آخر 10 مشاركات
369 - جزيرة الحب الضائع - سارة مورغن (الكاتـب : سماالياقوت - )           »          203 -حب من أول نظرة / سالى وينت ورث )(كتابة /كاملة **) (الكاتـب : Hebat Allah - )           »          روايتي الاولى.. اهرب منك اليك ! " مميزة " و " مكتملة " (الكاتـب : قيثارة عشتار - )           »          مستأجرة لمتعته (159) للكاتبة Chantelle Shaw .. كاملة مع الروابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          غريق.. بين أحضانك (108) للكاتبة: Red Garnier *كاملة* (الكاتـب : Gege86 - )           »          للحب, الشرف والخيانة (101) للكاتبة: Jennie Lucas *كاملة* (الكاتـب : سما مصر - )           »          الإغراء الحريري (61) للكاتبة: ديانا هاميلتون ..كاملهــ.. (الكاتـب : Dalyia - )           »          25 - أصابع القمر - آن ميثر - ع.ق ( نسخه اصلية بتصوير جديد) (الكاتـب : angel08 - )           »          ❤️‍حديث حب❤️‍ للروح ♥️والعقل♥️والقلب (الكاتـب : اسفة - )           »          ..خطوات نحو العشق * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : smile rania - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة > روايات اللغة العربية الفصحى المنقولة

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 10-11-13, 07:49 PM   #11

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Rewitysmile25


الهامش
ــــــــــــ

([1]) عُكْفَة:حرس الإمام الخاص.
([2]) عَلاّن: نجم زراعي يأتي قبل حصاد الغلال وهو أحب نجوم الزراعة في اليمن.
([3]) الدويدار: صبي حاضر البديهة يستخدمه الأمراء والحكام في قصورهم، وجمعها "دوادرة".
([4]) الحالي: الجميل.
([5]) النائب: الوالي- نائب الإمام.
([6]) العامل: مدير الناحية.
([7]) الرهائن: أبناء المشايخ ورؤساء القبائل الذين يعتقلهم الإمام لضمان ولاء آبائهم.
([8]) الطَّواشي: الخادم الخصي، العبد الخصي.
([9]) سِنَّا: لقب مدرس الكتَّاب - مختصرة من كلمة سيدنا.
([10]) القَمَرِيّات: نوافذ رخامية.
([11]) السَفِِلْ: أسفل المنزل، وهو في الأرياف مخصص للحيوانات.
([12]) العجور: سيقان الذرة (علف البهائم).
([13]) يُطلق لقب "الشريفة" على بنات الأسر التي تدّعي نسبها إلى الرسول الكريم (ص).
([14]) بلاد مدخل: كانت تُطلق هذه التسمية على البلدان الخارجية وقتئذ.
([15]) أسماء فنانين يمنيين راحلين.
([16]) لمبة الألف: مصباح غازي.
([17]) حملة لحج: حملة عسكرية يمنية بقيادة تركية ضد الإنجليز في منطقة لحج اليمنية التي كانوا يحتلونها.
([18]) السواري: سلاح الفرسان.
([19]) جَمَنة: إناء فخاري تغلى فيه القهوة اليمنية من قشر البن.
([20]) جفنة: وعاء من الفخار.
([21]) دكة: مصطبة.
([22]) نظام: جنود الجيش النظامي.
([23]) برَّاني: ما يشبه جنود الاحتياط.
([24]) كاوش: العنبر المخصص لإقامة الجند.
([25]) البورزان: ضارب النفير.
([26]) الزامل: نشيد جماعي تقليدي.
([27]) فاقدة: مشتاقة
([28]) الطبشية: جنود المدفعية.
([29]) النوبة: غرفة مرتفعة للحراسة.
([30]) الجنبية: الخنجر اليمني التقليدي.
([31]) الطيار: حافظة جلدية لرصاص البندقية تُربط من الكتف إلى الخصر.
([32]) صاغ سليم: ذخيرة جديدة لم تُعبأ مرة ثانية.
([33]) المنظرة: غرفة في أعلى البيت.
([34]) قبيلي: تُطلق على الفلاح نسبة إلى القبيلة.
([35]) المداعة المنيبر: النرجيلة الممتازة.
([36]) مجابرة: محادثة.


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-11-13, 07:52 PM   #12

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Rewitysmile25

الرهينة
الفصل الثاني


مرّت الأيام. وبرغم عملي في دار الشريفة حفصة فإنني شعرت بالاكتئاب والضجر والملل.


كنتُ مع صاحبي، الدويدار الحالي، كما يحلو للبعض تسميته، نقضي معاً بعضاً من أوقاتٍ ممتعة في الساحة أو في البوابة الرئيسية حسب العادة الصباحية مع العسكر والبورزان، وزاملهم المعتاد.
ثم يضمّنا مرقدنا المشترك في غرفته، منهمكين نجترُّ همومنا اليومية، لكي نلتقي مجدداً في دهاليز وسلالم وحجرات وساحة القصر وملحقاته، وفي المطبخ أيضاً بين أفراد أسرة النائب وحشمه وخدمه، نلتقي في غرفة النائب المنبطح دائماً على جنبه الأيسر منذ الصباح، ونهجع معاً في غرفتنا في النهاية.
حاولتُ ذات يوم، وقد ضقتُ ذرعاً بالحياة، أن أقنع صاحبي بالخروج إلى الميدان ثم إلى المدينة، إلى السوق، إلى الشارع... قلت له بتودُّد:
-أريد أن أتجوّل في المدينة هذا اليوم، ولو لساعة واحدة.
-لماذا؟
-يوم واحد، بل ساعة واحدة، ألا تسمح أن ترافقني؟!
-أينقصك شيء في هذا القصر وملحقاته؟!
-أشياء! لكني أريد فقط أن أشم الهواء!
-الهواء موجود!
-أريد أن نمشي معاً، أن نشم هواء آخر، نرى الناس، أن أجد أي شخص من بلدتي ممن يبيعون البصل والثوم والبطاطا في السوق، أسألهم عن حالة أسرتي!
-أبوك الهارب يُلهب الدنيا بلسانه الطويل على الإمام في الجرائد، في عدن، وحالة بلدتكم سيئة.
أطرقت، لم أكن أعرف أن لوالدي هذه الأهمية!
-أما أعمامك وأفراد أسرتك الآخرون ففي السجون.
أطرقت مرة أخرى، كنتُ أعتقد أنني "الرهينة" الوحيد في السجن! ثم قال:
-لا يوجد في دياركم سوى النساء والأطفال الرضع، و"السواري" و"العكفة" "بقاء" عليكم.
نظرتُ إليه ملياً... كلامه لا يأتي من خيال، فهو قد يلتقطه من أعزّ المقرّبين إلى النائب أو من النائب نفسه. لا بد أنه قد سمع الكثير مما لم أسمعه ولم أعرفه ولم أكن أتوقّعه!
قلتُ له برفق:
-أريد أن أطمئن عليهم.
صمتَ برهة، وأطرق إلى الأرض وقد خجل أو ندم من كلامه، ثم قال:
-ألستَ مرتاحاً هنا؟!
-نوعاً ما!
-ماذا تريد أكثر من هذا؟!
-أريد أن أشم الهواء النقي.. أن أشعر بأنني حرّ.
-أنت رهينة مولانا الإمام!
-ولكني لست عبداً!
-أنت دويدار!
نظرتُ إليه وقد علتني مسحة من الغضب:
-ولكني لستُ "دويدار حالي"!


