسمها الكاكاو،اكتشفها (كريستوفر كولومبوس) لمن راح للعالم الجديد
- (كريستوفـ..) ..
سكتت قليلا ثم قالت:
- تقصد (كريستوبال كولون)
- إيه صح..
وواصل:
- شاف ثمرة الكاكاو هونيك،بس واحد تاني هو اللي جابها لـ (إسبانيا) ،بعد سقوط (الأندلس) بخمسين سنة تقريبا

نظرت (ليلى) مرة أخرى للمخروط المثلج بيدها وهي تتخيل وجوه أطفالها هي و (عائشة) عندما يتذوقون هذا الشيء..دمعت عيناها لكنها جاهدت نفسها ومنعتها من التساقط..



* * *

بعد يومين..


في مساء بارد..كانت تجلس (ملك) و (ليلى) أمام التلفزيون،وفي المقعد المجاور لـ (ملك) كان يجلس (حسن) وبجواره (أحمد) ..

أخذ (حسن) جهاز التحكم من (ملك) وهو يقول:
- يا الله..أصابيعك ما بتتوقف أبدا..خلينا نشوف شي قناة
توقف عند محطة إخبارية ليصعقه المذيع وهو يقول:

" وقامت قوات الجيش السوري بقصف مدينة (قطنا) بـ (ريف دمشق) ،وأسفر القصف عن مقتل عشرة أشخاص،وأنباء عن وجود آخرين،كما اعتقلات قوات (الأسد) بعض مواطني البلدة و.. "


تجمدت أطرافه ولم يسمع بقية الكلام..ثم هب من مكانه وأحضر هاتفه المحمول وراح يضرب أزراره بتوتر..


- شو بك يا (حسن) ؟

نظر (حسن) إلى أخيه بنظرة يملؤها القلق،لتتساءل (ملك) هي الأخرى:
- شو في؟ ليش اتفزعت هيك؟

لكنه لم يسمعها وهو يسمع صوت الرسالة المسجلة على الطرف الآخر،تفيد بأن الهاتف الذي يتصل به مغلق..فسقط قلبه بين قدميه..




يتبع ...........

لامارا 04-11-13 05:59 AM

https://upload.rewity.com/upfiles/i1433812.jpg


الفصل الثاني عشر


- ما الأمر؟
كانت هذه (ليلى) وقد توجست خيفة من ردة فعله عند سماعه الخبر،كما أن نظرات عينيه الزائغة لم تكن تنبئ بخير..

- (رسلان) و (محمود) هونيك
خرج صوته مبحوحا لتحملق به العيون الستة في صدمة..
- شو قلت؟
نظر (حسن) إلى (ملك) وقال:
- إن شاء الله ما يكون حصلن شي
- أخواتي هونيك؟ وإنت كنت بتعرف؟
- إن شاء الله يكونوا بخير يا (ملك)
- ليش ما قلتلنا؟ طيب..هن قالوا انهن رايحين عا (دمشق) ..ليش راحوا (قطنا) ؟

كانت تساؤلات (ملك) كالخناجر في صدر (حسن) ،وكانت (ملك) قد تملكها الانفعال وهي تقترب من (حسن) وتقول:

- شو كانوا عم بيساووا هونيك؟ قالوا شغل بس أكيد مو هاي الحقيقة
لم يقابلها سوى الصمت..فقال (أحمد) :
- (حسن) احكيلك شي كلمة
رن هاتفه المحمول فرد بسرعة من دون أن ينظر إلى اسم المتصل..
- آلو.. (عدنان) ..شو في؟ ..
وصمت قليلا لتبدوا الصدمة على وجهه ثم يقول:
- و (محمود) ؟ ..إنت متأكد؟ بركي عرف يهرب..طيب..طيب..خلاص مستنيكن

سقط قلب (ملك) في قدميها وهي تتوقع أسوأ الاحتمالات..استندت بظهرها إلى الحائط وهي تضع يدها على صدرها..

أنهى (حسن) المكالمة فقال (أحمد) :
- وينو (محمود) ؟ و (رسلان) منيح؟
رفع (حسن) عينيه إليهم وهو لا يدري كيف يخبرهم،لكنهم سيعرفون عاجلا أم آجلا..
- (محمود) ..
وازدرد لعابه وتابع:
- اعتقلوه

وضعت (ملك) يدها فمها بينما تمر بعض المشاهد الماضية أمام عيني (ليلى) لتشعر بأحشائها تتقلص..

قال (أحمد) محاولا أن يبدوا هادئا:
- و (رسلان) ؟
كانت (ملك) تعرف الإجابة قبل أن ينطق..
- استشهد
انهارت (ملك) على الأرض وقد انفجرت في البكاء وهي تردد..
- إنا لله وإنا إليه راجعون.. إنا لله وإنا إليه راجعون..

وانهمرت الدموع من عيني (ليلى) .. (رسلان) كان أول وجه رأته عندما قدمت إلى هذا المكان.. لماذا يحدث هذا لكل من له ذكرى طيبة لديها؟ ..التفتت إلى (حسن) وقلبها يخفق بعنف وكأنما يصرخ فيه..لا أريد أن أفقدك أنت أيضا..

أتت الأم إلى الصالة لتجد (ملك) تبكي والبقية صامتون،فتوجست خيفة مما ترى..
- شو في يا ولاد؟
الفتت إليها أعين الجميع ولم ينطق أحدهم..لكن دموع (ملك) و (ليلى) أفزعتها..
- ليش عم تبكو يا بنات؟ ..شو حصل؟ ..
ثم قالت بحذر:
- (رسلان) و (محمود) حصلن شي؟

علا صوت نشيج (ملك) ليمسك (حسن) بخالته ويجلسها على أحد الكراسي وهو يقول:

- ارتاحي يا خالتي
- (حسن)
تجنب النظر إليها وهو لا يدري كيف سيخبرها..
- أخي (رسلان) يا ماما.. (رسلان) ..قتلوه الكلاب




* * *

فتح (حسن) الباب وعاون زميليه في إدخال جثمان (رسلان) إلى البيت،الذي كانت به بعض النسوة من الجيران اللواتي قدمن لسماعهن صوت بكاء أم (رسلان) ..

انهارت الأم فور رؤيتها لوجه ابنها المخضب بالدم،وجلست بجواره وهي لا تكاد تصدق ما ترى،وقامت (ملك) بإحضار قطعة قماش مبللة ثم جلست بجوار أمها وراحت تمسح الدماء من على وجهه لتظهر ابتسامته جلية واضحة للناظرين..

لم تتمالك أمه نفسها وأقبلت عليه تقبله ودموعها تغرق وجهه الباسم،وتحولت دموعها إلى بكاء مرير،بينما الجارات يحاولن مواساتها وهن يبكينه..وطبعت (ملك) قبلة على جبين أخيها لتتسلل إلى أنفها رائحته الزكية،فاحتضنته وقد اشتد بكاؤها وهي لا تصدق أنها لن تراه مرة أخرى..


نظرت له أمه مرة أخرى من بين دموعها وهي تتذكر كل مراحل حياته منذ ولد حتى الآن.. تذكرت عندما كانت تعرض عليه خطبة الفتيات واحدة تلو الأخرى لكنه كان يقول لها..


" يا إمي أنا ما رح إتزوج من هون"

" لكان من وين يا إبني؟ "
فيبتسم وهو يقول:
" إن شاء الله رح تكون حورية من الجنة "

كانت صدمتها مزدوجة،ابن معتقل والآخر مقتول،فعلا صوت بكائها حتى بدا كالصراخ فقطعه (حسن) قائلا بحزم:

- خالتي..لا تصرخي هيك حرام..
أسكتها صوت (حسن) الباكي فتابع:
- ولا تبكي..
وواصل موجها كلامه للجميع:
- ما بدي حدا يبكي..إبنكن شهيد..المفروض تزغردو،إبنكن مات بطل،واليوم إن شاء الله رح يبات بالجنة..
بدأت (ملك) تزغرد والدموع تغرق وجهها ومن بعدها أمها والنساء واحدة تلو الأخرى..

أما (ليلى) ..فقد كانت تقف في أحد أركان الغرفة وهي تنظر للجسد المسجى على الأرض،وقد تذكرت أخاها الذي أحضره زملاؤه من حانوته مغشيا عليه،ليموت بعدها بأيام بسبب مرضه الذي لازمه منذ فترة..


ضمت قبضتيها بشدة وهي تضغط على أسنانها ودموعها تسيل في صمت..هي تعرف مرارة الفقد جيدا..تعرفها أكثر منهم جميعا..الزوج والأخ والأب..صدمات متتالية صفعتها بلا رحمة،وها هي تفقد شخصا آخر ارتبط في ذهنها بالشعور بالأمان..هو أول وجه رأته بعد هروبها من ملاحقيها..



* * *

شيعت جنازة (رسلان) بعد الفجر مباشرة وعاد الجميع منهكين من السهر والبكاء..

