شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   روايات اللغة العربية الفصحى المنقولة (https://www.rewity.com/forum/f407/)
-   -   نهاية سري الخطير / للكاتبة زكية خيرهم ، مكتملة (https://www.rewity.com/forum/t292590.html)

لامارا 14-11-13 09:24 PM

نهاية سري الخطير / للكاتبة زكية خيرهم ، مكتملة
 
[/TABLE1]

[TABLE1="width:95%;background-image:url('https://www.rewity.com/vb/mwaextraedit2/backgrounds/6.gif');border:10px double crimson;"]

https://upload.rewity.com/upfiles/RZx88645.png

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نقدم لكم رواية
نهاية سري الخطير
للكاتبة / زكية خيرهم

https://upload.rewity.com/upfiles/lp737096.png

قراءة ممتعة لكم جميعاً.....

لامارا 14-11-13 09:28 PM


https://upload.rewity.com/upfiles/bXa34770.jpg

سألني بعضهم لمن تكتبين؟ وكان السؤال يتعلق عن الرواية. فالجواب كان واضحا وبسيطا، أنني كتبت روايتي لكل رجل أبا كان أم أخا أو عما أو خالا ، كتبت روايتي لكل امرأة كانت طفلة شابة أم امرأة متزوجة وأم لأطفال. كتبت روايتي للمجتمع وأردتها أن تصل إلى قلب المجتمع وأن تكون رسالة تحمل في طياتها أن الشرف هو الاخلاق والتربية ، الشرف هي المدرسة الأولى في البيت، الشرف ضمير الإنسان الحي لدى الرجل والمرأة سويا، ولا يقتصر على نقط حمراء في ليلة العرس.


هذه روايتي أقدمها لكم أيها الأحباء ، أتمنى أن تنال رضاكم وأنا أذنا صاغية لآرائكم ونقدكم ولأسئلتكم.

لكم مني كل المحبة والاحترام


زكية خيرهم

لامارا 14-11-13 09:29 PM

الفصل الأول

أشهد أنك عذراء


دارت ألسنة النساء في أفواههن مثل الرحى وهن يطلقن الزغاريد بنسق تصاعدي يسمع كالعويل، وعيونهن متوجهة صوب الباب البابلي المغلق على العروسين في مشهد خرافي ذي طابع غرائبي لطقس الزفاف والعرابات يترقبن اللحظة المصيرية للختم الذكوري في طقس اختبار شرف العروس عبر قطرات دم لإعلان الخط الفاصل ما بين العفة والدنس، وخيط رفيع يفصل بين الموت والحياة وعرابات الزفاف يطرقن الباب بقبضاتهن وكأنهن في حالة شبق لرؤية الدم المسفوح. أطبقت غالية كفيها على أذنيها لتحجب وقع أصواتهن المخيفة. أصوات تجتاح خلجات نفسها كالزلازل والبراكين الثائرة. العرابات يستعجلن العريس ليناولهن دليل الشرف والعفة ... راية الانتصار المختومة بقطرات دم على منديل أبيض لا يتجاوز طوله المتر الواحد. لم يتوقف الطرق على باب العروسين، وإن تأخر العريس في تلبية طلبهن الجماهيري، ليس هناك ما يمنع أن يكسرن الباب.... توارثت النسوة هذه العادة ضمن طقوس الزفاف جيلاً بعد جيل ومن المتعارف عليه أن تكون هنالك عرابة زفاف واحدة لتقوم بهذه المهمة. إلا أن توافد النساء وتجمهرهن بشكل انفعالي، يجعلهن كلهن عرابات لتلك المهمة المصيرية، ويشكلن فوجاً تعتريه فوضى الانفعال وهن ينتظرن ويتلذذن بلون الدم، فتجاهد كل واحدة منهن للانقضاض على منديل العفة والإمساك به وكأنهن يتبركن بلمسته لإكمال الطقس بكل أبجدياته بوضع المنديل المخضب بدم العفة فوق صينية ويرقصن ابتهاجا بهذا الانتصار، ثم يتجولن به علناً أمام مرأى الناس في تظاهرة تطوف الشوارع.

علت الزغاريد في زحمة السكون والعيون تتربص في انتظار وظنون. غالية في غرفتها تمشي ذهاباًُ وإياباً، تارة تعض شفتيها وتارة أخرى تقضم أظافرها القصيرة جداً، والعرق يتصبب من جبينها ويداها ترتجفان، تتمتم بكلمات غيَر مفهومة. تحدث نفسها متسائلةً متوسلةً وكأنها هي العروس. أسرعت إلى زاوية الغرفة وجلست ترتعد من الخوف، منكمشة، تحاول أن تهدئ من روعها من هول طقس الزفاف المجنون، فتجتاحها قشعريرة تحاول التغلب عليها طالبة الدفء بلف يديها حول صدرها. منظرها يثير الشفقة وكأن قافلة نسيتها في صحراء مقفرة، وتركتها وحيدة غريبة فريسة لوحوشها ووحشتها. وضعت غالية أذنيها على الجدار الذي يفصلها عن غرفة أختها، فسمعت صراخها، والعريس يحاول تهدئتها بعصبية للتغلب على مقاومتها. انتاب غالية الذعر ثم وقفت في مكانها وبدأت تصرخ وتقول لنفسها: " الليلة ليلة زفاف أختي وغدا ستكون ليلتي. فمن أين سآتي بالدم؟ كيف سأتدبر أمري؟ عندما غسلت أختي من أبي تلك البقعة الصغيرة من الدم التي كانت بلباسي الداخلي، هددتني ألا أخبر أحدا بذلك لأنه سر خطير، فدفنت سري في قبر منسي بقرار عقلي، وأقسمت ألا أبوح به لأحد كي لا ينتهي بي المطاف إلى عالم الأموات". ما زالت غالية تحدث نفسها حين سمعت صرخة وجع وألم، وفجأة توقف ذلك الضجيج والصراخ والطرق على الباب. وما هي إلا لحظات حتى انطلقت الزغاريد والغناء. أسرعت إلى باب غرفتها تراقب الأحداث من ثقبه، فرأت عريس أختها يمد قطعة ثوب بيضاء ملطخة بالدم لواحدة من تلك النسوة. كان العرق يتصبب من جبينه وكأنه كان يصارع ماردا أو كان يقاتل في ساحة معركة. شعرت غالية بسائل ساخن ينزل من بين فخذيها حتى أخمص قدميها، لكنها لم تبال، فقد تعودت على نزوله كلما انتابها الخوف. انتظرت حتى اختفت عرابات الزفاف من قرب غرفة أختها. تسللت إلى الحمام لتستحم بالماء البارد لعلها تصحو من صدمتها. تمسح على جلدها بالصابون. " لابد من الفرار من هذا العالم المتوحش. لا بد أن أهرب بجلدي قبل أن يقع الفأس في الرأس. لا بد من إيجاد طريقة أخرج فيها من هذه الصحراء المتوحشة، قبل أن ينقضوا علي ويذبحونني كخروف العيد، ويسلخوا جلدي لينهشوه بأنيابهم إلى الأبد. عليَّ أن أبدأ فورا في تدبير خطة للخروج من هذا السجن. "عندما تقفل كل الأبواب يفتح الله واحدة". إن الله سيفتح بابا لكي أخرج منه بسلام. إن الله يحبني ولو أنني فقدت بكارتي. " رفعت عينيها إلى سقف الحمام وكأنها تحاول رؤيته وتحدثه. ستساعدني يا ربي، أليس كذلك؟ إن ما يفعلونه في هذا السجن ظلم وأنت لا تحب الظلم. خذ بيدي، أرني الطريق الصحيح حتى أسلكه وأنجو من ظلمهم ...



* * *



وصلت غالية من تونس العاصمة إلى مطار كوبنهاجن. كانت الساعة تشير إلى العاشرة صباحا. لم تكن تعرف أحدا في ذلك البلد، كما أنها لا تعرف إلى أين ستستمر في رحلتها متسائلة في نفسها:" لماذا النرويج؟ فأنا لا أعرف لغة هذا البلد ولم أسمع عنه في التاريخ الذي درسته في بلدي، ولا أعرف موقعه الجغرافي في الخريطة. آه! إلى متى سأظل هاربة من مجتمعي وإلى متى سأخفي فضيحتي التي كُتِبَتْ علي ولاحقتني طوال حياتي وطفولتي؟ إلى متى سأظل هاربة من أهلي وأبناء عمي؟ أخذت حقيبتها من مكتب الجمارك، واتجهت إلى مكتب الخطوط النرويجية لتشتري تذكرة إلى العاصمة النرويجية التي عرفت من مكتب السفر أنّ اسمها أوسلو .. ... لم تحصل على رحلة قريبة، لابد أن تنتظر حتى الساعة الثامنة ليلا. اشترت تذكرتها وحملت حقيبتها الثقيلة التي كانت تحتوي على كتب كثيرة وملابس قليلة. كانت تسمع أن النرويج تظلّ الشمس فيها ساطعة حتى منتصف الليل، فظنت أنه بلد لا يعرف البرد وإن كان بلد الثلج، فالشمس تكفي لإشاعة الدفء طيلة السنة. ما زالت تجر حقيبتها ببطء، تعتريها غصة تكاد تكتم أنفاسها. تلتفت يمينا ويسارا وكأنها تبحث عن شيء مجهول لا تعرف هويته. يعتريها الخوف من المستقبل الغامض، والرعب يكسر أغصان روحها العطشى. يذهلها منظر الموظفين والمسافرين، شديدي البياض كالدمى، شعرهم أشقر وعيونهم زرقاء، والكل يمشي بسرعة متجها إلى غايته. أذهلها ذلك الجو الغريب عن جوّ بلدها، وأرعبها انشغال كل واحد بأمره، ليس كوطنها حيث يمكن للمرء في المطار أن يجلس بالقرب من أي مسافر يتحدث إليه ويقتل الوحدة والانتظار الطويل. إتجهت غالية إلى المقهى لتستريح وتنتظر موعد سفرها فإذا هي ترى فتاة يبدو أنها عربية، تتصفح جريدة عربية. اتجهت نحوها تلهث من شدة التعب وبسرعة وبدون تردد سألتها: من فضلك يا أختي كم الساعة؟

لا تريد غالية معرفة الوقت بقدر ما كانت تبحث عن أحد يسلي وحدتها في منفاها الجديد، وينسيها ولو لفترة قصيرة مصيرها المجهول. ابتسمت الفتاة وأمسكت بيد غالية، تطلعت إلى الساعة وقالت لها: إن الساعة الآن العاشرة والنصف صباحا. شعرت غالية بالخجل واحمر وجهها، ابتسمت للفتاة وقالت: اسمي غالية، ما اسمك؟

- اسمي علية.

_ هل أنت مصرية ؟

_ نعم...وأنت ؟

_ أمي سودانية وأبي موريتاني.

_هل جئت لزيارة أحد من عائلتك في النرويج ؟

تنهدت غالية بعمق وقالت يا ليت كان لي أحد في ذلك البلد الغريب !!أو ليتني جئته سائحة ثم أعود إلى وطني ! أنا هاربة بسرّي ولا أعرف أين سيقودني.

_ سر! ماذا تقصدين؟

_ أنا لم أفعل شيئا! هم الذين فعلوا. كانوا الخصم والحكم في الوقت ذاته.

فتحت علية عيناها استغرابا: عمن تتحدثين؟ لم أفهم شيئا!.

يضنيها أن تضع يدها على تلك الجراح المستترة تحت الحسرات وتوقد تلك الجمرة الخامدة.

_ بدأت معاناتي منذ سن الطفولة. كنت حينها أبلغ من العمر سبع سنوات. سافرت مع عائلتي إلى إحدى بوادي المغرب حيث كان أبي يريد أن يشتري مزرعة من أحد أصدقائه الذي كان يشغل منصبا وزاريا في ذلك الحين حيث قادتنا سيارة أبي إلى منزل ضخم وجميل تحيط به مساحات كثيرة من أشجار الصنوبر والطيور الداجنة بمختلف أشكالها وألوانها، والأطفال في ذلك المكان يلعبون، وبين الزهور يمرحون ببراءتهم ينظرون لزرقة السماء ويحلمون بالنجوم. عندما رأونا اتجهوا نحونا مبتهجين فرحين بقدومنا. كان والدهم يقف أمام باب البيت بابتسامة عريضة مرسومة على وجهه. نزل أبي من السيارة وصافحه، ثم دخلا إلى صالون الاستقبال الذي كان أول غرفة بالبيت خاصة للرجال وبعيدة جدا عن المطبخ والغرف التي تجلس فيها النساء. لحقت به أمي ودخلت إلى وسط الدار. رحبت بها زوجتا صاحب المزرعة بحرارة واتجهن نحو صالون ثانٍ خاص بالنساء. أما أنا وإخوتي فتبعنا الأطفال إلى الإسطبل لنطعم الأحصنة ونلعب معها. أخي الأكبر سنا حمد، انطلق مع الأولاد يتسلّقون الأشجار بحثا عن أعشاش الطيور، وأختي الصغيرة سلمى كانت ترشق الإوز بالحجارة. أختي من أبي العنود كانت تثرثر مع إمرأة تحلب البقر وتضع الحليب في قناني كبيرة تجهزها كي يأخذها زوجها إلى السوق. أثار انتباهي منظر الناعورة التي تخرج الماء من البئر بطريقة تقليدية ومضحكة. جزرة مربوطة في خيط يتبعها حمار على أمل اللحاق بها وأكلها، لكن الجزرة تبتعد منه كلما يقترب منها، وهكذا تستمر العملية ساعات طويلة، والماء يخرج من البئر ويُصَبُّ في أنابيب تمر بين الزرع لسقيه، والحمار يدور بجد ونشاط حول البئر وبدون توقف لاحقا الجزرة على أمل الإمسا ك بها وأكلها. كنت أجلس على سور صغير جدا أنظر إلى تلك الناعورة التي تتحرك في الأفق مصدرة صوت خرير المياه الذي يملأ الأفق بأنغام مختلفة حسب الصعود والهبوط وهي تتدفق لتشكل إيقاعا خاصا يشبه الأحزان في جريانها ويوحي بالفرح أحيانا أخرى. أتأمل ذلك الحمار، أراقبه إن كان سينتبه لتلك الخدعة ويتوقف عن الدّوران حول البئر. ساعات مرت وما زال الحمار يحوم حول البئر بدون كلل. تعبت من الجلوس لفترة طويلة فوق السور. ذهبت إلى المرحاض، وعندما كنت أغتسل، رأيت بقعة دم أحمر قاتم في لباسي الداخلي. انتابني الذعر. لم أكن أعرف من أين جاء ذلك الدم! هل هي العادة الشهرية؟ وإن كانت كذلك فلم أكن أعرف آنذاك ما هي. تلك الأمور لم نناقشها قط مع أمي رغم أنها متعلمة ومهنتها التدريس. ااندفعت أجري خارج المرحاض كالحمام ينفر مذعورا ! أبحث عن أختي من أبي، التي كانت أكبر مني سنا. كنت أستطيع أن أشكو لها ما رأيت، أما أمي فكنت أخاف من عصبيتها وسرعة انفعالها؛ كما أن خجلي كان حاجزا يمنعني من البوح لها بما أصابني لأنني لا أعرف عاقبة ما سيجرى لي إن أخبرتها. كنت أجري متأبطة هلعي ولو أنني لم أكن أشعر بألم في جسمي. أصيح وأبكي خلف دهاليز الآتي منادية أختي. فإذا بإخوتي وكل الأطفال احتشدوا نحوي متسائلين ماذا جرى لي؟ سأل أحدهم: هل الكلب عنتو هو الذي يطاردك ؟، إنه لا يؤذي الأطفال ولا يعضهم. ونطق الثاني: إن عنتو يعض فقط اللصوص ويمسك بهم إن تسللوا إلى المزرعة. وقال الثالث: ربما خافت من الحارس حَمٌّو فشكله مرعب، إنه طويل القامة، ضخم الجثة، أشعت الشعر وأعور العينين، لكنه لطيف جدا ويحرس مزرعتنا من اللصوص. هيا بنا عنده لنلعب معه، إنه يعرف قصصا طريفة ومثيرة للضحك. ضحك الجميع وقالوا: هيا بنا بسرعة. إنطلق الأطفال كالريح واختفوا من حولي، أما أنا فلم أستطع أن أدخل إلى المنزل حيث أمي، فهي لا محالة منشغلة في الحديث مع زوجتَيْ صاحب المزرعة. ذهبت قرب المنزل الصغير الذي تسكن فيه الفلاحة التي تحلب الأبقار وجلست بالقرب من عتبة بيتها أنتظر قدومها فهي لاشك تعرف أين هي أختي من أبي. كان الجو حارا. انتظرت ساعة كالدهر كله. صراخ بداخلي يلتهب وثرثرتي الصامتة تزعج منظر سكون تلك المزرعة. مازلت في اضطرابي وحيرتي حين أقبلت أختي صارخة في وجهي:

_ ماذا بك منطوية على نفسك ترتعدين. لم لا تذهبين وتلعبين مع الأطفال؟

التفتت إليها الفلاحة وهي تضحك: أين نحن من البرد الآن! نحن في بداية فصل الربيع وفصل الشتاء مازال بعيدا جدا. نظرت إلى أختي والخوف يمزق قلبي: أريد التحدث إليك على انفراد.

أمسكت يدي وتوغلت بي بين أشجار الصنوبر وبصعوبة تمكنت من تجميع حروف كلماتي:

_ أختي لقد رأيت دما أحمر في سروالي ولا أعرف من أين جاء؟

ابتسمت ابتسامة خبيثة وقالت: أريني هذا الدم.



أطلعتها على بقعة الدم فنظرت إليها بإمعان ثم تطلعت إليّ من غير أن تتفوه بكلمة. كنت أرى في عينيها مئات الأسئلة وحب الاستطلاع، لكنها لم تقل شيئا. وقفت بسرعة والتفتت يمنة ويسرة لتتأكد إن كان هناك أحد من إخوتي أو أي شخص بالقرب منا، ثم قالت: لنذهب بسرعة إلى الحمام لكي أغسل بقعة الدم من سروالك ولا تقولي لأحد عن هذا السر الخطير. قلت لها وجسمي كله يرتعش: سر خطير! ماذا تقصدين؟ هل أنا مريضة؟ هل عندما يخرج الدم من الفتاة يعتبر عيبا وسرا خطيرا؟ هل.. هل ... توقف الكلام في حلقي و انفجرت أبكي وإذا بأختي تمسك بيدي بقوة وتجرّني إلى الحمام. غسلت سروالي وقالت بلهجة المعلم: إن أخبرت أمك ستضربك لأن الدم عندما يخرج من البنت يعتبر عيبا كبيرا، إحفظي هذا السر بيني وبينك كأن شيئا لم يكن. ذهبنا إلى المنزل ودخلنا إلى حيث أمي والنساء مجتمعات منهمكات في الحديث عن مشاكل صديقاتهن؛ من طلاق وضرب وعن معاملات أزواج بعضهن لهن. نظرت أمي إلينا وقالت:

_ أين كنتما؟

أجابت أختي من أبي: كنا مع الفلاحة التي تحلب الأبقار.

أردفت إحدى زوجتي صاحب المزرعة: لقد حان وقت الغداء.

قالت أختي وهي تنظر إلي بعينين قاسيتين سوف أنادي الأطفال وكأنها تريد أن تقول لي، إياك والبوح بالسر الخطير. جلست مرتبكة على عُري اللحظة الصامتة، خائفة من شيء حصل لي لا أعرف ما هو. أسترق النظر إلى أمي، مسرورة فرحة بوجودها في المزرعة لأنها تحب هواء البادية وتعشق الطبيعة. كانت منشغلة هائمة بالحديث عن المزرعة مع الزوجة الأولى أما الزوجة الثانية فقد ذهبت إلى المطبخ لتشرف على توزيع الطعام. جاءت أختي بعدما أحضرت الأطفال. جلس كل بجانب الآخر مشكلين حلقة حول تلك المائدة المستديرة التي كانت مليئة بمختلف أنواع الطعام القروي من تاجين مخضر باللحم والزيتون وسلطة الطماطم بالبصل، تلته الفواكه من بطيخ وعنب. أكل الجميع بشهية أما أنا فكان يعتصرني صراخ تلك البقعة الحمراء من الدم التي كانت تلوّن لباسي الداخلي. تلك الخرافة التي انطبعت في ذاكرتي، تعجن جسدي خاصة وأن أختي نبهتني أن لا أبوح لأحد به حتى ولو كانت أمي. قالت إحدى الزوجتين: غالية لم تأكل شيئا ربما لم يعجبها الأكل. قالت أمي: إن ابنتي نحيلة جدا وهذا يشغل بالي كثيرا. لم تسألني ماذا بي ولماذا أنا صامتة على غير عادتي؟ تَعَوَّدْتُ على انشغالها عني، فنصف يومها تقضيه في المدرسة والنصف الثاني تزور فيه صديقاتها أو جيرانها أو هن يزرنها. عمتي التي تزوجت شهرا واحدا، غاب زوجها عنها ولم يرجع أبدا، هي التي تقوم بأشغال البيت وبرعايتي أنا وإخوتي منذ كنا صغارا. بعد أن انتهينا من وجبة الغذاء أمرنا أبي باالإستعداد للرحيل. مرت أيام وشهور ونسيت ذلك السر الخطير. انشغلت في المدرسة فأصبحت في الصف الخامس الابتدائي. كان عمري آنذاك عشر سنوات. درسنا عن العادة الشهرية وفهمناها نظريا، لكن حتى ذلك الوقت لم نعرف عنها شيئا في أجسادنا. فلم تكن هناك فتاة منا وصلت سن البلوغ. حتى وإن كان ذلك فمن المستحيل أن تروي لنا تجربتها.



سكتت غالية هنيهة، احتبس الكلام في حلقها. أمسكت علية يدها وقالت:

- هوني عليك.

ابتسمت غالية ابتسامة حزينة يحصدها الخوف وقالت: لم أنس ذلك اليوم في المدرسة أبدا في حياتي وحتى الآن مازلت أتذكر ذلك المشهد. كان مدرس اللغة العربية يشرح لنا درسا في التربية الإسلامية. فجأة أجهشت تلميذة بالبكاء. كانت تكبرنا سنا وتجلس دائما في المقعد الأخير. اندهش كل من في الصف وعلامات الاستفهام تدور في رؤوسنا حيث لا نعرف سبب بكائها واحمرار وجهها. وقف الأستاذ من مكانه وسألها: ما بك يا ابنتي؟ لم تستطع أن تجيبه. طأطأت رأسها وبدأت تجهش بصوت خافت. اقترب منها وقال: هل أنت مريضة؟ لم تجب. كانت الفتاة تنظر إلينا تارة، وإلى الأستاذ الذي اقترب منها ومزيج من الفضول والشعور بالشفقة يخامره، أما هي فكانت ترتجف باكية و قطرات من العرق تلمع فوق جبينها الشاحب كما الندى على وريقة عضها الخريف. لاحظ الأستاذ ارتباكها، فاحتار من تصرفها غير الطبيعي فقال لها بنبرة جدية: قفي، أريد التحدث إليك. ازدادت الفتاة اضطرابا وخجلا وأبت أن تقف وكأنها جالسة على شيء خطير جدا يستوجب عدم إظهاره، لأنه " سر خطير" مثلما قالت أختي. بعدها فهم الأستاذ أن الفتاة مرتبكة من بقع دم الدورة الشهرية في فستانها الذي كان لونه أبيض. اقترب منها بهدوء مبتسما ابتسامة الأب الحنون اتجاه طفلته وقال: لا تخافي يا ابنتي هذا شيء طبيعي بالنسبة للفتاة. إن ما حدث لك اليوم هو تغير مهم في حياتك. لقد أصبحت فتاة ناضجة ومكتملة فلا داعي للخجل والخوف. أعرفك فتاة ذكية وواعية، فقومي الآن واذهبي إلى المرحاض واغتسلي. نهضت التلميذة وذهبت مسرعة إلى المرحاض، أما نحن فكنا ننظر إلى تلك البقع الكبيرة من الدم على فستانها في دهشة بالغة. رجع الأستاذ إلى منضدته، توقف عن شرح السيرة النبوية وشرع في إعطائنا درسا عن الدورة الشهرية وبعد ساعة تقريبا جاءت المسكينة إلى الصف تتعثر في فستانها المبلل بالماء وببقع الدم التي لا تزال ظاهرة.

أرسل الأستاذ رسالة مع إحدى التلميذات إلى المديرة شارحا فيها وضع الفتاة. وبعد نصف ساعة شرفت حضرتها بلباسها الفخم تتبختر في مشيتها كالطاووس. وقفنا مرعوبات لتخصصها في ضربنا على ظهر أيدينا بمسطرة من حديد إن خالفت واحدة منّا قانون المدرسة. نادى الأستاذ التلميذة التي وقفت ترتعد من الخوف أمام المديرة التي كانت تحذّق فيها باشمئزاز، وبعد ثوانٍ قليلة قالت لها:

_ ما اسمك؟

أجابت التلميذة بخوف واحترام شديدين: اسمي المراني خديجة.

تطلعت إليها بتقزز وقالت: اتبعيني إلى المكتب. وقبل أن يغادرا أخذ أستاذنا سترته ووضعها على كتف التلميذة.

_ تلك الحادثة أيقظت في نفسي ذلك "السر الخطير" الذي أُمِرْتُ أن أدفنَهُ وأنساه إلى الأبد، وبدأت أتساءل عن سر تلك البقعة الحمراء التي كانت في لباسي الداخلي، هل هي دم الدورة الشهرية؟ هل أنا أختلف عن باقي البنات وإن كانت الدورة الشهرية، فلماذا لم تأت كل شهر بعد تلك الحادثة؟ ولماذا لم يكن ذلك الدم كثيرا مثل دم الحيض؟ أسئلة تقع على رأسي كوقع الفأس لتخلق في نفسي رعبا من ذلك الشيء الغريب. ولكن بعد أيام قليلة نسيت حادثة الحيض عند تلك الفتاة، ونسيت بقعة الدم التي كانت ذات يوم في لباسي الداخلي. بدأت الدراسة في ثانوية مختلطة حيث كنت أجد صعوبة كبيرة في المشاركة داخل الفصل، وأتصبب عرقاً عندما أريد أن أجيب على سؤال يطرحه الأستاذ. وكم من مرة استعصى على التلاميذ الإجابة الصحيحة التي كنت أعرفها لكنني كنت ألوذ بالصمت خجلا.



ذات يوم، اغتُصِبَتْ إحدى التلميذات بالقرب من المدرسة، وفي صباح اليوم التالي انتشرت الأقاويل والشائعات انتشار النار في الهشيم بين التلميذات .....

توقفت غالية عن الكلام، تحوّل لون وجها إلى زرقة أشبه بالسواد والعرق يغطي سحنة وجهها.
_ آخ! معدتي تؤلمني.
_ سأطلب لك حليبا ليخفف ألمك.
أخذت غالية حبة دواء مسكّن مع الحليب، وبعد برهة أحست بتحسن فنظرت إلى علية وقالت:
_ نسيت أن أسألك، هل أتيت لزيارة أحد في النرويج ؟
ابتسمت علية وقالت: لا أنا مثلك جئت هاربة من مجتمع يعيش في التخلف والظلام، أبحث عن بديل يناسبني. لكن لن أروي لك قصتي حتى تنهي قصتك. ربما تكون قصتك مثيرة، لكنها ليست غريبة، فقد سمعت المئات مثلها أثناء عملي.
قالت غالية: ما هي مهنتك؟



_ مدرسة العلوم الطبيعية بإحدى المدارس الثانوية في مدينة الإسكندرية.
أطلقت غالية آهة مسموعة وهي تسرح ببصرها إلى الأفق البعيد، بلعت ريقها متنهدة، تعبت من الكلام الذي كان لا يجلب لها سوى الحزن وذكريات مثقلة بآهات خرساء، متلفعة بسواد دامس ووثاق السر الخطير يكبلها، السر الذي لا تستطيع أن تنساه أو تمحوه من ذاكرتها رغم كل محاولاتها التي سرعان ما تذهب أدراج الرياح. ابتسمت تعبيرا عما يجيش في خاطرها من راحة البال وارتياحها إلى علية.
_ ماذا كنت أقول؟ لقد اختلطت عليّ الأمور.
ربتت علية بحنان على كتفها وقالت: كنت تتكلمين عن الفتاة التي اغتصبت بالثانوية.
_ نعم، نعم. بعيد اغتصابها شاع نبأ في المدرسة تناقلته أفواه التلميذات هنا وهناك ولاكته كلّ واحدة منهن أينما حلّت، وصبته أينما وجدت أذناً صاغية، مفاده مجيئ طاقم طبي لفحص التلميذات للتأكد من عذريتهن. زادت الشائعة في حدتها بالوعيد والتهديد والويل كل الويل للتي فقدتها إذ سيستدعى ولي أمرها وستعاقب أشد العقاب. عندما سمعت هذا النبأ اختلطت أحشائي ببعضها وانخلع قلبي من مكانه وامتلأت يداي عرقا وكأنني أطلقتهما في نهر دافئ. في تلك الفترة تغيرت حياتي واعتقدت أن تلك البقعة الحمراء التي كانت بلباسي الداخلي هي دم البكارة. فكانت أيام طفولتي سوداء قاتمة وحياتي تعيسة حزينة، وأصبحت منطوية على نفسي لا أرغب في الاختلاط بالتلميذات لأنهن يمتلكن شيئا ثمينا وأنا أفتقده، حتى خيل لي أنني أسكن في قبضة الكآبة. كم من مرة تمنيت الموت. لم أشعر يوما بطعم الحياة. حرمت من اللعب مع من هن في سني وكنت أقضي كل الوقت حبيسة المنزل وفي غرفتي، كنت أكتب أسطرا قليلة أتمرد فيها على وجودي في هذه الحياة. قلبي سينفجر، ولا بد من الترويح عنه بالكتابة وتفريغ تلك الشحنات الملتهبة على ورقة خرساء. لكن كتابتي لا تخلد في الأوراق لأنني أمزقها فيظلّ "السر الخطير" ينهش قلبي يوما بعد يوم لأن المجتمع يفسر الشريفة الطاهرة من خلال غشاء البكارة وأنا فقدته في سن السابعة. أجهشت غالية بالبكاء. إلى متى سأظل هاربة؟ لابد أن يأتي يوم يشدني فيه الحنين إلى الوطن. وإن عدت كيف سأكوّن أسرة وأنا غير مؤهلة للزواج. ينقصني شيء ثمين يجب أن أقدمه لزوجي ليلة زفافي، لكي أثبت عفتي وطهارتي وأصطف في طابور الطاهرات العفيفات. هل تعرفين أنه إذا فقدت البنت عذريتها لأي سبب حتى وإن كان اغتصابا تصبح فتاة بلا شرف، وأن شرف الأسرة وعرضها قد أصبحا ضائعين وعلى رجال الأسرة إخوة كانوا أو أبناء عمومة أن يستردوا شرفهم الضائع إما بقتل الفتاة كما يحدث في البوادي عندنا وحتى في بعض المدن إن كانت العائلة متمسّكة بالتقاليد مثل عائلتي، فذلك الذي سيقتلني في ليلة زفافي سيكون من أهلي وسيعتبر الرجل الشهم الشجاع والمتطوع للتضحية بنفسه من أجل إنقاذ شرف الأسرة، وتعيش عائلته في العار طوال حياتها. كم تمنيت أن أكون ذكرا، لأن الذكور لهم امتيازات في المجتمع أكثر من الإناث. إخوتي يمكنهم أن يتأخروا خارج البيت حتى منتصف الليل ولا أحد من والديّ يلومهم على تأخرهم لأنهم ذكور ويمكنهم أن يتعرفوا على السائحات الأوروبيات ويأتون بهن إلى البيت، فتقوم عائلتي بإحسان ضيافتهن. وإن أحب أحد إخوتي واحدة منهن وأراد الزواج منها فلن يعترضوا لأن ذلك يعتبر من حقّهم شرعا. أما أنا كفتاة فهيهات أن أختار زوجي بنفسي حتى ولو كان عربيا ومن عرقي، أما إن كان أجنبيا فذلك عار لا يغتفر وفضيحة أمام الناس. وإن تأخرت ساعة واحدة عن موعد عودتي للبيت، تقوم القيامة بالتهديد والوعيد، هذا إن نجوت من الضرب. ذات مرة كنت في المكتبة العامة أطالع كتابا، ولم أفطن لمرور الوقت، فقفزت من مكاني كمن لدغته حية. جمعت حوائجي بسرعة البرق وملامح أبي تقف أمامي فأطلقت ساقيّ للريح من غير توقف. لم أستطع انتظار الحافلة لأستقلها لأنها تتأخر وليس لها وقت محدد. أطلقت ساقي للريح متوجهة إلى المنزل وصوت أبي المدوّي بالوعد والوعيد يضج في أذني. جريت في زحمة الشارع الطويل وحدي ولهاثي يطفو فوق رصيف الخوف، يجرجر حزنه من الرعب إلى أن وقفت أمام باب البيت. وجدت أبي ينتظرني مكشرا عن أنيابه، يتأجج غضبا، أما أنا فلم يبق في أعماقي الخاوية غير ساقين مرتجفتين ودمعي يتأسى على صمت كلماتي وكل حوارات الدفاع التي توارت هي أيضا في خوف، لولا عمتي الرحيمة التي أنقذتني منه لانهال علي بالسوط. أما إخوتي فتغدق عليهم النقود لشراء السجائر وارتياد المقاهي ولا حرج من رجوعهم للبيت متأخرين. وإن كنت بحاجة لبعض النقود لشراء كتاب قد يكون مهما بالنسبة لمقرري الدراسي، أظل أمهد بمقدمات وأترجى أمي ونادرا ما كنت أحصل على النقود. فأنا بالنسبة لوالديّ لا أحتاج الحصول على شهادة عالية، فمنزل زوجي مآلي وتربية الأولاد مستقبلي، وتعليم الطبخ مهمتي لكي أطعم زوجي الذي هو في نظرهم كلّ حياتي وسعادتي. وعندما أنتهي من الدراسة الجامعية لا بد أن أتزوج حسب العرف والتقاليد لإرضاء العائلة. فمن هو هذا الزوج الذي سيقبلني زوجة بدون غشاء البكارة؟ طوال حياتي في المدرسة والجامعة، كنت انعزالية منطوية على نفسي، أخشى مغيب الشمس فمع اقتراب الظلام تزداد كآبتي. أخاف أن أبكي فيفتضح سري. غابت الابتسامة عن وجهي وحلت الدموع محلها. ضحكي أمسى قليلا وصمتي أكبر من كلماتي. أمكث في غرفتي أكثر مما أختلط بعائلتي. كانوا يلقبونني بحي ابن يقظان، الإنسان المتوحش الذي لا يستطيع التأقلم مع الناس ولا يعرف إلا العزلة والنفور. إنهم لا يعرفون أن العزلة راحتي والاحتكاك بهم لا يجلب لي إلا الانفعال والعصبية وينتهي بي النقاش معهم إلى الشجار. تستفزني آراؤهم وأفكارهم، فإن عقبت عليها أزعجتهم وعكرت صفو جلستهم العائلية. عندما تحضر الخادمة الشاي وتجتمع العائلة لقضاء ساعات السمر تتساءل عمتي "أين هي غالية؟" فتجيب أمي: "اتركوا حي ابن يقظان لحاله فنحن لا نريد أن يعكر لنا مزاجنا." لم تسأل أمي يوماً نفسها ما الذي يشغل بال ابنتها ولماذا هي حزينة، منطوية على نفسها وتبكي بلا سبب؟ فهي كانت دائما مشغولة بتصحيح الكراسات المدرسية أو مطالعة مجلة والحديث عبر الهاتف ساعات طويلة مع إحدى صديقاتها، أو زيارتهن.
_ لكن، كيف استطعت الهرب من المغرب والمجيء إلى هنا ومن أين حصلت على النقود؟
_ أنا لم أهرب من عائلتي، فقبل أن آتي إلى هذه الدولة، نجحت بامتياز وحصلت على منحة للدراسة في الولايات المتحدة.
_ رائع جدا! لكن كيف وافق والدك المتعصب حسب وصفك له على سفرك للدراسة ؟ وفي الولايات المتحدة !!!.
_ لم يوافق بادئ الأمر. غضب وزمجر. قال له أحد أصدقائه: لو كانت ابنتي التي نجحت في هذا الامتحان لاعتبرت نجاحها شرفا عظيما لي ولم أتردد في إرسالها لتدرس في أمريكا، إنها فرصة لا تعوض. وافق ودرست هناك سنة واحدة وعندما رجعت إلى المغرب أبى أن يسمح لي بالرجوع بحجة أن تلك البلاد بلاد الخبث وغياب القيم والأخلاق. نار أحرقت قلبي، وأجهشت في البكاء، وتماسكت قليلا وقلت له: المستقيم مستقيم سواء كان في المغرب أو في أمريكا . لم يعجبه كلامي. اعتبره تحدياً فهو القاضي والإمام، وهو الدكتور في الشريعة والقانون، وهو الذي سبقنا إلى الحياة وسيد العارفين ونحن علينا أن نطيع ونسمع من غير نقاش، لأن طاعة الوالدين طاعة لله وبرّ وتقوى حتى وإن كانت طاعة عمياء أو كان فيها ما يتعارض مع مستقبلنا؛ كقبول الزواج من رجل يختاره هو وليس أنا.
_ و ماذا حدث بعد ذلك ؟
_ ثارت ثائرته واشتد غيظه ولكنه تمالك أعصابه وبدلا من أن يسترسل بصوت عال، بدأ يتكلم بصوت هادىء: " يا ابنتي، إن طاعة الوالدين واجب على الأبناء، وإن أردت النجاح والفلاح في حياتك في الدنيا والآخرة، عليك أن تنسي أمريكا وتدرسي هنا في الجامعة، اطلبي أي شيء أنا جاهز لفعله. هل تريدين أن نشتري لك سيارة؟
_ أريدك أن ترضى عني وتسمح لي بالسفر لمتابعة دراستي.
هذه المرة لم يستطع أن يتمالك أعصابه. انفجر بصوت عال كلهيب القيظ. أحسست بعدها برعشة تسري في أوصالي وقلبي يدق بسرعة ويديّ تتصببان عرقا. أما هو فكان يلوح بيديه، يضغط على شفتيه، يقترب مني، صارخا في وجهي "أنت... من أنت حتى تتمردي على أوامري؟ لقد فضلتك عن باقي إخوتك". كنت أتراجع بخطوات وئيدة إلى الوراء، أخبّئ وجهي تحت ضلوعي خوفا من قبضة قد تنزل على رأسي كالصاعقة. أحسست بماء دافئ يبلل لباسي الداخلي، أنظر إليه وأتراجع بخطواتي المكبلة، مستجدية عطفه الأبوي:
_ " يا أبي سأفعل ما تريده في الحال. فأنا أعتذر كثيرا إن بدر مني شيء لا يرضيك. معك الحق، إن طاعة الوالدين واجبة. قلت كلامي وأنا أتوكّأ على خوفي الهزيل، وألم يخنق صوتي، مؤدّية دور الزاهد بتفوّق فاشل حملته بين ضلوعي بتذمر واستياء حيث كنت أشعر بالذل وأنني أنافقه، لأن إحساسي كان الخوف وليس الطاعة. تنفس أبي الصّعداء وابتسم قائلا: هكذا أحبك مطيعة مثل الولد الصالح ابن فلان! هل تذكرين قصته؟ رويتها لكم مرارا وتكرارا. تظاهرت بأنني لا أعرف ماذا يريد أن يقول. فسألته ماذا تقصد يا أبي؟ رفع رأسه وذهب ببصره مسافات بعيدة يلملم أفكاره:" اسمعي يا ابنتي: في زمن بعيد، كان هناك ولي صالح له ابن مطيع جدا. ذات مرة كان أبوه منشغلا في الكلام مع بعض الرجال، فأمره أن يوقد النار في الفرن، وعندما انتهى الابن من إيقاد النار، اتجه مسرعا ليخبر أباه الذي كان منشغلا في الحديث مع أولئك الرجال، انزعج الأب من إلحاح ابنه في الحديث وقال له أدخل في الفرن. اتجه الولد الصالح إلى الفرن الذي كان يلتهب نارا فدخله طاعة لأبيه. وعندما تذكر الأب ماذا قال لابنه صرخ: ويحي ماذا فعلت؟ لقد قتلت ابني. حتما قد دخل الفرن لأنه ولد بار ومطيع. أسرع الأب إلى الفرن وفتح بابه فإذا به يرى ابنه وسط لهيب النار سالما والعرق يتصبب منه. لم تلسعه النار ولم تحرقه لأنه كان بارا ومطيعا. ورغم أنني كنت أخشى مجادلة أبي وأخشى صوته المرتفع وعصبيته التي تجمّد أنفاسي وتكبح صبري المستكين، لم يجد من تلك البراكين الخامدة التي كانت تترجرج في جوفي وتهتز معلنة الانفجار. وما أن انتهى من سرد قصّته التي حفظتها عن ظهر قلب، أحسست بنفور ولم يعد صمتي يحسن الإنصات، انفجرت ولأول مرة في حياتي، قائلة له بصوت عالٍ أقرب إلى الصراخ والاحتجاج: يا أبي أنا أيضا أطيعك ونحن كذلك عندنا فرن كبير في المطبخ. إن أردتني الآن أن أوقده وأدخله سأفعل في الحال لكن، تأكد أنني لست ذلك الطفل الصالح الذي نجا بمعجزة من الله. فزمن المعجزات قد انتهى، وهذا الفرن سوف ينهي حياتي ويضع حدّا لها وهذا ما أتمناه. غادرني الخوف دون ضجة أو عويل ولامست حدّ الجنون. هرعت إلى المطبخ، أمسكت علبة الكبريت ويدي ترتجف، أحاول إشعال الفرن كي أدخل فيه، لحقت بي عمتي تبكي وانتزعت منّي الكبريت. أما أبي فقد دخل إلى مكتبه يزمجر ويرعد بصوت عالٍ. حاولت أمي أن تهدئ من روعه، هي أيضا كانت غاضبة ناقمة على تمردي. أما أخواتي فاتخذن الصمت ملاذا وكن فقط ينظرن إليّ مندهشات لانقلابي على أبي الذي يعتبر الحاكم الذي لا تردّ له كلمة.

ثلاثة أيام وأنا مضربة عن الطعام والشراب، أعزف لحن انزوائي في غرفتي لا أكلم أحدا. قيثارتي لحن صمت وغربة تردّد في انكسار كلمات جبار مستحمّة بعبارات التهديد التي نزفت همسي، أندب سري الذي أفرخ عارا يلازمني كالظل نحو رتابة غير مألوفة وأنا أستجمع حزني ووحدتي المنتشرين والمبعثرين في الغرفة. كم من مرة طرقت عمّتي الطيبة باب غرفتي دون جدوى. لم أكن أَرُدّ عليها. كنت أسمع بكاءها وهي تقول لي: يا ابنتي إنك تؤذين نفسك. افتحي لي الباب، جئت لك بالطعام. إنه قلب الدجاج وكبده الذي تحبينه. كانت المسكينة تظل واقفة وراء الباب ساعات طويلة وعندما تمل من الوقوف تذهب إلى المطبخ، ذلك المكان الذي تقضي فيه أغلب أوقاتها لأن منزلنا كان لا يخلو من الضيوف طيلة أيام السنة. في اليوم الرابع جاءت أمي ووقفت أمام الباب وقالت:
_ غالية إفتحي الباب. تصرفك هذا حرام. إن لم تخرجي وتطلبي من أبيك السماح، سيسخط عليك والسخط يؤدي بصاحبه إلى النار.
خوفي من النار جعلني أخرج من غرفتي معلنة هزيمتي، أتعثر صوب مكتب أبي وأسمال روحي ممزقة، ثملة بكلّ أنواع الخنوع. وجدته يطالع كتابا، اقتربت منه في هدوء أقرب إلى الخوف، قبلت يده في صمت منكسر، أما هو فكان يسترق النظر إلي بطرف عينه من وراء كتابه وابتسامة رضا ملثمة بقناع من هدوء مفتعل تعلو وجهه. انسحبت من وراء مكتبه مسرعة الخطى إلى غرفتي رافعة عن نفسي حصار الإضراب عن الطعام، نافضة غبار النفور والاستنفار، معلنة الهدوء والرضاء المفتعلين فأصبحت أجلس معهم حول المائدة كالأطرش والأبكم حاملة في داخلي أحزاني وانكساري، مهزومة كفراشة غدر بها غسق الدجى أو هوت في لهيب النار. كنت أجلس الساعات الطويلة مع عمتي والخادمة في المطبخ، أخوض معهن حوارات عبثية لألهي نفسي من مطاردة الساعات الطويلة التي تزحف ببطء على جسدي وتجثم على روحي غارزة فيها مخالب الخوف والقلق من غربة في داخلي وغربة تحيط بي. كان شغلي الشاغل هو الدراسة فقط، حتى اللعب مع أترابي حرّمته على نفسي لأنني كنت أشعر باختلافي عنهن، هن يملكن شيئا ثمينا، بينما أنا لا أملك سوى ذلك السر الخطير. أدمنت القراءة لأنني أرى فيها ملاذي وهروبي. انزعج أبي من تصرفي، حيث رأى ما لم يعتده مني فأرسل أمي التي أقبلت مهرولة إليّ وقالت: " أخبرني أبوك بأنه موافق على مواصلة دراستك في أمريكا لكن ليس هذه السنة لأنه لا يملك المبلغ الكافي حاليا. السنة المقبلة إن شاء الله ستسافرين. قلت لها: سأجلس في البيت حتى السنة القادمة. فردت علي بحدة:" ستذهبين إلى الجامعة هذه السنة". عصفت نار في داخلي ولمعت فكرة الهروب في مخيلتي فصرخت:" لن أرجع إلى الجامعة ولا أريد شيئا على الإطلاق". أجابت بهدوء:
_ ماذا تريدين؟ الجلوس في البيت؟ حسنا. لكن، البنت التي تفضل البقاء في البيت لا ترفض عريسا إذا تقدم لها.
قالت كلامها وتركتني وسط الخوف أجرجر روحي المتسوّلة التي أحست باقتراب ساعة إزاحة الستار لرفع الطبق عن المستور وكشف ذلك السر الخطير. تركتني في قهري منهزمة تحت وطأة وجعي الممتدّ من سمائي المحترقة. قلبي كئيب يدق بلا حلم وفكري يلهث من مطاردة العواصف، يئن من جمرة الظلم التي تحرقه. تمنيت الانتحار لكنه من المعاصي، كما ستكثر الشائعات عليّ والتشدق باتهامات باطلة. مرضت كثيرا و صاحبني الشعور بالغثيان وبوجع في معدتي، وفي الليل تصطك أسناني وأرى كوابيس في منامي. كابوس واحد يتكرر كل ليلة. أرى ريحا هاربة من الصحراء، حاملة معها صراخا يئن من جرح قديم وأنا أجري فوق رمال تلتهمني وأحيانا تجرني بعيدا عن مسار الريح، تهوي بي بين الجبال والتلال لتقذفني أمام عشرات من الرجال على مقدمتهم أبي حاملا خنجرا يتراقص في كفه على إيقاع طبول صاخبة وزغاريد ثكلى بفجيعة ليلة ليست ككل الليالي وأنا أجري وأتعثر في فستان العرس الأبيض، أصرخ وأبكي وأبي يلاحقني محاولا قتلي، أقع على الأرض ووجع بداخلي يتوسل تلك الوجوه الممسوخة بقهقهات الجهل وحب الدم. يتقدم أبي من بينهم ويغرز خنجره في صدري. فأستيقظ من ذلك الكابوس فزعة وألم ينخر في مفاصلي ودموعي ترتعش على خدي.

يتبع

لامارا 14-11-13 09:31 PM

الفصل الثاني

وجاء الفرج !



رياح قابعة في صحراء غرفتي الصغيرة، تطارد أنفاسي ولهاتي، تلتهم أفكاري المشتتة، تقذف بها في كلّ الزوايا دون رحمة وأنا أحاول التمسّك بوهم قادم من غياهب المجهول كمحكوم عليه بالموت ينتظر رصاصة رحمة. فأغرق في وحدتي القاتلة وصوت صمتي يزحف في خوف على جسدي المتعب، يقتله ببطء وأنا أئن لوجع يمارس لعبة البقاء ويتأوه لأمل اندثر خلف سراديب الألم. مرّ أسبوع كالدهر وأنا سجينة خوفي داخل غرفتي، أمارس الهدوء الصاخب بالصمت وأرتقب أملا يأتي من وراء الجبال ليحتضن وحدتي ويسكت صوت الجراح. وحين قرّر الأمل أن يراني ثانية جاءنا رجل طاعن في السن كان عمره تقريبا سبعين عاما. تختبئ خلف تجاعيد وجهه سنوات مكتوبة منذ الأزل، شيخوخة مصبوغة بكل الألوان، تتعكز على طفولة مفطومة من وحشة الشمس وشباب مصاب بحمى الحماس المنهزم وكهولة تحجّرت بفعل الصواعق والحرمان والنفي بعيدا عن الأحباب في فترة عمله هناك حيث كان يعمل حارسا في مدرسة بطرابلس في ليبيا. وعندما رجع في العطلة الصيفية وجد زوجته الثانية قد أنجبت له طفلا في غيابه. قرر أن تسافر معه إلى ليبيا، لكن الدوائر الرسمية كانت ترفض وضع صورة ابنه في جواز سفره لأنه لم يكن مسجلا عندهم، وكان يستحيل تسجيله بعد سنة من الولادة. حاول الرجل في المحاكم دون جدوى، إلى أن صادف رجلا كان يعمل حارسا بالمحكمة الاستئنافية، قال له إن أردت حل مشكلتك فما عليك إلا فلان، يقصد والدي. هكذا قصد بيتنا فقضى له أبي حاجته. فرح الرجل كثيرا وجاء بزوجته وابنه الرضيع عندنا إلى المنزل.

لم ينس أبي تعنتي وانطوائي. كان القلق يرتسم على محياه مما أثار انتباه ذلك الرجل المسن. فقال له:" أش بيك يا الحاج؟". بدأ أبي يشكو له قضيتي التي كانت بالنسبة له شوكة في حلقه. قال له الرجل: " يا حاج، إن ليبيا بلد إسلامي، فيه مدارس وجامعات كثيرة وغير مختلطة. يمكن لابنتك أن تسافر معنا إلى ذلك البلد الأمين وتسكن معنا في بيتنا وفي غرفة واسعة جميلة كغرفتها. ستقوم زوجتي بخدمتها ولن ينقصها أي شيء. فما رأيك؟ كان أبي مترددا حيث أنه لا يعرف الرجل. لكنه يئس من تصرفي، وهو الذي يقول، ابنتي غالية سوف تكون يوما ذات شأن عظيم. مناه أن يكون كل إخوتي متعلمين. يحثنا على العلم في قصائده الشعرية الطويلة. أبي لا يريدني أن أجول غربا وشرقا لأجل العلم، لأن القصيدة التي كان ينشدها لنا دائما، تقتصر على الذكور وليس على الإناث. كما أن قول الرسول "ص" علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل"، حلله أبي للذكور. فركوب الخيل محرّم علي وعلى أخواتي لكي لا نفقد بكارتنا. وكأن الإسلام جاء فقط لإشباع رغبات الرجل في العلم والثقافة والرياضة. كان أبي متأكدا أنني لن أدرس في جامعة مدينتي ولا يريدني أن أتوقف عن الدراسة بعدما اجتزت شوطا كبيرا منها. انهال أبي على العجوز بسيل من النصائح والتحذير قائلا:" ستذهب معكم قرة عيني وفلذة كبدي، عليك أن تعتني بها مثلما تعتني بأهلك."

أقبلت أمي مسرعة إلى غرفتي وأخبرتني بأن أبي وافق على سفري معهم إلى ليبيا. إلى حدّ ما فرحت بالخبر، قلت في سريرتي، ليبيا أفضل من أن أمكث في البيت الذي سيُعجّل من زواجي القسري. بعد دقائق قليلة، أقبل أبي إلى غرفتي وقد يئس من عنادي:
_ ابنتي! تحديتني ولم أعد أعرف كيف أتصرف مع عنادك الذي لا أعرف إلى أين سيوصلك. لكن الله أرسل لنا هذا الرجل وزوجته. ستسافرين معهم إلى ليبيا وهناك ستكملين دراستك. سيسافران برّا وبعد أسبوع ستلتحقين بهم. قلت له خائفة: لماذا بعد أسبوع؟
قال بهدوء وحزن: ستسافرين بالطائرة.
كنت خائفة أن يسافر الرجل وزوجته ويتراجع أبي في كلامه، رغم أنني لم أعهد فيه ذلك. ارتميت في أحضانه باكية كأم وجدت طفلها الضائع، أقبّله وأقول:" أحبك أبي، من فضلك دعني أسافر معهم برّا. لأول مرة وبعد شهر كامل من الكآبة والانطواء على نفسي، رأى أبي ابتسامة تعلو وجهي، اغرورقت عيناه بالدموع وقال:لك ما تريدين.
سافرت مع أبي والرجل وزوجته إلى مدينة الرباط حيث السفارة الليبية، وهناك حصلت على التأشيرة. قضينا ليلة في أحد الفنادق في المدينة، وفي صباح اليوم التالي ذهبنا إلى محطة القطار. اشترى أبي ثلاث تذاكر، لي وللرجل وزوجته. جلسنا في مطعم المحطة ننتظر موعد السفر، وقبل ساعة واحدة من موعد سفرنا أعطى أبي للعجوز ثلاثة ألاف درهم مساعدة له وقال لي إن لم أجد مكانا في الجامعة عليّ أن أعود فورا إلى المغرب في الطائرة. قبّلت يده وشكرته. حَجَّبَ عليّ بالقرآن وارتجل أبياتا من الشعر يودعني بها وأوصاني أن أعتني بنفسي وانتبه على جواز سفري ونقودي. تأثرت من سماع تلك الأبيات، من قلب ينازعه حنين للأهل و الأحباب. غادر أبي المحطة بسرعة لأنه لم يتحمل وداعي. تركني وحيدة مع ذلك الرجل العجوز وفي داخلي طفلة غطت جسدها الصغير أشواك ملونة بلون بقعة دم داكنة تحوم في سماء طفولتي زمانا ومكانا وتذكرني بسري وبمستقبل أنات مذبحة تنساب في فجر قريب.
ضجيج المسافرين موزع بفوضى في فضاء محطة القطار، وجوه مرتبكة يختلسها الشرود وأخرى يلونها صمت التصعلك والمشاكسة . أثار انتباهي زوجة العجوز التي احتست وحدتها في سكون مرتبك، تحاول تهدئة طفلها الذي كان يصرخ عاليا، تحمل عبئه على أكتاف صمتها وتبتسم له ابتسامة ملونة بالحزن. ولدت المسكينة في بادية من بوادي المغرب، من عائلة فقيرة جدا تتكون من اثني عشر طفلا، كانت أكبرهم سنا. أما العجوز فزوجته الأولى كبرت وهرمت، فلم يعد يحتاجها، رماها بعد ما مصّ رحيق شبابها، تركها تعاني من جفاف العمر بعدما فسّخ الزمن كل شيء جميل في حياتها واغتال روحها الهزيلة وهي تتمسّك بجدائل الحسرة والحزن داخل سراديب وحدتها. إنه يريد صبية طازجة ليجدد فراشه، علها تعيد إليه زمن الشباب والفحولة.

سرى بنا القطار في ذلك الليل الخرافي الطويل من مدينة الرباط وفاطمة منهمكة مع رضيعها، مرة ينام ومرات يبكي ثم ينهض منزعجا من صوت القطار وضجيج ركابه، والمسكينة تهدئ من روعه بابتهالات وأدعية. أما العجوز فغطّ في سبات عميق وعلا شخيره في عربة القطار وكأنه في عالم آخر. كنت أحيانا أطالع قصة الطاهر بن جلون ابن الرمال وأحيانا أستمع إلى الصمت الرهيب الجاثم على صدري. أغمض عيني حينا أو أنظر إلى فاطمة التي لم تذق أجفانها النوم. زهرة حبلت بلون الظلام فانتشر السواد على محياها والطفل بين أحضانها يدنو من أمواج مستقبل غامض لا يقوى على الإبحار. شعرت بنفور من العجوز الذي اشترى هذه المسكينة من عائلتها بثمن بخس لتزيّن عباءة شيخوخته المنقوشة بألوان باهتة.
الساعة السابعة صباحا أعلن سائق القطار عن وصولنا إلى وجدة. التفتت إليّ فاطمة وقالت: من فضلك، هل يمكنك أن تمسكي ابني قليلا؟ أريد الذهاب إلى الحمام. ناولتني الطفل، طلبت منها ألا تتأخر كي لا يلاحظ ابنها غيابها ويبدأ بالصراخ. ابتسمت وقالت:" "سآتي بسرعة". وبينما تتأهب للخروج من عربة القطار حتى فتح زوجها عينا واحدة صارخا في وجهها: إلى أين أنت ذاهبة يا امرأة؟ أجابت والخوف يعتريها: "أريد فقط أن أذهب إلى الحمام." أجحظ عينيه صارخا:" من غير إذني؟! ألا تعرفين أن القطار مليء بالرجال؟" تلعثمت من قهرها:" وماذا أريد من الرجال؟ أريد فقط أن أذهب إلى الحمام." نهض بعصبية، أمسك بيدها وجرها كالطفل الصغير ثم غادرا العربة. لم أكن أصدق صفاقته مع زوجته. بدأت أحدّث نفسي كالمجنونة. لماذا هذا التعسف وسوء المعاملة؟ لماذا هذا الجبروت والاسترقاق؟ تساؤلات راودتني من غير جواب إلى أن أقبلت فاطمة مع زوجها الذي كان يزمجر بكلام غير مفهوم.
توقف القطار، أخذنا حقائبنا وتوجهنا إلى حيث الحدود المغربية الجزائرية، هناك تصطف سيارات الأجرة التي تأخذ الركاب إلى ليبيا. دخلنا إلى مكاتب الجوازات المغربية للإجراءات المعتادة. ترمينا خطانا في بلد آخر. لأول مرة تطأ أرجلي أرض الجزائر. صحراء قاحلة وليس هناك من شجرة تقينا من حرّ الشمس الحارقة إلا كوخ صغير من الصفيح تباع فيه القهوة والشاي، كان يعج بالمسافرين الرجال.
اقترب مني العجوز وقال:
_"هذه مائتا درهم مغربية، أريدك أن تصرفيها إلى العملة الجزائرية وأنت كذلك يجب أن تصرفي مائة درهم قد تحتاجينها لشراء مشروب أو قهوة في أرض الجزائر.
قلت له: لا أرى هنا مصرفا لتغيير العملة؟
ضحك مشيراً بيده إلى مجموعة من الشباب موزعين بشكل مبعثر هنا وهناك وقال:
هل رأيت تلك الجماعة من الرجال الواقفين هناك؟ إنهم يصرفون العملة.
نظرت إليه باستغراب وقلت في سريرتي، لماذا لم يذهب ويصرف نقوده بنفسه؟ لم يكن هناك إلا الرجال وهو الذي لم يسمح لزوجته أن تذهب إلى الحمام لكي لا يراها أحد. ضحكت بامتعاض قائلة في نفسي إن كان سيعتني بي كاعتنائه بزوجته فأنا لا أحتاج لذلك الاعتناء. أخذت الورقتين النقديتين واتجهت حيث السوق السوداء، اقترب مني رجل وقال بلهجة جزائرية:
_ وَاشْ ْبغيتي تْبْدْلِي العُمْلَة؟
قلت له: نعم، أريد تغيير ثلاث مائة درهم.
أعطاني مقابلها ثلاث مائة دينار جزائري ثم انصرفت. أعطيت للعجوز المائتي دينار واحتفظت بمائة لنفسي. نظر إلي بغضب وقال:
_" ماذا فعلت؟ لقد احتال عليك ذلك الرجل."
قلت بتعجب: لماذا احتال علي ؟
كنت أنظر إليه يحدثني من بين أسنانه:
_ إن العملة المغربية أعلى قيمة من الجزائرية، المفروض أن يعطيك تسعة دنانير زيادة.
قلت له: لماذا لا تذهب أنت وتصرف العملة بنفسك؟
أجاب بعصبية:" قُلْتْ زْعْما اْنتِ قَارْيَة وْمْتْعْلّمَة."
تمالكت أعصابي وقلت له ببرودة: "إنني غيرت النقود بنفس سعر البنك."
ردّ علي مزمجرا:" هذه السوق السوداء وليس البنك".
بعدها فقدت أعصابي وصرخت في وجهه: " كم ستربح علاوة على سعر البنك، دينارين أو ثلاثة دنانير؟ هاذي مائة دينار مني لك وكفّ عن فلسفتك، فأنا لست فاطمة.
أخذ نقودي ودسها مع باقي نقوده إلى جيبه. اتجهنا إلى حيث سيارات الأجرة. بدأت أشعر بتذمر وحيرة من خوف المكان ومن ضربات القدر الموجعة، منزعجة من مرافقة هذا العجوز الذي لا يكف عن تعكير الجو بكلامه الجارح لزوجته ومن الطفل الذي كان يبكي من شدة الحرارة، لكنني كنت أشعر بشيء من الحرية وأنا بعيدة عن أهلي، مستقلة بذاتي رغم إحساسي المريب بقطع حبال العودة إلى وطني. أما ليبيا فكانت بوابة لمطار آخر لشخص بلا حدود، يحتضن وحدته ويمتطي غيمة بحثا عن المجهول، دوامة يقتات منها أمله ولا يعرف متى وكيف وأين سيسقط لحظة ضعف.
ما زالت الشمس تقذف بحممها كسهام تخترق العظام، لم تكن هناك شجرة يحمي بها المرء نفسه من الشمس سوى ذلك المقهى الصغير المبني من الصفيح والمليء بالمسافرين وسائقي سيارات الأجرة. الرياح تعبث في كلّ الاتجاهات حاملة معها قصص ماضي وحاضر أولئك المسافرين الواقفين في طابور وسط تلك الرمال المحرقة وأنفاسهم منقبضة على تنشق الهواء الساخن. كل كان يحلم بغد تسقط فيه الأمطار وتتفتح فيه الزهور. تعبت من الوقوف ومن شدة الحرارة. أخرجت من حقيبتي قنينة كولا ساخنة ورغم ذلك شربتها. تضايقت من نظرات المسافرين لي ولفاطمة، نظرات تلتهم بنهم صدرها وهي ترضع طفلها وكأنهم يتساءلون عن تواجدنا داخل تلك الصحراء القاحلة وبين ذلك الحشد الغفير من الرجال. تملكني الذهول واعترتني دهشة وارتباك. قلت للعجوز:
_ أريد أن أصلي.
رمقني بنظرة استخفاف وضحك مستهزئا:
_ ما عمري شفت واحد يصلي بسروال الجينز."وَيْنِّي هاذي موضة جْدِيدَة!
_ لم أحتمل سخريته، صحت في وجهه قائلة:
_ لا غيرك في هذه الصحراء يشبه السعير! من سماك ابن الإيمان؟ الأجدر أن تسمى ابن الشيطان. أنا سأصلي ببنطلون الجينز وأنت أيها العجوز اللئيم لم يعد بينك وبين قبرك إلاّ شبر ولم أرك صليت قط!
ظل يحدّق في من غير أن ينبس بكلمة واحدة. ابتعدت عن مكان الطابور وغضب جامح يستفزني بكلّ حروف الأرض حزنا. لفّني سكون بسواد من الصمت ودثّرني توجّس وقلق. نظرت إلى أعلى فرأيت الغيم يلفّ سماء حالكة منذرا بقدوم ليل متجهم والرمال ستتناثر فجأة على متن عاصفة. دموع دافئة سالت وحجبت عني الرؤيا. جلست تحت تلك الشمس المحرقة بعيدا عن ذلك الشيطان العجوز، وبعيداً عن صراخ الطفل المسكين الذي كان يوجع قلبي كلما سمعت بكاءه ثمّ أصلي رافعة يديّ نحو السماء، أبحث عن ذاتي وسط تلك الرمال وتلك الرياح التي تسرق الهدوء الصاخب بالسكون ولا تستطيع أن تصد ذلك الغم الجاثي على صدري. بعد لحظات من الابتهال هدأت نفسي، حملت جسدي المتهالك إلى موقف السيارات، وجدت العجوز يجادل سائقا حول الأجرة. سمعت السائق يقول له:
_ ثلاثمائة وخمسين دينار للشخص الواحد !
_ هلا خفضت السعر؟
أجابه السائق: لا يمكنني أن أفعل ذلك لأن هذا هو السعر المتفق عليه والذي نأخذه من المسافرين إلى ليبيا.
لم تمر عشر دقائق حتى غادر السائق المكان وسيارته مملوءة بالركاب. أما العجوز فاتجه نحو سائق ثان يسأله عن التسعيرة. طلب منه ثمنا أغلى، تركه وذهب إلى سائق ثالث والمسافرون يغادرون بسرعة دون أن يجد سائقا يأخذنا بأجر أقل وكما يريد هو. أقفلت مكاتب الجمارك وغادرت الشرطة المكان، ولم يبق أحد في تلك الصحراء القاحلة إلا نحن وسبعة رجال من المسافرين كانوا يجلسون في ذلك المقهى الصغير الذي ينبعث منه ضوء الشمع الخافت. بدأت الشمس تغيب عن كبد السماء والطقس يشتد بردا، والظلام ينشر لونه الأسود الداكن على تلك الصحراء المنبسطة، والعجوز يزمجر ويسخط، أما زوجته فكانت تحترق في صمتها وكأنها غير مبالية بوجودنا في تلك الصحراء النائية، فهي موكلة أمرها لزوجها الذي يعرف كل شيء، وهو الذي يحسن التصرف، و صاحب الذكاء الذي لا يتمتع به أحد غيره.
سألته:
_ هل تعي ما تفعل؟ لم يعد أحد غيرنا في هذه الصحراء، وتعرف أن هذه المنطقة خطيرة قد تداهمنا جماعة البوليزاريو أو شرذمة من المتطرفين الجزائريين.
قالت فاطمة بصوت يلبسه الخوف:
_ من هو البوليزاريو؟ ومن هم المتطرفون الجزائريون؟
ردّ عليها مزمجرا: اسكتي يا امرأة، هذه أمور لا دخل لنا فيها، نحن لا نتدخل في السياسة، ولا نريد أن نعرف عنها شيئا. قلت له بعصبية: من طلب منك أن تتدخل في السياسة أو تعرف عنها؟ فمثلك مثل الدابة على الأرض.
ابتعدت عنهم قليلا، انتابني خوف وقشعريرة في جسمي خلقا لديّ شعورا غريبا في نفسي، وتهيأت لي تخيلات مريبة. رأيت ثلاث سيارات قادمات من الجزائر تقترب منا فتهيأ لي أنها جماعة من المتطرفين الجزائريين. هرعت إلى ذلك المقهى أصرخ: "عصابة قادمة إلينا!"
وقف الرجال الذين كانوا يجلسون في المقهى وقالوا بصوت واحد:
_ لا داعي للخوف، فالسيارات سيارات أجرة.
اطمأنت نفسي وأخيرا جاءت السيارات التي ستأخذنا إلى ليبيا. توقفت السيارات الثلاث قرب المقهى. نزل ثلاثة شباب في العمر نفسه تقريبا من سياراتهم. هرول الرجال نحوهم، كل واحد أخذ مقعده بعدما دفعوا أجرة الطريق، إلا العجوز كان يجادل أحد السائقين على الثمن وكان السائق يقول له بأننا لا نأخذ المسافرين بأقل من هذا الأجر، وسوط لسان العجوز يمتد ويمتد باستكانة مصطنعة:
_ لا أملك الكثير من النقود كي أؤمن أجرة الطريق.
قال له السائق: أنت حر في ما تملك.
تعجبت لبخل ذلك العجوز الذي أعطاه أبي نقودا عندما كان يودعنا بمحطة الرباط مساعدة له ولزوجته.
قلت له: هل تريدنا أن نقضي الليلة في الصحراء أو تريد أن تسافر مجانا؟
نظر إلي السائق وقال: هو حر.
قلت للسائق: كم تكلف أجرتنا نحن الثلاثة؟
قال: ثلاث مائة وخمسين دينار لكل واحد منكم.
أعطيته النقود فأبى أن يأخذها مني قائلا:
_ اتركيه ربما ستأتي سيارة أجرة وتأخذه بالمجان.
انتابتني لحظة من كآبة، رسمت صمتي على مساء الصحراء المتأخر وضوء القمر السارح في فلوات الرتابة ثملا تحت الغيوم وفوق النجوم ... أرعبني ذلك الارتسام.
قلت للسائق في تحدّ: من فضلك خذ النقود ودعنا نغادر هذه المنطقة.
قال: لن آخذ سوى أجرتك فقط.
- لا يمكنني أن أغادر إلا بصحبتهم !
استغرب السائق وقال: هل جئت مع هذه العائلة؟
كنت خائفة منه وخائفة من العجوز الذي تحول من حمل وديع إلى ذئب مفترس، خائفة من الليل ومن شدة البرد الذي بسط سطوته على الصحراء، كدت أفقد أعصابي، وأحسست أن عقلي سيطير من رأسي.
قلت للسائق:" يا سيدي، إن هذه العائلة عائلتي وسأقيم عندهم في ليبيا.
ضحك وقال: معذرة اسمحي لي، لا أصدق أن هذا الرجلَ من عائلتك.
قال العجوز والبخل يطل من نظراته: سأدفع لك النقود عندما نصل إلى ليبيا.
قال السائق: ومن سيضمن لي بأنك ستدفع النقود عندما تصل إلى ليبيا؟
نظرت إلى السائق وقلت له بسرعة: أنا، وهذا جواز سفري خذه ضمانة.
لم يقل العجوز شيئا.
نظر إلي السائق وقال: أستغرب من أمر هذه العائلة وأمرِك. سآخذك وهذه العائلة من غير ضمانة منك وأكتفي بوعد منه.
التفت إلى العجوز وقال: إنك محظوظ، لو لم تكن مع هذه الفتاة لما ركبت سيارتي.

تنفس العجوز بعمق، فتح باب السيارة الأمامية. استوقفه السائق:

_ مهلا، هل تريد الجلوس بجانبي؟

_ نعم، النساء مع بعضها وأنا أجلس بجانبك.

السائق: فكرة جيدة لكن، أفضل أن تجلس بقرب زوجتك وابنك. والأخت تتفضل في المقعد الأمامي.

انطلقت السيارات الثلاث داخل تلك الصحراء الموحشة متوغلة في الظلام الحالك، متعبة أنا ودفء السيارة يأخذني في نوم عميق تحت تقلبات أنهكتها كوابيس مبتلة بسراب المجهول وبعد أربع ساعات تقريبا توقفت السيارات الثلاث أمام مقهى في إحدى مدن الجزائر الصغيرة. نزل الجميع لتناول العشاء. اصطف السائقون الثلاثة حول إحدى الموائد التي في وسط المقهى والرجال السبعة حول مائدة أخرى. أما العجوز فتوارى بزوجته في إحدى زوايا المقهى بعيدا عن العيون الثائرة والمثرثرة التي تهوى الجديد. دخلت إلى الحمام، غسلت وجهي ثم رجعت إلى السيارة وأنا في وحدتي وملاك الظلام يهمس من حولي دعي الفلك تجري ولا ترقبي فأنت التي اخترت العوم في الفضاء . فتحت حقيبتي. تناولت وجبة سفر ذات متعة خاصة تداخلت فيها حيرتي وهيامي وهمّي. أنظر من خلال زجاج السيارة الأمامي إلى البيوت المتباعدة تبدو كأكواخ ضربتها الريح سنوات، منظرها يوحي بعمر طويل بالخراب والقدم. فجأة سمعت أحدا ينقر على النافدة، إنه سائق السيارة، نظر إلي مبتسما وقال: ألا تريدين النزول للعشاء؟ رفعت عيني أحدق فيه وحولي إطار رهيب من الخوف.

ترددت أول الأمر إلا أنني وافقت وتبعته إلى المقهى حيث الزبائن مشغولون بالأكل والحديث الصاخب. جلست مع السائقين الثلاثة حول مائدة بوسط المقهى. قال أحدهم مشيرا إلى العجوز وزوجته:

_ هل أنت مسافرة مع تلك العائلة؟

نظرت إليه بحزن، مستسلمة لصمتي وكأنني أتكتم على سر. فوجئت بسؤال آخر منه.

_ كيف لم يسألك تناول العشاء معهم ؟

ارتبكت خجلاً ولم أدر كيف نطقت بتلك الكلمات التي كانت تجوب خاوية بداخلي، تفجرت وكأن شخصا ما في داخلي هو الذي يتكلم.

_ أنا لا أحتاج منه دعوة ولا أحتاج نقودا، فعندي ما يكفيني، و لا أشعر برغبة في الجلوس معهم.

قلت كلامي ذاك وندمت.

قال أحدهم: مادمت لا ترتاحين له فلماذا تسافرين معه؟

كانوا ينظرون إلي باستغراب وفي صدري نصل يستل روحي لتمضي بعيدا، ترددت لحظة ووجدت نفسي أشرح لهم أمري مع ذلك العجوز وزوجته، متحفظة في كلامي أخفي همومي وأسراري، وعيونهم فارغة تنبثق منها علامات التعجب والاستفهام، يتطلعون إليه بين الفينة والأخرى متأففين مستهجنين.

قال السائق: أعرفك بنفسي، اسمي سمير وهذا رفيقي زكريا وهذا ابن عمي سهيل. اطمئني فنحن معك وسنحميك منه ومن غيره، أنت آمنة إلى أن تصلي إلى ليبيا.

نظر إلي كل من سهيل وزكريا بابتسامة وكأنهما يؤكدان كلام صديقهما. لأول مرة بعد يوم وليلة من تعب السفر استمتعت بوجودي مع شبان يتحدثون في شتى المواضيع المختلفة والجديدة علي. كانوا يَشترون السيارات من إيطاليا و فرنسا، يسافرون بها إلى المغرب ثم يحملون الركاب إلى ليبيا بعد ذلك يبيعونها في طرابلس ويغادرون إلى أوروبا لشراء سيارات أخرى. كان سمير لا يكف عن الضحك والنكت. نسيت للحظات ابن الإيمان وأحسست لأول مرة أنني مستقلة عنه.

حان وقت الرحيل، اتجه كل واحد منا إلى سيارته وانطلقت السيارات الثلاث تاركة خلفها تلك القرية الصغيرة لكي تصبح ذكرى من ذكريات الطريق الممتد إلى داخل الصحراء القاحلة والمظلمة حينا.

سأل العجوز سمير: متى سنصل إلى ليبيا؟

أجابه: بعد يومين ونصف، لأننا نمر من أقصى جنوب الجزائر.

قطب العجوز جبينه، لم يعجبه الجواب وقال: لم أفهم ماذا تعني؟

قال سمير: مساحة الجزائر من الجنوب عرضا أطول من مساحتها من الشمال.

لم أعرف لماذا اختاروا تلك الطريق الطويلة و لم أسأل سمير عن السبب. ما يهمني أننا في طريقنا إلى ليبيا. التزمت الصمت داخلة أحراش جسدي، كما تركت فاطمة في صمتها الأسود كالجريح على شاطئ الوقت يخترق الدخان دمها واكتفيت بأسئلتي تتناطح بداخلي. وجهها ضاعت صفاته عبثا على درب بلا قدر، لا أعرف لماذا أفكر فيها، فحلمي أيضا بين صوت وموت وثلج ونار. التفت إليّ سمير وقال:

_ أين ذهبت بفكرك؟ هل تحبين موسيقى الراي؟

قلت بسرور مصطنع: أعشق موسيقى الراي وخصوصا القديم منه لأنها إيقاع جزائري محض.

- ليس عندي إلا الجديد منه، هل تحبين سماعه؟

وضع شريطا داخل جهاز التسجيل. كانت موسيقى جميلة، زادها جمالا تلك الطريق الطويلة داخل الصحراء الهادئة والليل الذي يجنح مرخيا سدوله على كل الجهات. حملني اللحن إلى عالم الأحلام بالمستقبل الجميل وبالحرية وعدم الخوف والرعب من السر الخطير ومن زوج المستقبل الذي كنت أخشى قدومه.

بعد انتهاء الشريط التفت إلي مبتسما وقال: هل سمعت آخر النكت المغربية؟

فاجأني بسؤاله فأنا لست متعودة على المزاح وخصوصا مع الجنس الآخر.

- سألته متلعثمة: ما هي آخر نكتة؟

- أنت التي جئت من المغرب، أسمعيني ما عندك.

تبدّدت سحابة الخجل عن وجهي وقلت بارتياح مرتبك قليلا.

_ إنني أحب سماع النكت، لكن لا أحب أن أرويها لأنني لا أُضحك أحدا. مرة كنت أروي نكتة لإخوتي فعندما انتهيت من إلقائها كانوا ينظرون إلي.

سأل سمير مظهرا ارتياحه بالتحدث إلي: لماذا؟

كانوا يظنون أن النكتة لم تنته بعد. فقال أحد إخوتي وبعد؟ قلت له ليس هناك بعد ولا قبل تلك هي النكتة، فانفجروا ضاحكين.

بدأ سمير يضحك. فشعرت بسخونة في جسمي خجلا. سألته متلعثمة:

_ هل تضحك علي؟

- لا، لكن ما رويته الآن فهو نكتة.

بدأ يروي نكتة تلو الأخرى وأنا أضحك. بعدها أمسك بشريط ثان للراي وقال: لنسمع شيئا من الموسيقى.

ما زالت الصحراء مختفية خلف الظلام، مغطاة ببساط من السكون المرتخي الذي قاطعه فجأة بكاء الطفل وصراخُ العجوز لزوجته.

_ أَسكتي ابنك يا امرأة، صراخه يزعجني.

لم أرد أن أفكر في أمرها ولا أمر زوجها لأنه لا يزيد في روحي إلا قلقا وغضبا، خفّضت صوت الموسيقى وسألت سمير:

_ هل تتقن اللغة الإيطالية جيدا؟

ضحك وقال: من طبيعة الحال، إنني أسكن في إيطاليا.

_ أسمع أن اللغة الإيطالية قريبة من اللغة الأسبانية، هل هذا صحيح؟

_ نعم، اللغتان تتشابهان كثيرا في النطق وفي معظم كلماتها؟" هل تتكلمين أنت اللغة الإسبانية؟

- درست الإسبانية في الثانوية كما أن أمي كانت تساعدني في إجادتها. هي من سكان طنجة لكنها سودانية الأصل، وأنت تعرف أن طنجة كانت تحت الاحتلال الأسباني.

- أنا أمازيغي، من مدينة تافراوت درست اللغة الأسبانية أيضا في المغرب.

بعدها بدأ سمير يخاطبني باللغة الإسبانية، أعجبته اللعبة، ربما أراد أن نستقل بحوارنا ونبتعدَ عن عالم العجوز الذي كان يزعجه من حين إلى حين بأسئلته. تحدثنا طويلا في مواضيعَ مختلفة. ارتحت لنقاشه كثيرا وكأنه أزال عن قلبي بآرائه المنفتحة شيئا من تعاستي. نادتني فاطمةُ بصوت منخفض وقالت:

_ هل يمكن أن نسمع أغنية الشاب خالد عن الغربة؟

سألتها: أي شريط تقصدين؟

قال سمير: ماذا تريد؟

- إنها تريد أن تسمع الأغنية التي تتحدث عن الغربة.

بينما سمير يبحث بين الأشرطة محاولا إيجاد الشريط، سمعت الّلكم والضرب وفاطمة تصرخ:

_ ماذا فعلت؟ لم أفعل شيئا. أنا فقط سألت غالية إن كان ممكنا سماع أغنية الغربة، هل هذا حرام؟

بدأ الطفل يصرخ بين يديها بعدما كان هادئا على غير عادته. أذهلني منظر العنف والظلم من دون سبب. لم أتحمل أن أرى فاطمة وهي تُلْطَم وتُضرَب ويختفي فجأة صراخها داخل صمت الخوف لتزحف روحها المرتعشة وراء تلال تلك الصحراء. صرخت في وجه العجوز:

_ كفّ عن ضربها، هذا حرام.

قال لي وهو ينظر إلي بعينين تقدحان شررا: ماشي شغلك! هاذي مْرَتي وأنا حر فيها.

خفّض سمير من سرعة السيارة وقال بصوت هادئ:

_ أنت حر في زوجتك وأنا حر في سيارتي، فهلا أوقفت الضرب عنها أو تنزل من السيارة حالا. تعبت من تصرفاتك الحقيرة في سيارتي.

توقف العجوز عن ضرب زوجته كما توقف ذلك الحوار الجميل الذي كان يجري بيني وبين سمير. رجعت إلى واقعي وإلى التفكير في مستقبلي المجهول معه ومع زوجته في ليبيا، معزولة داخل أفكاري، مخذولة أتمتم من قهري، هذه المرة شعرت بخوف من المغامرة التي أنا قادمة عليها، فعدَلت عن الكلام، والتزمت الصمت، أنظر من النافدة إلى تلك الصحراء المظلمة أبحث فيها عن رؤية لذلك المستقبل الغامض في بيت العجوز، لم أستطع أن أتخيل شيئا سوى الظلام الحالك. ارتعشت فرائصي من منظر ذلك السواد القاتم، أغمضت عينيّ كي لا أرى شيئا. خفف سمير من سرعة السيارة، أخرج لحافا من تحت المقعد الذي يجلس عليه ثم غطاني. بعد ساعة تقريبا توقفت السيارات الثلاث قرب محطة البنزين، هناك سنقضي الليلة بداخل السيارة وفي الصباح الباكر سنواصل السير. نام الجميع أما أنا فكنت أفكر في مستقبلي وفي حالي مع العجوز الذي تصعب مرافقته. كرهت التفكير حدّ الموت في تلك اللحظة فأحدث ذلك صداعاً في رأسي لكنّ التعب أثقل أجفاني وصمت الصحراء يرسل نغماتِ وهمية من الناي وأصوات الريح ترتطم بحبات الرمل على هيكل السيارة لتصنع إيقاعات كأنها حفلة عرس وهذا الهاجس المرسوم بلون التعب يتمحور بداخلي ويتحوّل إلى كابوس. حلمت أنني عروس أجلس فوق كرسي ذهبي والنساء يزغردن والبنات يرقصن وبعد ساعات طويلة من الغناء والرقص، جاءت امرأة طويلة وسمينة، أمسكت بيدي بقوة ثم قادتني إلى غرفة النوم حيث كان العريس ينتظرني واقفا داخل جلبابه الأبيض ووجهه مغطى بقناع أسود يحجب رؤية وجهه. دفعتني إليه بقوة. أمسكتني بيدين خشنتين وقويتين، ثم وضعتني تحت جسمه وأنا أصرخ وأقاوم ودمعي مغترب عن المألوف. كانت تنظر إلي وتقهقه بصوت يعلوه شبق لممارسة النشاز، بين عينيها وشم أخضر وأسنانها طويلة صفراءُ سوداءُ متفرقة وعلى رأسها منديل أحمر، كانت تضغط على رجلي لتحد مقاومتي وتقول لي، اهدئي واسترخي فهذا ليس بأمر صعب. تشنجت عضلاتي ولم أعد أستطيع الحركة. العرق يتصبب من كل جسمي وجدائل رعبي تنتحب في توسل. ضَحِكَتْ وضحك العريس ثم أزال القناع وكشف عن وجهه، كان العريس هو العجوز ابن الإيمان. فتحت عينيّ أصرخ وألهث، فإذا بي أسمع صوت العجوز يقول:

_ ما هذا الصراخ؟

التفت إليّ سمير وقال: لا تخافي إنه فقط كابوس مزعج.

مسح بيده على جبهتي المتعرّقة وقال: قولي بسم الله فلن يعاودك الكابوس مرة أخرى.

لم أكن أستطيع النوم. بدأت أحدق في جدران مساماتي لكي ألملم ذاتي. أحاول انتشال جسدي المحموم في كابوس رحلتي، مختنقة بسعالي ونظرات سمير تقول لي لما لم تنامي بعد! وهاجسي يقول لي لا أريد أن أحلم مرة ثانية.

ها قد نام القوم، وبقينا أنا وسمير نصارع التناجي والتنافر والقبول. قالها هذه المرة جهارا: حاولي أن تنامي. كان لكلمته وقع الصدى في دماغ أنهكه التفكير والترحال والتجوال بين طقوس الذات والآخرين من حولي. رميت برأسي على كتفه دون سابق إنذار ورمى هو بيده في يدي بإذن الصمت المحموم بالطمأنينة والأمان ونمنا بالحد الفاصل ما بين الحلم واليقظة والطفولة. يداه الجميلتان تلعبان بشعري وتعبثان بوجهي، توقظني من نومي بابتسامته الجميلة على إيقاع الصباح وإذا بأمه تعتذر لي وتقول بلغتها الأمازيغية: ابني يحبك كثيرا ودائما ينظر إليك، ثم التفتت إلى زوجها الذي كان مازال يغط في نوم عميق، أحسست وكأنها تريد أن تقول لي إن ابني يأبى أن يلعب بلحية أبيه الشيطانية وها هو يلعب بشعرك. مازلت أجمع أشلائي من غفوتي لعدة ساعات، انتبهت أن سمير مازال ممسكا بيدي، شعرت بخجل، سحبت يدي ببطء شديد لكي لا أوقظَه. ثم اتجهت إلى ذلك المطعم الصغير بجانب محطة البنزين. اغتسلت ثم ذهبت إلى حيث رمال الصحراء الذهبية، غير مبتعدة عن مكان السيارات، أنظر إلى أفق تلك الصحراء الممتدة بلا حدود، هامسة استغيث الندى وأفكر في اليوم الذي سنصل فيه إلى طرابلس، متسائلة في نفسي إن كنت سأمكث في بيت العجوز أو أبحث عن شقة صغيرة أسكن فيها ريثما ألتحق بالجامعة. وبينما أنا غارقة في تفكيري من كهف الخوف المرشوش بسري الخطير، وقف أمامي سمير.

_ صباح الخير غالية. هل نمت جيدا؟ أنت أول من استيقظ، يظهر أن بالك مشغول جدا.

- هل تقرأ أفكاري؟

- أبدا، لكن بالي مشغول عليك خاصة بعد كابوس الليلة. لاحظت أنك لست مرتاحة في رحلتك مع العجوز وزوجته.

تعجبت من كلامه وكأنه عاش الكابوس الذي رأيته في منامي، سألته مستغربة:

_ كيف عرفت ذلك؟

ابتسم وقال: المسألة لا تحتاج إلى عناء التفكير. هيا بنا نفطر زكريا وسهيل ينتظرانا.

نهضت من مكاني واتجهنا إلى المطعم. قال سهيل و زكريا بصوت واحد:

_ صباح الخير.