* * *


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-11-13, 07:54 PM   #13

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Rewitysmile25

* * *
ساد بيننا فتورٌ لأيامٍ قلائل. كنتُ أشعر أنه يكلمني من موقع آمر. لا يهم عندي موقعه هذا، فأنا بمعية الشريفة حفصة، أعلى منه مرتبة، كما خُيّل إليّ، وأقوى نفوذاً، هذا إن شئتُ وجاريتُ رغبتها.
لا أدري ما الذي دفعنا للتصالح بسرعة، فقد أخذ بيدي ذات يوم واتجه بي نحو البوابة الرئيسية خارجين إلى ميدان ترابي تتوسطه شجرة "طولقة" عملاقة يستظل تحتها جموع "المشارعين" والمراجعين وطالبي الحاجات من النائب، وبجوارها منصة حجرية البناء بـ"القضاض" الصلب المصنوع من "النورة"، ملساء. وخلفها تقبع عدة غرف تشرف على ممر واحد تظلله شرفة بسقفها وأعمدتها الخشبية القديمة والمتآكلة، يطلق عليها الناس "المحكمة"، وهي مكان المواجهة الخاص بالنائب وكتبته وبعض الحكّام الفقهاء في الشرع والقضاء وموظفي المالية وبقية المستخدمين لأعماله المحدودة، وبين جموع الرعايا المواطنين أصحاب المظالم.
كل ذلك يطل على سائلة المدينة، المنحدرة من الجبل والتي تجرف كل مخلفات هذا العالم الصغير من أوراق صفراء وأقمشة بالية تتكون من بقايا الثياب لبنات الجبل ونسائه.
اتجهتُ مع صاحبي إلى وسط المدينة. كان الجو مفعماً برائحة الوباء وأدخنة مطابخ المنازل.
الوجوه شاحبة تعلوها مسحة لون أصفر مقيت وباهت. والبطون منفوخة، ليس شبعاً وإنما مرضاً، والأقدام عارية لزجة بالجروح والأوساخ.
جموعٌ منهكة من المتسولين والمرضى والمجانين نصطدم بهم في كل منعطف وفي كل زقاق وفي كل ساحة وشارع.
ما كان أجملها من مدينة بصباحها عندما نطل عليها من على أسوار قلعتها القاهرة معقل الرهائن والمدافع! حيث كنا نتدلّى بأرجلنا من على أسوارها ونشاهد المآذن والقباب البيضاء والمنازل المرصوصة داخل سور المدينة المنيع، والهضاب والسهول والجبال الممدودة على مدى البصر.
لكنني الآن، ومن وسطها وفي أحشائها، عرفتها على حقيقتها. إنها بؤرة للوباء المميت، مليئةٌ بالمرضى والمجانين وأصحاب العاهات، والمعوقين والحكّام الظالمين. إنها مدينة تعيسة وبائسة غاية البؤس. وكم تمرّ كل يوم جنائزُ الموتى من أبواب سورها تشيّعها أصوات الأطفال مع معلّميهم من الفقهاء وطالبي الخير والمغفرة.
لم أجد أحداً من بلدتي، إذ لم يكن يوم السوق الأسبوعي المعتاد. وعدنا، ودخلت من بوابة القصر وأنا أتنفس الصعداء، وقد آليتُ على نفسي أن لا أخرج مرة أخرى، حتى ولو كان يوم السوق الأسبوعي، إلا إلى مكان آخر غير هذه المدينة.
ما كان أجملها من مدينة من علٍ! وما أحقرها اليوم، في نظري، من مقبرة حيّة! وليتها كانت صامتة!


* * *


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-11-13, 07:56 PM   #14

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Elk

* * *
غداً هو أول يومٍ في شهر رمضان. شعرتُ بذلك من خلال الإعداد الهائل والاهتمام المشترك لجميع سكان القصر، من سادته إلى عساكره وخدمه وحشمه. حتى صاحبي، كان قد ملأ غرفتنا بأشياء عجيبة، بيضاء اللون كأنها مصنوعة من الفضة، قال لي إنها "الأتاريك"([1])، وبدأ في تنظيفها ثم ملأها بمادة "القاز" و"السبرت". وغيَّر، كما أفهمني، ذبائلها الحريرية الملونة التي تشبه "قوس عَلاّن" بألوانه. ثم شرع يجري تجاربه عليها.
كم أدهشني صفاء نورها اللبني الناصع! وكم ضحكَ صاحبي مني وتلذذ في مباغتتي بأشياء عجاب تذهلني!
تذكرتُ ليالي رمضان في بلدتي القابعة في حضن جبلها الأشم، المغروسة بين عشرات القرى ومئات الحقول المدرجة وآلاف المزارعين، منهم أصحاب وأصدقاء لي منذ خُلقت حتى أُخذت عنوة إلى قلعة الرهائن. من المسجد إلى "الديوان"، ديوان عاقل القرية، نسمرُ لنسمع آيات من القرآن الكريم، نحفظها على ضوء سراجٍ زيتيّ ذي ذبائلَ قطنية حارقة، وإذا ما قُرئ شيء آخر فهو طبعاً كتاب المولد والمآتم والأفراح، المملّ!
وفي قلعة الرهائن كان رمضان بالنسبة للعساكر ورئيسهم والفقيه المعلم أيضاً رتيباً، وكذلك بالنسبة إليّ وإلى زملائي الرهائن. فبعد الفرجة على "قوارح"([2]) مدافع رمضان التي تُطلق من جوارنا، كنا نتناول طعام الإفطار ثم نهجع ونستكين فترة ثم نخلد للنوم لنقوم إلى اللعب في الصباح أثناء نوم العساكر ورئيسهم والفقيه المعلم، في ساحات القلعة وأزقتها ومشارفها، وكنا نتلذذ بتناول حبات التين الشوكي المتدلية أشجاره إلى الهاوية والتي نقطف منها الثمار بحذر خوفاً من السقوط إلى أعماق سحيقة رهيبة.
في دار النائب وملحقاته يختلف جوّ رمضان عمّا عهدته في بلدتي وفي قلعة الرهائن. هنا تغمرنا أنوار بيضاء لبنية اللون وتعمّ كل غرفة بواسطة "الأتاريك" ذات اللون الفضي اللامع. وديوان النائب مكتظ دائماً بالسمّار، وأحاديث تُقال كل ليلة تلوكها الألسن عن الشعر والأدب والسياسة، ومنادمات لا تصل إلى درجة السماجة، إلا في بعض الأحيان.
أما نساءُ القصر وملحقاته فلهن مريدات للسمر أيضاً، معظمهن من الجيران وبعض الأسر العريقة ذات المركز الاجتماعي المرموق. وفي بعض الليالي يفاجأن بنسوةٍ من الأسرة المالكة، من قصور وليّ العهد، اللواتي تطغى روائحهن العطرية على كل مخلفات الدخان المتصاعد من "المدائع" والمواقد.
حتى العساكر، ومن ضمنهم البورزان المتصابي، لديهم مكان معتاد بجوار البوابة الرئيسية هيأوه لهذا الشهر الكريم، ويدور فيه حوار وسجال عن معارك مُبالغ فيها ضد الأتراك والوهابيين والبريطانيين.
الشريفة حفصة تصوم طبعاً، هذا ما لمسته، وتنامُ بعد سهرٍ طويل، وتستيقظ في أوقات غير مرتبة. لكنها أوقات متأخرة جداً، وهذا ما أزعجني؛ فمثلها لا يجوز لها هذا العبث بصحتها، والذي يؤثر على رونق جمالها وخصوصاً في شهر رمضان الذي يقلب حياة الناس رأساً على عقب.
وبالرغم من ذلك فما زال صوتها كما هو، لم يتغيّر. ما زال يجذبني إليها بشدة كأنه سحر مُحكم.
شغلتني أوامر الشريفة حفصة طوال شهر رمضان بنقل رسائلها إلى سامر مداوم في ديوان النائب، لم أعرفه من قبل وإن كنت قد لمحت صورته في إحدى المناسبات الخاصة أو العامة.
كنتُ أسلمه رسالتها، وأنتظر، وكان في بعض الأحيان يكتب الردّ بإطالة مما يضطرني أن أستجيب لطلباتٍ أخرى كتعمير "بواري مدائع" بعض السامرين في ديوان النائب، وهي ليست مهمتي. وقد يغمز لي بطرف فأتوجه نحوه ليسلمني الجواب للشريفة حفصة. ذات ليلة دسّ في يدي ريالاً فضياً. لم أكن قد تناولت ريالاً من قبل، بل ولم أعرف شكله. كان في يدي كأنه قمرٌ هبط عليّ فجأة من السماء.
وكنت أعود بالرسائل الجوابية إلى الشريفة حفصة، التي كانت تأمرني معظم الأحيان بالبقاء معها حتى تنتهي من قراءتها لتلك الردود. كانت تمزق بعضها بغضب، ومن النادر أن تحتفظ ببعض منها.
قلتُ لصاحبي ذات ليلة من ليالي رمضان ونحن نشعل "الأتاريك" استعداداً لسهرة القصر وملحقاته:
-لقد تعبتُ من نقل الرسائل والهدايا.
-وستتعب الشريفة حفصة أيضاً.
-لماذا؟
-الرجل، هو شاعر الإمام ووليّ العهد الخاص. وهو وسيم ومرتاح، ولديه من هذه الرسائل عشرات بل مئات، ومن داخل قصر الإمام وولي عهده والسيوف كلهم. وتنهال عليه الهدايا الثمينة، مما يجعله يعيش كالإمام وولي عهده وأفضل منهما، وأفضل من النائب هذا أيضاً.
-وهل تعرف حفصة، أعني الشريفة حفصة، بهذا؟
-هي تعرف، لكن الكبرياء والتعالي يجعلانها تحرص على الصلة به.
-وهل يحبها؟
-لا يحب إلا نفسه.
-وهي؟
-... تحلم، ولا تحب.
-لم أفهم!
-تحلم بالشهرة وتحب التحدي.