- خالتي قومي نامي
- ومن وين رح يجي النوم يا إبني
قال (حسن) وهو يربت على كتفها:
- سهرك ما إلو فايدة..قومي نامي حبيبتي..
ثم التفت إلى (ملك) التي كانت تسند رأسها على ظهر المقعد مغمضة العينين..
- وإنتي كمان يا (ملك) ..يلا قوموا ناموا
قال (أحمد) معقبا:
- إيه..يلا (ملك) ..يلا خالتي..
ثم قال لـ (ليلى) :
- (ليلى) ..ممكن تاخدي (ملك) عا أوضتها؟

قامت (ليلى) وهي تومئ برأسها وأخذت بيد الفتاة ودخلتا إلى الغرفة بعد أن ذهبت الأم إلى غرفتها..

- (أحمد) روح عاشغلك يلا مشان ما تتأخر
- لأ..رح ضل هون يمكن يحتاجو شي
- أنا جنبهن..
ثم تابع بصوت منخفض:
- لازم تروح لأن مصدر دخلهن الرئيسي انقطع هلق..لازم أنا وإياك نغطيلهن مصاريفهن
قام (أحمد) متثاقلا ثم خرج مشوش الذهن..قام (حسن) وأطفأ المصباح مكتفيا ببعض الإضاءة الخافتة التي تأتي من خلف الستائر المسدلة..سمع صوت باب غرفة (ملك) يفتح فوجدها (ليلى) ..

- بسم الله الرحمن الرحيم

- شو في؟
غطت (ليلى) رأسها وهي تقول:
- ظننت أنك خرجت عندما سمعت صوت الباب
- هاد كان (أحمد) ..
صمت لثوان ثم قال:
- (ملك) فيها شي؟
هزت رأسها وقالت:
- لقد نامت..

ثم قالت بعد تردد:

- هل أصنع لك طعاما؟
- لا..ما فيني آكل شي
- إذن سأعد لك الشاي
ودخلت إلى المطبخ ثم عادت بعد قليل وفي يدها صحفة عليها كوب من الشاي..
- يسلمو إيديكي..ليش عذبتي حالك؟
ابتسمت ابتسامة مرهقة وقالت:
- ولو..أنا ما عملت شي
التفت إليها وابتسم لأول مرة منذ ساعات وقال:
- والله وصرنا نحكي شامي
- كنت أريد أن أرى هذه الابتسامة..
اختفت الابتسامة من على وجهه لتحل محلها الدهشة فقالت (ليلى) وهي تشيح بوجهها بعيدا وقد شعرت ببعض الحرج:
- أعني..أردت التسرية عنك قليلا

ساد الصمت بينهما فتناول (حسن) كوب الشاي ليرشف منه ويدفئ يديه على جانبي الكوب.. أدارت (ليلى) رأسها إليه وراحت تنظر إليه على الضوء الخافت القادم من خلف الستائر..

- كنت تعرف مسبقا أنهما لم يذهبا لعمل كما ادّعيا
نظر لها ثم عاود النظر إلى كوبه وقال:
- إيه كنت بعرف..بس هن ما كذبوا،كانوا رايحين (قطنا) مشان يوصلولهن شحنة طحين،لأن كان فيه نقص في الطحين هونيك وما كان فيه خبز..بس قوات (بشار) الكلب حاصروا المكان من يومين وبعدها قصفوه..

تهدج صوته في آخر كلمة فأشاح بوجهه بعيدا لتمتد يد (ليلى) بتلقائية لتربت على ذراعه وتشد عليه..التفت بسرعة ناظرا إلى يدها لتسحبها وقد انتبهت لما تفعل..رباه..متى سينتهي هذا الارتباك الذي ألم بعقلها؟ ..

- آسفة..أنا..
سكتت..لا تدري ماذا تقول..
- لا تعتذري مرة تانية لهيك تصرفات..بعرف إنها مو مقصودة

أحست (ليلى) بالحرج الشديد،فظلت صامتة..لا تستطيع حتى الآن تصديق أن الرجل الجالس بجوارها ليس زوجها..إنه يشبهه في كل شيء،حتى طريقة كلامه وحركاته..

- و(محمود) ..ماذا عنه؟
- ما بنعرف شي عنه..من وقت اللي اعتقلوه انقطعت أخباره
- لماذا يحدث هذا؟ ..
التفت إليها (حسن) مستفهما فقالت:
- لماذا يحاربون إخوانهم؟ هم ليسوا محتلين ليفعلوا هذا
- بيعملو هيك لأن بدهن السلطة بأي تمن،وكمان اللي بيحكمو البلد وبإيدهن السلطة علويين،متل الأدارسة..شيعة يعني
- وهل أهل الشام شيعة؟
- لا طبعا نحنا مو هيك..أصلا خمسة بالمية ويمكن أقل كمان هن العلويين بها البلد،وللأسف هن يللي بيتحكمو في البلد،وبيحاربو أهل السنة..

صمت قليلا ثم تابع:

- الدين صار مُحارب في الدول الإسلامية يا (ليلى) ..إنتي كنتي في بلد فيها محتل بيطمس هويتها الإسلامية،نحنا متلكن بس الفرق إن اللي عنا هن أهل البلد..مو بس بـ (سورية) ..بكل الدول الإسلامية تقريبا،واللي بيحارب الإسلام هن المسلمين،فصار المحتل مو بحاجة ليدخل أرضنا لأن اللي بده إياه حصل..

(حافظ الأسد) الرئيس السابق قتله شي تلاتين ألف من الإخوان المسلمين بـ (حماة) ،بدعوى إنهم اغتالوا رجال مهمين وحاولوا يقتلوه هو شخصيا،وبغض النظر إن كانت هالروايات صح ولا لأ،ما كان فيه مبرر أبدا إنه يدخل (حماة) ويدمرها كلها ويقتل آلاف البشر بسبب بعض الأشخاص،كان بيقدر يكمش المتهمين ويحاكمهم بس هو كان فرعون من فراعنة الزمن..وإبنه بيكمل المسيرة..



- من هم الإخوان المسلمون؟

- هاي قصة طويلة،بس عموما هن ناس مضطهدين بكل زمان ومكان..كان أصل نشأتها زلمة إسمه (حسن البنا) ..
- اسمه (حسن) ؟

ابتسم (حسن) لملاحظتها التي لم ينتبه لها هو من قبل وقال:

- إيه.. (حسن) ..كان مصري،وبها الوقت كان الإنجليز محتلين (مصر) مع بقية الدول اللي احتلوها.. (البنا) كان من وهو صغير بيحب الدين وبيكره الاحتلال اللي نشر الفساد الديني والأخلاقي في المجتمع..فكانت دعوة (البنا) دعوة إصلاحية دينية شاملة لكل نواحي الحياة،ولهلق موجودين مو بس في (مصر) ..
- ولماذا هم مضطهدون؟

- لأن أي حدا بيهمه أمر الإسلام لازم يكون مضطهد،بس مو من الاحتلال هالمرة..الحكام اللي إجو بعد الاحتلال ما كان بدهن الدين يتدخل في كل شؤون الحياة،خاصة السياسة،وهاد يللي كان بده الاحتلال لهيك تركو هادول الحكام لأنهن على هواهن..والإخوان كانت أهم أسباب ظهور جماعتهن إنهن يساعدوا في إصلاح المجتمع..والإصلاح الديني أهم شي طبعا..وهاد كان سبب اضطهادهم هن وغيرهن من الجماعات الدينية..


وصار الدين في المدرسة كتاب صغير،وفي المسجد خطبة جمعة بتكون متراجعة من قبل حتى لا يكون فيها أي نقد للحكام أو تدخل في الأمور السياسية..وأي شخص بيدل مظهرو إنه متدين بيكون مشكوك في أمره..


- ماذا تقصد بأن مظهره متدين؟

- يعني لو مرأة منقبة أو زلمة بلحية متلا..أو حدا بيتردد عالمساجد كتير..

لم تصدق (ليلى) ما تسمع..ففي أكثر العصور ظلما في (الأندلس) لم يحدث وأن اضطهد الملتحون؛لأن كل الرجل كانوا كذلك،وكانت النسوة تغطين وجوههن،كما أن المساجد كانت جامعات لتعليم العلوم الشرعية وغيرها ولم يمنع منها أحد حتى النصارى واليهود..فهل أصيب الناس بالجنون؟ ..


حتى الخائن (أبو عبد الله الشقي) طلب من النصارى أن يتركوا للمسلمين حرية ممارسة الشعائر الإسلامية وهو يسلمهم مفاتيح (غرناطة) ،ولم يهن المسلمون ويُنزع الحجاب عن نساء (الإندلس) إلا بعد الاحتلال القشتالي..


- أحيانا تسمعي ناس بتقول إن (بشار) ما بيحارب الإسلام،بس بيحارب الإرهاب..طيب ليش بيهدم المساجد؟


- يهدم المساجد!