رددت التحية وجلست في مكاني، وبينما كنت أشرب كوب الحليب كان زكريا وسهيل ينظران إلى سمير ويتغامزان، قال لهما بارتباك:

_ ماذا بكما ؟ أفطرا بسرعة فإن أمامنا طريق طويل.

قال له سهيل باللغة الإنجليزية: وجهك شاحب ألم تنم جيدا؟

التفت زكريا إلى سهيل وقال: يظهر أنه كان هائما في الغرام.

رد سمير بعصبية: كفاكما من الحديث بالإنجليزية، عيب أن تتكلما بلغة لا تفهمها الفتاة.

شرب الشاي بسرعة، أخذ قطعة خبز بالجبن في يده وأسرع إلى السيارة. قلت لهما وأنا أبعد عن نفسي آثار الارتباك:

_ لماذا لم ينه سمير فطوره ؟

قال زكريا: لا عليك فهو دائما مستعجل.

أفطر الجميع واتجه كل إلى سيارته ثم انطلقنا متوغلين بعمق الصحراء.

لامارا 14-11-13 09:33 PM

الفصل الثالث

انكسار



انبهاري بطبيعة الصحراء يجعلني أغفو كطفلة تحت زرقة السماء الصافية وأسرح على أنغام موسيقى الراي المنبعث من مسجلة السيارة، وتعود بي الذاكرة إلى سطور الحوار الذي دار بين سمير وزكريا وسهيل باللغة الإنجليزية. هل هو إعجاب أو تجاوب من نوع آخر، أو مجرد وهم يمشي على إيقاع الماء سرابا؟ صحوت من حلم اليقظة على ذكريات نكته المضحكة. أطلسي مصبوغ بلون المغرب، فيه سحر البحر وجمال الطبيعة، تعلو وجهه صفاء السماء. باسق كالنخل، رشيق كالغزال دافئ كالشمس. أدمنته ثم أدمنت حواره، نكته وروحه الندية. رائحة عطره كالمسك كالياسمين تعبق على أهداب الغيم رذاذا. تهافتت أسئلة بداخلي، هل سيأتي المطر ويروي أغصاني الظمأى ويحضنني الربيع بين أزهاره وعلى راحته أم أن الخريف سيسبقهم ليتلاعب بأغصاني ويتركني وحيدة أرثي نزيف فؤادي وأبكي غربتي وحضوري وغيابي؟ فجأة أحسست بغصة في حلقي، جرجرت أنفاسي المنقبضة، اغتالت هدوئي وفجرت دموعي العطشى بهدوء وغضب وانكسار.

_ لماذا تبكين؟

قالها لي بلغة غير العربية. كان يتعمد التحدث بهذه اللغة عندما لا يرغب في شريك ثالث بيننا.

قلت: لا، أنا لا أبكي.

- بلى، أنت تبكين. امسحي دموعك فأنا لا أحب أن أراها.



وضع شريطا ثانيا للراي وظل الصمت يعم السيارة، ما عدا الطفل الذي كان يبكي من فترة لأخرى. تمددت على مقعدي أقرأ قصة الطاهر بن جلون التي تحمل عنوان "طفل الرمل"، علّها تنسيني تجوالي وترحالي وذلك السر الذي يقلق عليّ مناماتي. إلا أنها لم تسعفني على الهرب ولا النسيان. أحسست وكأن الكاتب يقول لي إلى أين أنت هاربة؟ ليس لك طريق غير طريقنا ولا حياة غير حياتنا، أفكارنا غرسناها في خلاياك، تحت أجفانك، في جداول صمتك وحديثك، في يقظتك وأحلامك كما نسجناها عباءة لتستر جنون أنوثتك المتعرية أمام الحشمة. وضعت الكتاب بعصبية بجانبي. التفت إليّ سمير وقال:

_ ما بك؟ لاحظت أنك عصبية جدا منذ الساعة التي خرجنا فيها من المقهى.

- أتألم للناس المظلومين، ليتامى المجتمع الذي يفتك بالإنسان.

- آه! كم أنت متشائمة.

سألته إن قرأ كتاب الطاهر بن جلون؟ ضحك وقال:

_ قصة ابن الرمال! قرأتها. هل هذه التي جعلتك تتألمين؟

- نعم، هذه القصة أرّقتني، عذبتني، جعلتني أبكي وأحمل نعش الضمير الذي ينتحب فقدان القيم.

نظر إلي بعينين مبتسمتين فيهما شيء من الاندهاش وقال: هل أنت أبو العالم؟

فتحت عيني مستنكرة وقلت عن استياء: هل السكوت على الباطل حق؟

- أنت لست داعية. أتركي هذا الأمر لأهله.

- قلت له بعصبية: من أهله؟

أجاب بابتسامة: الكتّاب والصحافيون ودعاة الدين والسياسيون وغيرهم.

كلمة الحق التي يلفظها بعضهم يغتالها الآخرون بطلقة نفاق أو يجرونها بعيدا وراء قضبان الردّة أو الحسبة.

ذاكرة الماضي ارتشفته واختلسه الشرود بعيدا حيث نداء يسكنه جنون غير مسموع ويذوب حرقة من مطاردة البكاء. دمعة نزلت في ارتباك أرجعته وهو يلملم ما تبقى من فتات الأسى قال بصوت حزين:لي أخت واحدة، كانت أمي تدربها دوما على كيفية الجلوس باحتشام والتحدث باختصار وحياء، هَمُّ عائلتي أن توفق أختي بعريس وبحياة عائلية سعيدة، دون الإشارة إلى وجوب بلوغها مراتب العلم والثقافة التي تُعْتَبَرُ بنظرهم أمرا ثانويا. المهم أن تتعلم الطبخ وتنظيف البيت. اللعب خارج البيت وركوب الدراجة والقفز على الحبل ممنوع لأن ذلك قد يفقدها عذريتها. أما أنا فكنت الولد، لا هم لأهلي سوى نجاحي في المدرسة ونيل الشهادات العليا لكي أؤهل لمركز مرموق وكانوا مستعدين لأي شيء حتى ولو اضطرهم الأمر أن يبيعوا كل ما يملكون كي أحقق النجاح. لاحظت أختي تلك المغالاة لكنها لم تكن تملك الشجاعة لتواجه والديّ أو تناقشهم أو ترفض أوامرهم. فتأتي إليّ وتسألني، لماذا يفضلونك عنّي؟ لماذا يعاملونني كمخلوق خلق فقط للزواج وتربية الأولاد وتنظيف البيت. هل أنا فقط التي سأتزوج؟ لم أكن قادرا على تغيير شيء، أخرج إلى الحارة وألعب مع الأولاد لأن عرفنا ينص على أن يلعب كل مع جنسه وإلا حصل ما هو غير مرغوب فيه في نظرهم!

سألته: ماذا تعني؟

قال: إن مجتمعنا يخاف اختلاط الفتيات بالأولاد في المدرسة أو خارجها لكي لا يحصل الاحتكاك الجنسي.

- الجنس! الجنس! أليس في الدنيا شيء غير الجنس؟

- سأل وهو يبتسم: هل أنت ممن يحبذون ممارسة الجنس قبل الزواج يا غالية؟

- بالطبع لا، لكنني أؤيد التوعية. الفتاة في مجتمعنا تخدم في منزل أهلها، ثم تنتقل إلى الخدمة في منزل الزوج وكل التغير الذي حصل تبديل الوالدين والإخوة بالزوج والأطفال، أما الفتى فتراه في الطريق يغازل الفتاة وفي الحافلة يلتصق بجسمها وفي الأماكن الخالية من الناس قد يغتصبها وأحيانا يقتلها لكي لا تفضحه وينتهي في السجن.

– لكن كيف يتمكن الوالدان من تربية ناجحة إن كانوا هم بدورهم افتقدوها من والديهم وتوارثوا التخلف والقمع؟ كثير من العائلات لا تذهب بناتهم إلى المدرسة خصوصا في القرى، فترى الفتاة في سن الحادية عشرة تحمل مسؤولية كبرى وصعبة. إن منطق الأسرة الذي تعتبره منطقا سويا وصحيحا هو إعطاء ابنتهم الكبرى نصف دزينة من الإخوة والأخوات لرعايتهم، فتقوم بدور الأم وقد يكون أبوها موظفا بسيطا ووالدتها أمية أو شبه أمية، يضاف إلى ذلك عدد لا يحصى من الخالات والعمات يتزاحمن في الحي الشعبي، فتخوض الفتاة معركة يومية لتثبت جدارتها كربّة بيت ويقول عنها والداها وعماتها والجيران في الحي أنها بنت ذكية، تعرف القيام بكل واجبات البيت والزوج، من تنظيف وطبخ ومراعاة لإخوتها فيرضى عنها الوالدان، كما يرضى عنها العم والخال و الجيران وتكون من المرشحات للزواج وتتسابق عليها نساء الحي لخطبتها من والديها.





ظل مسترسلا في حديث موجع عن أخته قاطعته سائلة إن كان كلّ البنات اللواتي يذهبن إلى المدرسة يغتصبن؟ رمقني بعينين مثقلتين بحزن عميق وقال بهدوء مصطنع:

_ بالطبع لا. لكن المدرسة التي كانت تدرس فيها أختي، كان بالقرب منها مشروع بناء منازل للموظفين، وكان عشرات من البنائين يعملون في ذلك المشروع لكي توزع المنازل على الأهالي الذين يعانون من أزمة السكن. في يوم اغتصبت أربع بنات أثناء عودتهن من المدرسة وشوهت وجوههن. اكتشفت الشرطة أن مرتكبي الجريمة جماعة من البنائين، بعدها أقسم أبي ألا تذهب أختي إلى أية مدرسة و رغم نواح أختي وبكائها لم يستمع لتوسلاتها فاعترتها نوبات عصبية، ولا تكلم أحدا سواي لأنني كنت أصغي إليها وأحس بمعاناتها، أما أبي فكان يصرّح جهرا أمام الأقارب والأصدقاء، بأنها عنيدة ورأسها يابس وينعتها بنعوت تنصبّ عليها بدون أي حق. والأغرب من هذا يقول بأن عنادها فطري لأنها تشبه أمها.

حديثه عن أخته جعلني أحس بارتياح نحوه وبانجذاب لم أكن أستطيع تفسيره ولا مقاومته، أنا التي أكره الرجل وجدته حنونا عطوفا يصف الحقيقة عارية كما رآها وهو طفلا، يتألّم لمجتمع استباح إنسانية أخته وعبث بطفولتها، استمع إليه كالمخطوف لأوجاع في أوردتي وزغاريد تسبح مع مساء صوت الصحراء ومن خلفي طيف عقاب يتبعني وأنا أجري، يخدعني كالسراب وأنا ظمأى. رغم تجنبي أن يعرف شيئا عن حياتي الشخصية، وجدت نفسي أشاركه الحديث. أحدثه عن أبي

الذي يملك مشروعا تجاريا يدر أرباحا طائلة، وكان يغدق على إخوتي من الذكور نقودا ينفقونها بين الملاهي والسينما، أما أنا إن أردت شراء كتاب لابد لي من مقدمات وأخبر أمي أولا، لأنني لا أستطيع أن أطلب أبي مباشرة، فهو لديه ما يصرفه على الذكور أو الضيوف الذين يتوافدون إلى بيتنا كالسيل. هذا يريد مساعدة مادية لأنه من غير وظيفة، وذاك يريد إجراء عملية وليس لديه ما يكفيه لنفقات المستشفى، والآخر له قضية معطلة بالمحكمة، كنت أنفر لذلك الكرم المبالغ فيه. أنا وأخواتي أولى بتلك النقود. كنت أميل إلى كتابة مذكراتي، لأعبر عما يضجّ في عقلي من ضوضاء أفكار وتأملات. ما كنت أكتبه أحتفظ به لنفسي، لا أحد يفهمني أو يحاول فهمي ولم أكن أثق بأحد ولم تكن لدي صديقات.

- لماذا يا غالية؟ إن الصداقة شيء مهم في حياة الإنسان.

لم أجرؤ أن أقول له بأنني أختلف عنهن، أكتم سراً ملعونا يتبعني. لم أجرؤ أن أقول له بأنني أحسد كل عذراء لأنها تتمتع بالاطمئنان على مستقبلها، أما أنا فكنت أنتظر نهايتي على يد خنجر يعدني بالإعدام. الزمن يجري وسأصبح في تلك السن التي يٌحَتَّمُ علي أن أقبل الزواج من أي رجل يطرق باب بيتنا. بقائي خارج إطار الزواج يسيء إلى مركز عائلتي الاجتماعي وزواجي يكفيهم همي، لكن همي أنا لا أحد يعرفه. لم أجرؤ أن أقول له بأن قلبي أصبح مرتعاً للخوف والرفض تجاه كل شيء. أكره أمي وأبي و المجتمع الذي لا يرحم وإخوتي الذكور والرجال والبنات وأكره... وأكره.... ثم انفجرت أبكي... أوقف السيارة ثم ضمني إلى صدره فأحسست بدفء وطمأنينة، برعشة في كل جسمي لم أحس بها من قبل.

قال بصوت رخيم: اهدئي يا غالية، لا تبكي أنت فتاة قوية وذكية لا يخاف عليك.

كنت أتمنى أن أبوح له بذلك السر الخطير، لكنني خائفة أن يكرهني و ينفر مني بعدما وجدت لأول مرة في حياتي رجلا يفهمني، وكأنه يعرفني منذ سنوات خلت. كان العجوز مستغربا مما يجري حوله، مستغربا من بكائي ومن ذلك الحوار الطويل الذي يجري بيني وبين سمير من غير أن يفهم كلمة واحدة منه، مستغربا من سمير الذي يضمني إلى صدره.

قال بعصبية وبصوت مرتفع: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم. ماذا أرى! هذا أمر لا يُسكَتُ عليه.

قال له سمير ببرود: لماذا تقول أعوذ بالله؟ هل أنت تعرف الله؟ لو كنت تعرف الله لما تزوجت امرأة في سن حفيدتك؟ و أحسنت إلى هذه الفتاة التي أَّمَّنك أبوها عليها.

قال العجوز: أبوها؟ أنا سأقول لأبيها.

قال له سمير: هل ستقول لأبيها بأنك أخذت نقودها وأنت لا زلت في الحدود المغربية أو ستقول له بأنك تدفع ثمن غذائك وغذاء زوجتك، وغالية تأكل الساندويتشات التي جاءت بها من بيتها، أم ستقول له بأنك تتمنى لو تدفع ابنته عنك وعن زوجتك أجرة السفر. ماذا ستقول له أيها الرجل؟

لم يستطع بعدها العجوز أن يقول شيئا، ولم يتمتم بكلام غير مسموع، التزم الصمت متعثرا في صدى الغضب، أما زوجته فكانت مثل الصنم، لا يُسمَعُ لها صوت ولا حركة. تَعَوَّدتُ على سكوتها وانزوائها، فالله وحده يعرف سبب ذلك الصمت المطارد بالخوف والقلق.

أدار سمير سيارته وانطلق بسرعة لكي يلحق بالسيارتين اللتين سبقتانا، وضع شريطا لجو دا سان في جهاز التسجيل وقال هذه الأغنية لك أهديها. شعرت بسخونة في وجهي، إيقاع الموسيقى انساب إلى روحي كنهر هادئ وكلماتها تعلن عن رسائل رومانسية عذبة شدّت انجذابي وهو يرددها ويلتفت إلي تارة، وتارة أخرى ينظر أمامه.

إن لم تكوني موجودة... لماذا أكون أنا

وأمشي ... وأمشي بلا أمل... بلا لهف

إن لم تكوني موجودة... لماذا أعيش أنا

بلا أمل .... بدون تعطش إليك ... بدون شوق إليك

إن لم تكوني موجودة ...

سأكون كرسام يرسم لوحة بألوان النهار

ولم يعد لإتمامها ...

إن لم تكوني موجودة... ما النفع من وجودي أنا ....

إن لم تكوني موجودة ...

سأكون كقطرة من مطر... ضائعا... تائها

مشتاقا إليك... متعطشا إليك ...



في عالم يأتي... ويروح

إن لم تكوني موجودة ...

قولي لي كيف سأعيش أنا ....

إن لم تكوني موجودة ...

سأحاول أن أكون أنا ...

لكنني سأكون زائفا ...

سر الحياة أنت... سر الحياة أنت ...

إن لم تكوني موجودة... لماذا أكون أنا

وأمشي ... وأمشي... بلا أمل...

بلا شوق .... إليك ....



سعادة سرت في روحي، أضاءت ظلامي كمصباح من الفرح المبلّل بالبكاء. اجتاح أغلالي، أصبح فارس أحلامي الذي ما كان ممكنا لقاؤه ولو في الأحلام. تمنيت أن تسير بنا السيارة إلى ما لا نهاية وأظل أنا أتحدث إليه لأن ذلك يخفف عني. لم أطمع أكثر من تلك النظرة التي كانت تشع حنانا، وتلك اللمسة الدافئة التي تذيب شيئا من ذلك الكره الذي يسكنني. أحببت فيه انفتاحه، ثقافته وثرثرته معي عن خصوصياته. كان أستاذا للفلسفة في المغرب. قرر الهجرة إلى الخارج بعد ما تزوجت الفتاة التي كان يحبها من مقاول البناء رغما. أمرها أبوها أن تنسى سميرا لأنه ليس إلا مدرسا، لا يملك مالاً ولا سلطة بالبلد كالحاج الحسن المقاول. تزوجت الفتاة بالمقاول وكانت الزوجة رقم ثلاثة. أما سمير فهاجر بعدها إلى إيطاليا. هناك عمل في تجارة السيارات وكون ثروة لا بأس بها، واشترى بيتا بميلانو وشقة بباريس، شخصية غريبة، نبقى ساعات نثرثر في شتى المواضيع، التي تنسيني في تلك اللحظات كل شيء يزعجني، سفري المجهول وسري الخطير. أهو الحب؟ أنا لا أعرف الحب ولا أريد أن أعرفه، فقلبي تعود على النفور من كل شيء، حتى من أقرب الناس إليّ. أرفض سماع دقات قلبي التي تقول لي إنك تحبين، وصوت عقلي الذي يقول لي لا تلعبي بالنار فذاك يعجل من أجلك!



بعد أربع ساعات تقريبا توقفنا في مدينة صغيرة أخرى في الجزائر، دخلنا إلى مطعم لم يكن يختلف عن ذلك الذي تعشينا فيه، شبه مظلم، لون الكراسي والطاولات والجدران أخضر غامق، وكالعادة انزوى العجوز مع زوجته في زاوية المطعم والرجال السبعة مع بعضهم أما أنا والسائقون الثلاثة جلسنا حول مائدة ثالثة. طلب سمير من النادل أن يأتي بأطيب ما عنده، لم يكن أحد يعرف بأنني أتكلم اللغة الإنجليزية ولم يسألني أحد منهم. كان سهيل وزكريا ينظران إلى سمير ويتغامزان عليه ويضحكان. احمر وجهه خجلاً ومن غير شعور خاطبهم بالإنجليزية كي لا أفهم قائلا: ماذا بكما؟ توقفا عن المزاح.

قال له سهيل: أقسم بالله أنك وقعت حباً؟

ضحك زكريا وقال: لا، لم يقع فقط. بل وقع وتكسر.

أجابهما بعصبية: كفاكما مزاحا! نعم، أحببتها، و أتمنى أن تكون لي زوجة المستقبل لكن، لا أستطيع أن أبوح لها بحبي الذي تكون بين ليلة وضحاها، لن تصدقني أبدا، أتمنى أن أبقى معها على اتصال، وقد يأتي ذلك اليوم الذي أفاتحها فيه بالموضوع، ثم أسافر إلى المغرب وأطلب يدها من أبيها.

قال له سهيل ساخرا: أنت! أنت ستتزوج؟ لا أصدق! أنت الذي ترفض الزواج ولا تؤمن به. كم من فتاة صاحبتها وتركتها. أنت لست إلا زير نساء.

قال له سمير بشيء من الانفعال: يا أخي اسكت كيف أتزوج من فتاة تبيع جسدها رخيصا ومن غير ارتباط شرعي. هل أنت أحمق؟

قال زكريا: أنت لا تعرف شيئا عن هذه الفتاة، ربما هي مثل غيرها، أو ربما تتحايل عليك لكي توقعك في شباكها. أنت لا تعرف جنس النساء. إن النساء بحر عميق وغامض وكيدهن عظيم.

انزعج سمير من كلامه وقال بصوت واضح ومتماسك: لا أسمح لك أن تتكلم عن هذه الفتاة بسوء إنها تختلف عن غيرها من البنات، فأقفل الموضوع حالا وتكلم بالعربية فمن سوء الأدب أن تتكلم بلغة لا تفهمها.

كنت مرتبكة جدا بعد سماع حوارهم، ولإخفاء شعوري التفتُّ إلى حيث العجوز وزوجته أشير بيدي إلى الطفل الصغير متظاهرة مداعبته من بعيد.

جاء النادل لنا بأكل شهي طيب لكنني كنت أحرك الأكل بالشوكة مرتبكة خجلة.

قال زكريا: ما بك لا تأكلين؟ ألا يعجبك الطعام؟

قلت متلعثمة: بلى، إن الطعام لذيذ جدا.

قال سهيل: ربما أكلت البارحة كثيرا.

قال زكريا مبتسما: ما هذا الخجل المفاجىء؟

ارتبكت أكثر، وشعرت بحرارة تسري في جسمي و وقعت الشوكة من يدي.

بعدها صرخ سمير في وجهيهما: كفى مزاحا! اتركا الفتاة وشأنها.



انتهى الكل من تناول الغداء، أما أنا فلم أستطع أن آكل رغم محاولتي ذلك. لا شهية عندي للطعام وجسمي يرتعش بسبب ذلك الحوار الذي دار بينهم. أمسك سمير قطعة خبز ووضع فيها قطع اللحم التي كانت في صحني، ثم لفها بمنديل من ورق ووضعها بجانبه قائلا:

_ تأكلينها في السيارة عندما تجوعين.



غادرتُ إلى السيارة وأنا هائمة في عالم آخر. وضعت شريط جو داسان في المسجلة، ثم أخرجته مرة ثانية، لا أريد أن يلاحظ سمير شيئا في تصرفي، ولا أريده أن يشعر بأنني أحببته. لا أصلح له زوجة من غير عذرية، من غير شَرَف. لا.... لا أريد أن أقولها لأنها تطيح بكرامتي وبعزة نفسي. يكفيني أن أقول إنني فقط أحمل سرا خطيرا. استلقيت على مقعد السيارة وأغمضت عيني داخل أقفاص طافحة بالوهم، لم أكن نائمة بقدر ما كنت هائمة أداري نفسي بالنوم لأوهم الوهم وتستريح أشرعتي من علة المجداف والإبحار وحدي على شطآن تمرّدي وتيارات مطاردة بالخوف تجرفني بعيدا فيأتي سمير ليلملم وحدتي ويؤنس سفري المتشح بالحنين والشوق، يمسك يدي، يقبلها بحذر شديد أما أنا فقد أمّلت نفسي بعدها بنوم هادئ. انطلق بسرعة محاولا اللحاق بالآخرين. صوت جو د سن ينتشر صدى في تلال تلك الصحراء، لأحلام عصافير تأمل أن تلتقي يوما وتستعيد قصة رحلتها الأولى مع الحب والأمل وسمير يقود سيارته في صمتٍ سعيدٍ ملؤه الورد والحلم، متجها صوب غيمة من موسيقى كحمامة بيضاء، كالسنونو في الفضاء أو الصقر على قمم الجبال. ساعتين من الزمن ارتدت فرحا خفيا يتوقف فجأة مع احتراق محرك سيارة سهيل الواقفة بطريقة مبعثرة على جنب الطريق. فتحت عيني فإذا بي أرى دخانا يتصاعد منها وسمير اختفى نصف جسمه داخل الصندوق محاولا إصلاحها، والركاب حولها متذمرين.

قال أحد المسافرين: ماذا سنعمل الآن؟ هل سنقضي الليلة في هذه الصحراء القاحلة؟

رد عليه زكريا: سيركب بعضكم سيارة سمير، والبعض الآخر في سيارتي. ليس لدينا حل غير هذا حتى نصلحها في ضيعة ليست ببعيدة. في سيارة زكريا جلس رجلان في الأمام وأربعة في المقعد الخلفي، وفي سيارة سمير جلس رجل بدين بجواره وأنا في الخلف مع العجوز وزوجته ومسافر آخر. أحسست بانزعاج كبير وبتعب كبقية المسافرين، كل ملتصق بالآخر لا نستطيع الحركة بحُرية غير السيارات التي كانت تبحر في تعب داخل تلك الصحراء الشاسعة التي تبدو لا حد لها ولا نهاية متجهة إلى الدوار الذي يسكن فيه الحاج رضوان الميكانيكي، صديق حميم لسمير وأصدقائه. كان الجو مزعجا يلبسه لهيب الهواء الساخن ونحن ننتظر الوصول من ساعة إلى أخرى والحرّ يزرع سخونته في روحنا العطشى للراحة. كان مسافران معنا في السيارة، واحد نحيل والآخر بدين، مرحان يتحدثان عن كل شيء قد يخطر على بال الإنسان. أحسست بنوع من الراحة والطمأنينة ونسيت ذلك الازدحام وذلك الطقس الحار. كان الرجل البدين يجيد الغناء خاصة الطرب الأندلسي، سحرنا بصوته العذب الرخيم كنافورة ماء وسط ذلك الحرّ، حطّ على قلوبنا وأثلجها، أحيانا أقول له بيتا أو بيتين من الشعر وهو يرددها بإيقاع يسحر القلب وينعشه. مرت ساعات ممتعة داعبَت ذلك الغروب الصحراوي بنغمٍ، واسترخت فيه الروح كما الشمس فوق سرير الرمال وغادر فكري جسدي المسافر إلى أهلي في المغرب للحظات، كنا نجلس فيها حول مائدة الغذاء وأبي يروي بيتا شعريا وعلى الذي يجلس بجانبه من إخوتي أن يقول بيتا مبتدئا بالحرف الأخير من الشطر الثاني فتدور الحلقة كمناظرة بيننا، ومن يخسر المسابقة عليه أن يأخذ الصحون من فوق المائدة ويغسلها ويهيئ الشاي. أما المسافرون فظلوا في سمرهم مع سمير الذي انتبه لصمتي المتواري خلف أوصالي. رأيت ابتسامته عبر زجاج السيارة الأمامية وعيناه تلتمسان مشاركتي بأبيات شعرية لذلك البلبل الذي كان هبة لنا ويخفّف عنا غربتنا المتخمة بالحرمان. كنت منزعجة من الحر ومن احتباس البول. أوقف سمير السيارة عدة مرات لينزل كل منا ليقضي حاجته، أما فاطمة فلم تجد شجرة تتوارى بها ورغم ذلك ترفع عن جلبابها الطويل ثم تجلس وراء السيارة وتقضي حاجتها. كنت أجد صعوبة لأنني أرتدي بنطلون الجينز فتحملت ساعات طويلة، مغمضة عينيّ أفكر متى سنصل إلى ذلك الدوار الذي يقطن فيه الحاج رضوان. أحس ارتباكي وانزعاجي، خفض من سرعة السيارة حتى تخطتنا سيارة سهيل ثم توقف وقال:

_ غالية وفاطمة، انزلا واستريحا.



ابتعد عن أعيننا. فتحت فاطمة فاها مرعوبة خائفة لا تعرف ماذا يجري، أما أنا فلم أكن أبالي في تلك اللحظة لا بالسيارة التي اختفت ولا بوجودنا لوحدنا في تلك الصحراء الموحشة، كنت فقط أفرغ من غير توقف على أنقاض ذلك الوحش الذي افترس البلاد يوما لمدة مائة وثلاثين سنة، وبعد لحظات رأيت سيارة سمير تسير تجاهنا إلى أن توقفت. وانطلقنا نحو دوار الحاج رضوان بعد أن تخلصت من ذلك العناء الثقيل الذي كنت أحمله في مثانتي. وضع سمير أغنية جو د سان في جهاز التسجيل وكأنه يقول لي أهدي إليك هذه الأغنية يا غالية. نقلتني الأغنية إلى عالم الأحلام الجميلة والحب العذري حيث لا زواج فيه ولا احتكاك جنسي. كانت كل كلمة ينطق بها جون د سان كأنها مرسلة إليّ على لسان سمير. استسلمت إلى عالم الحب ضائعة بين سطوره أمشي متعثرة على سري وبسمتي مهمومة وأنا أستمع إلى سمير يناديني بتلك الكلمات التي نثرت ورودا في سمائي، حلم مدثر بحب جميل طرد وحشتي وخوفي وجعل نومي يتوسّد رعشتي الولهانة في صمت. سكون رهيب عمّ السيارة وكأنهم يعرفون أن انسجاما عاطفيا بيني وبينه، لم يبح أحد منهم بكلمة حتى انتهت الأغنية، أما أنا فتسلّلت تحت لحاف وردي أحلم بعش يحتوينا في حقل ينثر الزهور رحيقا ونحن نطير كالفراشات نلهو ونضحك ونطير فوق الشمس وفوق القمر. بعد انتهاء الأغنية بدأت ثرثرة المسافرين تسبح في فضاء السيارة وهم يرتشفون في حزن البعد عن الوطن والغربة التي لبستهم قبل أن تكتمل الأرض. كان سمعي يشاركهم الجراح ويرتشف يأسهم ويأسي في صمت، أحيانا أتيه بين كلماتهم وأحيانا أعود لصفحاتي المحفورة على وجه الرمال حائرة كيف أبني أملا على وجه شاطئ رحلت عنه المياه. قطرت دمعة كالجمر على جسدي فأحرقته، أحاول مسحها فإذا بي أحسّ بيد وراء ظهري تنزل ببطء شديد إلى أسفله. لم أصدق أول الأمر، عاودت تلك اليد الكرّة مرة ثانية، بعدها فتحت عيني بسرعة والتفت ورائي، فإذا بيد العجوز ملتصقة بجسدي. يا إلهي لم أصدق ما يحصل! هل هذا هو الرجل الذي أوصاه أبي بي خيرا ؟ كيف له أن يتصرف معي بمثل هذا التصرف، وزوجته بجانبه؟ ليست بالنسبة له سوى حشرة بهيئة امرأة يطفئ فيها شهوته الجنسية. لم أكن أستطيع أن أصرخ في وجهه أو أن أخبر سمير ذلك الشاب الوحيد الذي كنت أثق فيه وأرتاح إليه. لم أستطع تجنب العجوز حيث كنا مزدحمين، أو أخبر زوجته التي لا أعرف وقع الخبر عليها. أظلمت الدنيا في عيني وشعرت بالكره لكل الرجال الذين لا يفكرون إلا في استغلال المرأة جنسيا وكأنها في نظرهم خلقت للجنس فقط وبالتالي فهي دوما الضحية. ضحية إجرامهم من غير رحمة ولا شفقة، يستبيحون بقسوة إنسانيتها ويستترون في ضمير القاضي والخصم والحكم ثم يصدرون عليها الحكم بالقتل لأنها غير شريفة، انتهكت حرمتها وعرضها بيدها، لا تستحق الحياة لعدم اتباعها السلوك الحسن، وابتعادها عن دينها الذي يأمرها بأن تكون تقية عفيفة.

حاولت الابتعاد عن يد العجوز. لم أتشجع ثانية بإسناد ظهري كحالة احترازية كي لا يتمادى أكثر، بقيت جالسة بنصف المقعد فشعرت بالتعب والإرهاق، أفكر في طريقة أبتعد بها عنه حتى وضع يده مرة ثالثة على ظهري وبدأ ينزلها شيئا فشيئا إلى الأسفل، فنهضت من مكاني ودموعي خرساء تسكنها حرقة على جسدي المنهك. جلست على أرضية السيارة مقرفصة حتى شعرت بتنميل رؤوس أصابع رجلي من ثقل جسدي عليها، أبكي حزناً على نفسي وأبحث عن موقعي في هذا العالم المتوحش، فاطمة لم تعرني أي انتباه، ولم تسأل نفسها ما الذي دفعني للجلوس بتلك الطريقة، ربما كانت تعرف سبب ذلك لكن ماذا بوسعها أن تفعل؟ اكتفت بانشغالها برضيعها الذي يبكي الضجيج المتغلغل في أحشائها. التفتَ إليّ المسافر الذي كان يجلس معنا في الخلف.

- ماذا بك يا ابنتي؟ لماذا تجلسين هكذا؟

خجلت منه وشعرت وكأنه عار عليّ أن أقول له بأن ذلك العجوز كان يتحسّس ظهري، إنها فضيحة كبيرة بالنسبة لي، لم أرغب أن يعلم المسافرون بذلك فينظرون بعدها إليّ بعين الشفقة ولا أريد أن تعرف فاطمة سلوك زوجها اللعين. كان سمير يناديني لم أرد عليه، لكن المسافر الذي يجلس بجانبي قال له: "إنها جالسة على أرضية السيارة تبكي، ربما مريضة. توقّف بسرعة البرق ثم فتح الباب، أمسك بيدي، و أخرجني من السيارة:

_ ماذا بك يا غالية؟

كان ينظر إليّ بحنان وكأنني أخته الصغرى التي يخاف عليها ويرعاها ولا يريد أن يحدث لها سوءا. أخبرته بالأسبانية عن تصرف العجوز، و لو كنت أعرف كيف ستكون ردة فعله لما فعلت. جنّ جنونه، أمسك العجوز بقبضة يده، أخرجه من السيارة ثم أوقعه أرضاً. وكان العجوز ينظر إليه والشرر يتطاير من عينيه، يبصق على الأرض ويشتم سميرا. لم أتحمل أن أرى منظره وهو ملقى على الأرض، عجوز ضعيف، لهاثه محموم والخوف باد على تجاعيد وجهه المرتجف. بدأ المسافران يتساءلان باستغراب ما الأمر فصار الذي كنت أخشاه. رفع سمير قبضته في وجه العجوز وصرخ بصوت مرتفع موجها كلامه للمسافرين:

_ إن هذا العجوز تطاول على الفتاة.

ريح من الغضب تعصف بازدراء واحتقار فعلة العجوز وعيون تتأجج كالجمر، همهمات تنطق زوابع من التأفف وزبد البحر يفيض غضبا على الرمال في حين يتوارى العجوز خلف عهره متعكزا عاره وزوجته ترشف صدمة قُبحِه متأبطة نصيبها المرّ علقما يحرق جوفها. وقف سمير ينتظر سيارة سهيل التي كانت خلفنا وعندما وصلت نزل سهيل مرعوبا، متسائلا ما الأمر، هل هناك عطب في السيارة؟

قال سمير بغيظ: العطب ليس في السيارة ولكن في هذا العجوز؟ لا أريده في سيارتي.

نظر سهيل إلى العجوز وقال: كل هذا العجب يخرج منك أيها العجوز! ألم تخجل من سنك؟

تعكّر مزاج العجوز وتشابكت في رأسه الأفكار، مزمجرا ناكرا فعلته. قاطعه سمير قائلا:

_ كفى! لا أريد أن أسمع منك كلمة واحدة، تفضل أنت وزوجتك إلى السيارة الثانية.

قال العجوز: وغالية، هل سأتركها معكم؟ إن أباها بعثها معي وستظل معي.

اقترب سمير يحاول الانقضاض عليه لولا الرجال الذين أبعدوه عنه.

قال له سمير: ألا تستحي وتخجل من نفسك؟ ادخل بسرعة داخل السيارة وإلا كسّرت عظامك.

غادر العجوز خائفا، وزوجته تتعثر وراءه ليحلّ محلّهما مسافران آخران. هذه المرّة طلب مني أن أجلس بجانبه.

انطلقت السيارات متوغلة في نسائم الغروب، قاطعة مسافات الزمن التي بعثرتها وقاحة العجوز المفتعلة والمسافرون تحت دهشتهم متلونون بالصمت متأففون.

قال أحدهم: هذا تصرف مشين من رجل في سنّه.

وقال آخر: كيف يجرؤ على هذا التصرف أمام زوجته؟

وأضاف ثالث: هذا العجوز لا يخاف الله.

قال رابع: أتمنى يا ابنتي أن تصلي بسلامة إلى ليبيا وأن يحفظك الله منه ومن أمثاله.

اختفى سمير بصمت مفتعل خلف نظارته السوداء، أما أنا فلم أستطع إخفاء ارتباكي من غيرته عليّّ، إلاّ أنني شعرت براحة البال رغم وجودي بينهم، ذلك الجنس الذي يخيفني كلما تسرب كابوس سري إلى ليلي. تعجبت للقدر الذي ساقني بينهم قي قعر صحراء، سكونها يدوي حدّ الصمم، أرض بلا زرع ولا نبت والرمال في إسراف تمتد من حولنا بلا نخل، وأنا بينهم وحيدة وخوفي يتوسد تعبي، يحط على جسدي بثقله ويجعل قلبي يخفق حزنا، لكنني تخلصت من مضايقة العجوز وصراخ ابنه.

قال سمير للرجل الذي يحسن الغناء: أسمعنا صوتك العذب.

شرع الرجل في الغناء والآخرون يصفـقون أما أنا فكنت أنظر إلى تلك الطريق الطويلة وكأن لا نهاية لها، طريق مقفرة نائية، تحاصرها الرياح أحيانا وتستعيرها العاصفة أحيانا أخرى لتقلع مسارات الغروب ثم تقذفها بظلمة ثملة، صحراء تجعلك تكسر قيود الأفكار لتهرب نحو المدى وتحاور صمت كلماتك بلا قناع وفي هدوء. شردت بعيدا، أبحث عن عالمي المجهول في ليبيا فلم أعد أسمع الغناء. ماذا سيكون مصيري هناك؟ وهل سأمكث مع العجوز في بيته أم سأغادرهم؟ لكن، إلى أين سأذهب؟ فأنا لا أعرف أحدا هناك. لا بد أن أستأجر شقة صغيرة حتى يحلها الحلاّل. ماذا سأقول للعجوز؟ لا أريد السكن معكم!؟ ربما يخبر أهلي وقد يأتي أبي إلى ليبيا ويرجعني إلى المغرب بالقوة، أسئلة كثيرة تتناطح في رأسي، تؤلم روحي المسكونة خوفا، فلم أر تلك الطريق الطويلة، ولا تلك الصحراء الشاسعة.

بدأت الشمس تغيب والظلام يخيم علينا، وأصبح الطقس بارداً، تقلّصت عضلات جسمي من الجلوس وتثاقلت أجفاني فخلدت إلى النوم، وما هي إلا ثوان حتى أوقف سمير سيارته وأخرج لحافا من تحت مقعده ودثّرني. قال له أحد المسافرين:

_ جزاك الله خيرا على اهتمامك بهذه الفتاة.

قال سمير: أنا لم أقم إلا بواجبي، إنها فتاة طيبة، لكن الشيء الذي يحيرني، كيف تركها أهلها تسافر مع هذا العجوز اللعين ولا أعرف ماذا سيكون مصيرها في ليبيا؟

قال أحد المسافرين: أليس عندنا مدارس وجامعات في المغرب؟ والله بنات اليوم غريبات الأطوار.

قال له سمير: لماذا غريبات الأطوار؟ هل لأنهن يرفضن القيود والكبت، ألا يحق للفتاة أن تدرس وتشق طريقها في الحياة خارج بلدها؟ قال ص: اطلبوا العلم ولو في الصين.

قال أحد المسافرين: إننا لا نحتاج أن نسافر للصين لأجل العلم فبلدنا فيها كل شيء؛ مدارس وجامعات.

قال سمير: نعم، بلدنا يوجد به شتى وسائل التعليم، لكن هنالك شيء أهم من المدارس وهو تفهم الوالدين لأبنائهم، ربما هذه الفتاة لا تريد الرحيل من بلدها بلا سبب قوي لا يعرفه أحد سواها. إنها من عائلة مثقفة لكن الثقافة في نظري شيء والوعي شيء آخر.

قال أحد المسافرين: لا أفهم كيف تنظر بناتنا إلى الحياة من زاوية واحدة حسب مصلحتهن الخاصة.

ردّ عليه آخر: صحيح كلامك، لقد تعرفت ابنتي على شاب وكان أول فتى في حياتها، ثم تكررت مقابلاتهما وأصبح تفكيرها عندئذ محصورا فيه وتوطدت علاقتها به، لكنني لقنتها درسا لا تنساه في حياتها.

سأله سمير: ماذا فعلت؟

أجاب الرجل: لقد ضربتها بحبل مبلل بالماء والملح حتى تشقق جلدها وأقفلت عليها غرفتها ومنعت عنها الطعام يومين حتى تابت عن فعلتها.

قال له سمير بعصبية: هذا تصرف لا عقلاني.

قال الرجل: إن ابنتي في سن لا تؤهلها لتفهم أمور الدنيا.

قال سمير بضيق واضح: يا أخي لا أستطيع أن أفهمكم أنتم الآباء، ولا أستطيع أن أفهم أسلوب الضرب والقمع الذي تمارسونه مع بناتكن!! الضرب لا يصلح الأخطاء، بل يزيد من تراكمها واستعصائها.

رغم شدة النعاس الذي أثقل من تعبي لم أستطع النوم. حوار سمير مع المسافرين نزع النوم من جفوني، تمنيت أن أصرخ بصوت عال وأبدي برأيي، إنهم لا يختلفون عن أبي، أسلوبهم الضرب ومنهجهم القمع ومصادرة الآراء، لكن الذي يحزنني أن سميرا لا يعرف سبب ابتعادي عن عائلتي وتغربي نحو بلد لم أفكر يوما أنني سأزوره أو أدرس فيه. كم تمنيت أن أبوح له بسري الذي حملته وحدي طوال حياتي، لأنني رأيت فيه اختلافا كبيرا عن أبي وعن كل الرجال في مجتمعي. أحسست برغبة ملحة بالارتباط به، تمنيته زوج المستقبل وأنه الوحيد في هذا العالم الذي سيرحمني ولا يعرضني للفضيحة أمام أهلي وفي مجتمعي. قلت في سريرتي إن الحل الوحيد لتحطيم ذلك السر الخطير هو التشبث بسمير.

وضع شريطا للراي في جهاز التسجيل، توقف المسافرون عن ذلك الحوار الذي كان ينزل على رأسي كوقع الفأس، وبعد ساعة من الزمن وصلنا إلى دوار الحاج رضوان، فشعرت بيد تداعب شعري، إنه سمير يناديني بصوت خفيض استيقظي غالية، لقد وصلنا.

الساعة تشير إلى العاشرة ليلا والقرية هادئة يرمقها برد منقوش على وجه الليل. اصطفت السيارات أمام بيت الحاج رضوان الذي كان ينتظرنا بابتسامة أمام عتبة بابه وكأنه يعلم بقدومنا. رجل في الخمسينيات، متوسط القامة، ممتلىء البدن، رحب بسمير ورفيقيه، وسلم على المسافرين ثم دعاهم للدخول.

لامارا 14-11-13 09:35 PM

الفصل الرابع

ولله في خلقه شؤون



صمت الليل يدثر أرجاء البيت برداء من السكون وضوء خافت ينبعث من غرفة مفتوحة. غرف تلتصق جنبا إلى جنب وفي إحدى زوايا البيت ترتمي غرف أخرى ينبعث منها ضوء خافت كضوء الشمعة ليكسر سواد الليل المرتبك في فناء الدار.

دخل الحاج رضوان إلى المنزل وتبعه المسافرون إلى غرفة الضيوف المخصصة للرجال، قريبة من باب المنزل، بعيدة عن باقي الغرف الأخرى. كنا نقف في وجوم وسط زحمة الفراغ إلى أن أقبلت علينا فتاة بزي طويل برتقالي اللون، تظهر من أسفله جوارب صوفية حمراء مثقبة ونعل أزرق من البلاستيك. سلّمت علينا وطلبت منا الدخول إلى غرفة النساء، هواؤها وخم، تتوسطها حصيرة كبيرة وسجادة شبه بالية تشم منها رائحة عفن التراب والجدران خالية من أية لوحة تضفي عليها شيئا من الجمال والدفء. جلستُ قرب فاطمة أتأمل جدران الغرفة الخضراء القاتمة التي أثارت كآبتي، وأنظر إلى ابن فاطمة النائم في حضنها وهي تتأمله متنهدة ثم تنتقل بعينيها داخل الغرفة مستغربة مثلي. يخيم عليها حزن قديم مازالت تجاعيده مرسومة بوضوح في وجهها الصغير البريء. أمسكتُ يدها وسألتها إن كانت سعيدة بالسفر إلى ليبيا، سمعت أنينها يلتهب في تلك العتمة، زفرت معها نيران اليأس وهمست كأنها تبوح بسر، ليس لي إلا الله. رأيت بعينيك كيف يتصرف زوجي معي، إنه لا يعيرني أي اهتمام حتى إنه لا يحمل ابنه ولو لساعة واحدة طوال هذا السفر المتعب. إنه لا يريد مني سوى ...

احمر وجهها خجلا ثم أردفت قائلة، يضربني يا غالية من غير رحمة، فاجأني بخبثه. وانفجرت باكية، ماذا بوسعي أن أفعل؟ إنني أقوم بواجبي. خفضت رأسها وأضافت، سأطيعه كما أوصاني أبي. قال لي إن الزوج في مقام الأب وأكثر، وإن المرأة لها ثلاث خرجات، للدنيا ولبيت بعلها ثم للقبر. لكن أبي لم يكن يضربني فلماذا يضربني هو؟ كنت أنظر إليها وهي تشكو من ذلك العجوز اللعين، لم أعرف كيف أخفف عنها سوى أنني انفجرت أبكي حزنا عليها . وضعت ابنها بجانبها وضمتني إلى صدرها تواسيني. لا تبكي يا غالية، هذا حال الدنيا، ما علينا إلا الصبر فهو مفتاح الفرج. كنت أتمنى أن أقول لها إن موت العجوز هو مفتاح الفرج. تعجبت من أمرها. خلدت إلى صمت مغموس في قعر الآهات، نَظَرَتْ إلى ابنها، ضمته إلى صدرها وبدأت تنظر إليه ثم حولت فجأة نظرها إلى تلك الحصيرة، تتلمّس منها المعنى لحياة تضيع كما الرمل في العاصفة. تحرك رأسها من غير توقف، جنون يراقص لهيب حزنها، يقذفه على كلّ الجهات. أجفلتُ عندما رأيتها ترتجف كالممسوس. نسيت كل شيء في تلك اللحظة، نفسي، بيت الحاج رضوان، سمير والعجوز اللئيم. ما كنت أفكر فيه فقط هو تلك المسكينة التي جفت مآقيها. يأخذها غموض مضطرب باهت الملامح وكلماتها تصرخ مولولة في صمت أعمى، وبعد ساعة، جاءت تلك الفتاة بصحن كبير من الكسكس، وضعته على مائدة صغيرة تتوسط الصالون، وغادرت الغرفة وما هي إلا ثوان حتى دخلت علينا امرأة طويلة القامة، شديدة البياض، عيناها زرقاوان وشعرها كلون الشمس، سلمت علينا ودعتنا للعشاء. بعد انتهائنا من أكل تلك الوجبة، جاءت الخادمة بالشاي مصحوبا بالبلح الأصفر والبسكويت. كانت تلك السيدة تبتسم إلينا بين الحين والآخر، ولتكسر رتابة الصمت نظرت إلى فاطمة وقالت:

_ حتما أنت متعبة، سأحضر لكما الغطاء.

السيدة اسمها عيشة وهي الزوجة الرابعة للحاج رضوان، أصغرهن وأجملهن، معلمة بالمدرسة في ذلك الدوار المسمى باسم زوجها. منطقة نائية في تلك الصحراء، سعيدة في عملها لأنها تعلم الأجيال الكتابة والقراءة، لكن أغلب الأطفال لا يكملون دراستهم، يكتفون فقط بالشهادة الابتدائية. لم أسأل تلك السيدة عن السبب، في تلك اللحظة كنت متعبة وجسمي متشنج، أتوق للنوم فقط. غادرتنا السيدة بعدما تمنت لنا نوما مريحا. وفي وسط ذلك السكون استيقظ الطفل وبدأ في الصراخ الذي اعتادت أذني سماعه، وفاطمة المسكينة تهدئ من روعه وتمشي بخطوات متثاقلة في تلك الغرفة الطويلة. صعب عليّ حالها، وعوض أن أنام شاركتها سهرها لاعنة ذلك العجوز متمنية من الله أن يأخذه إلى الجحيم. مرت ساعتان كالدهر والطفل مستمر في الصراخ. نهضت من فراشي وقلت لفاطمة حاولي أن تنامي، سأمسك ابنك حتى ينام. ناولتني طفلها ثم استلقت على تعبها مستسلمة إلى نوم عميق وسط الصراخ الذي يتلاشى كالضوء الخافت. ضممته إلى صدري وأنا أغني له أغنية اخترعتها ولحنتها في نفس اللحظة، أذرع به الغرفة ذهابا وإيابا وهو ينظر إليّ من غير أن يبكي إلى أن أغمض عينيه. وضعته بالقرب من أمه واستلقيت في فراشي أحاول أن أنام. أتقلب على أفكاري، أخبئ وجهي تحت ضلوعي وفوق الوسادة، ألم يجهش بالبكاء على ظمئي وتيهي ولا صوت سوى الصحراء.



سأعترف لسمير بسري الخطير، لكن كيف وهو غريب عني، ربطني به القدر في سفر يوم وليلة، ربما ينفر مني أو ربما يكرهني إن أخبرته بسري. لا، لست مجنونة كي أذيع له سري. على أية حال، من الذي سيصدقني؟ أحيانا يراودني الشك في نفسي. رعشة سرت في جسدي المجنون، وفوق نار جنوني الأعزل يخفق قلبي ووجهي يتصبب قلقا، أراقب الليل وهو يغادرني تاركا ظلامه يغتال وحدتي وقلقي الجاثم على حافة السرير يزحف على روحي الخاوية. وبعد لحظات صاخبة بالوجع المبعثر في جسدي داهمتني رؤية بوضوح. لم أعد بحاجة للاعتراف له بسري الخطير، كنت أعرف أني سأكبر وأن علي أن أمسك مصيري بيدي. لن أكون شريرة حقودة على الرجل ولن أنتقم منه مثلما فعلت الكثيرات. دقات قلبي تخفق بالحرية والرحيل عن تلك الديار الغارقة في وحل العادات المتخلفة، التي يعلقونها على شماعة الدين ويحملون رايتها تحت شعار الإسلام.

في الصباح الباكر، استيقظت على صياح الديكة، صوتها يأتي من كل زاوية من الدوار، قمت مرتاحة نشطة، أسرعت إلى حقيبتي، تناولت أدوات الاستحمام، فتحت باب الغرفة بحذر كي لا أوقظ فاطمة وابنها. مشيت بخطوات بطيئة في فسحة المنزل الكبيرة التي يتوسطها حوض مربع فيه شجرة عالية ونباتات خضراء مختلفة، في إحدى زوايا الدار حصيرة فوقها مائدة صغيرة، عليها صينية وكؤوس الشاي وصحن فيه تمر، أتأمل تلك الغرف المصطفة جنبا إلى جنب، ربما كانت غرف أبناء الحاج رضوان. أقبلت عليّ تلك الفتاة بلباسها الطويل وألوانه الفاقعة وقالت:

_ صباح الخير، هل تريدين شيئا؟

أجبتها بابتسامة متكلفة: أريد أن أستحم.

أشارت بيدها وقالت:

_ الحمام هناك. إن احتجت شيئا ما عليك إلا أن تناديني، إنني في المطبخ أهيئ الفطور.

شكرتها وأسرعت إلى الحمام، مظلم ليس به إلا ضوء الفجر يتسرب من نافذة صغيرة قريبة من السقف تطل على خارج البيت. لم يكن هناك شيء يدل على أن المكان للاستحمام، غرفة ضيقة تتوسطها عتبة مرتفعة من طين. في الحائط صنبوران واحد للماء البارد والثاني للماء الساخن ودلو أسود من البلاستيك، ولا شئ آ خر سوى صراصير كبيرة تحوم بجنون حول الحائط وكأنها تبحث عن شيء. شعرت بقشعريرة وأحسست أن شعر رأسي قد وقف وقدمي تسمرتا بالأرض. أخاف من الصراصير لكن رغبتي الملحة للاستحمام، جعلتني أتماسك وبينما أنا أقفز من برودة الماء التي تسبح على جسدي أحسست بشيء يمشي على رجلي فاشتد قفزي كي أتخلص من هذا المتطفل، نظرت للأسفل فرأيته يتسلق وكأنه يريد الوصول لهدف. أطلقت رجلي للريح خارجة من الحمام أصرخ الصرصور! الصرصور! وبدأت الخادمة تضرب على خديها وتقول باللهجة الجزائرية يا ويلي! يا ويلي! في تلك اللحظة كانت عيشة تجلس في فناء الدار، جالت بنظرها في كلّ الاتجاهات لتتأكد من عدم وجود أحد من الرجال وقادتني وهي تحتضنني إلى غرفة نومها، سترت جسدي بغطاء سريرها وهدأت من روعي. قدم الحاج رضوان والرجال من المسجد وكان صوته يسمع من الباب، ماذا هناك؟ ما هذا الضجيج؟ أجابته السيدة عيشة لاشيء ونظرت إلي قائلة:

_ الحمد لله لم يرك أحد من الرجال.

وقفت أمامها خجلة، أعتذر عن تصرفي الطائش.

ابتسمت وقالت:

_ لا داعي للاعتذار، شرط أن تمكثي معنا شهرا لكي تتعودي عليها.

سألتها مستغربة:

_ أتعود على ماذا؟

أجابت:

_ الصراصير ...!

مازالت فاطمة تغط في قلقها المشوب بالضياع، شخيرها كاف لإيقاظ أهل البيت، والطفل بجانبها يحرك يديه ورجليه من غير بكاء مبتسما بين هدوء وذهول، وبينما كنت أداعبه دخلت الخادمة وفي يدها صينية الفطور قالت بغضب:

_ إن العم قادر ساخط ويسب فعلتك فهو لا يحب مثل تلك التصرفات.

صمتّ خجلا، أداري ارتباكي وسخونة اعتلت وجهي. دخلت السيدة عيشة ولكي تحدّ من حرجي، جلست بجانبي وقالت مبتسمة:

_ لم تستيقظ فاطمة حتى الآن!

قلت لها:

_ إن فاطمة لم تنم طيلة السفر.

_ لنفطر نحن وعندما تستيقظ، تُحَضّر لها الخادمة فطورها.

منظر الصرصور الذي كان مطبوعا في مخيلتي قطع شهيتي، فاكتفيت بكوب من الشاي. أما السيدة فكانت تأكل بشهية وتتحدث عن دوارها الذي ولدت وترعرعت فيه مصرّة أن أخرج معها بعد تناول الفطور. ارتدت خمارها وخرجنا إلى الدوار الذي يضجّ بصياح الأطفال، حفاة يقفزون بفرح كفراشات مغسولة بالندى، يقفزون برشاقة كالغزلان صوب ضوء ذلك الصباح، يلتفون حول عربة بائع الحلوى، بعضهم مشغول بالتهامها في خدر لذيذ وآخرون يقتربون مني وينظرون باستغراب، والنساء من خلف نوافذ مغلقة تتجسّس على كل خطوة غريبة في ضيعتهن. ابتسمت السيدة وقالت:

_ ليسوا معتادين أن يروا فتاة ببنطلون الجينز كالولد.

كان الطقس في ذلك الصباح دافئا جميلا والشمس تنثر أشعتها برفق على أشجار النخيل التي تتمايل بغنج مع النسيم. البيوت قريبة من بعضها، مصبوغة بالأبيض ماعدا المدرسة فلون جدرانها أخضر غامق ويحيطها سور من الطين والتبن. ما زلنا نمشي بخطوات بطيئة على أهداب أشعة الشمس حتى أشارت إلى مبنى صغير وقالت:

- "هنا درست وهنا أدَرِّسٌ الآن"، أحب مهنتي كثيرا حيث تتيح لي الابتعاد عن أشغال البيت ومشاكل الضراير التي لا تنتهي".



اقتربنا من ورشة زوجها فرأيناه منهمكا في تصليح السيارة وسهيل وزكريا يساعدانه. لم يكن سمير موجودا معهم، افتقدته منذ الليلة الماضية، أحسست بحاجة إلى رؤيته. يأخذني خلف تخوم لا أعرفها وصدى جو د سان يصعد بي فوق الغيوم. بينما أسترق النظر قالت:

- لنذهب إلى السوق، أريد أن أشتري شيئا من الخضار واللحم لتهيئ الخادمة الغذاء.

اتجهنا إلى حيث الدكاكين وفي طرف ذلك السوق الصغير احتشد الناس في طابور طويل أمام دكان الجزار وكأن كل أهل القرية يريدون شراء اللحم ذلك الصباح. في الطرف الثاني من الشارع، دكاكين للألبسة النسائية وملابس الأطفال، وأخرى للألبسة الرجالية ومحل لبيع الأشرطة العربية والأجنبية، يجاوره مقهى يعج بالزبائن. أشارت السيدة إلى المقهى الذي يملكه أولاد زوجها من زوجته الأولى وهمست.

_ انظري إلى المقهى كم يعجّ بالمسافرين.

كانوا يشربون الشاي ومعهم سمير الذي كان ينظر إلينا. انتابني خجل وسرت في جسدي رعشة لذيذة. أدرت وجهي بسرعة إلى محلّ الأشرطة متظاهرة بأنني مهتمة بشراء شريط ما. تخطينا الطابور الطويل وسط ترحيب الناس بكونها معلمة أولادهم وزوجة الحاج رضوان مالك المقهى والورشة والحمام العمومي الذي يغتسل فيه أهل الدوار. طلبت من الجزار أن يرسل كمية من لحم البقر إلى البيت، بعد ذلك رجعنا إلى البيت نمشي الهوينى ونتحدث إلى أن وصلنا.



وجدت فاطمة تداعب ابنها وتشبعه قبلا على جبينه، نظرَت إليّ باستغراب، عدلت من جلستها وقالت مبتسمة:

_غالية أريد فقط أن أعرف ماذا فعلت لابني، فأنا لم أسمع بكاءه منذ البارحة.

قلت لها مازحة: هل اشتقت لبكائه؟

ابتسَمَت ولأول مرة أرى أسنانا ناصعة البياض، مصطفة بانتظام، ثم عادت لمداعبة طفلها. أخرجت من حقيبتي رواية الشيخ والبحر وبينما كنت أتصفحها سألتني السيدة عيشة عن محتواها فأخبرتها. كنت أرى في عينيها رغبة لقراءة الرواية، أهديتها الرواية تقديرا لحسن ضيافتها. قبلتها شاكرة وما هي إلا ثوان حتى دخل الحاج رضوان ليعلمنا أنه قد أنتهى من تصليح السيارة وأن موعد الرحيل قد حان. اقتربت السيدة عيشة من فاطمة، ضمتها إلى صدرها تودعها ثم أعطتها فستانا وأعطتني ظرفا مغلقا وطلبت مني ألا أفتحه حتى نبتعد عن الدوار.



يؤرقني الارتحال وتتعبني المحطات، عابرة كالحلم، مكتوية بنيران الشوق، محملة بهم البعد عن الأحباب. لحظات دافئة قضيتها مع تلك السيدة التي هيجت حنينا لروح تائهة في الصحارى قسرا وتلهث خلف سراب. شعرت بقلق لفراقها وكأنني أفارق عائلتي للمرة الثانية، أنظر من خلال نافدة السيارة إلى المنزل ونحن نبتعد عن الدوار شيئا فشيئا إلى أن اختفى عن عيني ودخلنا إلى الطريق الصحراوي. التفت إلي سمير وقال:

_ أتمنى أن تكوني قد ارتحت قليلا في بيت الحاج رضوان.

قلت له بخجل:

_ نعم، ارتحت كثيرا.

قال بصوت خفيض وهو يبتسم:

_ ما قصتك مع الصرصور؟

شعرت بحرج شديد ولكي أتجنبه أمسكت الظرف الذي أعطته لي السيدة، فتحته فإذا بي أجد بداخله خمسمائة دينار وخاتما ذهبيا وورقة كتب عليها " شكرا لك أيتها الغالية على الرواية، هذا الخاتم أعطته لي جدتي قبل أن تموت، ضعيه في إصبعك فهو يجلب لك الحظ ويبعد عنك الشر، إنك تحتاجينه أكثر مني." قال سمير وهو ينظر إلى الرسالة:

_ رسالة ونقود وخاتم! من هذا الذي أعلن خطبته عليك؟
أجبته بهمس: السيدة زوجة الحاج رضوان.

ابتسم وقال:

_ كل من يلتقي بك ويتعرف عليك يقع في حبّك. السيدة والصرصار و ...
_ و... ماذا ؟

_ لا أرغب في أن أقدم لك الكثير من اعترافاتي .

أصابتني رعشة مفاجئة، تفرقت حروف كلماتي وارتبَكَت، ابتسم ولكي يجنبني الحرج وضع شريطا للراي في المسجلة، وظل يقود السيارة في صمت إلى أن وصلنا قرية صغيرة داخل تلك الصحراء.

قال سهيل مخاطبا الجميع:

_ سنرتاح في هذه المدينة ساعتين بعدها نتابع رحلتنا.
تفرق المسافرون في شارع تلك المدينة، لم يكن العجوز يتكلم معي، إذ أنه شعر بنفوري منه. كان دائم الصمت، يتحاشى النظر إلي، ربما استحيى من فعلته أو كان خائفا من سمير الذي كنت كلما أذكر اسمه على لساني أحس بانجذاب إليه وبرعشة في كل جسدي، لابد أن أنساه. كانت بي لهفة لإنسان يفهمني، يحس بي، يشعرني بأنوثتي، ينسيني هاجس سري ويوقف عني سيل ذكريات الماضي والحاضر المرعب والمستقبل الذي أجهله. تقصفني رعود هناك وبرق يصعقني هنا، أريد من يسحبني إلى فردوس أو إلى رغد الطفولة وينزع مني جحيم كابوس سري الخطير.
نظر إلي وقال: ما رأيك أن نجلس في مقهى ونتحدث بعض الشيء؟
_ لم لا، أفضل من أن أجلس في السيارة وحدي.
_ ماذا ؟ وحدك في السيارة هل جننت؟ إن هذه البلدة الصغيرة ملأى بالمكبوتين المتطرفين.

كنا نسير ببطء في الشارع الطويل، كنت أبحث عن نفسي في الغد وحيرتي تمتد على طول الصحراء. أحس سمير بي، أمسك بيدي، تمنيت في تلك اللحظة أن تكون تلك الطريق بلا نهاية، لا أريده أن يتركني وحيدة، تتوالى الكوارث عليّ دون أن أفنى. اخترنا أكثر المقاهي هدوءا في ذلك الشارع. أحضر عصير البرتقال ثم قال:

_ لم أسمع صوتك طيلة الطريق ولم تكوني نائمة، أين سرحت حتى جعلتنا نفتقد وجودك.
أخرسني صمتي وأبكتني كلماتي البكماء. عدّل من جلسته، رفع كتفيه بحركة تنم عن جدية وقال.

_ إن سفرك مع العجوز خطر عليك، لماذا لا ترجعين إلى أهلك معززة مكرمة بدل البهدلة والمخاطر. تفرست في وجهه بإمعان، نزلت دمعتي الحبيسة على خدي. تمنيت أن أبوح له في تلك اللحظة بسري وأرتاح من ذلك الحمل الذي يثقل كاهلي ويشل فكري. لست مجبرة على أن أكون مؤتمنة عليه، ولم أعد أتحمل العيش مع أشباحه، لكل منا سرٌّ يخفيه في داخله، قد يكون ذلك السر قليل الشأن، كلمة، همسة، صمت، غلطة أو ربما شيء فقط لا نستطيع قوله. إن سري الخطير هو قدري، الذي قادني إلى أمريكا و إلى صحراء الجزائر وفي طريقه بي الآن إلى ليبيا والله أعلم أين سيقودني بعد ذلك. يجب أن أخبره وتنتهي مشكلتي إلى الأبد، ثم أرجع إلى بلادي. الغربة تجرف الهوية والعادات الجميلة، لا أريد أن أفقدها، أريدها كلها في بيت صغير تتربى وتكبر معي ومع سمير، هذا الذي جعلني أحس بدفء وحب وطمأنينة. سقطت دمعتان، مسحتهما بسرعة.

_ إلى أين ذهبت بفكرك؟

غيم من الخوف يضغط على قلبي، يذكرني بالماضي وينذرني من آت غامض، قلت بصوت أقرب إلى الصراخ.

_ لا أريد أن أذهب إلى المغرب، سئمت من الضغوط ومن قفص أهلي الذي يستبيح روحي في أي لحظة و...

توقفت عن الكلام. أمسك بيدي محاولاً أن يهدئني.

_ غالية، اعتبريني أخا أو صديقا مخلصا، سأكون دائما بقربك إن أردت أية مساعدة مهما كان نوعها ستجدينني رهن إشارتك.

أخرج من جيبه بطاقة وقال:

_ هنا عنواني ورقم هاتفي في إيطاليا، امسحي دموعك. سنمكث ليلة في مدينة صغيرة على الحدود الجزائرية الليبية، هناك فندق اعتدنا النزول فيه وغدا سنواصل سفرنا إلى طرابلس لكن، ماذا قررت أن تفعلي؟
_ غادي نْتْبْعْ الْكْذَّابْ لْبابْ دَارُه. سأذهب مع العجوز وزوجته وأمكث معهم ريثما أجد غرفة بالحي الجامعي أو أستأجر شقة صغيرة.
اكتسى وجهه نظرة جدية نمت عن خوف.

_ إياك أن تستأجري شقة لوحدك، يصعب على الفتاة أن تعيش لوحدها في ليبيا، ستعرضين نفسك للمخاطر.اسمعي، سأبقى أسبوعا أو ربما أكثر في الفندق الكبير بطرابلس حتى أبيع سيارتي، إن احتجت أي شيء ما عليك إلا أن تتصلي بي.

_______________



جو دا سان ينساب في الروح ويحملها على مهل في فضاء تلك التلال التي تترامى على جنبي الطريق ويبتلعك ذلك الإيقاع الحالم والموسيقى العذبة إلى فضاء تلك الصحراء، وسمير بجانبي يقود سيارته في صمت وأنا أطير معه بين تلك الجبال الصخرية ونسبح في رمالها الذهبية. أنادي الطيور التي تعتلي الجبال لنرتوي معا من رحيق أشعة الشمس قبل أن ترحل مع الغروب. و المسافران في قمة اللياقة وخفة الدم، يرويان نكتا أو مغامرات طريفة وكأنهما يحاولان التخفيف عني عناء السفر والتفكير. كنت أحس وكأنني طفلة مدللة بينهم، هذا يعطيني شوكولاته والثاني بسكويتا وسمير بين الفترة والأخرى يلتفت إليّ ويبتسم، تمنيت أن تكون رحلة بلا نهاية. اجتازت السيارات الحدود الجزائرية وبعد نصف ساعة توقفنا ببلدة جميلة تشبه مدينة مراكش بأشجار نخيلها العالية وبيوتها المقببة المصبوغة بالأبيض والأزرق وكأنها منازل ساحلية. دخلنا الفندق، طلب منا سمير أن نعطيه جوازات سفرنا واتجه إلى مكتب الاستعلامات، حجز ثلاث غرف للرجال وغرفة لي ولفاطمة. سرت سعادة في روحي، وأخيرا سأنام على سرير نظيف وأغتسل بماء ساخن بعيدا عن الصراصير.

استلقيت في هدوء منهكة وخوف تسلل إلى روحي من ذلك الغد القريب في طرابلس، ارتعدت أوصالي وعاد القلق يغتالني كلما فكرت بالفراغ الذي سيتركه سمير. شعرت بقشعريرة عندما تذكرت العجوز، لا أطيق شجاره مع زوجته ولا تصرفاته الممسوخة بجلباب من هرم مسكون بالجنون. قفزت بسرعة من السرير متجهة إلى الحمام. مكثت طويلا تحت الماء الدافئ أنظف جسمي من جنون الصحراء وسعير حرّها الملتصق على جسدي عرقا. خدر سرى في جسدي، أطلقت العنان لغنائي فرحة كطفلة تحت الماء، وضعت فوطة على جسدي وخرجت لأرتدي قميص النوم، فإذا بي أرى العجوز داخل الغرفة جالسا بجانب زوجته، كان ينظر إلي مشدوها بفم مفتوح كفم الحوت، صرخت في وجهه:

_ اخرج من الغرفة حالا!

لم يصغ إلي، تسمرت زوجته في مكانها تنظر إليه بعينين خائفتين محبطتين. ما زلت أصرخ في وجهه حتى سمعت طرق الباب، كان سمير يريد أن يدعوني إلى العشاء. ما إن فتحت له الباب حتى بدأت أجهش بالبكاء. أسرع إلى السرير وأخذ اللحاف ثم غطاني به، اتجه مسرعا نحو العجوز، أمسكه بقبضة يده، ألصقه بالحائط وهو يصرخ في وجهه.

_ لا تجبرني على ضربك أيها العجوز.

طرحه بشدة على الأرض وصرخ العجوز من ألم الوقعة وبدأ يزمجر كعادته بصوت عال.

_ أريد أن أنام مع زوجتي. ألا يحق لي أن أنام مع زوجتي؟

صرخ سمير في وجهه:

_ كيف تنام مع زوجتك وقد حجزت لك سريرا في غرفة ثانية مع الرجال؟

قال العجوز رافعا أنفه إلى الأعلى:

_ لا أريد النوم في الغرفة الثانية، أريد أن أنام مع زوجتي. هل هذا حرام؟
كنت أبكي وألعن الساعة التي جئت فيها معه ومع زوجته. أظلمت الدنيا في عيني وأحسست بألم شديد في معدتي، أسرعت إلى الحمام أتقيأ، لحقني سمير حائرا لا يعرف كيف يساعدني، ثم خرج مرة ثانية من الحمام وأمسك العجوز وأخرجه من الغرفة بالقوة. لبست ملابسي بسرعة وأخذت حقيبتي متوجهة إلى مكتب الاستعلامات لحجز غرفة أخرى. لحق بي سمير ليمنعني من ذلك. قلت بعصبية.

_ لا تهمني النقود، بقدر ما أحتاج إلى الراحة. حق للعجوز أن ينام مع زوجته فلماذا أحول بينهما؟

أخذت المفتاح واتجهت مسرعة إلى الغرفة أندب حظي الذي ساقني بين يدي العجوز المكبوت. روحي باتت كئيبة، دموعي حمراء وزفراتي حرّى وسمير يهدئ من روعي، أجلسني برقة على جانب السرير، يتطلع في صمت إلى تجاعيد سجادة على الأرض.

_ غالية، أصغي إلي جيدا، ما دمت برفقة هذا العجوز لن تعرفي الراحة. رأيت تصرفه معك داخل السيارة، والليلة كيف كان يحدّق بك وأنت خارجة من الحمام ربما غدا يؤذيك. ارجعي إلى أهلك، غدا عندما نصل إلى طرابلس سأصطحبك إلى المطار وأبقى معك حتى تغادري البلد. لا أستطيع أن أتركك معهم، إني ... إني ...

اختنق صوته، توقف عن الكلام هنيهة. كنت أتمنى أن يلفظها ويريحني من كل ذلك العناء ويطفئ مخاوفي التي تختزل تاريخ عمري في صفحات من الهروب ولا أعرف إلى أين. أمسك وجهي بكلتي يديه وهو يحدق في عيني وقال:

_ إني ....لا شيء، فقط أريد أن أدعوك إلى العشاء في مطعم الفندق.

اعتذرت شاكرة فأصر أن يحضر عشاء خفيفا إلى الغرفة. تركني أفكر في اللحظات التي قضيتها بصحبته، وحين أزهر ربيع حياتي أراد أن يتركني كأغصان عارية في صرير الشتاء. ما هي إلا دقائق حتى سمعت طرق الباب، كان سمير وفي يده صينية بها شورباء وقطع دجاج مشوية وعصير الأناناس، وضع الأكل بسرعة على المائدة وجلس بالقرب مني.

_ غالية، لا بد أن تأكلي شيئا فمعدتك فارغة.

أخذت صحن الشورباء وبدأت أحركها بالملعقة خجلة منه. اقترب مني حتى التصق جسده بجسدي ومد ذراعه على كتفي وباليد الثانية يطعمني. استسلمت له كطفل مدلل لا يأكل إلا بمساعدة أمه.
نظرت إليه وقلت:

_ لماذا لا تأكل؟

ابتسم وأجاب:

_ لقد شعرت بالشبع وأنا بجانبك.

شعرت برغبة في أن أكون بين ذراعيه، أدرك حاجتي، اقترب مني، جذبني بنعومة نحوه وضمني إلى صدره، رأسي في تجويف كتفه، أسمع تنفسه وأحس بعضلات يديه القوية التي تشدني إلى صدره بقوة. شعرت بحرارة في جسدي، نصف إحساسي تجرد من القيود وأحس بمتعة جميلة، والنصف الثاني يتعذب ويشعر بألم حقيقي وبتأنيب الضمير. ضمه لي حرام، وانجذابي له يعني مخالفتي لديني ولشريعتي. تركت رأسي في تجويف كتفه وأغمضت عينيّ، أما هو فظل يداعب شعري إلى أن نمت. حملني برفق ووضعني على السرير ثم غطاني وقبلني على جبيني وغادر الغرفة بعد أن أطفأ ضوءَها. في صباح اليوم التالي، استيقظت على طرق الباب. كان صوت زكريا الذي يقول لي من خلف الباب:

_ سنفطر بعد ساعة ثم نواصل السفر.

غادرت الغرفة متوجهة إلى مطعم الفندق. رأيت سمير منهمكا في الحديث مع سهيل وزكريا. بدأت أمشي بخطوات خجلة. التفت إلي سمير وقال:

_ صباح الخير، تفضلي للفطور معنا.

انتهينا من تناول الفطور ثم غادرنا الفندق وانطلقنا في طريقنا إلى طرابلس. تركنا وراءنا صحراء الجزائر ودخلنا ليبيا التي لم يكن طقسها يختلف عن طقس الجزائر. مناخها حار وصحراؤها أكبر مساحة من صحراء الجزائر حيث يقال عنها، داخلها مفقود وخارجها مولود. كانت الساعة التاسعة صباحا والطقس مازال معتدلا غير حار. أما الطريق فمعبدة وواسعة عكس التي تركناها وراءنا ويحيط بها من كلا الطرفين أشجار النخيل وخيم متفرقة في تلك المساحات الصحراوية. كنت تائهة أجول بأفكاري باحثة عن مستقبلي المجهول مع العجوز وزوجته، وسمير يقود السيارة في صمت، لم ينكّت كعادته، ولم يضع شريط جو د سان ولا حتى موسيقى الراي. ساد صمت رهيب في السيارة، زاد من حزني وتفكيري، الصحراء التي خلفتها ورائي أجهضت حلمي ومنحتني أملا منكسرا وأسكنت بداخلي فراغا كبيرا، وبيني وبين سمير جدار من الصمت يخفي خلفه أشياء وخلف تلك الأشياء يختبئ الخوف من الآتي. التفت إليه وقلت:

_ أين أنت؟
رد بمزيج من الابتسامة والمرارة:

_ أنا بقربك.
خجلت من جوابه:

_ أعني، لماذا أنت صامت؟
فأجاب بصوت حزين:

_ أفكر فيك يا غالية وفي الذي ستذهبين معه.
_ لا عليك، أستطيع أن أتدبّر أمري بنفسي.
_ لا تضيعي العنوان الذي أعطيته لك، فيه كل أرقام هواتفي في فرنسا وإيطاليا، كما فيه رقم هاتف الفندق الذي سأنزل فيه في طرابلس، إن احتجت أي شيء مهما كان نوعه ما عليك إلا أن تتصلي بي وستجدينني بجانبك.
_ أحس أنني عبء ثقيل عليك في هذا السفر، لقد سببت لك مشاكل مع العجوز .
_ أنت لم تسببي أية مشاكل، هو الذي سببها لنفسه.
دخلنا الشارع الرئيسي الذي يؤدي إلى مركز المدينة. كانت تكتنفه أشجار النخيل ومصابيح عالية. الشارع مكتظ بالسيارات أحسست أنني بعيدة جدا عن أهلي وعن بلدي، كنت أنظر إلى تلك البنايات الحديثة، شركات للتصدير والاستيراد، ومكاتب إدارية تطل على البحر الأبيض المتوسط. وصلنا إلى محطة السيارات التي لا تبعد عن الساحة الخضراء كثيرا. الساعة تشير إلى الثانية ظهرا، نزل كل المسافرين وودّع بعضنا الآخر، طالبا كلّ واحد منا للآخر التوفيق. اقترب مني سمير وضمني إلى صدره بحرارة، وقال لي أمام العجوز:

_ اعلمي أنني بجانبك ورقم هاتفي معك، أنا دائما موجود في هذا البلد.

ودعته شاكرة وودعت أصدقاءه ثم انطلقت مع العجوز وزوجته نمشي في شوارع طرابلس وبين أزقتها، متوجهين إلى حيث يسكن. مشينا طويلا تحت أشعة الشمس المحرقة، لا يريد أن نركب الحافلة خوفا أن يحتك الركاب بجسم زوجته. أما تاكسي الأجرة فمستحيل أن نحلم باستئجارها. لم أر بخلا مثل بخله ولا خبثا كخبثه. بعد ساعتين من المشي وقفنا أمام بوابة كبيرة، فتح باب المدرسة ثم تبعناه في صمت، لم أكن أفكر في تلك اللحظة إلا في حمام بارد جدا وقسط من الراحة، بعد ذلك المشي الطويل تحت الشمس المحرقة. صعدنا سلما يؤدي إلى سطح المدرسة، كنت أراقب المشهد بذهول وعجز، غرفة كبيرة وأمام بابها كراس ومنضدات مكسرة وعجلات سيارة متفرقة على السطح وأريكة من القماش في وسط السطح. اتجهت مسرعة للجلوس عليها، نفضتها بيدي فإذا بغبار ليبيا كله على تلك الأريكة. شعرت بالحزن والويلات تأكلني، التفت إلى فاطمة فرأيتها واقفة وابنها بين ذراعيها، صامتة، حزينة، تعبة ومنهكة.

سألت العجوز بعصبية: أين هو منزلك؟

أشار إلى باب الغرفة وقال هذا هو منزلي ثم أدار ظهره المقوس إلى الباب يتشاجر مع المفتاح والقفل محاولا فتحه دون جدوى. بدأ يزمجر ويحدث نفسه، هذا هو المفتاح، كيف لم يفتح الباب؟ اقتربت من تلك الغرفة أنظر من خلال نافذتها، أرى حصيرة على الأرض ووسادة واحدة وغطاء واحدا، وفي الطرف الثاني من الغرفة كانت توجد قنينة الغاز وطنجرة واحدة وقدحان. في إحدى الزوايا توجد صناديق وأحذية قديمة متناثرة على الأرض. عيناي غارقتان بالدموع من قهري من تعبي ومن كذب العجوز على أبي وعليّ . التفت إلى زوجته صارخة في وجهها، هل هذا هو البيت الكبير الذي يسكن فيه زوجك؟ هل هذه هي الغرفة الجميلة التي ستكون غرفتي حسب ما قال زوجك لأبي؟ أفي هذه الزريبة سأسكن معكم؟

كانت المسكينة تنظر إلى زوجها و تجرع مرارة قدرها، شريدة تلعق جروحها التي سحقها الزمن، أما هو فكان لا يزال يتعارك مع المفتاح غير مكترث لسخطي وغضبي. كانت قدماي تؤلماني من المشي الطويل. خلعت الحذاء وما إن وضعت رجلي على الأرض حتى قفزت من مكاني وكأن حية لدغتني لسخونة الأرض. لبست حذائي بسرعة، أرجف وفي داخلي وحش يريد الانقضاض على العجوز وجرّه إلى حافة السطح ثم القذف به من ذلك العلو، لأرتاح أنا وفاطمة من ذلك الكابوس. ساعة بأكملها ونحن على ذلك السطح نتصبب عرقا ونئن من التعب، والطفل يصرخ من دون توقف، حالنا كحال المتشردين المنكوبين . فجأة أقبل علينا رجل يبدو أنه حارس المدرسة. سلم علينا وطلب منا أن نتفضل إلى بيته ريثما ينادي مدير المدرسة. نزلنا من السطح متجهين إلى بيته، غرفة أمام مدخل المدرسة، لا تختلف عن غرفة العجوز في الحجم إلا أنها كانت نظيفة وبها سجادة كبيرة حمراء، وعلى طول الجدران هناك وسائد مصطفة جنبا إلى جنب، ومائدة صغيرة في الوسط عليها منديل أخضر. أحضر لنا الرجل ماء باردا وشايا ثم غادر غرفته لإحضار المسؤول. جلسنا ننتظر والعجوز يحدث نفسه كالمجنون لعدم تمكنه من فتح باب قصره المنيف. كانت الغرفة باردة، تمنيت أن أستلقي على الأرض وأنام إلى ما لا نهاية، لكنني كنت حائرة خائفة لا أعرف ماذا يترقبنا وأين سنستقر، أرتعد وكأن مسّا أصابني. مرت ثلاث ساعات، بعدها شرّف المسؤول، قصير القامة أبيض اللون ضخم البطن يلبس جلبابا ليبيا أبيض وفوقه عباءة سوداء وعلى رأسه طربوش أحمر، هرول إليه العجوز وقبل يديه ثم قال:

_ سيدي لقد جئت إلى بيتي ولم أستطع فتحه يظهر أن القفل قد تغير. أريد التحدث إلى مدير المدرسة؟

قال له ذلك الرجل باللهجة الليبية:

_ إن المدير السابق طُِرَد من المدرسة بعد الغارة الأمريكية على ليبيا. وصدر قرار بتوقيف كل الموظفين الذين كانوا يعملون معه وتعيين حراس جدد.
قال العجوز متوسلا:

_ وماذا نعمل نحن؟ إنني جئت بعائلتي، كما ترى زوجتي وأختها.

قال الليبي:

_ لا أستطيع أن أفعل لك شيئا سوى أن آخذك إلى فندق تجلس فيه أنت وعائلتك حتى ندبر أمرك.

أخذنا الرجل الليبي بسيارته إلى أحد الفنادق الرخيصة في طرابلس حيث حجز لنا غرفة واحدة بثلاث أسرة ثم اختفى. دخل العجوز إلى الغرفة وما إن خلع حذاءه حتى انبعثت منه رائحة كريهة نتنهة. استلقى على السرير أما فاطمة فجلست على السرير الثاني ترضع ابنها. غادرت بسرعة تلك الغرفة إلى مكتب الاستعلامات، نظر إلي شاب مغربي باستغراب وفي يده جواز سفري ثم قال بصوت خفيض.

_ من الجنة إلى جهنم! لماذا جئت إلى هذا البلد؟
_ تلك قصة طويلة، ما يهمني الآن هو إيجاد غرفة عندكم.
_ للأسف لا توجد غرف فارغة.

أحسست بدوار وحرارة شديدة بجسمي قلت له وأنا أرتعش من شدة التعب وأنفي مقفول من الزكام.

_ ماذا أفعل أنا الآن؟ لا يمكنني أن أشارك العجوز وزوجته غرفتهما.
_ هل هما من عائلتك؟
_ لا، لكنني جئت معهم من المغرب على أمل المكوث في بيتهم حتى أجد مكانا في الجامعة.
_ ولماذا أنتم في الفندق ما دام له بيت في طرابلس؟
كان الشاب يطرح أسئلة كثيرة، أزعجتني، قلت له باختصار وجيز:

_ إنهم غيروا موظفي المدرسة التي كان يعمل فيها وكان هو من ضمن المرفوضين.
_هذا هو حالهم، يغيرون مثلما يريدون وفي أي وقت يشاءون.
_ من فضلك، أين هو مطعم الفندق أريد فنجانا من القهوة لكي أفتح عيني.
ابتسم وهو يشير بيده إلى قاعة من زجاج فيها كراسي وطاولات وتلفاز بأعلى الحائط وقال: ذاك هو مطعم الفندق، سأنادي النادل لكي يحضر لك القهوة.

لامارا 14-11-13 09:37 PM

الفصل الخامس

نشوة لقاء



نظرات جائعة تحوم صامتة في فضاء ذلك الليل، تلتهم آثار كل عابر أو قادم من غياهب المجهول، تبعثر خطواتي المنهكة وكأنها تقول لي، ماذا تفعلين في هذا الفندق، إنه فندقنا نحن الرجال وليس هناك مكان لجنس حواء! اتجهت نحو المطعم أمشي ببطء من شدة التعب والنعاس، لي رغبة ملحة لقسط من الراحة، لكن كيف وأين بين تلك الوجوه الإفريقية من شتى الجنسيات. أخذت مكاني في أحد الكراسي الفارغة، أخرجت كتابا من حقيبتي لأقتل الضجر، أقلب صفحاته التي كانت تحترق بين يدي واحدة تلو الأخرى في رتابة ذلك الضوضاء ودهشتي من ضجيج الزبائن المتطاير في الهواء كالمد يصعد، كالسحابة وأحيانا كالموج يعلو بي. قصصهم حزينة، بعدهم عن الأحباب والوطن، أملهم في إيجاد العمل في ذلك الوطن الأخضر، يثرثرون وأحيانا يتسامرون بلا كلل إلى أن دخلت امرأة وزوجها جلسا بالقرب مني، يثرثران بلهجة أمريكية أيقظتني من ذلك النعاس الذي كان يثقل أجفاني، شردت فيهما وسرحت بأفكاري بعيدا عن الفندق، أتذكر السنوات الجميلة التي قضيتها في أمريكا. وضع النادل فنجان القهوة أمامي على الطاولة، فاستيقظت من سهوي، غادر الزوجان المكان فتحت عيني على تلك الوجوه السمراء الشاحبة، عيونها أيضا تنم عن خوف يكبل أرواحهم بأساور ويجعلها تحوم في زنازينه القسرية. أمسكت فنجان القهوة، احتسيت رشفة ورفعت رأسي أنظر إلى التلفاز المعلق في إحدى زوايا ذلك المطعم عله ينسيني زحف الوقت البطيء. مازال الليل طويلا أنظر إلى ****ب ساعة الحائط أراها مستمتعة بوحدتي ومللي في انتظار قدوم الصباح كمن يحصد رغوة. انتظاري كان مزمنا، أختنق، أنظر في كل الجهات فإذا بي أبصر الشاب المغربي قادما إلي وفي يده صينية فيها حساء وبيض مسلوق وكوب من عصير البرتقال. وضعها بجانبي على الطاولة.

_ أنا لم أطلب العشاء.

_ أعرف ذلك، لذلك جئت بالطعام.

_ انتظر، سأذهب إلى الغرفة وأحضر لك النقود.