* * *


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-11-13, 08:26 PM   #15

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Elk

* * *

لم تبخل عليّ الشريفة حفصة بشيء. منحتني الملابس النظيفة، فكوّنت المظهر اللائق بها وبي.
ومع ذلك كنتُ أريدُ أكثر من ذلك، لكنها كانت تتعالى كومضة برق.
قلتُ لها يوماً وقد طفح الكيل:
-أرجو أن تعفيني من حمل هذه الرسائل.
-لماذا؟
-لا فائدة ترجى.
-كيف تتجرأ على قول مثل هذا الكلام؟!
-هي الحقيقة التي أشاهدها، فلديه ما يشغله عنك.
-إخرس.. يا...!
وهوت بيدها الناعمة الجميلة المخضبة بالحناء والمزينة بالأساور الذهبية على خدّي بلطمة تقبلتُها بثبات وقد تمالكت أعصابي، وقلت:
-أنتِ تحلمين ولا تحبين!
-إخرس!
وهرعتُ الدرجات مسرعاً تاركاً صوتها يعلو بالشتائم العصبية المتوترة.

* * *

قادني أحد العساكر إلى البوابة الرئيسية حيث تقرفصت ومددت رجليَّ ليوضع حولهما قيدٌ حديدي طرقه أحد العساكر حتى أحكم دائرته.
ومشيتُ نحو غرفتنا حيث نصحني صاحبي بوضع بعض أقمشة بالية على ساقيّ لكي لا يحتك القيد بهما ويُحدث جروحاً، وإزعاجاً أيضاً.
لم أكلّمه تلك الليلة حفظاً لماء الوجه. كان متألماً كما بدا لي من خلال تقاسيم وجهه. أكّد لي أن قيدي كان عن إصرار من الشريفة حفصة، نفّذه النائب.
السجينُ المقيد مرتاح أكثر ممن هم طلقاء بلا قيود في هذه المدينة، بل وربما في البلاد كلها! فلا مشاغل ولا هموم يعانون منها، فعذرهم واضح بأنهم سجناء مقيدون لا حول لهم ولا قوة.
كنتُ أستيقظ مبكراً، خلافاً للعادة، وأتجه بقيدي إلى "دكة" العسكر في البوابة الرئيسية، أتناول معهم وجبة الإفطار العادية المكونة من "الكُدَم والبُرَعي"([3]) إن وُجد، أو ما حصلمن "سَحَاوق"([4])، وأتجاذب معهم أطراف الحديث المعتاد.
ومع قلة حديثي مع صاحبي فقد شعرت بأن هنالك حركة غير عادية تجري في القصر وملحقاته، وفي تصرفات صاحبي العجلى الفرحة، فسألته عن ذلك فقال بفرح:
-سيصل اليوم ابن النائب من الخارج.
-ولماذا كل هذه الحركة والدربكة اللافتة للنظر؟! ألديه حاشية كبيرة ستصل معه؟
-ستصل معه سيارته الصغيرة فقط، وستحملها الجمال إلى مشارف المدينة، وسيقوم المهندس الإيطالي بتركيبها فور وصولها. ألا ترى أنه حدث يستحق كل هذه الحركة والدربكة اللافتة لنظرك!؟
-شيء عادي أن يعود ابن النائب من الخارج إلى موطنه!
-لا أقصد ذلك. أقصد وصول سيارة معه، وصغيرة جداً، ألم تعرف ما هي السيارة؟

* * *


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-11-13, 08:28 PM   #16

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Elk

* * *
فُتحت البوابة الرئيسية بأكملها، واشرأبت الأعناق من كل نافذة داخل القصر وخارجه، وكثر الهرج والمرج، وتجمعت جحافل من "الرعية"، من شُركاء وأُجراء النائب في المدينة والأرياف، وحشد غفير من الناس من رجال ونساء وأطفال، في ساحة المدينة المطل عليها القصر وملحقاته.
كان العسكر ينظمونهم حسب المزاج وبطرق عشوائية، فكم من خبط وضرب ولكم لخلق الله!
خرجتُ بقيدي الحديدي إلى الفسقية التي تتوسط ساحة القصر وملحقاته، أتعشّم أن أشاهد صاحبي وهو بجوار النائب وابنه الواصل من الخارج، راكباً بجوارهما على تلك السيارة الصغيرة العجيبة.
لملمتُ قيدي وانحنيت على ركبتيّ محتضناً إياهما مع القيد. كان مكاني يتيح لي فرصة للمشاهدة أحسن من أي مكان آخر.
لا أدري كيف راود ذهني قَسَمٌ عظيم بأن لا أعود إلى دار الشريفة حفصة مهما طال القيد. وسمعت من خلفي صوتها فجأة وهي تزأر:
-طليق!؟ وفي الساحة!!؟
لم ألتفت ولم أجب.
-وتتفرّج على خلق الله كأن شيئاً لم يكن! هه!؟
لم ألتفت ولم أجب.
هزّتني من كتفي بقوة، وقالت:
-لماذا لا تجيب؟!
ولم ألتفت ولم أجب.
واستوت إليّ مواجهةً وقد حجبت عني رؤية البوابة الرئيسية المكتظّة بخلق كثيرين منتظرين مثلي الفرجة على هذا الحدث القادم.
وبالرغم من أنها في ساحة القصر وملحقاته، إلا أنها تلتحف شرشفها الأسود الذي لا ُيظهِر منه سوى عينيها البراقتين المكحولتين بالإثمد، وأنفها البارز كحد السيف من خلال اللثام.
ومع ذلك التوتر فقد مدّت يدها المزيّنة بالذهب والمصبوغة بالخضاب الذي أظهر ذلك البياض المفعم بالحمرة والذي يتجلى على أناملها وظهر كفيها وذراعيها، لتمسك بي مرة أخرى وبقوة لنتواجه.
أصلحتُ من وضعي بعد هذا العنف، وحاولتُ الوقوف لكنها منعتني بحركة آمرة قوية من يدها ومن خلال صوتها الأجش المهاب.
تأملتني مليّاً وبرفق وأنا مستسلم، نسيت خلالها الحشود الغفيرة وهذا الحدث، وغمرتني مشاعر فياضة لم أحس بها من قبل.
جلستْ بجواري على حافة الفسقية وهي تضع عجزها الفاتن لتصلح جلستها حتى شعرت بأنها تزيحني فعلاً من مكاني لكي أرتمي على الأرض. فأصلحت من مجلسي مرة أخرى خاشعاً ومتيحاً لها أخذ راحتها. وتململتْ قليلاً ثم نظرت إليّ قائلة:
-لماذا تؤذيني، رغم إحساني وعطفي عليك؟!
أحسست أنها تخاطبني كطفلٍ يتيم وصغير وجاهل، فقلت:
-لم يحدث مني شيء يسوؤك.
-كنتَ جلفاً وقاسياً وبلا ذوق معي، "كقبيلي بسبلة"([5])
-قد أكون قبيلي، ولكني بلا "سبلة".
وضربتْ برجلها المتدلية عرض الفسقية المقضضة بالنورة، ثم وضعت يدها على عجزها، وقالت:
-لقد آلمتَني.
-بماذا لا سمح الله؟!
-وثقت فيك.
-لم أخن تلك الثقة!
-بل تجاوزت!
-... حاولت النصيحة فقط!
واستدارت شبه غاضبة قائلة:
-لست وصياً عليّ!
-أعرف ذلك، فأنا مجرد "دويدار"!
-بالضبط.. والدويدار يعرف كيف يؤدي عمله.
-كدويدار حالي!
-أنت "حالي" قبل أن تكون دويدار!
طرق مسمعي قولها ذلك وبصوتها الرخو المبحوح الذي يميزها عن غيرها من نساء القصر وملحقاته. صوتها هذا كان له دائماً وقعٌ سحري في أذني، وقعٌ محبَّب عشقته وظل يطرق مسمعي ليل نهار، أكنت نائماً أم يقظاً.
وعلا هرج، وارتفع صياح عرفت من خلاله أن موكب النائب وابنه بسيارته قد أزف. وعلا صوت بوق البورزان بالرموز التركية التي تُعلن مقدم النائب. وانتصبت الشريفة قائمة ثم نظرت إليّ وأسدلت نقاب شرشفها على وجهها ثم وثبت، كمهرة بكر، نحو دارها دون أن تأبه للموكب أو تعيره اهتماماً.!
تعالت الأصوات، وسمعت أزيز محرك السيارة وصوت بوقها لأول مرة، مختلطاً بصوت بوق البورزان. وقفت وقد دخل الموكب يتقدمه البورزان ببوقه الصائح تليه مجموعة من الحرس النظام والبرَّاني والحشم والخدم. ودخلت السيارة يقودها ابن النائب، العائد من الخارج منفوخاً كضفدعة، جاحظ العينين، تكاد بسمته المصطنعة أن تضيع بين أوداجه المنتفخة! وجلس بجواره والده النائب وقد لبس أحسن ما لديه من لباس. ووقف خلفهما صاحبي يحيّي بفرح ويمازح الناس والسعادة تغمره. صفقت له وناديته باسمه، بل وهتفت بحياته.. لا أدري كيف فعلت ذلك!
وأقفل العسكر البوابة بعد أن طردوا بقسوة أطفال المدينة المندفعين لرؤية السيارة القادمة من عالم المجهول.
ونزل النائب بعد أن أوقف ابنه الضفدع أزيز محركها. ووثب صاحبي كغزال وهو يبتسم عندما رآني أصفق له.
واطمأن ابن النائب على سيارته في اسطبل الخيول التي أخذها الإمام.
وكانت ليلة سمر، احتفى الكل فيها بابن النائب. وسمرت قليلاً عند العسكر، استمتعت برقصاتهم الشعبية على أنغام المزمار والطبل. كانوا يشاركون في الاحتفال بوصول ابن النائب ويتوقعون في الصباح أن يكرمهم النائب بأوامر نافعة على الرعية لتأخرهم عن تسديد الزكاة وملحقاتها، وبات كل عسكري منهم يحلم بأمر يأخذه على رعية من منطقة يفضلها ويعرف مردود ذلك الأمر!