- إيه..هدم المساجد وقتل الأطفال والنساء والشيوخ والشباب،وحتى الأشجار والحيوانات ما سلمت من فساده

شعرت (ليلى) بأن هذا الزمن لا يختلف كثيرا عن زمنها،فالقتل والتشريد والاعتقال والاضطهاد هنا وهناك.. لكن متى ينتهي كل هذا؟ ..متى؟ ..




يتبع ...........

لامارا 04-11-13 06:04 AM


الفصل الثالث عشر


مر شهران على استشهاد (رسلان) واعتقال (محمود) ،ولم يعرف أحد أية معلومات عن الأخير.. وبدأت الحياة تنتظم إلى حد كبير في البيت الذي أصبح يقيم فيه (حسن) و (أحمد) بشكل دائم..
- (ليلى) ..هاد إلك
أخذت (ليلى) من (حسن) هاتفا محمولا بدا جديدا وقالت:
- شكرا..لكن..لماذا تعطيني إياه؟
- لأنك الوحيدة اللي مو معك موبايل،وأكيد رح تحتاجيه بيوم..
ثم تابع وقد حول بصره عمدا إلى الحاسوب:
- شلون رح إطمن عليكي يعني؟
ارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة ثم قالت وهي تقلب الهاتف في يديها:
- لكني لا أعرف كيفية استعماله
قبل أن ينطق قالت (ملك) وهي تجلس بجوارها:
- أنا رح علمك

نظر لها (حسن) بضيق لكنها لم تلحظ ذلك،فعاد ينقر على أزرار حاسوبه ثم قال وهو يشير إلى الشاشة:
- (أحمد) ..سمعت عن حركة (تمرد) ؟
- لأ..شو قصتها؟
- هاي حركة لسحب الثقة من دكتور (محمد مرسي)
اعتدلت (ملك) وقالت باستنكار:
- ليش؟ شو عملهن الرجال؟ كل شوي يطلعوا يحرقوا في البلد وهو ساكت كرمال الحرية اللي بيحكوا عليها..كان عاجبهن الفرعون يعني؟
قال (أحمد) :
- بس هو ما عمل شي،لا لبلده ولا إلنا ولا للمسلمين
قال (حسن) :
- ومن إيمتى وهادول العالم بيهمهن الإسلام يا (أحمد) ؟ ..صحيح في ناس بتتظاهر مشان حقوقها بس كمان فيه ناس ما بدها دكتور (مرسي) لأنه من تيار إسلامي
- صحيح معاك حق..بس لا تنسى إن الحياة صارت صعبة كتير،الزلمة فشل في إنه يحتوي بعض الأزمات

هنا تدخلت الأم ولأول مرة منذ بدء الحوار:
- لا يا إبني..لو كان فاشل ما كانوا عملوا كل هالمصايب،كانوا تركوه عاحاله ليعرف العالم كله إنه فاشل
قال (حسن) مستحسنا كلامها:
- الله عليكي يا خالتي..هيك الكلام المظبوط..
ثم تابع مضيفا:
- وأكيد إنت عارف إن (أميركا) هي المحرك الخفي للأحداث

كانت (ليلى) تتابع الحديث محاولة الإلمام بخيوط الموضوع على خلفية المعلومات التي عرفتها منهم ومن التلفزيون..لا تفهم لماذا يكره الناس من يريدون أن يقيموا الدين بين أظهرهم..لقد امتلأت سجون محاكم التفتيش بالمؤمنين الذين لا يرضون عن الإسلام بديلا،وكما عرفت من (حسن) أنه قامت ثورة من أهل (غرناطة) فيما بعد لاستعادة الحكم الإسلامي ودحر المحتل،لكنها لم تنجح للأسف..كان الناس يحاربون لأجل الحفاظ على الحجاب وحِلق تعليم القرآن،والحفاظ على المساجد من أن تتحول من دور عبادة لله إلى دور شرك به..

(مرسي) حاكم مصر كان يحارَب لأنه من الإخوان المسلمين،أو من التيار الإسلامي كما يُقال.. هذا التيار الذي يدعو للتمسك بالدين وترك عبودية الطغاة والتوجه لعبادة الله..لو رأى أهل (الأندلس) حال المسلمين اليوم لماتوا كمدا،وهم الذين بذلوا أرواحهم وتعرضوا لألوان من العذاب لرفضهم ترك دينهم..

انتفضت (ليلى) فجأة من مكانها وأسرعت إلى الحمام وهي تضع يدها على فمها،فذهبت خلفها (ملك) لترى ما بها..
- (ليلى) ..فيكي شي؟
خرجت (ليلى) من الحمام وقد بدا الشحوب على وجهها وهي تقول:
- لا تقلقي..ربما أصبت في معدتي
- طيب حبيبتي تعي ارتاحي بالغرفة،يمكن اتعرضتي لهوا بارد بعد ما اتحممتي

أدخلتها الغرفة ثم أعدت لها كوبا من النعناع الساخن،فشربته (ليلى) شاكرة ثم نامت لتتغلب على الدوار الذي انتابها..لكنها استيقظت من نومها بعد منتصف الليل،وهرعت إلى الحمام لتفرغ معدتها مرة أخرى ثم خرجت لتستند إلى الحائط وقد خطر في بالها خاطر مرعب..

بدأ جسدها بالارتجاف..لو أن ما تفكر به صحيحا فتلك مصيبة كبرى..أغمضت عينيها وبدأت دموعها تسيل،ثم أغلقت فمها بيدها لتمنع صوت بكائها المكتوم..

- (ليلى) ..ليش عم تبكي؟! ..

انتفضت (ليلى) وفتحت عينيها لتجد (حسن) يقف أمامها والقلق يملأ عينيه..رغم الظلام النسبي للمكان إلا أنها رأت ذلك..
- إنتي منيحة؟ شو بك؟
انتبهت على صوته فأحنت رأسها قليلا وقالت بصوت ضعيف:
- أنا بخير
- لأ..شكلك ما بيقول هيك..لازم نروح للدكتور ليشوف شو بك..
رفعت عينيها إليه مرة أخرى وقد تجمعت فيهما الدموع لتتساقط رغما عنها..إنها تعرف ما بها.. تعرف أنه ما من طبيب يداويها..
- (ليلى) ..
شعر بالخوف لما رآها على هذا الحال..وكادت يده أن تمتد لتمسح دموعها لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة..
- طيب طالما إنتي منيحة..ليش عم تبكي هلق؟
خفضت رأسها مرة أخرى ولم تستطع الرد،فماذا عساها تقول..نزلت خصلة من شعرها على جبينها فمدت يدها لترفعها لتنتبه إلى أنها تقف أمامه بلا حجاب..

- (ليلى) ..
التفت الاثنان على صوت (ملك) الناعس وهي تكمل مقتربة منهما:
- وينك؟ ..
ثم نظرت إلى (حسن) وقالت:
- شو في؟ ..
ظل الاثنان صامتان كتمثالين،ولكل منهما أسبابه..
- ولك إنت ليش ساكت؟
اندفعت (ليلى) إلى الحجرة ودموعها تتناثر،لتنظر إليها (ملك) ثم إلى (حسن) الذي رفع كتفيه مشيرا إلى أنه لا يفهم شيئا،فذهبت (ملك) وراءها ومن خلفها (حسن) ..توقف عند الباب ليهوله ما سمع..

- إنتي موجوعة يا (ليلى) ؟ طيب نشوف دكتور؟
رفعت (ليلى) رأسها لترى (ملك) دموعها التي أغرقت وجهها..
- لا علاج لما أنا فيه يا (ملك) ..لا يوجد علاج قادر على مداواتي
راحت (ملك) تمسح على رأسها لتفاجأ بارتفاع درجة حرارتها فقالت:
- حرارتك مرتفعة يا (ليلى) ..إنتـ..
قاطعتها (ليلى) :
- أنا لست مريضة..
سكتت لتبتلع مرارة الكلمة قبل أن تنطقها..
- أنا حامل!
تجمدت (ملك) للحظات ثم قالت ببطء:
- شلون يعني؟ ..إنتي مو قلتي إن زوجك مات من أكتر من سنة؟

روت لها (ليلى) ما حدث منذ اعتقال والدها وحتى الجرم الذي ارتكبه (أرماندو) ،وكانت تتوقف بين كل جملة تجاهد دموعها ثم تواصل،أما (حسن) فقد اجتاحته مشاعر شتى وهو يستمع لتلك القصة المؤلمة..المحتل والطاغية لا يتغيران في أي زمان ومكان،يستعملان الأساليب القذرة ذاتها في كسر أصحاب الحق وإذلالهم..كم من حرائر أوذين في (الأندلس) و (الشيشان) و (أفغانستان) و (البوسنة) و (فلسطين) و (العراق) و (ليبيا) و (بورما) وأخيرا وليس آخرا (سورية) ..

كان وقع كلمات (ليلى) على (حسن) كوقع الصواعق،وقد أحس بغصة في حلقه لشعوره بالعجز والمهانة..

يا رب نجنا من القوم الظالمين..