كان باب الغرفة مقفلاً والطفل يصرخ. طرقت الباب، لم يجبني أحد. فتحته ببطء لكي لا أوقظهم فإذا بي أرى العجوز عارياً فوق زوجته وهي تصرخ من تحته:" اتركني حْشُومَة، اْلوْلْدْ كَيْـبْكِي." تشنجت في مكاني، أما العجوز فرفع رأسه نحوي، مبرزا إلي تلك الأسنان السوداء والبعيدة عن بعضها. شعرت برغبة في التقيؤ، حملت حقيبة ملابسي، ثم غادرت الغرفة. نزلت إلى المطعم فوجدت الشاب جالسا ينتظرني.

_ لماذا جئت بحقائبك؟ وجهك شاحب ... ماذا بك؟

- لا شيء، سوى التعب.

- لماذا لا تتركي حقائبك في الغرفة هناك آمن؟

انفجرت راويةً له أحداث مسلسل سفري منذ خروجي من المغرب إلى تلك الساعة في الفندق. تعجب من قصتي الغريبة ومن غرابة ذلك الرجل. أخبرني بأنه متزوج وزوجته حامل في شهرها الأخير ويسكنون في حي شعبي وبجوارهم تسكن عائلة زوجته. سألني إن أردت أن أذهب معه إلى البيت حين انتهاء دوامه في الساعة السابعة صباحا ليعرفني بزوجته طالبا مني أن أقبل ضيافته لي وأمكث معهم في البيت، مصرا أن أكون ضيفته من تلك اللحظة. غادر إلى مكتبه وتركني صحبة عشائي، غريبة أسبح ببصري المحير بين تلك الجدران الخضراء ومن فوق رأسي مصباح ملون بالذباب وصوت الصمت يعم المكان. كان قلبي يدق بسرعة وجسمي يرتجف، أبحث في عتمات نفسي عن مكان أرتاح فيه. فتحت حقيبتي، ارتديت قميصا. دوار في رأسي وألم في معدتي تسرب فجأة. ذهبت إلى غرفة الاستعلامات علني أجد حبة دواء مهدئة للآلام. وجدت رجلا ليبيا، سألته عن الشاب المغربي فقال لي إنه تلقى مكالمة هاتفية من المستشفى ثم ناولني رسالة فتحتها بسرعة.

" معذرة بحثت عنك ولم أجدك بالمطعم ولا أعرف أين ذهبت. إن زوجتي في المستشفى قد تلد في أية لحظة وأنا مضطر للذهاب إليها بسرعة. هذا عنوان بيتنا وعنوان بيت أخت زوجتي، يمكنك أن تذهبي وتمكثي عندها ريثما أرجع من المستشفى.



عبد اللطيف



فرحت بتلك الرسالة لكن فجأة اختفت تلك الفرحة وانتابني الخوف. كيف أذهب غدا عند امرأة لا تعرف عني أي شيء سوى أن زوج أختها صادفني في الفندق! هذا ليس لائقا في تقاليدنا ولا حتى في عاداتنا. ماذا ستقول عن زوج أختها؟ قد تظن به سوءا. من الأفضل أن أبحث غدا عن غرفة في فندق ثان. لا... لا أستطيع أن أسكن وحدي في فندق، هذه وصية سمير. آه، لقد نسيت سمير! لماذا لا أتصل به؟ هو الذي يمكنه أن يساعدني. شكرت الرجل وعدت إلى المطعم الذي لم يكن فيه أحد سواي. كل تلك الوجوه الشاحبة اختفت في غرفها لتنام. الساعة تشير إلى الرابعة صباحا. بدأ ضوء الفجر يتسرب إلى الفندق وجسمي يفقد السيطرة وعيناي تلتصقان، أحاول فتحها لكي لا تنطبق ببعضها. اتجهت إلى التلفاز أغير القنوات باحثة عن فيلم مثير يبعد النعاس من أجفاني. وفي قناة من القنوات وجدت فيلما كوميديا فرنسيا شردت معه حتى الساعة الخامسة. ذهبت إلى مكتب الاستعلامات وطلبت من الموظف أن يدلني على حمّام لكي أستحم. لا توجد حمامات إلا في الغرف. يا إلهي ماذا أفعل؟ لم يكن هناك حل إلا الذهاب إلى ذلك المرحاض. أخرجت من حقيبتي منشفة صغيرة وشامبو، أبلل منشفة بالماء والشامبو وأمسح بها على جسمي وبمنشفة أخرى أنشف جسدي بسرعة من البرد. ارتديت فستانا نظيفا، حملت حقائبي وغادرت الفندق. سمعت زقزقة آلاف العصافير في ذلك الفجر. رفعت رأسي إلى السماء، أراها هي أيضا مسافرة. أخذت سيارة أجرة وقلت للسائق أن يأخذني إلى الفندق الكبير. نظر إلي في المرآة الأمامية وقال: هل أنت سائحة؟ قلت بشجاعة مزيفة: أنا موظفة. كنت أقرأ آية الكرسي في سري لتحفظني وقلبي تتسارع دقاته. رأيته يسترق النظر إلي من مرآة السيارة. كان متوسط العمر، ضخم الجسد يعلو وجهه لحية كثيفة وعيناه ضيقتان، يقود السيارة في صمت وسط شوارع طرابلس التي مازالت نائمة في هدوء، لا نباح في الخارج ولا حتى عليل النسيم. وما هي إلا دقائق قليلة حتى توقفت السيارة أمام الفندق الكبير. دفعت له أجرته وأنزلت حقائبي وأنا في ذهول أنظر إلى الفرق الشاسع بين الفندق الذي كنت فيه وبين هذا الفندق. قدم إليّ البواب وحمل حقائبي. توجهت إلى غرفة الاستعلامات أسأل عن سمير. نظر الموظف إلى لائحة المقيمين وقال لي أي سمير منهم؟ فهنا ستة من النزلاء يحملون نفس الاسم.

_ سمير الإدريسي.

_ انه ينزل بغرفة رقم 118.

سألته إن كانت لديهم غرفة للحجز. ابتسم وهو ينظر إلي بعينين ساهمتين وقال:

_ لدينا خمسون غرفة لكنها محجوزة للوفد البلجيكي.

قلت بتعجب وغيظ: كل فنادقكم محجوزة.

رد بابتسامة وبلهجة ليبية: للي بحب يْجْعْمْزْ بالفندق يلزمو يحجز قبل الوقت بأسبوع.

طلبت منه أن يسمح لي بانتظار سمير بإحدى صالات الفندق. أشار إلى البواب وقال: وديها تجعمز بالصالون لْحْمْرْ.

حمل البواب حقائبي إلى ذلك الصالون الكبير. سجاد عجمي، أرائك شرقية، موائد زجاجية تلمع بالنظافة وعليها مزهريات بها ورود مختلفة الألوان. جلست وحدي أفكر في سمير. أنا التي قلت له سأتدبر أمري بنفسي، فلماذا أثقله بمشاكلي؟ ما زلت أتحدث مع نفسي، شعرت بالنعاس، أحضرت القهوة وما أن شربتها حتى أحسست بوجع حاد في معدتي وعرق بارد يتصبب من جسمي. نهضت من مكاني كي أذهب إلى الحمام، وقعت على الأرض مغمى عليّ ولم أعرف ماذا حصل بعد ذلك. أتذكر أنني فتحت عيني فإذا بي أجد نفسي مستلقية في سرير كبير في غرفة أنيقة وسمير جالس على أريكة بجانبي يتفحص جريدة. التفت إليه، نهض من مكانه وجلس بجانب السرير. يظهر على وجهه القلق، وضع يده على جبهتي وقال بابتسامة حزينة، ما زالت الحمى مرتفعة وجسمك يتصبب عرقا. عليك أن تنامي وترتاحي، سأغيب ساعة من الزمن وأعود إليك. غادر وتركني أتأمل الغرفة. ذُهلت لرؤية فستاني معلقا وراء الباب. أخفيت وجهي بسرعة تحت الغطاء لأرى إن كنت بلا ملابس. شعرت بخجل لم أشعر بمثله قط موبخة نفسي بشدة، ألعنها لأنها كانت تختلف عن طبيعة أخواتي اللواتي يُعْتَبرن نموذجا يرضى عليه الأهل والأقارب كما يرضى عليهن المجتمع، أندب نفسي التي تمردت على الأهل والمجتمع، نافرة نابذة كل شيء في محيطها متحدية كل القيود، عابرة شتى الحدود، باحثة عن الحرية هاربة من التقاليد الرجعية، متواجدة بغرفة شاب بفندق لا تربطني به أية علاقة، مرتدية قميص نومه. أتعجب للخلل الحاصل في أفكاري التي جعلتني أنفر من كل شيء تربطني به علاقة؛ أهلي ومجتمعي، متعجبة من أحلامي التي كانت تختلط بما أعيشه في حالة اليقظة، لا أسيطر على شيء. هل سأمضي حتى النهاية؟ أعلم أنني لن أجد الأمان حتى في ابتعادي، كما أعلم أن الزمن الذي يمضي لا يمكن تعويضه، كلهن يحسدنني على اختلافي عنهن، يوحي مظهري بالحياء والأخلاق الحميدة، لكن، من أنا؟ ما الذي يسكنني ويقلق قلبي ويرهق روحي حتى بالمنام؟ كرهت نفسي وتواجدي في غرفة رجل يربطني به سفر ثلاثة أيام. ما زلت أوبخ نفسي حتى أغمضت عيني المبللتين. استيقظت على طرق الباب. دخل سمير إلى الغرفة مبتسما وفي يده علبة دواء، سائل معدل لحموضة المعدة وأقراص مخفضة للحمى. اتجه إلى الحمام وأحضر كوبا من الماء وناولني الدواء. وضع يده على جبهتي وقال:

_ إن حرارة جسمك ارتفعت أكثر مما كانت عليه عندما تركتك.

ملأ الخجل أعماقي وصوت صارخ بداخلي لا يجد من يسكته، قلبي يرتجف وسحابة في عيني تحجب عني الرؤيا، لا أرى إلا جسدي مستلقيا في سرير رجل غريب، مرتدية قميصه، قلت له ورأسي مطأطأ.

_ لا أعرف كيف ولماذا جئت إليك! المفروض...

قاطعني قائلا:

_ ألا تتذكري أنني قلت لك أنني رهن مساعدتك في كل أمر تحتاجينه؟ لو لم أقصد ذلك فعلا، لما أعطيتك عنواني. إن وجودك الآن معي لا يزعجني، بل يفرحني...

ـ لماذا؟ هل ترغب في إزعاج الآخرين لك؟

- لا، ولكن أحب.. . أحب إزعاجك لي.

أمسك بيدي وقال:

_ غالية إن تمردك على تحدي القيود قد يجعل غيري ينظر إليك بغير الصورة التي أنظر إليك من خلالها.

- لماذا تنظر إلي نظرة تختلف عن غيرك؟

ـ لأنك قمت بما لم تستطع أن تقوم به أختي الوحيدة. أنت هربت من القيود وأختي تزوجت برجل غني في سن العجوز ابن الإيمان، مات وترك لها عدة أولاد دون دخل، كما ترك أولادا من زيجاته الأخريات. وهي تعيش الآن أرملة بسبعة أولاد تصارع معهم الحياة وتصارع المجتمع الذي لا يرحم.

- أنا متأسفة.

- لماذا تتأسفين؟ أنت وهي وأمثالكن كثيرات، مجرد ضحايا تقاليد صنعها المجتمع الذكوري.

ولكي أبرّر قلت له وسخونة تعلو وجهي.

_ ابن الإيمان هو السبب في تركي الفندق.

قال بصوت محتج وغاضب:

_ قبحه الله بيت الداء وأصل البلاء، لا أستغرب أي تصرف مشين منه، ليتني حطمت عظامه.

ولكي أطرد منه شبح الغضب حدثته عن المغربي الذي يعمل بالفندق. قدم نحو السرير وجلس على حافته.

_ غالية، لا تثقي في أي رجل يتودد إليك. هنا تُغتَصَبُ النساء وتُحرَقُ بالبنزين لكي لا تبلغ عن المغتصِب. من الأفضل أن ترجعي إلى أهلك وتتجنبي كل هذه المتاعب والمشاكل.

_ أنت قلت بنفسك أنني فعلت ما لم تستطع أختك أن تفعله وغيرها من الفتيات، إني أبحث عن سعادتي.

_ هل هذه هي السعادة التي تبحثين عنها؟

_ من يبحث يجد.

_ ستجدين هلاكك يا غالية.

_ لا، لا تقل ذلك.

بدأت أبكي ضمني إلى صدره محاولا تهدئتي، كان جسدي ساخنا كالمدفأة وجسده كالجليد. نزلت دمعتان ساخنتان على رأسي. أهو الحزن على تبعثري مع الزمن أم نسيم هادئ يداعب وريقات الشجر؟ وضع رأسي برفق على الوسادة ثم بدأ يداعب خصلات شعري، وابتسامة متحفظة على محياه.نامي يا صغيرتي، ما زال جسمك بحاجة إلى الراحة. تمنيت أن أقول له، لا أريد أن أكون صغيرتك، أريد أن أكون زوجتك. لكن كبريائي لم يسمح لي خاصة وأنه لم يبح لي بحبه، هل هو غرور وتيه حقد بغيض شامخ في زمني؟ حائرة لا أعرف طريقا ولا عنوانا. الخوف من الآتي أضرم بأعماقي حريقا والنعاس أثقل أجفاني. ظل بجانبي يداعب شعري حتى أغمضت عيني، ملتفة في حيرتي وغربتي وسط ذلك الظلام الهادئ وصوت عمّتي ينزلق مع الرؤى ليحضن روحي الخائفة.

استيقظت باكرا، خرجت إلى شرفة الغرفة، أنظر إلى امتداد البحر أبحث فيه عن مدار رحلتي ومسافات غربتي. مازالت الشمس دافئة في ذلك الصباح. الضجر يأكلني، أفكاري تتضارب، أشعر أنني وحيدة، أنا التي اعتدت على الوحدة وكانت بالنسبة لي هواية ممتعة. هذه المرة تعصر قلبي وتجرحه مخالب الوحشة والبعد عن أهلي. كان سمير ما يزال يغط في نوم عميق بتلك الأريكة الضيقة. ما زلت أتأمله حتى استيقظ. أدرت وجهي بسرعة تجاه البحر. بعد لحظة قصيرة قدم إلى الشرفة وقال:

_ صباح الخير. لا، أنت اليوم في صحة جيدة.

- من فضلك يا سمير، سأطلب منك طلبا واحدا.

- اطلبي ما شئت يا غالية، ليس طلبا واحدا فقط.

_ أريدك أن تجد لي غرفة في فندق ثان، سأمكث فيه حتى أنهي إجراءات التسجيل في الجامعة.

_ ألم تعجبك هذه الغرفة؟ هل… ضايقتك في شيء؟

_ معاذ الله، لم تضايقني أبدا، ولكن أنا التي أضايقك.

_ هل اشتكيت إليك؟

_ لا، ولكن ... بشرط أن تنام في سريرك، وأنام أنا على الأريكة؟

_ هذا ليس معقولاً. أنت ضيفتي ويجب علي إكرامك.

_ لكن ليس على حساب راحتك.

_ من قال لك على حساب راحتي، بالعكس أنا سعيد بوجودك ومرتاح أيضا، هيا بنا نفطر.

_ هل تقبل دعوتي للفطور.

_ عندما أكون ضيفك.

_ أين ستكون ضيفي يا سمير؟ أنا كما ترى أمشي في طريق مجهول أبحث عن حلم جميل لكي أعصره شعرا لكنه يعصرني يأسا.

_ لماذا هذا اليأس يا غالية؟ سأزورك بالمغرب إن شاء الله. وأكرميني كما شئت.

تمنيت أن أقول له سأذهب حالا إلى المغرب وزرني للتو وخذني معك من هناك. أمسك بيدي ونزلنا إلى المطعم لتناول طعام الإفطار. جلسنا بالقرب من نافدة تطل على البحر وبينما كنا نأكل وجبة الفطور، طلبت منه أن أتصل بالفندق الذي كنت فيه لأرى إن رجع ذلك الشاب المغربي إلى العمل. وافق بشرط أن يلتقي به أولا. مد يده إلى فنجان القهوة وقال، سنذهب لنرى هذا الشاب وفي نفس الوقت آخذ نقودي من ابن الإيمان. الساعة التي ودعتك فيها، كنت فقط أفكر فيك وفي مصيرك معه.

ذهبنا إلى الفندق سأل سمير في مكتب الاستعلامات عن المغربي، فقال له الموظف أنه أخذ إجازة لأن زوجته أنجبت توأمين. التفت سمير إلي وقال: إنه فعلا متزوج وله عائلة، أظن أنه صادق معك. لكن، لا بد أن أراه وأرى عائلته.

_ عندي موعد مع ابن الإيمان نزيل عندكم في الفندق.

قال الموظف:

_ ذلك الرجل المسن وزوجته، إنهما يفطران في المطعم.

قلت لسمير:

_ لا أريد أن أرى خلقته، سأنتظرك في السيارة.

ذهب سمير إلى المطعم وبعد عشر دقائق رجع وقال.

_ بعد أسبوع سنلتقي بالمغربي وسنذهب سويا إلى منزله، هكذا أطمئن عليك. أريد منك الآن أن تنسي كل شيء. سنزور بعض المناطق السياحية في هذا البلد، وأعرفك عليها قبل أن تستقري فيها. اليوم سنزور مصراتة ونتناول طعام الغذاء فيها.

_ لم تقل لي هل أخذت نقودك من ابن الإيمان؟

_ نعم، لقد أخذتها كاملة. بمجرد أن رآني نهض بسرعة، أخرج حقيبته ثم مد لي النقود. أتعجب في أناس يخافون ولا يستحيون. انسي ابن الإيمان الآن، لا نريد الآن إلا أن نتمتع بهذه الأيام التي تجمعنا، نتعرف فيها على بعضنا أكثر وقد تأتي الظروف وأزورك يوما عندما تكونين في المغرب.

_ ألن تزرني في ليبيا؟

_ بلى سأزورك، كيف لي أن أقطع علاقتي بجوهرة غالية؟

طارت السيارة في فرح، بين الشوارع الكبيرة، كما طارت أحلامي معها لتوقد شموع البهجة والمحبة، وجو دا سان يشاركنا فرحنا بصوته كما الطيور تزقزق فوق سماء طرابلس وسمير يردد الأغنية ويحرك برأسه طربا وأحيانا يمسك يدي ولا يتركها إلا عندما يريد تغيير سرعة السيارة. هذه المرة لم يكن معنا أحد ولسنا مضطرين للتحدث باللغة الإسبانية. أحيانا يروي نكتا وأحيانا يحكي مغامرات مضحكة حدثت له في ليبيا. كنت أنظر إليه معجبة بأناقته، بسيط غير متكلف، يمكن الركون إليه والثقة به، يعبر عن نفسه بسهولة، اجتماعي في تصرفه، مستقل بآرائه عن غيره.، يتميز باندفاعه وسرعة قابليته للاستثارة وشدة الحساسية، متسم بقوة الإرادة، تبدو واضحة عليه خصائص الإيثار. توغلنا في شوارع مصراتة ثم توقفنا بسوق مكتظ بالمحال التجارية، كان يطلعني على محال المفروشات الليبية ومحال للباس التقليدي. دخلت إلى مكتبة واشتريت رواية البؤساء للكاتب الفرنسي فيكتور هيجو. وقع بصري على غلاف كتاب مكتوب عليه جملة لمهاتما غاندي: " لا أريد لداري أن تحيط بها الأسوار من كل جوانبها وأن تسد نوافذها، أريد ثقافة البلاد كلها أن تهب على داري بحرية تامة، لكني أرفض أن تقلعني إحداها من الأرض." الله عليك ما أروعك يا غاندي! لكنني لست مثلك. ثقافة بلادي أقتلعتني من بلادي ... مكثنا في المدينة نتجول بين معالمها إلى أن غربت الشمس وامتدت أنوار المدينة في وجل شديد. غادرنا المدينة ودخلنا في الطريق الرئيسة المؤدية إلى طرابلس. كان سمير يغني ويلتفت إلي ويبتسم وكأنه يقول لي إن هذه الأغنية موجهة إليك وأنا أسبح في موج الأحلام وأحيانا أصعد في دروب الصمت أبحث عن براءتي من سري وأحيانا أذوب كلما لمس يدي، تائهة بين ماضي وحاضري وبغتة أفيق من غيبوبتي وألتفت إليه أرى الزمان والمكان جدارا منيعا يفصلنا.

وصلنا إلى طرابلس، أنوار شوارعها تضيء من كل جانب، مكتظة بالسكان، والمحلات مازالت مفتوحة ومليئة بالزبائن.

ذكرني ذلك الشارع بشارع مدينة فاس الجديدة الذي يُعْتَبَرُ من أحدث الشوارع بالمغرب، حيث تُباعُ فيه أرقى وأجمل الأشياء. كانت موسيقى الراي تسمع عاليا في أحد المطاعم.

_ في هذا المطعم سنجلس، لأنهم يحبون الراي مثلنا.

جلسنا بالقرب من الجدار الزجاجي الذي يطل على الشارع. طلب سمير العشاء ثم استأذنني لقضاء أمر. تركني أتأمل المطعم، متذكرة مطاعم تلك القرى والمدن الصغيرة في الجزائر. لا أريد أن أفكر في الغد، ولا في ذلك اليوم الذي سأودعه فيه، لا أريد أن أفكر في سري الخطير. تمنيت لعقلي أن يتوقف عن التفكير ولو مرة واحدة في حياتي. ألا يحق لي أن أعيش سعيدة كغيري؟ مازلت أحدث نفسي حتى رجع سمير.

_ هل تأخرت عليك؟

_ لا، أبدا. أتمنى أن تكون قد قضيت عملك. فأنا أحس أنني أخذت كل وقتك. من أنا بالنسبة لك حتى تؤجل عملك بسببي؟

_ ألا تعرفنين من أنت بالنسبة لي؟ إنك غاليتي. وجودك معي يدخل على قلبي السرور و السعادة. ليس لدي شغل في هذا البلد إلا بيع السيارة. فاجلسي وارتاحي ولا أريد أن أسمع مرة ثانية تأسفك.

جاء النادل بطبق من الأسماك المقلية وسلطة بالكركند. تعشينا تحت أضواء المطعم الحمراء وتلك الشموع الموزعة على الموائد معانقة تلك المصابيح الحمراء في سقف المطعم، وبعد انتهاء تناول العشاء انطلقنا إلى الفندق. كان يحمل في يده علبة متوسطة الحجم ملفوفة بورق وردي وملفوفة بخيط فضي. أخذ مفتاح الغرفة من مكتب الاستعلامات ثم دخلنا إلى الغرفة.

قال سمير:

_ يظهر عليك التعب، خذي قسطا من النوم وبعد ساعة سننزل إلى مطعم الفندق، هناك فرقة موسيقية قادمة من ألمانيا ستكون حفلة رائعة.

دخلت مهرولة إلى الحمام اغتسلت وارتديت بنطلونا من الجينز الأسود وقميصا أبيض ثم جمعت شعري إلى الوراء وظفرته. كنت أكره شعري لأنه كان طويلا وغزيرا، يتعبني عند غسله في الحمام. لم أفكر أبدا في قصه لأن أبي لا يحب أن تقص بناته شعر رأسهن، فذلك حرام حسب مفاهيمه. حرام! حرام! كل شيء حرام، حرام قص الشعر وحرام السفر إلى أمريكا للدراسة وحرام وجودي في غرفة رجل غريب وحرام أن يفسحني سمير في البلد، هذا الرجل الذي لا تربطني به سوى عِشْرة ثلاثة أيام سفر بالصحاري. أغمضت عيني نزلت دموع ساخنة على خدي. جلست على الأريكة أحاول أن أهدئ من روعي حتى أقبل سمير.

_ مساء الخير يا صغيرتي. ما هذا؟ بنطلون الجينز أسود وضيق وقميص أبيض! إنه جميل على جسمك الطويل والرشيق، لكن هذه الحفلة تحتاج إلى فستان خاص بها.

_ فستان خاص بها؟ أين سأجد ذلك الفستان؟

ابتسم ثم توجه إلى حيث كان يضع العلبة. فتحها وأخرج فستانا أسود طويلا وحقيبة وحذاء بلون فضي. فتحت فمي مندهشة لرؤية الفستان الذي لم ألبس مثله قط في حياتي.

_ لا، لا يمكنني أن أرتدي هذا الفستان!

أخافني وأربكني عطاؤه الكثير. أمسكت حقيبتي محاولة إخراج النقود، نزعها مني ووضعها على المائدة.

مد إليّ الفستان وقال وهو يبتسم: البسيه ريثما أستحم وأرتدي ملابسي. دخل إلى الحمام أما أنا فما زلت أنظر إلى الفستان مستغربة، لبسته بسرعة قبل أن يخرج من الحمام. أعجبني منظري وابتسامة خجلة استقبلتني وأنا أرى جسمي لأول مرة يبدو كجسم امرأة في الثلاثينات. خرج سمير من الحمام وقال وهو يبتسم:

_ لم أر قط في حياتي أرشق من هذا الجسم. لماذا تركت شعرك مربوطا هكذا؟

أحضر مشطا وأجلسني على حافة السرير ثم بدأ يفك ضفيرتي برقة بالغة ويمشط شعري. وقفت أنظر إلى نفسي في المرآة، رأيته يلتهمني بعينيه، شعرت بنشوة المرأة حين تثور بالرعشة الأولى بقلب يدق. حملت حقيبتي الفضية ومشيت بصحبته، أتبختر في مشيتي. دخلنا إلى المطعم الكبير الذي كان مكتظا بنزلاء الفندق. أقبل علينا النادل ورافقنا إلى حيث سنجلس. طلب سمير كوكتيل فواكه وصحنا من المكسرات. كنت مبهورة أنظر إلى عالم جديد لم يسبق أن عايشته، أما هو فكانت عيناه لا تكف عن النظر إلي. التفت إليه كي أسأله عن اسم الفرقة فخجلت من تحديقه بي. أحسست يده تربت على كتفي.

_ أريدك الليلة سعيدة.

بعثرني الارتباك وتسللت مني ابتسامة متحفظة، أمسكت عصير الكوكتيل رشفت منه، طعمه حاد شيئا ما لكنني لم أكترث. كنت فرحة باهتمامه وإعجابه بي، ينظر إلي ويتحدث مبتهجا مسرورا. انتهينا من شرب الكوكتيل وطلب من النادل أن يأتي بنفس ذلك العصير. كنت أتمنى أن يحضر عصير البرتقال، لكنني خجلت أن أطلب ذلك لأن عادتنا تقول:" الضيف ما يتشرط ومول الدار ما يِْفْرّطْ." أحضر النادل ذلك الكوكتيل المر، لكن روعة تلك الحفلة جعلتني أنسى مرارته. كان سمير يهز برأسه متمايلا مع نغم الموسيقى وينظر إلي بين الفينة والأخرى ويبتسم. شعرت بحرارة في جسمي، وبرغبة ملحة إلى الرقص، أضحك من غير سبب. أمسك بيدي وسحبني إلى حلبة الرقص، لم أقاومه ولكنني كنت ألملم ارتباكي وخجلي، أمشي ببطء حتى وصلت إلى حلبة الرقص. أرقص باكية في وجه الزمان وابتسامة تلبسني. توقف كل الذين كانوا يرقصون بالحلبة يصفقون لي وسمير ينظر إلي بإعجاب وابتسامة عريضة مرسومة على وجهه. انتهت الأغنية وتوجه كل إلى مكانه.

- أنت أميرة الحفل.

_ لا تبالغ يا سمير. احكي لي نكتة.

_ هل الآن وقت النكت يا غالية؟

_ وقت ماذا؟

_ وقت الرقص.

_ لا، لن أرقص مرة ثانية. فالأنظار كلها مصوبة نحوي .

_ ينظرون إليك لأنك جميلة. هذه المرة سنرقص سويا.

_ لم أرقص مع رجل قط في حياتي.

_ لا تخافي، سأعلمك.

أحسست بحرارة بجسمي وارتخاء في أعصابي ورغبة في الرقص مع سمير. انتهت الأغنية وعلا التصفيق. شرعت الفرقة الموسيقية في عزف لحن هادئ، وقف من مكانه ومد يده إلي واتجهنا إلى حلبة الرقص، جلبني إليه ببطء شديد، وضع يديه على خصري، اقترب بخده إلى أن لامس خدي.

_ لماذا ترجفين؟ لا تخافي.

شدني إلى جسمه وبدأ يحركني مع تمايل نغم الموسيقى، كنت أتمنى أن تنتهي تلك المقطوعة بسرعة كما أريدها أن تستمر إلى ما لا نهاية. أريده أن يبتعد عن جسمي، كما أريده ألا يبتعد. أريده أن يكون لي حلالا إلى الأبد وليس رفيق سهرة. لم أستطع أن أصده عني ولم أستطع أن أبقى بين ذراعيه لأن ذلك حرام، ارتجفت نشوة وخوفا. انتهت المقطوعة الغنائية وأمسك يدي ثم اتجهنا إلى مكاننا. رأيت كأسين آخرين من نفس الكوكتيل على الطاولة. لم أستطع أن أنظر في عينيه من خجلي. أمسكت بكأس العصير وبدأت أشربه جرعة تلو الأخرى. كانت الفرقة مازالت تعزف كما أفكاري تعزف في ذهني وتتراقص محدثة إيقاعا يقول لي أنت ما زلت شابة وتستحقين أن تتمتعي بحياتك، لا تضيعي الفرص الجميلة، وإيقاعا ثانيا يرد على الإيقاع الأول، تحديك يا غالية وكسرك للقيود سيكسر كل حياتك في الدنيا وفي الآخرة وإيقاعا ثالثا يجيب على الإيقاعين الأولين، غالية لم تقم بأية خطيئة، غالية لا تريد إلا العيش في سلام. اتركوها لحالها واذهبوا بتقاليدكم وقيمكم إلى الجحيم. شعرت بدوار في رأسي وبعرق بارد يتصبب من جبيني عن جرح قديم ينزف مرة أخرى. اعتذرت لسمير عن عدم استطاعتي البقاء حتى انتهاء السهرة. طلبت منه مفتاح الغرفة، وقفت في مكاني فشعرت بدوار شديد، جلست بسرعة لكي لا أقع على الأرض.

_ سأحضر لك القهوة.

_ لا، من فضلك إلا القهوة هي التي سببت لي الإغماء البارحة.

نهض من مكانه وأمسك بيدي ثم توجه بي إلى مصعد الفندق. كنت أمشي بتثاقل، لم أستطع أن أقف على قدميّ، ومعدتي كانت تؤلمني فهي لا تتحمل المشروبات الحامضة. ما زلت أتحدث إليه حتى وقعت على الأرض. حملني بين يديه من غير أن يتفوه بكلمة واحدة. فتح باب الغرفة ووضعني على السرير.

_ سمير، أنا متأسفة.

_ لا داعي للأسف.

_ أين حقيبتي؟

_ ماذا تريدين؟

_ أريد قميص نومي.

_ ها هي حقيبتك.

لم أستطع فتحها، أخرج القميص وناولني إياه. بدأت أخانق أزرار الفستان أحاول فتحها، كان ينظر إلي ويبتسم. اقترب مني وفتح أزرار الفستان ببطء شديد ثم ألبسني قميص نومي وغطاني. انتابني خوف شديد، يخيل إلي ملاك الموت، جهنم، ووجوه بشعة من ضمنها ابن الإيمان تقهقه بصوت عال ويشيرون إلي بأصابعهم. أحاول أن أغمض عيني لكي تذهب عن بصري تلك الوجوه البشعة التي تلاحقني وتقترب مني وابن الإيمان يمد يده إلي فصرخت:

_ لا، لا تقترب.

نهض سمير من مكانه وأشعل الضوء ثم جلس بجانب السرير ليؤنس خوفي وأنا في ضيق أنفاسي أشق سكون الليل بالحسرات.

_ ماذا بك غالية؟

التفت إليه في خوف.

_ وجوه بشعة تلاحقني، لا أريد أن أراها، لكنها تلاحقني إنني خائفة.

استلقى قربي وضمني إلى جسده، كنت أسمع أنفاسه وأشم رائحة عطره. وضع راحة يده تحت رأسي واليد الثانية يداعب بها خصلات شعري، رغم أنني كنت في قمة التعب، والإحساس بالإعياء مما يشبه النعاس، كان جسمي يرتعش إلى أن خلدت للصمت وليس للنوم. لم أستطع أن أنام، أريد أن أحس جسدي يلامس جسده. كنت أسمع دقات قلبه وتنفسه وسكون رهيب يعم الغرفة. وبعد ساعة واحدة تمنيتها لو كانت دهرا، ناداني بصوت دافئ ورخيم:

_ هل نمت يا غالية؟

لم أجبه، تظاهرت بالنوم، سحب يده من تحت رأسي بحذر وقبلني على جبيني.

_ أحبك يا غالية.

ثم استلقى على الأريكة. كنت أتعذب بحبه، حرقة تسكن قلبي، تتوهج نيرانها التي لا تطاق. أفكر في ذلك اليوم القريب الذي سأودعه فيه، دموع تنزل ساخنة من عيني إلى أن خلدت للنوم. استيقظت على وجع في رأسي. لم أجد سميرا في الغرفة. اغتنمت غيابه وأسرعت إلى الحمام. أخذت دوشا ولبست بنطلون جينز وقميصا. ضفرت شعري ثم عقدته إلى الوراء. نظرت إلى المرآة فسرّني مظهري. لا أريد أن أظهر أنوثتي ولا جمالي، لأن ذلك لا يوقظ إلا لهيبا في سمير وأحترق أنا بذلك اللهيب. أريد أن أكون جميلة في عينيه و لكن إلى أين سيؤدي ذلك الإعجاب بي من غير أن يعترف بحبه لي؟ جلست في الشرفة أطالع كتابا من تلك الكتب التي اشتريتها من مكتبة الجماهيرية بمصراتة وأحيانا أنظر إلى البحر، أتأمله وأتأمل فيه أملي غير المطمئن، أنصت إلى قلبي الذي كان ينبض بسرعة، كأنني طير حطم القدر عشه وتكسرت أجنحته. أتأمل دموعي التي جفت من البكاء وآمالي التي تذهب رويدا أدراج الرياح، فكتمت حبي عندما لم أسمع منه اعترافا وأفرغت أنيني في جراحي. أتأمل وحدتي ووحشتي وغربتي، في بلاد غريبة لا أهل فيها ولا صاحب. الأيام تدور بي وتدمي أحداثها قلبي المجروح، في نفسي ثلج ونار، وحب وكره ووطأة اليأس تخنقني ولا تبالي بصياحي.

سمعت طرق الباب. دخل سمير وفرحة تعلو وجهه، اقترب مني وقال:

_ إن وجودك خير وبركة. بعت سيارتي بثلاثة أضعاف ثمنها. لم يحدث لي مثل هذه الصفقة منذ بدأت أتاجر في السيارات. سرقني الصمت وغرقت في ذهول عميق. في تلك اللحظة شعرت وكأن شيئا ما بيننا يتلاشى. أطلقت عنان كلماتي وكأنني أتنفس بضيق.

_ مبروك الآن يمكنك أن تسافر إلى إيطاليا.

انطفأت تلك الابتسامة التي كانت على وجهه.

_ هل تظنين أن السيارة هي التي جعلتني أمكث بليبيا؟ وعدتك أن أجلس معك حتى ألتقي بالشاب المغربي وعائلته والسيارة لن أسلمها إلا بعد أسبوع لكي أكون أنا وهي رهن خدمتك.



قضينا يوما بأكمله نسبح في البحر ونلعب على الشاطئ كطائرين طليقين. كان ذلك اليوم يساوي السعادة كلها. تعشينا في ذلك المنتزه الذي يشبه مدينة أوروبية صغيرة في قلب طرابلس. هناك الجاليات الأوروبية تقضي أوقات الفراغ، وتستحم طليقة حرة بعيدة عن العيون المكبوتة والنفوس الجائعة. وبعد غروب الشمس رجعنا إلى الفندق. لم أكن أشبع من الحديث معه، كان يفكر بعقلي ويناقشني بلساني، كان مرآتي التي أرى فيها فارس أحلامي، ذلك الفارس الذي لا أجده حتى في الأحلام. رفع رأسه إلى الأعلى فسقط بصره على الضوء الخافت وسط تلك الغرفة الفسيحة وقال: المرأة جمال وذكاء، زهرة الحياة وسعادة الدنيا. استقبلته عيناي باندهاش ووجهي يرتسم عليه التساؤل فقلت بصوت يقرب إلى الصراخ:

_ لكن، الرجل يقتل ذلك الطموح بفرض أعراف وتقاليد تشد وثاقها وتقيد كل طموحاتها فتموت في ذلك القفص الزوجي الذي يجمعها فيه مع ثلاث زوجات أخريات، تعيش معهن حياة مملة بلا آمال وتقضي سن شبابها في إنجاب أطفال لا يقدرون بعدد، وتقدم المتعة لزوجها الذي يعاملها مجرد آلة، غير آبه بمتعتها.

ظل صامتا، شعرت بقلبي المحموم ينبض مثل قلب الشمس. أحس بي، ولكي يكبت تلك النيران المتأججة بداخلي قال، الزواج المبكر في نظر الرجل يحول دون وقوعها في الخطأ والرذيلة. نظرت إليه بنظرة ملغومة حادة متفرسة في وجهه كأنني أبحث عن شيء مفقود وقلت بصوت يشبه الصراخ: مع من تقع في تلك الرذيلة، وحدها أم مع ذلك الرجل الذي قد يكون أبا أو أخا أو زوجا لامرأة ثانية؟ مع من تخون المرأة إن نُعتت بالخيانة؟ مع الشبح أو مع ذاك الرجل الذي يحمل دائما لواء الشرف بيده ويدافع عنه تحت راية العرف والتقاليد وباسم الدين والعقيدة. هل الدين يا سمير أمر المرأة بأن تتحجب وتتستر وتتزين بالطهارة والعفة بينما الرجل يفتخر بمغامراته في أيام شبابه وبعشق الفتيات له وجريهن وراءه لأنه كان عنترة زمانه؟ كنت أنظر إليه منتظرة منه جوابا. أما هو فكان يطيل النظر إلي ويبتسم ابتسامته الدافئة التي اعتدت عليها. تتماوج في عينيه سيل من الكلمات.

_ الإسلام يا غالية شرّع قوانينه وأثبت أحكامه على الجنسين معا. إن الإسلام أعطى حرية للمرأة لم تعطها إياها ديانات أخرى، ووضعها في المركز الذي يليق بها، ما لم نجده في أي مجتمع، أوروبي أو غربي. انظري مثلا المجتمع الأمريكي كيف يعامل الرجل المرأة؟ إنه يعاملها باضطهاد وبعنف ويضربها وغالبا يقتلها، لأن الدين عندهم لا يؤثر في سلوكهم، وعاداتهم وتقاليدهم بعيدة عن الدين وتعاليمه. نظر إلى ساعة يده. آه يا غالية إن الفجر قد أوشك، لا بد أن تنامي وترتاحي، فغدا سنسافر إلى بنغازي وبعدها سنعود إلى الفندق لحضور السهرة.

ذهبت إلى الحمام لبست قميص نومي واتجهت إلى الأريكة لأنام.

_ نظر إلي وضحك بصوت مسموع.

_ هل تريدين أن تنامي على الأريكة؟ ألم أقل لك بأنك ضيفتي وعليّ إكرامك.

_ بلى، لكن أريد أن أنام على الأريكة.

_ إن أردت أن تنامي على الأريكة فأهلا وسهلا بك بجانبي، لأنني لن أغيرها بالسرير؟

شعرت بسخونة في وجهي. استلقيت على السرير وغطيت وجهي بسرعة باللحاف، أما هو فقهقه عاليا. كنت في قمة السعادة في تلك الأيام التي قضيتها معه. أنجذب إليه يوما بعد يوم وأعشقه أكثر فأكثر. استيقظت قبله وأسرعت إلى غرفة الاستعلامات لإحضار الفطور. استقبلني الموظف باللهجة الليبية مبتسما.

_ كان عليك أن تتصلي هاتفيا فقط من الغرفة فنأتيك بالفطور.

كان سمير ما يزال يغط في نوم عميق وهادئ. كم جميل وهو نائم، يظهر في وجهه براءة طفل صغير. جلست على حافة السرير أتأمله، طرق النادل الباب ومد لي صينية الفطور. القهوة التي يحب أن يبدأ بها نهاره، وعصير البرتقال ووردة حمراء ربما تنطق هي وتعترف بحبي له وتنقذني من ارتباكي. اقتربت منه وصينية الفطور في يدي، لم أرد أن أوقظه من النوم، لم أكن أشبع من النظر إليه وكأنه لوحة رومانسية تأسر القلوب. فتح عينه.

_ إنني أشم رائحة القهوة.

التفت إلى الصينية التي كانت بيدي.

_ ما هذه المفاجأة الحلوة؟

أمسك بالصينية ووضعها على ركبتيه وأمسك الوردة الحمراء يشمها ويبتسم.

_ وردة حمراء! هل هذه الوردة لي؟

وضع الصينية على المائدة ومد يده إلي وجرني إليه ثم ضمني إلى صدره وقال:

_ إن هذه الأيام التي أقضيها معك أحلى أيام حياتي.

كان صدري ما زال في تجويف كتفه وقدماي تلامس قدميه. كان جسده ساخنا وكنت أحترق حزنا، أنظر إليه لأرى هل الوردة الحمراء بلَّغت رسالتي. كنت أرى نظرات دافئة كوَتْ جسمي نارا وأشعلته لهيبا. نهض من مكانه بسرعة.

_ هيا بنا نفطر إن أمامنا سفر.

تمنيت أن يقول إلى إيطاليا، تمنيت أن أرى شقته الجميلة التي تطل على البحر. إني أعشقه كعشقي للبحر الذي لا تبعدني عنه عاصفة ولا تُفرِّقُ بيني وبينه المسافاتُ. يجتاحني شوق إلى سمير ويسحقني وفي قلبي تذكار لحبيب سينتقل إلى بلد وراء البحار ليحمِّلني فراقه آلاما وأحزانا. جلس بجانبي وبدأ يحتسي القهوة ويتكلم عن تلك المدينة التي سنزورها. كنت أرتشف عصير البرتقال وأتساءل في نفسي إن كان يعرف أنني أحبه؟ هل الوردة بلّغت رسالة قلبي؟ هل أساء فهم محتوى تلك الرسالة؟ وكما العادة تظل أسئلتي يقهرها عدم الجواب.

طوال الطريق كنا نستمع جو د سان هذا المطرب الذي أصبح جزءا منا، يجعل أكفّنا تتشابك وأناملنا تتعانق وروحينا تنصهران فاجأني بسؤاله.

_ لماذا فضلت أن تدرسي في ليبيا وليس في بلد آخر؟

أيقظ بسؤاله أيامي المدفونة في جسمي المتفتت. تذكرت أبي وسلطته القسرية وحشرجة البكاء تكاد تنفجر من صدري.

_ أبي لا يريدني أن أدرس في أية دولة أجنبية لأن تغربي ودراستي في بلد غير إسلامي قد يُخِلّ بأخلاقي ويبعدني عن تقاليدي.

قال مستهزئا:

_ فليبيا بالنسبة له المكان المنشود! ارجعي إلى بلدك، ارجعي إلى المغرب.

_ لا. لا أريد أن أرجع ولن أرجع أبدا ثم انفجرت باكية.

_ لماذا يا غالية ؟ ما هو السبب؟

السبب أني..

_ أنك ماذا؟

_ أريد أن أبني مستقبلي بعيدة عن التبعية والتقليد. تقليد أخواتي وكل فتيات مجتمعنا. لا أريد أن أتزوج رجلا يمتحن شرفي بدمي ويضعه على خرقة بيضاء ويقدمها في صينية لكي يراها أهلي وعلى رأسهم أبي وإخوتي و يصفق الحاضرون، ويباركون لي حفظي لشرفي الذي اعتنيت به وحافظت عليه لذلك اليوم الكبير. لا أريد أن يتزوج رجل عذريتي بقدر ما أريد أن يتزوج روحي. إن كثيرا من الأزواج من غير شرف. لأن الشرف لا يقاس بالبكارة بقدر ما يقاس بعفة المرء ذاته رجلا كان أو امرأة. إن الرجل من غير شرف مادام يروي لزوجته مغامراته الغرامية مع البنات قبل أن يرتبط بها في حين أنها غير قادرة وخائفة من ذكر رواية ما، حتى ولو كانت إعجابا بريئا بشاب ما. والله أعلم بعد ذلك هل سيكون شريفا معها مُحترِما ذلك الرباط المقدس. كل تلك الألاعيب التي قام بها مع البنات لم تفقده شرفه بل زادته رجولة وتجربة في حياته الجنسية. أما المرأة فهي مخلوق تابع للرجل، ضعيف، ضلع أعوج لا يمكن إصلاحه أو تقويمه. المرأة ناقصة عقل ودين، ضعيفة أمام الشهوات، كيدها عظيم، رجس من الشيطان، لا بد للرجل أن يضع حدا لذلك الكيد وأن يمنعها من السقوط في هاوية الشيطان وهاوية الجنس ببتر عضو في جسمها الذي وهبه الله لها مثلما وهبها سائر الأعضاء. لا يجب أن تحس بمتعة الجنس. أتعجب كيف يتدخلون في صنع الخالق؟ كيف داسوا خلق الله وصنعه. فلماذا لا يقطعون لسانها أيضا ويحرمونها متعة الإحساس بمذاق الطعام وبفقؤون عينها لكي لا ترى! نعم، لا يجب أن تحس بشيء في هذه الدنيا سوى إحساس ألم الإنجاب المتكرر والضرب والمعاملة السيئة واللعب بمشاعرها وبحياتها. كم من امرأة نجحت في امتحان الشرف وعاشت مدة ثم سقطت في امتحان الوفاء لزوجها، وجلبت لنفسها أمراضا خبيثة ومميتة، فماتت وتركت أولادها وراءها يتامى. أين هو الشرف؟ وما هو مفهومه؟ إنني لا أعرفه ... وجدته منعدما في سلوك أهل بلدي. بكيت وصوتي أسمعه يناديني، يحدث سري الدفين ويقول له ابك مثل بكائي في الدجى وحدي. ضمني إلى صدره.

_ غالية لم أر مثلك في التعصب والغيرة على المرأة. لماذا كل هذا الانفعال؟ لماذا تأخذين هذا الموضوع بحساسية زائدة عن اللزوم؟ موضوع المرأة طويل ومعقد، لا أستطيع لا أنا ولا أنت ولا أي واحد حله، إنه لغز، أنجبه التاريخ وسيظل خالدا أحداثه تتكرر مع مرور الأيام. إنه موضوع أقوى مني ومنك وهو السبب في غربتي. لقد أحببت فتاة وعشقتها وأحبتني وعشقتني، لكن التقاليد وحب المال وسيطرة الأب وتأثير المجتمع فرق بيننا وداس على حبنا الطاهر. امسحي دموعك وانسي هذه الأفكار التي لا تزيدك إلا آلاما في روحك.

خجلت من تصرفي وانفعالي وكأنني قائد ثورة. ابتسم كعادته و قال:

_ أريد أن أراك الليلة نشيطة، سعيدة وأن أرقص معك الليل كله.

كنت شغوفة لحضور ذلك الحفل، لبست الفستان نفسه الذي اشتراه لي ومشطت شعري رافعة إياه فوق رأسي لأبدو امرأة يافعة، ثم وضعت أحمر الشفاه لأول مرة في حياتي. مازلت أنظر إلى نفسي في المرآة معجبة بمظهري وكأنني امرأة في الثلاثينات حتى دخل سمير.

_ ما أجملك يا غالية! لكن، ما هذا اللون الأحمر الذي على شفتيك؟ إنك جميلة من دونه.

أخرج منديلا وبدأ يمسحه برقة بالغة. شعرت بسخونة في وجهي من الخجل. أجلسني على الأريكة وفتح رباط شعري يمشطه بصمت. نزلنا إلى مطعم الفندق، أحضر النادل لنا كأسين من ذلك العصير المر الذي شربناه المرة الماضية وكأنه لا يوجد عندهم ما يقدمونه من المشروبات سوى ذلك العصير.

_ اليوم فرقتان ستحييان الحفلة إنه كوكتيل فني.

_ على ذكر الكوكتيل. لماذا اخترت نفس الكوكتيل الذي شربناه المرة الماضية؟

_ إن لم يعجبك، نأتي بغيره.

ـ لا، لا، لقد أعجبني.

أمسكت بالكوب وشربت نصفه كالمريض الذي يشرب الدواء رغماً، ثم وضعت الكوب على الطاولة وبدأت أنظر إلى الراقصة وهي ترقص على الإيقاع الشرقي، مارة عبر صفوف الموائد، فاتنة حسناء، رشيقة، ناعمة، تتمايل مع الموسيقى كفراشة تحت نور الشمس. التفت جانبا لكي أشرب كوب العصير فإذا بي أرى سميرا ينظر إلي فارتبكت ولكي يزيل ارتباكي قال:

_ بعد قليل، سيغني فوتوريو أورلاندو المطرب الإيطالي أغنيتنا المفضلة.

انتهى دور الفرقة العربية وحلت محلها الفرقة الإيطالية التي حظيت بتصفيق حار من الحضور. المطرب الإيطالي يغني وسمير يردد معه الغناء ويهز برأسه. مجموعة من الأوروبيين والعرب يرقصون . بعد انتهاء أول أغنية، نهض من مكانه ثم اتجه إلى المطرب وهمس في أذنه، وما هي إلا دقائق حتى بدأ فوتوريو يغني. أمسك سمير بيدي واتجه بي إلى حيث حلبة الرقص.

_ لقد تحسن رقصك عن المرة الماضية.

همس في أذني:

_ لماذا ترتجفين؟ لا داعِي للخجل.

كان يراقصني، غير مبال بارتباكي، فخورا بالنظرات المتوجهة إلي، ذاك التصرف لم يعجبني بقدر ما أزعجني. انتهت الأغنية وتوجهنا إلى مكاننا. أغاظني رؤية كأسين آخرين من نفس الكوكتيل على الطاولة، شربته بامتعاض، أحسست بسخونة في كل جسمي وبدأت أضحك من غير سبب. كان ينظر إلي ويبتسم.

_ هكذا أحب أن أراك ضاحكة مرحة، إن الحياة لا تساوي شيئا، فعلى الإنسان أن يستغل لحظاتها الحلوة.

_ لي رغبة في الرقص.

أمسك بيدي ورافقني إلى حلبة الرقص. هذه المرة رقصت بجرأة و بدون خجل. أما سمير ذلك الجبل الجليدي كان يحرقني بناره الخامدة وبابتسامته التي كانت لا تفارق وجهه. كنت أتمنى في تلك اللحظة أن أرفع صوتي وأعلن له حبي أمام الجميع وأقول له خذني معك لقد يئست من انتظارك ويئس انتظاري من لقائك، قلبي يحترق بحبّك وروحي تتوق إليك. لا تتركني وحدي لوحشتي ووحدتي. شعرت برغبة شديدة لضمه إلى صدري بقوة وأقول له خذني معك إلى ما لا نهاية. لكن، تذكرت كلام زكريا الذي حذره مني قائلا له بلغة يظنون أنني لا أفهمها: آمن الحية ولا تأمن المرية. أنا لست حية ولا مرية. أنا إنسان أبحث عن الإنسانية مبتعدة عن كل ما في مجتمعي من ذل وضلال، ساعية إلى الأمان والسلام وإلى الاستقرار مع سمير فارس أحلامي. لكن إن تَحَدَّيْتٌ تقاليد المرأة العربية وطلبت منه الزواج، سيقول عني رخيصة وتصرّفي كان تمثيلا فقط للإيقاع به في شباكي، مثلما قال له صديقه زكريا ولنفرض أنه وافق وتزوجني واكتشف أنني لست عذراء أو بمعنى مجتمعنا من غير شرف. هل سيكون بعدها مخرج لسفينتي التي استعارت العاصفة؟ يكفي تلك الرياح التي تقذف المرأة وتطعنها فقط لكونها امرأة. ويا ليت ينعتونها بالمخلوق الضعيف أو الناقصة للعقل؟ إن في بلادنا من الأمثال التي لا تحمل للمرأة إلا الإهانات. فتحطم كل شيء جميل فيها، تُُنعَثُ بالخيانة والغدر وسوء المعاملة والسلوك وفساد الطبيعة. لا أذكر من هذه الأمثلة إلا القليل منها. مثلا: "كل بْلِية سببها وْلْيَة" ." يا بن مقطعة البضور". "البنت عار ولو كانت مريم ". " ضرستك إلا وجعتك قلعها، بنتك إلا كبرت ودعها". " العاتق في الدار عار " لي بغا العذاب يرافق النسا والكلاب ". الخ من تلك الأمثال السلبية. ولن ترتاح منها عائلتها إلا عن طريق الزواج الذي يعتبر شملا اجتماعيا يضمن سترها وتريح أهلها من شرها.



كنا كجسد واحد مرتبك يختلس الشرود، ورقصنا يلونه صمت الصمت ويخنق أنفاسنا الثملة من الانتظار إلى أن انتهت الأغنية.اتجهنا إلى حيث نقعد، شربت الكأس الثالث من ذلك الكوكتيل المر، الذي سرى في عروقي وأيقظ في عقلي ذلك السرّ الجحيم، فأحسست بدوار في رأسي مثل المرة السابقة. ذلك العصير طعمه غريب وتأثيره في نفسي كان أغرب، جعلني أتخبط في بحر من المتناقضات وفي خليط من المشاعر والأحاسيس و تيارات من الرغبات. رغبة تريد ضم سمير إلى صدري وأغمض عيني إلى الأبد ورغبة تتوق إلى إفشاء السر اللعين، رغبة تريد الانتقام من نفسي ومنه ومن كل شيء. خفت من نفسي على نفسي ومن كل من حولي. نهضت من مكاني مستأذنة مغادرة الحفلة. شعرت بدوار في رأسي وتثاقل في جسدي و لساني كما تثاقلت أجفاني. كان يراقب تصرفاتي بحذر. لم تعد لي رغبة في المكوث في الحفل ولم تكن أذناي تنصت إلى الموسيقى بقدر ما كانت تستمع إلى إيقاعات تشردي داخل عقلي وضياعي في صحراء قلبي النائية وفي عاصفة غربتي وضجر وحدتي. تعبت من نفسي كما سئمت سميرا، فارس أحلامي، ودعته بقلبي وودع قلبي حبه، متأسفة على ذلك القدر الذي جمعنا في حدود الجزائر والمغرب، متأسفة على قلبينا اللذين جرحا بسبب جبن وكبت وخوف وكبرياء.

لامارا 14-11-13 09:43 PM

الفصل السادس





احتراق



في قلبي جرح أليم، يعبر حدود الزمن على ليالي الطوال، وخوف يلاعب صمتي ويهزأ من حلمي المختصر في السراب. أصوات تلتهمني في هدوء مفتعل، لا أعرف كيف استلقيت على السرير. دوار كالطوفان يبتلعني وأنا أمسح عن جبهتي أصوات الزغاريد وأتقلب على دقات الطبول وعزف المزامير، وأصوات النساء تتهافت كالعويل، كالغضب، وكالنار تحرق قلبي:" دور بها يا شيباني دور بيها". وسمير على حافة القلق يدخن سيجارة مرتبكة، مسندا ظهره على الأريكة، يحاول أن يستجمع شرودي في كل مجّة من سيجارته. نهضت من السرير بحذر كي لا أقع على الأرض، أمشي بخطوات متثاقلة إلى الحمام أبكي وأصرخ وفي داخلي نار تتلاعب بي لتقذف بروحي إلى شواطئ الحيرة، متخيلة ابن الإيمان ينظر إلي ويضحك، لماذا ذهبت بعيدا؟ المثل يقول: وين وذنك ... ها هي. لماذا تعذبين نفسك وتتعبينها؟ فسمير ليس لك ولن يكون. ما ليك غير أنا. أنا أتزوجك ولن أبوح لأحد بسرك. مدَّ يده من المرآة فصرخت في وجهه لا تقترب مني، أكرهك، حاولت أن أهرب منه، ضرب رأسي بباب الحمام ووقعت على الأرض مغمى عليّ. أيقظتني رائحة عطر قوية في أنفي. التفتّ من حولي فزعة، أين العجوز؟ لماذا أتى إلى هنا؟ لماذا يلاحقني هذا اللعين؟

- العجوز ليس هنا، إنها فقط تهيؤات.

_ تهيؤات ... هل أنا مجنونة؟

_ لا معاذ الله.

_ أنا ... أنا متأسفة جدا، لقد أزعجتك.

_ هل اشتكيت لك؟

_ لم تشتك لكنني ضيف ثقيل.

أصوات تطاردني، دوار في رأسي وإعياء في كل جسمي، أريد أن أنام، أغمضت عيني فإذا بالعجوز يمد يده إليّ مرة ثانية. فتحت عيني وما زلت أراه أمامي. جلست في مكاني أقرأ القرآن وأتعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

_ ما بك لا تنامين؟

_ لا شيء. نم أنت.

_ كيف أنام وأنت جالسة وسط الظلام.

_ لا أريد المزيد من الكوابيس.

_ لا تخافي سأجلس بجانبك حتى تنامي.

أمسك بيدي وبدأ يداعبها إلى أن استسلمت للنوم. استيقظت في الساعة الحادية عشرة صباحا، لم يكن سمير موجودا في الغرفة اغتنمت فرصة غيابه، أخذت دوشا سريعا ولبست ملابسي بسرعة ثم اتصلت بالفندق الذي يعمل فيه المغربي، عله رجع من إجازته. قال لي أحد الموظفين بأنه سيبدأ العمل بعد ثلاثة أيام. ذهبت إلى شرفة الغرفة أنظر إلى البحر، شعرت بخوف وبخشية من المستقبل. كان خوفي مزمنا، أنظر إلى البحر علّه يواسيني ويخفف عنّي ألم الحرمان والقلق. سمعت صوتا ينبعث من أمواجه يقول لي لا تتصرفي بتهور ولا تتركي العاطفة تتغلب على عقلك. إنك تسبحين في تيارات قد تهوي بك إلى الأعماق بلا أمل في الرجوع. وبينما كنت أستجمع شرودي هبت ريح غاضبة زحفت نحو الأمواج فحوّلتها إلى طوفان أراد أن يبتلعني، تراجعت إلى الوراء فإذا بسمير يحضنني من الخلف.

_ ما بك خائفة؟

ابتسم، أمسك يدي وجرني داخل الغرفة، هيا بنا نفطر، اليوم سنذهب إلى مدينة صبراتة.

وبينما نحن في طريقنا إلى المطعم فاجأني سؤاله:

_ ما هو سبب تلك الكوابيس التي تأتيك؟

_ متى سنذهب إلى صبراتة؟

_ لم تجيبي عن سؤالي.

_ بماذا تريدني أن أجيب. أنت بنفسك قلت لي عندما كنا في صحراء الجزائر، إن الإنسان لا يصنع كوابيسه بنفسه.

_ أريد فقط مساعدتك.

_ كيف ستساعدني؟ هل أنت طبيب نفسي؟

_ أنا صديقك يا غالية.

_ لا أريد صديقا. أنا أريد ... أريد أن أقول لك أنني اتصلت صباحا بالفندق الذي يعمل فيه المغربي فقال أحد موظفي الفندق بأنه سيرجع بعد يومين.

_ لم هذا الاستعجال؟ هل ضايقتك في شيء؟

_ لولاك لما عرفت كيف أتصرف، أكرمتني أكثر من اللازم وأتمنى يوما أن يجمعنا القدر وأرد لك الجميل.

_ أريد فقط أن أرى ابتسامة على وجهك. هل يمكنك أن تفتحي لي قلبك؟ ربما أستطيع مساعدتك.

_ سأخبرك، لكن ليس الآن؟ هل سنذهب إلى صبراتة اليوم؟

_ هل عندك رغبة السفر إلى تلك المدينة؟ إنها بعيدة شيئا ما. لكن يمكننا أن نقضي الليلة هناك.

_ ليس عندي مانع، لنسافر إلى صبراتة.

_ هكذا أريد أن أراك متفائلة يا غالية.

ينتابني شعور بأنه سيفهمني عندما أعترف له بسري الخطير، هذا الذي يؤرقني ولا يتركني.انطلقت بنا السيارة عبر شوارع طرابلس إلى أن وصلنا إلى الشارع الرئيسي الذي يؤدي إلى مدينة صبراتة. طيلة الطريق كنت أنظر إلى الصحراء وأفكر في ذلك الغد الذي سأعترف فيه لسمير وأفجر ذلك البركان الخامد في داخلي. سأقتلع محنتي من ذاكرتي المسلوبة وأدفن ذلك القلق الذي يوجع قلبي إلى الأبد.

وصلنا إلى مدينة صبراتة ونزلنا في أحد فنادقها التي سيحيي فيها المطرب الليبي المشهور محمد حسن سهرته. جلسنا ست ساعات في الحفل نسيت العالم كلّه وأول من نسيت نفسي. طرت فوق إيقاع ذلك اللحن الليبي المميز وطفوت على متن كلماته المعبرة. كلمات مملوءة بالشعر، تدخل القلب بدون استئذان، تزرع في داخلك بنفسجا وتطير بك إلى زمن الصبا. حملني محمد حسن هذا الفنان الليبي الكبير على صهوة صوته إلى أديم صحراء المغرب وإلى مراكش الخضراء، حلقت مع كلماته فوق جبال الأطلس، فوق الثلوج وفوق الرمال ونخيل فاس ومكناس، ترنحت على ذاكرة الصبا ووعي بداخلي منذ الأزل يصارع وجوده من أجل أن يبقى حيث ولدت وترعرعت. جنة كما رسمتها وأنا طفلة وها أنا الآن لا أحمل إلاّ صورتها في حقيبة ذاكرتي، في ترحالي وفي تمردي. شعرت بلمسة دافئة تداعب يدي، أرجعتني من وطني إلى حاضري محملة بهم سري الذي يضغط على أنفاسي.

سألني إن كنت أرغب في مواصلة السهرة. لكنني فضلت مغادرة الحفل. توجهنا إلى الفندق وذهب كل منا إلى غرفته. لبست قميص نومي ولي مع النوم موعد آخر. استلقيت على السرير والتفكير في الغد أضاع النوم من عيني وقلبي يخفق بشدة. تجمد كل شيء في داخلي وأنا أستجمع قوتي لإفشاء سري له. خائفة من ردة فعله، خائفة أن أفقده. أُطمئن نفسي وأتحايل عليها لتنام، لكن السهر كان رفيقي تلك الليلة يراكم هموما فوق همي ويزيد من جمرتي المتقدة اشتعالا. لا أعرف كيف غفوت وعندما فتحت عيني وجدت سميرا جالسا على حافة السرير يداعب شعري.

_ غالية استيقظي فإن وراءنا جولة قصيرة في المدينة، بعدها سنعود إلى طرابلس. طرقت الباب مرتين ولم تردي فانشغل بالي عليك، لذلك أحضرت مفتاحا ثانيا من غرفة الاستعلامات وفتحت الباب.



توغلت بنا السيارة مسرعة تبحر وسط تلك الصحراء الهادئة وبريق أشعة الشمس يغطي صدر تلك الرمال. شمس حارقة تتكبد وسط السماء وأنا ألهث تحت لهيب ارتحالي وصمت سمير يطوق ارتعاشي المخبوء تحت ملحمة سري. وكلما أسترق النظر إليه، ترعبني لحظة اعترافي له. سيصدني لا محالة ويتركني لوحوش الصحراء تفترسني. تارة أتدثر بالشرود وتارة أتدثر بدفء قربه ولمسة يده التي تمنحني الأمان. انتبه إلى شرودي ولهاثي، التفت إلي وكأنه يذكرني بما أحاول أن أنساه. ارتميت على مقعد السيارة مسترخية كالمشلولة وقلت بهدوء مصطنع وبداخلي رجفة تهز روحي.

_ هل أنت مستعد لمعرفة سبب حزني وسبب تغربي؟

ابتسم وهو يمسك بيدي ويداعبها. كان يسري فيها عرق بارد، ترجف من ردّة فعله بعد اعترافي. خفض صوت الموسيقى وقال:

_ غاليتي أنا أذن صاغية.

لا أريد أن يصغي بسمعه ولا أن ينظر لي ببصره بقدر ما كنت أتوق لبصيرته أن تدرك حقيقة أمري. مرتبكة وشفتي بها قحط وجفاء. سردت له قصة سري الذي شرّدني. كان يصغي إلي من غير أن يقاطعني، ظل صامتا وكأنه ليس موجودا. تمنيته أن يعاتبني أو يعاركني أو حتى يشتمني. لم يتفوّه بكلمة واحدة. سحب يده من يدي، خيم صمت رهيب موحش داخل السيارة، أغمضت عيني والرجفة تعتريني أبكي في صمت، مستجمعة أحزاني نحو رتابة غير مألوفة. نظر إلي بعينين باردتين وقال:

_ ماذا تريدينني أن أقول؟ أنت تعرفين عذرية الفتاة أهم شيء في حياتها.

_ ما ذنبي إن فقدتها من غير أن يمسسني إنسان في حياتي، إنني شريفة بعفتي وطهارتي!

ظل صامتا يقود السيارة بسرعة البرق على حافة الشمس المنكسرة، التفت إليه فإذا بي أرى ولأول مرة تلك الابتسامة اختفت من ذلك الوجه وجعلت روحي شريدة تنزف في صراع بين دوامة البقاء أو الرحيل. رحيل من نوع آخر إلى عالم آخر.

_ لماذا أنت صامت؟ تكلم، قل شيئا واشفي غليلي، وأطفىء نار قلبي. أبكي، لكن الدمع لا يشفيني ولا يزيل الحزن من قلبي.

_ كل شيء يا غالية، إلا الشرف. أنا مع المرأة في كل شيء. في العلم في التحرر والحرية لكن الشرف، شرف المرأة شرف أسرتها وقبيلتها، بل شرف المجتمع كله.

_ ما ذنبي أنا إن فقدته من غير جنس؟ أين وعيك وتحررك؟ أين ثقافتك أم أنّ كل ما قلته لي في حديثك عن المرأة مجرد خطاب ذهب مع أدراج رياح صحراء الجزائر؟ هل ذلك الدفاع عن المرأة الذي كنت تحمل لواءه كان سرابا ووهما؟

_ تعرفين ماذا يقال عنكم أنتن معشر النساء ...

خلِّ الملام فليس يثنيهـا حب الخداع طبيعة فيها

هو شرُّها وطلاء زينتهـا ورياضـة للنفس يحييها

ويقال أيضا:

فما فيهن مخلصة لأخرى وما فيهن مخلصة لألف

_ هل هذا رأيك في كل النساء؟ هل هذا رأيك في؟

_ صدق من قال:

تمتع بها ما ساعفتك فلا تكن جزوعا إذا بانت فسوف تبين

_ إنني ألعن الساعة التي سافرت فيها مع العجوز، وألعن الساعة التي ركبت فيها سيارتك، وألعن الساعة التي قادتني إليك!

ظل صامتا مملوءا بالطرش يقود السيارة بسرعة جنونية إلى أن وصلنا إلى الفندق. دخلت إلى الغرفة أرتعش من الخوف ومن الذل الذي شعرت به وأنا أبوح له بسري الذي لم يسبق له أن خرج من أعماق قلبي. لم يصدقني ولا يريد حتى أن يناقشني ليعرف صحة كلامي. غادر الغرفة بعصبية وتركني كالمشلولة، جسمي عاجز عن الحركة ودمعتي محبوسة حتى الاختناق. لا بد أن أغادر غرفته للتو فلم يعد لي مكان معه. أظلمت الدنيا في عيني، لا أعرف إلى أين سأذهب أو إلى أين أتجه. كان الوقت قرابة الثامنة والنصف مساء، حائرة أحوم ببصري إلى كل ركن في الغرفة. أحسها باردة كزنزانة مظلمة، هواؤها يمزق أسمال روحي لفارس أحلام رحل وترك لي أشباحا وأبقى فيّ أشجانا. معدتي تتلوى من الوجع، أخذت حقيبتي وغادرت الفندق، لا أعرف إلى أين أمشي، لا مكان يأويني ولا سند يحميني. أجرجر رجلي ببطء في الطريق تائهة كالمتشرّدة وسط الصمت المدثر بالظلام، أتعثر في أفكاري حافية وهواجسي تدميني. اشتد الألم في معدتي فوضعت حقائبي على الأرض أنظر إلى السيارات التي كانت تمر كسرعة البرق. أنظر إلى السماء، أصيح يا الله! ربي، إلى أين سأذهب؟ أنا في كل يوم أنتهي وأضيع. حبي أجهض حمله وسط لهيب الصحراء. اختفت طفولتي داخل أمواج وقذفتني بعيدا إلى الأعماق حيث الحوت وسمك القرش فاتحا فمه ليمزق عفتي قبل أن يبتلعني. قال أحدهم وهو يحوم من حولي ويضغط على كتفي بقوة:

_ تْبِّي الأخت مساعدة؟

ارتجت الأرض تحت قدمي وانفرط خوفي في ثمالة الانهيار، كسمكة صغيرة يسحبها الحوت إلى جوفه. أجبت بخوف.

_ لا شكرا، لا أريد شيئا.

اقترب مني آخر وأمسك ذراعي ليمارس سلطته الرجولية والعنف على التأنيث بالكسر. قطيع من بقر الوحش يطاردني تحت سمائي الملبدة بالرعب. أطلقت صرختي العقيمة بجنون غير مسموع، أتسلق انهياري. صراخ مخنوق يقتنصه رعبي وسط ذلك الشارع الخالي من المارة. لا أحد هناك أستنجد به سوى خالقي. فجأة سمعت صوت فرامل سيارة وقفت على امتداد احتضاري و نزل سمير مسرعا نحوي. أخذ الحقيبة التي كانت هي الأخرى تقبع على امتداد الشارع. سحبني من تحت حوافر تلك الأبقار وأدخلني إلى السيارة وانطلق بسرعة إلى الفندق. صرخ في وجهي.

_ لماذا غادرت الفندق؟

لم أعد أتحمل النظر إليه، انتابتني هستيريا البكاء والضحك وأنا أنظر من خلال زجاج النافدة في ذهول، وغضب ينزع خجلي ويتعرى أمام حشمتي.

_ لماذا هذا الخوف كله ومن أنا بالنسبة لك حتى تنقذني من هذين الذئبين ماذا تريد مني اتركني لحالي، ليس عندي شيء أخاف عليه كما تعلم. إنني عديمة شرف كما تفضلت، لماذا لم تتركهما يأخذان مني ما يريدان لكي تكون التهمة ثابتة وجرمي ملموس فهو أهون من أن أُتَّهم بشيء لم يحدث رغبة مني. أنزلني من سيارتك حتى لا أدنسها لك أيها الشريف. صرخت في وجهه: أَوْقِفْ السيارة واتركني لحالي، ربما سينقض علي ذئب من ذئاب ليبيا ويريحني من هذه الدنيا. إن الموت أهون علي من الظلم والجور.

_ لا أريد أن أتكلم معك الآن فأنت كمن أصابته الحمى.

_ القدر الذي جعلنا نلتقي وخلق مودة بيننا قد فرقنا. أوقف السيارة أريد أن أنزل.

_ إلى أين ستذهبين؟

_ لماذا تسأل؟ هذا لا يهمك أبدا.

كان يقود السيارة بسرعة ريح تسير بلا اشتهاء، تطارد الرعب إلى أن وصلنا إلى الفندق. أنزَلَني بالقوة وأنا أحاول الابتعاد عنه. أمسك الحقائب ثم قادني إلى الغرفة التي فتّحت جراحي المبعثرة. لم تعد بنفسجية الهواء، طقسها بارد زاد من ارتجافي ونورها عتمة نثرت أشرعة من الخوف على شطآني. كان يجلس على الأريكة وينظر إلي بارتباك ويدخن بعصبية.

_ لو لم أجدك في الوقت المناسب لكنتِ الآن في عالم الأموات.

_ مثلي يجب أن يكون في عالم الأموات، مادام عالم الأحياء لا يرحم.

اقترب مني وأنا في زحمة غضبي، يريد أن يضمني إلى صدره ابتعدت، لا تقترب .... ! سأدنسك. كان يحدق بنظرات غير التي ألفتها. نظرات تجوب خاوية على اهتزاز جسدي، تلتهم أمواج حيرتي، تقذفني وسط ذلك الفراغ البارد.

_ لماذا هذه العصبية، انسي ما حصل. سنتعشى الآن وبعدها لي معك حديث.

أمسكت بحقيبة نقودي، فتحتها وأخرجت ألفي دولار وضعتها على الطاولة. تلك النقود التي استباحت إنسانيتي لتبيعني للاحتراق.

_ هذه نقودك التي أنفقتها علي هذا الأسبوع.

أمسك النقود وأعادها إلى الحقيبة.

_ أنا لا أريد نقودا، اهدئي أريد أن أتكلم معك.

أرى في عينيه لعنة تلبس شهوته، أمسك سماعة الهاتف وطلب العشاء. جاء النادل بالعشاء، همس له في أذنه ثم اختفى النادل وجاء مرة ثانية بعصير الفواكه. أعطاه نقودا ثم أقفل الباب. سحبني إلى الأريكة، كان لهاثي متلاحق، محمّل بالتعب، مرتديا عباءة بائسة، خوف يتغلغل في جوفي وهو يراقب أسمال رعشتي. ناولني كوب العصير.

_ سيهدئ من روعك وسيساعدك على النوم.

ناولني قطعة من اللحم. لم أكن أشعر بالرغبة في الأكل بقدر ما كنت أشعر بالرغبة في أن أدوّي بصرختي لأخرج تلك النار التي كانت تحرق قلبي. أخذت تلك القطعة منه وبدأت ألوكها محاولة أكلها دون شهية. ناولني كوب العصير.

_ سيهدئ أعصابك وبعدها يمكننا أن نتكلم بهدوء.

أمسكت الكوب منه بعصبية وشربت نصفه بسرعة، أما هو فكان يأكل ببطء ويختلس النظر إلي. شعرت بسخونة في جسمي كله وأحسست برغبة في البكاء. ذهبت إلى الحمام أبكي وأنظر إلى المرآة، قرفصت في زاوية تفكيري، أبكي وأندب حبا جميلا اختفى بسبب سري الخطير. سمعت صوتا يهتف بداخلي، غالية لقد تعبت كثيرا في حياتك وستتعبين أكثر إن لم تضعي حدّا لهذا العناء. تناولي أقراصك المهدئة كلها وستنامين مرتاحة إلى الأبد. لن تجدي من يفهمك ويخلصك من ورطتك. رأيت بأم عينيك كيف انقلب سمير عليك، ارتاحي راحة أبدية وانجي بنفسك من الفضيحة. نهضت بتثاقل، فتحت حقيبتي أبحث عن تلك الأقراص المهدئة. كان يحدق بي. أخرج علبة الدواء من جيب سترته وقال:

_ هل هذا هو الدواء الذي تبحثين عنه؟ مَنْ هذا الطبيب الأخرق الذي أعطاك إياه؟ نهض من مكانه واتجه إلى الحمام، أفرغه في الحوض وبدأ يسكب عليه الماء حتى اختفى. وقفت مهزومة وصراخي يتصاعد في فضاء تلك الغرفة.

_ لماذا أخذت الدواء؟ من أعطاك الإذن أن تبحث في حوائجي؟ أهكذا تعامل ضيوفك؟

تقدّم نحوي بخطوات حازمة.

_ أنت لست ضيفتي، أنت فتاة أحلامي التي أحببتها، أحبك يا غالية.

فغرت فمي مندهشة لاعترافه بحبه لي بعدما عرف سري، هل أنا أحلم؟ لا. لا يمكنني أن أصدق. حملني إلى السرير واستلقى بجانبي يقبلني في وجهي وفي عنقي وأنا أقاومه وأصرخ:

_ كف عن ذلك وإلا ستجد جثتي غدا مرمية في عرض البحر.

توقف وقال:

_ لماذا تقاومين؟ فأنت من غير …

_ لا، من فضلك أنت بالذات لا تلفظها.

سحبت نفسي من تحت جسمه، أستغيث بصرختي متوجهة إلى الحمام. دوار قاتم يحجب عني الرؤية، أفرغ وكأن أمعائي ستخرج من فمي. حاولت أن أخلع ملابسي وأستحم بالماء البارد لكنني لم أتمكن من ذلك. جلست بملابسي داخل حوض الحمام وفتحت الصنبور. الماء بارد كالثلج ينزل على جسمي كالصاعقة، أحس برغبة في إيذاء نفسي وتعذيبها ولم يكن هناك شيء أستعمله سوى ذلك الماء البارد. مكثت تحت ذلك الماء القارص بملابسي وجسمي يرتعش كسعف النخيل. طرق سمير الباب.

_ أخرجي من الحمام.

لم أبال لندائه. غالية، سأدخل إلى الحمام الآن إن لم تخرجي.

كنت جالسة بملابسي والماء البارد يغطي جسدي. أسرع إلى إقفال الصنبور ثم حملني من الحوض وأجلسني على كرسي الحمام. أردّد توسّلاتي وروحي مذبوحة برغبة السقوط، خائرة لا تقوى على الحراك وخوف يلتف من حولي. جلس على ركبتيه وأمسك بذراعي وهو يقول لي بصوت أجش وحزين.

_ لماذا هذا التصرف المتهور؟ لماذا تحبين إيذاء نفسك؟

أحضر مناشف وبدأ يخلع ملابسي بسرعة وأنا أرتعش من شدة البرد. مد إليّ قميص نومي ثم غادر الحمام. كنت أسمع صوته من وراء الباب.

_ غالية، اخلعي ملابسك الداخلية والبسي قميص نومك.

لم أعرف كيف لبست ذلك القميص. الخوف والبرد يبثان في جسدي الرعشة بلا توقف. طرق الباب واستأذن الدخول، اقترب مني وضمني إلى صدره ثم حملني إلى السرير. كنت خائفة منه ومن اقترابه مني. نظرت إليه متوسلة:

_ بربك لا تعتدي علي، بحق محبتك لأختك لا تلمسني.

ضم جسدي المرتعش إلى صدره بقوة:

_ آخر إنسان أجرحه أو أؤذيه هو أنت يا غالية، أنت لا تعرفين مكانتك في قلبي، سامحيني على تصرفي وطيشي، أنا خجل من نفسي ومنك. أنا السبب في كل ما حصل لك اليوم.

ظل بجانبي يفرك جسدي لكي تعود إليه حرارته الطبيعية ويشدني بقوة إلى جسمه، أما أنا فكان سكوني أشبه بالموت، قطرات من دموعه نزلت على خدي واختلطت بدموعي وأنا كالمشلولة جامدة أعطس من حين إلى آخر. أغمضت عيني مطمئنة غير خائفة منه. أثبتت لي دموعه صدق قوله، فأحسست بدفء يسري إلى جسدي شيئا فشيئا والتصقت أجفاني المبللة ببعضها. ارتفعت حرارة جسمي، نهض إلى الحمام، أحضر منشفة مبللة بالماء البارد وبدأ يمسح به على جبهتي. وضع منشفة مبللة على رأسي لكي تنزل حرارة جسمي لكنها استمرت في الارتفاع. لا أعرف كيف مرت علي تلك الليلة، إلا أنني أذكر أنها كانت قاسية تَعِبَتْ فيها روحي وجسدي وتعبت أحاسيسي وعقلي من شدة التفكير والإحساس بالذنب. نقمت على والدي بل على كل الآباء الذين يمارسون دكتاتوريتهم وتجبرهم على بناتهم. شعرت بالكره لهم... كل الكره، هم الذين لا يرحمون بناتهم. إنهم لا يختلفون عن الجاهليين الذين يئدون بناتهم وهن أحياء. كم من فتاة ذهبت ضحية هذا الوأد... وأد الحرية والمساواة بين الذكر والأنثى. منهن من اغتصبت ومنهن بائعات الهوى ومنهن من انتهى بها المطاف في بيوت الماخور. يصادرون حرية منحها الإسلام لنا بأنانيتهم وتجبرهم وتشبثهم بالتقاليد العمياء، يسلبون منا الحرية باسم الدفاع عن الشرف والعرض. أي عار يا أبي تخاف منه! أي شرف تدافع عنه...؟! ها أنا يا أبي بعيدة عنك تفصل بيني وبينك المسافات والأمكنة. ها أنا غريبة في بلد غريب مع شاب غريب. وسيم جميل، جذاب... ليس معي سوى الله وحده يراني. وحده يمدني بالإرادة والعزيمة ويقين البصيرة، وحده يهتف في داخلي إياك... إياك... آه يا أبي! أختنق من جو هذه الغرفة وكأنني في القبر... لو أنك تعلم كم أنني حزينة... كم أتعذب... أتألم .... أحس بسقف الغرفة يطبق على صدري وكأنه التراب الذي كانت توارى به أجساد الإناث الصغيرات وآباؤهن يمارسون الوأد هربا من العار. لست أدري يا أبي إن كنت ستفخر بابنتك التي صانت شرفك لأنها تؤمن أن الشرف أغلى من الحياة . هل يا ترى لو علمت أنني أعيش هذه الخلوة كنت ستغفر لي؟!. يا لتفاهة الدنيا! أحافظ الآن عليك يا أبي وأنت الذي ضيعتني....!

فتحت أجفاني على أشعة الشمس، بينما عيناي تحومان وسط دهاليز مظلمة في تلك الغرفة. رأيته جالسا بقربي والقلق مرتسم على وجهه، وضع يده على جبهتي ثم أمسك بيدي ووضعها على خده وقبلها، يتأسف على ما بدر منه الليلة الماضية، تتلعثم كلماته لكي يثبت براءتها.

_ صادفت فتيات كثيرات في حياتي ولم أر مثلك أبدا.

فتحت فمي لكي أجيبه فوضع يده على شفتي.

_ لا تتكلمي، فأنت لا تحتاجين لتبرير موقف أو اعتذار. أنت يا غالية ملاك طاهر ساقك القدر وسط الشياطين والذئاب الجائعة والقذرة. لن أقول لك بأنني أحسنهم. كانت نيتي سيئة معك وحاولت التقرب منك بأسلوب يجعلك تثقين بي وتقعين في شراكي، لكنني أنا الذي وقع في الشراك، أحببتك يا غالية ومستعد أن أقوم بأي شيء يكفر عن فعلي الشنيع.

كنت أضغط على كلماتي الملبّدة بالدموع وصوتي مبحوح. تابع حديثه قبل أن ألفظ حرقتي.

_ إنك فعلا عفيفة وأنا الآن واثق من عفتك وصدق كلامك. أنت لست من النوع الذي يضعف أمام العواصف حتى ولو كنت ...

فاجأني كلامه الغامض والمتحفظ.

_ ما الذي تريد أن تقوله؟

أمسك يدي يلثمها، سامحيني لقد سقيتك ذلك العصير مرارا لكي يثير فيك ...الرغبة الجنسية.

تجمهرت تساؤلاتي المبعثرة، أتعكز على دهشتي القلقة.

_ أعطيتك ذلك الشراب لكي يحطم في نفسك كل تلك القيود والمحرمات ولكي تقدمي لي نفسك من غير ضغط ولا قوة.

كنت أكظم غضبي محاولة أن أستجمع روحي المنهارة من خرافة حب غمرها الوحل.

_أتعني كل ذلك الكرم والمعاملة اللبقة كانت كلها زائفة؟

وقف أمامي كالفراغ، كالمستقبل الغامض، كالظلام. ذهب سمير أدراج العاصفة ولم أعد أرى إلا أطلالا لصورة مزيفة. كان يتأرجح بكلماته النادمة في فضاء تلك الغرفة الباردة.

_ لا يا غالية. أنا فعلا كنت .... لكن سلوكك وأسلوبك في الكلام كان عفيفا طاهرا. تصرفك وانفعالاتك كانت صادقة. كنت أحس أنك معجبة بي لكن ذلك لم يدفعك للخطيئة. كنت مسيطرة على نفسك وعاطفتك وكنت فعلا تلك الطفلة الصغيرة البريئة. أحبك جدا يا غالية وأنا مستعد لفعل أي شيء من أجلك ومستعد أن أضحي بكل شيء لإسعادك. اطلبي مني ما شئت فأنا رهن إشارتك.

بقدر ما كنت فرحة لاعترافه بحبه لي، كنت حزينة على تلك الأيام الملونة بالكذب التي قضيتها معه. تحول قلبي إلى صخرة لا حس فيها ولا نبض. نظرت إليه بعينين باردتين.

_ لي طلب واحد فقط. وأتمنى أن تلبيه؟

تطلع إلي، نظرته التي كانت تلمس روحي اختفت. ابتسم بخجل مرتبك.

_ اطلبي يا طفلتي الصغيرة.

كانت السعادة تغمرني عندما يقول لي طفلتي الصغيرة، كانت تثير رعشة في جسمي، هذه المرة أثارت في التقزز والنفور.

_ أريدك أن تتصل بالفندق وتسأل عن ذلك الشاب المغربي إن رجع من إجازته.

ارتجفت قامته واختفت ابتسامته.

_ سأفعل يا غالية لكنك لا تستطيعين الآن أن تذهبي عند تلك العائلة. أنت مريضة وتحتاجين إلى راحة تامة وعندما تشفين سأرافقك إلى تلك العائلة مثلما وعدتك. خذي هذا القرص من الدواء فهو سيساعد على التحسن، إنك لم تنامي البارحة، كانت حرارتك مرتفعة جدا لولا تلك الحقنة التي أعطاك إياها الطبيب. كنت نصف واعية وحرارة جسمك كانت غير عادية، عندما سرى مفعول الحقنة في جسمك، نزلت شيئا ما حرارته فنمت، لكنك كنت تهذين وجسمك ينتفض. أعتقد أنها الكوابيس التي تراودك.

تذكرت الكوابيس التي أصبحت تلاحقني أيضا في النهار، سرت قشعريرة في جسدي، حزينة أجمع شباكي وألعن البحر والقدر.

_ لماذا أفرغت ذلك الدواء البارحة. إنه يساعدني على النوم من غير أحلام مزعجة.

نهض عن كرسيه جلس على حافة السرير يستجدي الكلمات.

_ أخاف عليك من ذلك الدواء يا غالية كما أخاف أن يستغله أحد لإيذائك أوتستغلينه أنت لإيذاء نفسك. اشتريت لك هذا الدواء الذي وصفه لك الطبيب البارحة. عليك تناوله إن أردت أن تشفي بسرعة.

تناولت الدواء وأغمضت عيني مرة ثانية أما هو فكان يجلس بجانبي لا يتحرك وعندما استيقظت، رأيته مازال بقربي ينظر إلي بعينين محتقنتين.

_ كنت ستموتين بسببي؟ ما كان علي أن أتركك دقيقة لوحدك.