* * *


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-11-13, 08:29 PM   #17

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Elk

* * *
في الصباح الباكر اقتادني أحد العسكر إلى حَجر فك القيود. لم يبق غيره من العسكر، فقد تفرقوا ضيوفاً غير مرغوب فيهم على الرعية، طبقاً للأوامر. حتى البورزان ذهب هذه المرة، وكان،أمره على شيخ ظالم في وادٍ خصب ليحصل منه على مصروف سنة كاملة.
أمرني العسكري بالجلوس لفك القيد الحديدي. حاولت أن أسأل، ولم يجبني، فقد كان مصاباً بسوء الحظ لعدم ذهابه كزملائه.
وأقبل صاحبي مبتسماً كعادته، وقال لي:
-لقد أمرتْ الشريفة حفصة بفك قيدك!
-لكنني لم أطلب منها!؟
-هي أمرت!
-لن أنفذ هذا الأمر.
-العسكري سيقوم بتنفيذه!
-سأقاوم.
-سيكلفك ذلك الكثير!
-لا يهم.
وأقنعت نفسي، وصممت على ما اقتنعت به. وحاول العسكري إخضاعي بالقوة، ووضعني على الأرض، لكنني قاومت، ونشبت بيني وبينه معركة استخدمت فيها كل ما استطعت من وسائل، بالأظافر وبرمي الحصى على عيونه وبالعضّ بالأسنان... لكنه كان مستثاراً أكثر مني لعدم خروجه مع زملائه، فصبّ غضبه عليّ، وتحملت منه ركلات ولطمات صلفة، ومن عسكري غاضب لعدم خروجه بأمر على رعوي ولبقائه الوحيد بلا أمر! وتدخّل صاحبي فوراً، وكان تدخله لصالحي بعد أن تجمع بعض الخدم والخادمات للمشاركة في فك ذلك الاشتباك الذي لم أعرف له سبباً سوى أنني حرنت بعناد لا مبرر له!

أخذني صاحبي بقيدي إلى غرفته، وحاول قدر استطاعته مسح الدماء ولأْم بعض الجروح الخفيفة وتهدئة نفسيتي المثارة.


* * *

ظلّ القوم فرحين بمقدم ابن النائب بسيارته الوحيدة. ولم أبرح غرفتي. وقام صاحبي بتوفير كل شيء لي. أحببته من كل قلبي. وتساءلت: لماذا كل هذا التعب والعناء المبذول منه؟
ورغم ما حدث فلم تبارح الشريفة حفصة مخيلتي مطلقاً، بكل جسمها وصوتها ومفاتنها العديدة. كنتُ أطرد صورتها من خيالي بقوة أثناء نومي أو يقظتي، دون جدوى! وكنتُ أحاول أن أنساها بتذكري لأبي وأمي وأخوتي وأسرتي، عسى أن تقوم صورهم بطرد صورتها، ولكن دون جدوى. لقد أصبحتْ جزءاً من الغرفة، من حياتي اليومية المعاشة، لا حركة ولا سكنة فيها إلا وهي موجودة أمامي، حتى لقاء صاحبي مع نساء القصر وشذوذهن معه لم أعد أكترث ولا أهتم به.
لكنني سمعت هذه الليلة، وهي ليلة قريبة من تلك الأحداث، سمعت صوتاً ينادي على صاحبي، صوتاً ليس من أصوات صديقاته عانسات القصر، إنه صوت رخو مبحوح اقشعر له جسمي، فتدثرت بفراشي وقد أحكمت كتم أنفاسي فيه.
-يا عُبادي! يا دويدار عُبادي!
وقام صاحبي مذعوراً كأنه مثلي لم يتوقع حدوث ذلك، وقال:
-من؟ نعم، أنا إليكم! يا مرحباً بكم!
-أريد صاحبك.
-إنه نائم.
-أيقظه!
-تفضلي!
-قلت لك أيقظه!
واتجه نحوي بوجل وهو يوقظني:
-قم! الشريفة حفصة تريدك.
-لن أستيقظ.
-إنها تريدك!
ولكزني برأس أصابعه. حاولتُ قدر المستطاع أن أوهمها وأوهمه بعدم اهتمامي بها، لكني فشلت، فنهضت مسرعاً كأنني بلا شعور. وجذبتني من ذراعي، وانزلقتُ معها سلالم القصر... كنتُ أثب خلفها بالقيد الحديدي دون أن أنبس بأي كلمة. كان القيد يحدث ضجيجاً مزعجاً، قالت:
-كأنك لم تسجن بقيد من قبل...!
لم أجب. واستمرت قائلة:
-وإلا لتعلّمت كيف تحافظ على ساقيك من القيد، بالخِرَق البالية من القماش، التي تمنع هذا الصرير المزعج أيضاً!
لم أجب، بل تعمدت مزيداً من إحداث صرير القيد الحديدي المزعج.
وفي الساحة حاولتُ، عندما وقفنا، أن أسألها.. أسألها عن سبب حبسي وقيدي، أسألها عن سبب حبي لها.. أسألها عن سبب تعلقها واهتمامها بي.. ومغامرتها لأخذي بقيدي إلى هذه الساحة!
لكني لم أجرؤ، بل تبعتها بعد ذلك في خطواتها ككلب مطيع لصاحبه، أو ربما ككلب ضال.
أجلستني بجوارها على الأرض وهي تقول:
-لماذا لم تقبل فكّ قيدك؟
-لأنه أراحني من أداء مهمات لا أحب أداءها!
أوحت إليّ بأنها لم تفهم مغزى قولي، فقالت:
-... هل أنت مريض؟
سؤال مفاجئ، فأنا بخير ولا أدري ماذا تقصد؛ فقلت متحذلقاً:
-... ربما!
-وكسول؟
-... لا أعتقد ذلك.
-فخور بأنك كنت رهينة!؟
-وما زلت رهينة!
-رهينة من؟
لم أجب. مسّني إحساس من كرامة بعدم الخضوع. لأكن رهينة، أو دويداراً! وربما صرت في هذه الفترة خادماً! وخادماً للشريفة حفصة!! لا يهم هذا عندي. ولكن الأهم من ذلك ألا أصبح "دويدار حالي"، فهذا ما كان يزعجني. شعرتُ أنها كانت تتوقع أن أجيب بأنني رهينتها، دويدارها الحالي!
وشعرتُ أيضاً بأنها تقدر موقفي بعدم محاولتها جرح مشاعري مرة أخرى، فاتجهت بي إلى البوابة الرئيسية للقصر، مقر العسكر والبورزان، ونادت بصوتها الآمر، فتواجد بعضهم بخضوع وخشوع. كان معظمهم قد عاد من مهامه، فأمرتهم بصوتها الملبى دائماً. ولم أشعر إلا بمجموعة منهم تطرحني أرضاً وتفكّ قيدي الحديدي برفق بواسطة القضيبين الحديديين المرتكزين على حجر متآكل.
وعادت بي إلى الساحة قائلة:
-هل تريد العودة إلى صاحبك أم إلى داري؟
كنتُ أعرف أن المقام في دارها له مزايا خاصة، مريحة ومغرية، ولكني فضلت العودة إلى غرفة صاحبي برغم تأففي مما يمارسه من شذوذ غير لائق مع معظم نساء القصر؛ أعتبره في نظري من المحرمات.
واتخذت قراري بالعودة إلى غرفة صاحبي مع حفظ ماء الوجه والإيهام بالكبرياء وكرامة النفس تقبلته الشريفة حفصة بروح العارفة الدارسة للنفسية المراهقة.
بهذه الصورة أطلقتني الشريفة حفصة من قيدي، وجعلتني أختار -بحرية تامة- غرفة صاحبي الدويدار الحالي. وهي بالتأكيد تعرف أنني سأقوم بعملي لديها بقناعة تامة.
لم تحاول إعادة الكرّة معي في إرسال خطاباتها إلى شاعر الإمام ووليّ عهده، فقد استعاضت بصاحبي. وبرغم معرفتي بذلك لم ألمح لها.