* * *

كان الحرج قد بلغ من (ليلى) مبلغه وهي تجلس مع (ملك) و (حسن) في انتظار نتيجة التحليل، أحست بالضيق عندما عرفت أنه سمع القصة،لم تكن تريد أن تتعرى أمامه بهذا الشكل،لكن في الوقت ذاته كان هناك إحساس خفي قد بدأ بالنمو داخلها دون أن تدري..

- مدام (ليلى يعقوب) !
انتفضت (ليلى) قائمة فأمسكت (ملك) بيدها لتعيدها لمقعدها بينما قام (حسن) وأخذ الورقة من الممرضة..ظل ممسكا بها لبعض الوقت،لكنه أعطاها لـ (ليلى) أخيرا..
أخذت منه الورقة دون أن تنظر إليه ثم فتحتها،لتقرأها (ملك) ويبدو على وجهها البشر..
- أول مرة إفرح لما أعرف إن حدا مريض
التفت (حسن) إليها بينما (ليلى) تنظر لها دون فهم،فأشارت (ملك) إلى الورقة وهي تقول:
- نتيجة التحليل سلبية..إنتي مو حامل،بس أكيد آخده برد ولا شي،لهيك رح نكشف عليكي عند الدكتور الباطني

رغم أن الخبر كان مطمئنا إلا أن (ليلى) لم تُسَر كثيرا،فمجرد تذكرها لتلك الحادثة كان كفيلا بتعكير مزاجها طيلة اليوم..فلم تسمع الطبيب وهو يتحدث مع (حسن) ويخبره عن الأدوية اللازمة لها..
- لا تخاف يا إستاذ،مدامتك رح تكون بخير إن شاء الله
ارتبك (حسن) بينما منعت (ملك) ابتسامتها حتى خرجت من حجرة الكشف..
- الزلمة مفكرها مرتك يا بيك
قالت (ملك) هذه العبارة وضحكت بينما نظرت إليها (ليلى) وهي تقول:
- من تقصدين؟
ضحكت (ملك) مرة أخرى وقالت:
- الدكتور مفكر إنك مرتو لـ (حسن)
احمر وجه (ليلى) وشعرت بقلبها يخفق بشدة..لكنها لم تنظر إلى (حسن) ..كانت تشعر بالحياء منه..لأول مرة! ..

دخل الثلاثة إلى البيت ليجدوا (أحمد) قد عاد..
- شو؟ خالتي قالت إنكن رحتوا عالمستشفى..خير
قالت (ملك) :
- ولا شي.. (ليلى) تعبت شوي،رحنا للدكتور وكتبلها شوية أدوية
أتت الأم إلى حجرة الجلوس وقالت:
- سلامتك حبيبتي..أكيد السمك يللي أكلتيه أول أمس تعبك شوي
صحيح..كيف لم تفكر في هذا الأمر؟ ..ابتسمت في وهن ثم استأذنت للدخول إلى الغرفة،واستأذن (حسن) بدوره ودخل لغرفته..
- شو بهن هادول؟
ردت (ملك) وهي تدخل إلى الغرفة لتبدل ثيابها:
- ولا شي..لا تشغل بالك

ودخلت إلى الغرفة لتجد (ليلى) تجلس على طرف الفراش دون أن تبدل ثيابها..
- (ليلى) ..لساتك متضايقة؟
وجلست بقربها لتفاجأ بـ (ليلى) تنهض فجأة وتندفع من الغرفة إلى الحمام،وبعد أن خرجت وجدت (أحمد) يقول وقد بدا على وجهه القلق:
- سلامتك يا (ليلى) ..ارتاحي ولا تتعبي حالك
نظرت إليه وابتسمت بوهن،لكنها لم تلبث أن تتحرك حتى سقطت على الأرض..
- يا الله.. (ليلى) .. (ليلى) ..
اندفعت نحوها (ملك) وراحت تربت على وجهها بلطف..
- حرارتها مرتفعة كتير
خرج (حسن) من الغرفة عندما سمع (ملك) ،ثم جلس على الأرض بجوار (ليلى) ليجدها قد فتحت عينيها..
- إنتي منيحة؟
هزت رأسها ثم قالت بوهن:
- لا تقلقوا..شعرت بدوار بسيط وحسب

كان قلب (حسن) يخفق كطبول الحرب..وقامت (ملك) بمساعدتها على النهوض ثم أدخلتها إلى الغرفة،وأعطتها الدواء ثم دثرتها جيدا وخرجت..
- عطيتيها الدوا؟
- إيه..
ثم قالت محاولة تلطيف الجو:
- إن شاء الله رح تتحسن..لا تخافوا
وقالت كلمتها الأخيرة وهي تنظر إلى (حسن) ،ثم دخلت إلى المطبخ وأحضرت ماء باردا ودخلت إلى الغرفة لتضع بعض الكِمادات الباردة على رأس (ليلى) ..

- مسكينة هالبنت والله..
قال (أحمد) هذه العبارة ثم تابع:
- أكيد كانت محتاجة لأهلها في هيك ظرف
تنهد (حسن) ثم قال:
- أكيد..
ثم واصل مغيرا الموضوع:
- تعا لنساعد خالتي،ما بيصير نتركها لحالها في المطبخ

كان الصمت يلف الغرفة و (ملك) تضع الكِمادات الباردة على رأس (ليلى) ،والذي كان يموج بكثير من الذكريات..منها ما هو جميل،ومنها ما هو سيئ..تذكرت عندما مرضت آخر مرة وأقبل أطفالها عليها..كم تشتاق إليهم،وتشتاق إلى أمها و (عائشة) ..

انحدرت دمعة من عينها لم تلحظها (ملك) بسبب الإضاءة الخافتة في الغرفة..الآن فقط تأكدت (ليلى) أنها ليست في عالمها،وهي تعرف أنها لن تعود،والسبب هو الحقير (أرماندو) ..

بدأت دموعها تنحدر واحدة تلو الأخرى،حتى بدأ جسدها بالارتجاف وعلا صوت بكائها..
- خلاص حبيبتي لا تبكي..الحمد لله شكوكك ما طلعت بمحلها..
ازداد بكاء (ليلى) ..كانت تبكي على كل شيء..كل شيء جميل تركته خلفها..كل شيء سيئ حدث لها..كل ما يحدث للمسلمين منذ قرون..

راحت (ملك) تمسح على رأسها لكن (ليلى) لم تتوقف..ازداد بكاؤها وعلا صوتها..يقينها بأنها ليست في حلم كان يمزقها،ولم تجد سبيلا للتعبير عن البركان الثائر في داخلها إلا بالبكاء..

اعتدلت في الفراش عندما شعرت بأنها لا تستطيع التنفس،ولم ينقطع بكاؤها المر،فأخذتها (ملك) بين ذراعيها وراحت تربت على ظهرها وهي تقرأ آيات من القرآن علّها تهدأ..

انتبهت أم (ملك) على صوت البكاء الصادر من الغرفة..
- يا ربي..هالبنت حالتها صعبة كتير..الله يهون عليها

وافقها (أحمد) على كلامها بينما (حسن) يشعر بقلبه يتمزق..صوت بكائها كان كالأسواط التي تجلده بلا رحمة..كم تحملت من مصائب..فقدان الزوج والأهل،والانفصال عن عالمها لتجد نفسها في مكان أسوأ..تحملت الذل لترعى أسرتها الصغيرة،ليكون جزاءها الاغتصاب..

غص حلقه عند هذه النقطة..ها هي تجربة مجسدة أمامه لمعاناة المئات من السوريات بل ربما الآلاف ممن انتهكت أعراضهن..كان يعرف أن سببا من أسباب بكائها المحموم الآن هو هذا الأمر، وخوفها مما حدث بالأمس بأن تكون حاملا من سفاح..

كان يريد أن يدخل إلى الغرفة ويخفف عنها..يريد أن يخبرها ألا تخاف؛فهو لن يسمح لأحد بإيذائها،ولو كان الثمن حياته..


* * *

تماثلت (ليلى) للشفاء لكنها صارت صامتة معظم الوقت..كانت بعض الجارات يأتين لزيارة أم (ملك) من حين لآخر،للاطمئنان عليها والسؤال عن (محمود) ،وكم كانت هذه الزيارات تسعد الأم الثكلى،بينما كانت تضايق (ليلى) بعض الشيء عندما تعلق إحداهن على طريقة كلامها،وتتساءل من أين أتت،فتجيبها (ملك) بأنها هاربة من (جسر الشغور) بعد القصف الأخير..

وكان (حسن) يبذل كل ما في وسعه لإخراجها مما هي فيه؛فصار يعلمها كيف تستخدم الحاسوب، وكيف تتصفح المواقع لمعرفة ما يحدث في العالم..

بعد العشاء وبينما (ليلى) تغسل الصحون دخل (حسن) منتهزا فرصة أن لا أحد معها في تلك اللحظة..
- (ليلى) ..
التفتت إليه (ليلى) فقال:
- ممكن إسألك سؤال؟
- طبعا
صمت قليلا ثم قال:
- لساتك شايفتيني زوجك؟ ..