أخرجت كلماتي رغما، كلماتي التي كانت متمسكة بأشرعة منزوعة غير مبالية بخطورة البحر وعواصفه. _ أنت لم تخطئ في حقي بقدر ما أخطأت أنا بحق نفسي حين سمحت لها أن تمكث تحت سقف واحد مع شاب لا تربطني به أية علاقة شرعية، إن حصل لي شيء فسأكون أنا المسؤولة ولست أنت.



بعد ثلاثة أيام تحسنت صحتي، أما سمير فزاد حزنه وتوتره، يتصنع الابتسامة لكنها زائفة فضحتها تلك الدموع التي أصبحت ترافقه. ذهبنا إلى الفندق الذي يعمل فيه ذلك المغربي. بمجرد أن رآني خرج من مكتبه بسرعة:

_ أهلا بك يا غالية، كم حزنت على عدم رؤيتك تلك الليلة. كنت مضطرا أن أغادر الفندق بسرعة وأذهب إلى المستشفى. كنت أفكر فيك طوال ذلك الأسبوع. لا أعرف ماذا حل بك. أخبرت زوجتي عنك وهي ترحب بك عندنا حتى تستقر أوضاعك في البلد.

شكرته على كرمه وقدمت له سميرا. سلم عليه وطلب منا أن ننتظره في مطعم الفندق حتى ينتهي دوامه. جلسنا في صمت مفتعل إلى أن قاطعه بلمسة في يدي، أيقظتني من غفوتي وارتحالي.

_ أتمنى ألا تنسيني أوتنسي الأيام الحلوة التي قضيناها معا، كوني حذرة ولا تثقي في أي إنسان. إنك فتاة متميزة وهذا قد يثير الرغبة في أي رجل للتقرب إليك. كوني حريصة في تصرفاتك وأنت مع العائلة المغربية. إن رقم هاتفي الخاص معك لا تضيعيه. إن أردت أي شيء فأنا رهن الإشارة. إن معزتك في قلبي لا يعلمها إلا الله. أحبك ولا أريد أن أفقدك.

لثم يدي وأخرج ظرفا من جيب سترته. هذه رسالة مني إليك لا تفتحيها حتى تكوني عند تلك العائلة. أمسكت الظرف ووضعته في حقيبتي، هاربة في صمت عميق. انتهى دوام الشاب المغربي ورافقناه إلى بيته. استقبلتنا زوجته بالترحاب. كان المنزل يحتوي على ثلاث غرف في الطابق الأرضي، غرفة نوم عبد اللطيف وزوجته، الصالون تتوسطه سجادة حمراء، مائدة مستديرة ولوحة متوسطة الحجم مخطوط عليها آية الكرسي. غرفة واحدة في الطابق العلوي يسكنها سامي أخو عبد اللطيف. جلست معنا سيدة في الأربعينات اسمها لطيفة، كانت طوال الوقت مقطبة الحاجبين، إنها صديقة زوجة عبد اللطيف وكانت أحيانا تقضي ليلة أو ليلتين معهم في المنزل. جاءت رشيدة بالعشاء وجلست بجانب لطيفة. كان سمير منهمكا في الكلام مع عبد اللطيف وأخيه سامي. رشيدة سمراء طويلة القامة، سوداء الشعر، مرحة وبشوشة. أما لطيفة فكانت متكبرة، متغطرسة تحب الافتخار والتباهي. بعد ما انتهينا من تناول العشاء وقف سمير شاكرا إياهم على قبول ضيافتهم لي والتفت إلى سامي مبتسما.

_ أستودعك أختي غالية، رافقها إلى الجامعة ولا تتركها تمشي وحدها في المدينة صباحا أو مساءً. أنت تعرف خطورة خروج الفتيات وحدهن في هذا البلد. قال سامي وابتسامة على وجهه.

_ سأكون لها عونا حتى تجد غرفة في الحي الجامعي.

هز سمير رأسه شاكرا وخطا بهدوء نحو باب المنزل. تبعته عائلة عبد اللطيف وظلت واقفة حتى اختفت سيارته في ذلك الدرب الضيق، أما أنا فتسمرت قدماي في مكانيهما داخل فسحة المنزل وكأن غشاء من ضباب نزل على عيني. تمنيت تلك اللحظة أن ألحق به وأقول له لا تتركني وحدي فريسة غربتي. دخلت العائلة إلى فناء الدار فوجدتني واقفة في مكاني من غير حركة. رافقتني رشيدة إلى غرفة بجانب الصالون، أعطتني غطاء وفرشا وتمنت لي نوما سعيدا. مازلت كمن فاق لتوه من التخدير أتأمل الغرفة التي كانت لا تختلف كثيرا عن الغرفة التي قضيت الليلة فيها أنا وفاطمة في بيت الحاج رضوان. جلست على حافة الفراش هائمة أفكر في سمير، تمنيت أن يكون بجانبي. أفكر في حوارا ته ونكته وضحكه ولمساته الدافئة وفي تلك الليلة التي كنت فيها مريضة وهو بجانبي طوال الليل في السرير يداعب شعري ويضمني إلى صدره بقوة عندما كنت فريسة كوابيسي. كان دوائي الشافي وهو الآن سبب سقمي. تذكرت الرسالة فتحت حقيبتي بسرعة، أخرجت الظرف وفتحته بلهفة. كان بداخل الظرف ألف دولار ورسالة.

حبيبتي غالية

"هذه الكلمة التي لم أكن أستطيع أن ألفظها خجلا منك وخوفا من سوء فهمك لها. أول مرة في حياتي أضعف فيها أمام فتاة وأحس بسعادة حقيقية. إنك تختلفين عن كل اللواتي صادفتهن في حياتي. قوة شخصيتك، أوقدت في قلبي نارا وأولعت في روحي حبا حقيقيا تجاهك. فعلا صادقة أنت وعفيفة وأنا كنت ذلك القاسي نحوك، الجاهل، الناكر لمعنى الوفاء. جرحت روحك بتصرفي وآلمت قلبك بخداعي وكنت سأكون سبب هلاك ملاك طاهر تحت براثين الوحوش. لا أعرف كيف سأكفر عن ذنبي الذي اقترفته نحوك. أعرف أنني فقدت حبك لي. طفلتي الصغيرة غالية، أرجوك أن تسامحيني وأن ترحمي روحي المعذبة وتجعليني أسمع صوتك هاتفيا وإن كنت في هذا البلد أتمنى لقاءك. فلا تكوني قاسية معي ولا تجعلي عزة نفسك تحطم ذلك الحب الطاهر.

المخلص في حبه سمير.



أمسكت الرسالة قرأتها مرة ثانية. أصحيح هذا الذي يقوله؟ إذن لماذا تركني وحيدة، هائمة؟ لماذا لم يبق معي أو يأخذني معه... لماذا...؟ ألحت عليّ تساؤلات بلا جواب. أغمضت عينيّ على وحدتي وحيرتي أحتسي الشوق الفارغ إلى أن غفوت. استيقظت باكرا كانت العائلة المغربية مازالت تغط في نوم عميق، ذهبت إلى الحمام لكي أستحم. لم يكن الحمام يختلف عن ذاك الذي في بيت الحاج رضوان. لمحت ثلاثة صراصير في زاوية السقف. اغتسلت بسرعة لكي لا أتعرض لهجومها. استيقظت العائلة وأعدّت لطيفة الفطور، الذي كان يتكون من الشاي وأربعة بيضات مقلية وخبز أبيض لا يكفي لشخصين. جلس سامي وأخوه عبد اللطيف ورشيدة ولطيفة حول المائدة وكل منا حظي بلقمة أو لقمتين من ذلك البيض المقلي. غادر عبد اللطيف إلى عمله، كنت أتحدث مع رشيدة وشقيق زوجها عن مدى حرصي للالتحاق بالجامعة في أقرب وقت ممكن فطلبت من سامي أن يرافقني. شكرتها قبل أن ننطلق معا إلى الجامعة.

طوال الطريق كان يحذرني من الخروج وحدي ويحكي لي قصصا وأحداثا حصلت للنساء في ليبيا لا تُصدق ولا تخطر على البال. ركبنا سيارة الأجرة وانطلقت تنحرف يمينا ويسارا محاولة الخروج من الشوارع الصغيرة إلى أن وصلت إلى الشارع الرئيسي فانطلقت مثل البرق. ما زلنا في وسط الشارع الرئيسي حتى رأينا حشدا غفيرا من الناس مكتظين وسط الشارع. خفف السائق من سرعته وقال، حتما حادثة سير فالحوادث هنا مألوفة تحدث كل يوم تقريبا. مازال يقود سيارته ببطء حتى رأينا سيارة مقلوبة وسيارة أخرى نصفها تحت دواليب شاحنة كبيرة ويفترش الشارع دم غزير وكأنه دم خراف مذبوحة. منظر يثير في النفس الحزن والألم. قال السائق.

_ لا حول ولا قوة إلا بالله ألعلي العظيم وأعوذ بالله من الشيطان الرجيم.

تدحرج صوتي محملا برعد من الغضب وأنا حتى ذلك الوقت أتخيل تلك الجثث المكبوبة في الشارع.

_ أي شيطان فيهم تتعوذ منه؟ فمن يقود السيارات والشاحنات هنا هم الشياطين. أنتم تقودون بسرعة جنونية وكأنكم تقودون مركبة فضائية.

لكزني سامي برجله وقال لي بصوت غير مسموع:

_ أسكتي يا غالية!

لم يعلق السائق على كلامي، كان ينظر إليّ في مرآته ووجهه مقطب، خفض من سرعة السيارة إلى أن توقف أمام باب الجامعة. إنها "جامعة الفاتح" مكتوب اسمها بحروف كبيرة وبارزة فوق الباب. تحيطها ساحة كبرى تصطف فيها سيارات حديثة الصنع والطراز. دخلنا إلى الجامعة كانت واسعة جدا وحديثة البناء. تعج بالطلبة الذكور والإناث من السودان وموريتانيا والجزائر ومعظمهم كانوا ليبيين. تذكرت كلام ابن الإيمان الذي كذب على أبي وقال له إن الجامعات والمدارس ليست مختلطة. ربما كان العجوز لا يقصد الكذب حيث أنه سمع حتما تلك الشائعات من أناس مثله أو أسوأ منه في الجهل. كانت الجامعة وكأنها مجتمع آخر، عكس ما أراه في الشوارع الليبية المليئة بالأجانب، أغلبهم من شمال المغرب، إما تجار صغار في الدكاكين أو في الأسواق أو من العمّال. وجوههم شاحبة وكأنهم قطاع طرق. في كل شوارع ليبيا لم أر إلا نساء بلباسهن الليبي الأسود، لا يمكن للمرء أن يرى إلا أعينهن تحت ثقب الخمار والرجال بلباسهم التقليدي وطرابيشهم الحمر. تساءلت في نفسي أين يختفي كل هؤلاء الطلبة؟ أليس لهم مكان في المدينة أو ربما يحبون التواجد في بيوتهم وفي الحي الجامعي.

لامارا 14-11-13 09:51 PM

الفصل السابع

أمل





كان المسئول عن تسجيل الطلبة جالسا خلف مكتبه ونحن واقفون على بعد منه، أشار لنا بيده أن نجلس وهو يرشف القهوة. غضب أنيق يخنق كلماته، يدوس على مكانته، كرامته، لم يدرك نباحه المتلاحق. صرخ ببرود، أتفهم حالتك لذلك لن أحاسبك على كلامك. يختلسه الهدوء أحيانا وأحيانا يعدل من جلسته في ارتباك. تسدله وقاحة مفتعلة، يصرخ فجأة يا سيدي: المثل يقول "وقر الكلب على وجه مولاه." كنت أدنو من انتظاري الممل تحت لهاث مستتر، ألملم ضجري في ضحك وأنين وسامي ينظر في صمت إلى الغرفة وأحيانا يلتفت إلي وكأنه يريد أن يقول لي تحلي بالصبر فالأمور تمشي هكذا هنا. كان المسئول يتوارى خلف جلباب بلدي فضفاض بألوان طيف الضباب ومن فوقه عباءة سوداء تخفي طلاسم شخصيته وعلى رأسه طربوش أحمر، منفوش الشعر، سمين البدن، عصبي المزاج وصوته عاصفة هوجاء. يخرج لعابه متطايرا ساقطا على مكتبه وفجأة يقفل السماعة. بدت واضحة لحية شعثاء تلتف حول وجه مستدير ورافق ذلك صوت محشرج كأنه آت من منخرين ضيقين موجها كلامه لسامي:

_ تفضل شو تبي؟

وقفت في مكاني قدمت له شهادتي وقلت: أنا التي أحتاج مساعدتك، أريد الالتحاق بالجامعة.

نظر إلى شهادتي بإمعان، رفع رأسه، بحلق باستغراب في وجهي وقال:

ـ لماذا أردت التسجيل في جامعتنا؟

فاجأني سؤاله.

_ ألا يحق لي أن أدرس بأي جامعة أريد؟

_ أنت درست في أمريكا صح! ما هو السبب الذي جعلك تختارين جامعتنا؟

_ لم أختر جامعتكم، بعد رجوعي من أمريكا رفض أبي أن أرجع لذلك البلد بحكم معلوماته عنها.

_ أبوك إنسان واع يعرف ماذا سببت تلك الدولة لليبيا ولكل البلدان العربية من مشاكل. إن أمريكا سبب شقائنا. أما عن التسجيل فإنك جئت متأخرة ولا يمكنك التسجيل حتى السنة القادمة.

ضاقت الدنيا في عيني وانتابتني حيرة، خرجت محبطة من إدارة الجامعة. حائرة لا أعرف ماذا أفعل. ألوم ماضي وأفكر في حاضري ببيت عبد اللطيف ومستقبلي الذي أراه ينهار أمامي. انتبه سامي لشرودي وليخرجني من منفاي قال لي.

_ يمكنك المكوث معنا حتى يحين وقت التسجيل والآن هيا لنشرب القهوة في أحد مقاهي المدينة، هناك نتحدث عن الشغل وكيفية إيجاده.

ما كنت أفكر فيه في تلك اللحظة هو كيف سأجد عملا في فترة الانتظار. رفضت دعوته شاكرة وفي طريقنا إلى البيت كان يحدثني محاولا إسقاط قناع الغضب عن وجهي. حدثني عن قصص وروايات حدثت في الجامعة، ومعاملة الأساتذة بالطلبة فهي إما أن تكون علاقة حب مع طالبة أو ارتباط وثيق بطالب إن كانت عائلته لها نفوذ وسلطة في المجتمع، أما الطلبة الأجانب فيظلون أجانب حتى يغادروا البلد.

وصلنا إلى البيت، استقبلتني عيون مندهشة متسائلة. اقتربت مني رشيدة ووضعت يدها على كتفي وقالت:

_ لا عليك يا غالية انتظري إلى السنة المقبلة. هيا بنا نتغذى الآن. كنا ننتظرك أنت وسامي.

اجتمعنا حول المائدة وكان معنا شاب آخر إسمه جلال، خال رشيدة. سلّمت عليه وجلسنا نأكل وجبة لا تكفي عددنا، لم تكن لي رغبة في الأكل. كنت منهمكة في التفكير كيف سأجد عملاً متسائلة في نفسي من أين سأبدأ وهل سأخرج لوحدي أو سأضطر لمرافقة سامي؟ فهو أيضا مشغول بدراسته.

نظر إلي جلال وقال:

_ أين أنت شاردة؟ لماذا لا تأكلين؟ ألم يعجبك الأكل؟

كانت لطيفة تنظر إلي بامتعاض. وجودي في البيت يضايقها خصوصا عندما تلاحظ سامي وجلال لا يكفان عن الحديث معي. ينهالان علي بكثرة أسئلتهم التي كانت تزعجني. همي الوحيد في تلك اللحظة كيف سأستقل بنفسي. كانت لطيفة تقضي وقتها أمام المرآة تزين نفسها، تمشط شعرها وتغير تسريحته ثلاث أو أربع مرات في اليوم وتطارد جلال بكلمات الجذب وتزحف أمامه بخطوات تفضح إعجابها بوسامته ومزاحه الذي يصل إلى حد الاستهزاء. كان يدخل البهجة إلى نفسها عندما يكون متواجدا في البيت. ذات يوم كنت أستحم، سمعتها تتكلم بعصبية مع رشيدة وتقول لها:

_ كان جلال نادرا يأتي عندكم لكن بعد ظهور غالية أصبح لا يخرج من بيتكم نهائيا.

قالت رشيدة بصوت يقترب من الهمس:

_ اخفضي صوتك كي لا تسمعك غالية.

_ لا يهمّني ذلك إنه يتقرب منها كثيرا ونسي أنني أحبه.

قالت رشيدة:

_ وما ذنب غالية إنها غير مبالية لا بجلال ولا بسامي.

قالت لطيفة بعد أن هزت برأسها متوترة:

_سامي! وما دخل سامي في الموضوع؟

_ لقد جاء إلي وطلب مني أن أسألها إن تقبله زوجا لكي يسافر إلى المغرب ويطلبها رسميا من أهلها.

جنون يرتعش تحت جلبابها، لم تستطع أن تستر استياءها، تمتمت وهي تهز رأسها هزة خفيفة:

_ والله شيء عجيب لم تمكث هنا شهرا كاملا حتى أوقعت سامي وجلال في شباكها.

أحست لطيفة بانزعاج في صدرها لتصرف لطيفة، جذبتها إليها وكأنها بذلك تريد الدفاع عني وقالت:

_ رأيت بعينيك كم هي منزوية على نفسها ولا تكلم أحدا إن لم يكلمها.

لم تتحمل لطيفة دفاع رشيدة عني، غضب حجب سواده بصيرتها وصرخت وهي ترتجف بارتباك:

_ لا، هذه الفتاة لا بد أن تغادر بيتكم في الحال.

كان قلبي يخفق بسرعة، لتلك التهم التي ُوجِّهَتْ إلي من غير سبب. مشاكل تنهال على رأسي متتالية من غير توقف. أين سأذهب ...؟ عندي نقود تكفيني للمكوث في أحلى فندق بالبلد أو لاستئجار شقة لكن ذلك معناه مغامرة مميتة. خرجت من الحمام واستأذنت رشيدة بالخروج للبحث عن العمل.

قالت ووجهها محمر خجلا:

_ انتظري حتى يأتي سامي لكي يذهب معك.

نظرت إليها لطيفة وهي تمسح من جبينها غضب البحر وقالت:

_ لتخرج لوحدها فهي لا تحتاج رقيبا.

غادرت المنزل متجاهلة لطيفة التي كانت ستنفجر غيظا من عدم اكتراثي لحممها. كنت خائفة في ذلك الصباح رغم عدد الأطفال الهائل الذين كانوا يلعبون بذلك الدرب الضيق. أمشي بخطوات سريعة كهارب من شيء إلى أن دخلت في شارع تحيطه منازل متلاصقة ببعضها. مازلت أمشي على الرصيف محاولة إيجاد سيارة أجرة حتى مرت سيارة سوداء من نوع المرسديس. أخرج شاب نصف جسمه من نافذة باب السيارة وضربني على قفاي ثم أسرعت السيارة والشاب ينظر إلي ويضحك. سمعت قهقهاته وكأنها رعد مفاجئ. إلتفت إلى يميني فإذا بي أرى رجلين مسنين جالسين على عتبة منزل ينظران إلي وهما في هستريا من الضحك. دنوت منهما وقلت: لعنة الله عليكما أيها العجوزان اللئيمان عوض أن تستهجنا ذلك التصرف المشين تضحكان أليس فيكما ذرة من الإنسانية؟ أو متى كان الحيوان إنسانا؟ قلت كلامي ومشيت بسرعة أهرول بين الدروب إلى أن وصلت إلى الشارع الرئيسي الذي يؤدي إلى داخل المدينة أترقب سيارة أجرة. السيارات تمر بسرعة كالبرق. وبعضها يقف أمامي، يخاطبني سائقها إن أردت الركوب معه ليوصلني إلى المدينة. ابتعدت عن الشارع فإذا بسيارة تدخل في الرصيف وتقف أمامي ويخرج سائقها رأسه من النافدة قائلا: "وين يبي الحلو يروح؟" خفت منه وابتعدت بسرعة فوجدت نفسي أمام باب كبير. كان واقفا بجانبه حارس شديد السمرة سألته:

_ ما هذا المكان؟

قال لي باللغة الفرنسية:

_ أنا لا أفهم اللغة العربية.

حاصرني جوابه. سألته إلى أي بلد ينتمي. رفع جسده تماما والتقط بأذنين متوترتين سؤالي وقال بصوت متهدج، أنا موريتاني.

_ غير معقول! موريتاني لا يتكلم اللغة العربية؟

اهتزت خطواته وأخرج حروفا مغتاظة.

_ موريتانيا ليست بلدا عربيا، والعرب فقط استعمرونا مثلما استعمروا شمال إفريقيا كلها.

تجنبت الغوص معه في معضلة إفريقيا والعرب. تكفيني معضلة سري الخطير فهو بالنسبة لي أخطر من قضية العرب وغير العرب. سألته عن تلك البناية التي يعمل فيها فقال لي إنها مركز دبلوماسي إفريقي. طلبت منه الدخول، فسمح لي بذلك. وجدت نفسي داخل مبنى كبير جدا وبيوت صغيرة تشبه بعضها وتحيطها الأشجار والزهور. أمشي ولا أعرف إلى أين متجهة، دخلت البناية الكبيرة واتجهت إلى أول مكتب. استقبلتني سيدة في الخمسينيات اسمها فلورانس، أخبرتها بأنني أبحث عن وظيفة فطلبت مني الذهاب إلى الطابق الثالث، أول مكتب على اليمين. شكرتها وهرولت إلى الطابق الثالث وفي طريقي كنت أقرأ البسملة مرات لأنها تفتح الأبواب لقارئها وتسهل له أموره، هكذا علمني أبي. تذكرت أبي وتذكرت عائلتي فشعرت بحنين يمزق قلبي. وصلت إلى الطابق الثالث حيث كان باب المكتب مفتوحا. اقتربت بخطوات بطيئة من الباب، رأيت رجلا جالسا على كرسي متحرك ورجلاه فوق منضدته منشغلا في محادثة هاتفية. لم أتحرك من مكاني حتى أنهى المحادثة، وما أن رآني حتى نهض بسرعة ثم قال وابتسامة على وجهه. أهلا وسهلا تفضلي، ماذا تريدين أن تشربي؟

_ لا شيء شكرا أنا فقط ...

_ لابد أن تشربي شيئا أولا، أنا لست بخيلا وثانيا الجو حار جدا هنا.

أحضر العصير من ثلاجة صغيرة بإحدى زوايا المكتب. كنت أختلس النظر إلى المكتب الواسع، نوافذه كبيرة تطل على الشارع، سجادة عجمية عسلية اللون، تلفاز وآلة طباعة كهربائية، بجانبها منضدة من خشب الأيك فوقها حاسوب وكأس مزخرف من العاج به أقلام وصورة له ولعائلته مزينة بإطار مذهب ويافطة مكتوب عليها اسمه ومهنته باللون الأسود. دكتور في العلوم السياسية ومترجم فوري.

_ بلغني من سكرتيرة المركز أنك تبحثين عن وظيفة هل أنت جديدة في البلد؟

_ قدمت إلى ليبيا منذ شهر ونصف لمتابعة الدراسة بالجامعة لكنني لم أستطع الالتحاق لتأخري عن موعد التسجيل.

أخرجت شهاداتي من حقيبتي وأعطيتها له. نظر إليها ثم قال مستغربا.

_ ما الذي جاء بك إلى هذا البلد؟

رويت له قصتي وسبب وجودي في ليبيا. تسلل الأسى إلى وجهه الأسمر وتلك الابتسامة التي كانت مرسومة على شفتيه اندثرت وقال:

_ الوضع هنا يختلف تماما عن المغرب، أتمنى أن تستطيعي التكيف هنا. هل تحسنين الضرب على الآلة الكاتبة؟

أومأت برأسي مشيرة بالنفي. ابتسم وقال:

_ لا تخافي هذه ليست مشكلة. تعالي عندي بعد يومين وسأصحبك إلى المدرسة.

رجعت إلى بيت العائلة المغربية وكانت رشيدة تهيئ الغذاء. بمجرد أن رأتني حتى خرجت من المطبخ وقالت:

_ رجعت بسرعة، هل وجدت وظيفة؟ أرى وجهك مشرقا.

_ نعم، سأتعلم فقط الضرب على الآلة وأبدأ العمل بمركز دبلوماسي بشارع كورجي الرئيسي.

كان جلال يجلس في الصالون مع لطيفة، أقبل إليّ مسرعا.

_ مركز دبلوماسي! بهذه السرعة ألف مبروك.

لحقت به لطيفة محتقنة وغضب متأجج يظهر على سحنة وجهها متخم حتى الثمالة، اقتربت مني وقالت بصوت قريب إلى الصراخ:

_ مبروك لم يعد لديك أية مشكلة سوى البحث عن مكان تسكني فيه فأنت قدها وقدود لا خوف عليك. تجمهر خجل واضح على سحنة وجه رشيدة مستنكرة ذلك التصرف. أما أنا فقد كان لدي الرغبة في أن أنفجر صارخة في وجهها إلا أنني عدلت عن ذلك زافرة بعمق. اتجهت إلى الغرفة وأخذت حقيبة ملابسي وكتبي وخرجت لتوديعهم. أسرع نحوي جلال وأخذ مني الحقائب. لا تخرجي من هذا البيت فأنت أصبحت واحدة منا. كانت لطيفة تقذف جلال بنظرات حادة كالرشاش وهو يمسك بحقيبتي رافضا أن أغادر البيت، ظلت مستسلمة للصمت برهة وعلى عينيها مسحة غضب ثم خرجت من دائرة صمتها تفحّ كالأفعى.

_ ما دخلك أنت؟

مازالت تصرخ حتى دخل سامي البيت وقال لها:

_ ما هذا الصراخ أسمع صوتك من خارج البيت.

قالت وقد بدأت تخرج من دائرة الاستحياء:

_ إنه جلال. عينه في غالية وانفجرت تبكي.

قال لها جلال:

_ إنك مجنونة حقا.

قال سامي موجها كلامه إلي:

_ ماذا جرى؟

_ ليس هناك قصة ولا حكاية إنني وجدت عملا وسأذهب للبحث عن شقة.

قال على عجل وبلهجة العليم بخفايا البلد:

_ لوحدك هذا انتحار يا غالية.

فقدت لطيفة أعصابها وقالت كالملسوع:

_ لماذا كل هذا الاهتمام الزائد بغالية فقد كنا مرتاحين.

قال سامي باستغراب وغضب:

_ بأي حق تتكلمين عن ضيفتنا بهذا الأسلوب إن كان أحد سيخرج من هذا البيت فهو أنت.

لم أحتمل ذلك الشجار حملت حقائبي وخرجت خجلة من كلّ الموقف، وخيل إليّ أن كل العيون تلتهمني وأوشكت أن أتعثر. تبعني سامي وجلال وأمسكا الحقيبة وأعاداني إلى البيت.

قالت لطيفة موجهة كلامها لرشيدة: انظري كيف يتسابقان عليها.

قالت رشيدة: لا يحق لك أن تتصرفي على هذا النحو، أنت ظلمت غالية.

تقلصت عضلات وجهها، لم تكن تتوقع من رشيدة مثل هذا التصرف، خفضت رأسها وقالت بنفس مكسورة وفم مزبد:

_ أنت أيضا في صف غالية والله لقد سحرتكم جميعا.

ـ أنا مع الحق وزوجي هو الذي استضافها فلن يقبل منك أبدا أن تطردي ضيفته من بيته.

لبست لطيفة جلبابها المغربي وغادرت بعد أن ضربت الباب بقوة أما أنا فكنت غارقة في لجة بحر من الوجوم. اقتربت مني رشيدة وضعت يدها على كتفي وامتلأ وجهها ابتسامة عذبة صافية وقالت:

_ كلنا أهلك أرجوك أن تنسي تصرف لطيفة.

غمغم جلال مفصحا عن استياء دفين:

_ يا لطيف كم غيورة هذه المرأة.

أسرعت صامتة بخطى مرتبكةإلى الغرفة، ارتميت فوق السرير وجسمي مكتظ بالحزن، وارتميت على جسدي المكتظ بالحزن ترتعش مفاصلي من الخجل وروحي منشطرة يبعثرها ضجيج وعلامات استفهام إلى أن غفوت.

بعد يومين ذهبت إلى المركز الإفريقي. كان الدكتور نبيل ينتظرني، ركبنا السيارة واتجهنا إلى المدرسة. باشرت التعليم وحصلت على الشهادة خلال شهر واحد بفضل مساعدة المعلمة المغربية التي كانت تبذل معي جهدا تلبية لتوصية الدكتور نبيل.

كرمه يربكني وأحيانا يخيفني، كتبت لعائلتي رسالة أخبرتهم فيها عن اهتمامه بي فكتب له والدي رسالة يشكره فيها على حسن معاملته لي وطلب منه أن يزورنا في المغرب إن سنحت له الفرصة. بعدما تلقى تلك الرسالة زاد من عنايته بي ومسؤوليته نحوي. كان يرافقني إلى المدرسة ويرجعني بسيارته بعد انتهاء عمله إلى بيت العائلة المغربية. كانت مشكلتي الوحيدة في تلك الفترة هي الجوع إذ لم يكن الطعام كافيا رغم أنني كنت أعطي لرشيدة نقودا كمساهمة مني في مصروف البيت. مرات أردت أن أخرج لأشتري ساندويتشا لكن شراءه يستوجب ركوب تاكسي أجرة أو حافلة وذاك ما كنت أتجنبه كي لا تحصل لي مشكلة. لم أنس مرة كنت جائعة جدا حيث أن الفطور كان قليلا كعادته. دخلت إلى المطبخ علني أجد كسرة خبز آكلها فإذا بي أرى سلة معلقة بجدران المطبخ بها خبز يابس أمسكت قطعة، بللته بالمرق الذي كان يغلي في الطنجرة ثم وضعته في فمي بسرعة كي لا يراني أحد فاحترق لساني. كنت أخجل كثيرا من نبيل وهذا ما جعلني لا أستطيع أن أخبره مشكلة جوعي لكنني لم أعد أتحمل لسعته فاضطررت أن أعترف له ذات يوم ونحن في طريقنا إلى بيت العائلة المغربية. أعطيته نقودا لكي يشتري لي ساندويتشا أبى أن يأخذ النقود مني توقف أمام محل الساندويتشات. أكلنا داخل السيارة ثم أوصلني إلى البيت.



سعادتي ترفرف بداخلي لاعتنائه بي. كان يلبسني الطمأنينة، كان لي الأخ والصديق وأحيانا أراه كالأب في عاطفته. كل يوم أجلس في مكتبه ساعات أتمرن على الآلة الكاتبة، همه أن أبتعد ولو قليلا عن بيت العائلة المغربية الذي لا يخلو من الزيارات الكثيرة. كنت أجد فوق المنضدة ساندويتشا مصحوبا بعلب شكولاطة والآيس كريم، وعندما يأتي من بيته كي يصحبني عند العائلة المغربية، يطرق باب الغرفة أربع دقات. كان لا يثق بأي أحد بالمركز خصوصا زميله الأوغندي الذي يخون زوجته مع السكرتيرة الحبشية فلورانس. سوزان صديقة حميمة للدكتور نبيل وزميلته في العمل، كانت في الأربعينيات من عمرها، لها ثلاث بنات. كنت أقضي معظم الوقت معهم في القرية السياحية، هناك نسبح ونقضي نهارنا بعيدا عن العيون المتربصة والمكبوتة. القرية السياحية عبارة عن ناد كبير جدا فيه جميع وسائل الترفيه للجاليات الأوروبية والأمريكية التي كانت تعمل في طرابلس. قضيت أياما جميلة مع سوزان وبناتها. كان زوجها كثير السفر وغيابه المستمر يحزنها وكانت تعرف بأن له علاقة مع فلورانس وغيرها، لكن لم يكن بيدها فعل شيء كانت تسعد كثيرا بلقائي. نثرثر في مواضيع كثيرة وأحيانا نخلط حوارنا بالفرنسية وغالبا ما كنا نزعج الدكتور نبيل إن أردنا أن نتحدث في موضوع خاص نستعمل اللغة الفرنسية التي لا يفهمها، فتراه يزمجر فينا وينهرنا ونحن نضحك على عصبيته. عاد أوسكار من السفر، كنت في المركز كعادتي أتمرن على الآلة الكاتبة. أقبل نبيل إلى المكتب وقال عن ضيق مكتوم نافضا رأسه بحركة تفصح عن استياء شديد.

_ لقد جاء أوسكار هذا الذئب الذي لا يترك فتاة إلا ويلعب بعواطفها أو يستغلها جنسيا، لكنني مضطر أن أقدمك له خاصة وأنك تزورين زوجته في بيته لكي يعرف أنك لست لوحدك.

دخل علينا أوسكار، طويل جدا، شديد السمرة، أنيق، بذلته البنية تخفي أحاسيسه المجهولة ورائحة عطره الباريسية تتطاير مجنونة مع ذلك المساء الدافئ. قال له نبيل.

_ هذه غالية ابنتي وأختي وصديقتي وصديقة زوجتك.

سلّم عليّ بابتسامة حذرة ثم غادر إلى مكتبه. قال نبيل بعدم اكتراث.

_ هكذا نكون قد أمنا شره.

أصبحت أيامي مطمئنة تتراكض بهدوء. ذات يوم وأنا عائدة من المدرسة إلى بيت المغاربة، وجدت لطيفة تساعد رشيدة في استحمام توأميها، سلّمت عليهما وذهبت إلى غرفتي أتأمل في صمت أحداث حياتي وغربتي ونفس السؤال في عمق أعماقي يراودني، هل من العودة يوما إلى أهلي ووطني إلى أن دخلت علي رشيدة وقالت بنبرة خجلة.

_ إن لطيفة رجعت رغم أنها غير مرغوب فيها وأنا لا أستطيع طردها، كما أن وجودها معنا قد يسبب لك إزعاجا وإحراجا لذلك فضلت أن تسكني مع أبي وزوجته فمنزلهما قريب منا جدا ويمكنك أن تزوريني في أي لحظة شئت.

حرارة سرت في وجهي وحزن لفّ أوصالي قلت لها.

_ سأبحث عن شقة أستأجرها، لا أريد أن أكون سبب إحراج لنفسي أو لغيري لذلك أفضل البحث عن شقة أستأجرها.

كنت أرى في وجهها حزنا وخجلا مازال مرتسما على وجهها. هذا مستحيل! سأغضب كثيرا إن لم توافقي على اقتراحي.

في صباح اليوم التالي، تركت رشيدة توأميها مع لطيفة ورافقتني إلى بيت أبيها. طوال الطريق كانت تتحدث عن أبيها وزوجته أما أنا فكنت هائمة أفكر في حالي التي ما زالت تتنقل من بلد إلى آخر ومن فندق إلى آخر ومن بيت إلى آخر فبكيت بصمت إلى أن وصلنا إلى منزل أبيها الحاج. كان البيت يعج بإخوة رشيدة، تتراوح أعمارهم بين الخامسة والسادسة عشرة سنة. المنزل كبير بالمقارنة بمنزل عبد اللطيف؛ له خمسة أبواب لخمس حجرات مفتوحة على صالة بعرض ثلاثة أمتار، يسدها حائط الجيران، في إحدى زوايا الدار كان باب المطبخ وفي ركن المطبخ فرن كبير للخبز وبجانبه فرن للطبخ، حجزت منه مساحة كبيرة، بسقف المطبخ يتدلى سلك للمبة كهربائية سوداء. خرج الأب من غرفته رحب بنا، دخلنا إلى الصالون الذي كان يذكرني كثيرا بصالون البيوت الريفية في المغرب، تتوسطه حصيرة على الأرض ومائدة مستديرة فوق الحصيرة. أقبلت علينازينة سلمت علينا بحرارة. امرأة في الثلاثينيات من عمرها، قصيرة القامة، مليئة البدن، شديدة البياض، طويلة الشعر، يظهر متدليا نصفه من تحت منديل مزركش الألوان أما زوجها فكان في الخمسينات من عمره، طويل القامة مليء البدن، أسمر البشرة، يظهر عليه الوقار. كان يحدثنا بابتسامة تعلو على تجاعيد وجهه المتوتر ويده لم تكف عن مسح العرق السائل بغزارة على خديه وعلى عنقه. التفت إلى زوجته فأجابته بسرعة قبل أن ينبس ببنت شفة.

_ إن حسناء ستحضر الشاي.

بعد نصف ساعة تقريبا أقبلت علينا بنت في سن الرابعة عشرة وفي يدها صينية الشاي والرغيف. إنها حسناء أخت رشيدة من أبيها وبنت زينة البكر سلمت علينا وانصرفت. ثم ذهبت مرة ثانية إلى المطبخ لتحضر الرغيف. شربنا الشاي وأكلنا ذلك الرغيف المغمس في العسل. حملني طعمه إلى منزلنا في المغرب فتذكرت عمتي. كانت العائلة تعرف أنني سأمكث معها لأن رشيدة لم تخبر أباها ولا زوجته بشيء أمامي، بعدما شربنا الشاي ودعتنا وانسحبت من الغرفة. لحقها أبوها على عجل بما يشبه الهرولة، أما أنا فكنت منشغلة في الإجابة على أسئلة زينة، تريد من أسئلتها تقريرا كاملا عن أحوال المغرب وأهل المغرب كما أخبرتني أن عائلة مغربية تسكن معهم في المنزل. السيد زكي وزوجته منى يسكنان في إحدى الغرف بالبيت. رجع والد رشيدة ورحب بي ثم اختفى في غرفته التي يخيط فيها الجلابيب المغربية وأغلق الباب. رافقتني زينة إلى الغرفة التي يسكن فيها الزوجان. طرقت الباب ففتحت لنا السيدة منى مرحبة بقدومنا. دخلنا الى الغرفة نورها خافت، تنبعث منه رائحة التراب، في الغرفة سرير مزدوج وستار أبيض يحجب السرير والنصف المتبقي من الغرفة تتوسطه سجادة صغيرة بنية وفي الجانب الآخر من الغرفة توجد خزانة مليء نصفها بالملابس والنصف الآخر وضعت فيه أواني المطبخ وبالقرب من الخزانة قنينة غاز صغيرة يطبخون عليها طعامهم، في تلك الغرفة الصغيرة يقضيان وقتهما عندما يرجعان من العمل، ليس لهما اختلاط بأحد ولا حتى بزينة وزوجها الحاج. إقامتهما في ليبيا لجمع المال لبناء منزل في المغرب وفتح مشروع يعيشان منه. قضيت أياما مطمئنة في بيت الحاج أحمد. ارتحت فيها من سامي ومن جلال وخاصة لطيفة التي كانت لا تطيقني. كنت أقضي طيلة النهار في المدرسة وفي المركز الدبلوماسي عند سوزان وبناتها ولا أرجع لبيت الحاج أحمد إلا في المساء.

أنهيت دورة تعليم الضرب على الآلة الكاتبة فأخذت الشهادة ولم يبق أي عائق يحول بيني وبين مباشرة العمل بالمركز الإفريقي. فرح نبيل، وبتلك المناسبة دعاني أنا والمعلمة المغربية للعشاء احتفالا بنجاحي. كان في قمة السعادة وكأنه هو الذي حصل على تلك الشهادة. قال مبتسما.

_ بمجرد ما تعود مديرة مكتبة المركز من ألمانيا سأخبرها عنك. تعرفين الكاتبة فلورانس التي قابلتها أول مرة، أنا الذي توسطت لها في الوظيفة وحتى الآن مازلت أساعدها في أمور كثيرة أما المسئولة عن مكتبة المركز فهي سورية ومتزوجة من ليبي. إنها امرأة طيبة ولا أعتقد أنها ستمانع في توظيفك، خاصة وأننا نحتاج لمن يشرف على المكتبة. كما أن معنا سيدة مغربية من مدينة فاس متزوجة من ليبي، سأعرفك عليها. اسمها زاكور رجاء.

في اليوم التالي، أخذني إلى مكتبها. وقفت مرحبة بي، أما الدكتور نبيل فقد تركنا وحدنا وغادر إلى مكتبه. أحسست بدافع لم أستطع مقاومته للتعرف عليها، ربما الشوق إلى أهلي. كانت السيدة رجاء في الأربعينات، وجهها مألوفا شديدة البياض، طويلة، مليئة البدن، خصلات شعرها الأشقر متهدلة على جبينها، تلبس جلبابا مغربيا مطرزا أضفى على جمالها رونقا وصفاء. نظرت إلي وقالت:

_ هل أنت من مدينة فاس؟

قلت على عجل: نعم، وأمي مدرسة بمدرسة سكينة بنت الحسين اسمها بدرية عصام.

_ الأستاذة بدرية عصام؟ هذا غير معقول! لقد كانت معلمتي في الصف السادس.

تعجبت لتلك الصدفة، فكل الصدف والأحداث التي تواجهني في حياتي كأنها حلم أو خيال. ودعت السيدة رجاء وذهبت إلى بيت سوزان داخل المركز. كنت أنتظر قدوم تلك السيدة السورية من السفر على أحر من الجمر، معلقة آمالا كبيرة على تلك الوظيفة، بانية أحلاما جميلة. سأعمل سنة أو سنتين ثم أسافر إلى أمريكا لإنهاء الدراسة هناك. أصبح حلمي يتحقق شيئا فشيئا. في الفترة التي كنت أنتظر فيها قدوم المسئولة التي ستوظفني، كنت أزور المعلمة المغربية في بيتها، كانت تعيش في بيت وسط المدينة، قريباً من الساحة الخضراء. لها بنتان؛ واحدة في العاشرة والثانية في السابعة، من طليقها الذي يسكن معها بنفس البيت، لكنه متزوج من امرأة ثانية وله أولاد منها وكلهم يعيشون تحت سقف واحد. الشيء الذي كان يحيرني والذي لم أكن أستطيع فهمه أن المعلمة لها علاقة جنسية مع شاب مغربي، عاطل عن العمل يظل تقريبا في البيت طوال النهار. مرة سألتها:

_ ما رأي زوجك في علاقتك مع ذلك الشاب؟

قالت: لا دخل له في حياتي، ما كان بيننا قد انتهى. فكل منا له حياته الخاصة الآن. إنه يحتاج مساعدتي دائما رغم انفصالي عنه. إنه يستورد من المغرب التوابل وبعض أدوات الغسيل التقليدية المغربية وعندما تحجز تلك البضاعة بالمطار، يطلب مني أن أتوسط له لإخراجها من غير ضريبة.

_ هل سبق لك أن اشتغلت في المطار؟

_ كلهم يعرفونني، ولا يستطيعون أن يرفضوا لي طلبا.

ضحكت عن أسنان متآكلة: أنت يا غالية مازلت ساذجة وليست لديك خبرة في الحياة.

_ ماذا تقصدين؟

_ إنك تضيعين الفرص من يدك دائما. ضيعت فرصة لا تعوض مع سمير فارس أحلامك الذي أتاك وكأنه حلم يقظة، والآن تضيعين فرصة ثانية.

ـ هل تقصدين الوظيفة؟

- إنني أنتظر قدوم تلك السيدة المسئولة عن توظيفي.

ـ ألم أقل لك بأنك ساذجة أنا لا أتكلم عن الوظيفة، أعني الدكتور نبيل إنه مترجم فوري بمركز دبلوماسي وعنده أموال كثيرة.

رفعت وجهي مندهشة: وما دخل سذاجتي بوظيفة الدكتور نبيل وأمواله؟

ـ إنه يحبك يا غالية.

ـ هذا مستحيل. إنه متزوج وله خمسة أولاد، أكبرهم سنا يصغرني بثلاث سنوات. وهو يعاملني كواحدة من أبنائه.

_ ألم تلاحظي كيف كان ينظر إليك خاصة عندما كنا نتعشى في الفندق وكيف كان يتحدث معك، إنه مغرم بك، يكفي أنه يعرف بأنك لا تحبين الخروج معه لوحدك بالسيارة فيضطر لأخذنا معه أنا وبناتي أو مع العائلة الأوغندية إلى أفخم المطاعم كل هذا لكي يراك فقط.

_ لا أصدق، مستحيل، إنه يحبني كأحد أبنائه.

_ مادام يحبك ذلك الحب الذي تقصدينه فلماذا لا تطلبي منه أن يشتري لك ذهبا.

_ أنا لا ألبس الذهب ولا أحتاجه وهو ليس وليّ أمري لكي أطلب منه شيئا.

_ أطلبي منه مائة وخمسين دينارا.

_ لماذا؟

_ أريد أن أشتري ثلاجة.

انتابتني نظرة عدوانية وأنا ألتقط كلامها بأذنين واحدة من طين وأخرى من عجين، شعرت بسخونة في وجهي وبحرج وخيبة أمل من تلك المعلمة التي كنت أعزها وأحترمها. غادرت منزلها في صمت ورجعت إلى بيت الحاج. وجدت زينة منهمكة في غسل الملابس والسيدة منى مقرفصة أمام قنينة الغاز الصغير تقلي السمك. أشارت لي بيدها، اقتربت من غرفتها، سلّمت عليّ وقالت:

_ غالية، أريدك أن تتناولي الغذاء معنا.

_ ليس عندي مانع فرائحة السمك دغدغت شهيتي للأكل.

دخلت إلى تلك الغرفة الصغيرة فرأيت زوجها لأول مرة جالسا على السجادة وبيده جريدة عربية. كان بشوشا لطيفا، يكبر زوجته بعشر سنوات تقريبا، شعره أبيض ولحيته طويلة بيضاء ومنفوشة. وضع جريدته بجانبه وقال: أهلا وسهلا بك يا غالية، لقد تحدثت عنك زوجتي كثيرا، تعجبت كثيرا عندما قالت لي بأنك كنت تدرسين في أمريكا فلماذا يا بنتي جئت إلى هذا البلد ولوحدك؟

_ إنني لم آت لهذا البلد وحدي. لقد جئت مع عائلة مغربية لكنني لم أستطع العيش معهم.

_ لا عليك يا ابنتي إن الناس معادن فأنت الآن معنا، واحدة منا في بيت الحاج وبيتنا.

احمر وجهه وأطرق برأسه وقال: صحيح نحن نسكن في إحدى غرف منزل الحاج، لكن هذه الغرفة اعتبريها غرفتك واعتبريني أنا وزوجتي عائلتك، إن زوجتي ماهرة في الطبخ لذلك تزوجتها. التفت إلى زوجته مبتسما وقال:

_ أليس كذلك يا منى؟

ضحكت وقالت: هل تزوجتني لأجل مهارتي في الطبخ فقط؟ سأضرب عن طبخ الطعام إذا.

ارتحت كثيرا لمنى وزوجها، كانا في قمة الطيبة والكرم وكانت فعلا ماهرة في صنع الطعام وتقديمه بطريقة فنية على المائدة. تلك المائدة الصغيرة والمستديرة تكون ممتلئة بصحون صغيرة مشكلة بأنواع السلطات، بجانبها وجبة رئيسية عكس زينة التي كانت تضع كل يوم إما الأرز أو العدس أو المكرونة في طنجرة كبيرة مخلوطا باللحم والخضار والفلفل الأحمر الحار، ثم تضعه بعد أن يستوي في صحن كبير جدا يجتمع عليه أولادها وزوجها كالذباب. كنت نادرا ما آكل معهم لأن طبخها يؤلمني في معدتي بسبب التوابل الحارة والإكثار من الزيت.

ذات يوم رجعت من المركز الإفريقي إلى بيت الحاج، وجدت زينة جالسة بعتبة الصالة على ركبتيها وكوعا يديها على الأرض كقطة برية. كان وجهها أصفر وجسمها يرتعش من الغضب. اقتربت منها وقلت:

_ ما بك يا زينة؟

صرخت وجسمها يرتعش من الغضب:

_ إنها منى وزوجها لا يريدان أن يخرجا من بيتنا. إننا نحتاج لتلك الغرفة ولو أنها أصغر الغرف في البيت. عندما أخبرت منى بأننا نريد الغرفة انقضت علي، تريد ضربي لكنني ضربتها ضربا لن تنساه قط في حياتها.

_ هذا غير معقول يا زينة. هذا ظلم!

_ لماذا ظلم؟ نحن الذين أدخلناهم إلى منزلنا وأعطيناهم تلك الغرفة ونحن الآن نريد استرجاعها. هل هذا حرام؟

_ لكن البيت ليس بيتكم، إنه بيت الليبيين. هل تريدون أن يضحكوا عليكم؟

_ إن زوجي يريد أن يضع تلك الجلابيب التي يخيطها في الغرفة التي تسكن فيها السيدة منى وزوجها، لأن ليس لديه مكان في الغرفة التي يعمل فيها.

_ لكن هذا حرام يا زينة. أين سيقيمان إن أخرجتموهما من هذه الغرفة؟

_ هذه ليست مشكلتنا.

ما زالت زينة تتحدث إلي بعصبية حتى دخل زوجها ومعه خمسة من الشرطة الليبية. خرج السيد زكي وزوجته من الغرفة عندما سمعا صوت الشرطة، فاقتربت زينة كالأسد يريد الانقضاض على فريسته كما اقترب الحاج إلى السيد زكي وهو يزمجر. كان الحاج طويلا جدا وضخم الجسد عكس السيد زكي الذي يظهر أمامه نحيلا قصيرا. علت الأصوات بينهم أوقفهم قائد الشرطة وسمع كلام السيد زكي وزوجته، كما سمع ادعاء السيدة زينة وزوجها الحاج أحمد. كنت واقفة أنظر من بعيد كيف ستنتهي المعركة وكيف ستتصرف الشرطة الليبية تجاه هاتين العائلتين المغربيتين. تفقد الشرطي غرفة السيد زكي، فتفاجأ لما رأى. غرفة صغيرة قسمت إلى غرفة نوم وغرفة جلوس ومطبخ فقال للحاج:

_ العدل هو أن تعطي للسيد زكي غرفة أخرى مجاورة للغرفة التي يسكن فيها.

جن جنون الحاج، وبدأ يزمجر ويقول هذا ليس عدلا. قال له قائد الشرطة:

_ اخرس! فنحن متسامحون معك كثيرا إن رفضت هذا العدل فنحن سنغيره بواحد أحسن منه.

قال الحاج بعصبية:

_ ما هو هذا العدل الذي هو في نظرك أحسن من هذا؟

قال قائد الشرطة:

_ تترك البيت كله للسيد زكي.

قال الحاج وقد شحب وجهه:

_ وأين سأسكن أنا وأولادي؟

قال قائد الشرطة:

_ ابحث لك عن بيت آخر.

غادرت الشرطة المنزل بعد أن وافق الحاج مرغما أن يعطي السيد زكي غرفة ثانية. لكن السيد زكي قال وابتسامة مرسومة على وجهه.

_ أنا لا أريد غرفة ثانية ولو أن التي أسكن فيها صغيرة جدا ويستحيل السكن فيها على هذا النحو.

قال كلامه ودخل إلى غرفته مع زوجته وأغلقا الباب. أما الحاج أحمد فقد شعر بالانهزام فلم يتحمل فشله الذي سبب له انهيارا مفاجئا فوقع على الأرض يتمرغ في الأرض واللعاب يخرج من فمه كرغوة الصابون وزوجته تصرخ بصوت عال: النجدة! النجدة! الإسعاف! الإسعاف! إن زوجي يموت. خرج السيد زكي وزوجته من غرفتهما فوجدا الحاج ينتفض كالخروف المذبوح وسط الدار. هرول بسرعة خارجا ليتصل بالإسعاف وفي أقل من نصف ساعة وصلت سيارة الإسعاف وحملته إلى المستشفى. مكث الحاج أسبوعا كاملا هناك إلى أن استرجع صحته وعندما رجع إلى منزله توافدت كل عائلته ابنته رشيدة وزوجها عبد اللطيف، ملكة أخت رشيدة وزوجها السوداني، جلال وسامي وخالها السيد رءوف وزوجته ولطيفة الممرضة كلهم جاءوا ليطمئنوا عليه.

انتهت الحرب الباردة بين الحاج أحمد وزوجته والسيد زكي وزوجته حيث قبل الأول بالخضوع للقانون الذي صدر من الشرطي وعادت المياه إلى مجاريها كما كانت.

ما زلت أتردد على سوزان والدكتور نبيل منتظرة قدوم مسئولة المكتبة. لم يعد نبيل يحتك كثيرا بزملائه في المركز، كل يوم بعد انتهاء دوام عمله يأخذني مع سوزان وبناتها الثلاث إلى القرية السياحية أو إلى مسبح أحد الفنادق. لاحظ موظفو المركز هذا الاهتمام الزائد عن حده حيث افتقدوا نبيل الذي كان صديق الكل خدوما لهم في أي وقت يحتاجون المساعدة، افتقدوه عند ظهوري فأصبحوا ينفرون مني عندما يرونني. بل أصبحت الأصابع تشير إلي وكأنني سلبت منهم شيئا ثمينا. لا أريد أن تكون صداقتي مع نبيل مبنية على افتقاد الآخرين لها. لم أنس مرة وأنا ذاهبة لزيارة سوزان، رأيت فلورانس. مسئولة قسم المؤتمرات والمغربية رجاء تنظران إلي بعينين مليئتين بالحقد، يتهامسن فيما بينهن ويلتفتن إلي. واصلت طريقي إلى بيت سوزان ورويت لها ما لاحظته. ضحكت وقالت.

_ يعتقدن أنك مثلهن انتهازية. في نظرهن انتزعت منهن نبيل الذي يخدمهن في كل شيء. فتواجدك في المركز معناه افتقادهن له.

_ وما دخلي أنا؟

_ يا غالية، أنت مازلت صغيرة ولا تفهمين قانون اللعبة هنا. كلهن حصلن على الشغل بالمركز عن طريق الوساطة أو العلاقة غير الطبيعية مع المسئولين كما أن فرصتك بالعمل معهن ترعبهن حيث أنك أصغرهن سنا وتجيدين خمس لغات وهذا يخولك الحصول على مركز أعلى من مركزهن وهن اللواتي اشتغلن بالمركز منذ سنين.

_ أنا لا أريد مركزا كبيرا بقدر ما أريد أن أحصل على نقود تساعدني في متابعة الدراسة في أمريكا.

_ هن لا يعرفن هذا الشيء. وحتى إن عرفن فوجودك معهن في العمل سيفقدهن أشياء كثيرة من ضمنها تسليط الأنظار عليهن. إن موظفي المركز الإفريقي يتسابقون على النساء الجميلات هنا ولك أكبر مثل: علاقة زوجي مع فلورانس الحبشية.

_ لماذا لا توقفي تلك الحبشية عند حدها؟

_ إن الخطأ ليس خطأها ولكنه خطأ زوجي الناكر للمعروف.

_ لماذا لم تتحدثي مع زوجك في الموضوع وتنهي المشكلة؟

_ لا أستطيع أن أفعل شيئا، رضوخي لهذا الواقع المر هو بناتي لا أريدهن أن يفقدن والدهن.

رجعت المسئولة السورية من ألمانيا واستأنفت عملها بالمركز وبعد يومين استدعاني نبيل إلى مكتبه ثم توجهنا إلى مكتبها.

_ ماذا يريد صديقي العزيز هذه المرة؟

_ لي طلب صغير جدا.

_ تكرم عيونك، شو بدك؟

_ هذه الفتاة من المغرب جاءت إلى ليبيا لمتابعة الدراسة في الجامعة لكن فاتها وقت التسجيل. تحصل على شهادة الليسانس أدب إنجليزي كما أنها تجيد اللغة الفرنسية والإسبانية والعربية والبربرية لغة القبائل المغربية التي نتعامل معها ومع مشاكلها كتعاملنا مع مشاكل القبائل الإفريقية.

_ ممتاز، عندي وظيفة لها في المكتبة حاليا.

التفتت إليّ مبتسمة وقالت:

_ الدكتور نبيل لا يمكنني أن أرفض له طلبا. مرحبا بك معنا في المركز.

لم تسعني الفرحة ولم أستطع أن أتمالك نفسي. وقفت فرحة وشكرتها جزيل الشكر، ثم خرجنا من مكتبها.

التفت إلي الدكتور وضحك ضحكة تملؤها الحياة وهو يهز قبضته في الهواء وقال:

_ أهلا وسهلا بك معنا في المركز وبهذه المناسبة سنتعشى اليوم أنا وأنت في الفندق الكبير. انتظريني في بيت سوزان.

انتهى دوام نبيل في المركز ثم ذهبنا مباشرة إلى الفندق. تعوّد علينا موظفو المطعم. بقدر ما يتزايد ترددنا على الفندق، يتزايد اهتمامهم بنا والسعي من أجل راحتنا. منذ اليوم الذي تعرفت عليه كنت أخرج معه ومع سوزان وبناتها أو مع المعلمة المغربية وبناتها. هذه المرة دخلت في زحام الأفكار، خرجتُ منها قليلا أما هو فكان الزهو يملأ صدره، نظر إلي وقال:

_ هل أنت سعيدة؟

_ نعم، أنا في قمة السعادة، لا أعرف كيف سأرد لك جميلك هذا.

استجاب بابتسامة هادئة وإيماءة من رأسه قائلا: يا غالية، هذا أقل شيء يمكن أن أقدمه لك.

_ عندما أبدأ العمل وأتلقى أجرتي سأرد لك كل دينار أنفقته علي.

ابتسم وقال: هذه إهانة يا غالية نحن السودانيين أناس كرماء نحسن الضيافة ولا ننتظر المقابل.

_ لكن هذا الكرم كثير جدا. و ...

قاطعني وقال:

_ الآن يجب أن نتكلم في المهم. ستبدئين العمل في هذا البلد، يجب عليك أن تكوني حذرة جدا. الخروج لوحدك ممنوع. البنات والنساء يتعرضن يوميا للاغتصاب والحرق. إن أردت الخروج أو التنزه فلابد أن يكون معك أحد أفراد العائلة المغربية أو أنا. إن أردت شراء بعض الحاجيات التي قد تحتاجينها من ملابس فيمكنني أن أرافقك بكل فرح.

أحضر النادل العشاء وضعه على الطاولة وانصرف. هز نبيل رأسه مبتسما وأشار بيده أن آكل واستمر في النصائح والتحذير وبعد تناول العشاء اتجهنا إلى صالون الفندق لنشرب القهوة العربية. شعر بارتباكي، رفع فنجان القهوة إلى فمه يرتشفها بصوت مسموع ويتحدث عن العمل في المركز وعن نفسه وأسفاره إلى الخارج أما أنا فشردت بعيدا أنظر إلى تلك الطاولة التي كنت أجلس حولها مع سمير متذكرة يوم لجأت إليه هاربة من طلقات الضياع. نبيل يحدثني وأنا أعيش لحظة وصولي إلى الفندق واللقاء بسمير إلى تواجدي في سريره منهوكة القوى وإلى وداعه لي في بيت عبد اللطيف. نزلت دمعتان على خدي، مسحتهما بسرعة. انتبه نبيل لشرودي وقال:

_ ما بك يا غالية؟ إن كنت لا تحبين المجيء إلى هذا الفندق فلن نأتي إليه مرة ثانية. كلما جئنا إلى هنا تشردين بعيدا ويظهر من عينيك حزن العالم كله.

خرجت عن صمتي وانتزعت كلمات من شفتين فاترتين:

_ إنه يذكرني بفندق في المغرب كان أبي يأخذنا إليه في بعض المناسبات، نفس الديكور ونفس التصميم.

_ إن الفنادق العالمية لها نفس التصميم يا غالية، سواء كانت هذه الفنادق في الغرب أو في إفريقيا.

_ هل يمكننا أن نذهب الآن؟ لا أريد أن أرجع متأخرة إلى بيت المغاربة.

طوال الطريق، كان يقود السيارة ويتحدث معي عن مبدأ الإنسان في الحياة، وأن هدفه ليس مزاحا، وأن الإيمان بالوصول ليس بالأحلام والتمني وإنما بالجد والمثابرة إلى أن وصلنا إلى بيت الحاج أحمد. كنت أستمع إليه محركة رأسي مبدية الاتفاق معه وأنا فعلا أؤمن بكل كلمة يقولها إلا أنني كنت أراه وكأنه صورة طبق الأصل من أبي عندما يبدأ في تلقيننا درسا في الأخلاق.

بعد ثلاثة أيام، ذهبت لزيارة سوزان، كان يظهر عليها القلق والارتباك. وجدتها في الحديقة تسقي الأزهار تحت شمس ذلك الخريف، كاتمة أنفاس وحدتها، سألتها عن سبب عصبيتها فغمغمت بكلمات في صورة غير مستفهمة:

_ اتصل بي الدكتور نبيل وقال لي بأنه يريد أن يراك بعد دوام شغله.

كنت قلقة أفكر في الحوار الذي جرى بيني وبين سوزان لم أفهم شيئا منه إلا أنني كنت أنتظر الدكتور نبيل على أحر من الجمر. لا يمكن أن يهدأ لي بال حتى ألتقي به وأعرف ما الأمر. عادة أحب الجلوس في حديقة سوزان الجميلة بورودها المختلفة والمتعددة الألوان وبشجرة أيكها المظللة وشقشقة الطيور. هذه المرة لم أكن أر أي شيء في وسط الحديقة ولا حتى سوزان التي كانت تتحدث إلي. فقط أستمع لأفكاري التي لا تستقر على حال. رن جرس الهاتف، حملت سوزان السماعة.

_ أهلا يا دكتور نبيل ... طيب سأخبرها. وضعت السماعة وقالت:

_ إن نبيل ينتظرك أمام باب المركز.

حملت حقيبتي واتجهت إلى الباب الخارجي، وجدت نبيل ينتظرني في سيارته.

_ مساء الخير غالية هيا بنا إلى القرية السياحية.

_ ماذا سنعمل في القرية السياحية؟

_ عندما نصل إلى القرية السياحية ستعرفين السبب.

كان يقود سيارته بسرعة وسط شحوبي الذي لا ينتهي، أحسها تتمايل في اكتئاب ببطء وصوت الخوف يعوي في داخلي من جديد. بعد نصف ساعة أوقف السيارة داخل القرية السياحية. توجهنا إلى المطعم الذي اعتدنا الجلوس فيه. كان متوترا وحزينا ينظر إلي في صمت، تنهد وكلماته تمزق ملامح وجهه. لقد تراجعت المسئولة عن كلامها، اتصلت بي هذا الصباح وقالت بأنها لن تسلمك الوظيفة.

_ يعني أن كل هذا الانتظار ذهب سدى.

_ فلورانس الحبشية والمغربية رجاء وأتباعهن من السكرتيرات الموجودات عندنا في المركز هن السبب.

أمسك كلتا يديّ محاولا أن يهدئ من روعي وقال مبتسما:

_ إنها ليست نهاية العالم.

_ لكن، لماذا؟ أنا ... لم أفهم شيئا!

_ لقد افتقدن نبيل الذي كان خدوما لهن وكنت أحسبهن أكثر من زميلات عمل وخصوصا السورية مسئولة المكتبة لكن صداقتهن كانت زائفة.

_ لكن ما دخلي أنا؟

_ إنهن يعتقدن أن صداقتي لك قطعت علاقتي بهن.

أحسست بالاختناق وخيبة الأمل في تلك اللحظة لا أريد سوى أن أصرخ بصوت عال، علّ الصرخة تخفف عن قلبي ثقله، لكنني تمالكت أعصابي وخنقت تلك الصرخة كي لا تخرج، نزلت دموع من عيني، وضعت راحة يدي على وجهي كي لا يراها نبيل. أريد أن أبكي، ربما البكاء يخفف عن قلبي الذي يعتصر من الإحساس بالظلم والحقد الذي يعشش في نفوس أكثر الناس. علقت آمالا كبيرة على تلك الوظيفة التي ستكون جواز سفري للرجوع إلى أمريكا. أخرج منديلا، امسحي دموعك. إنها ليست نهاية العالم وإن الفرص أمامك كثيرة جدا. تعرفين يا غالية ظهورك في حياتي فتح عيني على أشياء كثيرة، وأظهرهن على حقيقتهن وأنت يا غالية سأستمر في مساعدتك ومساندتك حتى تصلي إلى هدفك وثقي بأنني لك أخ وصديق. لم تكن لديّ الرغبة في تلك اللحظة للذّهاب إلى بيت المغاربة ولا في الجلوس بالمقهى ولا في الحديث معه ولا حتى في الخلو مع نفسي، اسودت الدنيا في عيني وكأنه فعلا لا توجد وظيفة في كل طرابلس.

_ غالية أنت مازلت صغيرة والحياة أمامك طويلة جدا، بعد أربعة أشهر ستبدئين الدراسة في الجامعة وذلك هو الأهم.

_ لا أستطيع أن أجلس أربعة أشهر بدون فعل شيء، إن الضجر يأكلني و التفكير بس…

_ ماذا قلت؟

_ لا شيء فقط أتعجب من قدري الذي لا يستقر على حال.

ابتسم وقال: هكذا أحب أن أراك قوية الإرادة لا تعرف الهزيمة واليأس.

كان يحدثني ويواسيني، أما أنا فشردت بعيدا ولم أعد أسمع ما يقول. أرى شفتيه تتحركان وتنطبقان على بعضهما ويديه تلوحان من فترة لأخرى ورأسه يتحرك بين الحين والآخر، أحاول حلّ لغز حياتي التي كنت كلما أخوضها تسعدني في البداية ثم تحزنني في النهاية. تنبه لشرودي أمسك بيدي فشعرت بفزع وكأنني استيقظت من كابوس مخيف.

_ إلى أين سرحت بأفكارك يا غالية؟

_ تعرف! ابتداء من الغد سأبدأ في البحث عن العمل.

_ طيب. لكن حاولي أن تهدئي واشربي كأس العصير.

أمسكت كوب العصير بكلتي يديّ كي لا يقع مني، أرشفه شيئا فشيئا وأنا أرجف من الخوف من المستقبل، أما هو فكان ينظر إليّ بعينين حزينتين وعلى شفتيه ابتسامة مصطنعة.

_ ما رأيك في أن نتعشى في الفندق الكبير؟

_ ليست لي رغبة في العشاء أريد فقط أن تأخذني إلى بيت الحاج أحمد. أحتاج إلى الخلو لنفسي.

_ يمكنك أن تأخذي مفاتيح بيتي وتقضي الليلة مرتاحة بعيدة عن ضجيج أولاد الحاج أحمد. سأقضي الليلة عند صديقي الدكتور محمود سأعرفك عليه غدا، إنه مرح يحب المزاح ويحب الشعر مثلك رغم أنه أستاذ في الفيزياء.

_ لا داعي لتزعج نفسك سأذهب إلى بيت الحاج فأنا تعودت على ضجيج أطفاله.

انطلقنا إلى بيت الحاج، كنا طوال الطريق صامتين إلى أن وصلنا. كان الباب مفتوحا، يعج بأطفال كثيرين، أبناء الحاج وخمسة آخرون والأصوات مختلطة وعالية تأتي من غرفة الصالون. وقفت أمام الباب خجلة. نظرت إلي زينة وهي تبتسم، كانت فرحتها كبيرة.

_ ادخلي يا غالية وسلمي على أختي زهرة وزوجها وأبناء عمي عماد ويوسف وأحمد لقد وصلوا اليوم من المغرب، سيقيمون عندنا إلى أن يجدوا عملا هنا في طرابلس.

سلمت عليهم وجلست بجانب زينة التي كانت تصب الشاي وفي نفس الوقت تنهال على أختها بأسئلة لا حدود لها عن أحوال كل فرد من أفراد عائلتها في المغرب. أما الحاج والشبان فكان الحوار بينهم عن أحوال المغرب السياسية وعن فرق كرة القدم الجديدة وأنا كنت أحدث نفسي متسائلة أين سأنام الليلة. في المنزل خمس غرف. الصالون الذي أنام فيه وغرفة الحاج وزينة وغرفة ينام فيها الأولاد والغرفة التي يسكن فيها السيد زكي وزوجته والغرفة التي يعمل فيها الحاج أحمد وهي مليئة بالأثواب وآلة الخياطة. مازلت أسبح في موج أفكاري وأطفو على تشردي حتى قطعت حبل أفكاري زهرة أخت زينة:

_ هل أنت سودانية؟

_ إنني سودانية مغربية وموريتانية.

التفتت إلى أختها زينة مستغربة، منتظرة منها أن تشرح لها غموض جوابي. قالت لها زينة وهي تضحك:

_ إن أب غالية موريتاني وأمها من السودان لكن والديها يقطنان في المغرب وغالية ولدت في المغرب.

قالت زهرة مجاملة:

غالية مغربية وبنت بلدنا.

اقتربت من زينة وأخبرتها بأنني سأقضي الليلة عند صديقتي سوزان. فأجابت بسرعة ومن غير تردد:

_ سيكون أفضل.

لامارا 14-11-13 09:53 PM

الفصل الثامن



دمعة ضائعة



الشمس أخذت معها دفء النهار، والبرد يزحف ببطء مع سواد الليل. المركز الإفريقي يبعد عن بيت الحاج حوالي أربعين دقيقة مشيا على الأقدام . أطلقت رجليّ للريح من غير توقف، ألهث ومخاوفي جثت تتساقط من سعفات عرق بارد. لم تمر ربع ساعة حتى كنت أمام باب المركز. فتح لي الحارس الباب فدخلت مهرولة إلى أن وصلت أمام باب فيلا سوزان، أناشد روحي أن تصمد وسط المفاجآت. لا ... لا يمكن أن أقضي عندها الليلة وزوجها في البيت. سبق أن حذرني نبيل من ذلك. أين سأذهب الآن؟ أين سأقضي الليلة؟ لماذا لم أوافق على عرض نبيل لقضاء الليلة في بيته طالما كان سيقضي الليلة عند صديقه؟ وقفت أمام فيلا نبيل أبكي تشردي وأناشد روحي أن تصمد وسط هواجسي الهوجاء التي تتوعدني بالمحذور. مرت دقائق كأنها ساعات ومازلت لا أعرف ماذا أفعل. فكرت في الذهاب إلى منزل عبد اللطيف لكن لطيفة لا تطيقني. كما فكرت أن أذهب عند زوجة خالها، لكن جلال يسكن معهم، وهو ما سيزيد الوضع سوءا. لطيفة لا تحب أن أكون في المكان الذي فيه جلال. خيّم الظلام وبدأ البرد يشتد، لم أعد أتحمل الوقوف وسط ذلك الليل الأعمى. يجب أن أضغط على زر جرس الباب. ليس لي مكان أستقر فيه وليس لي صديق أثق فيه سوى نبيل. سرى ألم في معدتي وعرق بارد يلسع جسمي المرتجف تحت رجفة تلك اللحظة المجنونة تهتز وتدور بي وأنا كالأعشى أبحث عن جرس الباب و ما إن وضعت إصبعي على الجرس حتى وقعت على الأرض مغمى عليّ . فتحت عيني فوجدت رجلا غريبا لم أره من قبل جالسا على حافة السرير، ونبيل واقفا بجانبه. عيوني فارغة ألتفت في ذعر من حولي، تقدم صوبي نبيل وابتسامة على وجهه كالطفل المبتهج.

_ الحمد لله، أنت بخير يا غالية.

نظرت إلى الرجل الذي كان يجلس على حافة السرير وعلى ركبتيه حقيبة صغيرة وحول عنقه جهاز فحص دقات القلب ابتسم إليّ وقال.

_ لابد أن تشرفينا بالمستشفى غدا لإجراء فحص عام لك.

قلت بتلعثم:

_ إنه فقط ألم طفيف ينتابني دائما.

_ لا بد أن تأتي غدا لكي نعرف سبب ذلك الألم وذلك الإغماء. لقد أعطيتك حقنة مهدئة سترخي أعصابك وتنامين جيدا.

في العاشرة صباحا، استيقظت على رنة جرس الباب، إنه نبيل، جاء من مكتبه ليطمئن عليّ .

_ صباح الخير أتمنى أن تكوني قد نمت جيدا.

_ شكرا، لقد نمت جيدا وبدون أحلام مزعجة.

_ هيئي نفسك، سنذهب إلى المستشفى لإجراء فحص عام لك كما قال الدكتور البارحة.... هل أنت جائعة؟.

_ ليست لي رغبة في الأكل.

_ يجب ألا تأكلي شيئا إلا بعد إجراء التحاليل، بعدها نفطر في القرية السياحية. والآن سأذهب إلى المكتب. أريد أن تكوني جاهزة بعد نصف ساعة. إن الحمام بجانب المطبخ إن أردت أن تستحمي.

غادر إلى مكتبه، وتركني تائهة أتسلق مصيري، أضيع وأجلو بين أفكاري ألما وأستر دموعي لكي لا تنهمر. إلى أين سأذهب بعد رجوعي من المستشفى؟ لم يعد لي مكان في بيت الحاج أحمد ولا في بيت ابنته رشيدة. كم كنت أتمنى أن أمكث عند السيد زكي وزوجته، لكن قصرهم مجرّد غرفة نوم وأكل وحمام. امتلأ عقلي بأفكار تهزم كلماتي. أسترق النظر إلى الغرفة، أراها فارغة، أستجمع هدوئي وأعدّل من حرجي. رنّ جرس الباب مرة ثانية. فتح نبيل الباب.

_ هل أنت جاهزة؟ سآخذك إلى بيت الحاج أحمد أولا لتغيري ملابسك. هيا بسرعة كي لا نتأخر عن موعد المستشفى.

انطلقنا إلى بيت المغاربة، كان الباب مفتوحاً كعادته. أطفال يلعبون أمام الباب وآخرون داخل البيت الذي كانت أجواؤه تعج بأصوات مختلطة ومرتفعة. زينة وأختها زهرة في المطبخ يهيئان الفطور. أقبلت زينة على عجل وهي تكاد تتعثر:

_ أهلا بك يا غالية جئت في وقتك إن أختي زهرة هيأت أحلى رغيف لا بد أن تفطري معنا.

_ لا شكرا لقد جئت لتغيير ملابسي فقط.

قالت زهرة:

_ لابد أن تذوقي الرغيف فهو من صنع يدي.

_ لا أستطيع أن آكل شيئا لأنني سأذهب لإجراء تحاليل في المستشفى.

قالت زينة مظهرة القلق:

_ سلامتك يا غالية ماذا بك؟

_ فقط ألم طفيف بمعدتي سأترككما الآن، لأن نبيل ينتظرني في السيارة.

قالت زينة: إن حقيبتك في غرفة نومي. يمكنك أن تغيّري ملابسك هناك.

ذهبت بسرعة إلى الغرفة. أقفلت الباب، غيرت ملابسي بسرعة ووضعت المتسخة في كيس داخل الحقيبة. ودعتهما وهممت بالخروج، لحقت بي زينة أمام الباب وقالت:

_ لا أعرف ماذا سأقول لك يا غالية إني خجلة منك كثيرا لكن وكما رأيت بعينيك أصبح المنزل مليئا بعائلتي و …

_ إن نبيل وسوزان سيساعداني على إيجاد مسكن أسكن فيه.

_ هل ستسكنين لوحدك؟ هذا عيب كبير.

_ سأسكن في الحي الجامعي.

_ جميل، إذا لم تعد هناك أية مشكلة.

تركت زينة أمام الباب وعدت مرة ثانية إلى الغرفة، أحضرت حقيبتي ثم ودعتها. خرج نبيل من سيارته وأدخل الحقيبة في صندوق السيارة ثم انطلق بسرعة إلى المستشفى. طيلة الطريق لم يتفوه بكلمة واحدة إلى أن وصلنا. أسرع إلى مكتب الاستعلامات وخاطب الموظفة باللهجة الليبية:

_ عندي موعد مستعجل مع الدكتور الصباح.

_ إن الدكتور الصباح ينتظرك بعيادته.

أكره المستشفى و أكره رائحته وأكره الأطباء الذين عادة ما يلقونني بابتسامة كئيبة. وصلنا إلى العيادة، كان الباب مفتوحا. وقف الدكتور الصَّباح من مكانه مرحبا بنبيل:

_ تفضل يا دكتور نبيل... تفضلوا بالجلوس .

اتجه إلى مكتبه ثم ضغط على زر، فما هي إلا دقيقة واحدة حتى حضرت ممرضة ناولها ورقة مكتوب عليها أنواع الفحص.

تركت نبيل والطبيب يتحدثان ودخلت مع الممرضة إلى غرفة داخل المكتب لإجراء التحليلات. بعدها رجعت إلى العيادة. التفت الدكتور الصباح إليّ مبتسما وقال:

_ منذ متى وأنت تعانين من آلام المعدة؟

_ منذ ست سنوات.

_ مازلت صغيرة على آلام المعدة. بعد أسبوع ستخرج نتيجة التحاليل بعدها نحدد موعد الزيارة.

غادرنا المستشفى، طيلة الطريق كان نبيل يتحدث عن صداقته الحميمة مع الدكتور الصباح وزوجته وعن خبرته في مهنته إلى أن وصلنا إلى بيته. تركني جالسة في الصالون وذهب إلى المطبخ. أحضر صينية بها فطائر وشاي ثم وضعها على المائدة. جلس بالقرب مني، أمسك بفطيرة ومدها إليّ. أمسكتها وأنا أحاول أكلها في خجل لكنها كانت تعلق في حلقي. وضعتها على عجل والتفت بارتباك إلى كل ركن في ذلك الصالون. هل أنا في مغامرة جديدة، أرى كل شيء موحشا من حولي، حتى نبيل الذي كان ينظر إليّ بابتسامة دافئة.الصالون على سعته ضيق، الجدران معتمة، هل هو كابوس في اليقظة؟

قال نبيل بعد لحظة صمت: إلى أين ستذهبين؟

نفثّ من فمي زفيرا حادا وقلت متمتمة: سأذهب إلى … إلى ... إلى بيت الحاج أحمد.

_ كيف ستذهبين إلى بيت الحاج وأنت أخذت حقائبك معك؟

قلت بصوت يملأه السخط: أريد أن أذهب إلى الجحيم.

ضعت في حيرتي القاسية وتضاريسها المليئة بالمجهول، انفجرت أبكي، اقترب مني حتى أصبح وجهه قريبا من وجهي، أسكتي يا غالية لقد قصدت ألا أسألك منذ خروجك من بيت المغاربة بحقائبك. عرفت أن شيئا ما حصل بينك وبينهم لذلك فضلت أن لا أسألك حتى تروي لي ما جرى بنفسك.

_ لم يحدث لي شيء ببيت الحاج أحمد، بالعكس إنهم أناس كرماء وطيبون، لكن فقط عائلتهم قدمت من المغرب وليس هناك مكان أنام فيه. إن لدي من النقود ما يكفيني للنزول في أفخم فنادق طرابلس أو استئجار شقة مفروشة. لكن اللعنة على التقاليد التي تضع المرأة في موضع الضعيف الذي لا حول له ولا قوة.

_ غالية لا يصح للفتاة أن تسكن لوحدها فهذا ينافي تقاليدنا وعاداتنا والأسوأ من هذا كله قد تتعرض للاغتصاب والقتل.

_ إن مجتمعنا هو السبب في كل شيء يحصل للمرأة لماذا لا تتركها التقاليد تعيش حرة طليقة مثلما يعيش الرجل؟

_ يا غالية الرجل رجل والمرأة امرأة فلا أنت ولا أنا يمكنه أن يغير ذلك.

_ أنت يا دكتور الذي تقول هذا الكلام ! إن كان المثقفون ينظرون إلى المرأة بهذا الشكل فكيف نظرة الناس العاديين؟

ـ إنك تعيشين في عالم المثل وهذا العالم لا وجود له في بلادنا.

ـ إن الإسلام أعطانا منهجا صحيحا وسويا نحن نسعى وراء تقاليد وعادات عمياء ترجعنا خطوات إلى الوراء.

ـ ماذا تقصدين يا ثائرة؟

ـ تصرفاتنا لا تختلف عن تصرف الجاهليين قبل ظهور الإسلام.

كنت أتكلم وألوّح بيدي كمن يريد أن يتشاجر أو ينقض على خصمه، ونبيل ينظر إلي متتبعا حركات يدي التي ألوح بهما يمينا وشمالا وكأنه يشاهد لعبة كرة التنس، تارة يضحك وتارة أخرى يبتسم وعندما انتهيت من كلامي صفق وقال:

_ منطقك مقنع أيتها الثائرة لكنه مستحيل.

في داخلي طاقة خارقة، كانت ومازالت مكتومة منذ سنوات، شعرت برغبة شديدة لتفجيرها. طاقة أطلقت سراح قدمي وفكت أسر روحي الحبيسة. كل صباح أذهب إلى مركز المدينة أبحث عن وظيفة. ظل الأمر على هذا المنوال أسبوعا كاملا، لكن لم أفقد الأمل بقدر ما شعرت برغبة قوية في الانطلاق إلى الحرية والاستقرار. ذات يوم خرجت باكرا أمشي وأمشي. مشيت طويلا دون أن أشعر بالوقت. نسيم هواء الصباح الندي يداعب وجهي ويحرك خصلات شعري فتزيده إحساسا بالقوة والإصرار على مواصلة البحث. دخلت إلى بنايات ضخمة بها شركات عديدة. توجهت إلى المصعد ووضعت إصبعي على الزر رقم 16 الذي يؤدي إلى الطابق الأخير بالبناية. توجهت إلى مكتب الاستعلامات. قلت وأنا أبعد عنّي آثار القلق والارتباك: صباح الخير هل يمكنني أن أقابل مسئول الشركة. رفعت السكرتيرة رأسها ونظرت إلي وقالت بلهجة متعجرفة:

_ إن المسئول ليس موجودا هل لك موعد سابق؟

ـ لا.. جئت أبحث عن وظيفة في شركتكم.

نهضت السكرتيرة بقامة تنحني قليلا ويداها على مكتبها وهي تلوك العلكة ونظراتها تتدحرج على جسمي وقالت:

ـ يمكنك أن ترجعي بعد شهر لأن المسئول خارج الوطن.

لم تكمل السكرتيرة كلامها حتى قدم شاب وسيم، أنيق المظهر، اقترب مني وابتسم قائلا: شو تبي الأخت؟

عدّلت السكرتيرة من وقفتها وقالت بصوت مرتبك: إنها تريد لقاء المسئول وقلت لها بأنه غائب خارج البلاد.

التفت إليّ متجاهلا السكرتيرة، سحب نفسا عميقا من سيجارته وقال: ما اسم الأخت؟

_ غالية سلطان.

ـ تفضلي معي إلى المكتب.

مشيت معه في ممر طويل، أرضه مفروشة بسجادة طويلة حمراء والمكاتب مصطفة شمالا ويمينا وفي أقصى الممر كان مكتب ذلك الشاب الوسيم. فتح باب المكتب وقال: تفضلي يا آنسة غالية.

توجه إلى مكتبه وجلس على الكرسي ثم أشار بيده قائلا: تفضلي ... أنا نائب مدير الشركة. ما هي مؤهلاتك؟

ـ بكالوريا مزدوجة فرنسي عربي وشهادة الليسانس أدب إنجليزي. وأتكلم أيضا اللغة الأسبانية.

ـ جميل جدا. هل تحسنين استعمال الآلة الكاتبة؟

ـ نعم، لقد حصلت على شهادة الآلة الكاتبة هنا في طرابلس.

ابتسم وقال: يمكنك أن تباشري العمل ابتداء من الغد.

ـ ما نوعية العمل الذي سأقوم به؟

ـ سيكون عملك ترجمة قوائم المستوردات.

وقفت من مكاني، شكرته ثم غادرت الشركة مسرعة إلى المركز الإفريقي. وجدت سوزان تسقي زهور حديقتها .

ـ أهلا يا غالية أراك فرحة هل وجدت وظيفة؟

ـ نعم، وجدتها ومن الغد إن شاء الله سأباشر العمل أريد أن أبشر نبيل بهذا الخبر السار.

تركت سوزان ووجهها يشع فرحا وإشراقا وهي تضحك وتصرخ ألف مبروك. كان نبيل مشغولا بحديث عبر الهاتف، جلست منتظرة، طال انتظاري، كل دقيقة تمر وكأنها ساعة، وأخيرا انتهت المكالمة. وقفت وفرحتي غيمة من نور: لقد حصلت على وظيفة بمرتب مغر جدا. نظر إليّ من غير أن يبدي اهتماما وقال بعصبية: وماذا عن الدراسة ؟ أليس لأجل متابعة الدراسة قدمت إلى ليبيا؟

ـ سأحتفظ بالوظيفة وألتحق بالجامعة.

ـ هل أنت ... أو أنك تتغابين؟

تغيرت ملامح وجهي وقلت بصوت الواثق: أنا لست غبية وأعرف ماذا أفعل.

شحب وجهه قليلا وشعر بانقباض، نهض من مكانه متجها بعصبية صوب النافدة. لحقت به. ساد صمت رهيب داخل المكتب، نظر في وجهي يختبر ردة فعلي وقال: أنا لا أشجعك على العمل ستجدين مشاكل أنت في غنى عنها.

احتججت بسرعة: الحياة ليست غابة.

_ إنني أصف الواقع كما أراه. إن أرباب الشركات يستغلون الموظفات ويرغمونهن على علاقات غير شرعية. قد يستهدفك أحد مسئولي الشركة لتكوني طعما لرغباته وغرائزه.

قلت وأنا أداوي خيبة أمل: هل لهذه الدرجة يوجد أناس بغير ضمير؟

هز رأسه وأطرق قليلا وقال: يا غالية أنت لا تعرفين الحياة جيدا ما زلت صغيرة وبريئة. رجاء لا تعرضي نفسك لمخاطر قد تهدم كل شيء جميل في حياتك.

قلت بامتعاض: هل كل الموظفات اللواتي يعملن في الشركات لهن علاقات غير شرعية مع أرباب العمل؟

اتجه إلى أريكته، جلس ثم ابتسم وقال: أحيانا تضحكينني بسذاجتك. قطب على جبينه، أنت لا تعرفين ماذا يجري في الحياة العملية. هنا في هذا البلد تحصل أشياء لا يمكن للعقل أن يصدقها.

تبددت سحابة الخوف عن وجهي. وقفت بهدوء وخيط واهن من الصمت يفصل بيننا ما لبث أن انقطع حين قلت بصوت مرتجف: ماذا تريدني أن أعمل الآن؟

ـ الأمر لا يتطلب استشارة، ارفضي الوظيفة.

ـ بعد كل هذا العناء أرفض الفرصة التي جاءت إلي. ما دامت الحياة العملية في نظرك صعبة بالنسبة للمرأة، فلماذا شجعتني للعمل معكم في المركز؟

قال بصوت عال وثابت: لأنك ستكونين تحت مراقبتي ولن يستطيع أحد أن يمسك بسوء.

همست بتضرع: لكنني لا أستطيع أن أرفض هذه الفرصة.

لم يعد صبره يحسن الإنصات، نهض وسط غضب فسيح غطى فضاء المكتب احمرارا واصفرارا.