* * *


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-11-13, 08:31 PM   #18

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Elk

* * *
كان صاحبي يقوم بفرك رجلي النائب المبطوح أمام النافذة المطلة على ساحة قصره وملحقاته، كما هي عادة النواب والأمراء والسيوف، سيوف الإسلام الذين لم أعرف أحداً منهم حتى الآن.
كنتُ واقفاً بجانب صاحبي، والنائب يسحب نَفَساً من "المداعة" كالعادة، وفنجان القهوة أمامه قد برد.
وفجأة دخل علينا شاعر الإمام، الوسيم، فنهض النائب بكل ثقل جسمه، وانتفض صاحبي لهذه المباغتة رافعاً يده عن رجلي النائب، وانسحبتُ مع صاحبي إلى مؤخرة المنظرة.
لم يكن من المتوقع وصول شاعر الإمام ودخوله المفاجئ إلى المنظرة الخاصة بالنائب، التي ليس بمقدور أي شخص دخولها إلا إذا كان رسولاً خاصاً من الإمام أو ولي عهده السيف وقادماً لأمر مهم، أو شخصاً مهماً من أسرة النائب المقربين جداً.
لم أستوعب بوضوح مع صاحبي كل ما دار من حديث متبادل بين النائب والشاعر، حيث بدأ الحديث بالمجاملات المملة من تحيات وسؤال عن الأحوال الخاصة والعامة وابتسامات كلها زور وبهتان ونفاق. كان النائب طبيعياً، ولو أنه قد أحس بأن الشاعر مكلّف من وليّ العهد السيف بشيء هام. وكل ما سمعته مع صاحبي وكأننا جزء من أثاث المنظرة مجرد حوار يدور حول سيارة ابن النائب وعن موكب دخولها المدينة، الذي لم تعهده من قبل. وقد عبّر الشاعر عن استياء وليّ العهد السيف لذلك الموكب وتلك المظاهر البراقة التي رافقت الموكب.
كان النائب، برغم ثخن جسمه، وبرغم شفتيه المتدليتين إلى الأسفل، ذكياً بلا شك، وإلا لما أصبح نائباً للإمام وعاملاً على هذه المدينة الهامة وملحقاتها من أرياف ونواحٍ وثغور.
وتصنع النائب الاستغراب لهذا الحديث الذي أثاره الشاعر. ثم ابتسم متعجباً، وقال بعد برهة تفكير أوحى بها إلى الشاعر:
-السيارة... هي أصلاً هدية لمولانا وليّ العهد حفظه الله، من ولدي ومني... ولها قصة طويلة... عندما طلبتُ منه شراءها من الخارج لمولانا حفظه الله، وقد تمكن من شرائها وإيصالها بنفسه إلى الميناء بجهد يشكر عليه، حبذ إيصالها بنفسه إلى المدينة أيضاً. وقد استقبلتهُ وكان ما كان! على كل حال فهو مصرّ على إيصالها بنفسه إلى مولانا حفظه الله، وما تأخر ذلك إلا لوعكة ألمت به بعد عناء السفر، وسيوصلها في الصباح الباكر ويقودها بنفسه. تعرف -سيدي- انشغال مولانا حفظه الله هذه الأيام بقضية هؤلاء الذين يدعون "الأحرار اليمنيين" في "عدن". وهذا ما أخّرني عن إخبار مولانا حفظه الله بهذه الهدية.
ولم يتح النائب للشاعر أن يقاطعه، فاستطرد قائلاً:
-وحاشى الله أن تكون السيارة لي أو لولدي، فنحن سنظل على العهد باقين مدى الحياة، وسنركب البغال والحمير دائماً إلى مقام مولانا حفظه الله.
وما إن توقف النائب برهة حتى حاول الشاعر أن يتكلم، ولكن النائب لم يمهله بل واصل قائلاً:
-أما تجمهر الناس حول منزلي فهو لمجرد رؤية هذه السيارة العجيبة وليس لرؤيتي أو لرؤية ابني. وأنتم تعرفون -سيدي- أنهم من العوام، فلا سيد فيهم ولا قاض، ولا نقيب، ولا حتى مجرد رعوي مزارع. كلهم من أبناء الشارع والحواري في المدينة.
وبالكاد سنحت فرصة للشاعر فقال:
-أعرف ذلك. طابت أوقاتكم! وسأقوم بنقل هذا إلى مولانا حفظه الله. ثقوا من ذلك!
-ولماذا هذه العجلة!؟ امكث معنا ولو قليلاً!
-أفضّل الذهاب، فمولانا على أحرّ من الجمر.
وتوجّه النائب نحو خزانة في عرض الحائط وأخرج منها بعض أشياء لمعت بعضها في عيوننا ببريق لون الذهب والفضّة، وقدمها إلى يد الشاعر الذي حاول أن يُظهر امتنانه بعدم قبولها، لكنه في النهاية حفظها في مكان أمين في ملابسه!
ونظر إلينا عند خروجه وابتسم، وسلّم لصاحبي رسالة خلسة وغمز له بعينه اليسرى.