توقفت عن العمل وراحت تنظر له بحيرة..لكنها أشاحت ببصرها وراحت تواصل عملها بيدين مرتجفتين..
- شو؟ لها الدرجة السؤال صعب؟
- لا..مو هيك
ابتسم كعادته عندما يسمعها تتحدث باللهجة الشامية،خاصة عندما تختلط بلهجتها الأصلية..
- لكان شو؟
- ما فكرت بهذا السؤال من قبل
- طيب خليني إسألك بطريقة تانية..لمن بتشوفيني،بتجي صورة زوجك عابالك ولا بتحسي إني حدا تاني..حدا غريب

انتبهت لهذا الأمر..بالفعل لم تعد تفكر كالسابق؛أصبحت تستحي منه على غير عادتها من قبل،لم تعد تتبسط في التعامل معه،لأنها أيقنت أنه غريب بالفعل..
نظرت إليه وقد اصطبغت وجنتاها بحمرة الخجل،ثم أشاحت ببصرها على الفور..حتى نظراتها اختلفت؛لم تعد تقو على النظر إلى عينيه مباشرة كالسابق..
- أنا..يعني..كيف بدي إشرح..يعني..
تلعثمها أكد له أنها لم تعد تفكر كالسابق..فابتسم ثم قال:
- خلاص لا تجاوبي..أنا عرفت الإجابة لحالي..
ثم تابع في همس:
- بتعرفي..بدي هلق روح لـ (غرناطة) ،ودور عابيتك يلي كنتي ساكنة فيه
نظرت له مرة أخرى وقد اضطرب قلبها..
- لماذا؟

قبل أن يتكلم..دخلت (ملك) إلى المطبخ:
- خلصتي يا (ليلى) ؟
انزلق الصحن من يدها لكنها أمسكته قبل أن يسقط على الأرض،فاتسعت ابتسامة (حسن) وقال:
- طيب..ما رح عطلكن يا صبايا
وخرج من المطبخ بينما (ملك) تقول:
- (ليلى) ..ليش خدودك حمرا؟!
أولتها (ليلى) ظهرها وقالت وهي تتابع العمل:
- لا..لا شيء
ابتسمت (ملك) وقالت في خبث:
- طيب..عاراحتك

وانقضى الوقت و (ليلى) تتحاشى النظر إلى (حسن) حتى أوت إلى فراشها..سمعت صوت أزيز هاتفها فأمسكت به لترى أن هناك رسالة لها..من (حسن) ..
تسارعت دقات قلبها ونظرت إلى (ملك) لتجدها تغط في النوم،فقامت من مكانها وفتحت النافذة ثم أخذت نفسا عميقا وفتحت الرسالة..


" أمر على الديار ديار (ليلى) ..أقبل ذا الجدارِ وذا الجدارا
وما حب الديار شغفن قلبي..ولكن حب من سكن الديارا

عرفتي هلق ليش كان بدي روح عابيتكم في (غرناطة) ! .. "




يتبع ...........

لامارا 04-11-13 06:07 AM


https://upload.rewity.com/upfiles/VcW34302.jpg

الفصل الرابع عشر


لم تنم (ليلى) في تلك الليلة..ظلت تردد بيتي الشعر في عقلها مرارا وتكرارا،ورغم أنها تحفظهما عن ظهر قلب إلا أنها شعرت وكأنما تقرأهما لأول مرة..وظلت تتقلب في فراشها حتى نامت قبيل الفجر..

لكن اليوم التالي كان مختلفا..كان مخيفا..

أصيبت (ليلى) بالهلع عندما سمعت صوتا قويا كاد يصم أذنيها..
- ما هذا؟ من أين يأتي صوت هذا المدفع؟
- تركت (ملك) ما بيدها وقد أصيبت بالرعب هي الأخرى..
- هاد مو مدفع يا (ليلى) ..هاد صوت غارة..الله يستر
تكرر الصوت مرة أخرى لتقول أم (ملك) :
- يا رب..يا رب تمرق على خير هالمرة..
ثم استدركت:
- وينهن (حسن) و (أحمد) ؟

ارتاعت الفتاتان وأسرعت (ليلى) إلى هاتفها تنقر أزراره بأصابع مرتجفة أخطأت طريقها عدة مرات..وضعت الهاتف على أذنها وصوت قلبها يعلو على صوت رنين الهاتف في الجانب الآخر..

" (ليلى) ..إنتو بخير؟ .. "
أغمضت عينيها وقد سالت منهما الدموع..الحمد لك يا الله..
" (ليلى) ! "
انتبهت (ليلى) لترد بصوت باك:
- الحمد لله..نحنا بخير..أين أنت؟
" أنا جايي "
سمعت أصوات صياح حوله فقالت:
- (حسن) ..شو هالأصوات اللي عندك؟
" ولا شي..لا تخافي..نحنا جايين "
- أنتم؟

انقطع الخط قبل أن تسمع ردا..

- (أحمد) ما بيرد!
التفتت (ليلى) إلى (ملك) والتي كاد القلق يقتلها..وقبل أن تتحدث إحداهن سمعوا صوت انفجار جديد..ثم سكنت الأجواء بعدها،وبعد ربع ساعة تقريبا سمعت النسوة طرقا على الباب،فأسرعت (ملك) إلى الباب وجسدها كله ينتفض رعبا..
- (أحمد) !

صاحت (ملك) في ذعر عندما رأت (حسن) ومعه رجل آخر يسندون خطيبها كي يستطيع الدخول إلى البيت..

- لا تخافوا..أنا منيح
كانت ثياب الرجال الثلاثة مغبرة..
- شلون منيح يعني؟ شو اللي حصل يا إبني؟
ربتت (ليلى) على كتفها وقالت:
- هدي حالك يا خالتي..رح نعرف كل شي
انتهى (حسن) وزميله من ربط قدم (أحمد) لتقول (ملك) :
- شو حصل؟ قلي شو حصل يا (حسن) ؟
انصرف زميلهم الثالث ليقول (حسن) :
- طيب هدي حالك شوي..الزلمة قدامك متل الفرس
ثم ضربه على ساقه المربوطة ليتأوه (أحمد) ألما وتضحك (ملك) رغم الدموع المتجمعة في عينيها..
- بتضحكي يا (ملك) ؟ بس استني لطيب وأنا رح ورجيكي
ضحك الجميع وقالت أم (ملك) :
- شغلتونا عليكن..شو حصلكن؟

ارتمى (حسن) على أحد المقاعد وهو يقول:

- كنا قريبين من مكان القصف،بس الحمد لله ما حصل شيء
أشارت (ملك) إلى ساق (أحمد) وهي تقول:
- وليش (أحمد) هيك؟
ضحك (حسن) وقال:
- هاد مو من القصف..نحنا لمن سمعنا صوت الانفجار ركضنا،بس خطيبك الأبضاي طاح على الأرض وهو عم يركض،واتصابت رجله
انفجر الجميع في الضحك بينما (أحمد) ينظر إليهم في غيظ..


* * *

اقترب شهر رمضان ولم يجد (حسن) فرصة للتحدث مع (ليلى) ،خاصة أنها لم تكن تعطيه تلك الفرصة..كانت تخشى أن تظلمه..تخشى أن تقارن بينه وبين زوجها الراحل في يوم ما..


- (ليلى)

- بسم الله الرحمن الرحيم..ليش تختبئ في الظلام؟
- ما عرفت إتكلم معاكي،قلت لحالي استناكي هون بركي تطلعي من الغرفة هادي المرة
- كنت تنتظرني كل يوم؟
- إيه..كل يوم بعد ما بينام الكل..
وأخذ نفسا عميقا ثم قال:
- (ليلى) أنا بدي إتزوجك..

لم ترد..وأحست بالدماء تندفع إلى وجنتيها،محولة إياهما إلى جمرتين ملتهبتين..

- ما بدي رأيك هلق،فكري عامهلك،ومهما كان جوابك أنا رح إتقبلو..
كادت أن تتكلم..تخبره برفضها،لكنها لم تفعل لأنها كانت تريده..إلا أن تلك المخاوف كانت مسيطرة عليها بشدة..
- بشو عم تفكري؟
انتبهت من شرودها وقالت بصوت مبحوح:
- ولا شي..
ثم تنحنحت وقالت:
- معك حق..رح فكر
- ناطرك يا (ليلى) ..بس لا تتأخري علي


* * *

كان الصمت يلف البيت في ذلك اليوم..صمت ممتزج بالدهشة والصدمة..صمت لا يقطعه سوى صوت التلفزيون وهو يعيد الخطاب الذي بث قبل لحظات..مد (حسن) يده إلى جهاز التحكم عن بعد ليغلق الجهاز في عصبية وهو يقول:


- ماني مصدق..بهاي السهولة بيعملوها..بعد ما حسينا إن فيه أمل بالتغيير يعزلوه هيك؟

قالت (ملك) بصوت باك:
- شو كنت متوقع يعني؟ دولة العسكر انتزع منها الحكم بالقوة،وما قدرت تبعد عنه..
وبدأت في البكاء..
- ولك الله يلعنهن دنيا وآخرة
ربتت (ليلى) على كتفها وهي تقول:
- خلاص (ملك) ..هدي حالك
- شو بدو يصير هلق؟ رجعنا لنقطة الصفر..وكل الإسلاميين رح يعتقلوهن مرة تانية..شو عملولهن الإسلاميين؟ ..مشان بدهن يحكمو بشرع الله يكون هاد هو جزاءهن؟

التفت (حسن) إلى (أحمد) وقال:

- هلق فهمت إن الموضوع ما كان أزمات كهربا ولا بنزين؟ فهمت إنهن خططوا لكل شي حتى يلاقو حجة يعزلوه بسببها؟
- ما كنت مفكر إن الموضوع هيك..
ثم تابع:
- بس دكتور (مرسي) ما أخد قرارات حاسمة من البداية
- إيه أنا معك ما أخد قرارات حاسمة..بها الحالة المفروض تطلع المعارضة تقله شو الصح وشو الغلط مو تعزلو..وكمان..