_ هل تحتاجين نقودا؟ سأعطيك شهريا نفس المبلغ الذي ستحصلين عليه من تلك الوظيفة.

_ أنت لست وليّ أمري حتى أقبل منك النقود.

قطب جبينه وقال: لا بد أن أخبر والدك بشأن الوظيفة فهو وليّ أمرك.

تهدجت دمعتي تحت صيحتي البكماء، تمتمت برعب متوسلة:

لا، من فضلك لا تخبره أعطني مهلة إن واجهت مشاكل في الشركة سأخبرك فورا.

ـ متأسف لا أستطيع. وعدت والدك بأن أتحمل مسؤوليتك طيلة إقامتك في ليبيا.

ـ أتوسل إليك، لن يحصل لي مكروه أرجوك كن صديقا لي لا عائقا ومُحْبِطاً.

انفجرت بالبكاء اقترب مني بخطى من سكون، أجلسني على الكرسي، ثم أخرج منديلا من جيبه:

ـ تفضلي، وامسحي دموعك وغدا سأوصلك إلى مكان عملك.

كان يحرك رأسه مستسلما وابتسامة على وجهه، قبلته على خده وغادرت مكتبه أما هو فقد وضع يده على خده وابتسم متتبعا خطواتي حتى اختفيت عن عينيه. كانت لي رغبة قوية في شرب القهوة في حديقة سوزان . وجدتها جالسة تتصفح جريدة وتستمع إلى موسيقى الزولو.

ـ مساء الخير سوزان أريد أن أشرب فنجان قهوة في حديقتك الجميلة.

ـ أهلا وسهلا، جئت في وقتك، كنت أفكر في تحضير القهوة لكنني مترددة لأنني لا أريد شربها وحدي.

جلست على الكرسي تحت المظلة الشمسية ورفعت عيني إلى سقفها، أتخيل كيف سيكون يومي الأول في الوظيفة. أغمضت عيني وابتسمت:" غدا سأبدأ وظيفتي وأباشر عملي. قدمت سوزان وفي يدها صينية عليها فنجانان من القهوة. خبريني، من المؤكد، فرح نبيل عندما سمع خبر قبولك بالوظيفة.

ـ لا والله لم يسعد بالخبر. يقول بأنني قد أتعرض لمكروه.

ـ لكن يبدو أنه وافق فالفرحة أراها تشع من عينيك.

ـ نعم لقد وافق بعد عناء ورجاء.

ارتشفت القهوة وسط تلك الألوان من الورود، أوراقها ترقص على نغم العصافير وتطرب على نشيد الحياة. نظرت إلى سوزان مستغربة:

_ ماذا فعلت بالقهوة؟ إن طعمها طيب.

ضحكت سوزان وقالت: إنها نفس القهوة التي تشربينها عندي كل يوم إلا أنها اليوم ممزوجة بتوابل وظيفة الغد.

تركت سوزان في حديقتها تضحك كالنسيم العليل، كالوردة متألقة في وحدة الغروب. استيقظت باكرا، وجدت نبيل يطالع جريدة في المطبخ، أفطرنا سويا ثم أخذني في سيارته إلى الشركة. طوال الطريق كان ينصحني ويحذرني إلى أن توقف أمام باب البناية الضخمة، التفت إلي وقال: سأرجع إليك عند انتهاء الدوام. دخلت إلى غرفة الاستعلامات بمجرد ما رأتني السكرتيرة حتى وقفت من مكانها وقالت مبتسمة:

_ صباح الخير آنسة غالية، تفضلي بالجلوس سأخبر حالا نائب المدير بقدومك.

اتصلت هاتفيا، وما هي إلا دقائق حتى قدم نائب المدير. أهلا بالآنسة غالية، تفضلي معي.

رافقته إلى مكتبه، أشار إلى منضدة عليها الآلة الكاتبة، وقال: هنا سيكون مكتبك. أخرج أوراقا كانت بدرج مكتبه مدها إلي. هذه مستندات أريد ترجمتها إلى اللغة الفرنسية وستكون اختبارا لك. قال كلامه وغادر المكتب. أمسكت الأوراق أتصفحها وأنا أمشي بغنج، وضعت الأوراق على المنضدة أتأمل ذلك المكتب الكبير الذي تتسرب أشعة الشمس إليه من نوافذه الكبيرة التي تطل على البحر. التفتّ إلى مكتب نائب المدير، حولت نظري إلى المنضدة التي ستكون مكتبي. سرت قشعريرة في جسدي. أهنا سيكون مكتبي مقابل مكتب نائب المدير؟ تذكرت المستندات اتجهت مسرعة إلى منضدتي وشرعت في ترجمتها وكتابتها مباشرة على الآلة الكاتبة. صمت يلف المكتب في ارتباك وأنا أداري نفسي تحت رتابة من الانتظار الممتد كجسد سراب. انتهى دوام العمل، وضعت تلك الأوراق المترجمة على مكتب نائب المدير وغادرت الشركة. كان نبيل ينتظرني في سيارته. ركنت إلى نفسي فوجدتها تطير فرحا إلى النافذة، برحمة الله التي وسعت كل شيء، أنظر إلى الأشجار على جنبي الشارع ترقص مهنئة توظيفي، والغيم فوقي ينثر ألوانا قزحية داخل السيارة الثملة بالفرح. التفت إلي وقال بلهفة: خبريني كيف كان يومك بالعمل؟

ـ لقد كان يوما عاديا.

ـ كيف عاديا ألم تقومي بفعل شيء على الإطلاق؟

ـ بلى ترجمت بعض المستندات التي أعطاني إياها نائب المدير بعدها لم يكن هناك أي شيء أقوم به.

ـ هل لك مكتب خاص بك؟

ـ لا.

ـ كيف؟ هل تشاركين المكتب مع الموظفات؟

ـ لا. إن مكتبي مع نائب المدير.

ـ ماذا تقولين؟

ـ ما الغريب في ذلك؟

ـ كيف كان تصرفه معك؟

ـ أعطاني أوراقا لترجمتها بعدها لم أره. لماذا أنت عصبي هكذا؟

ـ غالية، إني خائف عليك.

ـ من ماذا؟

ـ من كل شيء إنك تغامرين.

ـ هل العمل مغامرة في نظرك؟ لماذا ندرس ونتعلم، زمن الحريم قد انتهى يا دكتور.

ـ الحرية حكم شرعي لكنه في نفس الوقت إثبات واقع مدى قدرة الفرد على استخدام عقله في حياته الاجتماعية والعملية والعلمية وأنت لا تستخدمين عقلك أبدا.

ـ شكرا على مجاملتك الحلوة.

ـ أنا لا أجاملك ! إن المؤشرات على مفهوم الحرية في بلداننا ضعيفة جدا بحكم التشبث بالتقاليد والعادات.

ـ إنني أكره هذه العادات والتقاليد، إنها تحجم طاقة الفرد في مجتمعه وخصوصا المرأة.

ـ ليست الحرية أن يلقي الفرد بنفسه في مغامرات قد تؤدي بحياته إلى التهلكة أو تفسدها إلى الأبد.

ـ ماذا تعني يا دكتور؟ أنا لم أفهم شيئا مما تقول هل عملي بهذه الشركة معناه أنني ألقيت بنفسي إلى المغامرة والتهلكة، أنا لا أصدق ما أسمعه منك وكأنني أتكلم مع إنسان عادي وليس مثقفا.

_ أنت ما زلت صغيرة وخبرتك في الحياة محدودة ولا تعرفين الحياة العملية إنها عبارة عن غابة.

ـ لذلك أريد أن أخوض المعركة وأكتسب الخبرة من غير أن يكبت أحد حريتي.

ـ الحرية، الحرية، عن أي حرية تتكلمين؟

لم أعد أتحمل كلامه الذي كان ينزل على رأسي كالمطرقة ولم تعد لي رغبة في الاسترسال معه في الكلام. لزمت الصمت وأغمضت عيني متجاهلة إياه. التفت إلي وقال بغيظ: أنت دائما هكذا إن لم يعجبك الكلام تغمضين عينيك. وصلنا إلى البيت وأكلنا وجبة العشاء من غير أن يكلم أحد منا الآخر.

رجع المدير من إجازته كما كثر العمل بالنسبة لي فلم أعد أستطيع ترجمة الوثائق في وقتها. أحيانا آخذ الوثائق معي لترجمتها وإنجازها في البيت. كنت لا أرى نبيل إلا حول مائدة الفطور أو العشاء أو عندما يوصلني أو يأخذني من العمل. في اللحظات التي أجلس معه حول المائدة ينهال عليّ بأسئلته عن الوظيفة والموظفين وعن المدير، تلك الأسئلة التي حفظتها عن ظهر قلب وأصبحت بالنسبة لي روتينية. أجيبه بطريقة لا تختلف عن روتينية أسئلته. غيرته عليّ تشتد يوما بعد يوم وتتحوّل أحيانا إلى عاصفة تطير صوابي. يغار حتى من الذين ينظرون إلي وهم في سياراتهم عابرون أ وفي حفلة أو سهرة، نكون أول من يغادر المكان وكأنني أختلف عن باقي نساء العالم في الجمال والبهاء. لم يكن يشغل بالي إلا العودة إلى أمريكا لإتمام دراستي وزيارة تلك العائلة التي كنت أسكن عندها. عدت إلى ذكرى أيامي معهم، زوجان كروح واحدة لا يلوثها الكذب ولا الخيانة. روحان التحمتا للنضال في الحياة داخل البيت وخارجه لأجل ابنتيهما إيميلي وسارة. ذهبت معهم مرات إلى الكنيسة، في خشوع أسمع تراتيلهم مبدية سعادتي وسروري لمرافقتهم، وكانوا هم أيضا سعداء لتعاملي الإنساني معهم. غالبا ما يستهويهم النقاش في عقيدتي، يناقشونها وهم يجهلون عنها كل شيء ماعدا شيء واحد يعرفونه خطأ بسبب الإعلام في بلادهم الذي ينعت الإسلام بالتخلف، وكنت أشرح لهم بإخلاص لأصحح لهم تلك المعلومة الخاطئة. الزوجة كيثي سريعة التفهم، لبقة النقاش، دبلوماسية الإجابة، لكن زوجها براين كان متعصبا لدينه جاهلا للإسلام، خائفا من التقرب إلى معرفة الدين الإسلامي على حقيقته. سرحت بفكري متذكرة عيد ميلاد كيثي المليء بالموسيقى والابتسامات المنثورة في حديقة البيت المتألقة كصفاء الربيع. تحوم تلك الابتسامات حول مائدة طويلة محاطة بالورود المقلمة بعناية. كعكة الميلاد في زيها الأبيض الأنيق تهنئ كيثي بذكرى طفولتها وإشراق حاضرها متمنية لها سنوات طويلة من السعادة. رفع والد كيتي وهو كبير العائلة كأسا من النبيذ وتبعه الحاضرين وقال: "نشرب نخب قدوم غالية عندنا ونتمنى لها إقامة سعيدة معنا." وأنا أرفع كوب عصير البرتقال على طريقتهم وعندما انتهى من كلامه، وقفت شاكرة أْخرِج من إنجليزيتي حروف سعادتي بينهم وحسن ضيافتهم لي. دخل نبيل إلى المطبخ فأيقظني من هذيان ذاكرتي وهو يرفع الكوب إلى فمه ويرتشف العصير بصوت مسموع ويقول بلهجة وقورة: ألم تنامي بعد؟ التفت إليه وامتلأ وجهي ابتسامة عذبة صافية. نهضت من مكاني وواصلت السير إلى غرفتي بعدما تمنيت له ليلة سعيدة. وفي الصباح الباكر تناولت وجبة الفطور ثم خرجت من باب المطبخ إلى الحديقة. نسيم الفجر البارد يداعب الزهور وأوراق الأشجار بنعومة ويغسلها من هذيانها. مازال سكان أهل المركز الإفريقي نياما ما عدا الحارس الموريتاني الذي كان جالسا على كرسيه منهمكا في صنع الشاي الذي لا يتوقف عن شربه طيلة النهار. سمعت صوت أقدام نبيل في المطبخ، صباح الخير يا غالية.

ـ فطورك جاهز على المائدة.

ـ هذا معناه أنني سأفطر وحدي. هيا تعالي اجلسي معي حتى أفطر.

كان يفطر ويتصفح كعادته جريدة الصباح بسرعة.

ـ ما رأيك يا غالية أن نتعشى الليلة في الفندق الكبير؟

ـ ليس عندي مانع.

ـ إذا عليك أن تتواجدي عند موقف السيارات في الثالثة وعشر دقائق بالضبط.

أوصلني عند باب البناية، ثم انطلق إلى عمله. دخلت إلى المكتب ففوجئت بوجود نائب المدير جالسا خلف مكتبه عن غير عادته.

ـ صباح الخير غالية. هل المستندات التي أعطيتك البارحة جاهزة؟

ـ نعم إنها جاهزة.

أخرجتها من حقيبتي وسلمتها إليه.

ـ هل تأخذين أوراق الشركة إلى بيتك؟

نفضت ثوبي ورفعت خصلة من شعري متدلية على جبيني وألقيت بها إلى الوراء في ارتباك:

ـ نعم، لدي الآلة الكاتبة في البيت والوقت الكافي لإنجازها على أحسن ما يكون.

ابتسم وأخذ الأوراق مني يتفحصها ورقة تلو الأخرى. رائع إنك تثبتين جدارتك يوما بعد يوم. فتح درج المكتب وأخرج منه وثائق أخرى. هذه وثائق أتمنى أن تكون جاهزة اليوم. استلمتها منه. طوال الوقت كان يتصفح جريدة على غير عادته. شرعت في ترجمة الوثيقة الأولى وبدأت في الثانية من غير أن أرفع عيني نحوه. أحسست بانزعاج، رفعت عيني فرأيته ينظر إلي، خفضت بصري هاربة وسط ترجمة تلك الأوراق. أحسه كتمثال لا حراك فيه. لم ألتفت هذه المرة إليه وعندما تجاهلته مبدية انشغالي سمعته ينهض من مكانه، تنفست الصعداء، لكنه توجه نحو منضدتي ثم وقف أمامي وأخرج علبة صغيرة من جيبه. هذه هدية صغيرة ومتواضعة كتعبير على جهودك في الشركة.

_ أنا لم أقم بشيء أستحق عليه هدية.

ـ من فضلك لا ترفضي الهدية فهي تعبير مني لإخلاصك تجاه شركتنا. أنت لا تعرفين ما قدمته لنا.

اقترب من الكرسي الذي أجلس عليه وقال: على الأقل افتحي العلبة وانظري ما بداخلها.

ـ كيف أفتح العلبة وأنا أرفض مسبقا قبولها.

ـ لا تريدين فتحها ! سأفتحها أنا.

فتح العلبة وأخرج الخاتم قائلا: انظري، لا تخجلي فهو لك.

نظرت إرضاء لرغبته فرأيت خاتما من الذهب الأبيض مرصعا بالماس.

- أعفني من فضلك صعب عليّ قبوله.

تجاهل كلامي وقال: ما رأيك؟ إنه جميل جدا. أليس كذلك؟

ـ بلى، لكن يا سيدي وكما ترى فأنا لا أتزين بالحلي. لا أرتدي إلا ساعة اليد.

أعاد الخاتم إلى العلبة وقال: حسنا سأرجع بعد ساعة.

تركني واقفة في مكاني والخيبة تقتلني، إن رفضت هديته معناه سأخسر وظيفتي التي أسعدتني كل السعادة وإن قبلت هديته قد يطلب مني أشياء لا أستطيع تنفيذها. مازلت أتساءل مستغربة ذلك التصرف حتى دخل مرة ثانية إلى المكتب وقال:

_ هذه المرة أنا متأكد أنك ستقبلين هذه الهدية.

أخرج علبة من جيبه وكانت أكبر حجما من الأولى فتحها وأخرج منها ساعة ذهبية مرصعة بأحجار كريمة وقال:

_ لا تقولي إنها لم تعجبك.

_ بلى لقد أعجبتني.

_ ما رأيك أن نتعشى الليلة سويا؟

لبس صوتي خفوت متخاذل: الليلة! لا يمكن ... ماذا عن الغد؟

شعرت بأنني تسرعت وارتكبت خطأ، لم أصدق أنني نطقت بتلك الكلمات وكأن ذلك لم يصدر عني وأن شخصا ما آخر في داخلي هو الذي تكلم. اقترب كثيرا مني حتى التصق جسمه بجسمي وأمسك بمعصمي برفق وقال:

ـ أريدك أن تلبسي هذه الساعة فهي جميلة جدا حين تطوق معصمك.

ابتعدت منه خجلة، مغتاظة وقلت: سألبسها غدا مع ثياب تليق بها عندما سنتقابل.

أمسكت العلبة بيدين مرتجفتين وقلبي يخفق وكأنني سأفارق جسدي، وضعتها في حقيبتي ثم جلست بمكتبي مبتسمة علامة للرضا.

ـ هكذا أريدك مرنة لبقة لا ترفضين الهدايا.

قال كلامه وغادر المكتب. تسمرت في مكاني جاحظة العينين وفمي مفتوح وكأن يدا تضغط على رقبتي.

الهدايا! ماذا يقصد بهذه الكلمة؟ هل ستعقب هذه الساعة هدايا أخرى؟ شردت برهة ثم حاولت أن أخرج من الدائرة المغلقة. التفت من حولي وكأنني بذلك أريد أن أمحو تلك الخيبة التي أسرتني ... كل شيء في المكتب ساكن موحش، جسمي يهتز لحلم أبيض حلمته بقوة يتحول إلى كابوس ولا أعرف ما الذي فعلته كي تتوالى عليّ الزوابع. قبل انتهاء الدوام بعشر دقائق دخل نائب المدير إلى المكتب واقترب مني وقال:

ـ أريدك أن تترجمي هذه الأوراق حالا.

قلت متمتمة بخوف: لكن لم يبق إلا عشر دقائق على انتهاء الدوام سآخذها معي إلى المنزل وغدا أحضرها جاهزة.

قال بلهجة آمرة: لا ينفع ذلك فأنا أحتاجها الآن.

ابتسم بخبث ثم جلس على مكتبه يتصفح أوراقا بيده مبديا انشغاله. كانت الساعة تشير إلى الثالثة وخمس دقائق. من المؤكد أن كل موظفي الشركة غادروا إلى بيوتهم ولم يبق سواي. أمسكت الأوراق بيدين مرتبكتين ثم وضعتها مرة ثانية على المكتب، قلت وأنا أبعد عني آثار القلق والخوف:

ـ أستأذنك سيدي، سأذهب إلى الحمام. سأرجع بسرعة لإتمام ترجمة الأوراق.

ـ لا تتأخري.

أمسكت حقيبتي ونزلت الدرج، تجنبت المصعد كي لا يحدث رنة عند قدومه. نزلت بسرعة البرق واتجهت مسرعة إلى محطة السيارات. كان نبيل ينتظرني.

ـ لماذا تأخرت يا غالية؟

تولد الحقد من جديد في قلبي والنفور من كل مخلوق "رجل". كلهم يحجبون في أعماقهم غرائز وحشية يتوقون لتفجيرها بأية طريقة، قلت من غير أن ألتفت إليه:

ـ هل يمكنني أن أستعمل هاتف السيارة.

ـ السيارة ومن في السيارة ملكك يا غالية. لكن لماذا؟

تجاهلت سؤاله، أمسكت سماعة التلفون وطلبت رقم مكتب المدير... ألو... غالية! من أين تتكلمين ... أتكلم من السيارة إنني في طريقي إلى بيتي، فقط أريد أن أخبرك بأن العلبة التي أعطيتني إياها صباحا، في درج مكتبك ... وقفلت السماعة. تنهدت بعمق. التفت إلي نبيل وقال:

ـ ما بك ترجفين؟

ـ لا شيء، أحس فقط بصداع في رأسي.

ـ هل تريدين أن نرجع إلى البيت؟

ـ ذلك أفضل.

دخلت إلى غرفتي وأغلقت عليّ الباب. استلقيت على انتصاري أنظر إلى السقف وأبتسم. طرق نبيل الباب وفتحه، تقدّم بهدوء نحوي، جلس على الكرسي وحاصرني بنظراته. عدلت من جلستي، شاحبة مفزوعة كأن بصري وقع على منظر مخيف.

ـ ما بك؟ منذ عدت من الشركة وأنت حزينة صامتة.

لم أستطع أن أبوح له بما جرى حتى لا يلومني ويعاتبني. فاجأتني الرغبة في أن أنفجر باكية لكنني كتمت دموعي وكأنني أتكتم على سر. جلس على حافة السرير، انتبهت إليه فرفعت وجهي ومددت يدا مرتبكة تناولها بهدوء وقال: أنا متأكد أن شيئا ما يزعجك ماذا جرى لك يا غالية؟

سحبت يدي بسرعة من يده وقلت كالملسوع: لا شيء.

قال عن عدم ارتياح: ما هي قصة العلبة التي وضعتها بدرج المكتب؟

لزمت الصمت وخيل إليّ أن عينيه تلتهماني. أمسك يدي وقال: لن أغادر غرفتك حتى تخبريني ماذا جرى.

قلت عن ضيق مكتوم: غيرت رأيي، لم تعد لي رغبة في الاستمرار بتلك الوظيفة.

رأى وجهي يشحب قليلا شعر بانقباض وظل صامتا هنيهة وهو يحدق بي وكأنه يسمع نبضات سري، وحين انتبهت إليه تراجعت ببصري بارتباك، أخرجته بذلك عن صمته.

_ إنك لا تتكلمين معي بصراحة. أنا صديقك وفي مقام أخيك الأكبر ولا أريد إلا مصلحتك ومساعدتك. فهل تصارحينني بسبب توقفك المفاجئ عن الوظيفة.

أجبت بانفعال: أليس هذا ما تريد؟ أنا لبيت رغبتك.

ـ لا، أنت لم تلبي رغبتي.

لم يكن لديّ حل إلا أن أصارحه بما جرى لي.

ـ اللعين، كيف يتجرأ على فعل ذلك التصرف البذيء؟ وماذا فعلت بالساعة التي منحك إياها؟

ـ وضعتها في ظرف مع رسالة كتبت فيها شرف الإنسان لا يقاس بالماس ولا بكنوز الدنيا كلها.

ـ أتمنى يا غالية أن تكوني قد استفدت من هذا الدرس فميدان العمل تكون فيه المرأة عرضة للابتزاز خصوصا إن كانت جميلة مثلك.

خجلت حروفي وتعثرت في موقف الارتباك والصمت. أما هو فتابع كلامه، فيك جمال يحبه كل الرجال وجاذبية قد تفقدها أجمل الجميلات، أخلاقك وسلوكك الحسن وحسن تصرفك وصراحتك وبراءة وجهك، حافظي عليها لأنها تجعلك متميزة عن غيرك. هيا بنا نتعشى في الخارج مثلما اتفقنا البارحة، احتفالا بانتصارك.

ـ ليست لي رغبة في الخروج أريد فقط أن أنام.

ـ تنامين الآن! إن الشمس ما زالت ساطعة. ما رأيك في أن أطبخ لك أكلا لم تذوقي مثله قط. هيا إلى الصالون، هناك شريط كوميدي أمريكي أريدك أن تشاهديه، مضحك للغاية وبعد ساعة سيكون الأكل جاهزا.

لم تكن لي الرغبة في فعل شيء إلا الانزواء مع نفسي. حتى تلك اللحظة لا أعرف كيف أنسى ذلك الكابوس الذي يتلبّس خاصرتي. ذهبت متثاقلة إلى الصالون بينما هو أسرع إلى المطبخ لتحضير العشاء. وما هي إلا ساعة حتى جاء بصحن من اللحم المقلي مع البيض وسلطة بالطماطم. مددت يدي إلى الصحن آكل لقمة تلو الأخرى وأحرك رأسي مبدية إعجابي بطعم الأكل:

ـ كيف صنعت هذه الأكلة اللذيذة لقد كانت عمتي تطبخ لنا مثلها.

ـ إذن أنت ذقت مثلها من قبل.

ـ نعم، لكنني للأسف لم أتعلم الطبخ من عمتي.

ـ لماذا يا غالية على الإنسان أن يتعلم كل شيء في حياته لكي يعتمد على نفسه.

ـ أكره الطبخ وتنظيف البيت.

ـ هذا غلط يا غالية.

ـ لماذا غلط؟ لقد كان بيتنا لا يخلو من الخادمات فهن يقمن بتنظيف البيت وعمتي تقوم بإنجاز الطعام.

ـ وأنت تحسنين أكله.

ـ نعم أحسن أكله مادام هناك من يحسن طبخه.

ـ أنت جدّ مدلعة... دلوعة ... يا غالية.

ـ لا، أنا لست مدلعة، فقط أحب تمضية الوقت في شيء يسعدني أكثر من الطبخ فالأكل بالنسبة لي وسيلة للعيش وليس هدفا.

ـ بدأنا في الفلسفة، الأحسن أن تأكلي وأنت صامتة.

ـ حاضر، سأفعل.

لامارا 14-11-13 10:09 PM

الفصل التاسع



صدمة مفاجئة



أصبح البحث عن عمل جديد شغلي الشاغل، في المساء أخرج مع نبيل وسوزان وبناتها للتنزه في مركز المدينة أو في القرية السياحية. عملت سوزان فترة في المركز الدبلوماسي لكنها استقالت بسبب زوجها الذي كانت له علاقة مع السكرتيرة الحبشية فلورانس. لم تحتمل خيانته المكشوفة ولم تستطع طلب الطلاق منه بسبب بناتها. تظل منزوية على صيحات قلبها المليء بالندوب في بحر الكراهية، يحرقها حزن مجنون، عميق كجهنم، ويكويها إحباط شاحب كالموت. تتحسر على سعادتها الضائعة وهي تخرج من خسارة لتقع في أخرى داخل نار وحدتها وعدم الرغبة في العمل خارج البيت رغم العرض المغري من هيئة الأمم المتحدة في طرابلس. تواجدي في المركز كان بالنسبة لها كغيمة من نور. نقضي ساعات خلف ذيل الشمس في حديقتها، كلانا تستعيد أنوثتها المسلوبة التي لا تنتهي و تروي قصيدتها التي لم يكتبها شاعر أو خطها كاتب. أحيانا ضحكنا كالبكاء وأحيانا أخرى يجلجل سأمنا صليل اللا أمل. ذات يوم خرجت وحدي أبحث عن عمل وعندما رجعت إلى المنزل منهوكة القوى،وجدت نبيل مذعورا يترقب مجيئي أمام باب الفيلا. لم أره قط على ذلك النحو، هرولت نحوه مذعورة:

_ ما بك يا دكتور؟

ـ اليوم، سنذهب إلى المطار يجب أن تغادري طرابلس بل ليبيا كلها.

لم أصدق ما سمعت منه وكأنني في حلم.

- لا أريد الرجوع إلى المغرب، هل فهمت؟ يستحيل أن أرجع إلى المغرب...

ـ هذا أمر ليس بيدك ولا بيدي لقد جاء أربعة من الرجال يبحثون عنك.

ـ يبحثون عني أنا... لماذا؟

ـ جاءوا هذا الصباح إلى المركز منعتهم من الدخول، فأخبروني بأنهم من اللجان الثورية.

ـ من أنا حتى تبحث عني اللجان الثورية؟

ـ لا تخافي يا غالية شكلهم لا يدل على ذلك، إنهم فقط عصابة المدير الذي كنت تعملين في شركته.

ـ المدير ... لماذا ... وكيف عرفت ذلك...

ـ أعطوني رسالة يقولون فيها بأنك مادمت في البلد لن تفلتي من قبضتهم حتى يرجعوك للمدير. هذا اللعين الذي لم ينس إهانتك له، لا بد أن نذهب الآن إلى المطار ونرى إن كانت هناك رحلة إلى المغرب.

ـ إن رجعت إلى المغرب معناه سجن أبدي وقمع شديد لحريتي.

ـ غالية، ألا تعرفين مدى خطورة تواجدك هنا، إنه السجن الحقيقي والقمع الوحشي، إنهم يغتصبون البنات ويقتلونهن ثم يرمونهن في مكان مقفر كما ترمى القمامة. هيا اجمعي ملابسك بسرعة.

ذهبت إلى نفسي في غرفتي، وجدتها تصطدم بخنجر الموت وروحي تسيل وأنا مذهولة في رعب أجمع كتبي وملابسي المحكوم عليها بالمنفى، كالسكران لا أعرف ماذا يجري.

لحق بي نبيل. هل أنت جاهزة؟

ـ نعم، أنا جاهزة.

ـ هيا بنا؟

ـ وسوزان؟ أريد أن أودعها هي وبناتها.

ـ إن سوزان غير موجودة في البيت، هيا بسرعة.

خرجنا متجهين إلى السيارة كاللصوص ثم انطلقنا بسرعة جنونية إلى المطار.

ـ لماذا تقود سيارتك بسرعة؟ أنا لست إلا فتاة عادية لا دخل لي في السياسة.

كنت أرتجف خوفا من الرجوع إلى صحراء الحرمان ومن يغثني من تصوب الرماح التي ستخترق روحي وجسدي الذي يحمل علة سره وما من جدار يقيني وأنا أئن بلسان جريح داخل خيمة التقاليد. سَيٌحْكَمٌ علي بالزواج القسري بعد أن كنت حرة مستقلة بعيدا عن هواجس السر الخطير وما سيسببه لي من هلاك. صدمة مفاجئة لم أكن أظن يوما أنها ستحصل لي وتقودني بوحشية إلى ساحة الموت. هوت صيحتي وأنا أحاول إمساكها في دهاليز التاريخ ورواية المظلومين. هل أهرب وأترك نبيل؟ لكن إلى أين سأذهب؟ نبيل حتما سيخبر أهلي بهروبي فأكون من الضالين والمغضوب عليهم إلى يوم القيامة. وصلنا إلى المطار وجد نبيل صعوبة في إيجاد مكان لإيقاف سيارته، بدأ يسب ويلعن، أوقف السيارة أمام باب المطار من غير أن يراعي اعتبارا لإشارة المنع. حمل حقيبة ملابسي وأسرعنا إلى مكتب الخطوط الجوية المغربية. سأل أحد الموظفين بالمكتب.

ـ من فضلك يا أخ، هل من تذكرة إلى فاس؟

ـ ليس هناك خط مباشر إلى فاس. هناك خط من طرابلس إلى الدار البيضاء ثم إلى فاس.

ـ لا بأس، أريد تذكرة واحدة.

ـ متى تريد السفر؟

ـ لست أنا الذي سيسافر... هذه الفتاة.

ـ اليوم مستحيل. مقاعد الطائرة محجوزة كلها، يمكنك أن تأتي غدا ربما يتخلف مسافر فتأخذ مكانه.

ـ هل هناك مكان في الدرجة الأولى؟

ـ لا، يا سيدي. كل المقاعد محجوزة.

ـ من فضلك ساعدنا هذه الفتاة لا بد أن تسافر اليوم عندها موعد ضروري مع طبيبها الخاص في المغرب.

ـ ليس لديك حل إلا أن تقطع لها تذكرة إلى تونس، من الخطوط التونسية رحلة واحدة من طرابلس إلى تونس العاصمة، ومن تونس إلى باريس ثمّ إلى الدار البيضاء هذا الحل الوحيد.

التفت إلي وقال:

_ هيا بنا إلى الخطوط التونسية.

كان يهرول وأنا وراءه أجرجر ضياعي، تائهة في حلم مزعج في النهار. دخلنا إلى الخطوط التونسية وتمكن من شراء التذكرة. موعد انطلاق الرحلة بعد أربع ساعات. اتجهنا إلى مكان تسليم الحقائب. كان نبيل خائفا يلتفت يمنة ويسرة كالهارب من العدالة. هذه المرة شعرت بالرعب وتأكدت من خطورة الأمر مع أنني لا أعرف من الذي يلاحقني. التفت إلى حقيبتي: يا إلهي! اختفت الحقيبة.

ـ انسي الحقيبة الآن سننتظر ختم جوازك ولنذهب إلى قاعة الانتظار، سأشتري لك ملابس وأرسلها لك بالبريد.

- لا أريد أن تشتري لي ملابس أريد فقط حقيبتي.

أمسك يدي من غير أن يقول شيئا ختم جواز سفري ثم أسرع بي إلى قاعة الانتظار. لأول مرة أرى نبيل شاحبا والخوف لا يبرح عينيه.

ـ حافظي على حقيبة نقودك وعلى الجواز أهم شيء جواز سفرك إياك أن تضيعيه.

كنت ضائعة تائهة لا أعرف ما يجري حولي، أمسكت على يده بقوة ولأول مرة أحسست أنني لا أريد أن أبتعد عنه، انفجرت أبكي غير مبالية بالمسافرين الذين كانوا يجلسون في القاعة، يا إلهي، هذه المرة لن يسمح لي أبي بالسفر مرة ثانية. أريد أن أبقى بجانبك، وجدت فيك الأخ الرحيم والصديق الوفي. بجانبك أشعر بالراحة والسعادة، بجانبك أشعر.. بٌحَّ صوتي وسط زحمة المسافرين.

ـ كفى بكاء أنا معك وسأظل بجانبك حتى تصلي إلى هدفك. سأظل على اتصال بك وبعد ستة أشهر سأقضي إجازتي عندكم في المغرب وهناك سأعمل كل جهدي لكي تسافري إلى أمريكا.

توقفت عن البكاء، ومسحت دموعي، التفتّ إليه في اندهاش واستغراب، لكن.. لكن... لماذا تساعدني؟

ـ لأنك فتاة مختلفة عن الكثيرات اللواتي صادفتهن خلال حياتي سواء في عملي أو خارجه. إنك تختلفين عنهن في كل شيء لذلك أحببت صداقتك وأتمنى استمرار علاقتي بك. تعرفين يا غالية، لي ابن يصغرك ثلاث سنوات، هو الآن يدرس في ألمانيا. تمنيته أن يكون مجتهدا مثلك وأن يكون بذكائك وسلوكك. أمسك يدي وقبّلها، أنت في مرتبة ابني بكر، اطمئني لن أتخلى عنك.

حان وقت الرحيل، أخرج نظارة سوداء من جيب قميصه ووضعها على عينيه، ظل واقفا ينظر إليّ حتى اختفيت عن بصره وأنا أترجّل طوفان ذاكرتي الموبوءة داخل الطائرة الكئيبة. أخذت مكاني وفي يدي حقيبة الصبا تقع فجأة على متن العاصفة والطائرة وحيدة في صحراء ذلك الفضاء، متشحة بالحزن تهمس في أذن السماء المضطربة وتمسح على جبينها غضب البحر داخل قرقعة الصمت، متجمّدة الأنفاس خوفا من صاعقة قد تقبل إليها من السماء مليئة بالنار والموت إلى أن حطت بمطار تونس العاصمة. دخلت إلى قاعة الانتظار مع المسافرين الذين سيكملون الرحلة إلى باريس. الانتظار يقتلني ويحييني وأنا أمسك قلبي بيدين دامعتين، مستسلمة لعاصفة البحر، أطفو فوق الأمواج خائرة وهي تقودني من غير رحمة إلى الأعماق وإلى المجهول. الرحلة من تونس العاصمة إلى باريس طويلة، نظرت إلى البحر من نافدة الطائرة، الشمس غابت ولَوَّنَ الظلام كل السماء وغطى وجه البحر بخماره الأسود وأنا مازلت أتخبط وسط تلك المياه الباردة، أضغط على قلبي بقوة فيخفق دموعا تحرق عيني، اختنقت أنفاسي وانسدت جيوب أنفي وبدأت أسعل وأدق على صدري كالذي أصابه الصرع، سمعت صوتا يقول لي: ما بك يا آنسة؟ هل أنت مريضة؟

ـ إن حرارتها مرتفعة.

أحسست بيد عريضة تمسح العرق عن جبيني.

ـ تفضل خذ هذه القطعة من القماش بها قطع من الثلج علها تنزل حرارتها.

وَضَعَتْ اليد العريضة الثلج على جبهتي، أسمع صوت المضيفة التي كانت تأتي من حين إلى آخر وتسأل ذلك الرجل عن حالي. فتحت عيني رأيت شابا في الثلاثينات ينظر إلي مبتسما: حمدا لله على سلامتك.

ـ أين حقيبتي؟ بها جواز سفري، أريد حقيبتي.

أجاب الشاب مبتسما: لا تخافي، حقيبتك في أمان. كيف تحسين الآن؟

ـ أنا بخير، أنا لست مريضة أريد أن أرجع إلى مقعدي.

حاولت أن أنهض من مكاني فأحسست بدوار في رأسي وبصوت كصوت البحر يخرج من أذني محدثا آلاما في رأسي، لم أعد أرى شيئا وكأنني فقدت بصري. أعلن ربان الطائرة أنه حان وقت الهبوط وعلى الركاب أن يربطوا الأحزمة. قدمت إليّ المضيفة وجلست بجانبي ولم تفارقني حتى توقفت الطائرة. صعد رجلان من الإسعاف إلى الطائرة، سمعته يقول لزميله باللغة الفرنسية ضغطها مرتفع جدا، لابد من نقلها بسرعة إلى المستشفى. قال آخر: أين جواز سفر المريضة؟

ـ تفضل سيدي هذه أيضا تذكرة سفرها.

ـ ليست لديها إقامة في البلد والمفروض أن يأتي الطبيب لفحصها بالمطار.

أسمع صوتا يقول: إنها متوجهة إلى المغرب.

يسأل صوت آخر: ألا يمكنكما أن تسعفاها هنا في المطار؟

أجاب رجلان بصوت واحد: لا بد من نقلها إلى المستشفى بسرعة. إن الضغط مرتفع ودقات قلبها غير منتظمة.

ـ آنسة، ما اسمك؟

قلت بلسان متثاقل: إسـ م ي غ اليـ ة.

أمسك الطبيب بيدي وأدخل حقنة في عضدي، بعدها لم أشعر بشيء. تسلل إلي نفس الكابوس الذي كان يتردد عليّ من حين إلى آخر. أجري وأبي يلاحقني بسكين وإخوتي يتبعونه ويصرخون: اقْتٌلْ خائنَةٌ العِرْضْ، أٌقْتٌلْ خائنَةٌ الشَّرَفْ وأنا أجري وألهث وقدماي تتعثران في فستان أبيض. تصاعدت حرارة جسمي والعرق يتصبب بغزارة، أهذي بكلام غير مفهوم. اقتربت ممرضة مني وقالت بلهجة مغربية: لا تخافي أنت تحت الرعاية في المستشفى. ناولتني حقنة في عضدي، اختفى الكابوس واختفيت من الوجود كله ولم أعد أعرف في أي منطقة في الكون أسبح إلى أن فتحت عينيّ المرتعشتين من أشباح حلم اليقظة وعقلي مازال يتمايل كالسكران بين خيالات الأحلام. سمعت صوتا باللهجة المغربية موجها إليّ: كيف حالك آنسة؟

ـ هل أنا في المغرب؟

ـ لا، أنت في المستشفى في باريس. لقد جئت هنا منذ يومين؟

ـ ماذا تقولين؟ يا إلهي، يجب أن أخبر نبيل بما جرى لي كي يطمئن أهلي.

ـ أعطيني رقم الهاتف لكي أتصل به.

حملت سماعة التليفون وطلبت الرقم، نظرت الممرضة إلي وهي تبتسم:

ـ الجرس يرن.. ألو، مساء الخير سيدي هل يمكنني أن أتكلم مع الدكتور نبيل؟

ـ … أنا؟ اسمي نجية، ممرضة في مستشفى بباريس. ناولتني السماعة، ألو نبيل أنا غالية. أنا بخير جدا، لا تقلق لأمري. ارتفع ضغط دمي في الطائرة وأحضروني إلى المستشفى ... هل أخبرت أهلي عن مغادرتي لليبيا ... لا، لم أفعل ... الحمد لله... كنت قلقة جدا.... متى ستغادرين باريس؟..... لا أعرف سأطلب الدكتور حالا عله يسمح لي بمغادرة المستشفى اليوم ... أريد التحدث إلى الممرضة... تفضلي آنسة يريد أن يتكلم معك... ألو. … حاضر. ….. حاضر. لا تقلق سيدي، غالية لن تخسر تذكرة رجوعها إلى المغرب. كل شيء ترتبه السلطات الجمركية على أحسن وجه… حاضر. غادرت الممرضة الغرفة وتركتني وحيدة أفكر في الحوار الذي جرى بيني وبين نبيل. صوته مازال يرن في أذني وكأنني لم أغادر ليبيا وأن كل ما حدث منذ أخبرني بملاحقة تلك العصابة لي. حتى تلك اللحظة عبارة عن حلم و وهم. جلت ببصري داخل الغرفة، بجانب السرير خزانة صغيرة عليها جهاز الهاتف، باقة من الورد في مزهرية وأمامي تلفاز صغير معلق بالجدران. أنا فعلا لست في حلم. دخل الدكتور والممرضة المغربية.

ـ كيف حالك الآن؟

ـ أريد مغادرة المستشفى.

جس نبضي وقال: لقد أصبح الضغط عاديا.

نظر إلى الممرضة المغربية وتبادلا حوارا بالعينين. التفت إلي مرة أخرى وقال: تريدين مغادرة المستشفى إلى أين؟

قلت بعصبية: أريد أن أغادر المستشفى وباريس وفرنسا كلها هل لديك مانع؟

ـ سنتصل بالمطار ونرى متى توجد رحلة إلى المغرب. ابتسم وربت بيده على كتفي ثم غادرا الغرفة.

هل يظنني أريد الخروج من المستشفى والإقامة في بلده بطريقة غير مشروعة؟ هل الممرضة المغربية.. لا، لا أظن ذلك. لكن، لماذا كانا ينظران إلى بعضيهما عندما قلت أريد مغادرة المستشفى؟ تبا لهم جميعا وتبا لهذه الدنيا وللعصابة ونبيل الذي استغنى عني وأرسلني كبريد مستعجل في الطائرة. ما زلت أسب وألعن حتى أغمضت عيني وخلدت لنوم غير مريح، إلى أن أيقظتني لمسة الممرضة.

ـ آنسة غالية، هناك رحلة إلى المغرب الليلة، سيصحبك الشرطي إلى المطار.

ـ ماذا قلت؟ شرطي؟

ـ نعم، لقد رافقك منذ خروجك من المطار ومازال هنا إلى أن يرافقك.

_ يا لغرابة الدنيا، في طرابلس ألاحق من عصابة إجرام وفي فرنسا يرافقني شرطي إلى المستشفى. متى سأغادر المستشفى؟

ـ الآن إن أردت فموعد الرحلة بعد ثلاث ساعات. سأذهب لإحضار الطبيب.إنه يريد مقابلتك قبل أن تغادري.

أسرعت إلى الحمام. اغتسلت ولبست ملابسي. نظرت إلى المرآة، وجهي كان شاحبا وجسمي يرتعد من الجوع. لم أكل شيئا منذ فطوري مع نبيل. سمعت طرق الباب.

ـ آنسة غالية، هذه ورقة مني إلى طبيبك الخاص تشرح حالتك.

ـ ماذا بي؟

ـ لا تقلقي الأمر ليس خطيرا كما تظنين.

ـ إن كان الأمر ليس خطيرا، فما هو إذا؟

ـ إنه كثرة التفكير وإرهاق الأعصاب.

ربت على كتفي وقال: سفر سعيد.

اتجهت إلى باب الغرفة مودعة الممرضة المغربية التي كانت تغير غطاء السرير. كان الشرطي جالسا على أريكة يشرب القهوة، بمجرد أن لمحني وقف مبتسما، حمدا لله على سلامتك. هل أنت جاهزة؟. أمسك حقيبة كتبي، ثم انطلق يمشي بخطوات سريعة وأنا أتعثر وراءه إلى أن خرجنا من المستشفى. كانت سيارة أجرة واقفة أمام الباب. تقدم الشرطي وفتح باب السيارة الخلفي وجلس بجانبي ثم طلب من السائق أن يتوجه إلى المطار. انطلق بنا السائق داخل شارع الشانزاليزيه المكتظ بالسيارات. الطقس بارد والسماء مكسوة بالضباب، كل شيء يختلف عما تركته في ليبيا. توقفت سيارة الأجرة أمام باب المطار. دخلنا مسرعين إلى الداخل،كان المطار يعج بالمسافرين من كل بقاع الأرض. كنت أحس بالجوع، أخرجت خمس دولارات من حقيبتي وطلبت من الشرطي أن يحضر لي ساندويتشا. جحظ عينيه مستغربا ثم ضحك وقال: هل لهذه الدرجة الأطباء بخلاء؟ هيا ادخلي

إلى هذا المكتب سأحضر شيئا تأكلينه. شعرت بألم في معدتي وبدوار في رأسي، استلقيت على الأريكة، أنظر إلى السقف أراه وكأنه سيسقط على رأسي، أغمضت عيني ووضعت حقيبة كتبي على بطني علها تنسيني الجوع وتخفف من الألم، أتقلب على الأريكة يمنة ويسرة وأعض على شفتيّ إلى أن دخل الشرطي.

ـ ماذا بك آنسة؟

ـ هل أحضرت شيئا آكله؟

ـ تفضلي ساندويشا من الجبنة والسلطة وكأسا من الحليب.

أمسكت منه الساندويش وشرعت في أكل جزء منه بسرعة حتى اختفى الألم. وضعت نصف الساندويش على المائدة وغمغمت: الحمد لله ذهب الألم.

دخلت شرطية. تفضلي جواز سفرك والتذكرة.

التفتت إلى زميلها وقالت: رافقها إلى قاعة انتظار الرحلة رقم 114.قالت ذلك وغادرت. أما الشرطي فجلس وراء المكتب وقال: يمكنك أن تكملي أكلك.

ـ لم أعد أشعر بالجوع.

ـ إذا هيا بنا.

تبعته إلى أن وصلنا القاعة التي يوجد بها المسافرون المتوجهون إلى المغرب. مد إليّ حقيبة كتبي وانصرف.

حان وقت السفر توجه المسافرون إلى داخل الطائرة وخطواتي من ورائهم مثقلة بلا شيء، أداري أنفاسي المتجمدة، التفت إلى المسافر الذي يجلس في مكاني المفضل طلبت منه أن يغير معي المقعد، تردد أول الأمر، لاحظ عيني دامعتين فوافق على طلبي. عويل الصمت يخنقني وأنا أنظر إلى ساعتي التي لبست لحظتي القلقة، سمعت صوت الذي يجلس بجانبي: هل الأخت مغربية؟ التفت إليه وقلت بامتعاض: نعم، أنا من المغرب. خاطبني باللهجة المغربية: سميتي عبدو من الجديدة.شو سميت الأخت؟ لم تكن لي الرغبة في تبادل الحديث معه ورغم ذلك أجبته ممتعضة: اسمي غالية، ثم أدرت وجهي مرة ثانية إلى النافذة. أسمعه مرة ثانية يقول لي، رأيت البوليس معك في الْمَطار.... هل أرغمتك الشرطة على مغادرة البلد...؟ بعد سؤاله الفضولي لم أعد أتحمل انتظار أسئلة أخرى مثلها. التفتت إليه وقلت بصوت أقرب إلى الصراخ: هل تعتقد أن تغييرك معي للمقعد يمنحك الفرصة لإزعاجي. يمكنك أن ترجع إلى مكانك بشرط ألا أسمع صوتك مرة أخرى. قطب وجهه وأظهر ابتسامة خبيثة ثم قال: واه! واه! راكِ واعْرَة بْزَّافْ. صافي صافي الله يْعَاوْنِّي وْيْعاوْنْكْ. كان الوقت مساء والسماء تخلع ببطء وغنج فستانها الأزرق مستعدة لرداء قميص نومها الأسود المرصع بنجوم متـلألئة. كان منظر باريس في المساء رومانسيا، حالما بأضواء شوارعها ومعالمها السياحية. أثار انتباهي منظر برج إيفل، حملني بسحر شكله وجمال رونقه لحظة من الزمن إلى أن ابتعد عن نظري واختفى. شعرت بلمسة على كتفي، من فضلك آنسة، هل يمكنك أن تطلبي من المضيفة أن تعطيك الويسكي. جحظت عينيّ مستغربة وقلت له أنا لا أشرب الخمر. ابتسم وقال أعرف بأنك لا تشربين الخمر، الويسكي أريده لنفسي. سألته لماذا لم تطلب ذلك بنفسك. هذه المرة ضحك مبرزا أسنانا بنية ومتآكلة، لأنني شربت أكثر من المسموح به. قلت بامتعاض ما دمت شربت أكثر من المسموح به، لماذا تسمح لنفسك المزيد؟ قطّب على جبينه وقال باستعلاء، إنها لا تدفع ثمنه من جيبها وْزايْدونْ أنا دْفْعْتْ فْلوسي باشْ رْكْبْ فْطّْيَّارَ أٌ آكٌلْ وْ نْشْرْبْ كِمَّا بْغيتْ. ما هذه المصيبة التي تجلس بجانبي؟ لم يكن ينقصني همّ وإزعاج سواه. قلت له بهدوء مصطنع هل لك أن تعتبر أن المقعد الذي أجلس فيه فارغا وأنني لست موجودة. انفجر في وجهي وكأنه يريد بذلك أن ينقض عليّ، بْغيت غيرْ نْعْرْفْ آشْ كَيْكولِّكْ راسْكْ؟. شعور غامض استولى عليّ، وجه مكفهرّ وبصر ملتهب ، لا أدري لماذا شعرت بهاجس مفاجئ بالعطف عليه، سكن كلّ شيء بداخلي واستسلمت للهدوء. أقبل المضيف، ما الأمر؟ ولكي أداري خجلي، طلبت منه أن أغير مكاني. ابتسم قائلا، المقاعد الخلفية كلها فارغة. أمسكت صينية الطعام، وناولتها له، ألا تريدين أن تتعشي؟ لا، شكرا. لقد فقدت شهيتي. جلست على أحد المقاعد الخلفية ألملم شرود مستقبلي القريب في المغرب.

لامارا 14-11-13 10:11 PM

الفصل العاشر



صبر لم يحسن الانصات



دارت عجلة الزمن كالرحى بشكل فجائي وغالية تبكي حريتها التي ما فتئت أن أشرقت وغابت كمهرجان أسطوري، تبكي رجوعها المفاجئ والسريع مثل لعنة مكتوبة منذ الأزل، تتعثر في زحمة الأفكار، خلف الأزقة والدهاليز. يستهويها الهروب المستحيل من الآتي، من الوحوش وهم يحتفلون في مشهد خرافي بعرسها الذي سيتوِّجٌهٌ ملك السلطة وسلطان التقاليد وإمبراطور الطغيان والجبروت. نساء وأطفال ورجال، صراخ ونباح وعويل، طبول وأبواق ومزامير، عرابات خلف الباب يترقبن في شغف الختم الذكوري، وغالية في صحرائها تلفظ آخر أنفاسها في سرير أحمر وغرفة تطل على بحر العذاب. طقس لاختبار شرفها عبر قطرات دم في منديل أبيض وسط صحن مرمر، ستحمله النساء وهن يطلقن الزغاريد بنسق تصاعدي تسمع كالصهيل، كالعواء، ويتلو الشيوخ الملتحون خرافة صنعوها وكأنهم في حالة شبق لرؤية الدم المسفوح. أطبقت غالية كفيها على أذنيها لتحجب وقع تلك الأصوات المخيفة التي تجتاح خلجات نفسها كالزلازل، كالبراكين الثائرة، مختبئة خلف نفسها، تتعثّر خلف المسافرين وسط مطار النواصر في الدار البيضاء، تجر قدميها كالتائه في الصحراء تطرق أبواب الآهات وتغترف الحسرات على شبابها وموتها الأبله الذي ينتظرها. واصلت السير ببطء تجاه شباك المكتب، شعرت كما لو أن شيئا ما قد تهشم في داخلها. نظر إليها الموظف ثم تظاهر بالانشغال. أحنت رأسها إلى نافدة الشباك وقالت:

ـ من فضلك متى ستقلع الطائرة المتوجهة إلى فاس؟

تأملها ببصر متفحص وقال: جواز سفرك والتذكرة من فضلك.

ناولته الجواز، قال وهو يقلب صفحاته ومن غير أن ينظر إليها: كيف جئت من ليبيا والطائرة التي جاءت الآن قدمت من باريس. ردت بهدوء قلق:

_ كنت مضطرة لأغادر طرابلس بنفس اليوم، لكن كانت المقاعد محجوزة، فاضطررت للسفر إلى فرنسا ومن هناك إلى المغرب.

ارتعشت شفتاه متمتما: أول رحلة الساعة الثامنة صباحا. هل عندك نقود؟

صمتت برهة ثم أردفت قائلة: كانت عندي نقود لكن أٌخِذَتْ مني في الجمارك ولم يتركوا لي إلا مائة درهم.

دمدم بصوت غاضب مسموع:

_ أتريدين أن تقولي لي بأنك قضيت شهورا في ليبيا بمائة درهم هل جئت بقهوة أو شاي أو عطر؟

قالت بصوت يفصح عن امتعاض:

_ لا هذا ولا ذاك لقد سرقت مني حقيبة ملابسي في مطار طرابلس.

تأمل وجهها المحتقن ونظرتها الساذجة ثم ردّ بهدوء ممزوج بسخرية: ولاد لْحْرامْ سّْرَّاقَة فينْ مَّا مْشيتي.

قالت بهدوء قاتل:

_ للأسف نعم، هل من الممكن الآن أن أقضي الليلة بالفندق؟

ابتسم عن أسنان متآكلة وتمتم:

_ كان هذا ممكنا لوْ دْوّْرْتي مْعايا.

قالت عن استياء:

قلت لك ليس عندي نقود.

ردّ بهدوء:

_ إذا فاقضي ليلتك هنيئة في قاعة الانتظار.

روحها ترتعد من غياهب المجهول وغضب بداخلها يشبه الجحيم، صرخت بأعلى صوتها مكسرة ذلك الهدوء الصاخب.

_ من حقي أن أقضي الليلة في الفندق هكذا ينص قانون الطيران إن كانت الرحلة تقتضي المبيت.

ـ على أي قانون تتكلمين....فاكرة حالك في أوربا....

أحست بالغضب وتمنت أن تشتمه وتسبه، لكنها تمالكت أعصابها وقالت: أين مسئولك؟

حينها وقف من مكانه مرعوبا وقال: لماذا أنت عصبية هكذا؟ كل ما تريدينه سيلبى.

ـ عفوا أنا لا أريد شيئا فقط حقي كأي مواطن يعيش في بلده متمتّعا بكل حقوقه التي تخولها له الدولة والقانون.

مازالت تحدثه حتى قدم شرطي جمارك آخر: ما الأمر؟

قال الشرطي: الأخت قادمة من فرنسا وستسافر غدا إلى فاس. تريد قضاء الليلة بفندق المطار..

ـ وماذا تنتظر؟

ـ حاضر سيدي. سأقوم بالواجب فورا.

انصرف الشرطي من غير أن يتفوّه بكلمة أخرى. قام الموظف مهرولا من مكتبه، تبعته غالية إلى باب المطار حيث سيارات الأجرة مصطفة. تقدم إلى واحدة وخاطب السائق:

ـ خذ الآنسة إلى الفندق وفي السابعة صباحا يجب أن تكون في المطار.

انطلقت بها السيارة في شوارع الدار البيضاء، تلك المدينة التي لا تنام. مازالت الشوارع مكتظة بالسيارات والمقاهي مليئة بالزبائن، لم يتغير أي شيء، شعرت بقشعريرة سرت في جسدها وروحها الحبيسة مشغولة في هم سرها الخطير، تنظر من نافدة السيارة، تتذكر زياراتها المتكررة مع أهلها إلى هذه المدينة منذ كانت طفلة. لم تعد طفلة الآن، علة سرها تلاحقها، تطاردها كالضوء المبعثر، تضعها في لحظة قاسية التضاريس مليئة بأشباح الموت، عيناها تتسكع بين تلك الشوارع ، حلم تحوّل إلى كابوس أسود يردّده كل دقيقة عقرب الساعة الذي عيّره القدر لانفجار ذلك السرّ الدفين. تقتلها الخيبة والإعياء لقلب لن يكون آخر الشهداء. توقفت السيارة أمام فندق بمركز المدينة.

قال السائق: عليك أن تكوني جاهزة الساعة السادسة صباحا. إن الأجر مدفوع من وكالة الخطوط لكن إن أردت أن تتكرمي علي فسأكون ممنونا متشكرا، تعرفين الحالة كيف هي.

ناولته خمسين درهما ودلفت إلى الفندق، أخذت مفتاح الغرفة من موظف الاستعلامات وتوجهت إلى الغرفة ثم استلقت على السرير، مدثرة بالحزن، قابضة على أزمنتها المنفية، هل أنا فعلا عدت إلى المغرب... هل أنا أحلم أم أنها الحقيقة ...؟ أغمضت عيناها إلى أن أيقظها جرس التلفون: صباح الخير آنسة، إن الساعة الخامسة والنصف.

كان السائق ينتظرها، انطلق بها إلى المطار، رعشة الخوف بداخلها من ردة فعل عائلتها لرجوعها المفاجئ. توجه المسافرون إلى الطائرة وتبعتهم بخطوات بطيئة متعثرة كسجين مكبّلة رجلاه بسلاسل من حديد. حلقت الطائرة، في تلك اللحظة تمنت أن تظل الطائرة محلقة في الفضاء إلى الأبد وألا تنزل إلى الأرض وأن الكابوس الذي تعيشه ليس حقيقيا. الطائرة وصلت بسرعة البرق إلى مطار فاس. نزل الركاب ولم يبق أحد بداخل الطائرة سواها. كانت تحدق من النافدة وجسمها متشنج، شاردة في تفاصيل رحلتها منذ بدايتها. أخذت حقيبة كتبها ونزلت مهرولة إلى داخل المطار متجهة نحو باب الخروج، فإذا بها ترى كل أفراد العائلة ينتظرونها ما عدا عمتها صفية. ظلت في البيت تهيئ مراسم قدوم ابنة أخيها الغالية. تمنت أن تكون هي التي تنتظرها، لأنها الإنسانة الوحيدة التي اشتاقت إليها كثيرا. تبادلت غالية العناق والسلام مع أهلها ثم انطلقوا إلى البيت. طيلة الطريق كانت تنهال عليها أسئلة من كل صوب إلى أن توقفت السيارة فرأت عمتها أمام الباب تنتظر قدومها وفي يدها صينية فيها الحليب والتمر. وضعتها على الأرض وهرولت نحوها تعانقها.

ـ كيف حالك يا غالية؟ لقد اشتقت إليك كثيرا.

قالت الأم: أدخلا البيت أولا.

اتجه الجميع إلى غرفة الصالون والتفّ حولها أفراد العائلة فرحين بقدومها المفاجئ. قال الأب وهو في حالة هدوء ووجوم: لقد أخبرنا الدكتور نبيل عن مشكلة الحصول على تذكرة مباشرة من ليبيا إلى المغرب وأنه اضطر لتغيير الرحلة عبر باريس ومنها إلى المغرب. إن الوحدة المغاربية شجعت شعب المغرب العربي أن يتحرك بحرية في هذا القطر الكبير وهذا شيء جميل جدا، على الأقل تخف البطالة وتتحسن الظروف الاقتصادية. أضاف مبتسما تعالي واجلسي قربي أريدك أن تحدثيني عن كل شيء بالتفصيل، عن البلد وعن أحوالك فيها وكيف حال ابن الإيمان وزوجته.

شعرت بالارتباك وقالت متلعثمة: إن ابن الإيمان اسمه لا ينطبق عليه، يعامل زوجته بقسوة بالغة.

قطّب جبينه وقال: هل بدر منه شيء سلبي تجاهك؟

ـ لا يا أبي لكنني لم أطق العيش معهم. لم أتحمل أن أرى عراكه يوميا مع زوجته لذلك تركتهم وعشت مع العائلة المغربية التي تعرفت عليها.

ـ اللئيم! كيف سمحت له نفسه أن يعامل تلك المسكينة بقسوة وهي في سن حفيدته.

قالت الأم مقاطعة: إن السنة الدراسية لم تنته بعد، لماذا عدت فجأة؟

لم تعرف غالية كيف تجيبها إجابة مقنعة ولم تفكر طيلة سفرها في عذر تنجو به من التوبيخ واللوم. شعرت بسخونة في كل جسمها، التفتت إلى أبيها فوجدته ينظر إليها منتظرا سماع الإجابة وأختها كانت تنظر إليها بعينين خائفتين أما عمتها فلم يكن يهمها سوى رجوع غالية التي تحبها وبريق الشوق يشع من عينيها الذابلتين. نظرت غالية إلى أمها وقالت:

ـ لقد وصلت متأخرة عن موعد التسجيل في الجامعة، فعملت مترجمة بأكبر شركات طرابلس للتصدير والاستيراد لكن الدكتور نبيل كان رافضا عملي في طرابلس كما أنه لا يريدني أن أدرس في ليبيا ولامني كثيرا على عدم العودة إلى أمريكا لإتمام الدراسة.

نظر الأب إليها مبديا عدم موافقته وقال: يا ابنتي كم مرة سأقول لك بأن ظروفي المادية لم تسمح لي أن أرسلك إلى أمريكا عليك أن تصرفي فكرة الدراسة في الخارج وأن تلتحقي بالجامعة هنا في السنة المقبلة أما هذه السنة، فقد فات الأوان إنك لم تسمعي كلامي ولا نصائحي فها أنت الآن عدت بخفي حنين من ليبيا.

ـ لا يا أبي، لم أعد بخفي حنين من ليبيا. لقد تعلمت أشياء كثيرة في سفري كما أن وقتي لم يضع سدى في طرابلس لقد حصلت على شهادة الضرب على الآلة الكاتبة وعملت في شركة عالمية.

عدل الأب جلسته باهتمام زائد وبدا كمن يتهيأ لسماع كلام خطير. تفاصيل وجهه وذهول عينيه يفصح عن ذلك. مرّر راحة يديه على لحيته وقال:

_ السبب الوحيد الذي جعلني أوافق على سفرك هو متابعة الدراسة في الجامعة و ليس العمل في شركة عالمية.

ـ لكن يا أبي لماذا ندرس ونتعلم أليس لنعمل في المستقبل؟

ـ فقط لكي تعشن مع أزواجكن متعلمات غير جاهلات.

ساورتها رغبة في البكاء، التفتت إلى أمها التي فاجأتها بعينين قاسيتين ولكي تغير الموضوع قالت:

ـ تعرف يا أبي سأستعد للامتحان وسأتقدم لإجرائه وتأكد بأنني سأنجح بتفوق.

ـ هكذا أريدك يا ابنتي أن تكوني مطيعة مرضية.

مطيعة...مرضية...أصبحت أكره هاتين الكلمتين، إن الطاعة والرضا عن غير اقتناع ليس إلا تملقا ونفاقا وخوفا وطاعة عمياء.

قالت وهي تنهض من مكانها: إنني أشعر بالتعب وأريد أن أذهب لأنام قليلا.

قالت العمة: قبل النوم لا بد أن تأكلي شيئا لقد هيأت لك أكلتك المفضلة.

ـ سآكلها عندما أستيقظ.

كانت تتوق للانزواء في غرفتها. تحس بأنها تمشي في طريق مسدود، صداع في داخلها، في كل جسمها. لا يجب أن أٌهْزم. ليس هناك خلاص لي ولمحنتي إلا الدراسة، لأنها هي التي ستنقذني وتعطيني حريتي. لحقت بها أختها، فرحة مسرورة بقدومها. أقفلت باب الغرفة وضمتها إلى صدرها بقوة وقالت:

ـ كم اشتقت إليك يا غالية لقد تركت فراغا في حياتي، فلم أجد صديقا أفضي إليه ما في قلبي. تقدم إليّ ستة خطاب وأبت أمي أن أتزوج قبلك.

ـ ماذا تقولين؟

أجابت سلمى بغيظ: مثلما سمعت يا أختي إنهم يريدون تزويجك أولا.

دب الرعب في جسم غالية، استلقت على السرير وأغمضت عينيها لكي لا ترى أختها دموعها، "يا إلهي ماذا فعل بي نبيل؟ أرسلني إلى الموت المؤكد. إن الموت على أيدي العصابة أهون عليّ من الموت المضمخ بدماء العار".

ـ ماذا قررت أن تفعلي يا أختي؟

ـ ليس أمامي ما أفعله سوى أن أستعد للامتحان الذي لم يبق على موعده إلا خمسة أشهر.

ـ و ماذا عن قصة الزواج.

ـ لن أتزوج يا سلمى، ولو حط السيف على عنقي.

ـ يظهر أنه ليست لك رغبة في الحديث سأدعك ترتاحين.

غادرت سلمى الغرفة وتركت غالية مستلقية على السرير تتوسّد خيبتها تنظر إلى سقف الغرفة وتغترف الحسرات إلى أن استسلمت إلى النوم. لم يعد يشغل بالها إلا النجاح في الامتحان. رسائل نبيل المتتالية تزيد من آمالها وإصرارها على التفوق رغم أنها تعرف أن قدومه إلى المغرب لن يغير أي شيء وأنه لن يستطع إقناع أبيها أن تدرس في أمريكا لكنها كانت تنتظره. حان وقت الامتحان أوصلها أبوها بسيارته، مسرورا فرحا إلى باب الجامعة وودعها داعيا لها بالنجاح. كانت الأسئلة سهلة وغير معقدة بالرغم من عدم انتسابها تلك السنة. خرجت من الجامعة فوجدت أباها ينتظرها. هرولت إليه مسرعة ثم انطلق بها إلى المنزل. التفت إليها وقال: ما قصة ذلك الجمع الكبير من الطلبة الذين كانوا يحيطون بك؟

ـ لقد كانوا يسألونني عن نمط الحياة والدراسة في أمريكا.

ـ أمريكا! أمريكا! لا أعرف ماذا في تلك البلاد يثير الإعجاب؟ إنها بلد انحلال الأخلاق والإجرام والإرهاب.

بدأ محاضرته عن أمريكا التي سمعتها مرات عديدة ولكي تغير الموضوع قالت: لم تسألني يا أبي عن الامتحان؟

ـ أنا أعرف ابنتي جيدا، ذكية وطموحة مثل أبيها. اسمعي يا غالية في بيتنا عائلة الشنقيطي هل تذكرينهم؟

ـ كيف أنسى تلك الأيام الجميلة التي قضيناها عندهم. كان عمري آنذاك عشر سنوات. أتذكر جيدا ذلك اليوم الذي دخلنا فيه إلى مدينة أغادير لزيارتهم.أثارت إعجابك المدينة وقلت عنها قصيدة طويلة أذكر منها بيتين فقط.

هذي أغادير كالعروس رافلـة يخال ناظرها الأضواء كالنجــم



لباسها الرايات الحمرا تزينهـا وحليها درر يعلو على القمـــم

كم لعبت أنا وإخوتي مع بنات الشنقيطي وابنهم المختار الذي كان يكبرني بعشر سنوات. لقد كان شقيا. هل تذكر يا أبي كان المختار يحب الطبخ، دائما في المطبخ يساعد أمه في تقشير الخضار ويلح عليها أن تدعه يطبخ الأكل وكانت هي تطرده. ألح عليها يوما ليطبخ لنا وجبة الغداء فأبت، لكنه أقنعها بأنها ستفتخر به عندما سيقدم لنا أحلى وجبة طاجين بالدجاج وفعلا كانت مفاجأة للجميع، طبق لم يسبق لنا أكله من قبل. كان الأب يقود السيارة وهيستيريا الضحك تستحوذ على سحنة وجهه وهي تروي له القصة. بعدما أقنع أمه بأن تأذن له بإحضار الطعام. طلب منها الخروج من المطبخ حتى لا تزعجه. صعد إلى السطح وأمسك بإحدى الدجاجات السمينات التي بالقفص ثم خنقها وقطع رأسها ونتف ريشها. ملأ طنجرة كبيرة بالماء ووضع فيها الدجاجة من غير أن يفرغ بطنها ويقطع قوائمها وأضاف عليها المكارونا والزيت وقطعا من الطماطم وشيئا من التوابل ثم وضعها على نار حامية لكي تنضج بسرعة وبينما هو ينتظر طبخه أن يستوي كان يرقص على إيقاع المطرب رويشة ويضرب برجليه على الأرض منسجما مع الأغنية إلى أن انتهت. ثم أخذ طاجينا كبيرا، وضع فيه الدجاجة وأحضره إلى غرفة الأكل. قال الأب وعيناه تسيل بالدموع من شدة الضحك: كان منظر الدجاجة بقوائمها وهي تسبح في مرق الطاجين ترعب الناظر إليها وتسد شهيته للأكل. استلقت غالية على مقعد السيارة وشخصت ببصرها إلى السماء الصافية تبتسم ثم قالت: هل جاءت كل العائلة؟.

ـ لقد تزوجن كلهن.

قالت على عجل: حتى ثريا التي يبلغ عمرها الآن خمس عشرة سنة.

ـ اسمعي يا ابنتي إن البنت مصيرها الزواج فمهما درست مصيرها الاستقرار في بيت بعلها.

ساورها شعور غامض تلك اللحظة، مزيج من الغضب والحزن، بلعت ريقها والتزمت الصمت طيلة الطريق إلى أن وصلت المنزل. دخلت إلى الصالون لتسلم على العائلة. وبمجرد أن رأتها زوجة الشنقيطي حتى صاحت:

ـ ما شاء الله! لقد كبرت وأصبحت عروسا جميلة.

سلمت عليها وعلى زوجها والمختار. لم يعد ذلك الطفل الشقي، أصبح شابا وسيما وخجولا.

نظر إليها الشنقيطي وقال بابتسامة عريضة: أنا متأكد بأنك ستنجحين لا محالة أنت دائما مجدة ومجتهدة منذ الصغر.

ـ شكرا يا عمي على مجاملتك.

ـ إنها الحقيقة لقد رأيت صورتك بالجريدة منذ سنتين وقرأت أنك كنت من ضمن الفائزين العشرة في كل جامعات المغرب الذين حصلوا على منحة للدراسة في أمريكا. لم يفاجئني ذلك بقدر ما أسعدني كثيرا.

قال المختار: هل هناك فرص عمل في أمريكا؟

أجابت بسرعة وامتعاض: صراحة لا أعرف.

نظر المختار بعينين مبتسمتين ثم أردف يقول: إن نجحت في هذا الامتحان ستصبحين أستاذة كبيرة.

صمتت فجأة لكن الصمت لم يستغرقها طويلا قالت مستأنفة بهدوء: لا أبدا، سأكون أستاذة صغيرة تدرس في الثانوية وأنا أريد أن أكون أستاذة كبيرة أحصل على دكتوراه وأدرس في الجامعة.

خجل المختار من إجابتها واحمر وجهه ثم بسط عينيه إلى الأرض. نظرت أم غالية إليه وقالت بسرعة لتنقذ الموقف.

_ إن نجحت غالية تكون قد أنهت تعليمها وتستعد لبناء عشها الزوجي أليس كذلك يا غالية؟

شعرت غالية بالغيظ وقبل أن تجيب أمها قال الأب بسرعة وكأنه يعرف ماذا سيكون ردّ ابنته:

ـ أنا أشجع بناتي على العلم والدراسة وغالية الآن حصلت على ما يكفيها من العلم، فهي وصلت لسن الزواج الذي يعتبر سترا للفتاة.

أحست أن هناك أمرا دار بين والديها والشنقيطي وزوجته. استأذنتهم بالانصراف ودلفت إلى غرفتها. لحقت بها شقيقتها الصغرى سلمى. أغلقت باب الغرفة وقالت:

ـ ماذا ستفعلين يا غالية؟

ـ لا أعرف يا سلمى. ماذا يريدون مني؟ لماذا لا يتركونني لحال سبيلي؟

ـ لكن، أنت تعقدين الأمور يمكنك أن تتزوجي وتكملي دراستك.

ـ لن أتزوج أبدا، هل فهمت؟

ـ نعم، أنا فهمت لكن والديّ لن يفهما ولن يقبلا رؤيتك عانسا في البيت.

ـ أنا لست عانسا.

ـ بلى، أنت عانس في نظر المجتمع.

ـ عن أي مجتمع تتكلمين؟ إنه مجتمع مريض بحاجة للعلاج هل أنت معهم أم معي.

ـ أنا مع العقل والمنطق. أنا أسير مع السير وإن مشيت ضده أتعب وأَهلَك. هل تريدين أن تبقي عانسا طوال حياتك؟

ـ من قال لك سأبقى عانسا طوال حياتي؟ أولا إتمام دراستي وثانيا وظيفة تعيلني وتحفظني من غدر الزمان وقهر الرجال وثالثا وأخيرا الزواج.

ـ هل تعرفين أن بنات الشنقيطي كلهن تزوجن حتى التي تبلغ من العمر خمسة عشر عاما.

ـ مالي أنا وبنات الشنقيطي؟

ـ عنادك يا غالية، لن يجلب لك إلا المشاكل. لماذا لا تقبلين المختار زوجا وتتابعين دراستك لا أظنه سيعارض.

ـ كيف أتزوج رجلا لا أعرف عنه شيئا ولا أحبه. هل الزواج لعبة؟

ـ لكن، ماذا يعيب المختار؟

ـ المختار؟ طباخ الدجاجة بمصارينها وقوائمها؟

ـ تسخرين حتى ولو كنت غاضبة.

رجعت بخطوات إلى الوراء وانتابها ذعر مفاجئ وقالت: لماذا المختار هل سمعت شيئا لم أسمعه؟

ـ نعم لقد سمعت الشنقيطي وأبي يتحدثان بشأن زواجك من المختار.

سبقتها شهقة تلهفها: ماذا تقولين؟ هذا معناه أن موعد موتي وهلاكي قد أوشك؟

قالت سلمى والخوف يتملكها: تموتين! عن أي شيء تتحدثين؟

قالت غالية وهي ترجف: إنه الموت بالنسبة لي. إنك لا تعرفين شيئا، أريد ن أهرب.

ـ تهربين إلى أين؟

ـ لا أعرف لكنني سأهرب.

اتجهت مسرعة إلى خزانة كتبها تبحث عن جواز السفر، أين اختفى جواز السفر؟ من أخذ جواز سفري؟ اقتربت منها سلمى تهدئها، إن أمي تحتفظ به لكي لا يضيع.

ـ لكي لا يضيع! من سيضيعه أنا أو أنت؟ هل تسخرين يا سلمى إنك حتما في صفهم.

ـ لا يا غالية. إنك أختي التي أحب من كل قلبي.

ـ إن كنت فعلا تحبينني فلا بد أن تأتي لي بجواز سفري لم أعد أحتمل هذا التسلط أريد أن أسافر.

ـ هذا مستحيل! ماذا سيقول عنا الناس؟ هل تريدين أن يغضب والداك عليك إلى الأبد؟ إن رضا الله من رضا الوالدين إن هربت سيتبعك سخطهم كالظل أينما كنت وستحل عليك اللعنة في الدنيا والآخرة.

ـ جهنم، سخط، دنيا، آخرة، ترهيب، تخويف. كرهت سماع هذه المصطلحات، كل يستعملها حسب مصلحته.

ـ ماذا تقولين يا غالية؟ هل أنت فعلا غالية أم يسكنك شيطان يتكلم عوضا عنك؟

ـ إن مجتمعنا هو المليء بالشياطين والمنافقين، يستعملون الدين كسلاح لتلبية رغباتهم ومطالبهم. إن الله رحمن رحيم بعباده، رءوف كريم بهم. اسمعي لا بد أن تحضري لي جواز سفري.

ـ لن آتي لك بجواز السفر ولن أسمح لك بجلب العار لأهلنا يا غالية؟

ـ العار هو الذي سيحصل عندما أتزوج.

أجحظت سلمى عينيها وقالت بصوت مرتبك وخافت: صارحيني يا أختي هل…

ـ هل ماذا؟ هل تظنين أنني فتاة من غير شرف؟ أنا طاهرة كل الطهارة ولم يمسني أحد. اطمئني ولا تدعي أفكارك تذهب بعيدا.

ـ وما ذاك الذي قلته؟

ـ أنا لم أقل شيئا.

ـ بلى. لقد قلت العار هو الذي سيحصل عندما تتزوجين.

ـ إنني أقصد عدم الدراسة والوصول إلى هدفي هو أكبر عار.

ما زالت تتحدث مع أختها، حتى دخلت الأم من غير أن تطرق الباب، متعصبة تنظر إلى غالية بعينين يتطاير منها الشرر: غالية، ما هذا التصرف؟

ـ أي تصرف؟ ماذا تعنين؟

ـ تركت الضيوف وخرجت.

ـ لقد استأذنتكم هل من العيب أن أنام وأرتاح بعد كثرة السهر وقلة النوم.

ـ لم أرك نائمة لماذا تبكين؟ هل تشاجرتما؟

ـ هل رأيتنا قط نتشاجر. نحن لسنا وحوشا يا أمي. كيف للمرء أن يتشاجر مع روحه ونفسه. هذه أختي سلمى روحي التي أحيا بها وأنت تعرفين ذلك جيدا.

ـ فلماذا البكاء إذا؟

ـ ألا تعرفين لماذا؟

ـ ما معنى كلامك أنت وأبي وتلميحكما غير المباشر عن الزواج. هل قررتما تصديري إلى خارج البيت؟

قالت الأم بعصبية: حسني أسلوبك يا بت وتكلمي باحترام.

ـ أنا يا أمي أحترمك وأحبك ولا أريد إلا رضاك ورضا أبي علي.

ـ وماذا تريدين إذا؟

ـ أريد منكما أن تكفا عن التفكير في تزويجي وأن تسمحا لي بإتمام دراستي.

اقتربت الأم وجلست قرب غالية على السرير، قالت بصوت رخيم:

ـ يا ابنتي لقد حان الوقت أن يكون لك بيت وزوج وأولاد وأن تستقري في حياتك لأن هذه هي سنة الحياة.

ـ سنة الحياة، أن أكمل تعليمي أولا وأحصل على الدكتوراه بعدها أفكر في الزواج.

ـ بعد أن تصيري عانساً. لا أبوك ولا أنا نسمح بذلك.

ابتعدت عن أمها خوفا من أن تضربها وقالت لها والخوف يتملك جسمها:

ـ أقسم إن وافقتما على تزويجي من المختار سأقتل نفسي فذلك أهون علي من أن أدخل إلى عالم الزوجية التي لا أستطيع تحملها الآن.

بعدما سمعت الأم اعتراض ابنتها تقدمت نحوها وهي تشير بسبابتها وكأنها تريد أن تغرسه في عينيها قائلة:

ـ يا مجنونة، يا مسخوطة… أنا أعرف كيف أجعلك توافقين رغما عنك. مثلك لا يطيع إلا بالقوة والعنف.

ـ ماذا تريدين أن تفعلي؟ تضربينني؟!

هرولت غالية إلى خزانة ملابسها وأخرجت حزام البنطلون وأعطته إياها قائلة بصوت مبحوح ومجروح:

ـ امسكي الحزام واضربيني حتى الموت. والله ذلك أهون عليّ من الزواج غصبا. هل تعتقدين أنني أخاف من الضرب. انفجرت تبكي وتصرخ في وجهها، ماذا تنتظرين...؟ هيا أضربي بكل ما لديك من قوة، وإن تعبت نادي أبي لكي يساعدك بل نادي كل من في المنزل وأيضا الخادمات. اضربوني حتى تزهق روحي فهذا ما أريد.

كانت سلمى تنظر إليها وتبكي أما الأم فقد فغرت فاها مستغربة، متعجبة لتمردها قالت:

ـ غيّرتك أمريكا وغيّرك السفر ولم تعودي تلك الفتاة المطيعة. أصبحت فتاة عاقة، وعقوقك هذا لن تفلحي به لا في دنيا ولا في آخرة.

قالت سلمى والدموع تسيل بغزارة من عينيها: لا يا أمي بالله عليك لا تغضبي من غالية، فهي لم تفعل شيئا يستحق كل هذا الغضب.

أدارت الأم وجهها نحو سلمى وقالت: اسكتي أنت ولا تتدخلي فيما لا يعنيك.

ـ لا يا أمي إنه يعنيني لأن سعادة غالية هي سعادتي وشقاءها هو شقائي.

ـ هل عَدَتك بأفكارها المسمومة؟

توقفت غالية عن البكاء والنحيب وجلست على الأرض راكعة أمام قدمي أمها، وقالت بصوت يملؤه الندم: أمي الحبيبة، أنا..

قاطعتها قائلة: لا تقولي أمي. أنا لست أمك لا في دنيا ولا في آخرة.

قالت هذا وخرجت من الغرفة فأسرعت غالية إليها كالبرق وارتمت على قدميها وبدأت تقبلها متوسلة:

_ من فضلك يا أمي اصفحي عني وارضي علي ولن أفعل إلا ما يرضيك.

ـ حسنا إن أردت أن أصفح عنك، يجب أن تقبلي المختار زوجا لك.

تنفست غالية الصعداء وقالت: حسنا يا أمي سأفعل ما تريدينه.

نظرت إليها بابتسامة تدل على الرضا وهزت برأسها كعلامة للنصر ثم انصرفت إلى الصالون. رجعت غالية إلى غرفتها فوجدت أختها سلمى ما زالت تحت وطأة الخوف وبمجرد أن رأتها حتى قفزت من مكانها متجهة إلى غرفة الباب أغلقته بكل حذر، جلست بجانبها وقالت وهي تلوح بيديها وتحرك رأسها يمنة ويسرة:

ـ أنا لم أعد أفهم شيئا ولا أستطيع أن أستوعب ما يجري. كنت رافضة كل الرفض الزواج وعزمت على الهروب وها أنت الآن فجأة تنقلبين خاضعة راضية باقتناع وببرودة أعصاب.

ـ لن أتزوج أبدا ولو وضعوا السيف على عنقي.

ـ لكن ما هذا التصرف الذي قمت به أهو تمثيل في تمثيل؟

_ الحيلة يا سلمى إن الحيلة أحسن من العار.

ـ لكن، ماذا قررت أن تفعلي؟

ـ لا أعرف بعد لكن، لابد أن أجد حلا.

جاءت العمة وقالت بلهجتها الموريتانية موجهة كلامها لغالية: هََذا ما يْتْواسَا كومي كيسي الصَّالة أو أَكْعْدِ مْعَ ضْيافْ يا لِّي طْوّْلْ عْمْرْكْ.

ـ حاضر يا عمتي سأفعل.

ظهر على سلمى شيء من الارتياح واحتواها الارتباك والخوف من استسلام أختها المفاجئ وقالت:

ـ إنني قلقة عليك ولا أعرف إلى أين سيؤدي بك عنادك وتصرفاتك الغريبة.

ـ لا تخافي علي يا سلمى لقد كنت غبية جدا بعنادي وتعنتي لكني لن أنهج بعد الآن أسلوب التمرد والعصيان. لأن الأشياء تؤخذ باللين وليس بالشدة. لن أعطي الفرصة لأحد كي ينال مني بالتأثير على أعصابي.

ـ لماذا كل هذا التشاؤم يا غالية؟

_ لا تشغلي بالك بي وبمشاكلي إن الفرج قريب سيأتي،.لأنني بريئة.

ـ بريئة! بريئة من ماذا؟ كلامك يثير الرعب في قلبي هل تخفين شيئا عني؟

ـ لا أبدا ليس هناك شيء أخفيه.

اقتربت منها والخوف يتملكها وقالت: بلى. إنك تخفين شيئا خطيرا لذلك لا تريدين الزواج.

ـ هل تريدين أن تعرفي سبب رفضي للزواج؟ سأخبرك وأريح نفسي. إنني.. إني..

ـ إنك ماذا؟

ـ إنني أكره كل رجال العالم. لا أطيقهم ولا أطيق أن أكون يوما مع رجل تحت سقف واحد.

ـ لماذا هذا الكره للرجل يا غالية؟ هذه وجهة نظر المكبوتات والمريضات نفسيا.

ـ ربما، لكنني متيقنة من شيء واحد فقط وهو أن الرجل لا يرى أن المرأة إنسان مثله، يساويه في العقل والإحساس والشعور. يراها كائنا ضعيفا وآلة لإنجاب الأطفال وأنا لا أريد أن أكون بئر لذة وأقوم بمهمة النسل. إنني شخصية مستقلة بكياني لا تتأثر بغيرها ولا يهمني أن يُعجب بي الرجل. ليس لي إلا هدف واحد في هذه الحياة حاليا، وهو التحرر من كل القيود الزائفة وأن أصنع لنفسي كيانا مستقلا.

ـ ماذا تريدين؟

ـ أريد ن أكون حرة طليقة ومستقلة على الرغم من كل القيود والأعراف الاجتماعية التي تضعني دائما منذ كنت طفلة، في صراع دائم، مباشر وغير مباشر مع المدرسة والبيت والمجتمع.

ـ عن أي صراع تتكلمين؟

ـ يكفي أنهم يلقبونني متشائمة في المدرسة ومجنونة في البيت، وخارج البيت يقولون عني غريبة الأطوار.

ـ ماذا ستفعلين الآن؟ ألا تريدين أن تخرجي للضيوف وتجلسي معهم؟

ـ لا، ليس اليوم. الآن أريد أن أنام والصباح رباح.

ـ أي صباح وأي رباح... مازال الوقت مبكرا على النوم.

ـ إنني تعبة جدا وأريد أن أنام.

ـ كما تريدين يا أختي سأذهب لأجلس مع الضيوف نيابة عنك.

استلقت غالية على السرير تنظر إلى السقف محلّقة صوب الشرود، متخفية تحت مفرداتها التي تتضارب بقوة كيف قبلت أن ترجع ومعها شواطئها مسترخية لا حول لها ولا قوة. ماذا سأفعل؟ وأي مصير أحسن من عار يلحق بي وبالعائلة؟ هل يمكنني أن أتخلص من المختار هذا الطباخ الخجول؟ إن قبلت الزواج منه سيكشف أنني لست عذراء وأنتهي إلى عالم الأموات بكفن مدثر بالعار. اشتد الألم في رأسها وفي معدتها فأسرعت إلى ابتلاع قرصين من الدواء المسكن ولم تمر دقائق حتى أغمضت عينيها.

أشرق الصبح وأسدلت الشمس أشعتها الصباحية عبر نوافذ المنزل، استيقظت غالية على أغنية فيروز التي تنبعث من راديو المطبخ، ذكرها بصباح أيام الدراسة، زمن الطفولة، شعرت بالحنين إلى تلك الأيام لترجع طفلة صغيرة مرة ثانية وتبقى صغيرة لا يتقدم سنها لكي لا تُطلب للزواج. دخلت إلى المطبخ، فوجدت عمتها والخادمتان يهيئن الفطور.

ـ صباح الخير عمتي هل تحتاجين إلى مساعدة.

قالت العمة وهي تعجن الرغيف: مساعدتي أن تذهبي إلى الصالون وتجلسي مع الضيوف.

ـ حاضر يا عمتي سأذهب وأوقظ سلمى.