* * *

أخذت مع صاحبي نتجاذب أطراف الحديث حول زيارة الشاعر للنائب. ومع ذلك كان ألمي شديداً لانشغال الشريفة حفصة بهذا الشاعر المدّعي.
الرسالة ما زالت مع صاحبي، وكم هممت أن أعرف ما فيها! فكرت أن أحتال على صاحبي لأول مرة في حياتي وأفتح الرسالة في غفلة منه.
وخرج ليقضي بعض أعماله المعتادة والمتأخرة، وكان رداؤه معلقاً في مكانه المعتاد والرسالة بداخله بالتأكيد، وليس بيني وبين أن أعرف ما بداخلها إلا أن آخذها وأقرأها بسرعة وأعيدها إلى مكانها كما كانت. أريد أن أعرف ماذا يقول لها من دجل ونفاق وابتزاز لعواطفها. هذا ما تخيّلته وأنا أحاول أن أقدم على أخذ الرسالة، لكنني تراجعت بكبرياء انتابتني فجأة وأقنعت نفسي بعدم الاهتمام بالرسالة، بل وبالشريفة حفصة.
وعاد صاحبي وأنا في حالة معاناة وتأمل ومراجعة مع النفس. وبدأ يعلو سعاله المعتاد المقرف الذي لا يكفّ عنه إلا بعد غيبوبة. كنتُ قلقاً منذ فترة على صحته ومنذ بدأت هذه الظاهرة تلم به، ومع ذلك ما زال يشعل سيجارة ملفوفة إثر أخرى، ويسعل مجدداً حتى يفقد وعيه.

* * *


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-11-13, 08:34 PM   #19

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Elk

* * *
استيقظت مبكراً لأول مرة، رغم سهادي، وتركت صاحبي يعوض نومه، واتجهت إلى دار الشريفة حفصة.
كان يوماً كئيباً على نفسي، بالرغم من شعورٍ روحيٍّ يدفعني لرؤيتها. لم يعد يهمني أي شيء، ما دمتُ أعمل في معيتها، وهذا شيء مفروض عليّ. هكذا علّلتُ لنفسي سرعة اندفاعي إلى منزلها. ومع علمي بأن الوقت كان مبكراً وبأنها ما تزال نائمة، فقد جلست أمام باب منظرتها أنتظر.
وفجأة فتحت الباب وكادت أن ترتطم بي، ثم قالت:
-يا صباح الخير.. بالرهينة الحالي!
وانتفضتُ واقفاً ولم أستطع الإجابة.
كانت مرسلة الشعر، ممتلئة الوجه، مدعوجة العينين. كم يعطيها النوم راحة لجسمها المتململ بالحيوية، وصوتها الرخو المشوب بشيء من الفحيح! وقالت:
-أين صاحبك؟!
-تركته نائماً.
عبّرت عن استيائها لعدم حضوره بحركة من رأسها، بينما قلتُ مستفسراً:
-هل تريدين منه شيئاً؟
وبعد تلكؤ منها كأنها لم تكن تريد أن أعرف، قالت بضجر:
-اذهب وخذ منه رسالة، إئت بها إليَّّ سريعاً.
وما إن نزلت بعض درجات القصر حتى كان صاحبي قد وصل وهو يصيح لائماً:
-ألم أقل لك أن توقظني مبكراً؟!
-لم تقل لي، فأنت دائماً أول من يستيقظ في هذا القصر.
-لا أدري ما الذي ألمّ بي هذه الليلة.
-سعالك الشديد والحاد، الذي لا تريد أن تعالجه.
-ألم تسأل عني الشريفة حفصة؟
-سألت عنك، وعن الرسالة.
لم يجب... وعدت معه وقد خفت حدة غضب الشريفة حفصة والتي سمعت بعض حوارنا كما خيّل إليّ.. وقدم لها الرسالة. أخذتْها بلهفة تألمتُ لها، ودخلتْ إلى "منظرتها" وتركتْ الباب مفتوحاً حيث أتاحت ليأن أتابع حركاتها وهي تقرأ الرسالة.
وتأملتُ بدقة، وفجأة مزّقتْ الرسالة ورمتها من النافذة!
ابتسمتُ فرحاً لهذه النتيجة التي لم أكن أتوقعها، واستدارت الشريفة حفصة نحو باب "المنظرة"، نحونا، لتصرفنا إلى أعمال لم نكن نتوقعها ولم يكن مطلوباً منا تنفيذها.
ظللت مبتسماً...فنظرتْ إليَّ باستفسار، لكنني لم أجب، بل توجهتُ مع صاحبي نهبط درجات القصر لتنفيذ أوامرها.