سكت قليلا ثم قال وهو يشعر بالمرارة:

- هادول اللي تبع حزب النور..الله لا ينور طريقهن..بدل ما يساعدو الرجال يتحالفوا مع الشياطين ليشيلوه؟ مفكرين إنهن رح يصيرو بأمان؟ مفكرين إن الشريعة هيك رح تحكم؟ والله مو مصدق..هادول ما بيتعلموا من التاريخ..
ونظر إلى (ليلى) وهو يتابع:
- متل ما باع (أبو عبد الله الصغير) أبوه..باعوه الإسبان..بكرة رح يبيعوهن هن كمان..ما بيعرفوا إنهن ضحوا بالثور الأبيض والدور جاي عليهن

غص حلق (ليلى) عندما تذكرت تلك الذكرى السوداء..التاريخ يعيد نفسه مع اختلاف الشخصيات والأدوار،ولا يتعلم أحد أبدا رغم آلاف الكتب التي سطرت محن الأمم..وها هي الحريات تصادر، ويسجن الشرفاء،وتلفق التهم،تماما كما حدث في (الأندلس) ..ينقض الطاغية العهود والمواثيق فور أن يشعر بقوته وهوان خصمه..


ولم تمض بضعة أيام حتى استيقظوا على أول مشهد دامٍ في كنف حكم العسكر..ثم ظهر المشهد الثاني بعد أسبوعين في دراما مأساوية،امتزجت فيها أصوات الابتهال في جوف الليل من حناجر الآلاف في (رابعة) ،بأصوات القنابل والرصاص الذي يحصد الأرواح بلا هوادة..


ما الذي يحدث في العالم؟ ..لماذا اختلت الموازين؟ حتى موازين الظلم أصابها الخلل؛فبدلا من أن يكون المحتل هو المتصدر لدور السفاح،قام الحكام بهذا الدور ونجحوا فيه نجاحا منقطع النظير أبهر أعداءهم أيّما إبهار..فجيوش المسلمين التي كانت ترابط على الثغور تحمي حمى الديار،وتصد العدوان عن حرماته،أصبحت هي التي تنتهك هذه الحرمات،وتفتح الأبواب للعدو كي يعبث في بلادهم كيفما شاء..


وبدلا من أن يسمع المسلم صرخة أخيه فيسرع لنجدته،إذ به يغلق الأبواب في وجهه،فيتهمه بالإرهاب،ويغلق الحدود ويعيد العلاقات مع حكومات السفاحين،وفوق ذلك..يطرد من جاءه مستجيرا من الرمضاء فإذا بذلك المستجير يجد نيرانا تكاد تلتهمه،ويصبح بين مطرقة المحتل الداخلي وسندان الخذلان الخارجي..



* * *

صباح الثلاثاء..الثالث عشر من أغسطس..كان آخر عهد (ليلى) بمجازر (الأسد) ..


لم يكن (أحمد) قد عاد بعد من عمله،وكان (حسن) قد خرج لقضاء بعض الأمور..

- (ملك) ..ارتاحي شوي يا بنتي..ليش قاتلة حالك هالقد؟
- (أحمد) كان بدو ياكل يبرق من فترة،وقلت لحالي رح إعملو مفاجأة اليوم
ضحكت (ليلى) وقالت:
- يا بختك يا (أحمد)
نظرت إليها (ملك) وقالت بخبث:
- وفيه حدا تاني يا بخته..أول ما جاب سيرة الكسكس المغربي لقينا رفيقتنا قلبت المطبخ فوقاني تحتاني
احمر وجه (ليلى) وقالت مدافعة:
- مو هيك..حبيت تجربو أكلنا بس

ضحكت (ملك) وأمها فقامت (ليلى) وأخرجت الثياب من الغسالة وخرجت للشرفة هربا منهما، وبعد أن انتهت من نشر الثياب دخلت لمساعدة أم (ملك) في بقية أعمال المنزل..


فجأة سمعت النسوة صوت القنابل والرصاص مرة أخرى،لكنه كان أقرب هذه المرة..قالت (ملك) شيئا ما،لكن (ليلى) لم تسمعها فقد طغى صوت الانفجارات على أي صوت..ثم فجأة شعرت بشيء يصطدم برأسها وغابت عن الوعي..


بعد ساعتين تقريبا أفاقت على أصوات صياح وبكاء..حاولت النهوض من مكانها لكنها لم تتمكن من الحركة؛كان هناك شيء ثقيل يجثم عليها،ورائحة الغبار تزكم أنفها..سعلت مرة،وسعلت الثانية،ثم فتحت عينيها لتجد أنها في مكان مظلم،اللهم إلا من بعض خيوط الضوء التي تدخل من مكان ما هنا أو هناك..


حاولت الحركة ثانية لتشعر هذه المرة بآلام في أنحاء متفرقة من جسدها..


" في حدا هون..سمعت حدا بيسعل "

" همة معنا يا شباب إذا بتريدو "

ماذا يحدث؟! ..

سمعت أصواتا تطرق على تلك الأشياء الثقيلة التي تجثم عليها..بدأ شعور الألم يتضح أكثر فأكثر وتمكنت من تحديد بعض مواطنه..

اقتربت أصوات الناس الذين يتحدثون ويتصايحون،وأحست بالحمل الثقيل ينزاح قليلا،ثم فجأة غمر وجهها ضوء الشمس،فأغمضت عينيها وأدارت رأسها إلى الجهة الأخرى لتتجنب هذا الضوء القوي..


- إنتي منيحة يا آنسة؟

فتحت عينيها تدريجيا لتجد بضعة أوجه تطل عليها من الأعلى،وبعضها قد تغطى بالدم..لم تفهم بعد ما الذي يحدث..
- طلعوها يا شباب
تأوهت (ليلى) عندما أحاط أحد الرجال ظهرها بذراعه ليرفعها من بين الأنقاض..وراحت تئن وهي تشعر بألم شديد في ذراعها اليسرى..
- أين أنا؟
لم يسمعها أحدهم فقد كان هناك الكثير من الصراخ،كما أن صوتها خرج واهنا..راحت تسعل بشدة فقال الرجل الذي يحملها:
- لا تخافي..رح تكوني بأمان

بدأت تشعر بالدوار الشديد فأغمضت عينيها بقوة ثم فتحتهما..لترى في مجال بصرها رجالا يركضون هنا وهناك،يحملون نساء ورجالا وأطفال،ويهرعون من مكان إلى مكان..والدماء تغطي الكثيرين..

وقفز إلى ذهنها ذلك الحلم الذي رأته قبل أشهر في (غرناطة) ! ..هل يتحقق الآن؟ ..

دخل بها الرجل إلى مبنى سمعت فيه صراخ أطفال ونساء،ورجال يصيحون،ثم وضعها الرجل على الأرض..أدارت رأسها لتجد أطباء يركضون هنا وهناك،والدماء تغطي ثيابهم..ووجدت أحدهم يقبل عليها ويقول:

- شو إسمك؟
قالت بصوت واهن:
- (ليلى)
ثم سعلت..
- بشو حاسة؟
- أشعر أن..جسمي كله عم يوجعني
غطاها الطبيب وراح يفحص جسدها بسرعة..
- الحمد لله..ما فيكي غير كدمات

وتركها ليرى مصابين آخرين..حاولت النهوض واتكأت على ذراعها اليمنى ليهولها المنظر..عشرات الأجساد المسجاة على الأرض..لا تدري إن كانوا أمواتا أم أحياء..بعضهم يئن من الألم وبعضهم يشير بيده،وآخرون يرددون الشهادة..


كانت الدماء تغرق الأرض بشكل مخيف..وتذكرت أنها رأت مشاهد مشابهة في المحطات التلفزيونية عندما يكون هناك أخبار عن قصف مدينة ما..فهمت الآن ما يجري..يبدوا أن القصف تم هذه المرة فوق رؤوسهم..


- (ملك) !