_ إن سلمى وأمك وزوجة الشنقيطي في الصالون.

ذهبت إلى الصالون وابتسامة عريضة على شفتيها، استقبلها الجميع بابتسامة فرحين بقدومها. سلمت عليهم بكل لباقة ثم جلست بجانب أختها. التفتت أمها إليها وعلى وجهها ابتسامة الرضا وقالت: اليوم سنسافر إلى السعيدية ونقضي فيها عطلة الأسبوع.

ـ فكرة جميلة يا أمي.

قال الأب: لا بد أن نعتني بضيوفنا أليس كذلك؟

ـ قالت زوجة الشنقيطي مبتسمة: نحن لسنا ضيوفا، نحن سنصبح عائلة واحدة أليس كذلك؟

أجابت غالية مبتسمة: طبعا نحن عائلة واحدة.

اقتربت منها سلمى، وهمست في أذنها مرة ثانية: هل جوابك هذا من الخطة أيضا.

نظرت إليها مبتسمة من غير أن تجيب عن سؤالها. كان سلطان منشغلا في النقاش حول الشعر والشعراء مع صديقه الشنقيطي، أما المختار فكان جالسا بالقرب منهما، أحيانا يستمع إليهما ويحرك رأسه منسجما وكأنه يشاركهما في الحديث، وأحيانا أخرى يسرق النظرات إليها. الغضب يغلو بركانا في داخلها، كيف سولت له نفسه أن يتقدم هو وأهله ليطلبني للزواج؟ لم يرني منذ كان عمري عشر سنوات. اجتمع الجميع حول مائدة الفطور، كان الأب سيطير من الفرح، من المؤكد أن الأم أخبرته استسلام غالية وموافقتها على الزواج من المختار. إن زواج غالية من المختار في نظره ستر لها والدواء الذي سيطفئ ذلك اللهيب المتوقد وتلك اللهفة لمتابعة السفر في الخارج. إن تزوجت بالمختار فلن يبق على عاتقه مسؤوليتها وستلحق بها سلمى بسرعة لا محالة. فالبنت مصيرها بيتها مع بعلها لأنها عار ولو كانت مريم العذراء. بعد تناول الفطور تأهبوا للذهاب إلى مدينة السعيدية. كان الأب يملك منزلا كبيرا يطل على البحر، هناك يقضون العطلة الصيفية وعطلة الربيع.

انطلقت سيارة سلطان وتبعتها سيارة الشنقيطي. طيلة الطريق كانت غالية مختفية خلف وجهها الحزين تنظر من النافدة إلى الطبيعة الخضراء تسألها عن طفولتها التي بكت نفسها بدموع سود، فأبعدتها تلك الدموع برفق إلى الأغاني والأناشيد الأندلسية التي كانوا يرددونها والمسابقات الشعرية التي كانوا يتسلون بها طيلة الطريق. تذكرت اليوم الذي حاولت فيه الانتحار عندما تقدم إليها ابن عمها للزواج. رفضته فغضب منها أبوها كثيرا وكاد أن يضربها لولا عمتها التي أنقذتها منه. طارت داخل غيمة سوداء حيث أسلوب التمييز الذي كان يسلكه أبوها، يفضل إخونها الذكور ويستوجب عليها هي وباقي أخواتها طاعتهم وخدمتهم عندما يطلبون شيئا. تذكرت اليوم الذي طلب منها أخوها الأكبر أن تحضر له كوبا من الماء، رفضت قائلة له أن الخادمة يمكنها أن تقوم بذلك بدلا منها. غضب وقال لها بعصبية: " أنت التي ستحضرينه وإلا … " فأجابته وإلا ماذا؟ فنهض من مكانه وضربها وعندما اشتكت لأبيها فعلته أجابها قائلا: " يا ابنتي إن الأخ الأكبر بمثابة الأب ويجب عليك طاعته". لكنني يا أبي مشغولة بتحضير الامتحان وهناك أربع خادمات في البيت. أجابها: " إن طاعة أخيك واحترامه أهم من الامتحان، فهيا اذهبي واطلبي منه أن يسامحك." كيف يسامحني وأنا لم أرتكب أي خطأ معه؟ إن أردت الرضا وكسب الآخرة عليك أن تطلبي السّماح من أخيك. كانت دائما تتفوق على أخيها الكبير، لكن الهدايا والملابس الفخمة تشترى له والنقود تعطى له يوميا أما هي فإن أرادت أن تشتري كتابا فلابد لها من مقدمات وسبب معقول لكي تحصل عليه. تمنت أن تكون ولدا كي يعاملها أبوها وكذلك أمها كما يعاملان إخوتها الذكور وكي لا تشعر بالمهانة والذل، خاصة عندما تنهرها أمها قائلة: أنت يا بنت! شرف البنت ليس كشرف الولد. إن شرف البنت كالزجاج عندما يتكسر لا يصلح. انفجرت مرة غاضبة متمردة على تصرّف والدها نحوها وعلى أسلوبه الديكتاتوري غير المنصف الذي أدى بأمها أن تأخذها إلى طبيب نفساني أقر أن علاجها سيستغرق أشهرا طويلة. فأصبحت غالية تذهب إليه مرغمة مرة في الأسبوع، تحمل أنين قلبها في طبق من الصدى داخل جدران العيادة الكئيبة وهو يسألها أسئلة غريبة وغبية، لماذا تحسد أخاها ولماذا تتمنى أن تكون ذكرا، وعندما تجيبه بأن أباها يفضل إخوتها الذكور رغم تفوّقها عليهم لذلك تتمنى أن تكون ذكرا. طلب منها أن تسترجع الماضي وأن تتذكر طفولتها. لم تستطع أن تحدثه عن سرها الخطير لأنها تخاف أن يبوح به لوالدها. قالت له بأن طفولتها كانت عادية. سألها: هل تحسّ أن أخاها يملك عضو الذكر وهي لا تملكه؟ ففوجئت بذلك السؤال ورغم أنها كانت خجولة، انفجرت قائلة له بصوت أقرب من الصراخ وهي ترجف من شدة الغضب: " ما هذه الوقاحة يا دكتور وما هذا السؤال السخيف؟ لماذا سأحسده؟ إن الخرقة التي أستعملها أثناء الحيض تعيقني فكيف لو كان لي عضو ذكر وأنا أنثى؟ قالت كلا مها وخرجت من مكتبه فورا لكنها فوجئت بممرضين طويلين عريضي المنكبين كالعمالقة أمسكا بها وأدخلاها بالقوة إلى مكتب الطبيب ثم وضعاها على السرير وهي تضرب برجليها محاولة الإفلات منهما وتصرخ بصوت عال أن يتركاها لتذهب إلى حال سبيلها لكنهما أمسكا رجليها ويديها بكل ما لديهم من قوة لكي لا تتحرك، فتقدم الطبيب نحوها وفي يده حقنة، شكها في عضدها فلم تمر دقائق قليلة حتى شعرت بارتخاء شديد. اقترب منها الدكتور وفي يده مسودة وقلم. جلس على الكرسي بالقرب من السرير ثم قال:

ـ غالية، لماذا تحسدين إخوتك الذكور؟

_ لأنهم متسلطون، متجبرون، ظالمون أنانيون؟

ـ هل تتمنين أن تكوني ذكرا؟

ـ أتمنى أن تكون لدي الحرية التي يتمتع بها الذكور في مجتمعنا.

ـ لقد قالت لي أمك بأنك تتشبهين بالأولاد في لبسك.

ـ هذا غير صحيح أحب فقط ارتداء البنطلون بدل الفستان لأنني أجده مريحا وأسهل في الحركة.

ـ لماذا لا تهتمين بمظهرك كباقي إخوتك.

ـ من قال لك هذا، أمي؟ إنها تريدني أن أتزوج بسرعة وأنا لن أعطيها تلك الفرصة.

ـ أمك تريدك أن تكوني فتاة عادية.

ـ أمي تريدني أن أتزوج في أقرب وقت ممكن لكي ترتاح من عبئي ولو أنني لا أسبب لهم أي شيء يثير الإزعاج. أخبر أمي أن المطالعة والدراسة هي الحلى التي أتزين بها وأغذي بها عقلي، أما جسمي فلن أجعله أداة لإغراء الذكر لأنه ملكي ولن أسمح لأحد أن يشاركني فيه ولو بالنظر إليه، إلا إذا رغبت أنا في ذلك.

ـ هل تعتقدين أن هذا تصرف طبيعي لفتاة في سنك؟

ـ هل تصرفي هذا غير طبيعي؟ إن أخواتي اللواتي كان شغلهن الشاغل مظهرهن، قد تزوجن بسرعة وأنا لا أريد أن أتزوج.

ـ لماذا لا تريدين الزواج؟ هل حدث لك شيء يجعلك تنفرين من الزواج؟

ـ لأنني أريد أن أكمل دراستي.

ـ وبعد الدراسة…

ـ بعدها أفكر في الزواج.

ـ بعدها يكون قد فاتك القطار.

ـ لا يهمني، لأن سعادتي هي الدراسة ونهايتي و شقائي هو الزواج.

ـ لماذا تقولين نهايتك الزواج؟

ـ لأنه سينهي حريتي.

ـ إن الزواج سنة الله في خلقه، وهو ستر للمرأة.

ـ إن ستر المرأة هي ثقافتها وما تحصل عليه من علم وأخلاق.

ـ أنا أخالفك الرأي.

ـ كل حر في رأيه، وهذا رأيي.

ـ اسمعي يا غالية، المنطق والشرع يقول أن المرأة خلقت للبيت وللإنجاب، للرضاعة وتربية الأطفال. فمهما درست فمصيرها الزواج.

ـ لكنني أنا لا أريد أن أتزوج ولا المكوث في البيت.

ـ ماذا تريدين؟

ـ أريد أن أغادرك في الحال.

ـ لا تستطيعين الآن مغادرة العيادة، لأنك تحت تخدير وتحتاجين للراحة بعد هذه الجلسة.

لم يكمل كلامه حتى أغمضت عينيها ونامت داخل مستنقع ميت غارقة في بعثرتها المعتادة وعندما استيقظت كانت أمها قد حضرت لتأخذها إلى البيت. طيلة السفر، كان شريط ذكريات الماضي يتسرب إلى عقلها محدثا صورا مجسدة وكأنها تعيشها مرة ثانية. لم تشعر بطول الطريق ولا أذناها سمعت الحوار الذي كان يجري بين والديها..

لامارا 14-11-13 10:12 PM

الفصل الحادي عشر - الجزء 1



جحيم



توقفت السيارتان واحتشدت العائلتان أمام البيت معلنتين بهجتهما والأب يرحب مرة ثانية بعائلة الشنقيطي. رغم قلقها كان البيت الصيفي يشعرها بالاطمئنان، تنعشه رائحة الآجر القديم ورائحة البحر هذا الوحيد الذي يخرجها من وحدتها ويسقط عنها قناع الغضب ويمزق أغشية صمتها. تبكي بحرية وتخط على شاطئه ما يخالج نفسها، ذكرياتها أحلامها وأوهانها. يبادلها الحديث بأمواجه التي كانت كلما تتكسر على الشاطىء تزرع في روحها الآمال وفي قلبها القوة والصبر. توجه الجميع إلى الصالون كان والدها مشغولا في الحديث مع الشنقيطي، اقتربت منه وهمست له في أذنه أن يأذن لها بالخروج إلى البحر مع شقيقتها سلمى. وافق بشرط أن يذهب معهما المختار الذي نهض بسرعة للخروج مع زوجة المستقبل. انطلقا في فضاء ذلك الشاطئ الطويل يمشون في صمت وسط زرقة السماء فترة طويلة إلى أن كسرت ذلك السكون وقالت موجهة كلامها للمختار: إنني فرحة جدا لهذه الفرصة التي أتيحت لنا أن نتكلم معا على انفراد وبعيدا عن والدينا.

ارتعشت شفتاه ثم بعثرتهما ابتسامة خجلة وقال: ماذا هنالك يا غالية؟

تأملته ببصر متفحص وقالت: إن والديك يريدان أن تتزوجني أليس كذلك؟

رفع عينيه بنظرة دافئة وابتسم عن رضا وقال: بلى، منذ تخرجت من المدرسة الفندقية واستلمت الوظيفة في فندق الأطلس في أغادير وأمي تحاول جهدها تزويجي.

قالت وهي تبتعد قليلا عنه: ألا يمكنك أن تختار شريكة حياتك بنفسك؟

رفع بصرا مشوشا والتفت إليها من خلال عينين قلقتين وقال: لم تترك لي الفرصة، كل يوم تأتي بصور كثيرة لبنات الجيران وبنات أعمامي وعماتي ولم أحب واحدة منهن.

ابتسمت بمرارة وقلت: ولماذا أمك تريد تزويجك بهذه السرعة؟

قال وهو يمسح براحة يده خطوط العرق المنزلقة على وجهه: لقد كانت لي علاقة بفتاة معي في المدرسة الفندقية، أحببتها وأردت الزواج منها لكن أمي لم تحبها. هز رأسه ساخرا، قالت بأن أظافرها طويلة ولا تصلح أن تكون ربة البيت. قلت لها إن كان ولا بد من الزواج فأنا أختار غالية ابنة القاضي سلطان. التفت إلى سلمى واحمر وجهه، خفض عينيه وقال لقد أحببتك يوم رأيت صورتك في الجريدة وقرأت فيها بأنك كنت من الطلبة العشرة الفائزين في المسابقة التي نظمها المركز الثقافي الأمريكي وبأنك ستدرسين على حساب المركز في أمريكا.

قالت بهدوء مصطنع: أنا لا أسمي هذا حبا بل هو نوع من الإعجاب.

ردّ وهو يخفض بصره وكأنه يقر بتلك الحقيقة: إنه إعجاب وحب كما أنك من عائلة محترمة ومثقفة ولها كيانها ومركزها في البلد.

تأملته بعطف وقالت: إنك ستتزوجني أنا وليس عائلتي هل سألت نفسك يوما بأنني سأقبلك زوجا؟

ضحك برنة صافية وقال: في الحقيقة لا أظن أنك سترفضينني زوجا لك.

سكتت هنيهة على مضض وأدارت بصرها إلى البحر تتأمل أمواجه ثم السماء البعيدة التي بدت كئيبة بعد أن تناثرت فيها الغيوم الدكناء، كانت سلمى ترتجف خوفا من أن يحدث سوء تفاهم بينهما وبعد لحظة من التفكير، دنت منه حتى صارت قامتها قريبة منه وقالت بهدوء: إنني أتكلم معك بكل انفتاح وصراحة لأنك شاب واعٍ ومثقف وأعرف بأنك ستفهمني وستقدر مشاعري وإحساسي. إنني لا أفكر في الزواج حاليا وأملي الوحيد هو إكمال دراستي.

قال وهو يبصم نظراته المشوشة على وجهها الذي بدا حزينا: لكن زواجنا لن يقف عثرة في طريق متابعة دراستك.

لكنني لا أحبك، كيف لإنسان أن يتزوج من دون أن يكن للطرف الآخر حبا أو مودة؟

تبددت كلماته في الفراغ وقال: الحب يأتي بعد الزواج.

ـ الألفة والعشرة التي تأتي بعد الزواج وليس الحب. أنا لم أرفض الزواج منك شخصيا إلا أنه أمامي طريق طويل وأريد أن أدرس في الخارج وليس في المغرب.

ـ ولماذا الخارج أليس عندنا جامعات؟

بصمت نظرة مشوشة على أشباح أفكاره المغلقة وقالت: يجب أن تفهمني وتتقبل رأيي ووجهة نظري بروح رياضية فأنا لن أقبل الزواج بهذا الأسلوب.

احمر وجهه وقال بخجل وارتباك: وما العمل الآن؟

مدت يدها وتناولت يده ولثمتها طويلا وقالت: أرجوك ساعدني فأنا لست مستعدة للزواج الآن.

تأمل وجهها المحتقن ونظراتها الحزينة التي تخفي غصة سرها وقال: سأساعدك.

قالت سلمى على عجل وكأنها استيقظت من كابوس مزعج: كيف ستساعد أختي؟

قال بكبرياء وعزة نفس مظهرا لهما ثقته بنفسه: لا عليكما هيا بنا إلى المنزل لقد حان وقت الغذاء.

غادرها الحزن وقضت أياما جميلة مع أهلها وخصوصا أختها والمختار، أيام مرت بهدوء وسجلت ذكريات متدثرة بنسيم البحر التي نفضت غبار أرقها وألبستها سكينة في روحها اليابسة وأعادت لها اخضرارها بعدما كانت بلون الموت، أيام بعثت من شاطئها على أجنحة الرمال رائحة الأمل، وألحان تشدو لتراقصها وتراقص قلب مدينة السعيدية المجلل بالاخضرار. رجعت عائلتها وعائلة الشنقيطي إلى مدينة فاس حاملين معهم مزيجا من السعادة والراحة ليضعوا غالية في قفصهم الذهبي، وهي التي بنت عشها في الأعالي، ولينعموا عليها بعدم التحليق، وليغلقوا عليها الباب مع عريسها المختار الذي سيمنحها السعادة الحقيقية ويضع في قلبها رواية حب، وستزغرد كل نساء الحي وتدق الطبول على إيقاع الشرف والطهارة وتعزف المزامير لحن قصة غالية وسرها الخطير. رن جرس التلفون رفع الأب السماعة.

ـ ألو. من؟

ـ مدير فندق الأطلس. أريد التحدث مع المختار.

ـ لحظة من فضلك.

مدّ الأب سماعة التلفون إلى المختار الذي شرع في الحديث مع مديره ثم أقفل السماعة بعصبية.

قال الشنقيطي: ما الأمر يا بني؟

أسند المختار ظهره على الأريكة وبدأ يشعر كما لو أن يدا تضغط على رقبته وتخنقها، لم يدر كيف سينطق تلك الكلمات، قال وهو يحاول أن يبعد عن وجهه آثار القلق: إنه مدير الفندق يا أبي لقد طردني من الوظيفة.

اقتربت منه أمه وهي مأسورة بالكآبة مطوقة بالحزن والغضب وقالت مستغربة: لماذا يطردك من العمل.

زفر بعمق: إنها قصة طويلة يا أمي.

سأله أبوه بهمس متوسل والحسرة تلتف خلف وجهه الأسمر: ماذا فعلت يا ابني؟

صاح بصوت يقظ: من يتكلم عن الحق في زماننا يداس عليه بالأقدام.

قال الأب سلطان: ماذا حصل؟ ما هو السبب الذي جعله يطردك ربما أساعدك.

زفر ثانية وهو يجر أنفاسه المنقبضة وقال: رأيت بأم عيني فسادا كثيرا في عملي لا يمكن للمرء أن يسكت عليه، وعندما اشتكيت للمدير قال لي "ماَ شي شٌغْلْك." من تلك الفترة ظل متربصا بي يحاول طردي .

تكهرب الجو وحزن والد الشنقيطي وأٌغْلِقَ موضوع الزواج وغادرت العائلة في نفس اليوم إلى مدينة أغادير. بعد يوم واحد من ذهابهم، رن جرس التلفون. رفعت الأم السماعة: ألو، من يتكلم؟

ـ أنا فاطمة زميلة غالية هل يمكنني أن أتكلم معها؟

مدت الأم السماعة إلى غالية وظلت واقفة بالقرب منها.

ـ ألو، غالية دقيقة من فضلك هناك شخص يريد التحدث إليك.

ـ أهلا يا غالية أنا المختار أريد فقط أن أقول لك بأنني لم أطرد من العمل ولكنني فقط لفقت تلك القصة لكي أفسد مشروع الزواج.

قالت غالية بعينين مبتسمتين بحذر: وماذا عن والديك يا فاطمة؟

ـ لقد قلت لهم بأنك متكبرة، أنانية وطلباتك كثيرة ولا تحبين شغل البيت ولا تعرفين الطبخ.

كانت تهز رأسها هزات سريعة متتالية وردّت على عجل: ألف شكر لك يا فاطمة هذا جميل لن أنساه أبدا وأتمنى لك التوفيق في كل أمورك. مع السلامة.

اقتربت الأم وقالت بصوت مقرور: من فاطمة؟

قالت غالية بارتباك: إنها زميلة في الجامعة؟

صمتت الأم قليلا ثم أردفت: أعرف زميلة في الجامعة لكن ماذا تريد؟

ردت غالية متلعثمة: تريد أن تبيع بعض الكتب فسألتني إن كنت مهتمة بشرائها.

غادرت الأم الصالون من غير أن تقول شيئا، حزينة على فقدان المختار وظيفته وفشل "مسألة الزواج". ذلك الفرح وتلك الابتسامة التي كانت مرسومة على وجهها رحلت مع عائلة الشنقيطي. المختار الذي كان سيكون زوجا لغالية وينسيها السفر إلى الخارج فقد وظيفته أما غالية فقد شعت الحياة في روحها وتسرب بصيص من الأمل إلى نفسها من جديد. اعتكفت في غرفتها تترقب موعد إعلان نتيجة الامتحان، متمسكة بالأمل القادم من وهم غياهب المجهول، عله يسكت أنين سرها الذي يلتف خلف أجلها، متسائلة إن كان أبوها سيسمح لها بالسفر مرة ثانية إلى أمريكا وهي التي أصبحت لينة، مطيعة، لن ترفض عريسا إن تقدم لها بعدما وافقت على المختار بضغط وترهيب وتهديد بالسخط وجهنم. ما زالت تزحف بخيالها الذي فسخه الزمن، قدمت سلمى وهي تلهث قائلة: غالية إنها كارثة. كارثة كبرى!

وقفت من مكانها ترجف كالملسوع وقلبها يدق بسرعة قبل أن تعرف ما الأمر.

قالت سلمى وهي تقترب منها: لقد سمعت أبي يقول لأمي:" لابد أن نضرب الحديد وهو ساخن".

قالت بانفعال: أي حديد سيضربون؟

قالت سلمى بصوت قلق: قال لها لابد أن نجد عريسا لغالية في أقرب وقت لكي لا تفلت من أيدينا، لا بد أن نضع حدا لفكرة السفر لأنه لن يجلب لنا إلا الخزي والعار.

استجمعت غالية قوتها مرتدية عدة حربها معلنة مقاومتها، أطبقت فكيها وصكّت على أسنانها بعناد واضح: وماذا قالت أمي؟

قالت سلمى متلعثمة: إنها موافقة على رأيه لكنها حائرة في إيجاد العريس المناسب لك. لا أعرف ماذا سيقرران إلا أنهما لن يوافقا إطلاقا على فكرة سفرك إلى الخارج.

صاحت وقد استبد بها الغضب: كيف سأقنعهم بأنني عدلت عن فكرة السفر وأن يكفا عن التفكير في تزويجي. إنني لا أريد أن أتزوج! لا أريد أن أتزوج!

قالت سلمى: هل عدلت فعلا عن فكرة السفر؟

جرّت أنفاسها المنقبضة على التنشق وقالت: بالطبع لا. لن أدخل إلى ذلك القفص الحديدي إنه قبري يا سلمى.

أجفلت سلمى وارتدت إلى الوراء قليلا ووضعت يدها على فمها كأنها تكتم صرخة أوشكت أن تنفلت: ماذا تقصدين يا غالية؟ إنك ترعبينني بألغازك. تتكلمين عن الزواج وكأنه سيكون سببا لنهاية حياتك.

أشاحت غالية وجهها عن غضب وقالت: نعم، إنه قبر سأحط فيه وسَتحَطٌّ علي أكوام من التراب.

ـ لماذا تتكلمين بهذا الكلام المشئوم؟ بالله عليك خبريني ماذا جرى لك هل تعرضت لشيء وأنا لا أعلم هل فقدت..

قالت غالية وبصرها مشتعل بأجيج يشبه الجحيم: لا، لا تكملي كلامك لم أفقد شيئاً لكن الزواج هو الذي سينٌفْقِدني كل شيء وأهم شيء، حياتي.

قالت سلمى وهي تقترب منها: لماذا؟ إن الزواج ليس سجنا ولا قبرا. إنه عش السعادة وفرصة لبناء العائلة.

وضعت غالية كفها على وجهها تبكي في صمت متحسرة على نفسها التي لا تنظر للحياة و للزواج بالطريقة التي تنظر بها أختها وأغلب فتيات العالم، متحسرة على قدرها الذي جعل منها غولاً يكره الزواج ويكره الرجال كما جعلها تكره نفسها وتتمنى لها الموت. لامستها سلمى بذراعيها تحاول تهدئتها وقالت:

ـ إن الزواج ليس بتلك الصورة المتشائمة التي صورتها بخيالك، إنه السعادة كل السعادة.

شعرت غالية في تلك اللحظة بالنفور والكره من أختها، ودفعتها بكل قوتها بعيدا عنها حتى وقعت على الأرض وقالت بصوت مبحوح: هل أنت معهم أو معي؟ إن أردت الزواج، فتزوجي. أنت حرة، لكن اتركوني في حالي.

نهضت سلمى من الأرض فزعة كأن بصرها وقع على منظر شنيع، اقتربت منها وقالت: أنا معك، لكنني خائفة عليك من أفكارك الجنونية.

نار تأججت بداخل غالية وبعثرت ما تبقى من أوراقها الخريفية، أحست بقوة بالغة تدفعها للبطش بأختها، بالرغبة في قتل كل بنات العالم اللواتي يفتخرن بتقديم تلك البقع الحمراء في منديل أبيض يوم زفافهن، وقتل كل رجال العالم الذين يستمتعون بنكاح العذراوات من أجل ذلك اللون الأحمر المستتر تحت اغتصاب بتلك الليلة وصوت الغناء ولعلعة الزغاريد تلف المكان ليحجب صراخ العروس الذي يدوي حدّ الصمم. جسمها كسعف النخيل يتلوى فوق خارطة روحها المبعثرة. تقدمت نحو أختها لتطوق عنقها وعوض ما تبطش بها، انهالت على شعرها تنتفه وتضرب رأسها بالأرض وتلطم وجهها بكل ما لديها من قوة وأختها تصرخ بصوت عال محاولة تهدأتها، لكنها كانت كالثورالهائج تمارس عنفها الرعدي وقسوتها القسرية، تلطم وجهها بكل قوة ومن دون توقف إلى أن سقطت على الأرض كورقة خريفية يعبث بها الريح الصاخب بالصمت فاحترقت في غفوتها كما احترق معها جو الغرفة، وعندما فتحت عينيها وجدت أمها وعمتها وسلمى جالسات بجانب السرير حزينات، يائسات من حالها. نطقن بصوت واحد:

_ حمد لله على سلامتك يا غالية؟

هزّت رأسها بحركة متوترة وقالت بصوت مبحوح كأنه ألم الاحتضار: ماذا حصل؟

قالت سلمى مجيبة بسرعة: لا شيء، لا شيء يا غالية.

قالت الأم بحزن وغضب: ماذا ينقصك يا غالية لديك كل شيء. لماذا تعذبين نفسك وتعذبينا معك؟

قالت العمة صفية: ليس الآن وقت العتاب المهم أن تقوم غالية بالسلامة.

عاودتها تلك النظرة العدوانية وهي تلتقط بأذنين باردتين أصواتهنّ التي كانت مبهمة مثل أزيز النحل. ألم غريب يتدحرج رويدا في جسدها المتشنج ثم يسري في أوصالها، ودوار كغشاء ضبابي يحجب بصرها. صمتت في خوف وهي تزحف بعيدا بأفكارها متسائلة عن تلك العاصفة التي أثارت غضب أهلها وأنهكت روحها. دخل عليهن الأب وجلس بجانب غالية في صمت، وضع يده اليمنى على جبينها ثم شرع في تلاوة آيات من القرآن ليستخرج منها الأرواح الشريرة التي دخلتها وحكمت على عذريتها بالأزل المقدس، وبعد ما انتهى أومأ برأسه للأم وانصرف. لحقت به على عجل وعندما صارت قريبة منه أمسك يدها وضغط على معصمها قليلا وقال فيما يشبه الهمس: بدرية، أريد التحدث إليك.

في تلك الغرفة القلقة ومن خلف متاهات الصمت المفتعل، أمسكت العمة صفية يد غالية وبدأت تقبلها وتبكي: لا تؤذي نفسك يا غالية إن قلبي يتقطع عندما أراك بهذه الحال.

قالت غالية بصوت مبحوح: لا تقلقي يا عمتي، أعدك بأن لا أسبب لكم القلق.

همست سلمى في أذن عمتها فخرجت تاركة روح غالية بين تلك الجدران الصماء التي أجهضت حلمها ومنحتها أجنحة متكسرة تتعثر تائهة بالموت في لحظات ثملة. استلقت سلمى بجانبها تداعب شعرها في حزن فجأة شهقت باكية، سامحيني يا أختي، أنا السبب في كل ما جرى لك. أنا التي ... وضعت غالية سبابتها على شفتيها، لا تقولي شيئا يا سلمى، أنت روحي، تلك الروح المتشحة بالحزن علي، المشغولة في همي والمرتبكة لقلقي لكن لن أسمح لك إن لم تخبريني بأي شيء يدور في هذا البيت حولي.

قالت سلمى ومازالت آثار الخوف مرتسمة على وجهها: لقد أخبرتك وحصل ما حصل.

ـ ماذا حصل؟

لطمت حالك بكل قوة إلى أن غبت عن الوعي وتلفن أبي لصديقه لكي يكشف عنك.

قالت بصوت واهن: الدكتور المراني، ذلك الطبيب المغفل!

ـ لقد أعطاك حقنة مهدئة وقال لأبي إن عاودتك النوبة لا بد من إرسالك إلى المستشفى.

رفعت رأسها عن الوسادة قليلا وقالت في غضب: يريدون أن يجعلوا مني مجنونة.



تحسنت صحة غالية كما تغير أسلوب والدها القمعي، لكن خطة زواجها ما زالت قائمة فذلك في نظرهم هو الحل لتوتر أعصابها ولكي تعدل عن التفكير في السفر وإيذاء نفسها وتعذيبهم بتصرفها العنيف الرافض. كانت لا تبرح غرفتها، هناك ترتدي وحدتها وتتدثر الحزن خفاء وتغترف البحر دموعا علها تغسل عن روحها ذلك السر العملاق القابع على صهوة موبوءة بالموت، منزوية كعادتها تكتب قصيدة ليلها وسر ذلك الوجع المتجمد في أنفاسها، قلمها يجري بين الأوراق والسطور بعصبية ودموعها تنهمر كالشلال، تلملم وحدتها داخل حكاية ستنتهي في العالم الآخر وحينما استفاقت من عاصفة صمتها لتلامس الواقع كانت أمها واقفة وهي تنظر إليها شزرا:

ـ هل تحبين الدموع؟ أين سلمى؟ جهزا نفسيكما إننا مدعوون للعشاء عند عائلة السعداوي.

ساور غالية شعور غامض تلك اللحظة وقالت:

_ من السعداوي؟

أجابت الأم بامتعاض

_ من غيره! المستشار صديق أبيك.

ـ هل هم الذين وجهوا إلينا الدعوة أم نحن الذين سنذهب عندهم من تلقاء أنفسنا؟

لم تعقب الأم على سؤالها ولكنها اكتفت قائلة:

_ ستجهزان نفسيكما، لديكما ساعة واحدة فقط.

غادرت الغرفة بسرعة وتركتها معلقة نظراتها المشوشة على كابوس الباب المغلق والجدران الواقفة في ظلام ذلك الصباح. ما زالت الأسئلة تقع على رأسها حتى أقبلت سلمى.

ـ ما بك يا غالية؟ ما بك واجمة؟

ـ لا شيء الخير كل الخير سنذهب اليوم لزيارة السعداوي.

ـ أعرف ذلك لذلك جئت لكي أهيئ نفسي.

قالت غالية وهي مأخوذة بالاستغراب: إنني أحس أن وراء هذه الزيارة شيئا.

قالت سلمى بهدوء قاتل: شيء مثل ماذا؟

ـ لا أعرف لكن أمي تدبر شيئا.

قالت سلمى: هيا بسرعة يا غالية، يجب أن نلبس ونجهز أنفسنا لكي لا تغضب أمي؟

ـ تغضب! نحن نسعى جهدنا لكي لا نغضبها وهي لا تراعي مشاعرنا ولا رأينا.

قالت سلمى وهي تنظر إليها بعينين قلقتين: من فضلك، دعي هذه الليلة تمرّ على خير.

قالت غالية باندهاش: هل أنا التي أسبب الشقاء والحزن في المنزل؟

بلعت سلمى ريقها وقالت على عجل: من قال هذا يا أختي أنت تعرفين أبي وأمي وتعرفين كيف يفكران، ألست أنت التي قلت ستنهجين سياسة الحنكة والذكاء ولن تدعي أحدا يؤثر عليك؟ ألم تتخلصي من المختار بالحيلة؟

ـ لك الحق يا سلمى، لنهيئ حالنا حتى لا نغضبها.



السعداوي مستشار في المحكمة الإستئنافية، زوجته معلمة في مدرسة ابتدائية، لهما أربعة أولاد وبنت واحدة كلهم غير متزوجين. لم تكن عائلة غالية تتبادل معهم الزيارات إلا في المناسبات والأعياد. انطلقت السيارة داخل شوارع مدينة فاس الجديدة، ومن هناك إلى الحي الراقي بالمدينة إلى أن توقفت السيارة أمام فيلا السعداوي التي كان يحيطها سور كبير داخله حديقة ترتدي حلة فضفاضة من الاخضرار. رنّ الأب الجرس وما هي إلا ثوان حتى قدمت الخادمة وفتحت الباب.

ـ أهلا، وسهلا تفضلوا بالدخول إن السيدة عبلة والسيد السعداوي ينتظرانكم.

رافقتهم الخادمة إلى الصالون وبعد لحظات دخلت السيدة عبلة ترحب فرحة بقدومهم، وما إن جلست قرب الأم حتى دخل السعداوي وهو يتبختر في عباية بيضاء معتذرا عن تأخّره، ثم دخلت الخادمة وفي يدها صينية فضية عليها إبريق الشاي المنعنع، وضعته على المائدة وجاءت أخرى بصينية فيها مختلف أنواع الحلوى والمكسرات. تهافتت المواضيع في فضاء ذلك السقف المنقوش حول التعليم والقانون الجديد الذي ينص على عدم ضرب التلاميذ وذلك في نظر الأم بدرية يجعل التلاميذ يتقاعسون في الدراسة ويزيد شغبهم ثم تطرق الأب سلطان إلى قضايا الطلاق والإرث وقضية البوليزاريو والفساد الأخلاقي المنتشر بسبب السواح والمستشار السعداوي يوافقه أحيانا وأحيانا أخرى يجادله أو ينتقده. كل قضايا المجتمع طرحت في ذلك المساء للمناقشة في آن واحد وظلت تدور في حلقة مفرغة في فضاء ذلك الصالون الواسع لتبعث في النفس القلق المستديم. دخلت الخادمة ووشوشت في أذن السيدة عبلة ثم انصرفت، وبعد خمس دقائق نهضت السيدة من مكانها وطلبت من عائلة سلطان أن تتفضل إلى حديقة الفيلا لشرب القهوة. شعرت غالية بالملل والضجر، التفتت إلى سلمى التي ردت عليها بلغة العيون، الشيء الذي أثار انتباه السيدة عبلة، التفتت إلى غالية وامتلأ وجهها ابتسامة عذبة صافية وقالت:

_ هل ضجرتما من الجلوس لوحدكما ثم أضافت موجهة الكلام للأم بدرية، ما شاء الله بناتك صارتا عرائس.

ابتسمت الأم وقالت: تزوجت منى والعنود والدور على غالية وسلمى.

قالت السيدة عبلة وهي تنظر إلى غالية وإلى سلمى وتبتسم: العرسان موجودون فمن في هذا الزمن يجد بنات عائلة يتحلين بكل الصفات، جمال وحسب ونسب ثم التفتت إلى غالية وقالت: لماذا لا تأكلين يا عروس؟

تجاهلت غالية سؤالها وقالت بصوت يفصح عن امتعاض: أين ابنتك زهراء؟

أجابت الأم بدرية: زهراء تزوجت منذ سنتين وأصبح لديها توأمان إنها تسكن في مدينة مكناس مع زوجها.

قالت غالية مندهشة: لقد كانت ذكية جدا وتنجح كل سنة.

قالت السيدة عبلة بابتسامة: وماذا بعد النجاح، البنت مصيرها الزواج وتربية الأولاد تربية حسنة.

قالت غالية: فلماذا تدرس الفتاة ما دامت ستقعد في البيت؟

قالت الأم بدرية مرتبكة: يا ابنتي تتعلم الفتاة لكي تكون ربة بيت مثقفة وليست زوجة جاهلة.

نظرت الأم إلى غالية بعينين يتطاير منها الشرر خوفا من أن تٌكَوِّنٌ السيدة عبلة صورة عن غالية غير التي تريدها لأحد أبنائها. كما أن سلمى كانت تضغط على رجلي أختها بقدمها لكي لا تتمادى في حديثها الذي لا يروق لأحد فالتزمت غالية الصمت. دخل أحد أبناء السعداوي الذي بدا اندهاشه لرؤية عائلة سلطان:

_ هذه مفاجأة حلوة أن تأتينا يا عمي مع عائلتك لم نركم منذ زمن بعيد؟

قال السعداوي موجها كلامه لابنه: سلم على الأستاذة بدرية والعروسين غالية وسلمى.

قالت السيدة عبلة موجهة كلامها للأم بدرية: ابني عماد يعمل مديرا في البنك. إيهاب موظف بمديرية الأمن العام وهشام أستاذ في الجامعة. تعبت معهم وتعبت من عنادهم، لا أحد فيهم يفكر في الزواج ثم أضافت وعلى وجهها شيء من الحزن، كل واحد منهم يقول لي بأنه لم يجد الفتاة التي تستحق أن تكون زوجا له. هادوا وْلَادْ اليٌومْ ما حْدْ يْعْرْفْ لِيهٌمْ طْرِيقْ.

التفتت غالية إلى سلمى وهمست في أذنها بصوت منخفض: أتعجب كيف يرغم الوالدان البنات على الزواج ويصدرونهن إلى بيوت أزواجهن لكن الشباب لهم حق الاختيار ولا أحد يرغمهم على الزواج."

نظرت سلمى إليها وقالت: دعيني من فلسفتك الآن.

حان وقت العشاء، التف الجميع حول المائدة وأقبل أولاد السعداوي الأربعة. كان السعداوي ينظر إليهم بافتخار ويسرق النظر إلى غالية. دخلت خادمتان وفي يد إحداهما صحن كبير من فضة عليه نصف خروف مشوي، والثانية تجر عربة صغيرة بها أنواع العصير والثالثة في يدها طبق فضي فيه الخبز الطازج الساخن. ثم بدأت تنهال على المائدة أطباق أخرى من مختلف أصناف الطعام المغربي.

قالت الأم بدرية: لماذا كل هذا الطعام؟

قال السعداوي: هذا يوم كبير بقدومكم عندنا.

قال الأب سلطان: لابد أن تشرفونا قريبا حتى ننتقم من كركم بواحد مثله.

رد عليه السعداوي مبتسما وفي نفس الوقت ينظر إلى ابنه الأكبر وقال: سنزوركم قريبا جدا إن شاء الله.

كانت السيدة عبلة تطيل النظر إلى غالية وتبتسم والأم بدرية تنظر إلى ابنتها تارة ثم تنظر إلى السيدة عبلة تارة أخرى وتبتسم وكأنها تقول لها ما رأيك في هذه السلعة، أما عماد الابن الكبير فلم يزح عينيه عنها وكأن تلك الدعوة كانت مدبرة من قبل. ارتبكت وانسدت شهيتها أكثر مما هي مسدودة. نظر إليها عماد وقال:

ـ لماذا لا تأكلين يا غالية ألم يعجبك الأكل؟

قالت بتمتمة خافتة تفصح عن رغبة في تجاهله: بلى، إن الأكل طيب ولذيذ جدا.

هز رأسه مبتسما وقال لها: لقد سمعت أنك درست في أمريكا، كيف هو التعليم هناك؟

قالت مثرثرة: يتميز نظام التعليم هناك بتعدد الخيارات الدراسية المتاحة للطالب لأن ينخرط بها بما بتناسب مع رغباته وميوله الشخصية.

قال إيهاب: هل هناك فرص للعمل؟

قالت: حسب مؤهلات الفرد وشهاداته وخبراته، لكن بالنسبة للعرب فلهم فرص الترجمة.

قال عماد: كيف تعرفت على العائلة الأمريكية؟

تضايقت من أسئلتهم المتلاحقة وكأنهم بذلك يحققون معها، تململت قليلا في مقعدها وتنحنحت ثم قالت بصوت متماسك: تعرفت عليها عن طريق المركز الثقافي الأمريكي.

قال إيهاب: إن الأمريكيين متحررون إلى درجة الشذوذ.

التفتت إليه وقالت مندهشة: ماذا تعني؟

قال: إن منبع الفساد والانحلال الخلقي في أمريكا.

قال له الأب سلطان: لله درك يا ابني، قل لها، فهّمها، أمريكا بالنسبة لها هي العالم المثالي.

احمر وجهها خجلا، لكن خجلها لن يٌعْجِزْها عن الإجابة والدفاع عن نفسها. التفتت إلى إيهاب شزرا متجاهلة قول أبيها وقد أخذ جسدها يهتز بارتعاش الغضب وبدأت الكلمات تتطاير من فمها المرتجف: أنا لا أعتبر أمريكا المجتمع المثالي كما لا أعتبرها بلد الخبث والفساد فالخبث في كل مكان في العالم.

قال عماد: أوافقك القول يا غالية.

قال الأب سلطان: أتقارنين الدول العربية الإسلامية بأمريكا؟

ـ أبدا يا أبي أنا لا أقارن الدول العربية الإسلامية بأمريكا بل لا يوجد شبه للمقارنة.

تأملها إيهاب بعينين متفحصتين وقال: ماذا تقصدين هل في نظرك أن مجتمعنا مجتمع متخلف؟

كان أبوها يعض على شفتيه، نظرت إليه فانتابها الخوف وقالت: إن مجتمعنا كأي مجتمع فيه الفساد وفيه الصلاح.

قال السعداوي بسرعة لكي ينقذ الموقف: يا ابنتي أمريكا ولغز أمريكا موضوع طويل وعريض ومعقد أكثر مما تتصورين، لندعه الآن ولنجلس في الصالون ونشرب الشاي.

توجه الكل إلى الصالون. جلس عماد بجانبها وقال بصوت يشبه الهمس:

_ غالية، تعرفين إنني معجب بك وبتمردك، بصراحة أحب الفتاة الجريئة.

ابتسمت ابتسامة صغيرة ذبلت سريعا على وجهها: أنا لا أعبر إلا عن رأيي وبصراحة.

_ هذا ما أعجبني فيك. فتاة جريئة وشجاعة وليست خجولة.

أطرقت قليلا ثم هزت رأسها وقالت من غير أن تلتفت إليه: لكن زينة الفتاة هو طاعتها وخجلها أليس كذلك؟

قال وعلى وجهه الدهشة: هل هذا رأيك يا غالية؟

أجابت بامتعاض: هذا رأي أمي وأمك ورأي المجتمع كله.

ضحك وقال: هل أختك جريئة مثلك؟

أردفت بسرعة: يمكنك أن تسألها بنفسك.

انتهت السهرة المملة وتبادلت العائلتان العناق الحار الزائد عن المألوف وغادرت عائلة سلطان حاملة معها كل جماليات تلك السهرة برعشة قلب يترقب أسطورة عرس تتزاحم على أبوابه الزغاريد. طوال الطريق كانت غالية تفكر في ابنة السعداوي متسائلة لماذا تزوجت في سن مبكر، أهو اقتناع منها وهي التي كانت أحلامها بلا حدود أو فقط تطبيق الخربشات المسطورة في أوراق التقاليد. لماذا أفكر فيها؟ أهو الخوف على نفسي من أن أقع في نفس المصيدة. حاولت ألا تطرق أبواب التساؤلات التي لا تجدي إلا اغتراف الحسرات والآهات. لم تكن تريد إلا إغلاق أبواب الضوضاء الذي لا يلبث أن يراها مطمئنة حتى يتحول إلى عاصفة ليقتلعها من سكونها ويلقي بها داخل جنون الصحراء.

في صباح اليوم التالي وكالعادة اجتمعت عائلتها حول مائدة الفطور. قالت الأم بدرية موجهة كلامها للأب سلطان:

ـ ما رأيك أن نعزم عائلة السعداوي الأسبوع القادم وفي نفس الوقت عائلة التهامي، لقد التقيت بزوجته في المدينة وعاتبتني كثيرا على عدم زيارتهم أو الاتصال بهم هاتفيا.

قال لها: افعلي ما ترينه مناسبا.

نظرت غالية إلى سلمى وخاطبتها بلغة صمتهما: ما أمر هذه الزيارات المتعددة؟ ردت عليها بنفس اللغة، أنت سبب هذه العلاقات الدبلوماسية. حددت الأم بدرية موعد الدعوة وقالت فرحة موجهة كلامها للعمة صفية:

_ يجب على الخادمات أن يقمن بترتيب البيت على أحسن وجه ثم التفتت إلى غالية وقالت: أما أنت فستساعدين عمتك في الطبخ من الآن فصاعدا.

قالت غالية مستغربة: إنني لم أطبخ يوما وعمتي لا تحتاج مساعدتي.

أجابت الأم مبتسمة: من الآن فصاعدا يجب أن تتعلمي الطبخ لا عمتك ولا أنا سيدومان لك. غدا سيكون لك بيت مستقل مع شريك حياتك. فمن سيطبخ لك، عمتك؟

تأكدت غالية حينها أن أمها تنوي تزويجها قريبا، ذرفت دموعا متدفقة كالنهر الجارف مسحوبة من عينيها إلى ذقنها، وقفت في مكانها بعصبية واستأذنتهم متوجهة إلى غرفتها. نادتها الأم بصوت مرتفع: إلى أين أنت ذاهبة؟

_ أريد أن أغير ملابسي لكي أساعد عمتي في المطبخ.

نظرت إلى ابنتها فاغرة فاها من إجابتها المستسلمة.أما غالية فقد هرولت إلى غرفتها مكتوفة الأيدي كالمنهزم لا حول له ولا قوة. لحقت بها سلمى، جلست بقربها ووضعت إحدى ذراعيها وراء ظهرها ضاغطة على منطقة الخاصرة بحنان في صمت، تتعجب من استسلام أختها الذي لم تعهده منها. أمسكت بيدها الأخرى يد غالية الباردة، لثمتها طويلا وقالت: هل ستساعدين عمتي في الطبخ؟

أجابت غالية مستهزئة: عمتي لا تحتاج مساعدتي وإنما ستعلمني الطبخ لأنني سأصبح ربة بيت قريبا.

قالت سلمى وكأنها تريد أن تتأكد من استسلامها: هل ستتعلمين الطبخ؟

ـ نعم، سأتعلم الطبخ، هل عيب أن تتعلم الفتاة الطبخ؟

قالت مستغربة: هل أنت غالية؟

أجابتها مبتسمة: نعم أنا غالية بشحمها ولحمها.

ـ أنت تنوين على شيء ما أليس كذلك؟

ـ بلى، لكنني لا أعرف ماذا سأفعل. هيا بنا.

_ إلى أين؟

ـ إلى المطبخ بطبيعة الحال.

قالت سلمى بابتسامة مصطنعة: أنا لا أحتاج تعلم الطبخ فموعد زواجي لم يحن بعد.

قالت متهكمة: هل أنت متأكدة؟ إن زواجك سيكون بعد زواجي بيوم واحد فقط. لنذهب الآن إلى المطبخ قبل أن تأتي أمي وتعطينا درسا في الأخلاق والطاعة.

ـ أكره أن أراك ضعيفة منهزمة.

ـ أنا لست منهزمة ولا ضعيفة، لكنني في فترة هدنة وتأمل فقط، حتى أخطط سياستي وأغير طريقتي.

جلست غالية وأختها حول المائدة بجانب عمتهما التي كانت تقطع الكزبرة وتشرح لهما ضرورة هذا النبات في الطعام. أعجب غالية طريقة عمتها وهي تقطع الكزبرة بخفة ودقة بالغتين وتدندن إيقاعا موريتانيا وتبتسم وهي تنظر إلى غاليتها التي كبرت و ستصبح قريبا ربة بيت وصاحبة مسؤولية قالت: هذه الخضار أريدها قطعا صغيرة.

أخذت غالية السكينة وهي تدندن معها وتقطع الخضار ببطء وحذر، كانت سلمى تنظر إليها وتضحك:

ـ منظرك يُضحك وأنت تعملين في المطبخ.

قالت لها بعصبية: لماذا يُضحك؟

ـ لا شيء، لا شيء. سامحيني إن قلت شيئا يغضبك.

التفتت العمة إلى سلمى وقالت: وأنت يا سلمى ستجلسين كالمتفرجة، هيا ضعي الفواكه في الصحن.

لامارا 14-11-13 10:14 PM

تابع......
 
الفصل الحادي عشر الجزء 2

شرد عقل غالية بعيدا عن المطبخ وسافر إلى حلم لم يأت ولم يمر، وها هي في وحدتها الموحشة تنفض الوحل من بين جراحات لم تضمد ووجع لا ينتهي، جراح أحدثتها مخالب المجتمع المملوءة بالقبح والمغلفة بالقسوة، شعرت بالمرارة وهي تختبأ وراء عروقها التي تتصادم مع الزمن المجنون، ومن غير شعور ضغطت بالسكين على أصبعها، أحسته وكأنه بُِتر من مكانه. وقفت مرعوبة ترتجف ماسكة أصبعها والدم يسيل بغزارة. وقفت العمة مرعوبة، أمسكت يدها ووضعتها تحت الماء البارد وبعدما أسعفتها، رافقتها إلى غرفتها وقالت برجاء ملهوف:

ـ ارتاحي يا ابنتي سأحضر لك كوبا من عصير الليمون ليعوض ذلك الدم الذي فقدته.

بعد لحظات أقبلت الأم فوجدت غالية مستلقية على السرير.

_ كيف ستتعلمين الطبخ وأنت مستلقية على السرير؟

قالت سلمى: إن غالية جرحت أصبعها.

قالت الأم موجهة كلامها لغالية: مثلك لا يتعلم شيئا أبدا.

قالت كلامها وانصرفت بعصبية، أما غالية فانفجرت تبكي من تعامل أمها المليء بالجفاء. إن كانت غير قادرة على إعطاء الحب مثل أي أم في العالم فلماذا أنجبتنا.

_ قالت سلمى بخوف من تمردها:

_ لا تقولي هذا يا غالية طاعة الأم واجبة وحبنا لها واجب مهما كان سلوكها.

ـ اسمعي يا سلمى الحب مسألة فعل ورد فعل. كيف أحب من لا يراعي شعوري ولا يشعرني بحبه لي، كيف أطيع من لا يعرف من معاني الطاعة إلا الطاعة العمياء الخالية من التفاهم.

قالت سلمى بصوت مبتهل: إن الرسول أوصى بالوالدين وخصوصا الأم وأكد على ذلك ثلاث مرات.

ردت غالية بحسم: إن الرسول تكلم عن الأم الحنون التي تحب من غير مقابل وتسعى لمعرفة ما يدور في صدور أبنائها وترافقهم وتصادقهم وتحس بمشاكلهم وتسعى لحلها معهم. متى رأيت أمي تقوم بواحدة من هذه الصفات؟

قالت سلمى بصوت يملؤه الخوف: لا يا غالية هذا كلام إنسان عاق لا يعرف واجبه الذي أمره الله به.

ـ إنني أعرف واجبي جيدا لكن والدي هما اللذان لا يعرفان واجبهما، تجاهنا.

ـ لكن أمي لا تريد إلا أن نستقر مثل كل البنات ويكون عندنا بيت وعائلة وأولاد نفتخر بهم. انفجرت سلمى تبكي وأردفت

_ لا أريدك أن تكوني عاقة إنني أحبك كثيرا وأخاف عليك من جهنم.

ضمتها إلى صدرها وقالت: لا تخافي فأنا لم أفعل شيئا يغضب الله.



ثلاثة أيام مرت كانت الأم تتجنب أن تصطدم مع ابنتها في النقاشات المألوفة والتي لا تجلب إلا الهم والكرب، وفي صباح اليوم الرابع جلست كل العائلة حول مائدة الفطور سألتها:

_ كيف حال إصبعك الآن؟

أجابت:

_ إصبعي بخير.

قالت متنهدة:

_ إن سألتك زوجة السعداوي أو زوجة التهامي عن سبب جرح إصبعك إياك أن تقولي لهما عن خيبتك في المطبخ.

سألت غالية مستغربة: لماذا؟

قالت الأم وهي تحاول أن تبعد عنها آثار الغضب.

_ لا تسأليني لماذا.

رفعت غالية عينيها المحمرتين مثل جمرتين متقدتين وقالت:

_ لابد أن أعرف لماذا، قبل أن أجيب بشيء غير صحيح.

قالت الأم بصوت شبيه بالصراخ:

_ اسمعي يا بنت الكلام ولا تجادليني.

قالت غالية بهدوء مصطنع:

_ هل تريدينني أن أكذب أليس الكذب حراما أم الحرام فقط حرام وقت ما تريدونه أن يكون حراما والحلال حلال في الوقت الذي يناسبكم أن يكون حلالا.

تدخل الأب فجأة مقاطعا كلامها: يا لِّي يْكَصَّرْ عْمْرْكْ، سْكْتي عْنَّا.كٌومِي كِسِي غٌرْفْتْكْ.

أسرعت كالبرق إلى غرفتها وتركت أباها يزمجر ويسب ويلعن. لحقت بها سلمى، وجدتها تمشي إيابا وذهابا داخل الغرفة في ذلك الصباح المشرق الذي تحول إلى ضباب قاتم وهدوء ينم عن عاصفة هوجاء ستنفجر في أي لحظة.

اقتربت منها سلمى وقالت: اهدئي يا غالية فالغضب لن يفيدك في شيء.

ـ كيف أهدأ وأمي تحاول عرضي للزواج بأية طريقة.

ـ لا تقولي هذا! إنها أمنا أولا وأخيرا ولا تريد لنا إلا الخير.

ـ هل الخير بالنسبة لك أن نتزوج بهذه الطريقة؟ تعرضنا لمعارفها ومن تعجبه البضاعة يتقدم لطلبها.

ـ إنك تبالغين يا غالية إن ما تفعله أمي ليس خارجا عن نطاق التقاليد بل هو جزء من التقاليد.

ـ ماذا تعنين؟

ـ عندما تصل الفتاة إلى سن الزواج تحاول عائلتها أن تسهل عليها لقاء زوج مستقبلها بطريقة غير مباشرة، بتبادل الزيارات مع العائلات الذين عندهم أولاد لكي يحدث التعارف والزواج.

_ وطبعا إن أعجبوا بنا تقدموا لخطبتنا وإن لم نعجبهم عدلوا عنا، فتحول أمي تركيزها على عائلة أخرى. نحن لا نختار يا سلمى، هم الذين يختاروننا إن كنا أهلا للاختيار حسب ذوقهم. اسمعي يا سلمى، أريد أن أتصل بنبيل لابد أن يجد حلا ليخرجني من هذا السجن المظلم.

ـ لماذا تتحدثين هكذا يا غالية هل ترين البيت الذي ولدت فيه وترعرعت فيه بيتا مظلما؟

ـ نعم، مادام والداي يكبتان حريتي ويضغطان علي إلى درجة الاختناق.

ـ ما هذا الكلام يا غالية؟ إنك تتصرفين مثل صعلوك إزاء عشيرته.

ـ أهذا رأيك يا سلمى؟

ـ لا تسيئي فهمي يا غالية ولكن تصرفك هذا غريب وتضعين نفسك في مواجهة مع أهلك ومجتمعك. تريدين مغادرة عائلتك ومجتمعك وشعبك، وترفضين كل شيء حتى بلدك الذي ترعرعت فيه، إنك ترفضينهم رفضا مطلقا دون سبب معقول. هذا التصرف يا غالية ... هذا الرفض الأعمى في نظري تصرف صعلوكٍ أو متمرد إزاء أهله ومجتمعه.

ـ اسمعي يا سلمى إن المنطق والعقل يقول العائلة والقبيلة والدولة تكون مدينة لأفرادها ماداموا عناصر منتجة مجدة، لذا يَجب حقٌّ تصرف الفرد تصرفا غير مشروط فيما هو مِلْكٌٌ له، وحياتي هي ملكي أنا ولا أريد من أحد أن يسيرها على هواه.

ـ أحيانا تتكلمين بالألغاز، فأنا لا أستطيع فهمك ولا استيعابك في كل ما تقولين.

ـ إنني لا أعيش هنا بسلام وأخاف على سلامة روحي، هل في نظرك هذه الحياة التي نعيشها حياة سلام وطمأنينة ونحن نُعرض كل يوم كخراف للبيع لمن يرغب فينا من الرجال؟!

ـ ماذا تقصدين يا غالية؟ إنك أختي وصديقتي بل أنت روحي وأحبك أكثر من نفسي، هل تصارحيني وتفسري لي سبب ثورتك واندفاعك هذا الذي لا أستطيع أن أجد له أي مبرر؟

اقتربت منها نظرت في عينيها الدامعتين وقالت: لا يمكنك أن تفهميني ولا يمكنني أن أصارحك في كل الأمور فأحيانا الصراحة تقتل صاحبها.

فتحت سلمى عينيها مستغربة وقالت: إنك تخيفينني بألغازك هذه!!

ـ ألا تدركين يا سلمى كيف نعيش؟ إن التقاليد والعادات، إن كانت سلبية يجب أن تٌرفض وتٌحارب بشتى الوسائل، لكي نتحرر من العبودية والاستعباد ومن... وقفت ترشف حزنها خلسة ثم واصلت كلامها، ألا تدركين بأننا لا نملك التصرف في أنفسنا ولا حتى في أجسادنا؟

ـ ماذا تقصدين؟

ـ تعرفين ما أقصد ... لكنك تتجاهلين أنسيت ماذا فعلت أمنا بنا؟

ـ ماذا فعلت؟

ـ لقد أجرت لنا … لقد أجرت لنا..

بدأت تشهق بالبكاء وتضرب بقدميها على الأرض تبكي سنواتها الخاوية التي بعثرتها تكهنات المجتمع وقذفتها بظلمة ثملة حتى الوحل. تصرخ بأعلى صوتها وتلوح بيديها في الهواء: عليك اللعنة أيها المجتمع الفاسد برعونة التقاليد الممسوخة.

اقتربت منها سلمى ترجف وقالت بصوت يلبسه الخوف: ماذا بك يا غالية؟ لماذا تبكين؟ ماذا فعلت تكلمي ...

ـ أمي. ... أمي ... أجرت لنا عملية الختان في السودان.

ـ أنا لا أذكر ذلك كثيرا.

ـ كان عمرك أربع سنوات ونصف وعمري سبع سنوات. هربت عند الجيران واختبأت بسطح بيتهم لكنهم عثروا علي وأخذوني كما تؤخذ الدجاجة للذبح وجرني ابن خالتي في الحارة ورجلي تتمرغ في التراب أبكي وأطلب النجدة والأطفال مجتمعون في الحارة ينظرون إلي ويضحكون، مستمتعون ببكائي ونواحي. أمسكوني وأنا أصرخ بكل ما لدي من قوة وقطعوا جزءا من جسمي بشفرة غير معقمة أصبت بعدها بالتهاب عدة أسابيع حتى كدت أن أموت وأغمي عليّ، بعدها أخذوني إلى المستشفى. إنهم يريدون أن يعدّلوا

ما خلق الله، فيا ليتهم قطعوا لساني أيضا لكي لا أتكلم وبتروا قدمي لكي لا أمشي وقلعوا عينيّ لكي لا أرى. يا ليتهم قتلوني ليقولوا قتلناها لأنها لا تستحق العيش.

ـ غالية من فضلك لا تبكي إن الختان طهارة للفتاة ونظافة لها والأكثر من ذلك يحفظها من الوقوع في الرذيلة.

ـ عن أي خطأ تتحدثين...

بدأت سلمى تتلعثم خجلا، لم تستطع أن تقول ما أرادت قوله؟

ـ هل استحييت؟ لكي لا تمارس الجنس أليس كذلك وتفقد عذريتها.

ـ نعم، يا غالية لكي لا تشعر بالرغبة وتمارس ما حرمه الله وتفقد أعز شيء تملكه الفتاة.

_ من يفقدها ذلك الشيء الأعز في نظركم، أليس الرجل، فلماذا لا يخصونه هو أيضا حتى لا يمارس الجنس بطريقة غير شرعية؟

_ الختان عفة وطهارة للفتاة.

انتفضت غالية غاضبة: أوافقك الرأي، لكن لما أتزوج ويصبح الجنس بيني وبين زوجي حلالا فأين هي الرغبة لكي أمارسه؟ تكلمي يا سلمى هيا أجيبيني.

قفل الصمت غالية داخل ظلمة التقاليد المرتبكة والموروثة، تنظر إلى الأرض وعيناها تنزف دموعا محرقة لمجتمع تلبسه العلل.

ـ إنهم يريدون أن يحفظوا المجتمع من الفساد باستئصال بظر الفتاة، فلماذا لا يستأصلون عضو الرجل أو يخصونه؟ أجيبي، هل المرأة تمارس الجنس لوحدها؟ إن التقاليد والعادات سنت لخدمة الرجل واستعباد المرأة. ألم تسألي نفسك يوما لماذا لم تٌخْتَنْ منى والعنود؟ لماذا أنا وأنت فقط يطبق علينا هذا التقليد الأعمى؟ حتى التبول لا نستطيع فعله بسهولة والالتهاب رفيقنا دائما. لماذا كل المشاكل التي نتعرض إليها سببها هذا العضو، يا ليتني خلقت من دونه.

قالت سلمى: والدة منى والعنود رحمها الله مغربية، والمغاربة لا يختنون بناتهم.

ـ ها أنت تجيبين نفسك، أليس من الواجب أن يكن أيضا مختنات مثلنا حتى تلبسهن الطهارة والعفة؟ لقد جعلتنا أمنا نختلف عن كل البنات في المغرب. هذا البلد الذي ولدنا وترعرعنا فيه والآن تريد أن تزوجني بطريقتها وتصادر حريتي لكن هذا لن يحصل أبدا ولو وضع السيف على عنقي.

انفجرت سلمى تبكي قائلة وهي تجهش بصوت يتقطع في حنجرتها:

ـ أتظنين أنني لا أعاني مثلك؟ إن لدي نفس الشعور الذي بداخلك ونفس السخط والتمرد لكنه مكبوت في قلبي، لا أستطيع إخراجه. إنني أخاف من غضب والديّ علي.

كانت ترتجف وتبكي، تمنت غالية أن تضمها إلى قلبها وتبكي معها لكي تفرج عنها وعن نفسها، لكنها اكتفت بالبكاء في صمت مبدية ابتسامة مصطنعة على شفتها لكي تهدئ من روع أختها.

ـ اسمعي يا سلمى لقد شاهدت بعينيك كيف تزوجت منى والعنود. اختار لهن أبي العريسان وأجبرهما على القبول، تزوجتا لكي لا يسخط عليهما، وكل واحدة منهما أنجبت خمسة أطفال. ماتت كل طموحاتهما في المطبخ وغسل الأواني وتربية الأولاد. أنا لا أريد أن انتهي مثلهما.

توقفت سلمى عن البكاء وقالت: ماذا قررت أن تفعلي؟

ـ أريد أن أتصل بنبيل هو الذي سيساعدني.

ـ فماذا تنتظرين اتصلي به الآن.

ـ ليس الآن يا سلمى عندما نذهب لنتفقد النتيجة نمر بطريقنا إلى مركز البريد ونتصل به من هناك.

دخلت الأم من غير أن تطرق الباب وقالت: ماذا تفعلان؟ قوما بسرعة إن الضيوف سيأتون حالا، هيا اذهبا عند الكوافير لتصفف لكما شعركما تسريحة جميلة.

قالت غالية:

_ لماذا الكوافير هل ستزف أحدنا؟

قالت الأم:

_ إن كان سيزف أحد فهو أنت وسأفرح بك الفرحة الكبيرة التي تفرحها كل أم.

قالت كلامها ذاك وانصرفت. نظرت غالية إلى سلمى مشدوهة وصدغاها يهدران كالمطارق، كل ما في الغرفة يدور من حولها وكأنها زوبعة هوجاء تترنح. أحست بالبرد رغم حرارة الطقس، تشد على رأسها ودمعها يتأسى على حزنها، فزعة من تلك الليلة التي ستقف فيها على قبرها، صدى مدوّ بداخلها ينادي النجدة، تخفي وجهها تحت ضلوعها وتحت الحسرات، لقد عانيت طوال حياتي... عشت حزنا عميقا وأسى على فقداني عذريتي... لكنني لم أكن أعرف أن الأيام والشهور والسنين ستمر بهذه السرعة وأنه سيحين وقت زواجي. ماذا سأفعل؟ هل أهرب؟ لا... إنه عار. هل أرجع إلى ليبيا عند نبيل؟ لا. ذلك مستحيل. هل أستسلم؟ لا وألف لا. إن فعلت، سيٌكْتَشَفٌ بأنني لست عذراء وستكون نهايتي على يد أبي أو أحد إخوتي. لا ... لن أعطي لهم هذه الفرصة. لا بد أن أنجو بجلدي قبل أن أفضَحَ أمام الأهل وأمام القريب والبعيد.

نظرت إليها سلمى وقالت: لماذا صار وجهك شاحبا؟

قلت لها بعصبية: أحيانا تطرحين أسئلة غبية ألم تسمعي ماذا قالت أمي؟

ـ نعم لقد سمعتها، لقد أمرتنا أن نذهب إلى الكوافير.

ـ إنها قالت إن كان سَيزَفّ أحد فسوف يكون أنت.

ـ من؟ أنا؟

ـ لا، أنا أريد جواز سفري، يجب أن تحضري لي جواز سفري.

ـ إن أمي تحتفظ به.

ـ أحضريه لي بأي طريقة.

ـ إلى أين ستسافرين؟

ـ لا أعرف! المهم أريد جواز السفر الليلة.

قالت سلمى وهي تبكي:

_ هذا مستحيل يا غالية! ماذا سيقول الناس عنا؟ ابنة القاضي سلطان هربت من منزلها.

أقبلت الأم ثانية فوجدت سلمى تبكي فقالت بعصبية:

_ لماذا تبكين؟

قالت سلمى متلعثمة:

_ لا شيء يا أمي. فقط.. فقط…

ـ هيا قوما بسرعة واذهبا إلى الكوافير، إن الوقت يمر بسرعة.

قالت غالية: الضيوف دائما يأتون عندنا، فلماذا هذه المرة بالذات يجب أن نذهب إلى الكوافير؟

قالت الأم وعيناها متسعتان فرحا: لأن اليوم خطوبتك يا غالية من عماد ابن السعداوي والله كبرت وصرت عروساً.

غادرت الغرفة وهي ستطير من الفرح.

قالت غالية لسلمى: لن أسمح لهما أن يرغماني على الزواج حسب ذوقهم.

ـ هل تعتقدين أن عائلة السعداوي سيأتون لخطبتك؟

ـ ألم تسمعي ماذا قالت أمي؟

ـ لكن، كيف أنا لا أفهم شيئا، بهذه السرعة؟

ـ ألم تلاحظي عندما كنا ببيت السعداوي، كيف كانت السيدة عبلة طوال الوقت عيناها مركزة عليّ.

ـ بلى أذكر، وجاء اليوم لكي يتفقوا على تسليم البضاعة. هل ستتصلين بنبيل؟

ـ لا، لن أتصل بنبيل لا أعتقد أنني سأراه مرة ثانية.

ـ ماذا تريدين أن تفعلي؟ الضيوف سيأتون بين لحظة وأخرى ونحن لم نهيئ أنفسنا.

ـ إن أردت أن تذهبي إلى الكوافير فافعلي أما أنا فلن أذهب ولن أقابل الضيوف وليكن ما يكون.

ـ لكن هذا مستحيل، ستثيرين غضب أمي وأبي وستكون ليلتنا ليلة سوداء.

ـ لم أعد أخاف من العقاب ولا من السخط والتهديد. لقد سئمت كل شيء.

ـ بدأت في فلسفتك الثقيلة.

ـ أرفض أن يختار لي والداي من يريدان، أريد أن أختار من أحب بنفسي. إن واجبي تجاه والديّ أن أطيعهم فيما يرضي الله، وإرغامهم لي على الزواج بمن لا أحب يغضب الله.

ـ وما العمل الآن؟

ـ اذهبي إلى الكوافير أما أنا فلن أبرح الغرفة وليكن ما يكون.

ـ لن أتركك متوترة هكذا لن أتركك وحدك في هذا الموقف!

ـ ألا تخافين من غضب أمي؟

ـ لا يهمني ذلك.

عم هدوء مخبأ تحت بحر سيقفز فجأة على متن عاصفة وسلمى حزينة لا تعرف ما يجول بخاطر أختها ولا تريد أن تتركها لوحدها في الغرفة تقتنص أثر دموعها المبتل بعلة سرها. أخذت كتابا من خزانة الكتب، تختلس النظر إليها وفي نفس الوقت تقلب صفحات الكتاب بعصبية وبسرعة محدثة بذلك خشخشة تؤلم رأس غالية وتنزل على مسامعها كوخز الإبر. كانت مقرفصة وسط السرير في عزلتها المنفية وجسمها يرتعش في ذلك الصباح المشرق تنوح أجنحتها المتكسرة وتلعق سراب مطاردة كابوسها الذي يزحف ببطء وسط تلك العزائم المفتعلة. نهضت من مكانها خائرة القوى تمشي ببطء في الوحل وتتكئ على جدران القسوة نحو خزانتها. مدّت يدها على علبة الدواء، أقراص نوم وصفها طبيبها ضد الإحباط والإرهاق. أزاحت يدها بسرعة في هدوء لكي لا تلفت نظر سلمى التي كانت تسرق النظر إليها بين الفينة والأخرى. تنفث كريح غاضبة، " خسرت معركتي مع أهلي التي استباحت إنسانيتي وسحقت اعتباري". رجعت إلى سريريها في هدوء كمن يمشي وهو نائم. استلقت تحت لهاث مستتر، وغثيان مشروخ تحت غطاء ظلمة بائسة. هل أفعلها وأرتاح من هذا العالم المسكون بلعنة الشهوة والأنانية؟ هل أترك أهلي وخصوصا عمتي صفية وسلمى؟ تبعثرت تمنياتها في ليت وأحلامها بين أفعال المستقبل المفقودة وها هي تتلو صلواتها الصوفية علها تحلل ذاتها. "لن أعطي لهم الفرصة أن يزوجونني. لابد من الهرب. لكن، إلى أين؟ " عضت على لسانها من غير أن تشعر، أوقف طعم الدم في فمها ذلك التفكير الذي كان يفور كبركان عبر قرون قلقة من الزمن. قفزت من السرير مسرعة إلى الحمام فإذا بها تجد أمها تتوضأ لصلاة الظهر. قالت لها بصوت آمر:

_ ألم تذهبن إلى الكوافير؟ إن عائلة السعداوي ستأتي اليوم لخطبتك، لابد أن تلبسي أنت وأختك الفستانين اللذين اشتريتها لكما من "دبي" الصيف الماضي وبسرعة إنني لا أحب التلكؤ هيا بسرعة.

قالت كلامها وذهبت للصلاة. دخلت غالية إلى الحمام، غسلت فمها ودموعها المتشبثة بها تنهمر مقاسمة عويل الصمت في أنفاسها. نظرت إلى المرآة فأرعبها وجهها الشاحب وعينياها المنتفختان. تحاول أن تستجمع شتاتها المتناثر لتصير أكثر تناسقا لمقابلة الضيوف حتى لا تغضب والديها. تأملت وجهها الذي يعج بالأرق المفزع. فجأة خطر ببالها عمتها صفية، اعتصر قلبها. " إن رحلت عنها سأتركها في عتمة مبهمة يفتك بها ضغط الدم، لكن أفضل من أن تظن أنني فتاة غير طاهرة وشريفة ".خرجت من الحمام مهرولة إلى المطبخ . وجدتها منهمكة كعادتها في تحضير الأكل. حبيبتي عمتي، تنظر إليها ومفاصلها ترتعش أما العمة فكانت تحدثها وتركيزها على الأكل داخل الطنجرة:

ـ هذا الأكل لابد أن يكون لذيذا ألم تذهبن بعد إلى الكوافير؟

ـ سأذهب حالا يا عمتي.

ـ هيا بسرعة لكي لا تغضبي أمك إنك تعرفين كم هي عصبية.

ـ نعم عمتي، فقط جئت لأقبلك لأنني ذاهبة الآن.

همست في أذنيها أحبك يا عمتي، ثم انحنت فوقها تقبل جبهتها وعنقها ورأسها قبلات طويلة حارة خرساء.

_ فراقك سيسلبني الحنين إليك لكن سأحبك ولو عرفت أنني سأغادر بعد حين..

كانت هي تضحك وتقول:

_ هل أنت مسافرة؟ ستذهبين فقط إلى الكوافير.

_ نعم، عمتي سأذهب فقط عند الكوافير … وداعا يا أحلى عمة في العالم.

ضحكت ويدها لم تتوقف عن تحريك اللحم داخل الطنجرة. أسرعت غالية إلى غرفتها وصرخات الوداع تنهشها، وجدت سلمى تنتظرها ووجهها ملتف بالحزن، نظرت إليها وقالت:

ـ أين كنت يا غالية؟

ـ أين سأكون؟ بالحمام طبعا. ألن تصلي هيا اذهبي وتوضئي.

ـ معك حق يا غالية إن التفكير شغلني عن الصلاة.

نهضت متثاقلة وهي تمسح عن جبهتها ارتباكها ثم توجهت إلى الحمام. أسرعت غالية إلى قنينة الدواء فتحتها والخوف يبسط رداءه متراميا على جسدها المرتعش، وقعت العلبة من يديها وتناثرت الأقراص على الأرض. جلست على ركبتيها بسرعة تلتقطها واحدة تلو الأخرى وتبتلعها. رفعت يديها تطلب من الله أن يغفر جرمها، ترثي نفسها وسرها الذي إن انفجر سيعلن للحضور دويا عاليا. مازالت تستغفر ضعفها حتى وقعت أرضا ولم تشعر بعدها بشيء. توضأت سلمى وبينما هي عائدة إلى الغرفة حتى صرخت الأم بوجهها:

ـ ماذا تظنان نفسيكما؟ ألم يعد يعني لكما كلامي شيئا؟ لقد أمرتكما أن تذهبا إلى الكوافير، فماذا تنتظران؟ مسخوطتان!

اعتادت سلمى سماع السخط والتهديد والوعيد. ذهبت في صمت من غير أن تعيرها أي اهتمام إلى الغرفة فإذا بها تجد أختها ملقاة على الأرض. صرخت بأعلى صوتها فهرع كل من في البيت إلى الغرفة وعويل الرعب مغلف بالندم على خيبة الأسلوب المحموم تجاه غالية يضج داخل الغرفة المعطوبة وهي تحتضر علّة جسدها المحترق. صرخت سلمى في قفار صحراء تلك الجدران التي أصبحت موحشة، مظلمة بعدما ذابت شمعة روحها على الأرض جثة هامدة.

ـ أنت السبب في كل ما يجري لغالية يا أمي. غالية رحلت عنا إلى الأبد. يا إلهي! ما كنت أخشاه قد وقع.

اقترب الأب وجدائل الرعب من العار يختطفه في صمت، قال وهو ينظر إلى سلمى:

ـ ماذا حصل؟

ـ لا أعرف يا أبي دخلت فوجدتها ملقاة على الأرض.

كانت الأم تنوح وتندب بلسان ثقيل وكأنها مخمورة. أمسك الأب بيد ابنته يجس نبضها وجده ضعيفا. أسرع إلى سماعة التلفون واتصل بالإسعاف. تجمهر الجيران أطفالا ونساءاً، كلهم ينظرون بعيون الهمس والتحسس وبعض الجارات ينظرن من خلف شبابيك بيوتهن لإشباع نزوة فضولهن. نزل ممرضان من سيارة الإسعاف وصعدا إلى المنزل، قادتهما الخادمة إلى غرفة غالية وضعاها بسرعة على حمالة ثم خرجا من البيت مسرعين بها إلى سيارة الإسعاف، وانطلقا بأقصى سرعة إلى المستشفى. أسرع الوالدان وسلمى إلى المستشفى أما العمة فظلت في المنزل تبكي وهي تطل من شرفة المنزل. دخلت عليها الجارات وهن يغترفن الآهات والحسرات لمعرفة ما رسمه القدر وخطه على اللوحة الصماء. نطقت إحداهن:

_ ماذا جرى لغالية؟

أجابتها العمة بامتعاض

_ إن غالية حذرها الطبيب من أكل التوابل الحارة لكنها عنيدة، أكلت البيض مع الهريسة والزيتون فأصابها ألم حاد في معدتها مما أدى إلى فقدانها الوعي لكنها ستشْفى إن شاء الله.

نطقت النساء بصوت واحد: الله يشفيها، ثم خرجن واحدة تلو الأخرى وفوضى الثرثرة تلعثمهن. قرفصت العمة وسط الدار ويداها على خدها في تيه وحزن تلتقط روحها التي أوشكت أن تزهق. مكثت غالية بغرفة الإنعاش ثلاثة أيام في غيبوبة، تامة لم يسمح لأي أحد من العائلة بزيارتها. أما ضيافة عائلة السعداوي وعائلة التهامي فقد ألغيت إلى أجل غير مسمى. في اليوم الرابع استيقظت غالية من غيبوبتها فرأت سلمى بجانبها تمسك بيدها، أيقظت جمرتها الخامدة فبدأت تصرخ وتضرب بقدميها على السرير. دخلت الممرضات يحاولن تهدئتها وغالية كانت غالية كالناقة الشرسة تمارس عنفها إلى أن غابت عن الوعي مرة ثانية. تسللت سلمى خارج الغرفة فوجدت أمها تبكي وتقول موجهة الكلام للأب:

ـ ماذا جرى لابنتي غالية؟ كل شيء تتمناه نشتريه لها لا ينقصها شيء، فلماذا جلبت لنا هذا العار الشنيع؟

كان الأب يهدئ من روعها قائلا: أخفضي صوتك لا نريد الفضيحة أكثر مما نحن فيه. دعي الندب والندم حتى نرجع إلى البيت.

تقدم نحوهما الطبيب وقال: أرجوكما أن تتفضلا خارجا، أريد أن أتكلم معكما على انفراد.

قال الأب: ماذا هناك يا دكتور، هل ابنتي في خطر؟

ـ لقد تجاوزت مرحلة الخطر، لكنها تحتاج إلى راحة تامة في المستشفى.

قالت الأم وهي تبكي:

_ هذا يعني أنها ستمكث في المستشفى طويلا.

قال الدكتور:

_ هذا يرجع إلى سرعة تحسن حالتها.

قال الأب:

_ من ماذا تعاني ابنتي؟

قال الدكتور:

_ لا أخفي عليك سيدي، إن ابنتك تعاني من الإكتئاب.

قال الأب وهو يمط شفته السفلى في استغراب:

_ ولماذا؟

قال الدكتور:

_ هذا أمر تعرفونه أنتم، من الأفضل أن تذهبوا الآن فوجودكما لن يفيد شيئا لأنها نائمة الآن.

كانت تمشي فوق سطح البحر. أمواجه تزحف نحوها تطاردها، يبلل الماء نارها المشتعلة، تعصف الريح في وجهها المبتل، تحاول الأمواج ابتلاعها وهي تجري حتى اللهاث نحو أنوار أسطع من نور الشمس وأنصع من البياض وكلما اقتربت منها ترجلت تلك الأنوار نحو الأزل. رجعت العائلة إلى المنزل الحزين الذي يتعكز الشرود وتطرق على بابه تساؤلات صامتة تحت سقفه وبين جدرانه العاجزة عن استيعاب تمرد غالية. دخلت سلمى غرفتها ولحقت بها العمة صفية.

ـ ماذا حصل لغالية ولماذا لم تأت معكم؟

قالت سلمى وهي تحاول أن تطمئن عمتها:

_ إن غالية بخير، لكن لابد أن تمكث يومين في المستشفى حتى يقوم الطبيب بفحصها.

قالت العمة على عجل:

_ أي فحص؟

ـ فحص المعدة يا عمتي.

ـ يا ربي خذ بيدها واشفها.

مرت ثلاثة أيام وغالية في صراعها مع الموت والحياة، غريبة الروح تحترق في همومها وألمها كلما راح مفعول التخدير. منع الطبيب الأهل من زيارتها لمدة أسبوع بأكمله، فقررت العائلة أن تأخذ غالية عند فقيه لكي يحجب عليها عندما تغادر المستشفى، لأن مشكلتها حسب رأيهم ليست إحباطا ولا انهيارا عصبيا وإنما عين أصابتها، ولابد أن يرقيها ويكتب لها حجابا لكي تتحسن حالتها وتبعد عنها عين الحسد.

قالت الأم موجهة كلامها للأب سلطان وهي تبكي.

_ ألم تر كيف كانت تضرب برجليها، أعتقد أن جنيا لبسها.

أجابها الأب:

_ لا، مستحيل. أنا متأكد أن ما أصابها هو العين ... عين حسود ...

لم ترد سلمى أن تعقب على حوارهم، فهي لا تحتاج إلى المزيد من الألم والحزن، يكفيها أن شقيقتها في غيبوبة بالمستشفى بين صراع دوامة البقاء والرحيل. ذهبت إلى غرفتها تذرف دموع الحزن في صمت. وما من أحد يزيح همها ويذهب عنها الشجن.

استيقظت سلمى باكرا، واستأذنت أمها لتذهب إلى الجامعة. قالت لها الأم بعصبية:

ـ لماذا تريدين الذهاب إلى الجامعة هل نسيت أن أختك مريضة في المستشفى؟

أجابت سلمى بخوف:

_ أريد أن أعرف نتائج الامتحان.

أشاحت بوجهها عن غضب مصطنع وقالت.

_ كيف تسمحين لنفسك بهذا التفكير أليس في قلبك رحمة؟

قالت سلمى وكأنها شعرت بذنب: أنا أحب أختي أكثر مما أحب نفسي ولهذا أريد أن أذهب لأرى النتيجة. فنجاحها سيكون سببا في شفائها. ألا يهمك نجاحها؟

قالت الأم: لا يهمني نجاحكما بقدر ما يهمني سلامتكما واستقراركما في بيت أزواجكما ذلك هو النجاح الكبير.

قالت سلمى بغضب: ذلك هو السقوط الكبير.

اقتربت منها الأم باهتمام زائد وبدت كمن تتهيأ للانقضاض عليها، يفضح ذلك تفاصيل وجهها الغاضب:

ـ ماذا قلت؟

كانت سلمى تتراجع إلى الوراء خائفة من بطش أمها وقالت:

_ لم أقل شيئا.

رجعت سلمى إلى غرفتها وأغلقت الباب بقوة مما أثار غضب أمها، فدخلت عليها وبدأت تضربها وتلكمها وسلمى تبكي. سمعت العمة صراخ سلمى، فأسرعت إلى الغرفة لإنقاذها من اللكمات المتتالية التي تنزل عليها من غير رحمة. اقتربت العمة تحاول أن تمنع زوجة أخيها من الاستمرار في ضرب سلمى. غضبت الأم من تدخل العمة فدفعتها بكل قوة إلى أن وقعت على الأرض. استجمعت العمة جسمها المبعثر على الأرض وضحكت ضحكة حزينة خافتة تكتم غيظها الذي يئن تحت وطأة الظلم والجبروت. نظرت الأم إلى العمة التي مازالت مطروحة على الأرض وقالت لها وعيناها تقدحان شررا:

ـ دعيني أربي ابنتي.

قالت العمة: إن ابنتك مهذبة ومتربية.

قالت الأم وحالة هدوء ووجوم تلبسها، وبعد لحظة من الصمت الغاضب: عندما يكون لك أبناء ربيهم كما شئت.

حزنت العمة من كلام زوجة أخيها الذي جرحها حتى العمق، وذكرها أمومتها المفقودة عندما أجريت لها عملية نزع الرحم. نهضت من الأرض بتثاقل وخرجت من الغرفة في صمت تاركة الأم التي فقدت سيطرتها على نفسها لا تجيد إلا لغة الشتيمة فبدأت تضرب سلمى إلى أن غابت عن الوعي. وقفت مرعوبة لمنظر ابنتها التي أصبحت كورقة خريفية مطروحة على الأرض. انتابها الذعر فبدأت تصرخ وتلطم وجهها. سمع الأب الصراخ فخرج من مكتبه مسرعا نحو الصوت فوجد سلمى ملقاة على الأرض مغمى عليها. ماذا جرى؟ هل هي محاولة انتحار أخرى؟

ردت الأم:

_ لقد ضربتها وأغمي عليها.

ـ لا حول ولا قوة إلا بالله. أنت مجنونة قطعا.

نادى أخته صفية وطلب منها أن تحضر البصل. حمل ابنته ووضعها على السرير وشرع يقرب البصل من أنفها، حتى استيقظت من غيبوبتها. بدأت بدرية تبكي وتقول:

ـ أنا لم أعد أفهم شيئا، لقد أصبح العيش في هذا البيت مستحيلا.

قال الأب غاضبا مزمجرا في زوجته:

_ أنت التي تجعلين العيش مستحيلا بعصبيتك الزائدة. يكفي أن غالية في المستشفى.

لم تحتمل سلمى سماع ذلك الشجار فبدأت تبكي وأبوها يهدئ من روعها.

ـ اهدئي يا ابنتي وغدا اذهبي إلى الجامعة وبشرينا بنتائجك أنت وأختك.

قبلت سلمى يد أبيها شكراً على تعاطفه معها. ظلت منزوية لوحدتها تفكر في أختها غالية وفي نفسها المنهوكة من مؤامرات والديها اللامتناهية لزواج غالية. في صباح اليوم التالي، ذهبت مُبكرة إلى الجامعة، لم يكن هناك أحد سوى موظفي الإدارة. توجهت إلى حيث النتائج فوجدت اسمها واسم أختها في لائحة الناجحين. طار حزنها كما طارت كالبرق متوجهة إلى البريد لتتصل بنبيل. كانت الخطوط اللاسلكية بين ليبيا والمغرب سيئة، لم تفقد الأمل رغم المحاولات العديدة. ثلاث ساعات مرت وهي تحاول من غير كلل إلى أن سمعت صوت نبيل:

ـ ألو، من المتكلم؟

ـ أنا سلمى أخت غالية.

ـ أهلا بسلمى، كيف حال غالية؟

ـ غالية ليست بخير، إنها في المستشفى، مريضة جدا ولا أعتقد أن أحدا يستطيع مساعدتها إلا أنت.

ـ من ماذا تعاني؟

ـ لقد قال الدكتور إنها تعرضت لانهيار عصبي بسبب الاكتئاب.