* * *

انتهت أزمة السيارة التي وصل بها ابن النائب، فقد سُلّمت إلى قصر وليّ العهد، أخذها ابن النائب بنفسه، وكان إلى جواره الشاعر الوسيم.
وطاب المقام لابن النائب العائد من دراسته في مصر. كان لا يخلو يوماً، فهو غالباً ما يكون مدعواً لغداء أو مقيل أو عشاء وسمر، في بيوت الأُسر المعروفة في المدينة، أو الأقرباء وبعض الموظفين المهمّين.
وذات يوم أخبرتنا الشريفة حفصة بأنها قد دعت ابن أخيها (الضفدع) لتناول العشاء مع أصدقائه في دارها. وقد سألتُ صاحبي مستفسراً لماذا لا تدعوه لتناول الغداء والمقيل مع أصدقائه.. فضحك صاحبي ولم يجبني!
وكان يوماً شاقاً علينا. كم قمت فيه مع صاحبي بمهمات عديدة لا حصر لها! حتى أننا شاركنا الخادمات بتنظيف الأواني النحاسية، من زهريات وشمعدانات وأباريق و"معاشر"([6]) ومتافل، ورتّبنا معاً "منظرة" الطعام وما يلزمها من كل شيء. كانت الشريفة حفصة مزهوّة بدارها ومناظرها المفروشة بأفخر أنواع السجاد، والمطرزة بأحسن الطنافس النحاسية والفضية أيضاً. وبعد أذان العشاء كلفتني وحدي بنقل عدة أطباق من اللوز والجوز مفرّقة على طول المنظرة مع صحون وكؤوس من زجاج فارغة وعدة ثلاجات صغيرة لحفظ الماء بارداً.
أخذت الشريفة حفصة بيدي إلى مكان صغير (عرفتُ أنه "الخلوة") لم أدخله من قبل، وأخذتْ من خزينة في الجدار بعض قوارير مملوءة بسوائل ملوّنة، بعضها أبيض اللون وله رائحة عطرية، ثم أمرتني بأن أضعها في المنظرة موزعة بجوار الكؤوس الفارغة وصحون اللوز والجوز.
قمتُ بالمهمة على أحسن وجه ونفّذتها بدقة متناهية في الترتيب والذوق لا أدري كيف أجدتها. وزدت فتفانيت أكثر في وضع كل شيء في مكانه اللائق والطبيعي، كأنني قد مارست هذا العمل من قبل.
نظرتْ إليّ الشريفة حفصة من باب المنظرة وأنا أرتّب كل ذلك، فنادتني بصوت حنون هرعت لسماعه نحوها.
تسمّرتُ أمام باب المنظرة حيث لم أستطع الخروج لأنها كانت مسندة ذراعيها على الباب. وجلْتُ، وشعرت بأني أكاد أصطدم بوجهها الباهي العريض كوجه القمر. واعتراني خوف دق له قلبي ونشف له ريقي. وأمرتني، بصوتها المرح المشوب ببحة محببة إلى قلبي وكل حواسي، بالإقتراب منها.. فاقتربت قليلاً.. ثم أمرتني مرة أخرى بالاقتراب منها أكثر.. فاقتربت..
كادت أنفاسها تلسع وجهي. فأمرتني أيضاً بالإقتراب أكثر إلى درجة لم تحدث لي من قبل ولا مع والدتي.. فاقتربت...
وأمسكت بيدها رأسي.. و... وقبلتني في شفتيّ قبلة اعتصرتُ فيها رحيق عسل ملكة نحل بكر.
دار رأسي. وأحسست بأن الكون كله من حولي يدور. قالت وهي تبرر عملها هذا:
-لم أكن أتوقع أن تكون بهذه الدقة من النظام وحسن الذوق والمعرفة.
شيء ما حدث كالبرق. كنتُ مرتبكاً ومتلعثماً، فقلت:
-حسن ظنك.
لم تجب، لكنها هرعت مسرعة بجسمها الريان نحو المطبخ.
ونبهني صاحبي وقد قدم قائلاً:
-ماذا بك كالمجنون؟!
-لا شيء.
-هيا إلى عملك! فالضيوف قادمون.
كان باستطاعتي أن أخدم ألف شخص، أن أعد ألف وليمة، أن أقلب الكون رأساً على عقب وبنظام بديع.
وتوافد المدعوون. كان أولهم ابن النائب (الضفدع) بضحكاته المقرقرة كصوت "المداعة" أو صوت قُلّة يُسكب منها الماء. وقد حضر معه جماعة من أصدقائه وأقربائه المدعوين، ومن ضمنهم الشاعر، الذي دخل وعلى فمه ابتساماته وتحياته المزورة والملحة وضحكاته المنافقة الدجالة، مع كل تصرفاته التي كلها بهتان وزور.
وأصبت بحالة غمّ وضجر لحظة مقدمه. لكن كل ذلك زال بعد فترة، أو هكذا أقنعت نفسي بعد تذكر ما حدث لي منها قبل قدومهم.
وجلس الضيوف وقد خلع معظمهم ثيابه التقليدية والعمائم البيضاء. وقفت مع صاحبي في حجرة مدخل "المنظرة"، عند أحذيتهم المنقلب بعضها والتي قام صاحبي بإعادة وضعها إلى حالتها الطبيعية. لم يكن ذلك حرصاً منه على سلامة الأحذية، وإنما لتشاؤم سائد من وضع الأحذية مقلوبة، فقد يكون إشارة إلى أنه يوم نحس، أو فيه إساءة إلى السماء. كنتُ أعرفُ ذلك في قريتي، في أي مكان مقيل، أو أي مكان آخر عادي... أو حتى في باب المسجد.
ظلّ نظري مصوّباً نحو ذلك الشاعر الوسيم المدّعي. سمعته من قبل يلعلع ويجلجل بقصيدة مديح في ديوان النائب. حتى في شهر رمضان سمعته أيضاً في أمسيات النائب يلقي بقصائده المشيدة بالإمام ووليّ عهده السيف، والنائب أيضاً.
كان له شكل مهيب، ذو سمرة مليحة، وقوام ممتلئ برشاقة، وصوت جهوري، وضحكات مجلجلة عذبة مغرية، يطلقها افتعالاً ليسحر بها عقول النساء، والرجال أيضاً.
هزتني الشريفة حفصة من منكبي فجأة وهي تقول:
-لماذا أنت شارد؟!
فوجئت، ولم أستطع النظر إليها. وأدركت أثناء ذلك أن صاحبي ليس بجواري لأستأنس به وأستمد منه شجاعتي، فقد ذهب كما يبدو إلى مهمة دون أن أشعر به، وقلتُ متلعثماً:
-حاضر.
هذا كل ما قدرت على نطقه مجيباً على تساؤلها، وقد اعتبرتهُ رداً وافياً، لكنها قالت لي آمرة:
-خذ هذه الورقة، واعطها للشاعر الجالس هناك.
أخفيت مشاعري المصدومة فجأة بأمرها، وأخذتُ الورقة منها على مضض.
انتابني إحساس أكيد بأن قبلتها التي عصرتني بها عصراً ما هي إلا مجرد رشوة للقيام بهذه المهمة التي كنت قد امتنعت عن الاستمرار في أدائها من قبل وأدى ذلك الامتناع إلى حبسي وقيدي.
إذاً فقد أخلّت الشريفة حفصة بالشرط الهامّ الذي اتفقنا عليه بعد ذلك، وداست على مشاعري، واستدرجتني بخدعة كان يمكن أن تمرّ على أتفه عاشق على مرّ التاريخ.
لا أدري كيف تذكرت مقيل والدي وما كان يحكيه عن عشق عمر بن أبي ربيعة للشريفة سكينة بنت الحسين!
لكن ما أقدمتْ عليه الشريفة حفصة من عمل جرحني، لذلك صمّمت في قرارة نفسي أن أريها بأنني لست مهتماً بها ولا بمواقفها هذه المشينة، وبأنني من قوم لم تمرَّغ أنوفهم في التراب!
تملكني شعور بالأنفة والكبرياء، ولكنها أنفة مكسورة وكبرياء مجروحة مُذلة.. ولكن لا بد من إظهار ذلك. قلت:
-مرحباً سيدتي، وسآخذ منه الجواب.
-أحسنت.. يا رهينتي الحالي.
وحاولتْ الإمساك برأسي بغية تقبيلي، لكنني نفرت منها سريعاً إلى داخل "المنظرة" ولم أتح لها فرصة لعمل ذلك.
تمالكتُ نفسي وقد دخلت عليهم فجأة بحركة لافتة للنظر حيث نظروا إليَّ باستغراب. وقفتُ فترة مناسبة حتى عادوا إلى ما كانوا عليه من حوار وضحك، ودنوت برفق من الشاعر، وجلست بجواره.. نعم، جلست بجواره والجميع مشغولون بالحديث عن حياة الناس في الخارج، في مصر بالذات، يروي ذكرياتها ابن النائب (الضفدع) مع نوادر عديدة كانوا يضحكون لذكرها.
وتنبّه الشاعر لوجودي بجانبه فنظر إليَّ بعينيه الجاحظتين ثم هوى بيده على فخذي، وفركه بطريقة لم تحدث لي من قبل، وقال بصوته المعروف بالزور والبهتان:
-أهلاً وسهلاً! يا مرحباً بك، خطوة عزيزة!
أبعدت يده عن فخذي بشدة فاتجه بها إلى كأس أمامه وقدمها لي بتواضع قائلاً:
-إشرب! أهلاً وسهلاً بك.. يا مرحباً، خطوة عزيزة!
عطست إثر اشتمامي لرائحة عفنة مصدرها الكأس التي قدمها لي الشاعر. ووضعت الكأس بجانبي، وهززت كتفه محاولاً التخلص من المهمة المنوطة بي كرهاً، لكنه رغم ذلك وضع يده مرة أخرى على فخذي قبل أن يلتفت إليَّ قائلاً:
-أهلاً بك... يا مرحباً !
قذفت بيده بعيداً ثم ناولته الرسالة.. فأخذها، ثم ضحك بعد أن قرأ منها بضعة أسطر، هي بدايتها وخاتمتها فقط، وهوى بيده مرة أخرى على فخذي بحركة عجيبة لم أعهدها في حياتي من قبل.
فكرتُ هذه المرة بأن أقنع نفسي بترك يده على فخذي؛ أريد أن أعرف مراده، ماذا يهدف في النهاية؟ وهي تجربة لا بد أن أعرف غرضها، فأخذتْ أنامله في فرك فخذي ما شاء لها المراد في حدود لم تعد معقولة من الأدب، ولو أنه لم يعد هنالك أدب ما، ولكني شعرت بأنه يسعى بأنامله وقد اطمأن لرضوخي إلى منطقة حساسة، إلى شيء لم أبُحْ به للشريفة حفصة نفسها ولا لمخلوق آخر حتى الآن!
كان مصمماً على نقل يده من فخذي إلى مكان آخر، يريد أن يفرك ويتلذذ برغبة جنونية. استطعت أن أوقفه عند حده، وشعر زملاؤه في "المنظرة" بذلك فابتسموا بخبث!
انتهى الموقف وقد حوّله اللعين إلى حديث وحوار لفت به الجميع. كان حديثه عن توقع مؤامرة ضد الإمام ربما تقوم في صنعاء، ويذكيها من أُطلق عليهم "الأحرار" في عدن.
كان ذلك الحديث ما أراده، وقد تحقق له بحيث أصبح حديث الجميع، فإذا خبا أذكاه الشاعر بطريقته المحتالة.
وتفنّن ابن النائب (الضفدع) في التأويل والتخمين والحسابات، وكنتُ ألاحظ اهتماماً بما يقوله ابن النائب من قِبل الشاعر.
وصمت الجميع عند حدّ من الكلام كان كل واحد منهم يعرف أنه منطقة فاصلة بين الرعب والأمان.
كنتُ ألاحظ باب "المنظرة". كانت الشريفة حفصة تختلس النظر من وراء صاحبي، ترمقني بنظرها، تريد التأكد من تقديمي الرسالة للشاعر.
وأظهرتُ عدم الاكتراث بها وبرسالتها وبالشاعر. وتناولتُ كأساً مما قدمه لي الشاعر بعد إلحاح منه ومن ابن النائب (الضفدع)، وتجرعتها بإحساس من المرارة والتقزز كبتُّه بصعوبة. ومع ذلك فقد كانت كأساً جعلتني أتعالى أكثر وأزهو بنفسي وألعن الكون كله ومن فيه إلى هذه اللحظة.
وشربت... شربت الكأس الثالثة المقدمة لي بإلحاح من الشاعر، ومن ذلك الضفدع الآدمي.
لم أعد أتذكّر من مجلسنا سوى بعض لمحات، كقيام ابن النائب بالرقص مقلداً، كما قال، "سامية جمال" و"تحية كاريوكا"([7]).
كان يهزّ وسطه بعد أن أخذ أحد الأصدقاء "لُحْفَة"([8]) وربطها حول خصره المكتنز، ثم شعرت بأنه يغني كما قال "لفريد الأطرش".
وأتذكر بأن الهرج والصياح والحديث الصاخب قد زاد. أذكرُ أيضاً أن صاحبي كان يقدم أطباقاً من اللحم المشوي "المحنوذ" شهيّ الطعم، وكنت أتناول القطعة تلو الأخرى بنهم وشهية مفرطة. كان صاحبي، على ما أذكر، يحاول أخذي من ذراعي لكنني لم أطاوعه. أذكر نظرات الشريفة حفصة الغاضبة وهي تتابع المشهد من باب "المنظرة".
وقدم لي الشاعر كأساً أخرى على ما أذكر، ولا أدري كيف أمسكت بها، وهل شربتها أم أنها انساحت على ثيابي؟ كل ما أذكره أن يده قد كفّت عن عادتها السيّئة. وخيّل إليَّ أن النائب نفسه قد وصل فجأة وبيده زجاجة طويلة العنق بيضاء اللون والمحتوى. وكنتُ قد وقفت بـ"هبالة" احتراماً لمقدمه كما تخيّلت، وقد جذبني الشاعر من يدي لأرتمي بجواره كما كنت، وقدم لي كأساً أخرى أذكر أنني لم أستطع الإمساك بها، فتركتها بيده حتى ضجر منها فشربها. وجلس النائب والعرق يتصبب من صلعته إلى أوداجه المنتفخة ليبلل ذقنه الخفيفة، وصبَّ له كأساً من زجاجته المفضّلة كما يبدو وعادلها بماء تحوّلت الكأس بعدها إلى لون لبن بقرة دسم!
أتذكر أنني لم أشبع في حياتي كتلك الليلة، ويبدو أنني نهضتُ لقضاء "حاجة" فشعرت بأنني أترنح، وبأن الوجوه التي أمامي أصبحت مزدوجة. شعرت بأنني قد وصلت إلى حالة سيئة. كنتُ أقذف بجسمي أو أن جسمي هو الذي يقذف بي في درجات السلالم دون تروِّ، ثم أقف محاولاً جمع شتاتي متلفّتاً حولي. وأذكر أن الشاعر، ولا أدري ما هو الدافع، هبّ لمساعدتي على نزول الدرجات الحجرية، لكنني أتذكر أنني هويت بيدي اليمنى على خدّه بصفعة قوية سمعت صداها بأذني فصرّ بأسنانه وعاد إلى "المنظرة".. بينما اتجهت إلى ساحة القصر، نحو الفسقية، وأنا أحاول التصفير بلحن شعبي دون جدوى، فارتميت على حافة الفسقية، ولم أشعر إلا بصاحبي ينزعني نزعاً ويضطر إلى سحبي إلى داخل الغرفة.
وكانت ليلة... ليلة لم تمرّ في حياتي مطلقاً، وكم ساعدني صاحبي لإفراغ ما بجوفي!