تذكرت صديقتها فتحاملت على نفسها ونهضت رغم الآلام المنتشرة في جسدها..راحت تتسند على الجدار وهي تتحرك وتنظر يمنة ويسرة،وقد بدا لها المنظر مرعبا أكثر وهي تراه من موضعها.. وراحت تبحث عن وجه (ملك) بين الجرحى لكنها لم ترها..خرجت من المبنى وكادت تصطدم بأحد الداخلين إليه وهو يحمل فتاة غارقة في الدماء..

كادت (ليلى) أن تخرج من المبنى لكنها انتبهت إلى أن ثوب تلك الفتاة يشبه ثوب (ملك) الذي كانت ترتديه..فهرعت خلف الرجل الذي وضعها على الأرض ليأتي طبيب ويفحصها..

- (ملك) .. (ملك) ..استيقظي
- بتعرفيها؟
- أجل
حاول الطبيب إسعافها لكنها لم تتحرك،ولم تستجب..فصاح الطبيب لأحد زملائه:
- شهيد جديد
ونهض ليرى مصابا آخر..

اصطدمت الجملة بأذني (ليلى) وشلت حركتها..ظلت تحدق في الجسد الذي أمامها حتى جاء أحدهم وحمل (ملك) ليضعها بجوار الشهداء الآخرين..


جلست (ليلى) بجوارها وهي لا تصدق ما ترى.. أمسكت بطرف ثوبها وراحت تمسح الدماء من على وجه (ملك) ..إنها هي..كان لديها أمل أن تكون فتاة أخرى..لكنها هي.. (ملك) ..


كان جسد (ليلى) ينتفض بشدة ودموعها تنهمر دون أن تشعر..كانت في حالة من الذهول عندما سمعت صوت (حسن) ..

- (ليلى) ..الحمد لله إنك منيحة
نظرت إليه بعينين زائغتين..ثم نظرت إلى (ملك) ،وقد شعرت أن لسانها قد شل،فأشارت إليها ليصاب بالخرس هو الآخر،ثم يفاجأ بـ (ليلى) تمسك بيد (ملك) وهي تقول من بين شلالات دموعها:
- (ملك) ..تعالي معنا..أنت بخير

- (ملك) ! ..

التفت (حسن) ليجد (أحمد) يقف خلفه وهو ينظر إلى جثة خطيبته ثم ينفجر في البكاء..
- خالتي كمان ماتت يا (حسن)
قال (أحمد) هذه الجملة وجلس بجوار (ملك) وهو يمسح على شعرها ويبكي..أما (ليلى) فقد كانت تشد ذراعها لتترك عليه آثارا من دمائها وهي تردد ذات الكلمات..ثم تلتفت إلى (حسن) وتقول:
- لماذا لا تتحرك؟ ..
وعادت إلى الفتاة وهي تقول:
- سأذهب لأحضر لك طبيبا

وقبل أن تنهض صاح فيها (حسن) وقد أغرقت الدموع وجهه:

- (ملك) ماتت يا (ليلى) ..ماتت..ما رح ينفعها الطبيب
نظرت (ليلى) إلى (ملك) ثم انفجرت في البكاء،وألقت بنفسها على صدر الفتاة وصوت بكائها يتعالى..

جذبها (حسن) ليبعدها عن المكان فأمسكت بثيابه وهي تصرخ:

- لا تتركني أنت أيضا..لا تتركني يا (حسن) ..لا أريد أن أفقدك..
ثم ارتمت على صدره وأحاطت جسده بقوة وهي مستمرة في صراخها:
- أنت آخر من تبقى لي..لا تتركني..لا تبتعد
أبعدها (حسن) عنه برفق وراح يمسح الدماء التي كانت تغطي جبينها وهو يقول:
- لا تخافي يا (ليلى) ..ما رح اتركك..رح ضل جنبك..لا تخافي



يتبع ...........

لامارا 04-11-13 06:13 AM

https://upload.rewity.com/upfiles/nRW34555.jpg

خاتمة

في الطريق إلى (أنطاكيا) ..كانت (ليلى) تسند رأسها المضمد على كتف (حسن) ..تذرف الدمع حينا،وتحاول منعه أحايين أخرى..وكان (أحمد) يجلس بجوار أخيه..واجم الوجه..جريح الفؤاد..قد جفت مقلتيه من كثرة البكاء..


تهتز بهم العربة على الأرض غير الممهدة داخل الأراضي السورية،فتعتدل (ليلى) في جلستها وتصلح حجابها ثم تعود لوضعها السابق..

الصمت يخيم على العربة،لا يقطعه سوى صوت هدير المحرك وبكاء أحد الأطفال،لتضمه أمه وتربت عليه حتى يهدأ..

تذكرت عندما أخبرها (حسن) أن نهر (العاصي) يفصل بين (سورية) و (تركيا) ..رادوتها حينها الأحلام كي تعبر النهر وتذهب إلى (تركيا) ..أرض العثمانيين..لكنها لم تتخيل أن الأمر سيصبح قسرا وإجبارا في يوم ما..


بدأ الطريق يستوي وتظهر بعض اللافتات على الطريق مكتوب عليها بحروف لاتينية وعربية، وعلى جانبي الطريق كانت ترى المزارع التي تشير إلى أنهم قد شارفوا على الحدود التركية..


لاح من بعيد علم أحمر يتوسطه هلال ونجمة ذوا لون أبيض،وبعد دقائق توقفوا عند لافتة حمراء كبيرة بعرض الطريق،مكتوب عليها كلمات بحروف لاتينية..تحدث السائق مع الرجل الواقف أسفل تلك اللافتة ثم دخلت السيارة،ومضت في طريقها حتى وصلت إلى وجهتها التي كانت توليها من البداية..


- وصلنا بالسلامة يا شباب

نزل الركاب وأخذ كل منهم أغراضه وحقائبه من فوق العربة،ثم تحركوا مع البقية حتى وصلوا إلى لافتة حمراء أخرى بعرض الطريق..مروا من تحتها وبدأت إجراءات الدخول..
نظرت (ليلى) لتجد أمامها سورا حديديا كبيرا أحمر اللون تتوسطه بوابة،ويظهر من خلفه شارع واسع..كان حولها الكثير من النازحين الذين ينتظرون مثلها انتهاء إجراءات الدخول..

استقبلهم الجنود الواقفين على البوابة بالابتسام،في محاولة لبث الأمل في قلوب هؤلاء الهاربين من جحيم مستعر،قتل وأصاب منهم الآلاف..

كانت الخيام البيضاء مصفوفة بشكل منظم..ونظرت (ليلى) حولها لتجد بعض الأطفال يركضون هنا وهناك وقد تعالت منهم الضحكات..ابتسمت..رغم أن هؤلاء الصغار رأوا الأهوال،إلا أنهم لا زالوا صغارا يحبون اللعب رغم كل شيء..

- هاي خيمتنا يا (ليلى) ..

انتبهت على صوت (حسن) ..
- ادخلي ارتاحي لبين ما روح مع (أحمد)
دخلت (ليلى) ..كانت الخيمة صغيرة،لكنها نظيفة وبدت مريحة بعض الشيء،فجلست على الحشية الصغيرة الموضوعة على الأرض..ومضت دقائق من الانتظار حتى عاد (حسن) ..
- حمد الله على سلامتك حبيبتي
ابتسمت (ليلى) بوهن بينما يغلق (حسن) ستار الخيمة جيدا ثم يجلس بجوارها..خلعت حجابها ثم أراحت رأسها على صدره،وأخذ يعبث بشعرها بعض الوقت ثم أبعدها عنه برفق وقال:
- إن شاء الله ما بنطول هون،من شوي قلت لـ (أحمد) بدنا نشتغل ونخرج من المخيم،لأن فيه ناس ما بتقدر تشتغل وأكيد رح يحتاجو يعيشو بالمخيم أكتر منا
- معاك حق
- أكيد تعبانة..خلينا نرتاح شوي وبعدين منشوف شو رح نعمل

أطاعته على الفور فقد كانت منهكة من البكاء والسفر وكل شيء..نامت بجواره وهي تشعر بالحرج،لكنها ابتسمت وهي تفكر فيما حدث قبل يومين..كانت توقع عقد الزواج وهي لا تكاد ترى أمامها من كثرة الدموع التي كانت تهطل من عينيها كالمطر في يوم عاصف..لا تظن أن هناك من تزوج في ظروف كهذه في التاريخ..صدرت منها ضحكة فوضعت يدها على فمها بسرعة كي لا يستيقظ (حسن) ..


- بشو عم تفكري؟

- إنت ما نمت؟
- لأ..
ثم قال:
- من زمان ما سمعت ضحكتك
احمر وجهها قليلا ثم قالت:
- بفكر في زواجنا..كان غريب
ضحك هو الآخر وقال:
- كان لازم يصير هيك،حتى تكوني جنبي على طول،وأقدر دير بالي عليكي منيح
ساد الصمت لدقائق غزا فيها النوم عينيهما،فاستسلما له لعله يخفف عنهما بعض الآلام..