ـ اطمئني يا سلمى، سأساعد أختك بقدر ما ... ألو.. ألو…

انقطع الخط، لكن سلمى كانت فرحة لأن نبيل وعدها بأن يساعد أختها. من البريد اتجهت إلى المستشفى، حاولت أن تتسلل إلى الغرفة، لكن إحدى الممرضات منعتها. اتجهت مسرعة إلى الاستعلامات، فرأت ممرضة منهمكة في الضحك والمزاح مع ممرض يغازلها. سألتها سلمى:

ـ من فضلك يا آنسة، أبحث عن موظفة جديدة بهذا الفرع اسمها سعيدة. أريد مقابلتها.

قالت الممرضة: من سعيدة؟ ليست عندنا ممرضة بهذا الفرع اسمها سعيدة.

ـ إنها ليست ممرضة، إنها تغسل بذلات الممرضين .

ـ إن المكان الذي تغسل فيه بدلات الممرضين بالقرب من المبنى الرئيسي.

ـ شكرا آنسة.

ذهبت سلمى إلى حيث تنظف بذلات التمريض فوجدت قضيبا طويلا معلقا عليه البذلات النظيفة والمكوية. ارتدت واحدة ثم رجعت إلى الفرع الذي توجد فيه أختها. تسللت ببطء إلى الغرفة، جلست على كرسي بجانب السرير، أمسكت بيد أختها، لقد نجحت بامتياز وأول من عرف بالخبر هو نبيل. اتصلت به هاتفيا وطلبت منه أن يساعدك فوعدني بأنه سيفعل. حركت غالية رأسها ثم فتحت عينيها بتثاقل، التفتت إلى سلمى وقالت:

ـ لقد حلمت بأنني نجحت بامتياز، وبأن أول من عرف النتيجة هو نبيل.

قالت سلمى: إنه ليس حلما. إنها الحقيقة. لقد اتصلت به اليوم وأخبرته بنجاحك وبمرضك فوعدني بأنه يساعدك.

قالت غالية بصوت مبحوح ومتعب:

_ متى سيزورنا؟

ردت سلمى:

_ لم يكمل معي الحديث، لأن الخطوط انقطعت.

كان وجه غالية شاحبا وعيناها ذابلتين ومرهقتين وجسدها تحت اللحاف يظهر نحيلا وكأنها لم تذق الطعام منذ شهور.

قالت سلمى مرتبكة:

_ من فضلك يا غالية لا تصرخي لقد تسللت إليك بلباس التمريض لأنهم منعوا عنّي زيارتك.

أغمضت غالية جفنيها المتعبتين ثم خلدت للنوم. أما سلمى فقد غادرت المستشفى وهي فرحة مطمئنة على أختها التي بدأت حالتها تتحسن. كانت العمة تهيء الغذاء صامتة حزينة، تفكر في ابنة أخيها غالية. دخلت عليها سلمى تبتسم:

ـ أهلا عمتي، كيف حالك؟

ـ كيف سيكون حالي وغالية في المستشفى.

أجابتها سلمى مبتسمة:

_ لقد قابلت غالية، إنها بخير جدا وتسلم عليك كثيرا.

قالت العمة بتلهف:

_ ومتى سترجع إلى البيت؟

- ذاك أمر يقرره الطبيب يا عمتي.

- وما هي حال النتائج هل نجحتما؟

ـ بطبيعة الحال، لقد نجحنا.

اجتمعت العائلة حول المائدة، جلست سلمى تأكل في صمت. لم ترغب أن تشارك والديها في الحديث ولا حتى أن تخبرهما بالنتائج. كان الأب مشغولا بالأكل، أما الأم فكانت تأكل بلا شهية والتوتر والعصبية يظهران جليا في حركاتها. أحضرت العمة صفية الفواكه ووضعتها على مائدة الطعام وقالت:

_ إن غالية بخير لقد تحسنت أوضاعها.

قال لها سلطان مستفهما:

_ من أخبرك ذلك؟

ـ ألم تخبركما سلمى؟ لقد زارتها اليوم.

نظر إلى سلمى بعينين ترتقبان شرح الموقف. قالت سلمى وهي تتلعثم: لقد زرتها يا أبي اليوم إنها بخير.

قال الأب:

_ ومن أذن لك بذلك ألم أقل لكم بأن تستأذنوني في أي شيء تريدون القيام به؟

أجابت سلمى مستغربة والخوف يسيطر عليها، ظننت ستفرح بالخبر.

_ نعم، إن تحسن غالية يفرحني لكن ذهابك عندها بدون إذني يقلقني ويغضبني. هذه آخر مرة تتجاهلين فيها أوامري.

ـ حاضر يا أبي، لن أغضبك مرة ثانية.

نظرت الأم إلى سلمى وقالت بتلهف: كيف حال غالية؟

ـ إنها بخير يا أمي.

قال الأب:

_ كيف دخلت عندها والزيارة ممنوعة؟

ـ إنني أعرف ممرضة كانت تدرس معي في الثانوية.

نظرت الأم إلى الأب وقالت:

_ لا بد أن نتصل بالدكتور لكي يعطينا الإذن بزيارة ابنتنا.

قال الأب:

_ إن شاء الله ثم نهض ساخطا غاضبا من غير أن يكمل أكله.

قالت الأم وهي تنظر إليه:

_ لماذا هذا الغضب من غير سبب.

ـ ألا تعرفين؟ هل ما فعلته غالية يرضيك؟

ـ ما حصل قد حصل ولا بد أن ننظر إلى المستقبل.

قال الأب:

_ إنها مجنونة لا محالة، إن ما قامت به هو كفر بالله وبرحمته. إنها نافرة من عدالة الله ورحمته. ما فعلته غالية أكبر فضيحة إن سمعها الناس ستبقى ألسنتهم تلوك سيرتنا.

كانت العمة صفية، تتحرك يمنة ويسرة، تتمنى لو تفعل شيئا لكي تهدئ من ذلك الجو المكهرب، تفتح فمها محاولة الكلام، ثم تغلقه مرة ثانية. العمة صفية تحترم أخاها سلطان كثيرا لأنه أكبر إخوتها وواجب عليها طاعته واحترامه كطاعتها لأبيها، لكنها لم تتحمل سماع الإهانات التي كانت توجّه لغالية التي مازالت طريحة الفراش في المستشفى. وهي التي ربتها منذ كانت رضيعة. انفجرت تبكي بصوت عال ومخنوق:

ـ كفى، إن الله يغفر. وأنت أبوها سامحها يا خويا الله يطول عمرك.

كان سلطان ينظر إلى أخته ويعض على شفتيه من شدة الغضب وقال:

ـ أنت السبب في كل ما تقوم به غالية. أنت التي أفسدتها بتربيتك فأصبحت عنيدة ومتهورة.

قالت العمة: إن غالية ليست عنيدة ولا متهورة، فتاة شريفة وطيبة وحنونة، اتركوها لحالها. أنتما تضغطان عليها وتحاولان إرغامها على ما لا تريد ... كفى!

لم تتدخل الأم، كانت راضية من كلام زوجها تجاه أخته.

قال سلطان:

_ كيف نضغط عليها؟

- تضغطان عليها في كل شيء.

أجاب بغضب:

_ اسمعي يا أختي هذه ابنتي وأنا أعرف مصلحتها جيدا إياك والتدخل في طريقتي معها.

قالت العمة: اتركها تكمل الدراسة مادامت تحبها لقد نجحت بامتياز رغم أنها لم تلتحق بالجامعة هذه السنة. فماذا تريد أكثر من هذا التفوق؟

قال سلطان:

_ لم أمنع بناتي يوما من طلب العلم وقد غرفن منه بما فيه الكفاية، لكن الزواج مصيرهن، بل مصير كل فتاة أن تكون لها أسرة وتستقر في بيت زوجها وهي حرة، بعدها إن أرادت أن تتابع الدراسة أو تعمل إن وافق زوجها طبعا. إن سترة الفتاة مهمة.

لم تعد العمة تتحمل قسوة أخيها وجبروته قالت متهكمة وهي ترتعش خائفة:

_ السترة! وهل هي عريانة لكي تحتاج السترة؟

قالت كلامها ذاك وهرولت إلى المطبخ لتتجنب انفجار أخيها وغضبه الذي لا تُحمد عاقبته!

العمة صفية امرأة بسيطة جدا، حنونة وكلامها عفوي، أحيانا يثير الضحك، لكن له معنى ومغزى رغم بساطته. لم يكن كلام العمة صفية عابرا أو عفويا مثل ما تتصوره العائلة ولكنه كان منبعثا من حرقة قلبها على ما تتعرض إليه بنات أخيها وهي التي ربتهن وقضت معظم الوقت معهن أكثر من أمهن التي ولدتهن.

بعد أسبوع قضته غالية تحت إشراف الطبيب والممرضات في المستشفى، رجعت إلى المنزل وإلى انزوائها كعادتها. لم تكن تكلم أحدا ماعدا أختها سلمى ولم تفرح بتفوقها فتلك الشهادة في نظرها لا قيمة لها مادام سينتهي بها المطاف إلى الزواج. هذه الكلمة التي تضرم نارا ورعبا في أحشائها. فيوم الزفاف بالنسبة لها يوم قرح وليلة الدخلة هي ليلة الفضيحة والموت. نصح الدكتور والدي غالية بأن يتجنبا أي شيء يمكن أن يحزنها أو يغضبها وإلا ستتعرض لانهيار عصبي يصعب منه الشفاء. تغير أسلوب الوالدين متجنبين الاصطدام معها بالكلام ورغم ذلك كانت لا تتكلم إلا نادرا، متشحة بالحزن متلفعة بالصمت. ندمت الأم على الأسلوب الذي كانت تنهجه مع ابنتها والذي كان سيؤدي إلى فقدان ابنتها، لكن كبرياءها وعصبيتها منعاها من التقرب منها أو ضمها إلى صدرها وكأن غشاوة عمت قلبها ولم يستطع أحد أن يوقظها من ذلك الغرور إلا العمة صفية التي انفجرت في وجهها غاضبة:

ـ هذا حرام! هذا شيء لا يرضى عنه الله. اتقي الله والعني الشيطان وخذي بيد ابنتك التي تحتاج لمسة منك وكلمة طيبة تنبعث من صميم قلبك. كرست العمة صفية كل حياتها لأخيها سلطان وعائلته بعد أن فشلت في حياتها الزوجية، أقسمت ألا تتزوج ثانية وأن تعيش مع أخيها بقية عمرها. لأول مرة تصرخ في وجه أخيها وفي وجه زوجته. إن لم تتركا غالية وشأنها، سأترك البيت إلى الأبد. فغر سلطان فاه مندهشا لردة فعل أخته المعروفة بالخجل وشدّة احترامها له، والآن تمردت عليه وعبرت عن رأيها بكل جرأة. رن جرس التلفون، أسرعت وحملته بعصبية رغم أنها ليست من عادتها أن تحمل سماعة الهاتف إلا أنها كانت تريد بذلك أن تظهر لهما استياءها وغضبها الذي وصل حدّاً لا يمكن إخفاؤه.

ـ من المتكلم؟

ـ الدكتور نبيل خلف ...

ـ من الدكتور خلف؟

قالت سلمى بسرعة: إنه الدكتور نبيل الذي ساعد غالية في ليبيا.

أسرع الأب وأخذ السماعة من يد أخته وقال: أهلا، أهلا دكتور نبيل.

ـ الحمد لله، إنني أتكلم معكم من الدار البيضاء، سأكون في فاس بعد أربع ساعات.

ـ يا أهلا ويا سهلا سننتظرك في المطار.

نظر سلطان إلى بدرية وقال: لابد أن أذهب إلى سوق المواشي وأشتري خروفا، يجب أن نكرم هذا الرجل بقدر ما أكرم ابنتنا واعتنى بها.

أسرعت الأم إلى غرفة ابنتها وجلست على حافة السرير الذي تستلقي عليه غالية وكأنها تحتضر.

ـ ابنتي غالية لقد جئت بخبر سيسعدك كثيرا.

أجابت غالية دون أن تلتفت إلى أمها: ليس هناك ما يسعدني في هذه الدنيا إلا متابعة الدراسة.

قالت بدرية وهي تبكي: ما دامت الدراسة هي الروح التي تتنفسين بها فلن نقف حائلا بينك وبينها أبدا. فهيا الآن، انهضي واستحمي لأن ضيفاً عزيزا عليكِ سيشرفنا بعد أربع ساعات.

نظرت غالية إلى أمها وقالت: هل ...

ـ نعم، الدكتور نبيل. إنه في مطار الدار البيضاء. اتصل بأبيك وأخبره أنه سيكون في مطار فاس بعد أربع ساعات. ضمت غالية أمها قبلتها وقفزت من السرير مهرولة وغيمة من الفرح تلحق بها إلى الحمام فرحة بأمل وعد جديد يدر رذاذا أكثر جمالا وبهاء.

لامارا 14-11-13 10:16 PM

الفصل الثاني عشر - الجزء 1



طريق إلى المجهول



الحزن الذي كان يرتدي المنزل انقلب إلى حلة من الفرح، كل شيء أعدّ بعناية فائقة والخادمات الأربعة وقفن أمام الباب واحدة تحمل الحليب والتمر وأخرى تحمل الورود والثالثة العطر والبخور، وسلطان يرتجل أبياتا شعرية مرحبا بضيفه الغالي. كل من في البيت يعيش في تلك اللحظة نشوة فرح كانت غائبة يوما في بيت سلطان. ها قد وصل نبيل محلقا من غياهب المجهول حاملا تحت أجنحته آمالا علها تسكت أنين جراح صديقته الغالية التي كانت آخر من دخل الصالون لاستقباله. تمنت أن تضمه إلى صدرها وتقول له لا تتركني هنا غريبة أحزم خطواتي إلى الرحيل. إنهم يريدون التخلص مني بالزواج ولا أعرف أين سيسري المصير. رائحة الهال تعبق من الإبريق المغشي بالشاي، ودخان الصندل يتراقص حول الستائر المسدولة بابتهال، ونبيل يلملم اندهاشه في تلك الأصوات المبتهجة والكرم المندلق حوله.

في اليوم الثاني استدعى سلطان زملاءه للعشاء وللتعرف على ضيفه العزيز، وابتداء من اليوم الثالث تلاحقت العزائم احتفاء وإكراما لنبيل وتعبيرا عن فرحة العائلة وأصدقائها بقدومه. تمنت غالية أن تنفرد به وتفضي له همومها والحصار الذي فرض عليها، لكن نبيل كان يقضي معظم الوقت مع أبيها إما في مكتبته أو في صالون الضيوف. تمرّ الأيام خلسة ولم يبق منها إلا حفنة لكي يرجع إلى ليبيا. بدأ الخوف يزحف من جديد نحوها وهي التي لا تقوى على الحركة فأغلال التقاليد تحوط بها من كل جهة. انتابتها رعشة جرجرت أنفاسها المنقبضة، وبدأت تحيا من جديد قوقعة تطل على الخراب. تمشي في غرفتها بعصبية وتشد على يديها بقوة والخوف يلتف حولها يشبه الجحيم. تحتضن وحدتها المرتمية تحت نزيف الألم حتى دخلت عليها سلمى وهي تلهث، أغلقت الباب وراءها وقالت:

ـ لا أعرف ماذا أقول لك وهل الخبر الذي أحمله إليك سيكون سارا أو محزنا.

اقتربت غالية منها بسرعة البرق وحزن غريب الشكل يتآكلها، منهوكة القوى كأنها خارجة للتو من معركة خاسرة وحزن عميق يثقل عينيها وقالت:

_ هات ما عندك بسرعة فأنا لم أعد أتحمل المزاح.

نظرت سلمى إلى غالية والفرح يشعّ من عينيها:

_ أعتقد أنك ستفرحين كثيرا يا غالية.

ـ كفاك مراوغة وهات ما عندك؟

تمتمت سلمى بشفتين مبتسمتين مرتعشتين وقالت:

_ لقد سمعت حوارا بين نبيل وأبي. إن نبيل …

ـ ما به نبيل هل قرر أن يرجع إلى ليبيا من غير أن يجد حلا لمشكلتي، مثلما وعدني؟

ـ سمعته يطلب يدك من أبي.

تسمّرت غالية في مكانها، فاغرة فاها، شاخصة العينين وكأنها فوجئت بتنين يريد افتراسها.

ـ ماذا قلت يا سلمى؟

ـ هذا ما سمعته يا غالية.

بدأت غالية تحرك رأسها وتتراجع بخطوات إلى الوراء، لا أصدق ما أسمعه كيف يجرؤ أن يطلبني للزواج وهو يعرف أنني لا أحبه؟ وكيف يطلب يدي من أبي من غير أن يسمع موافقتي شخصيا؟

ـ هل يمكنك أن تهدئي؟ العصبية لن تجديك نفعا أنت تعرفين نبيل أكثر منا جميعا، إنه لن يقبل زواجك منه غصبا.

ـ كيف له أن يفكر بالزواج وهو متزوج وله خمسة أولاد أكبرهم يصغرني بسنتين فقط؟ كنت معه طوال الوقت في طرابلس، وفي بيته تحت ذات السقف لم يقل لي يوما أنه يريد أن يتزوجني. صحيح أنه اهتم بي اهتماما لم أر مثله قط. كان في قمة الطيبة وكريما معي، لكنه ... نظرت إلى أختها وقالت: ما سر الخطاب والعرسان الذين تراكموا علي خلال هذا الشهر؟

مازالت غالية وسلمى تتحدثان حتى دخلت عليهما الأم وقالت:

ـ سنسافر غدا إلى مدينة السعيدية وسنقضي هناك أسبوعا مع الدكتور نبيل، نريده أن يستمتع بعطلته في المغرب. بالمناسبة لقد أرسلت الخادمة لتنظيف البيت وترتيبه وشراء ما سنحتاجه هناك. ابتسمت لهما وغادرت الغرفة.

قالت غالية لسلمى بغيظ:

_ إنها تظن أنني لن أرفضه لكثرة ما تحدث عن كرمه ومعاملته لي. الآن لن يجد سببا مبررا لرفضي له. إنه دكتور ومترجم فوري في مركز دبلوماسي وميسور جدا فماذا أريد أكثر من ذلك.

قالت سلمى: هذا إن رفضته!

ـ وهل تعتقدين أنني سأقبل الزواج منه؟

ـ ماذا تريدين أحيانا لا أفهمك. نبيل لن يكون حجر عثرة في طريق متابعة دراستك.

طرق الأب الغرفة ودخل، كان الفرح يشِعُّ من عينيه.

ـ مساء الخير يا بناتي.

وقفت سلمى وغالية ورجلاهما متسمرتان في الأرض وكأنهما رأيا ماردا. نطقتا بصوت واحد: مساء الخير يا أبي.

ـ غالية، أريد التحدث إليك.

قالت سلمى متلعثمة:

_ سأذهب لأرى عمتي إن كانت تحتاج إلى مساعدة.

غادرت الغرفة وتركت غالية تنظر إليها والخوف يتملكها تمنت ألا تتركها.

اقترب منها بخطوات بطيئة ممسكا بذيول الغضب جلس على حافة السرير، صمت قليلا أما هي فكانت تتابع حركاته في صمت. نظر إليها بعينين جامدتين وقال:

_ يا ابنتي لم تسمح لي الفرصة أن أتحدث إليك منذ خروجك من المستشفى، وذلك لانشغالنا بضيفك وضيفنا. لكن الآن جئت لموضوعين اثنين، أولا مع أنّ ما فعلتِه في حقك وفي حقنا كان أمرا يستحيل غفرانه. كنت ستمسحين الأرض بشرفنا وكان الناس سيتقولون وينشرون أكاذيب وادعاءات تمس شرفك وعفتك لذلك فضلت الموت على العار. لم أستوعب تهورك الشنيع حتى الآن. ماذا ينقصك؟ نحن لم نقصر معك ولا مع باقي إخوتك في شيء. كانت ترجف عندما سمعت كلمة الشرف والعار والعفة هامت ومضت في ضباب، ضائعة وسط سرها. " الفتاة تنتحر لكي لا تتعرض للخزي والعار، هاهو ذا أبي يقولها بعظمة لسانه"، أفكارها تحوم حول دوامة من المفردات، العرض والشرف والشريفة والعفة والعفيفة والزواج والخطوبة والعذرية والدخلة والعار والانتحار. اهتزت مفاصلها وكأن جنّيا لبسها. أسنانها تصطك خوفا من الزواج، فما إن تنساه حتى يزحف نحوها من جديد. نبيل الذي تعتبره مخلّصا لها من المأزق الذي هي فيه ويسهّل عليها طريقها إلى الحرية التي تبحث عنها طلب يدها من أبيها. قالت بلسان يتلعثم رعبا:

_ سامحني يا أبي، إنه خطأ فادح، لن أعاوده مرة ثانية.

نظر إليها بعصبية وقال بصوت شبيه بالصراخ:

_ أنت تأخذين الأمور بكل بساطة، لكن لا تعرفين مدى تأثيرها على سمعة العائلة وشرفها.

كانت صامتة ورأسها مطأطئ خوفا ورجلاها مشدودتان ببعضيهما ويداها تشابكتا على ركبتيها وآهات تزمجر بداخلها: شرف! شرف! ما هو الشرف؟ وماذا تعرفون عن الشرف؟ وإن كنتم تعرفونه، يا ليتكم تحسنون التعامل مع هذه الكلمة ومعناها العظيم. لو فعلتم ما تعذبت غالية وشرّدها سرّها الخطير. آه يا أبي ليتك تفهم ... ليتك تخترق عظام صدري وجمجمة رأسي لترى كم غاليتك يعذبها فهمك للشرف وتعاملك مع هذه الكلمة ...آه ...

قال الأب: هل تعرفين إن داستك سيارة ومتّ لكان أهون علي من موتك انتحارا؟ موتي عندك دعسا بسيارة أفضل من موتي انتحارا لكي لا أجلب لك العار. قبح الله هذا الشرف الذي تسعى إليه حفاظا على سمعتك. فماذا عني أنا؟ ماذا اقترفت من ذنب إن كنت سأخزى أو أهان أو أقْتَل بذنب لم أرتكبه. ماذا عني أنا التي لم أٌلْمَس في حياتي ومع ذلك عرفت العذاب وذقت المر منذ وقوع ذلك السر الخطير على جسمي وروحي؟ بقعة دم حمراء في لباسي الداخلي، لم أكن أنا سببها، نزلت من جسمي من غير إرادتي وحولتني إلى شؤم ملموس طوال حياتي وجعلتني في نظركم غولا ومسكونة بالجن. أطلقتم علي كل هذه الصفات، تنعتون بها حزني وانطوائي وغضبي من غير أن تسألوني يوما عن سبب ذلك. وكيف لي أن أبوح لأحد منكم بذلك السر. إن العنود نصحتني بل هددتني بأن لا أبوح بذلك ولو لأمي.اسمعي يا غالية، أنت تعرفين معزتك ومكانتك عندي. لقد أسميتك غالية وأقول دائما إنك أميرتي لكن هذا لا يعني أنني سأسمح لك بأن تدمري سمعة العائلة. كل شيء في كفة وسمعة العائلة وشرفها في كفة ثانية. إنني لم أمد قط يديّ عليك فلا تدفعيني لذلك. ارتعشت غالية وتبلل سروالها، أغمضت عيناها حتى لا تنزل دموعها وزفير يخرج من أسفل أحشائها. هذا ما بقي لك يا أبي أن تفعله تجاهي. تضربني. فولله أن الانتحار أهون عليّ ألف مرة من أن تمدَّ يدك علي وتضربني ظلما. اسمعي يا ابنتي سأغفر لك تلك الفعلة الشنيعة بشرط أن تقبلي الدكتور نبيل زوجا لك. فاجأها ذلك الألم الغامض الذي داهمها وانتقل من منطقة ما في الجسد وتسرب إلى باقي الأوصال:

_ لماذا أقبله زوجا لي؟ هل طلبني للزواج؟

ـ أجل، طلبك للزواج.

شعرت بدوار وكأن غشاء من ضباب ينزل على عينيها قالت: لكنه متزوج وله خمسة أولاد.

قال بلهجة آمرة: وإن كان، فالرجل يحق له الزواج مثنى وثلاث ورباع.

عاصفة أثارت غضبها وسرقت هدوءها المصطنع، تنهّدت بحسرة حيث لا هروب من الموت الذي يطوّقها بأساوره ويضعها في زنزانته المظلمة: آه يا أبي كم تظلمون آية الله وكم تستشهدون بها لإرضاء أهوائكم ظنّا منكم أنكم تتقيدون بما تحتوي هذه الآيات العظيمة من معان.

قالت: إن الرجل يحق له أن يتزوج امرأة ثانية إن كانت زوجته لا تلد أو مريضة مرضا يصعب شفاؤه، وزوجها لا يحق له الزواج إلا بعد إذن منها. وأنت يا أبي تعرف ذلك ...

وقف من مكانه وعباءته تطايرت في فضاء الغرفة وقال مقاطعا:

_ كفى! كفّي عن الكلام. لقد أعطيتك الحرية أكثر من اللازم، فأسأت استعمالها إن نبيل يريد الزواج منك وأنت سبق لك أن تعرفت إليه وشكرته لنا إلى درجة أننا أحببناه لما أسداه لك من معروف. زيادة على ذلك أحواله المادية جيدة ومستعد لشراء شقة لك في واشنطن أو نيويورك ويغطي كل نفقات الدراسة. أليس هذا ما تريدين؟ فهو لن يقف حائلا بينك وبين دراستك.

خفضت رأسها، إنه فعلا يريد أن يتزوجني، قدم طعما لأبي لا يمكن أن يرفضه لكنه لا يعرف أنني أرفض الزواج منه، ولن يحلم بتحقيق رغبته على حسابي. مسكين يريد أن يشتريني بتأشيرة إلى أمريكا. إنه لا يعرف أن تأشيرتي هي حريتي وتحرير رقبتي.

ـ ماذا قلت يا غالية؟

ـ أمهلني أسبوعا وسأرد عليك.

ـ أي أسبوع إنه سيرجع إلى ليبيا بعد أيام ونريد أن نحسم هذا الموضوع وننهي مراسم الزواج.

ـ مراسم الزواج؟ هل هناك زواج يتم في أسبوع؟

ـ نعم زواجك أنت.

ـ ماذا تريدني أن أقول؟

ـ لا تقولي شيئا، السكوت علامة الرضا سأتركك الآن لأن الضيف وحده في الصالون.

تركها متسمرة في مكانها كتمثال صخري وينبوع من الدموع ينفجر منه مهددا بالفيضان، شاردة في حفل زفافها وبجانبها نبيل الذي أمسك يدها بقوة وأدخلها إلى غرفة باردة كالموت والنساء يرقصن ويغنين وبعضهن يطرقن الباب وينادين بصوت عال " بسرعة يا عريس! كان العرق يتصبب من جبينها. دخلت عليها سلمى بعدما تأكدت من مغادرة أبيها الغرفة. وجدتها هادئة هدوءا غريبا. أهي خالية البال إلى هذا الحد أو أن الوعيد والتهديد صقلها وروضها. رفعت غالية عينيها تنظر إلى أختها وقالت:

_ لقد وقعت في فخ كبير يا سلمى. أحس وكأن الدنيا تدور بي وأشعر برغبة في الاستفراغ.

ـ يجب أن تستخدمي عقلك بهدوء وروية. ألم تخبريني أن نبيل رجل طيب جدا ويحب مساعدتك؟

ـ بلى، لكن الآن لم أعد أفهم ماذا يجري وما هي نواياه لم أعد أثق بأحد يا سلمى.

ـ لماذا كل هذه الهواجس والأفكار المتشائمة؟

ـ أحاول أن أسترجع أفكاري وأتذكر الفترة التي كنت فيها في بيته. كان يجزل علي بالهدايا ويفعل المستحيل لإسعادي حتى أنه كان يضطر أحيانا لاستدعاء عائلة سوزان للنزهة معنا لأنه يعرف أنني أكره أن أنفرد به.

ـ لكن، لماذا كنت تقبلين هداياه؟

_ لم أقبلها يا سلمى. لكنه كان يشتري الأشياء ويلحّ علي ّ كي آخذها.

ـ هذا أكبر غلط يا غالية.

ـ أعرف ذلك لكنني كنت أخاف أن يتخلى عني في تلك الفترة التي كنت فيها في أمس الحاجة إلى صديق أعتمد عليه. إنك لا تعرفين كم عانيت في تلك البلاد. لم أجد الراحة والهدوء والاستقرار لا مع عائلة ابن الإيمان ولا مع العائلة المغربية. فقط مع نبيل وجدت راحة االبال.

ـ الآن دعينا من الحديث عن الماضي ولنتحدث عن المستقبل.

ـ أي مستقبل ... أن أقبله زوجا!

ـ ولم لا فهو سيعطيك كل شيء ويوفر لك أي شيء. ويحقق لك آمالك كلها.

ـ لا أريد أن أتزوج هل تفهمين؟

ـ أنا لا أفهمك ولا أستطيع أن أفهمك. أنت غامضة والتفاهم معك مستحيل. يا ليته طلبني للزواج بدلا منك.

ـ أتسخرين يا سلمى؟

ـ لماذا أسخر كل فتاة تتمنى أن تتزوج رجلا له مكانة في المجتمع ومستوى ثقافي محترم وأحوال مادية جيّدة. ونبيل تتوفر لديه كل تلك الصفات.

ـ أهكذا الزواج في نظرك وأين هو الحب والتفاهم !؟

ـ إنه الاستقرار يا غالية سيمنحك الحب كله.

ـ أنت تريدين الزواج من شهادة جامعية ومال في البنك وليس من الشخص نفسه.

ـ كفاك فلسفة! لا أستطيع أن أجاريك في أفكارك الخيالية والبعيدة عن الواقع.

ـ إنها الحقيقة لكن لا أحد يحب أن يسمعها لأنها تجرحكم وتعري سلوككم.

ـ ألم يحسم أبي الأمر معك. لقد كنت صامتة عندما قال لك نبيل يطلبك للزواج وصمتك معناه علامة الرضا.

ـ أي صمت هذا الذي تعتبرونه علامة الرضا؟ إن الصمت هو علامة الخوف وعدم القبول. من أدراك أن ذلك الرضا مفروض للمرء كالموت لا يستطيع منه هربا، رضى بالقهر وليس بالاختيار.

_ هل هذا هو جزاء المعروف لصديقك الوفي؟

_ الصداقة عندي أغلى من مال الدنيا وأنا مستعدة للتضحية بالغالي والنفيس من أجلها. نبيل صديق عزيز إن حافظ على صداقتي له.

ـ أرني هذه التضحية والوفاء إذا.

سكتت لثوان وهي تفكر بعمق ثم قالت متلعثمة:

_ يمكنني أن أضحي بعين أو بكلية لأجله ولكن لن أتزوج به.

ـ فال الله ولا فالك.

ـ لا أريد الحديث عن هذا الموضوع. الزواج مسألة مرفوضة عندي. أنا أختار وأوافق على من يتقدم لي أو أرفضه.

ـ هكذا بكل بساطة.

ـ نعم، هكذا بكل بساطة أنا حرة في نفسي وجسدي لن أسمح لأحد ببيعه أو تأجيره. جسدي ليس سلعة.

ـ لا، أنت لست حرة في نفسك ووالداك لهما سلطة عليك وسيظلان إلى أن تنتقلي إلى بيت زوجك وسلطة زوجك.

أتريدين أن تسيري عكس التيار كل البنات يتزوجن حسب اختيار العائلة.

ـ لا أريد الزواج بهذا المفهوم. ألا يوجد أحدا يفهمني؟

جلست غالية على السرير تبكي نادبة حظها، ترثي نفسها وغياب حقيقة إثمها المزعوم في صمت. ليته لم يأت إلى المغرب. ليتني لم ألتق به. ليتني لم أرجع من أمريكا إلى المغرب.

طرقت الخادمة الباب وقالت: إن العائلة تنتظركما في السيارة.

طوال الطريق كان الأب يروي الشعر لنبيل وأحيانا ينتقل إلى النقاش في السياسة والعمة صفية تنظر في صمت إلى الطبيعة من خلال نافدة السيارة والأم تتابع الحديث الذي يجري بين زوجها ونبيل، أما غالية فلم تكن لها رغبة في الحديث مع أحد، ظلت صامتة إلى أن توقفت السيارة أمام المنزل. أكوام من الزهور تتمايل مع النسيم مرحبة بالضيف وضوء الشمس مترع بالبهجة. توجه الجميع إلى الصالون، أما غالية فهرولت إلى غرفتها والخوف يغزو داخلها، يبلعها. لن أنحني لرغباتهم، لن أرضى الهوان، غريبة بين أهلي لا أحد يفهمني، وحدتي وقلبي جريح يبكي وليس هناك من يسمعه. مازالت تناجي وحدتها الحبيسة بين جدران غرفتها الأربعة حتى دخلت عليها عمتها مبتسمة:

ـ اليوم سنتعشى كلنا حول مائدة واحدة مع الدكتور نبيل احتفالا بخطبتكما.

ـ حتى أنت يا عمتي.

ـ ألست فرحانة يا غالية؟

ـ هل هناك شيء يستدعي الفرح؟

ـ ماذا تريدين؟ رفضت عادل ابن الشنقيطي ورفضت عماد ابن المستشار السعداوي وترفضين أيضا الدكتور نبيل.

انفجرت غالية تبكي، ضمتها العمة إلى صدرها وقالت:

_ حياتك أغلى عندي من كل شيء حتى ولو بقيت بلا زواج.

ـ ساعديني من فضلك يا عمتي ماذا أفعل؟

ـ ليس عندك أي حل سوى مصارحة الدكتور نبيل. لكن إلى متى ستظلين رافضة كل من يتقدم إليك؟

دخلت الأم بزيها السوداني ورائحة الصندل تنبعث من ثوبها والفرح على وجهها، متجاهلة حزن غالية وتجهم العمة صفية وقالت:

_ هيا بسرعة فنحن ننتظركما للعشاء.

صوت الطرب السوداني ينبعث من الصالون وحوار الأب سلطان وضيفه يتطاير في تناسق مع صوت الموسيقى وعبادي يدندن ويصب الشاي وسلمى تبتسم في فرح. دخلت غالية والعمة صفية وبدرية إلى الصالون. جلست غالية بالقرب من أختها غير مبالية بالحديث الذي يجري حولها جامدة وكأنها صخر لا نبض فيه ولا خلجات، متلفعة بالصمت تبحر في زورق أسلوب أهلها الأناني والمفتعل، أفكارها تتقاطع مع مسارات ثرثرتهم، تمنت أن تغلق باب سرها الذي تدخل منه الرغبة الجامحة للهروب أو الانتحار. أما نبيل فكان ينظر إليها بإعجاب وحب ويخبر والديها كيف تعرف عليها في طرابلس ويمدح سلوكها المتميز وأخلاقها الحميدة والأب يصغي إليه باستمتاع ، شردت محاولة فك لغز الحيرة وهي بينهم كالأصم مرتدية ذاتها القلقة في ضجر إلى أن انتهت السهرة العائلية وذهب الكل إلى مضجعه.

في صباح اليوم التالي، كان الطقس جميلا وأشعة الشمس الصباحية تتراقص بغنج في كل ركن من أركان المنزل، انتهزت غالية الفرصة لتخرج إلى الشاطئ، ساورتها الرغبة للسباحة فما أن لمست قدماها الماء حتى حملتها أجنحة الأمواج إلى قاع البحر، أحست بالرغبة في إغلاق نفق الحزن إلى الأبد وأن تنام بين سهول ذلك البحر بعيدة عن صخب كابوس سرها. اجتمع كل من في البيت حول مائدة الفطور، انتبهت الأم غياب غالية، شعرت بقشعريرة وتغير لون وجهها، وقفت بسرعة كالملسوع خائفة: أين غالية؟

أجاب الأب:

_ حتما على الشاطئ.

التفتت الأم إلى سلمى وقالت:

_ لماذا لم ترافقيها؟

قالت سلمى:

_ استيقظت فلم أجدها.

إجابة سلمى زادت من توترها، وقف عبادي مبتسما وقال موجها كلامه لأمه:

_ سأذهب إلى الشاطئ وأحضر غالية.

انطلق عبادي كالبرق إلى البحر ولحق بأخته التي كانت تتعلق بحبال متدلية من السماء، قطعها صوته مناديا:

_ غالية هيا الكل ينتظرك للفطور.

رجعت غالية إلى البيت في بكاء صامت، استقبلتها الأم أمام الباب متلهفة ترتعش من الخوف، قالت بعد أن تنفست الصعداء: أين كنت كلنا ننتظرك هيا ادخلي بسرعة.

اقتربت غالية من أمها وقالت:

_ ما رأيك أن أتكلم مع نبيل على انفراد؟

قالت الأم:

_ لا بأس فإنه أصبح خطيبك.

ـ هل يمكن أن أذهب معه إلى المقهى فهي لا تبعد عن المنزل؟

ـ لكن شرط أن يرافقك أخوك عبادي.

ـ ألا يمكن أن تذهب معي سلمى؟

ـ أخوك الذي يجب أن يرافقك.

تناول الجميع الفطور في هدوء مفتعل، حرقة بداخلها أبت الانطفاء، تتحدث مع نفسها كمن فقد عقله. " هل أحتاج إلى حارس يخرج معي لمراقبتي؟ ألم أكن أسكن معه في منزله وكانوا يعرفون ذلك؟ لم يكن معي رقيب ولا حارس. لماذا الآن يفرض عليّ، ما هذا التناقض؟ في ليبيا معه في منزله. وحدي ... لا مانع. وهنا معه في المقهى على بعد أمتار ممنوع بدون حراسة ... آه ... كان عبادي متوترا لأسلوب أخته الغامض، خائفا أن تقدم على تصرف أخرق كالذي فعلته سابقا. استحسن رغبة غالية للتحدث إلى خطيبها، فطلب من أبيه أن يأذن له بالخروج مع نبيل وغالية إلى المدينة. خرج الثلاثة مترجلين إلى المدينة. طوال الطريق كان عبادي يتحدث إلى نبيل عن مدينة السعيدية وعن أصدقائه الذين يحبون السباحة مثله ومغامراته معهم في قاع البحر، وكيف يصارع الأمواج حتى ولو كان البحر هائجا ونبيل يستمع إليه، أحيانا يضحك عاليا وبين الفينة والأخرى يسترق النظر إلى غالية وهي تمشي في صمت ورأسها مليء بالعواصف. توقف عبادي أمام مقهى رولكس، التفت إلى نبيل وهو يبتسم:

_ في هذه المقهى أجلس مع أصدقائي وندرس كيف نسبح مسافات أطول في البحر المتوسط. ما رأيك أن نجلس هنا؟

قال نبيل وهو ينظر إلى غالية:

_ ليس عندي مانع.

المقهى في ذلك الصباح يعج كباقي المقاهي بالزبائن، طلب عبادي عصير الليمون، ثم استأذنهم في الانصراف كي يتحدثا على انفراد. فتحت غالية فمها متعجبة من تصرف أخيها المتحضر الذي لم تألفه منه. تابعت خطواته بابتسامة حتى غادر المقهى ثم التفتت إلى نبيل ومن غير مقدمات قالت: كيف سولت لك نفسك أن ... قاطعها بسرعة قبل أن تكمل حديثها وقال:

_ رأيت مناما الليلة التي اتصلت بي أختك سلمى. كنت مسجونة في غرفة صغيرة. بالقرب منك يقف سجان طويل القامة، عريض المنكبين وأنت تبكين وتصرخين. نبيل! نبيل! كنت مكبلة بسلاسل من حديد. سمعت نداءك وجئت محلقا في السماء على شكل طائر كبير. أمسكتك بمخالبي ثم طرت بك عاليا في الفضاء. كان السجان يحاول الإمساك بك لكنه لم ينجح ... تأكدت بعدها أنك فعلا في ورطة وتحتاجين مساعدتي والأغرب من ذلك شردت أفكر في الحلم، فإذا بي أسمع جرس الهاتف. كانت أختك سلمى. أخبرتني بأنك نجحت بامتياز لكنك راقدة في المستشفى. كان صوتها حزينا، انقطعت المكالمة ولم أستطع بعدها أن أعرف منها التفاصيل وبعد أسبوع وصلتني منها رسالة مطولة تشرح لي فيها وضعك منذ وصولك إلى المغرب حتى محاولتك الانتحار. كنت أعتقد أنني أستطيع الجلوس معك والتحدث إليك لإيجاد حل لمشكلتك بالتعاون مع والديك، لكن أهلك متزمتون جدا إلى درجة غير معقولة. وجدت نفسي عاجزا عن مفاتحة أبيك في موضوع دراستك في الخارج لأن كل أنواع الدراسة موجودة في المغرب وليس هناك أي عذر قد أعطيه له لكي يسمح لك بالسفر.

ارتعشت غالية كريشة في مهب رياح عاتية وقالت:

_ لذلك فكرت أن الحل في طلب الزواج مني!!

ـ والدك عنيد ومتشدد لا يحب الجدال في شيء لا يروقه، فلم يكن هناك حل إلا أن أطلب يدك منه ذلك هو الحل الوحيد والأخير الذي يمكنك من أن تسافري من دون غضب أهلك عليك.

ـ الحل الوحيد! هل تريدني أن أتزوج بك لأجل أن أشتري حريتي من أهلي ثم أقع في سجنك وهل يختلف وضعي عندئذ من سجن إلى سجن. كيف تفكر بهذا الأسلوب؟!

ـ هل عندك حل آخر؟

ـ وماذا عن زوجتك وأولادك وأنت تعرف أنني ضد تعدد الزوجات.

- سأشتري لك شقة في أمريكا بعيدة عن زوجتي وعن السودان.

- لقد أسأت فهمي. المشكلة ليست في الموقع الجغرافي. لا أريد أن يشاركني فيك أحد ولا أريد أن أشارك أحدا فيك كما أنني لا أريد أن أبني حياتي على أنقاض حياة الآخرين. لكن، لماذا تريد أن تساعدني؟ هل سافرت من أقصى شمال شرق المغرب الكبير إلى أقصى شمال غربه لمساعدتي حقا بدون مقابل.

ـ ماذا تقصدين يا غالية؟ إنني أحبك وأحبّ كل شيء فيك.

ـ لكن، أنا لا أفكر في الزواج وإن فكرت فيه، لن أقبله بهذه الطريقة.

ـ أية طريقة؟

ـ لن أتزوج بك طمعا في مساعدتك.

ـ ماذا يهمك في ذلك؟ لن تسكني حيث يسكنون ولن يصلك أحد منهم. هم يعيشون في السودان وأنت ستعيشين في نيويورك وهناك تتابعين دراستك. ماذا تريدين أكثر من هذا؟

ـ أي فتاة بوضعي قد تحلم بهذه الفرصة لكن لست أنا التي ستدخل على زوجة ضحت مع زوجها وأنجبت له أطفالا وعاشت معه الحلو والمر من الحياة. أشكرك من أعماق قلبي لكنني أرفض هذا العرض لأنني أعتبره صفقة مناقضة لضميري ولأخلاقي. صحيح كنت أعلق آمالا كبيرة عليك وكنت أعتقد أنك تستطيع مساعدتي وتستطيع أن تنقذني من الجحيم الذي أعيش فيه. لكن ما حصل لن يغير رأيي فيك ولن يؤثر في المحبة التي أكنها لك في قلبي. فأنت ساعدتني في بلاد الغربة وجئت طائرا إلى المغرب كي تساعدني بطريقتك لكنني أنا حرة في رفضها.

كان نبيل ينظر إليها بعينين دامعتين وقال: فما العمل إذا؟

ـ العمل ليس بيدك ولا بيدي. سأترك أمري لله. وأطلب منه أن يسامحني إن قمت بذنب لست سببه.

ـ ماذا تقصدين؟

اغرورقت عيناها بالدموع وارتعدت فرائصها، نظرت إليه بعينين حزينتين يائستين وقالت:

_ لم يعد يهمني شيئ.

انتابه ذعر شديد فتجمد في مكانه دون حراك. مسحت دموعها ونظرت إليه بعينين يملؤهما اليأس وقالت:

ـ أنا لست متشائمة ولكن سئمت ممن لا يفهمني. انس الموضوع وحاول أن تستمتع في الأسبوع الأخير الذي تبقى من عطلتك، إن عبادي لن يبخل عليك أبدا، سيأخذك إلى كل ركن جميل في المدينة.

ـ دعيني أساعدك أرجوك.

ـ كيف ستساعدني.

ـ أنا لن أفعل شيئا أنت لا ترضينه وسأظل صديقا وأخا لك إلى الأبد. عندما تنتهي مراسم الخطوبة سآخذك معي إلى ليبيا ومن هناك نجد حلا لمتابعة دراستك في أمريكا.

ـ لا أعرف ماذا سأقول لك و لا كيف أرد لك هذا الجميل. إلا أنني لا أفكر في الزواج وإن كنت أفكر فيه وكنت أنت رجلا غير متزوج وكنت أنا … لما ترددت في القبول بك شريكا لحياتي.

ـ هل هذا لغز يا غالية؟ إن كنت ماذا؟

ـ سيأتي يوم وسأفتح لك قلبي المكبل بسلاسل من حديد لكي لا يٌحِبَّ أو يحبّ ولا يفكر في الزواج إلى الأبد.

ـ لماذا تحرمين نفسك من متعة حللها الله في شريعته و ... و ...؟ في تلك اللحظة أقبل عبادي بصخبه وضجيجه:

_ تأخرت عليكما أليس كذلك؟ ما رأيك يا دكتور أن نذهب إلى مركز المدينة؟

قال نبيل مبتسما:

_ ليس عندي مانع لكن الأهل ينتظروننا للغداء.

ابتسمت الحياة مرة أخرى لغالية، دخلت مع أخيها ونبيل إلى البيت فرحة مسرورة. هرولت إلى المطبخ، وجدت عمتها منهكة كالعادة في تهيئة الطعام:

ـ عمتي، هل تريدين مساعدة؟

قالت العمة مستغربة:

_ متى كنت تساعدين عمتك يا شقية فأنت لا تحسنين الطبخ ولا شؤون البيت.

ـ أريد أن أتعلم يا عمتي، أعيب أن يتعلم الإنسان؟

ـ لا، ليس عيبا. هذا شيء جميل لكن كل شيء جاهز. لكن إن أردت مساعدتي فهناك الطناجر والكؤوس يمكنك أن تغسليها.

ـ قالت الخادمة: لقد نظفت كل ما في المطبخ يا سيدتي.

قالت العمة:

_ يمكن أن تهيئ غالية الشاي.

أجابت الخادمة:

_ قد هيأته كذلك.

دخلت الأم إلى المطبخ وقالت مخاطبة العمة: ما هذا الحماس الذي نزل فجأة على غالية؟

قالت العمة: إنها تريد أن تتعلم الطبخ.

قالت الأم: لا أظن أنها دخلَت المطبخ لأجل أن تعلميها ولكنها تحمل خبرا تريد أن تعلمك به بحجة المساعدة.

قالت كلامها ذاك وهي تضحك ثم غادرت المطبخ مسرورة لسرور ابنتها أما العمة صفية، فقد أمسكت بيد غالية وقالت لها:

_ أخبريني عن سبب اهتمامك المفاجئ بالطبخ.

اقتربت غالية من عمتها وهمست:

_ نبيل وعدني بأن لا يتخلى عني، سيساعدني ويحقق حلمي.

ـ ألم أقل لك يا ابنتي إن الله سيكون معك؟

دخلت سلمى إلى المطبخ فرأت عمتها وأختها يتحدثان بصوت منخفض والفرح يظهر على وجهيهما وقالت:

_ هل لي أن أفرح معكما؟

قالت غالية:

_ لقد فٌرِجت يا سلمى إن نبيل سيساعدني. لقد وعدني بذلك.

ـ ألم أقل لك بأن نبيل لن يتخلى عنك؟ الحمد لله، لقد نفعت الرسائل.

قالت غالية مستفهمة:

_ أية رسائل؟

أجابت سلمى:

_ كنت أكتب له كل صباح رسالة أخبره فيها عن كل الأحداث التي تعيشينها كل يوم والتي تعكر صفوك.

ـ ماذا قلت؟ تكتبين له رسائل! كيف؟ ومتى؟

ـ أما عن متى، فمن اليوم الذي جاء فيه عندنا. وأما عن كيف فذاك تكتيكي الخاص.

قالت غالية وهي تضحك: مثل التكتيك الذي قمت به في المستشفى.

ضحكت العمة وتبعتها سلمى وعلا الضحك في المطبخ. سمع الأب صوتهن عاليا، فبدأ يسعل كعلامة أن يخفضن أصواتهن. لاحظت الأم فرح ابنتها منذ رجوعها من الفسحة مع نبيل، فتيقنت من قبول غالية الزواج منه. أسرعت لإخبار زوجها.

رجعت العائلة إلى فاس لتهيئ حفلة الخطوبة وحضرت العنود من موريتانيا تاركة أولادها مع أبيهم والخادمة لكي تحضر فرح أختها الحبيبة جدا عليها وتستمتع بانفجار ذلك السر الخطير الذي لطالما تاقت ليوم موعده. فرح الوالدان بقدوم ابنتهما الكبرى لتفرح لفرح أختها. لم تمر أربع وعشرون ساعة حتى كانت كل ترتيبات الفرح جاهزة ولم تبق إلا ساعات معدودة لحضور المدعوين. في الساعة السادسة مساء أصبح البيت يعج بالناس وصوت المطربة الموريتانية المشهورة محجوبة بنت الميداح يٌسمع في كل أرجاء البيت وخارجه. أحضر عبادي غالية من عند الكوافير، وبمجرد أن دخلت إلى البيت حتى علت الزغاريد. أجلستها أمها بجانب خطيبها على الأريكة المزينة بالورود. عيون الحاضرات تترصدها من كل الاتجاهات، يتلألأن في كبرياء، يتمايلن بين موجات الإيقاع، ونبيل ممسك بيدها وابتسامة دافئة تطوق سحنة وجهه. شردت غالية مع المطربة وسافر عقلها إلى بيته في طرابلس، تبحث عن همسة أو نظرة أو لمسة صدرت منه فوجدت حبا صادقا، ركب الخطر بقلب رقيق وحس دافئ ليحملها فوق جواد الحرية. كانت العمة صفية واقفة تنظر من بعيد ابنة أخيها وتبتسم وسلمى وعبادي يرقصان والعنود تحدّق في غالية ونبيل هذا الذي سيكون على يديه كشف ذلك السر الذي أمرتها بكتمانه. وقف الأب وسط ذلك الحشد الغفير يرتجل أبياتا من مدح في خطيب ابنته والمطربة محجوبة بنت الميداح ترددها بصوت عذب ولحن يطرب السمع وغالية تستعيد تفاصيل طفولتها وأحيانا تنظر إلى أختها من أبيها بطرف العين، آسف لك أنك جئت من بعيد لتعيشي فضيحة سري ، لكن ذلك لن يحصل، نبيل أصبح خطيبي وسيأخذني معه.

في صباح اليوم التالي، اجتمعت كل العائلة حول مائدة واحدة مع الخطيب الذي أصبح واحدا من أفراد ها. كانت غالية مليئة بالفرح جالسة بجانب سلمى والعمة صفية والآن بعد الخطوبة لم يعد سوى أن تستعد للسفر مع خطيبها، كانت تطير في فضاء حلم جميل ذلك الصباح إلى أن تبدد مع صوت أبيها الذي قال موجها كلامه إلى نبيل:

_ يا دكتور، لم يبق إلا أيام معدودة على سفرك، لذلك فضلت أن أناقش معك موضوع العرس وكتب الكتاب قبل أن تسافر معك ابنتي.

نظر نبيل إلى غالية بهدوء ثم حول نظره بسرعة.أما هي فكلام أبيها نزل عليها كالصاعقة. أمسكت بيد أختها وضغطت عليها بكل قوة، صاعقة حلت بها في ذلك الصباح المشرق الذي أصبح يرتدي حزنا خفيا وتقمعه لعنة السر الذي اعتقدت أنه زال مع خطوبتها وسيزول كليا بعدما تسافر.

قال نبيل ووجهه متشح بالحزن للورطة التي وقع فيها:

_ غالية تريد إنهاء الدراسة قبل الزواج.

قال الأب بجدية:

_ لن أسمح لبنتي أن تخطو خطوة واحدة معك دون عقد شرعي.

قالت الأم:

_ لابد من حفلة عرس كبيرة، إن غالية ابنتي البكر وأريد أن أفرح بها.

كانت غالية تهتز خوفا وتتصبب عرقا لما تسمعه من ذلك التضارب في الآراء وقلبها يخفق بشدة، خائفة من شيء لا تعرفه ولا تريد أن تعرفه. إن ذلك الشيء سيحصل قريبا وسيكون وقعه وخيما.

قال الأب موجها كلامه للأم:

_ أنا لا أتكلم عن العرس ولا أريد عرسا بقدر ما أريد الاطمئنان على ابنتي.

قال نبيل:

_ يا دكتور سلطان، ابنتك في أيد أمينة وكانت تسكن في بيتي قبل أن أتعرف عليكم.

أجابه الأب:

_ لقد ذهب تفكيرك بعيدا يا دكتور. إن كنت أثق بابنتي فهذا لا يعني أنني أثق بالمجتمع الذي ستتواجد فيه غالية. إن شرف البنت أغلى شيء ولا أريد أن تفقده لأي سبب من الأسباب.

قال نبيل:

_ إن ابنتك شريفة بأخلاقها وسلوكها وسافرت لوحدها، لم يكن معها رقيب إلا ضميرها فهي كفيلة بالحفاظ على شرفها ولا تحتاج لزوج كي يساعدها أو يرغمها على الحفاظ عليه.

قال الأب بحزم: شرطي الوحيد والأخير، إجراء العقد.

قالت الأم: لابد من كتب الكتاب والدخلة فنحن لا نريد أن تتقول الناس علينا.

قال نبيل موجها كلامه إلى الأم: أليس عندك ثقة بابنتك؟

أجابت الأم: بلى، لكن كلام الناس يكوي يا دكتور وابنتنا كما قلت، جالت وسافرت فلابد أن تثبت لهم بأنه رغم سفرها فإن شرفها نقي كالماس.

قال نبيل وهو يمسح العرق من جبينه في توتر: عشت وحيدا في ليبيا سنين طويلة وصادفت فتيات ونساء كثيرات بحكم وظيفتي وعرفني القدر بابنتكم التي غيرت نظرتي في النساء. إنها المثل الأعلى في الأخلاق.

قال عبادي الذي شعر بالغيرة من سماع كثرة المدح الموجه لأخته:

_ البنت عار ولو كانت من تكون ...

لم يرد نبيل أن ينتقد عبادي لكي لا يعقد الأمور أكثر مما هي عليه. نظر إلى سلطان وقال:

ـ صادفت فتيات كثيرات، سنحت لهن الفرصة للسفر إلى الخارج وكان هدفهن الوحيد هو الحصول على المال بأي طريقة كانت، لكن ابنتك غالية كانت على عكس ذلك، هدفها الوحيد هو الدراسة والحصول على درجة عالية من العلم. أحب ابنتك وهي تبادلني نفس الشعور كما أثق بها كل الثقة لذلك أردت أن تبدأ علاقتنا على التفاهم والصراحة والاحترام فهي تريد إتمام الدراسة قبل الزواج وأنا أحترم رغبتها.

لم يستطع الأب أن يخفي الغضب الذي يظهر على سحنة وجهه وقال بإلحاح:

ـ اسمع يا دكتور إن الشرف مقدس عندنا وأيضا هو شرف العائلة لذلك لابد أن تكتب كتابك على ابنتي قبل سفركما.

شعر نبيل بأن شيئا ما ثقيلا يجثم على صدره، كابوس مزعج، كان يظن أن مشكلة غالية ستنتهي مع الخطوبة ولكن ما يبدو أنها زادت تعقيدا وأن غالية لا محال ستقوم بفعل شيء لا تحمد عقباه، لا يعرف كيف يرضي غالية وعائلتها. قال وقد ملأ فمه شعورا بالمرارة: ابنتك لا تحتاج إلى عقد زواج لكي تحافظ على شرفها. إن ذلك الشرف الذي تتحدث عنه لا يراه المرء إلا مرة واحدة بليلة الدخلة، لكن بعد ذلك لن يبق للمرأة إلا شرف واحد وهو الشرف الحقيقي، شرف الضمير.

قالت الأم بصوت جاف: إن زوجي معه الحق في كل ما قال. لا بد من كتب الكتاب والدخلة وبعدها تسافر معك.

شعر نبيل بالاختناق جحظ عينيه وكأن أحدا يضغط على عنقه، قال وهو يفتح زر القميص:

ـ أنا موافق. لكن، يجب أن ننهي كل الإجراءات بسرعة، لأنه لم يبق على موعد سفري إلا ثلاثة أيام.

قال الأب: غدا سنكتب الكتاب وفي نفس الليلة تكون الدخلة.

قالت بدرية ووجهها مقطب: وماذا عن الحفل؟

قال نبيل أفضل أن نقوم بحفل الزفاف عندما تتخرج غالية.

قال الأب: أنا موافق.

لم تفرح الأم بذلك الاقتراح، نهضت بعصبية من مكانها وغادرت الصالون لحقت بها العمة وغالية وسلمى والعنود.

وقفت الأم أمام باب المطبخ والتفتت إلى غالية وقالت:

_ نحن نريد حفلا يليق بك وبمركزنا.

قالت غالية مستغربة من تصرف أمها:

_ ماذا تريدين أكثر من ذلك؟ كتب الكتاب سيكون غدا. ألا يكفي هذا؟

ـ أريد أن أفرح بك.

قالت العنود: نعم، نريد أن نفرح بغالية. فكم غالية عندنا؟

قالت الأم للعنود: أقنعي أباك فهو يحبك كثيرا ولا يرد لك طلبا.

ردت العنود فرحة مسرورة: اتركي هذا الأمر لي.

نظرت غالية إلى أمها وقالت: كيف تفرحين بي؟ الحفل قد أقمناه، وأشهر مطربة بموريتانيا قد أحيت الحفل.

ـ أريد أن أفرح بليلة دخلتك وأرقص عليه.

ـ ترقصين على ماذا؟

ـ أرقص على الثوب الأبيض الذي سيكون علما يثبت للحاضرين وغير الحاضرين عفتك وطهارتك.

بلعت غالية ريقها، مشت بخطوات سريعة إلى غرفتها دون أن تعقب على كلام أمها.

ضحكت بدرية بصوت مرتفع ونظرت إلى العمة وإلى العنود وقالت: ابنتي خجولة جدا.

لم تتحمل سلمى منظر أختها المنهزم، لحقت بها فوجدتها جالسة على حافة السرير تبكي. جلست بجانبها تتألم لألمها.

- لماذا تبكين يا غالية؟

ـ ألم تسمعي ماذا قالت أمي؟ إنها تريد الدخلة وتريد أن ترقص على الثوب الأبيض.

ـ وما الغريب في ذلك؟ فلترقص كما تشاء هذه عاداتنا وهل ستغيرينها أنت في ليلة واحدة؟!

ـ إنني لا أريد أن أتزوج هل تفهمين؟ لا أريد أن أتزوج! لا أريد أن أتزوج!

حدقت سلمى بأختها بعينين دامعتين مناجية روحها: آه يا شق نفسي وتوأم روحي تظنين أني لا أدرك سرك. كم أنت واهمة. أعلم أن عفتك وشرفك فوق الشبهات لكنني على يقين أنك تعانين من مشكلة تتعلق ببكارتك والله يا غاليتي لا ولن أشك بأخلاقك وشرفك. ليتك تبوحين لي أي حادث لعين أفقدك ذلك الغشاء اللعين الذي أشقاك وشرّدك. ليت والديّ يفهمان أن الشرف ليس منسوجا من ألياف ذلك الغشاء.

_ سلمى سلمى أين رحلت عني بأفكارك ؟

ـ ها ... ها .... أنا هنا ... أنا معك ...

بدأت غالية تجهش بالبكاء وسلمى تهدئ من روعها:

_ ألم تقولي بأن نبيل سيساعدك؟

ـ بلى، لقد قال ذلك لكن ألم تسمعي الحوار الذي جرى بينه وبين والدي؟ غدا سيكتبون الكتاب وتكون ليلة الدخلة!

ـ وما الغريب في ذلك؟ لماذا كل هذا الرعب والخوف من الزواج؟

ـ غدا سأذبح مثلما تذبح الدجاجة.

سلمى متجاهلة معرفتها السر: لماذا تقولين ذلك؟

ـ نبيل يعرف أنني لا أريد أن أتزوج ولن أقبله أبدا لأن له زوجة وأولاد. استغل الفرصة لكي يصل إلى ما يصبو إليه. لقد احتال عليّ يا سلمى ووصل إلى ما يريد. غدا سأكون في عصمته حلالا زلالا يتصرف في حياتي ويتحكم في مثلما يشاء. لقد أوهمني بأن الخطوبة منه ستكون نقطة الانطلاق إلى الحرية ومتابعة الدراسة في الخارج. صدقته ووافقت على الخوض معه في اللعبة من غير أن أفكر في نهايتها وها أنا وقعت في فخ ليس منه فرار. لا يمكنني أن أتراجع عن كلامي وأرفض الزواج منه بعدما وافقت.

قالت سلمى بخوف وألم: إن الزواج حلم كل فتاة. بل مصيرها المحتوم.

ـ لماذا احتال عليّ نبيل؟ ماذا فعلت له لكي يفعل في كل هذا؟

ـ للأسف لقد عشت مع نبيل فترة طويلة، لكنك لا تعرفينه جيدا. أو أن في عينيك غشاوة تجعلك لا تنظرين إلى الأمور بعقل ورزانة.

ـ أنت التي تنظر إلى الأمور بعقل ورزانة هل وجدت لي حيلة للتخلص من هذا المأزق؟

لامارا 14-11-13 10:21 PM

الفصل الثاني عشر الجزء 2
 
الفصل الثاني عشر الجزء 2

كان نبيل يجلس وحيدا في الصالون ملتفا بالحزن، مفاصله ترتعش ولون وجهه شاحب كلون المقبرة، هل ثمة مخرج لسفينتي التي أبحرت اتجاه العاصفة؟ ضباب يحجب عنه الرؤيا، يختلسه الشرود، يجرفه التيار إلى باب مسدود، يمد يده فلا يجد روحه. يستنجد فلا ير إلا أشباحا ممسوخة. يا إلهي أي عار جلبت لهذه العائلة وأي صورة قدّمتها لهم عن الرجل السوداني. لابد أن أجد حلا لهذه اللعبة وأريح ضميري من العذاب، لكن كيف سيكون ردّ العائلة يجب أن أسافر اليوم قبل الغد. لماذا أقحم نفسي في مشاكل غيري؟ لماذا جمعني القدر مع هذه المخلوقة المسكينة؟ لماذا مسكينة؟ لا ينقصها شيء، عائلتها ميسورة ويمكن أن تدرس في المغرب إن كانت فعلا تؤمن بالعلم وبتحصيله. ماذا سيقول الناس عنهم إن تركتها ولم أتزوج بها.

لم تذق غالية طعم النوم تلك الليلة. تمنت لو توقف قلبها عن الحركة لترتاح وتريح أهلها منها ومن شقائها وعصبيتها. لكن الموت أبى أن يأتي إليها تلك الليلة كما أبى الفجر أن ينجلي وأبت عيناها أن ترى النوم. وعندما غفت رأت في منامها أباها وأخاها ونبيل يجرون خلفها، كل بيده مدية كبيرة وهي تجري وتصرخ بصوت عال وهم يلاحقونها للنيل منها إلى أن تعثرت قدماها بحجر فوقعت على الأرض مغمى عليها. فتحت عينيها وقلبها يخفق بشدة وبسرعة وهي تلهث. مسحت العرق على جبينها، التفتت إلىأختها فوجدتها تغط بسلام في نوم عميق. موعد كتب الكتاب بعد ساعات معدودة. إنه موعد الامتحان الأعظم حيث تنجح فيه الفتاة ويبارك لها شرفها أو تقتل ويبصق على قبرها. كانت تستلقي على ظهرها، شعرت بجسدها يرتعش وداهمها خوف هائل، الجدران صامتة، السقف سماء ملبدة بالغيوم. التفتت إلى سلمى، ما زالت تنام في هدوء، أومأت برأسها صوبها وقالت بصوت يقترب من الابتهال الخافت: وداعا يا أعز أخت في العالم ... وداعا يا من كنت الصديقة الوفية والأخت الحنونة. إلى أن نلتقي في ذلك العالم الآخر. سأكون في انتظارك. إن اتهموني فلا تكوني معهم وإن قتلوني فلا تؤيديهم. وإن سبوني فكوني ضدهم لأن أختك ملاك طاهر. فجأة قرفصت فوق السرير، حولت عينها إلى الأرض، أطرقت رأسها وبدأت تحركه يمنة ويسرة وأفكارها كثيرة متزاحمة تتضارب محدثة لها ألما شديدا في رأسها. هل أهرب؟ لا، لا مستحيل! هل أنتحر؟ ستكون فضيحة لأهلي وعار يلتصق بهم إلى الأبد. يا إلهي كيف الخلاص؟ بدأت تبكي وتنوح. أيها الموت الهلامي! لماذا لا تأتي وتريحيني من هذا العالم؟ أين أنت أيها الموت؟ تعال وامسك بروحي. خذها بعيدا عن هذا العالم المعتم بالجهل. بحق رافع السماء خذ روحي من هذا الجسم الذي يفتقد عذريتي .... شرف عائلتي وأهلي.. توقفت عن الكلام وبدأت تتنفس بهدوء منتظرة منيّتها أن ترحب بها لكنها فوجئت بالأسى، لا أحد يفهمها، حتى الموت. ارتفع نحيبها فاستيقظت أختها من النوم وما زالت تحت سطوة نعاسها قالت وهي تفرك عينيها:

_ غالية! ما بك يا أختي؟

ـ لاشيء، لا شيء. إنني أسعد إنسان في هذا الوجود. لقد نمت جيدا هذه الليلة وعشت أحلاما جميلة وحلوة كحلم أية فتاة في ليلة زفافها.

ـ إنك تبكين، ماذا بك؟

ـ قلت لك لاشيء. أنا لا أبكي. إن الله واحد والحياة واحدة والموت واحد.

ـ أعوذ بالله من تشاؤمك حتى في ليلة عرسك!!

نهضت سلمى متثاقلة تتثاءب ثم ذهبت إلى الحمام. أما غالية فظلت مكانها ترتجف وترتعد من غير حول ولا قوة، عانت طوال حياتها من الخوف والرعب من تلك الليلة التي تفرح بها كل عروس وتفخر بها كل عائلة. تلك الليلة التي تعتبر ليلة العمر بالنسبة للفتاة، ليلة تثْبِتٌ فيها شرفها ويوضع على صينية من فضة ويرفع به عاليا كما يرفع العلم وتجول به النساء في كل شوارع المدينة هاتفة بصوت عال: ها هو صْبَاحْ، شٌفٌوهْ يا النَّاسْ، شٌفٌوهْ يا صْحابْ وٌ فْرْحو وْ شٌفوه يا لْعْدْيانْ وْ سْكْتو..." رعشة سرت في جسدها، أطبقت جفونها قليلا كما لو أنها تسترجع صورة من الذاكرة، لماذا أنا خائفة؟ أمن الموت؟ فأنا أطلبه! لماذا أحزن إذا؟ لم يعد يهمني شيئ في هذه الحياة. لماذا أطول على نفسي العذاب مادامت نهايته ستكون الليلة و أنتهي من هذا العناء الذي عانيته طوال حياتي ... عانيت ما فيه الكفاية... آن موعد نهاية كل هذه الآلام، آمنت بالله وكنت طاهرة نقية لم تغوني المظاهر ولم أنزلق في الشهوات فيكفيني هذا الشرف، لأنه هو الشرف الحقيقي وليس غشاء البكارة. رجعت سلمى من الحمام، فقالت لها غالية وهي تبتسم: صباح الخير يا أروع وأجمل أخت.

أجابت سلمى مستغربة مستفهمة: صباح الخير. هل أنا في حلم أو في يقظة؟

ـ لماذا؟

ـ لا شيء، أتساءل هل جنّي يسكنك من حين إلى آخر، كل لحظة في مزاج مختلف!

ـ ليس هناك شيئا أكثر رعبا ووحشية في هذه الدنيا من الإنسان.

هزت سلمى برأسها وقالت: لا أريد أن أفطر على هذه التخيلات تعبت منها. هل ستسافرين مع نبيل أم ستلحقين به؟

ـ سأسافر وحدي ولن أصحب معي نبيلا، سأسافر من غير حقيبة ومن غير جواز سفر. هكذا سفر خاص جدا يليق بغالية.

اصفر وجه سلمى، وتجمد الدم في عروقها. أيقنت أن أختها تفكر في الانتحار، أمسكت ذراعيها بقوة ثم قالت: هل …

أجابت غالية بسرعة: لا، لا، لا تخافي، لن أنتحر.

طرقت الخادمة باب الغرفة وقالت: تقول لكما السيدة بدرية، الفطور جاهز.

دخلت غالية وأختها إلى الصالون وقالتا بصوت واحد:

_ صباح الخير.

نظر الأب إلى غالية وهو يبتسم قائلا:

_ العروس تستيقظ باكرا.

قالت الأم وابتسامة عريضة على شفتيها: العروس لا تنام إطلاقا من شدة الفرح.

نظرت غالية إلى الجميع وهي تبتسم، قذفت العنود بنظرة متعالية. التفتت إلى عمتها وابتسمت ثم قالت: هل من مكان قربك؟

قالت العمة فرحة: الآن أصبح مكانك بجانب خطيبك يا غالية.

ردت غالية بدون خجل وبدون أن تلتفت إلى أحد هذه المرة، مبتسمة لعمتها بعينين مليئتين بالدموع، مسحتهما بسرعة وقالت:

ـ الأيام بيني وبين عريسي طويلة جدا. لكن جلوسي بجانبك سيكون للمرة الأخيرة يا عمتي الحبيبة.

قال عبادي: هل ستفارقين الحياة؟ أنت فقط ستنتقلين إلى بيتك عند زوجك وستزوريننا كلما سنحت لك الفرصة.

لم يبق على كتب الكتاب إلا سويعات ولم تعد ليلة الدخلة كابوسا يهددها فموعدها قد صار قريبا، وبعدها سترتاح راحة أبدية، لا يهمها من سيقتلها لمحو العار، المهم أن لا تقتل هي نفسها وتخسر الآخرة مثلما خسرت الدنيا وعاشت فيها حياة مليئة بالحزن والخوف. كان الأب ونبيل يناقشان تفاصيل الحفل الذي سيقام الليلة أما غالية فكانت تجول بعينيها حول كل فرد من أفراد عائلتها تودعهم في صمت: وداعا يا أهلي ويا أحبائي، سأفارقكم غصبا، لأنكم أنتم الذين ستزهقون روحي عندما تكتشفون أنني فقدت غشاء بكارتي. لكنني لن ألومكم فأنتم كذلك ضحية المجتمع مثلي. كانت تحس وكأن روحها بدأت تفارق جسمها من تلك اللحظة أو ربما فارقتها فعلا. في تلك اللحظة كان أبوها يهمس إلى أمها: انظري إلى ابنتك كم هي سعيدة، إنها فعلا في قمة السعادة. وضع نبيل نظارته السوداء على عينيه، ينظر إلى غالية متأملا إياها وكأنه يعرف بعض ما يجول في خاطرها. اغرورقت عيناه بالدموع واختنقت أنفاسه فوقف من مكانه، مستأذنا بالانصراف.

نظر إليه الأب وقال:

_ إلى أين أنت ذاهب يا دكتور؟ إنك لم تكمل فطورك.

قال نبيل:

_ أريد أن أشتري خواتم العرس إن الوقت يداهمنا بسرعة.

قالت الأم:

_ من غير أن تختار غالية هديتها بنفسها.

قال نبيل:

_ لقد اخترت هدية غالية مع أختها سلمى لتكون مفاجأة لها وللجميع.

نظر الأب إلى سلمى وقال:

_ مرة أخرى يا سلمى تخرجين من غير إذني!

قفزت سلمى من مكانها خائفة من ردة فعل أبيها وقالت مرتبكة:

_ أبي … فقط … إنني لم أفعل شيئا… أنا فقط

قاطعها بابتسامة متحفظة وقال:

_ هذه المرة سماح، لكن المرة الثالثة ستكون عاقبتها وخيمة.

ودع نبيل العائلة واختفى كالبرق. كان يمشى كالتائه بين أزقة مدينة فاس القديمة المكتظة بالسكان إلى أن وصل إلى شارع رئيسي، أوقف سيارة أجرة، وطلب من السائق أن يقود السيارة.

قال السائق مستغربا:

_ إلى أين سيدي؟

قال نبيل بعصبية:

_ إلى أن أقول لك توقف.

انطلقت السيارة بين شوارع مدينة فاس الصاخبة ونبيل يختفي تحت أنفاسه تائها في ورطته كأعمى منحوس مكتمل العينين يمشي صوب ريح عاتية والرمال تجرجره، تلتهمه وهو يحاول جاهدا أن يتمسك بالوهم عله يسكت صوت الجراح. لكن العاصفة كانت أقوى منه غضبا، قاومها بكل ما لديه من قوة إلى أن خارت قواه ولم يعد يستطيع الحراك. يزحف وعطشه مبتل بسراب الرغبة والشوق، يئن لغياب غالية رغم حضورها ويبكي لسفينته التي عبرت البحار آملة أن تحط ترحالها على شاطئ الأمان، لكن الأمواج العالية أبعدته عن أحضان الشاطئ وابتلعته بعيدا عن الأحلام وتحقيق رغبة أصبحت كابوسا يتبعه حتى في يقظته. طلب من السائق التوقف، دفع له أجرته ثم نزل من السيارة كالمفلس يبحث في دفاتره القديمة ليستعيد ماض لن يعود. يمشي كالمكبل ويفكر كيف يفك الأغلال التي تثقل قدميه إلى أن توقف أمام فندق المرديان. دخل إلى حيث المسبح غارق في بعثرته يتأمل المياه الزرقاء ودموعه عطشى لا تحسن السباحة. طلب من النادل أن يحضر له القهوة، وضع كفيه على وجهه و بدأ يشهق بالبكاء كالنساء. أخرج بعصبية شديدة منديلا من جيبه ليمسح دموعه، يهمس في أذن السماء، يشكو لها روحه المضطربة التي ألقت به في ورطة لا قعر لها. يلعن تلك اللحظة التي تعرّف فيها على غالية وتورط في حبها. لم تسمح لأي مخلوق أن يحملها على صهوة رغبته ولم تضعف وراء أموالي التي عرضتها عليها. لم تغرها الشقة التي وعدتها بها في واشنطن ولم تضعف أمام غرائزها وكأنها ليست لها غرائز على الإطلاق. شرودها صمتها عذابها وابتسامتها الكاذبة تعذبني، تمزق قلبي وتؤنب ضميري. كيف أواسيها... كيف أحميها من نفسي ومن عائلتها؟ كلانا شارك في شقائها من غير وعي ولا إدراك. كلانا يريد الفوز بها من غير أن يضع اعتبارا لها.

أحضر النادل فنجان القهوة وعلبة الدخان وانصرف. مد يده المرتجفة إلى العلبة محاولا فتحها، أخرج سيجارة تكسرت في يده، أخرج ثانية وقعت على الأرض وأخرج ثالثة وضعها بين أصابعه المرتعشة محاولا إشعالها فأحرق إصبعه. نهض بعصبية وألقى بالعلبة على الأرض يسبّ ويشتم. غادر الفندق يمشي متبعثرا بين براثن الألم داخل زنزانة حزنه إلى أن توقف أمام أحد محلات الجواهر والذهب، اختار أسوارة وخاتمين دون أن يطلب من الجوهري أن ينقش عليها اسمه واسم حبيبته غالية ودفع له المبلغ من غير أن يجادله في الثمن. وضع العلبة في جيبه وأسرع إلى البيت كي لا يتأخر عن موعد الكتاب.

انطلقت الزغاريد تتراقص في فضاء بيت سلطان. رائحة البخور تخترق فضاء البيت الصاخب، تنتشر بهيبة في أرجاء البيت. الأم والعمة صفية ترتبان الغرفة في الدور الثالث الذي ستتم فيها عملية العبور الكبير وتهمس الزغاريد في أذن السماء متضرعة وهي على حافة القلق لتلك اللحظة الحاسمة حيث سترتدي فيها العائلة حلة الفرح أو لعنة أبدية. رتبت الخادمات البيت وزينته بباقات الزهور. كل شيء جاهز، الحلوى بشتى أنواعها والمشروبات على الموائد في الصالون الخاص بالرجال والآخر للنساء. رن جرس الباب وعلت الزغاريد مرة ثانية لقدوم المأذون الذي سيكتب العقد.

استحمت غالية ولبست فستانا من الحرير الأبيض يلف جسدها النحيل. أسدلت شعرها وراء ظهرها. طلب منها عبادي الحضور لكتابة العقد. دخلت إلى الصالون وجلست بجانب أبيها تتسلق خيوط الرعب ومن خلفها ذلك السر يلهث بأنفاس متجمدة معلنا انفجاره في أي لحظة بلا خوف بعدما كان مكبوتا وتخرج هي أيضا من دهاليز الوجع وتنتهي. صوت الموسيقى الصاخبة تطرق في أذنيها محدثة ألما حادا في رأسها، والنساء يزغردن ويرقصن في نشوة من الفرح. قال المأذون:

_ هل تقبلين هذا السيد المسمى نبيل خلف زوجا لك؟

نظرت إليه ثم حوّلت عينيها إلى أبيها. سكتت هنيهة فأعاد المأذون عليها السؤال. لابد أن أجيب، أن أقول تلك الكلمة. تلك التي إن قلتها متّ وإن لم أقلها متّ، سأقولها وأموت بطريقتي وليس بطريقتهم. نظرت إليهم وقالت: لا ...

وقف الأب من مكانه فاغراً فاه مستغربا، مصدوماً لجوابها الذي لم يكن يرتقبه وشرر الغضب يتطاير من عينيه.

ـ لماذا يا ابنتي؟

ـ لأنني أريد التخرّج أولا، بعدها أتزوج.

ـ لكن ما كان هذا رأيك.

ـ لم يكن قط رأيي يا أبي إنه رأيك أنت. أنت غصبتني على الموافقة.

نظر إليها المأذون وقال متدخلا: يا ابنتي طاعة الوالدين واجبة.

ـ أنا أطيع والدي يا سيدي، لكن كذلك مشورة الفتاة بأمر زواجها واجبة وإن كان كلامي هذا ليس صحيحا لماذا جئت ولماذا تسألني إن كانت موافقتي وعدمها سواء. إذا لا يهمّكم اتباع الشريعة كما هي فاكتبوا كتابي من غير مشورتي.

كان الأب يعيش كابوسا حقيقيا لم يستطع تصديقه، فما كان عليه إلا أن يشهر وعيده وتهديده كالعادة.

ـ ماذا سيقول علينا الناس؟ أتريدين جلب العار لنا؟

ـ لا يا أبي لا أريد إلا رضاك علي.

ـ أي رضا في تصرفك هذا. تصرف العاق الذي لا يراعي أهله ولا يخاف الله.

ـ لا يا أبي من فضلك أنا لست عاقة.

ـ ستوافقين على الزواج من نبيل وألا أسخط عليك.

تدخّل المأذون: الأمور لا تعالج بهذه الطريقة.

قال نبيل موجها كلامه للمأذون: أوافقك الرأي.

أشار الأب بسبابة يده اليمنى إلى المأذون وقال: اكتب عقد الزواج لا نريد الفضيحة.

علت الزغاريد والأم تصفق بيدها وعيناها دامعتان من شدة الفرح والعمة ترقص أمام ابنة أخيها تعبيرا عن الفرح. تقدمت إحدى الصديقات المقربات لأم العروس وأمسكت بيد العروس ورافقتها وعريسها إلى الدور الثالث والأم و العمة وسلمى والعنود خلفها يزغردن في تلك اللحظة. اختفت الابتسامة المصطنعة من وجه غالية وشحب وجهها وخفق قلبها بشدة وارتعدت فرائصها، تتلو القرآن وتصعد سلما واهيا ولا تسقط. تختبئ خلف الأنين وروحها تستعد لمعانقة السماء. أدخلتها النسوة إلى الغرفة مع زوجها ثم خرجن وأغلقن الباب. جلست على حافة السرير تضغط على ركبتيها بشدة لتمنعها من الارتعاش صامتة، جرداء الأحاسيس ودون روح. نظرت إليه كان جالسا على كرسي ويده على خده. انتبه إليها وارتبك. خفض بصره بسرعة وبدأ يحدق في أرض الغرفة. لم يصدق أهو في حلم أو كابوس، يحرك رجليه بشدة ويضغط على أصابعه بقوة محدثا طرطقات. وقفت في مكانها، اقتربت منه بخطوات هزيلة وقالت:
_ لماذا أنت حزين وكئيب أليس هذا ما كنت تصبو إليه؟ كنت فعلا ممثلا بارعا.
فتحت أزرار فستانها بيدين مرتعشتين وقطرات من الدموع متشحة بالحزن نزلت مضطربة على خديها، سقط الفستان من جسمها الذي بدا شبه عار لا يحجبه سوى اللباس الداخلي الأبيض الشفاف. فغر فاه شاردا في جسمها وفجأة وكأنه استيقظ من غيبوبة، أسرع إلى السرير أحضر اللحاف وغطى جسمها وحضنها بين ذراعيه. صمت رهيب ساد الغرفة قاطعه الطرق الشديد على الباب وصوت النساء يتأجج كالمد والجزر: يالْعْريسْ، سربي سربي اعطيه لينا سربي سربي سربي... أسرع أيها العريس ... وقدم لنا قطعة الثوب ... ثم هوين على الباب دقا وكأنهن يردن تحطيمه. تراجع نبيل خطوات إلى الوراء، مرعوبا وقال:
ـ ماذا يردن هؤلاء المجنونات؟ لماذا يطرقن الباب هكذا؟
أجابت وقواها خائرة، الكابوس الذي كان يراودها يشتعل مستعدا للاحتراق. بلعت ريقها وقالت وهي ترتجف:
ـ إنهن ينتظرن المنديل.
قال مفصحا عن عدم ارتياح: أي منديل؟
دموع كالسيل تنزف من عينيها، عضلات جسمها تتشنج، ودقات قلبها تزداد سرعة مع تلاحق الطرق على الباب. إنها لحظة كشف السر الخطير. قالت: منديل عليه…
خفضت عينيها ... ارتفعت أصواتهن مرة ثانية ... هوى الطرق يزلزل الباب في شغف ويدكّ روحها التي يمزقها نسيج هواء الغرفة المختنق... غريقة تحاول التعلق بقشة ووجهها مصفر يعلوه الهلع... تموج الأرض من تحتها ... صراخ وأصوات وزغاريد تدوي في براري الموت، وجسدها يتهاوى رويدا ويتراخى. كان نبيل يمشي في الغرفة بعصبية وينظر يمنة ويسرة وهي تتابع خطواته. لمحت عيناه إطار صورة على خزانة صغيرة بالقرب من السرير، صورة غالية وهي في سن السادسة ببذلتها المدرسية وحقيبة صغيرة بيدها. حمل الصورة، نظر إليها وابتسم ثم فجأة انقلبت ابتسامته إلى غضب. فك إطار الصورة، أمسك بقطعة الزجاج، كسرها، جلس على السرير بالقرب من غالية وأمسك بجزء من اللحاف الذي يغطي جسمها، مزقه ثم رفع كم قميصه وأحدث جرحا بذراعه. مسح الدم بذلك القماش وأسرع نحو الباب، فتحه بحذر ثم ألقى بتلك القطعة من القماش إليهن وأقفل الباب بسرعة وهو يتمتم بعصبية وغضب، المتعطشات المتلهفات لرؤية الدم ... الغبيات. أما هي فكانت تنظر إلى ذلك المشهد غير مصدقة ما تراه، حائرة من أمر ذلك الرجل. استلقى على السرير وحضنها بين ذراعيه في صمت. كانت تحت تخدير ذلك المشهد الخرافي ترتجف بين أحضانه إلى أن أغمضت عينيها وسط تلك الزغاريد وارتخى جسمها بعدما كان مشدودا وسكنت روحها التي كانت على وشك أن تزهق. ظل يفكر في المأزق الذي وقع فيه، محاولا إيجاد حل من غير أن يؤذي غالية وعائلتها. أفكاره تدور في حلقة مفرغة إلى أن سمع صوت أذان الفجر، سحب ذراعه ببطء كي لا يوقظها وتسلل إلى الحمام ليغسل قميصه من آثار الدم ووضع الإطار المكسر والصورة في حقيبة ملابسه. جلس على حافة السرير ينظر إليها ويبتسم. كانت تغط في نوم عميق وهادئ.

الحادية عشرة صباحا، صعدت الأم وفي يدها فطور خاص للعروسين. الأرز بالحليب ورغيف منغمس بالعسل والسمن. طرقت الباب. فتح لها نبيل.
ـ صباح الخير لقد جئت بالفطور.
أمسك منها صينية الفطور ووضعها على الخزانة الصغيرة التي بجانب السرير. ابتسمت الأم وانصرفت. جلس على حافة السرير ينظر إلى غالية ويداعب شعرها. فتحت عينيها وقالت بتحفظ: لأول مرة في حياتي أنام باسترخاء ودون كوابيس.
ابتسم وقال: هذا جميل. هيا البسي ملابسك، ستأتي عائلتك بين اللحظة والأخرى لتهنئك.
ـ ماذا سأرتدي؟ ملابسي كلها في غرفتي في الطابق الثاني.
أقبلت سلمى وهي تبتسم: هل عروسنا مازالت نائمة؟
قالت غالية موجهة الكلام لأختها: تفضلي سلمى أريد لباسا.
أشارت سلمى إلى الخزانة التي بالغرفة ثم اتجهت إليها وأخرجت القميص التقليدي المغربي الذي تلبسه العروس بعد دخلتها. حملت سلمى صينية الفطور إلى الصالون بنفس الطابق أما غالية فقد ذهبت إلى الحمام، استحمت بسرعة ولبست ملابسها وذهبت إلى الصالون حيث نبيل وأختها سلمى ينتظرانها. كان نبيل مرتبكا صامتا. أما هي فبعدما تخلصت من كابوس سرها لم تعد تبالي أو تفكر في شيء وكأنها ولدت من جديد.
نظرت إليها أختها وقالت مبتسمة: أرأيت يا غالية إن الزواج نعمة وليس نقمة.
انطلقت الزغاريد من الطابق الثاني، قدمت العمة والأم والعنود وبعض النساء المقربات إلى العروس يهنئنها وسلمن على العريس وباركن له وقبلن ابنتهن غالية تعبيرا عن الفرحة بعفتها وشرفها الذي رفع شرف العائلة. اقتربت العنود وهمست في أذنها

_ مبروك يا غالية لم أكن أظن يوما أنك عذراء.
ابتسمت غالية وهمست:

_ يؤسفني أنني خيبت أملك.
أحضرت الخادمة الفطور للنساء وبدأن يغنين ويزغردن من جديد، مهنئين دخولها إلى عالم الزوجية، متمنيات لها أن تكون ربة بيت صالحة وكانت هي تبتسم لفرحهن بعذرية من ذراع الدكتور نبيل.