* * *


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-11-13, 08:36 PM   #20

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Elk

* * *
تذكرت كل ذلك في صباح اليوم التالي، كان رأسي ثقيلاً ونفسي تدعوني للتقيؤ من جديد. كان الغثيان والصداع قد سيطرا على حالتي، وانتابتني هواجس مؤلمة، وكآبة مقيتة علتني واحتلّت وجداني لفترة لاحقة. كم شعرتُ بالخجل! وكيف سأخرج من الغرفة وأواجه كل من عرفته وعرفني في تلك الليلة!؟ حتى صاحبي الذي كان قد غادر فراشه مبكراً حسب عادته قبل قيامي، كيف سأقابله وأعتذر له؟ وتداعت عليَّ هموم عديدة، وغمرني الحنين إلى أسرتي بشكل مكثف. لكنني بعد تروٍّ لملمتُ كل ذلك لمواجهة الواقع الذي قُذف بي فيه، كأنني غريق أصارع الأمواج متشبثاً بقشة!
مرّ ذلك اليوم كأنه دهر، وأنا في حالة قلق وغم ونكد.. أصارع قلبي وعقلي ونفسيتي المرهقة التي باتت تدفعني حثيثاً لممارسة كل ما يمارسه صاحبي وزميلي وصديقي من أشياء لم أقبل الإقدام عليها ولا حتى مجرد التفكير فيها منذ أن وطأت قدماي هذا القصر وملحقاته ومن فيه، لكنني بألم بالغ ومذلّ حاولت جهدي أن أخرج من هذه الدوامة بأيّ حلّ، ولكن دون جدوى، فقد حصل ما حصل وكأنه بذرة تحول في مساري.

* * *

وكان صباح يوم، انفرجت أزمتي فيه بأزمة أخرى لحادث وقع في محيط القصر واعتبر فضيحة فاحت رائحتها لتغطي على ما كنت أعتقد أنه فضيحة ارتكبتها أنا في تلك الليلة المشؤومة من ليالي الشريفة حفصة! وكما يقال مصائب قوم عند قوم فوائد.
فقد تمّ نقل "الطبشي"([9]) العجوز إلى الطبيب الإيطالي الوحيد في المدينة. كان "الطبشي"، كثّر الله خيره وشفاه، قد هشّم رأسه الأصلع وسالت الدماء منه وفقد وعيه إثر ركلة عنيفة من حافر بغلة النائب الصغيرة القوية المسماة "زعفرانة"!
ولاكت الألسن في القصر، بل وفي المدينة، سيرة ذلك الحادث. وأصبح موقف "الطبشي" العجوز محرجاً حتى بعد تماثله للشفاء وعودته إلى زملائه العساكر!
ومسّ ذلك الحدث جميع رفاق العجوز من زملائه العسكر، بل ومسّ سكان القصر ومن فيه، وخصوصاً أن الحادث كان قد وصل إلى وليّ العهد السيف.
وأمر النائب سايسه الخاص بخياطة فرْج البغْلة والبهائم الأخرى!
ضحك صاحبي وهو يقول معلقاً:
-كان على النائب أن يأمر بخياطة فروج نساء القصر!
لم يعجبني مباغتة ذلك التعبير، ولو أنه أضحكني. ومع ذلك فقد سررت بأن هنالك موضوعاً قد طغى على حدث تلك الليلة الخاص بي.

* * *

بعد يوم عمل شاق، اتجهت مع صاحبي وقد دفعته إلى جولة في اسطبل البغال والحمير. ولجنا الباب. كان السائس العجوز يقدم للبغال العلف والقضب، ويمسح "ببرشانة"([10]) حديدية مدبّبة الأسنان ظهور البغال لإزالة الشعر الميت وقتل الحشرات المؤذية المختبئة.
كانت "الزعفرانة" تهشّ بذيلها الذهبي الذباب من على فرجها المكتنز الأملس، وقد تكاثر الذباب حوله إثر تلك الخياطة القاسية التي أمر بها النائب، والتي تركت بعض تقيُّحات وجروح.
تأملتها، أعني "الزعفرانة"، نافرة ومغرية فعلاً رغم ذلك، كأنها الشريفة حفصة!
قلت لصاحبي:
-لا ألومه إذا أقدم على ما أقدم عليه!
-أتعني "الطبشي" العجوز؟
-نعم.
-كان لديه في القصر عوانس كثيرات!
-إنه عجوز، ولن تقبله أي واحدة منهن.
-كان سيجد.
-لا أعتقد، وخصوصاً بوجودك ووجود المتصابي "البورزان"، وبقية العساكر الشبان!
-ونسيت نفسك! ألست منّا؟!
-أنا هائم بواحدة فقط، ولن أصل إليها مطلقاً.
-الشريفة "حفصة"؟!
-الشريفة "الزعفرانة".
وضحك ملء شدقيه، وقد أطربة ذلك التشبيه!

* * *


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
للكاتب, مطيع, مكتملة, الدماج, الرهينة

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:45 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.