* * *

على ضفة (العاصي) جلس الثلاثة ينظرون إلى النهر العنيد،الذي أبى إلا أن يسير عكس التيار..

- أتعجب من حال الدنيا..
نظر الأخوان إلى (ليلى) ..
- في (غرناطة) كنا نهرب من أرضنا كي ننجو من بطش القشتاليين..وقتها كان العثمانيون يرسلون إلينا المساعدات التي لم تصل بسبب ظروف الحروب التي كانت مشتعلة في كل مكان تقريبا..
سكتت للحظات ثم قالت وعلى وجهها ابتسامة:
- وكأنما أراد العثمانيون أن يردوا إلي اعتباري..استضافوني على أرضهم كما لو كانوا يعتذرون عما حدث قبل خمسمئة عام،رغم أن تقصيرهم كان غير مقصود

ضحك (حسن) وقال:

- شفتي قديش الدنيا صغيرة
قال (أحمد) مشاكسا:
- بالمناسبة..أنا بعرف رجال أصغر من زوجاتهم بسنة أو اتنين ويمكن عشرة..بس ما شفت زلمة أصغر من مرتو بخمسمية سنة
ضحك (حسن) و (ليلى) بشدة ليقول (حسن) :
- والله ما خطر ببالي هالشي
وضحكوا مرة أخرى..
- صحيح يا (ليلى) ..انتي بتعرفي تحكي أسباني ما؟
نظرت (ليلى) إلى (أحمد) وقالت:
- بتقصد القشتالية؟ ..
أومأ (أحمد) برأسه فقات:
- طبعا..
ثم أردفت وكأنما تتذكر أحداثا بعيدة:
- انجبرنا نتعلم القشتالية،ونغير أسماءنا..متل كل شي انجبرنا عليه
قال (حسن) ممازحا:
- طيب خلاص..رح نشغلك سفيرة بالسفارة الإسبانية هون

ضحكت (ليلى) وواصلوا حديثهم الضاحك،في محاولة لطمر أحزانهم،لكن الزمن يأبى إلا أن يجدد تلك الأحزان والآلام..لكن هذه المرة كانت من مكان آخر..

كانت هناك بعض الأسر التركية تأتي لزيارة المخيمات من حين لآخر،لتوطيد علاقات الأخوة مع أولئك المكلومين والتخفيف عنهم..ولمح (حسن) شارة صفراء مثبتة على صدر أحد الرجال،لكنه لم يلق لها بالا إلا عندما وجد الكثيرين يعلقونها..

- شو هاي العلامة يا أخي؟

كان معهم أحد السوريين الذي يجيد التركية فقام بنقل السؤال للرجل..
- هذه علامة (رابعة)
- (رابعة) شو؟
رفع الرجل كفه وقد ضم إبهامه مشيرا برقم أربعة ثم قال:
- هذه العلامة تضامنا مع إخواننا في (مصر) ،بعد مجزرة (رابعة)

تبادل الثلاثة نظرات الدهشة ليروي لهم الرجل ما حدث في ذلك اليوم،لتظهر الصدمة على وجوههم..ها هم العسكر في (مصر) ينهجون نهج سفاح الشام شبرا بشبر..ولكن لم العجب..هذا ديدن الظالمين في كل زمن..يسعون دوما لإخراس الألسنة التي تصدح بالحق..


رغم كل شيء كانت (ليلى) تشعر بالتفاؤل..المسلمون يتضامنون مع بعضهم البعض ولو بأشياء رمزية،ورغم بعض الخونة والمقصرين إلا أن هذا الحماس الذي كان في عيني الرجل التركي بعث في داخلها أملا بالخلاص من الظلم..


كانت تستمع للرجل معجبة بهؤلاء الشباب الذين وقفوا في مواجهة الظلم،محتشدين في الشوارع يوميا..ينهال عليهم الرصاص كالمطر فيزيد إصرارهم على إكمال المسيرة،كما كان من إخوانهم في الشام من قبل،وفي كل مكان يبغي فيه أهله الحرية والعدل..



* * *

قبيل مغادرة (ليلى) و (أحمد) وزوجها للمخيم،وقفت تنظر إلى المكان حولها..انتابها شعور عابر بالحزن..كل هؤلاء ينتظرون العودة في يوم ما إلى وطنهم..إلا هي..

- شو؟ ليش واقفة هيك؟
التفتت (ليلى) إلى زوجها وقالت:
- ما فيني إرجع عابلدي..أنا صرت لاجئة وين ما روح
أحاطها (حسن) بذراعه وقال:
- بلاد المسلمين وطنك
قال (أحمد) معقبا:
- الحدود صنعها المحتل ليفرق بيناتنا..بالنسبة إلي..الحدود تراب
ابتسمت وقالت:
- صحيح المكان والزمان متغير..بس الأحداث بتتكرر..

نظر إليها (حسن) و (أحمد) مستفهمين فقالت:

- بيوم..أنا كنت في (غرناطة) ..كان الظلم والتهجير والعذاب موجود،وأول لما إجيت لهون وشفت الحريات اللي كنا محرومين منها في بلدنا،فكرت إني أخيرا اتخلصت من العذاب،وكنت شايفة إن صلاتي بأمان ووجود مصحف معي يهون بعده أي ألم..لكني كنت مخطئة..

وسكتت للحظات ثم قالت:

- لقد تركت (غرناطة الأندلس) بكل معاناتها،لآتي إلى (غرناطة الشام) ..وأجد معاناة أخرى،لكن على الطريقة الحديثة..
وسكتت مرة أخرى ثم تابعت:
- لكني واثقة بأن هذه المعاناة ستنتهي قريبا،ولن تكون هناك (غرناطة) أخرى..لا في الشام ولا في (مصر) ولا في أي بلد مسلم

والتفتت إلى الأخوين لتجدهما ينظران إليها وعلى وجهيهما ابتسامة أمل..وقال (أحمد) :

- إن شاء الله رح نرجع..نعمر (سورية) ونعيش بأمان
قال (حسن) موافقا:
- صح..وحتى لو ما رجعنا..إن شاء الله ولادنا رح يرجعوا ويجمعوا المسلمين تحت راية وحدة

هبت نسمة رقيقة داعبت وجوههم،وكأنما توافقهم فيما قالوه،وتنتظر معهم ذلك اليوم..



(تمت بحمد الله)


وللحديث بقية في المستقبل القريب بإذن الله..



https://upload.rewity.com/upfiles/C1J34726.jpg

لامارا 05-11-13 06:42 AM



السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

كيف حالك إن شاء الله دائما بخير ؟

***

عندما احن لمن احبهم ادعو لهم
اللهم اكتب لهم هذا العام من خيرك
ما لايخطر ببالهم

***

قراءة ممتعة لكم جميعاً......

https://upload.rewity.com/upfiles/7vA20584.jpg

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .


توته مصطفي 03-11-19 02:46 AM

الحدود صنعها المحتل ليفرق بيناتنا..بالنسبة إلي..الحدود تراب
ابتسمت وقالت:
- صحيح المكان والزمان متغير..بس الأحداث بتتكرر..
متي يفهم المسلمون انهم اخوه ؟
متي يستقظ ضمير هذي الامه؟
متي تعود الشام وفلسطين؟
متي نتحرر من احتلال الصهاينه لبلادنا؟
سيكون ذلك كله إذا تعلمنا ديننا وتمسكنا به



رااااااااااائعه
شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

هاجر جوده 08-03-21 05:58 PM

رواية راائعة جداا
تاثرت بيها كتير و احيي كاتبتها على هذه الحبكة
انها تجمع بين ازمنة مختلفة في قصة و تطرح قضاياهم و تاريخم بصورة ملخصة و مفهومة شي تستحق الشكر عليه ..
رغم الوجع في هذه القصة عن تاريخنا الاسلامي و وين كنا و كيف اصبحنا الان بين معاناة الشعوب و اضطهادهم
الا انها لم تبخل ببعث الامل ..
تسلمي لامار على النقل الجميل

أَسْماء 14-05-21 03:00 PM

رواية مختلفة لها مغزى وفكرة... لها تأثير عميق ومشاعر انسانية.. وايضا الكاتبة مثقفة ولديها خيال خصب وقدرة على حبك القصص واسلوب جميل سلس..
تأثرت كثيرا بها عشت مع ليلى في غرناطة مع أمها وزوجة أخيها وأطفالها والمشاق التي عانتها لكي تعمل
وبعدها ذهبنا إلى سوريا معها... عشنا مع العائلة السورية ورأينا كرمهم واحتضانهم لها.. بعدها شهامة رجالها... وحسن الذي شعرت بغصة انه ذكرها بزوجها... المشاعر وصلتنا بسلاسة كم دمعة عيني لموقف وذكرى...
شكرا للكاتبة...
كان الحوار بالفصحى عندما تنطق به ليلى جميل وناعم... أحببت لو كان كله بالفصحى واكتفت بالعامية في البداية فقط...
ولكن تظل الرواية رائعة...


الساعة الآن 06:38 PM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.