لامارا 14-11-13 10:24 PM

فصل الثالث عشر - الجزء 1

انكسار وحصار وضياع



حان وقت الرحيل، ودع نبيل وغالية الأهل والأقرباء ولم يصحبهما إلى المطار إلا والداها وعمتها وأختها سلمى. طوال الطريق كانت الأم تتحدث عن العرس وفرحتها بابنتها التي أثبتت شرفها وشرف عائلتها. أما غالية فلم تكن تفكر في تلك اللحظة إلا في عمتها وأختها سلمى، يحزنها الفراق. توقفت السيارة أمام باب المطار، أخرج نبيل الحقائب بسرعة. سمع صوت على الميكروفون: " على المسافرين المتجهين إلى طرابلس الذهاب إلى غرفة الانتظار." ودع نبيل العائلة وشكرهم على كرمهم وحفاوتهم به، كما ودعت غالية والديها وعمتها وأختها وهرولت وراءه صامتة تفكر في مصيرها المجهول مع هذا الرجل الذي قطع مسافات طويلة لإعطائها حريتها، لكنه أخرجها من حصار وأدخلها في حصار آخر تحت عصمته وسلطته إلا أنها كانت سعيدة لتخلصها من كابوس السر الخطير ومن سجن أهلها.

بدأ المسافرون يتجهون إلى مقاعدهم بمساعدة المضيفات. التفتت إليه وقالت:

ـ لماذا الدرجة الأولى فهي باهظة الثمن.

ـ لا تغلو عليك يا غالية.

سكتت، لا تريد أن تسمع غزلا أو إطراء منه. أقلعت الطائرة متوجهة إلى طرابلس كما طارت معها أفكارها. هل سيفرض علي القبول به زوجا ولو أنني لا أحبه؟ تسرق النظر إليه بين الفينة والأخرى... تحاول أن تنفذ إلى عقله وتقرأ أفكاره. طوال الرحلة تجنب التحدث إليها إلى أن وصلت الطائرة إلى مطار طرابلس.

صوت الرياح الصحراوية يعبث برمال ليبيا المملوءة بجراح ثملة، يبعثرها الهواء كلما زفر، جداول من زمهرير في فضاء المطار وحرارة الشوق إلى الحرية خلف الجبال والزمن، وهل من أمل في استعادة حلم ينسي الألم والجروح التي آلت ألا تبرح دون وثيقة السر الخطير. هرول أحد السائقين نحو نبيل، أمسك الحقائب ووضعها في صندوق سيارته ثم انطلق داخل شارع كورجي نحو المركز الإفريقي حيث منزل نبيل الذي ينتظر في شوق قصيدة حب تتراقص أبياتها عشقا وتنتهي قافيتها بالبهجة. كانت تنظر من خلال النافدة إلى الشارع وذاكرتها تضج في هروب من اليوم الأول الذي وصلت فيه إلى طرابلس والأيام التي قضتها مع سمير في الفندق الكبير والعائلة المغربية وابن الإيمان وزوجته ووظيفتها بشركة التصدير والاستيراد، تحتضن وحدتها المرتمية تحت عصمة نبيل حاميا روحها المطاردة من الجنون الغير مسموع. توقفت السيارة أمام المنزل. أنزل السائق الحقائب، واستلم أجرته ثم انطلق بسيارته خارج المركز. أدخل نبيل الحقائب مرحبا بغالية. أهلا بك في بيتك ... ارتاحي في غرفتك إنها كما هي لم يتغير بها شيء وفي المساء سنتعشى خارج البيت ونناقش موضوع دراستك في أمريكا.

انصرفت إلى الغرفة وأغلقت عليها الباب وأنفاسها تخترق روحها الغير مطمئنة والخوف من الآتي يدحرجها بعيدا وسط ثرثرتها الصامتة، وتقذفها الأفكار في زحمة الخوف من المجهول. لماذا يساعدني مادمت لا أحبه؟ ماذا ينوي هذا الرجل؟ إنني أخاف غموضه وسكونه. استلقت على السرير تحت غطاء من الخوف تنظر إلى السقف محلقة صوب الشرود إلى أن نامت وسط هذيان الذاكرة، أما هو فكان يجلس في الصالون يتصفح جريدة في ضجر، تنسل من تحت أنفاسه شهوة تتسكع بكبرياء، وقلبه بركان يهدد بالانفجار. وضع الجريدة على المائدة وذهب إلى الشرفة ليستنشق الهواء. مازالت الشمس تسقط وراء الأفق ساحبة معها أشعتها المنزوعة نحو سماء ملبدة بالبكاء لا تستطيع أن تستر قلبه المتيم، واقفا في خشوع كما لو أنه يصلي أو يبتهل. في شتات الذاكرة وتحت غطاء التعب الروحي المدثر بهذيان بين اليقظة والحلم عبر سنوات من الصمت عن السر الذي كان قابعا يهددني بالموت أو الهروب وهو الآن يجعلني أهذي أين المصير ...؟ لست أدري إن كنت أعيش الخيال أو الخيال يعيشني. مازلت مستلقية على السرير أنسج أنات عمري الجائرة التي كانت تجري لاهثة عبر سنيني الغابرة، الرؤى ترعبني من الآتي ... تفتك بي، لست أدري إن كان هذا الفارس فعلا أخرج الأميرة من سجنها أم أدخلها إلى سجن آخر لتصارع الانكسار والحصار والضياع. أتقلب على حيرتي، متوسدة همي، أحاول أن أنام لكن النوم كابوس يقلقني،استيقظت متكاسلة واتجهت صوب الحمام، أتعثر فوق خطوط مبهمة بوعدي الميمون. أصب الماء على حزني وغربتي علّه يطفئ نار الخوف التي كانت تجتاح روحي. كان نبيل محملا بأحلام وهواجس ليلة العرس التي مازال يعزف نايها لحن العشق والهيام لحبيبة غائبة حاضرة. ارتديت ملابسي مهرولة نحو خيال الحرية الموعودة، وقفت أمامه وقلت مبتسمة:

ـ أنا جاهزة.

نهض من مكانه، حمل مفاتيح السيارة، نظر إلي مستغربا، أخرج منديلا من جيب سترته.

ـ ما هذا الطلاء على شفتيك؟

بدأ يمسح الحمرة ويبتسم: أنت لا تحتاجينه.

همهمت بكلمات غير مفهومة واتجهت بخطوات متعجرفة إلى السيارة. جلست في صمت أنظر من خلال النافدة. أدار محرك السيارة وانطلق خارج المركز متجها إلى الفندق الكبير. كان يسرق النظر إليّ بين الفينة والأخرى، يستهويه استفزازي. كل شيء في الفندق مازال كما هو. نفس الديكور ونفس السجاد والثريات المعلقة بالسقف. سرت غصة في حلقي تمتدّ كفيض من حنين بين عينيّ وقلبي لذلك اليوم الأول الذي جئت فيه إلى الفندق بحثا عن سمير، ذلك السائق الذي أوقد بركانا في روحي وها أنا الآن وقد عفّرني الخوف ولا أدري إلى أي سبيل سيقودني القدر. تذكرت اعترافي له بسري الخطير، أهان كرامتي وحاول الاعتداء عليّ، تركته وقلبي يعتصر ألما، مبحرة في موج المحيطات أصارع العواصف وسفينتي مهشّمة في غربة الخوف، ترسو على قارعة الموج، وشواطئ الأماني سراب. كنت أنظر إلى الطاولة التي اعتدت أن أجلس حولها مع سمير، تذكرت الحديث الذي كان يدور بيني وبينه، حلم تهشّم بين أنياب الضواري. اغرورقت عيناي لجنون ذلك الصدى الذي يدوي في عاصفة ذاكرتي متمدّدا كالموت البطيء. طوال الوقت كان نبيل ينظر إليّ وفي صمته شوق سرعان ما تبدّد.

ـ ما بك يا غالية لماذا تبكين هل تريدين أن نرجع إلى البيت؟

أيقظني كلامه من سبات أطلال تراكمت صخورا من شجن. سحبت يدي بسرعة:

ـ هذه أسعد ليلة في حياتي والدموع التي بعيني ليست إلا دموع فرح وامتنان.

كان يأكل وينظر إليّ حزينا لحزني ولو أنه لا يعرف سببه، شعرت بأنني تركته وحيدا، بدأت آكل بشهية مظهرة إعجابي بالطعام. جاء النادل بكعك مكتوب عليه هنيئا غالية. فتحت فمي مندهشة. اليوم ليس عيد ميلادي.

أجاب مبتسما: إنه عشاء خاص بمناسبة حريتك واستقلالك.

حولت عينيّ إلى النافذة أبحث عن ظليّ المشطور. "أية حرية وأي استقلال وأنا خرجت من حصار أهلي ودخلت إلى حصار زوجي"؟

التفتت إليه وقالت مبتسمة: لا أعرف ماذا أقول لك وكيف سأعبر لك عن شعوري.

احتضن بكفه اليمنى يدي حتى كادت أن تغرق بين أصابعه الغليظة والمكسوة بالشعر الأسود الكثيف.

_ لا تقولي شيئا فقط أريد أن أراك مبتسمة سعيدة.

سحبت يدي بسرعة، أكره أن يلمسني أو يحتك جسمي بجسمه.

ـ لا أحب أن تُبذّر نقودك سدى من أجلي.

ـ اسمعي غالية، سنتكلم الآن بجدية عن مسألة دراستك. غدا إن شاء الله سنذهب إلى السفارة الأمريكية في تونس وسنقوم بكل الإجراءات اللازمة للسفر.

لم أصدق ما سمعته. فتحت عينيّ المندهشتين وقلت: هل سأدرس في أمريكا؟

صمت قليلا وقذفني بنظرة متعالية وما لبث أن قال: أليست هذه رغبتك؟

ـ لكن ليست عندي نقود كي أسافر الآن يجب أن أبحث عن وظيفة وعندما أجمع النقود الكافية أسافر.

ابتسم وقال: لماذا ستبحثين عن وظيفة سأتكفل بكل النفقات.

ـ إنها أموال طائلة، ليست ألف دولار أو ألفين.

ـ هل نسيت أنني زوجك ومن واجبي أن أنفق عليك.

خفق قلبي بشدة وانتابني رعب فتح المواجع وامتدّ جسرا منذرا روحي بالهلاك... إنه اشتراني بنقوده ويريد أن ينفق عليّ وعلى دراستي مقابل أن أبقى معه. هذا مستحيل. إن اكتشف أنني لست عذراء سيرميني طريدة في الشارع وإن تركته ورجعت إلى المغرب ستكون فضيحة وإن هربت إلى حيث لا أدري سيلاحقني العار حتى الموت وأخسر أهلي إلى الأبد. ماذا أفعل يا ربي. انفجرت أبكي.

_ إننا في مكان عام يا غالية، هيا بنا إلى البيت.

طوال الطريق يقود السيارة في صمت وشغفه إليّ يتأرجح بين الصبر والشجن. ذلك السكون ذكرني يوم اعترفت فيه لسمير بسري، فأحسست بخوف يزلزل روحي التي أوشكت أن تزهق في براري الموت. توقفت السيارة أمام باب الفيلا. خرج من سيارته وهو معلق بالحبال على الرمال. فتح باب الفيلا ودخل إلى الصالون ينتظرني ولهيبه موصد بسري. كنت ملتصقة بمقعد السيارة أحترق في لهيب الرعب وصوت كابوسي صدى يقهقه على طلل قبري، تائهة حائرة في ارتباطي به وفي مستقبلي الذي أصبح جزءا من مستقبله. خرج إليّ وقال:

ـ هل تريدين أن تقضي ليلتك داخل السيارة هيا ادخلي، أريد التحدث إليك.

نزلت خائفة أتعثر في مشيتي متوجهة إلى الصالون. جلست وأنا أحرك رجليّ بعصبية. تجنب الجلوس بقربي.

ـ هل يزعجك أن أنفق عليك أو يزعجك زواجي منك؟

نظرت إليه وقلت: الإثنان معا.

ابتسم وقال: فيما يخص النقود سنجد حلا لذلك وفيما يخص زواجنا فكوني مطمئنة، لأنني ما فعلته إلاّ مساعدتك. فأنا لن أربط نفسي بإنسان لا تكنّ إليّ نفس الشّعور..

أخفضت عينيّ من غير أن أتفوه بكلمة!

ـ هيا اذهبي الآن إلى غرفتك ونامي، غدا سنسافر إلى تونس.

نهضت من مكاني دون أن ألتفت إليه وأسرعت إلى غرفتي وأقفلت الباب. استلقيت على دهشتي أنظر إلى السقف، أفكر في الحوار الذي دار بيني وبينه، مصطنعة الفرح وأن شيئا ما في داخلي يوشك على الانفجار. لا أعرف إن كان يجب عليّ أن أفرح أو أحزن. شيء بداخلي يرفضه لأنه متزوج وله خمسة أولاد وقلبي يدفعني إلى القبول به كزوج. فجأة يخفق قلبي بشدة، خضوعك معناه إفشاء سرك وهلاكك... غالية ترفض الرّجل المتزوج ولا تسمح لنفسها أن ترتبط به مهما كلّف الأمر، لأن ذلك خيانة لامرة أخرى... أتقلب في فراشي والأرق يطاردني ... أنا لست إلا فتاة مغلوبة على أمرها، فتاة أنجبها مجتمع مريض ورثت عنه عاهته وأصبحت تعرج في دروب مجتمع قاس تائهة كالمعتوه ورمال تجرجرها بعيدا عن مسار الريح. لو لم أكن أحمل هذا السر الخطير لما فكرت في زوجته، كنت سأقبله زوجا وأعيش بكل أنانية ككل امرأة في مجتمعنا الفاسد تسعى وراء المال الذي حرمت منه يوما أو إلى حب فقدته في الطفولة... كل ما يصيب المرأة سببه المرأة... تبكي المرأة إن تزوج عليها زوجها وتصب عليه جام غضبها وتنسى أن سبب مشكلتها امرأة ثانية، فلو لم تقبل المرأة الثانية الزواج من رجل متزوج، لما سببت مشكلة للمرأة الأولى، وهكذا فإن المرأة هي سبب تجبر الرجل وتزمته وتخلفه، هي التي تشجعه على مزيد من الأنانية والقمع بسكوتها وخضوعها. ظل ليلي يشتعل نارا وصوتي الوحشي مدويا في صمت إلى أن تسلل كابوس سري متقاسما معي السرير في شبق. جسدي عار لا يغطيه إلا قميص نوم قصير وشفاف، وشعري الطويل الكثيف كان كافيا ليدفئ جسمي. خلقت كأي امرأة لتعيش بالحب وتموت به.

أيقظني بلطف، التفتّ إليه، ابتسمت وأشواقي تسبقني إليه، سحبته إليّ، ضممته برفق ولثمته بقبلة طويلة وهو يسبح بيديه على ضفاف جسدي ويدسها في تضرع بين نهديّ ونبضات العشق تخترق وتذوب في جحيم من نشوة وشوق وروحينا تسبح في ألم من لذة إلى أن أخمدتها رجة من ثلج ونار. جلس كالملسوع يبحلق في عينيّ. سرى في جسمي النحيف رعدة خوف جرفت سعادتي وتركتني في عراء بارد مخيف. نهض من السرير، فاجأه اللحاف الأبيض الذي لم تزينه بقع دماء حمراء. أصيب بخيبة أمل ... يضغط على عنقي وأنا أقاوم ونوبة الاختناق تنتابني... أنتفض تحت جسده كطائر جريح ... جدائل الرعب تنتحب في اختناق ... أبحث في الزوايا لكنني لم أر في العتمة شيئا سوى حطام وأسمال ... أطلقت شهقة أخيرة ومضيت أرنو بلا حراك... فتحت عينيّ... قلبي يخفق بسرعة والعرق في جسمي كالرذاذ. بكيت في ذلك الليل الذي ما زال يفترش عباءة من الظلام. تمنيت أن أعانق الموت إلى الأبد... تسللت إلى الحمام شريدة أطرق أبواب الآهات تحت مياه من الحسرات أفرك جلدي الملعون بالإسفنج والصابون، أدثر صراخي بفوطة من الصمت، أندب جسدي الذي حكم عليه المجتمع بالدنس رغم طهارته. لا أحد يمكن أن يستر سرّي، حتى نبيل حكم عليّ بالقتل عندما تسلل من شباك الحلم، تحول إلى كابوس وحشي وقبض روحي المنفية إلى منفى يتوقف فيها الزمن.

استيقظ نبيل باكرا كعادته، وجدني قد خرجت من الحمام، ابتسم إليّ وقال:

_ يظهر أن الفرح بالسفر جعلك تستيقظين باكرا.

ابتسمت في صمت وذهبت إلى المطبخ لأحضر القهوة.

سافرنا إلى تونس العاصمة ومن المطار مباشرة إلى السفارة الأمريكية. أمام البوابة كان الشباب واقفين في طابور طويل في سكون وصمت ساعات تحت الشمس المحرقة. تخطى نبيل ذلك الطابور متجها صوب جندي أمريكي، أطلعه على جواز سفره، ابتسم الجندي محييا وفتح له الباب. دخلنا مباشرة إلى صالون الاستقبال بعيدا عن الذي يعج بالناس، وبعد دقائق أقبلت شابة أمريكية في العشرينيات، ناولها نبيل جواز سفري. كنت أراقب في دهشة نبيل الذي دخل إلى السفارة من غير أن يتكبد عناء الانتظار تحت أشعة الشمس الحارة. دخل دون الآخرين من غير انتظار. أنهى كلّ الإجراءات اللازمة ولم يبق إلا استلام التأشيرة بعد أربع وعشرين ساعة. أمسك بيدي ثم غادرنا السفارة. استأجر سيارة وانطلق بي في شوارع تونس العاصمة الصاخبة وأفكاري بصمت تتراقص على عتمة طلاءا ته المستترة، أفكر في اهتمامه الزائد بي واستمراره في مساعدتي رغم أنني رفضته زوجا. كان يقود السيارة ويدندن أغنية لمحمد وردي. أحبك ...أحبك أنا مجنونك ... فجأة توقف عن الدندنة، التفت إليّ وقال: تعرفين يا غالية، لو كان لدينا الوقت لأخذتك إلى أجمل المناطق السياحية، لكن على الأقل سننزل الليلة في فندق يطل على نديمك البحر، في منطقة أبو سعيد حيث الأدباء والفنانون يقطنون وحيث سكون الطبيعة وسحرها، وهناك سترين المنازل البيضاء ذات الأبواب الزرقاء. كان يقود السيارة في وسط شوارع تونس العاصمة ويتحدث عن معالمها واقتصادها وتاريخها أما أنا فكان وجهي شاحبا متعبا أبحث عن جواب لسؤالي. هل أنا مستقلة أم محتلة ... إن أجبرني أن أشاركه حياته فسرّي سينكشف ونهايتي ستكون وخيمة... هل أنا زوجته أو لست زوجته؟ لم أكن أريد منه سوى إقناع والديّ بأن يتركاني أسافر لمتابعة الدراسة، لم أفكر يوما أنه سيطلبني للزواج. التفت إليّ وقال: ما بك غالية؟ ألست سعيدة أرى عينيك حزينتين؟ هل قصرت في حقك؟

سحبت يدي ببطء من يده وقلت: لا ... أنا التي أقصر في حقك.

ابتسم متظاهرا بعدم فهمي وقال: هل أنت تقصرين في حقي؟

بدأت أتلعثم في الكلام: آ … أنا … أعني أنت … أحس أنك … أنت … أحس أنك تعمل كل ما بوسعك لإسعادي، لكني …. أنا .. لا … أعني أنا لست زوجتك، فلماذا تساعدني؟ لماذا تنفق أموالك على امرأة لا تستحق حبك ولا عطفك، كما أنها لا تبادلك الحب؟

قلبه يختنق حزنا لنفوري منه: اسمعيني يا غالية وافهميني جيدا، أساعدك لأنك صديقة عزيزة أحببتها من قلبي وأكن لها كل الود والاحترام. كوني على يقين عندما سنصل إلى أمريكا ستدرسين في الجامعة وستعيشين مستقلة حرة ولن أزعج حريتك وحياتك. سأكتفي بالاتصال بك هاتفيا لكي أطمئن عليك وعن أحوالك المادية والدراسية.

ـ إنك تعذبني بسخائك الزائد ... كل هذا الحب والعطاء وأنا لم أقدم لك شيئا.

ـ إياك أن ترددي هذا الكلام مرة ثانية، إنك لا تعرفين مدى الحب الذي أكنه لك، لقد حركت في جوارحي مشاعر لم يحدث أن تحركت من قبل.

لم أرد أن أسمع مشاعره، ولكي أغير الموضوع قلت له عندما أتخرج من الجامعة سأرد لك كل قرش صرفته من أجلي.

ابتسم قائلا: لا تخافي ستردين لي كل قرش صرفته من أجلك عندما تتخرجين. لا تفكري في هذه المسألة.

نظر إليّ متصنعا ابتسامة تخفي حزنه وقال: هل تريدين أن تعرفي لماذا أساعدك؟ لأنني أحبك.

قلت وغصّّة في قلبي: لكنني لا أستحق حبك لأنني لا أبادلك نفس الشعور.

كنت أرشف القهوة وأنظر إلى المارين على رصيف الكورنيش. أعجبتني السفن التي ترسو في الميناء بشكل غير منتظم وهي تطفو فوق الماء. كان ينظر إليّ ويبتسم لكن عينيه يحضنان حزنه. بدأت الشمس تغيب وخيوط أشعتها الحمراء تلوح في السماء وتعكس بريقا على مياه البحر الأبيض المتوسط. اشتعلت مصابيح الكورنيش كما بدأ نسيم المساء يتسلل ببرودته على أجواء الشاطئ.

ـ هل تشعرين بالبرد؟ هيا بنا. وضع شريطا للمغني محمد وردي في المسجلة وبدأ يدندن مع إيقاع الطنبور والعود، إيقاع قريب من الوجدان. أدهشني ذلك لأول مرة أراه يسمع إلى الموسيقى داخل السيارة. شردت بعيدا وروحي خاوية بلا بهجة أبحث عنها في أركان السيارة. تلك الموسيقى السودانية تحولت في أذنيّ إلى موسيقى الراي، أغمضت عينيّ واستلقيت على مقعد السيارة متوغلة في صحراء الجزائر وليبيا بحثا عن ذلك الحبيب الذي استطاع أن يقتحم قلبي الموصود. كان نبيل يقود السيارة ويلتفت إليّ بين الفينة والأخرى، مبتسما فرحا بانسجامي مع الأغنية.

وصلنا إلى أبو سعيد، أوقف السيارة بالقرب من باب الفندق.

ـ غالية، لقد وصلنا.

استيقظت من حلمي وتغيرت ملامح وجهي وتجهمت.

ـ ما بك يا غالية؟

ـ فقط أشعر بصداع في رأسي.

ـ هيا بنا ندخل سأعطيك حبة مسكن تُذهب الوجع نهائيا.

ناولني حبة الدواء وكوبا من الماء ثم غادر إلى غرفته بعد أن تمنى لي ليلة سعيدة. استلقيت على السرير أؤنب قلبي الذي سافر إلى مكان محرم. لماذا أحب شخصا لم يكن صادقا معي؟ إنه لا يستحق أن أفكر فيه أو أن يكون ذكرى من ذكريات حياتي، علي أن أنساه. إنني نسيته لكن سماع الموسيقى في السيارة هو الذي ذكرني به. هذه خيانة كبرى للذي يحسن معاملتي ويحبني حبا صادقا ويضحي كثيرا من أجلي ومازال يضحي بوقته وحبه وماله. من أنا؟ بداخلي وحش أناني لا يحب إلا نفسه. أنا أنانية لا أحب إلا نفسي. مسكين نبيل، هذا الرجل الطيب، لماذا لم أفتح له قلبي وأكون زوجة حقيقية له في المستقبل؟ لكن هذا غير ممكن إنه متزوج وله عائلة كما أنني لم أخلق لأكون زوجة لرجل في هذا المجتمع. اشتد الصداع في رأسي وأجهشت أبكي إلى أن نمت. أما نبيل فكان في غرفته مستلقيا على سريره مهموما، يفكر فيها وفي مصيره معها.

في صباح اليوم التالي، استيقظت باكرا. وقفت على شرفة غرفتي التي تطل على البحر، تذكرت أيام إقامتي مع سمير، لماذا أفكر في هذا السمير؟ عليّ أن أنسى الماضي الذي كان مبنيا على حب زائف. لا يمكنني أن أدع قلبي يحب أحدا لأن ذلك مستحيل. الحب معناه الزواج والزواج معناه الدخلة والدخلة معناها اكتشاف سري واكتشاف سري معناه هلاكي. علي أن أحمد الله أنني نجوت من العار الذي كنت سأجلبه لأهلي لولا نبيل الذي تورط في مساعدتي بزواجه مني. كنت أنظر إلى أمواج البحر وأتتبعها بعينيي إلى أن تتكسّر على الشاطئ. فجأة طرق نبيل الباب واستأذن بالدخول.

ـ صباح الخير يا غالية. كيف أصبحت الآن؟

ـ الحمد لله، أحسن. لقد اختفى الألم بعدما تناولت الدواء.

نظر إلى ساعته وقال: هيا بنا نفطر بسرعة لكي نذهب بعدها إلى السفارة ونستلم الجوازات.

أمسك ذراعيّ بكلتا يديه، كاد أن يضمّني بقوة لكنه تمالك نفسه واكتفى بالقول: هل أنت سعيدة يا غالية؟

نظرت إلى عينيه وقلت: هل تعتقد أنهم سيوافقون على إعطائي التأشيرة؟

ضحك وقال: إن وظيفتي تحتم عليّ السفر إلى أمريكا مرات عديدة في السنة.

ـ أنا لا أتكلم عنك فأنت تحمل جوازاً دبلوماسيا.

ابتسم إليّ وقال ليكن أملك في الله.

ـ هيا بنا إلى المطعم نفطر.

كان المطعم يطل على البحر مباشرة ويمكن للمرء أن يسمع صوت الأمواج عن قرب. طبيعة خرافية الملامح ...

نظرت إليه وقلت: انظر إلى الأمواج ما أجملها وهي تقترب شامخة من داخل البحر ثم يصغر علوها إلى أن تتكسر على الشاطئ.

أمسك فنجان القهوة بكلتي يديه، نظر إليّ مبتسما وقال: إن هذه الأمواج مثلك تماما.

نظرت إليه بعينين مستغربتين: ماذا تقصد؟

ابتسم وأجاب: إنها شامخة مثلك تماما، لكنها تنكسر على الشاطئ.

سألته بعصبية: ماذا تقصد؟

أجاب ضاحكا: لا شيء يا غالية. أنا فقط أمزح معك، ألا تحبين المزاح؟

ـ بلى لكنني لست كالأمواج و أنا لا أعلو علوها ولا أتكسر على الشاطئ مثلها.

كان ينظر إليّ ويضحك: لا تغضبي، اعتبري ما قلته لك غزلا.

تخيّلته يقول لي سأحطّم ذلك الشموخ الذي يعتريك. سأجعلك تركعين أمامي متوسلة أن أحضنك. لم تكن الأمواج أقوى منك، فهي تعلو داخل المحيط وقد تحطم السفينة بقوتها لكنها سرعان ما تنطفئ عندما يحضنها الشاطئ.

نظرت إليه وقلت: فيم تفكر؟

أيقظته من غفوته قال: لا شيء، يجب أن نسرع إلى السفارة ونصل إلى المطار كي لا نتأخر عن الرحلة.

كنت أنظر إلى المسؤولة عن التأشيرات خلف زجاج سميك وهي تتكلم مع شاب بواسطة الهاتف البَيْنِيّ، بعدها سلمت له الجواز فغادر السفارة ساخطا يسب باللهجة التونسية، لحقه الثاني والثالث والرابع وكلهم غادروا السفارة خائبين. بلعت ريقي وانتابني خوف شديد. كان نبيل يراقب تصرفاتي ويبتسم. وصل دوري، تقدم نبيل إلى الشباك ثم دار بينه وبين المسؤولة حوار قصير، مدت له الجواز شكرها ثم أمسك بيدي بقوة وجرني خارج السفارة متجهما يزمجر بكلمات لم أفهمها. انطلقنا إلى المطار. أما هي فكادت أنفاسها تختنق، تنظر من نافدة السيارة وعيناها دامعتان. لم تلتفت إليه ولم تسأله ان استلمت التأشيرة، ولماذا تسأله فالنتيجة واضحة. اتنتابتها هواجس وأفكار، لقد فعلها، كذب علي وقال بأنه سيحصل على التأشيرة بسهولة. كان ذلك كله كذبا لكي يؤكد لي أن السفر إلى أمريكا شيء مستحيل ولكي أرضخ إلى الأمر الواقع و أستسلم له. يا له من ثعلب ذكي. ما زلت أحدث نفسي حتى توقف أمام المطار.

ـ هيا يا غالية بسرعة إن موعد الرحلة إلى طرابلس بعد نصف ساعة.

لحقت به في صمت وقلبي يخفق بشدة. كان جواز حياتي بيده قصدت أن لا آخذه منه لكي لا أصاب بالأسى،هائمة حزينة وهو يسرق النظر إليّ بين الفينة والأخرى ويبتسم. وصل موعد الرحلة، اتجهنا إلى الحافلة التي نقلتنا إلى الطائرة وما هي إلا دقائق حتى أقلعت الطائرة. أمسكت بجريدة وحجبت بها وجهي كي لا يرى دموعي. جاءت المضيفة بالمشروبات وقدمتها له. التفت إليّ وقال": هل أنت نائمة؟

ـ نعم، أنا نائمة.

ـ ألا تريدين أن تشربي شيئا باردا؟

كنت أتكلم معه ووجهي مغطى بالجريدة.

ـ ماذا بك يا غالية؟

ـ إنني فرحة جدا. هل أنت مبسوط الآن؟

ـ بالطبع ففرحك معناه فرحي. لماذا تحجبين وجهك بالجريدة؟

ـ لأنني نائمة.

ـ هل النائم يتكلم؟

ـ نعم، يتكلم إن أُزعج بكثرة الأسئلة.

ضحك وقال: منذ الساعة التي خرجنا فيها من السفارة وأنت صامتة لماذا؟

ـ ألا تعرف لماذا؟

ـ لا والله ما الأمر؟

أزلت الجريدة عن وجهي المحتقن وقلت:لم أحصل على التأشيرة. أليس كذلك؟

ـ بلى.

لملمت أطرافي المندهشة: ماذا ...؟ لكن لماذا كنت غاضبا عندما كنا بالسفارة؟

ـ لأننا كنا سنتأخر عن موعد الرحلة وغدا يجب أن أكون على رأس عملي.

انفجرت أبكي وأضحك من الفرح، ضممته إلى صدري أقبله والمسافرون يسرقون النظر إليّ ويبتسمون.

وصلت الطائرة إلى طرابلس العاصمة بعد ساعة ونصف من الإبحار في الفضاء. وفي طريقنا إلى المركز الإفريقي كنت أنظر إلى البنايات المصطفة على جنبي الطريق وكأنني أشاهدها لأول مرة ثم أسرق النظر بين الفينة والأخرى إلى نبيل، أتعجب لتعامله وتصرفه معي. آه لو أصبحت زوجته فعلا، فهو يحبني كثيرا وأنا سأحبه في المستقبل لكن، إن أخبرته عن سري ربما يتصرف كسمير أو يطلقني ويرجعني كطرد غير مرغوب فيه إلى المغرب وتكون الكارثة العظمى. إلى متى سأظل أفكر في سري؟ سأصارحه وأمري لله. لا، لا لن أتهور. سأهدم كل شيء. توقفت السيارة أمام باب المركز. الطقس حار يبعث الخمول والنعاس. نظر إليّ وقال:

ـ ما رأيك أن تطبخي غذاء احتفال به بهذه المناسبة؟

ـ ماذا تقترح للغذاء؟

ـ لن أقترح شيئا، كل شيء في الثلاجة.

ـ لكن، أنت تعرف بأنني لا أحسن الطبخ.

ـ أعرف ذلك لكنني متأكد أنك ستحسنين اختراع شيء جميل اليوم.

ـ اختراع! مادمت ترتقب اختراعا، سأخترع.

قلت كلامي وهرولت مسرعة إلى المطبخ أما هو فكان ينظر إليّ ويضحك. أمسك الجريدة يتصفحها في كسل بينما أنا أتعارك مع الطناجر والصحن.

ـ ما هذا الضجيج الذي أسمعه يا غالية؟

ـ لا شيء سيكون الطعام جاهزا بعد ساعة.

يا ربي ماذا أفعل؟ أكره المطبخ وأكره الطبخ! ماذا سأفعل الآن؟ فتحت الثلاجة وأخرجت دجاجة غسلتها ووضعت عليها قليلا من التوابل ثم أدخلتها إلى الفرن. وضعت كمية من الأرز في طنجرة أخرى وسكبت عليه الماء وبعض الملح. في تلك اللحظة قطعت التفاح والأناناس وقليته بالسمن ثم وضعت عليه العسل، سلقت البطاطس وقطعتها على شكل هلالي كشرائح التفاح، وأخيرا عندما استوت الدجاجة وضعتها في صحن كبير ومزخرف زينته بأوراق السلطة ثم وضعت فوقها البطاطس والتفاح والأناناس. تذكرت الأرز، وجدته اختلط ببعضه وأصبح كالعجين، وقفت كالملسوع أنظر إليه متحسرة لا أعرف ماذا أفعل به، هل أرميه في القمامة وأطبخ أرزا آخر. الوقت ضيق ونبيل ينتظر الأكل بسرعة. الموقف بالنسبة لي معقد ويحتاج إلى اختراع حقيقي. أخرجت من الثلاجة الكزبرة والجبن والبيض والحليب وخلطته بالأرز ثم وضعته في الفرن. ذهبت إلى الصالون كان نبيل نائما والجريدة فوق وجهه، مشيت بخطوات سريعة إلى الحمام، أخذت دوش الفرح، أرقص تحت الماء الذي يداعب رذاذه جسمي وأنا أغني على إيقاع الماء الذي ينزل ورودا، ومن فوقي غيمة من الموسيقى وأنا على طرب أرقص في نشوة لزغردة الماء مهنئة نجومي المتلألئة وسطوع شمسي. لبست فستانا جميلا، أسدلت شعري ووضعت أحمر الشفاه وعطرا ثم رجعت إلى المطبخ بسرعة. وضعت الأكل على المائدة، أعجبني منظر الأكل. هتفت بصوت ينم عن الفرح:

_ الأكل جاهز.

نهض متثاقلا، يمشي بخطوات بطيئة. بمجرد أن دخل المطبخ أشرق وجهه وقال بصوت الواثق :

ـ الله أكبر! ما أجمل منظر الطعام!

قلت وأنا أحاول أن أبعد عني آثار الارتباك: لم أطبخ قط في حياتي، ما فعلته الآن لا يستحق كل هذا الإعجاب.

_ هذا طبخ جميل ورائحته أطيب ومنظره يفتح الشهية وحتما مذاقه سيكون لذيذا.

جلس على الكرسي وانهمك في وضع الأكل في صحنه بينما أنا واقفة أنظر إليه ويداي المشبوكتان تسيل عرقا. نظر إليّ وقال:

ـ ماذا تنتظرين هيا اجلسي وشاركيني الطعام.

شرع يأكل بشهية وأنا أنظر إليه، التفت إليّ وقال: هذا أكل لذيذ جدا لم أذق مثله قط.

أجبته بارتباك: أنت تمزح أو ربما تجاملني.

قال بجدية: والله لا أجاملك، إنه فعلا أكل طيب جدا. هل هو طبخ مغربي؟

_ ليس طبخا مغربيا. قولك هذا استخفاف بالطبخ المغربي.

ـ أنت التي تستخفين بقدراتك. زوجتي كذلك طباخة ماهرة.

ارتعشت يداي المرشوشتان بطعنات الغيرة، أوقعت السكين، أمسكتها مرة ثانية، وضعتها على الصحن، رشفت عصير البرتقال بيدين راجفتين، وضعته على المائدة دون أن أنظر إليه أو أبدي رأياً.

ـ ما بك يا غالية؟

ـ لا شيء، إنني سعيدة جدا حيث استطعت أن أقدم لك طعاما رضيت عنه وأعجبك.

ـ لك قدرة في تقديم شيء خاص بك، وهذه ميزة لا يتميز بها إلا طباخ ماهر.

وقفت من مكاني ومشيت على عجل وبما يشبه الهرولة، خجلة متجهة صوب حنفية المطبخ. يلاحقني صوت نبيل:

_ شكرا لك يا غالية.

غادر إلى الصالون واستلقى على أريكته المفضلة في كسل يستمع إلى نشرة الأخبار وأنا مازلت في مكاني أقلب الأكل بالصحن يمنة ويسرة، شاردة في أفكاري بعيدا. لماذا شعرت بامتعاض عندما ذكر زوجته؟ لماذا شعرت بالغيرة؟ بأي حق أغار من زوجته، أم أولاده وشريكة عمره وحبيبة قلبه؟ إنه ليس زوجي. إنه صديق لا أكثر ولا أقل وزواجنا شكلي. أسرعت إلى غرفتي وأغلقت عليّ الباب. استلقيت على سرّي أتصفح رواية من غير تركيز، لم أفهم شيئا، أعاود القراءة، عقلي شارد، لا بد أن أنهي قراءة الرواية، لم تبق إلا صفحات قليلة، أقرأ الأسطر الأولى من الفصل الأخير، شردت بعقلي إلى المغرب، تذكرت فرح عائلتي بنبيل ... ليلة زفافي ... لم أرد أن أكمل الرواية أو أن تكون لها نهاية ... سافرت بين سطورها ... فوجدت نفسي البطلة والحبيبة ... أتعذب بانجذابي له رغم مقاومتي الشديدة، خادعة قلبي الذي يخفق له بتلهف. أتحبين أن تكوني زوجا لرجل قضيت معه عمر حياتك ويتزوج عليك؟ إن سرك سينهي حبك العذري مع نبيل. تمنيت أن أعيش معه رواية حياتي، أمتنع فيها وأنا راغبة وأحبه من غير أن أبوح له بسري وأدعه يحبني من غير حدود ولو حتم قدر روايتي أن يحرمني بأن أتمتع بحياة طبيعية كأية امرأة طبيعية. آخ! امرأة طبيعية ... كيف ...؟ وأنا أتذكر في وهم طفولتي الممتدة ما بين فتحات رجليّ إلى أن أصبحتا فخدين عريضين كبيرين. عندما فتحت أرجلي على امتداد الحياة لأول مرة وأنا قطعة من لحم أبيض وكيف لا أتخيل طفولتي في يومها الأول أو ساعاتها الأولى عندما انتزعتني القابلة من بطن أمي وأنا أصرخ للحياة التي أجهضت أجنحتي الطرية والقابلة تضحك وتدوزن مراحل حياتي المقبلة. سمعتها وأنا أتحسس جسد أمي وعمري ثلاث دقائق. كانت تقول لأمي إن ابنتك ولدت مفتوحة الفخذين وفتَحََت فخذيّ فعلا وأنا عمري سبعة أعوام للمرة الثانية. ثلاث من النساء الغلاظ، واحدة تمسك بيدي والأخرى برجليّ والثالثة جاثمة على صدري وأنا أسترق السمع والبصر معا وكان يلهيني عن الاستراق بهرجة نساء وأطفال واحتفال... والقابلة تحمل موسى ثم مقصا وخيطا وإبرة وأدوات أخرى. وأنا أتلاعب بحلي من ذهب وبعض النقود وحلوى وحنة على يدي ورجلي ترتسم سوادا ممتدا في الماضي والحاضر، صرخت صرخة دوت لها أركان حياتي وأنا أرى قطعتين من لحم كانتا عندي وأخرى ذهبت إلى الأبد وذهبت معها أعصابي وأحاسيسي وبعد ذلك لم أر غير فتحة كأنها كوة في متاهات الزمن السحيق تتلون باللون الأحمر الداكن في عتمة خائبة. تلك المراسيم الغادرة كانت يوما طويلا في حياتي وأعدّ له من طقوس الفرعون الجزار وآلهته العمياء وتوالت طقوس ثم طقوس ... سؤالي ... من يا ترى ينفض الغبار عن تلك الطقوس المتجمدة والمتعفنة في ذاكرتنا الخربة، وكانت خيبة الآخرين هي الأكثر انهزاما دون مسميات. حتما سوف أنزف دما ... دم يحيط بإطار لوحتي من الخارج وفي الداخل قارورة زيتها المنساب على فخذيّ اللذين لم يكونا يوما هزيلين. أتصبب عرقا ليستمتع الآخرون بلحظة أجمل وأنا أتعامل بالتسامح الأبله ... هل هي مشيئة الأقدار؟؟؟ هل سوف أفتح أفخاذي بعد أن طالت رجلاي لأرسم خيوط معركة مرسومة منذ زمن، تشوهت فيها المعالم والجدران وكلّ الأسطح النموذجية والمحيط البناء وذكرياتي وطفولتي العالقة في قطعتين من لحم سمراوين وأنا أتساءل هل كانتا عبئا ثقيلا عليهم أم عليّ ...؟ كما أنّ فنجان قهوة مقلوبا على أمره فلبس على رأسه، لا يقول شيئا غير شعارات مكتوبة بحبر مغشوش حتى إذا ما طلعت عليه شمس الحقيقة تبخر وتلاشى وتبقى جدرانها تذكر بأن هنالك كتابات لا نعرف معناها ولا نستحضر حروفها الأبجدية. ما زلت في غرفتي أنتحب وأندب حظي في عتمة من الحزن وروحي أشلاء مبعثرة تهوي تحت رحمة اللعنة الفرعونية. أحسّ نبيل بانجذابي له، فرح لذلك واكتفى بفرحه لنفسه، فهو أيضا ينهج سياسة التمنّع، هكذا جنس النساء من لا يجري وراءهن يجرين وراءه ومن يكن متعاليا يتمنين التسلق إليه ومن يكون شامخا يحببن أن يرضخن له ومن يكون غامضا يردن الولوج داخله. شعرت بالضجر، ذهبت إلى المطبخ، هيأت الشاي وأحضرته إلى الصالون. كان منسجما في مشاهدة فيلم وثائقي. فتحت فمي لكي أتحدث إليه ثم أقفلته. طأطأت رأسي أنظر إلى قوائم المائدة، يدثرني حزن، تقمعه لعنة سرّي، ماذا جرى لك يا غالية؟ أين كرامتك وكبرياؤك؟ ماذا جرى لك يا قلبي كي أتعذب بشخص لم أظن قط أنك ستميل إليه؟ هل روحي ومشاعري لعبة؟ لم أخلق لأكون امرأة وأما وحبيبة... أنا لن أُحِبَّ أو أُحَبَّ ... أنا من دون عذرية...ومن دون ... جسم خلق من المفروض ألا يُخلق ... جسم سجنته الأسوار بقيود التقاليد. لماذا خلقت مادامت دنياي سر ...قلق ...عذاب ...ألم ... خوف ... إن ماضي مربوط بحاضري ومصيري مربوط بقدري واعترافي بسري الخطير مربوط بنهاية علاقتي مع نبيل إلى الأبد. لن يكون أكثر وعيا وانفتاحا من سمير. تبا لك أنت أيضا يا نبيل وتبا للساعة التي عرفتك فيها مثلما عرفت سميراً فأنت لن تكون أفضل منه، كلكم تعزفون على وتر واحد وبإيقاع واحد. غادرت إلى غرفتي وأقفلت الباب عليّ بقوة، ووضعت وجهي على شقائي مطلقة عنان بكائي لانهزامي. أحسّ نبيل أن طبخته استوت فجاء ليتذوق طعمها.

لامارا 14-11-13 10:25 PM

الفصل الثالث عشر الجزء 2
 
الفصل الثالث عشر الجزء 2

ـ غالية هل يمكنني الدخول؟

لم أجب ... تظاهرت بالنوم لكن عينيّ لم تنجحا في إخفاء علّتي. طرق الباب ودخل.

ـ ما بك غالية أهي آلام المعدة؟

جلس بجانب السرير، أمسك بذراعي وأجلسني بجانبه: ما بك؟ ما الذي جرى لك فجأة بالله عليك لا تشغلي بالي.

نظرت إليه: أنا ... أنا ... لماذا ... طأطأت رأسها وقالت: أنت ...لم ...

_ أفصحي ما الأمر؟

ضممته إلى صدري... أسمع دقات قلبه في صمت... حملتني رائحة عطره إلى عالم تمنيت أن يكون حقيقة. كان يداعب شعري، ساد الغرفة صمت رهيب وكلانا يحاول اختراق صدر الآخر للكشف عن طياته وقراءة ما بين سطوره. أمسك وجهي المبلل بكلتي يديه وأخرج منديلا من جيب قميصه، كان وجهه قريبا من وجهي وأنفاسه تكاد تختلط بأنفاسي.

ـ ما رأيك أن نخرج إلى البحر؟ الطقس مازال دافئا.

كنت أتمنى أن يضمني إلى صدره ويبقى بجانبي حتى الصباح. قال وهو يلثم يدي، ليس من السهل أن تتغرب فتاة في سنك بعيدا عن أهلها. كنت صامتة ورأسي على ذراعه، هدأ بالي وسكنت فرائصي، فصمت هو أيضا وسرح بأفكاره، محاولا قراءة دقات قلبي التي كانت تخفق: تمنيت أن ترتاح نفسي من عنائي وخوفي، وتستريح قدماي من سلوك طريق وعرة مجهولة المصير. رفع رأسه ينظر إلى سقف الصالون هنيهة، ثم حول نظره إليّ في صمت: لقد أوقعتك في شباكي، وتمكنت منك وسرت وراءك كطفل يلاحق أمه متناسية أهلي وعشيرتي، متغافلة متعامية عن تراكم الأهوال الملقاة على رأسي، منجذبا بقوة خفية وخارقة تكمن في روحك. خفق قلب غالية، أريدك ... أحبك... أحتاجك. تمنيت أن أكون كطائر حر يرفرف في فضاء قلبك ويجلس على أطراف غصون حنانك، متأملا في أعمدة قصور السعادة التي زرعتَها في قلبي. يداعب خصلات شعري، قفي هنيهة لأرى وجهك الغامض وأنظر إليه دقيقة لعلي أستطيع اختراق عينيك وأقرأ في ملامحك ما يكمن في نفسك. شد على جسمي بذراعيه، فارتعشت وتسارعت دقات قلبي. لقد مللت المسير وتعبت من السفر وضاق صدري من حمل عبء ذلك السر الخطير. ضجر قلبي ويئس من أنين خوفي، ومن مخاوف سفري اللانهائي. روحي ترتعش ... تخلي عن عنادك وبرودك وضعي حدا لقلبك المتحجر، فقد بلغنا ملتقى السبل حيث تعانق روحي جسدك ويعانق جسدك روحي وحيث أذوب بحبي فيك ويذوب حبك في جسدي ويستوضح قلبي خزائن قلبك.كان رأسي مازال على صدره وجسمي هادئ لا يتحرك. أسيرة ترحالي أجول في مشارق الأرض وأهيم في مغاربها لكني حزينة بمساوئ الحياة، مكوية برجعية التقاليد. تعشقني كوابيسي، تسعى كحية تحت جنح الليل، زاحفة من شقوق الجدران، تلسع نومي فتوقظه فزعا، والعرق يسيل من جسدي، أقف بجانب أسرة إخوتي فأجدهم يرقدون في سلام. تأوه ... هل ألعن اللحظة التي تعرفت فيها بك أم أحمدها؟ لقد تسممت بلمسة يديك وعلت حرارة جسمي بضمك لصدري فأثرت في عقلي وأمرضته وجعلته أسير حبك إلى حيث لا أدري وأصبح قلبي يزداد عشقا بك كشارب خمر يستزيد شربها لتطفئ نار حزنه لكن مزيدها لم يزده إلا حزنا وتشعل في قلبه نارا. لمس خدّي الساخن فأحسست بقشعريرة تسري في جسمي، أغمضت عينيّ ... أحبك! أحبك! أحبك! لن أدعك تهزمينني ولن أركع لك مرة ثانية، سأعذبك مثلما عذبتني وسأعصر قلبك مثلما عصرت قلبي ثم أشرب نبيذه لكي أسترجع قواي وأكسر قيود عشقك الذي برى قلبي وسحق بعدها الكأس الذي شربت منها سم عشقك. ماذا تريدين مني أيتها الغامضة وعلى أي طريق تريدين أن نسير، هل ترضين بي رفيقا يتأمل بهاء وجهك بأجفان جامدة ويقبض على نار حبك بأصابع غير مرتعشة؟ نعم أرضى بك رفيقا وأرضى بحب عذري دون اشتهاء، لكن هل أنت تستطيع أن تكتفي بشغف قلب يهيم ولا يستسلم ويشتعل لهيبا لكنه لا يذوب. هل تستطيع أن تحتمل عاصفة روحي المرتعشة التي لا تنصهر ولا تثور. خذ بيدي واعشق روحي وضم جسدي واجعل روحي تنصهر في روحك من غير أن تلمسني فذاك سيكشف سري.

رن جرس الهاتف فانقطع حوار صمتنا كما انقطع ذلك التيار الذي كان يجري في جسدينا. وطبع قبلة على جبيني، نهض ببطء شديد، أمسك سماعة التلفون الذي كان على زاوية مائدة صغيرة بالقرب منه.

ـ ألو، أهلا سوزان. كيف حالك ... الله يبارك فيك ... فعلا كانت مفاجأة ... حاضر.

التفت إليّ بعينين يملؤها بريق العتاب وابتسامة تشع دفئا:هل لك رغبة في زيارة سوزان إنها تدعونا لنشرب الشاي عندها.

_ ليس عندي مانع.

ـ ألو سوزان ... بعد نصف ساعة سنكون عندك. إلى اللقاء.

التفت إليّ وقال: اذهبي إلى الحمام واغسلي وجهك بالماء البارد عله يخفي احمرار عينيك.

كانت فيلا سوزان ملتصقة بفيلا نبيل. الأنوار في الصالون حالمة، اللوحات المعلقة على الجدران تحمل صور الطبيعة لتلك المجتمعات السمراء؛ أكواخ متناثرة في وسط غابات ذات الأرواح التي لا تنام والأطفال عراة يلعبون بالوحل، صانعين منه أشكالا لأشياء كانت لا تتحقق إلاّّ في أحلامهم، صورة أخرى معلقة بالقرب من فيل مصنوع من النحاس شامخا بعنفوان، ساخطا، رافضا تواجده في أرض بغير تمرد، أرض تخلو منها الحياة الحرة. عيناه مصوبتان نحو اللوحة التي كانت تحمل صورة ضباب كثيف منحدر من قمم الهضاب المرتفعة وقطيع من الفيلة تتبع ظلالها التي كانت تحجب عنهم حرارة الشمس. يحدق بهم متأملا علوّ صوتهم الذي كان يثور مع العواصف ومع البراكين ويبتسم أحيانا بثغور الاخضرار اليانعة فتراه يشد رأسه إلى فوق الصورة رافضا المثول على السجادة العجمية، محاولا أن يدخل الصورة ويتوغل معهم في تلك الأراضي المنبسطة والأدغال السمراء.جلس نبيل على الأريكة المغلفة بجلد النمر وجلست بالقرب منه وسوزان على الأريكة الأخرى. تلقّى نبيل سوزان بابتسامته المعهودة، شدّ على يدها وقبل أن ينزل بجسده على الأريكة سألها:

ـ أين البنات؟

ـ نمن مبكرا لأنهن كن في رحلة مدرسية. سولونج تتعبني كثيرا بأسئلتها عن غياب أبيها.

ـ أما زال مع فلورانس؟

ـ إنه مع فلورانس ومع غيرها. لم يعد يهمني، لكن البنات يفكرن فيه دائما وهذا يزعجني ويؤلم قلبي.

نهضت من مكانها واتجهت إلى المطبخ لتحضر الشاي.

التفت نبيل إليّ وقال: مسكينة سوزان منذ تزوجت من أوسكار وهو يعذبها بلعبه بالنار.

قلت له بعصبية: هو يلعب بالنار وهي تحترق بها. لو كانت هي تلعب بها لأحرقتها.

أقبلت سوزان تبتسم وفي يدها صينية الشاي، وضعتها على المائدة وقالت: لو كنت مكاني أيتها الثائرة ماذا كنت ستفعلين؟

قلت بغضب: لن أعيش مع زوج لا يحترمني.

كان نبيل ينظر إليّ صامتا يتأملني وأنا أتحدث والكلام يختنق في صدري. اقترب منّي وأمسك يدي وهو ينظر إلى سوزان ويبتسم: إن الرجال ليسوا سواء.

قالت سوزان بغية تغيير الموضوع: قالت لي غالية بأنك قضيت أياما جميلة في المغرب.

وضع يده على كتفي وقال مبتسما: لقد كانت أياما جميلة لن أنساها ما حييت.

قالت سوزان: ما رأيكم في أن نتعشى غدا في الفندق الكبير بمناسبة زفافكما الميمون.

نظرت إلى نبيل، احمر وجهي، شعرت بقشعريرة نفضت جسمي. قالت سوزان باللغة الفرنسية موجهة كلامها لي وهي تبتسم: وقعت حبا يا غالية.

قال نبيل وهو يبتسم: أبدأتما تتنافران؟ تكلما باللغة الإنجليزية لكي أفهم.

أجابت سوزان وهي تضحك: لا نريدك أن تفهم.

غادرنا سوزان بروح مشرقة إلى البيت، كانت يدي دافئة ترتعش في يده، تيار قوي يشدني إليه، تمنيت أن أرتمي بين أحضانه وأنام إلى الأبد.

لامارا 14-11-13 10:28 PM

الفصل الرابع عشر - الجزء 1



صراع وارتعاش



استيقظت باكرا على بعثرتي المعتادة، متداخلة في مسامات جلدي، أناجي روحي المتدلية من السقف، أتجول في تاريخها وأحيانا أتنزه في ذكرياتها. تذكرت اليوم الذي غادرت فيه العائلة المغربية ولا أعرف أين المصير كالتائه في الصحراء أو كالذي تكسر زورقه في أعماق البحر فظل يسبح بكل قوته محاولا الخروج إلى اليابسة فاقدا الأمل الذي كان يراه معلقا بين زرقة السماء وغضب البحر. سمعت خطوات نبيل الذي خرج من الحمام وأغلق بابه بحذر حتى لا يوقظني. لملمت كسلي قطرة ... قطرة وجنوني يقذفني بعيدا إلى نار الغيرة. هذه المرة أبيت أن أهيئ له الفطور كما أبيت أن أقف أمام شرفة المطبخ وألوح له بيدي حين يغادر إلى عمله. سمعت باب الفيلا يُفتح ثم يقفل غمغمت في نفسي: لقد غادر فارس أوهامي إلى العمل. أسرعت إلى المطبخ وجلست حول مائدة الطعام أحتسي القهوة وأخط كلمات مضطربة على ورقة.

أحس أنني بحاجة للذهاب إلى القرية السياحية، أريد أن أخلو لنفسي قليلا، لن أتأخر كثيرا قد أعود قبل أن ترجع من العمل.

غالية

تذكر نبيل أوراقا نسيها في درج مكتبه فرجع لأخذها. في تلك اللحظة غادرت المركز ووقفت على الرصيف أنتظر سيارة أجرة. كانت السيارات تمر بسرعة البرق. توقفت واحدة أمامي، أخرج السائق رأسه من النافدة موجها كلامه لي: وين يْبِّي الحلو يروح؟ تراجعت إلى أقصى الرصيف خوفا. تكررت المسألة مرارا إلى أن شاهدت سيارة مرسديس تصعد إلى الرصيف وتقف أمامي ثم ينحني السائق محاولا فتح باب سيارته الجانبي ويقول: اركبي يا حلو. خفت ورجعت هاربة إلى باب المركز. كان نبيل يناديني لكنني لم أسمعه فجأة اقتربت سيارة أجرة فأسرعت نحوها وانطلقت بي كالريح بعيدا عن تلك الأوساط المتوحشة، المكبلة طريقها بالأصفاد. ركب نبيل سيارته واتجه إلى باب المركز محاولا اللحاق بي، نظر إلى حارس الباب جالسا على كرسيه الصغير مشغولا بصنع الشاي، ويدندن مع أغنية سفن سكندس ليوسو ندور.

ـ لماذا لم تستوقف غالية؟

ـ صباح الخير أولا يا دكتور.

ـ صباح الخير، لقد شاهدتني أناديها.

ـ وما شأني أنا بذلك؟

لم يعقب نبيل على كلامه، اكتفى بسبه، ودعس على دواسة البنزين بعصبية محاولا اللحاق بغالية إلى القرية السياحية. نسي شغله ونسي نفسه وأهله، نسي كل شيء مثل الفاقد لذاكرته. وصلت إلى القرية السياحية، دفعت أجرة التاكسي ثم مشت بخطوات متثاقلة تجاه البحر. وصل نبيل بعدها بخمس دقائق. أوقف سيارته في موقف السيارات ثم لحقها بحذر كي لا تراه. هو نفسه يتعجب كيف أصبح معلقا بأذيالها، مجرورا فوق ترابها لا يعرف ظنونه ولا يعرف أهواءه، يستغرب من إحساسه الذي يضغط عليه أن يطلب منها قضاء ليلة في أحضانه. اتجهت صوب الشاطئ متجهة نحو الصخرة الكبيرة التي كانت داخل الماء من غير أن تخلع حذاءها كالذي فقد أحاسيسه وآماله في الدنيا راغبا إلى دنيا أخرى وراء الأمواج. كان يراقبها من بعيد وهي تتسلق الصخرة إلى قمتها. سافر شعرها الطويل مع رياح البحر وبسطت ذراعيها تستنشق ذلك الهواء دون أن تبدي حركة وكأنها تمثال الحرية. اقتربت موجة عالية، تكسرت على الصخرة فبللتها إلى أن التصق فستانها الأبيض الطويل بجسمها، فقدت توازنها وكادت أن تقع في البحر. في تلك اللحظة تجمد نبيل في مكانه وكاد قلبه يقع بين رجليه خوفا علي لكن شيئا بداخله كان يمنعه من الذهاب إليها، أما هي فلم تعر أي اهتمام لتبلل جسمها، ثبتت وقفتها وظلت شامخة كشموخ الصخرة التي تستقر تحت قدميها تنظر إلى البحر. كان رهيبا وعميقا، صوته تسلل إلى جسمها المحموم الذي يحتشد زهوا ويستنفر الأمواج. كان نبيل يراقبها. ظلت واقفة مكانها فوق الصخرة، أحيانا تنظر إلى السماء وأحيانا إلى البحر. لم تتعب قدماها من عناء الوقوف كما لم تتعب الأمواج من الانكسار على الصخرة. غربت الشمس واشتد البرد وبدأ الظلام يلون أجواء المنطقة. لم يعد أحد يسبح في البحر أو يجلس على الشاطئ. كل غادر المكان. أرعبها سكون المكان ووحشته وأحست ببرودة في جسدها وبلل فستانها فنزلت من الصخرة متجهة إلى خارج القرية السياحية. تذكرت نبيل، انشغل بالها، بدأت تعطس وتسعل وترتعش ملتفتة يمنة ويسرة لعلها تجد سيارة أجرة لتعود إلى البيت. انتابتها آلام في معدتها وانحنى ظهرها إلى ركبتيها، وقعت على الأرض مغمى عليها، في تلك اللحظة أسرع نبيل إليها وحملها بين ذراعيه متجها إلى سيارته التي كانت على مقربة منه في موقف السيارات. وضعها في المقعد الخلفي ثم انطلق بسرعة إلى المركز الإفريقي، وفي طريقه اتصل هاتفيا بسوزان معتذرا لها عن عدم استطاعتهما تلبية دعوتها إلى الفندق الكبير، شارحا لها حالة غالية. اعتاد نبيل أن يشاهد تلك النوبات بين الفينة والأخرى لذلك لم يأخذها إلى المستشفى. طوال الطريق كان يقود السيارة وبين الحين والآخر يضع يده على جبينها ليتفحص حرارة جسمها. وصل إلى المركز وأوقف السيارة أمام باب الفيلا، حملها بين ذراعيه، كانت ثيابها مبللة وجسمها باردا. أدخلها إلى غرفته ثم وضعها على سريره، انتصب كالتمثال واقفا ينظر إليها ثم حول وجهه إلى مرآة خزانته الكبيرة التي تصل أرض الغرفة بسقفها محدقا بشحوبه متفرسا وجهه، متأملا طول قامته ثم حول النظر إليها مرة أخرى وظل واقفا، جامدا على تلك الحالة قرابة ساعة فأوحي له بأفكاٍر تكشف عن بواطن روحه، اقترب منها وانحنى نحوها إلى أن أوشك أن يضع شفتيه على شفتيها ويلصق جسمها بجسمه، تراجع بسرعة يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم، أسرع إلى الحمام وبعد دقائق ليست طويلة رجع إليها ثم حملها وأرجعها إلى غرفتها ووضعها على السرير. كانت تهذي والعرق يتصبب من كل جسمها، انتبه أخيرا أن فستانها مبلل، خلعه برفق، ألبسها قميص نومها وهي مازالت تهذي. هذه المرة طالت غيبوبتها، فأحس بالذعر لسوء حالها ولم يعرف كيف يداويها. أسرع إلى الهاتف وتلفن إلى صديقه الدكتور جورج الذي كان في سيارته ليس بعيدا عن المركز وما هي إلا عشر دقائق حتى أوقف سيارته أمام باب الفيلا. فتح له نبيل الباب.

ـ أهلا وسهلا دكتور.

قال الدكتور جورج مبتسما: أين غبت يا صديقي، شهرين لم نسمع عنك خبرا!

ـ كنت في إجازة في المغرب.

ـ حمدا لله على سلامتك أين غالية؟

ـ في غرفتها، تفضل.

دخل الدكتور جورج إلى الغرفة وشرع في فحصه الروتيني، جس نبضها وفحص ضغطها، كانت حرارتها مرتفعة والعرق يسيل من جسمها من غير توقف.

ـ ماذا يا دكتور ما الأمر؟

ـ إن غالية تعاني من اكتئاب نفسي قديم وتحتاج إلى علاج نفسي.

ـ ماذا تقول؟

ـ المشكلة ليست في المعدة فقط. آلام المعدة تنتابها بسبب القلق والتوتر الذي زاد عن حده فأصبح يشكل لها إغماء.

ـ وما العمل يا صديقي؟

ـ سأعطيها حقنة مهدئة الآن وهذه وصفة بها دواء للسعال والرشح لكن لابد لها من علاج نفسي.

أنهى الدكتور جورج فحصه لغالية فرافقه نبيل إلى الصالون.

ـ ماذا تريد أن تشرب؟

ـ عصير البرتقال مع كثير من الثلج، شكرا.

أحضر نبيل العصير وسأله مستفهما حائرا: ما سبب الاكتئاب؟

ـ من المؤكد أنها تعرضت لحادثة مزعجة في صغرها فأثرت في نفسها وظلت تلاحق فكرها. من الأفضل أن تسافر إلى بلدها وتكون بين أهلها فوجودها هنا بعيدا عنهم لا يساعد على حل مشكلتها.

ـ إنها ستسافر إلى أمريكا لتدرس هناك.

ـ حسنا هناك يمكن أن تعالج نفسها.

انصرف الدكتور جورج تاركا صديقه في عتمة من الحزن والحيرة. رجع إلى غرفتها، جلس على الكرسي الذي كان بجانب السرير يتأملها. نهض وجلس بحافة السرير، يترقب قطرات العرق التي تنزل عن جبينها. اقترب منها، مد يده على شعرها المبلل بالعرق ومياه البحر الملحة وحدث سكون مفعم بحفيف أوراق الشجرة التي تطل من النافدة. أغمض عينيه مصغيا إلى صدى دقات قلبها، أما هي فكانت كأميرة البحر التي ألقي بها في الشط، فافتقدت الماء كما افتقدت الحرية فغط على قلبها وأغشي عليها ولما فتحت عينيها لم تكن ترى غير البحر متشحا بدثار من الضباب ثم أغمضتهما مرة ثانية. شعر نبيل بالتعب فغادر إلى غرفته ونام. استيقظ باكرا، هيأ الفطور وأحضره إلى غرفتها.

الزمن يركض خلف ذلك السر ... والحب يتألم، قلبه يلهث وينزف جرح الوصول إلى بر الأمان. جهلنا اتسع ليشملنا جميعا. كلانا اختار الدرع والرماح، ليس لأننا نحب الحرب، بل لأننا لا نملك سواه. هل يمكننا ارتداء المحبة التي لا تعرف حب السلطة والتملك...؟ ما زلت في سريري متوسدة أحلامي المثقوبة، أتقلب على تلك المقولة الجميلة لجبران خليل جبران. " هل يستطيع هؤلاء المخاليق إدراك حقيقة الأمور وهم محدقون بأواسطها. أليس للأمور رؤوس وأذناب؟ أحب الذين أحرقوا ورجموا وشنقوا وقضوا من أجل فكرة امتلكت عقولهم أو عاطفة أشعلت قلوبهم."

سمعت صوته ففتحت عينيّ على أسطورتي وحروفي مستغربة:كيف؟ أعني من أحضرني إلى البيت؟ أذهلني نور الشمس الذي يشع من النافدة راقصا بنوره، هل ... أعني هل هذا يوم جديد؟

اقترب مني وقال: صباح الخير أولا. أما عن سؤالك كيف جئت إلى هنا؟ فأنا الذي أحضرتك. أما متى؟ فكان ذلك البارحة، واليوم فهو يوم جديد والآن هيا افطري، خرجت البارحة من غير فطور ثم إنك لم تأكلي شيئا طوال وجودك على شاطئ البحر.

- كيف عرفت؟ أعني من أخبرك؟

نظر إليّ مبتسما، مد إليّ كوب العصير وقال: أخبرتني نفسي.

نظرت إليه بذهول وقلت: هل كنت هناك؟

ـ روحي وقلبي وعقلي وجوارحي كلها كانت هناك.

نظرت إليه بعينين تتوقان لاختراق عينيه ثم التفتت إلى صينية الفطور، أتأمل الوردة الحمراء التي كانت موضوعة على منديل ورقي أبيض. حملتها في شغف أستنشقها ثم وضعتها في يده.

نظر إلي في شوق وقال: هي لك يا غالية.أمسك فنجان القهوة، رشف منه وكأنه يريد بذلك أن يحجب ضعفه أمامي.

ـ لقد حان وقت ذهابي إلى العمل، لابد أن أنهي بعض الأشغال المهمة قبل أن نسافر. إن احتجت شيئا اتصلي بي أو بسوزان التي من المؤكد ستزورك فهي تعلم بتعبك أمس.

وضع قبلة خاطفة على جبيني كعادته ثم انصرف وتركني أبحر بزورقي الصغير في بحر حديثه. تمنيت أن أكون لك لأنني وجدت فيك حبا يفوق أي حب...تمنيت أن أكون تحت ظل جناحيك لأظلل نفسي كلما توقدت حرارة الشمس في صحراء حياتي و أن أكون تلك الأنفاس التي في صدرك أو إحدى خفقات قلبك مستمتعة بإيصال دمائك إلى أوردتي. بكيت حتى سالت روحي متحسرة على قدري الذي حمّلني وزر ذلك الغيم الذي يعلن الأسرار والسقوط. فكرت أن أعترف له بسري فارتجف لساني، دفنت وجهي تحت الوسادة. صمتي في مواقف كهذه تثير أعصابه. إصراره على التحقيق معي لن يجدي نفعا، لماذا يصر على مواصلة التحقيق ولو بطريقة غير مباشرة؟ ذلك يجعلني ألبس دروعي وأهرب منه إلى مخابئ نفسي وأرتحل بعيدا عنه ولو أنه قربي. لماذا يقوم بعملية الكر والفر والتكتكة، فأنا منذ الطفولة تدربت على القيام بدور الثائر المتمرد الذي لا يمنح لمحققيه فرصة الولوج من ثغوره. جنّدني الزمان ... علمني ... ومع مروره اكتسبت التمرّس في الدفاع عن نفسي فأصبحت شديدة البأس غير مبالية بكل النعوت التي يشيرون بها إلي وبكل الألقاب التي يلبسوني إياها " كانت نافذة غرفتي مفتوحة على حديقة الفيلا الخلفية التي يُسمع منها حفيف تلك الشجرة التي تطل عليّ دائما، على أحد أغصانها شحرور يغرد والشمس مشرقة ساطعة كعادتها في ذلك الصباح والأزهار ترقص متمايلة يمنة ويسرة مع إيقاع النسيم والفراشات كانت تتطاير فوقها وهي تبتسم لسعادتها وبراعة رقصها وانسجامها مع لحن الطبيعة. وأنا أستجمع شرودي وسط ظلام ذلك الصبح المشرق إلى أن أغمضت عيني وسط منام، شحرور يغرد فوق فوهة بركان ثائر وأنا حورية عارية أرقص مع هياكل القبور وطفلة صغيرة تلعب بالقرب من قبر وفي يدها دمية تحاول رميها في حفرة قبر مجهول. اهتزت فرائصي وانتفضت في سريري، أحسست بصداع في رأسي، فتحت عيني. التفتت إلى النافدة لأرى الشحرور وجدته لا يغرد ولا يرفرف. قشعريرة سرت في جسدي، أغمضت عينيّ محاولة الهرب من هواجس أفكاري فلم أر إلا نفسي أجري بين صفوف من الوجوه العابسة المكفهرة تحاول الانقضاض عليّ وأنا أجري وأنظر إليهم متوسلة، فتحت عينيّ لكي أهرب من تلك الوجوه الشاحبة فلم أر في يقظتي سوى الحزن والأسى. رن الهاتف، نهضت من سريري متثاقلة.

ـ ألو...أهلا نبيل... لا صوتي طبيعي ... نعم، تحسنت ... لا، ليس من الضروري أن تعود مبكرا ... لم تأت سوزان ولم تتصل ... ربما .... أو ربما يشغلها شاغل ... وضعت سماعة الهاتف، جلست على الأريكة في الصالون ألملم وحدتي التي تقاسم عويل الصمت في أنفاسي. أردت أن أهيء الغداء، لم أشعر برغبة في ذلك، رجعت إلى غرفتي واستلقيت على ضجري أتلوى تحت الغطاء المتلفع بضجيج الصمت إلى أن غفوت. أيقظتني لمسة يد دافئة على جبيني.

ـ أما زلت نائمة يا غالية؟

ـ ليست لي رغبة في القيام بأي شيء.

ـ اسمعي لدي فكرة، اتصل بي صديق سوداني يدعوني لحضور زفافه، ما رأيك أن نذهب سويا بعدما نتعشى بمطعم يطل على عشيقك ونديمك البحر.

احمر وجهي داخل أنفاسي المتجمدة، احتضن وجهي بيديه وقال وهو يبتسم.

ـ لماذا الخجل؟ الحب ليس عيبا إنه هبة يزرعها الله في القلوب الطاهرة فيجعلها تتآلف ببعضها. اذهبي واغتسلي. سأكون بانتظارك أيتها الأميرة المدللة.

ضحكت من ضحكه، ذهبت إلى الحمام، أخذت دوشاً سريعا ولبست فستانا أسود يرسم ملامح وتفاصيل جسدي. وبينما أمشط شعري تهيأ لي سميرا ينظر إليّ من خلال المرآة ... حزينا ... متألما:" ماذا يا غالية؟ إن أخطأت في حقك فالله يعفو ويغفر لكنك أنت كنت الجلاد الذي لا يرحم.

ـ ظلمتني واتهمتني وكنت ...

ـ لا يا غالية، أنا سمير الذي أحب طهارتك وعفتك وحسن سلوكك وتمردك وأحب تلك الأيام الحلوة الجميلة التي قضاها معك والتي كان لك فيها رقيبا وحارسا في فيافي شمال إفريقيا. بحق القدر الذي جمعنا في تلك الصحراء أن تصفحي عني.

رفعت عينيها إلى المرآة وكانت تشع ببريق دموعها.

_ تعرف أيها الشاب المثقف الوسيم تلك الأيام كنت تعتبرها أيام تسلية ولعب مع فتاة تهوى العشق واللهو، حاولت معي في سهراتك الليلية وجعلت مني أميرة الحفل بشرائك لي فستانا بمئات الدولارات وكنت بذلك تتباهى برفقتك لي. لم أكن مغفلة ولو أنه لم يسبق لي قط احتكاك مع الجنس الآخر ولا أعرف تفكيره وتعامله لكنني أشكر الله الذي كان يضيء نجوم سمائي حتى لا أسقط في حفر كلماتك.

لامارا 14-11-13 10:30 PM

الفصل الرابع عشر الجزء 2
 

الفصل الرابع عشر الجزء 2

كان يستمع إليّ ويحرك رأسه نافيا قولي ... أخرج يديه من المرآة، متوسلا:

_ لا، لا أرجوك لا تقولي هذا أحببتك فعلا وما زلت أحبك.

ـ اسمع يا سمير كف عن تبريراتك الكاذبة.

تذكرت ليلة سهرتي الأولى معه في الفندق الكبير وتذكرت الكوكتيل ومذاقه المر الذي غير حلاوة علاقتي معه وكشف لي مكامن مراده وغايته. سألت نفسي مرات عدّة وأنا أحتسي ذلك الكوكتيل إن كنت من المستيقظين المتمردين الذين يأبون شرب المنبهات فكانت نفسي تجيبني بكلمات مبهمة ولكنني عندما تذكرت حوار رفاقك معك وضحكهم على اسمي وعلاقتك بي أيقنت أنني لست من الضعيفات المستسلمات إلى الأحلام بل من اللواتي لا يستسلمن إلى خداع أنفسهن بالأكاذيب والغش والحب الزائف، رغم أن الحياة تسير بهن في طرق ضيقة مغروسة بالأشواك والورود، المحفوفة بالذئاب الجائعة والأفاعي السامة. أنا لا أفتري عليك. كنت ملاكي الحبيب وكانت أشواقي لك تطير مع نسيم تلك الصحراء وسكونها. أنْسَيْتَني تعب سفري، وهوّنت صعابي فجعلتني أحلم بعش يجمعنا ويحضن أحلامنا ... أحلاما كانت ستصبح واقعا ... أظهرت لك احتشامي وخجلي ووقاري وحبست غرائز نفسي وأعرف أن ذلك نوع من الرياء الأبيض المعروف في تقاليدنا وعادتنا باسم التهذيب. إن أحَبَّ المرء نَظُفَ وإن عشق لَطُفَ فصار عشقه طاهرا، فلا يؤذي حبيبه ولا يفعل ما يسيء إليه، بل يضحي من أجله ولا يقوم بما يشين، بل يفعل ما يُرضي الحبيب كي يظفر بحبه ورضاه. أنا لست تلك الحبيبة التي ترضى بحبيب مزيف سفيه كان سيدنس ذلك الحب الطاهر برذيلته. جعلتني بتصرفك أنظر إلى الحياة من الوجهة المظلمة، فلم أعد أرى غير الظلام، هذا الذي وقف فينا نادبا، نائحا، باكيا بدموع محرقة علينا، متأوها لحالنا. كنت النار والنور في آن واحد وكنت لي الظل في تلك الصحراء، وكنت الدفء التي يسري في أوصالي عندما تغيب الشمس. إنني شديدة الإيمان بالحب لأنه جزء لا يتجزأ من إنسانية الإنسان، به يسمو وبه يتطهر وبه يحقق أسمى عواطفه. لقد خذلتني وتركت في نفسي جروحا مؤلمة، فلماذا أستسلم مادام حبي لم يقابل منك إلا الغدر؟!

_ بالله كفى تقريعا، كلامك أوجعني وأسال دما من قلبي.

أشحت وجهي لكي لا أرى عينيه وقلت: أنت من عينات مجتمعنا التي تقول غير ما تفعل. أتقنت دور الحضاري وأنك فهمت ظروفي وعند أول فرصة سانحة من وجهة نظرك حاولت الانقضاض علي لتحقيق رغباتك البهيمية. لم تراع إحساسي آه ... هل هناك ألم يفوق هذا الألم!" هل أنت تدافع عن الحب ... هل أنت تدافع عن الشرف.. أيها الرجل؟

ـ أنا سمير يا غالية الذي أحبّك بصدق وآمن بالحب بعد لقائك.

ـ أنت مثلهم تدعي الحكمة وتحاول تشكيل المرأة كما ترغب أنت لا كما ترغب هي. لقد استهترت بقضيتي، واستهزأت بمشكلتي المزمنة، وغفلت عما يجري في قلبي من آلام وأحزان وما تعانيه روحي في دياجير ظلامها تجري خائفة من الكوابيس التي تطاردها. بقلبي حروب ومجازر أكثر شراسة من التي تدور حولك وتتحدث عنها بشغف. أنا الفتاة ... الأنثى ... أنا منبع الحب وأصل العالم.

أطلت مكوثي في الحمام، لحق بي نبيل، يطرق الباب: هيا بسرعة.

زفرت بعمق وكلماتي تستل حزينة: أنا قادمة حالا.

تهيأ لي سمير ينظر محاولا أن يخترق بنظراته الباب ليرى ذلك الرجل الذي سلبني منه ثم تراجع بخطوات إلى الخلف إلى أن اختفي.

ـ مع من كنت تتحدثين؟

ـ كنت أتحدث مع نفسي.

ـ هيا بنا سنقضي الليلة في حفل لم يحدث أن رأيته من قبل. لكن أولا سنتغذى في مصراتة، أريد أن تكون الليلة ليلة فريدة تشعرين فيها بالسعادة وتنسين فيها كل ما جرى لك من تعب.

الجو مازالت تدفئه خيوط أشعة الشمس الملتفة على كل جزء من فضاء طرابلس. انطلقت السيارة في الشارع الرئيسي الذي يؤدي إلى مصراتة. وضع نبيل شريطا لحنان بولو بولو المغنية الحبشية صاحبة الغناء الشبابي وهو يحرك رأسه متتبعا نغمات إيقاع صوتها الرقيق العذب. وأحيانا يضرب بيده اليمنى على فخده متجاوبا مع لحن الموسيقى الممزوجة بالإيقاع الأثيوبي والسوداني. كنت أنظر إليه وأبتسم. فرحه من سعادتي التي اختطفها القدر، وبعد حين خفض من صوت الموسيقى وقال:

- تعرفين يا غالية من الآن لن أبرحك حتى نسافر إلى أمريكا إن شاء الله.

انشرح صدري وابتسمت. ساد هدوء ممل، التفت إلي مصطنعا ابتسامة وقال: ما بك غالية؟

تمتمت عن عدم ارتياح وقلت: وعملك من سيقوم به؟

ضحك ثم أمسك بيدي وقال: اطمئني سأقوم بعملي في البيت وسأحول رقم هاتف المكتب إلى البيت هكذا أكون بجانبك يا أميرتي.

وضع شريط محمد وردي في المسجلة، هذا الفنان الذي أنشد بالغناء النوبي في صعيد مصر، والأغاني العربية في بلاد الرافدين وبالسودانية كل القارة السمراء، صوته يشفي شيئا ما بداخلي، يشبهني إلى حد ما، رغم أنه تنقل طويلا خارج الوطن إلا أنه ظل يحس به بوجدانه. كنت أنظر من خلال النافدة في صمت إلى الطريق. نفس الطريق التي سافرت فيها مع سمير، تحول ذلك الإيقاع السوداني في أذني إلى إيقاع أغنية جون دا سان وتحولت يد نبيل التي كانت تمسك بيدي إلى يد سمير، التفت فوجدته بجانبي يقود السيارة. كان في الثلاثين من عمره، حسن المظهر، أنيق الملبس، رشيق القامة، ذا لحية خفيفة، يرتدي حذاء من جلد التمساح، يلبس جرابا حريريا، يدخن المالبورو، يمسك بيده القوية يدي وباليد الثانية يمسك مقود السيارة. كانت رائحة عطره الإيطالي تفوح في كل أرجاء السيارة. استلقيت في استرخاء على المقعد، أغمضت عيني، أشرق وجهي وانبسطت ملامحه. لماذا أكرهه وأحبه؟ لماذا أتحدث بوجهين؟ لماذا أنا ولست أنا؟ لماذا أعيش في الحلم وأجري وراء السراب؟ تساؤلات انبعثت فجأة فاستيقظت من أحلامي، سحبت يدي التي كانت تلمس يده بسرعة. أستغرب أحيانا من تذبذب عواطفي... لا أستقر على موقف. أكره من لا يفهمني. هل أنا غريبة أم هم الغرباء؟ أتأمل ... أفكر ... لماذا هذه الحيرة ... أم أنها حيرة الأنثى في مجتمع لا يفكر في سعادة المرأة بل في استغلالها". كان يقود السيارة ويلتفت إلي من حين إلى آخر، ساعة طويلة مرت كالدهر، كلانا يتظاهر بالصمت مشغولا بالآخر، نقترب، نبتعد، نحب بعضنا في صمت. وصلنا إلى مصراتة هذه المدينة التي تجاوز عمرها ثلاثة آلاف عام والتي كانت إحدى المحطات التجارية في عهد الفينيقيين. المدينة ذات الرمال الذهبية والطبيعة الخلابة. توغلنا في نفس الشوارع والأزقة التي مشيت فيها يوما مع سمير، وكأن القدر يذكرني بماض قريب يستوجب أن أنساه. توقفت السيارة أمام مطعم مغطى جداره بأغصان أوراق العنب وبداخله نقش يمزج بين الفن الشرقي والمغربي، سقف منقوش بالرسوم والجدران تزينها لوحات زيتية منسجمة مع الأثاث ولون السقف والجدران، على كل طاولة غطاء أحمر وشمعة تحمل نفس اللون ووردة حمراء في مزهرية أنيقة.

ـ تفضلي غالية ماذا تريدين أن تأكلي؟

حمل لائحة بها قائمة الوجبات، نظر إليها وقال: ما رأيك في البوريك أكلة تونسية وليبية ستعجبك.

كنت أنظر إليه وحيرة تلبسني، تمنيت أن أبوح له بذلك السر الذي يطاردني أينما حللت أوارتحلت مضمدا عذريتي بالأزل المقدس.

نظر إليّ وقال: ما الذي يشغل بالك ويبعدك عني؟

رفعت وجهي ومددت يدي المرتبكة، تناولها بهدوء متأملا شعري الأسود الذي يتماوج مثل شلال غزير.

_ لا شيء، فقط أفكر في تقاليد أعراسنا. أتعجب في تمسك أهلنا بعادة قبيحة.

ـ عن أي شيء تتحدثين؟

ـ ليلة الدخلة ... الليلة التي تُمتحن فيها العروس ...

قال وهو يرفع كوب عصير البرتقال إلى فمه: إنها وحشية وجهل، عادات وتقاليد تحتاج لوقت طويل لتجاوزها.

_ إنهم متعطشون للدم لا يهم إن كان دم ذراع أم دم بكارة أو دم دجاجة؟ هل تؤمن بأن شرف المرأة هو عذريتها.

أشعل سيجارة والتفت إليّ فاصطدم بصره بعينيّ القلقتين: اسمعي يا غالية، شرف المرأة أخلاقها وعفتها، طهارتها واحترامها لذاتها وللآخرين.

قلت بامتعاض: إذا في نظرك أن شرف المرأة يثبت بعذريتها. لكن أليس على الرجل أن يحافظ على شرفه؟

تقلصت عضلات وجهه وجحظت عيناه وقال: الرجل رجل والمرأة امرأة.

ـ ما هذه المعادلة الرياضية المريضة يا دكتور؟

قطب عن جبينه وقال: إنها ليست معادلة، إنها الحقيقة. الرجل لا يتغير فيه شيء لكن المرأة تفقد أعز شيء؛ أهلها وزوجها ومجتمعها؟

ـ ما رأيك في الزوجة التي يخرج زوجها إلى العمل وتخونه على فراشه، أين هي عذريتها لتفضح خيانتها لزوجها. إن كان الشرف هو العذرية فمن المفترض أن تخلق لها كل يوم بكارة جديدة لكي تكون امتحانا لها ووسيلة تسهل اطمئنان زوجها عليها كل يوم كان غائبا عن بيته.

اندهش من كلامي وعاد يتأمل منظري الذي أصبح غريبا بالنسبة له.

قلت بنبرة غضب: اسمع يا دكتور أنا فقط أصحح لك معادلة خطأ ورثتها عن آبائك وأجدادك وتحافظ عليها بإخلاص.

تلك اللحظة شعرت كأن شيئا ما بينهما يتلاشى، نفض يده بغضب وقال: غريبة أنت تارة تتكلمين كالفيلسوف وتارة كالمجنون... من أنتِ؟

ضحكت من ألم، وعيني تشع حزنا لاكتشاف تفكيره الذي لا يختلف عن غيره: أخطأت أيضا في تقييمك لي. أظهر لك غريبة لكنني أنا الغريبة في داري وبين أهلي أجول تائهة بلا مأوى وأمشي نحو السراب عطشانة بدون ماء.

كان يتأمل دموعي وهو يمضغ ويبتسم.. دموعي تسعده، تمنحه إحساسا بالقوة والرجولة، تذكره أنني ما زلت الأضعف لكن في قرار نفسه كان لديه إحساس راسخ بأنني الأقوى رغم ضعفي ورغم اعتمادي الكلي عليه. قال بعدما استرد ابتسامته:

_ أنا لا أفهمك يا غالية، من أنتِ؟

أخذت نفسا عميقا وقلت بهدوء: أنا أسطورة خيال واقعي، أتأمل عيوب عشيرتي وطقوسهم الكاذبة لكنني عادلة بطبعي، أشفق عليهم فهم ورثة جهل وتقاليد. اكتفيت بتحويل نظري إلى الجهة المعاكسة لكي أحجبه عن إبصار ما يغيظني ويكوي قلبي.

جاء النادل بالبوريك وضعه على المائدة مع مقبلات من السلطات وانصرف.

قال وهو يتنهد مبتسما: إن مجتمعنا وطن الحضارات، يعتز بالقيم والأخلاق والشرف، ونحن نفتخر بانتمائنا.

عقبت على عجل: أية حضارات وأية قيم تتكلم عنها يا دكتور؟ حضاراتنا هدمها من كنا لهم الأصل وكانوا هم الفرع، فأصبحوا هم الأصل وأصبحنا نحن الفروع الهشة العاجزة. أي قيم تتحدث عنها مادام مفهومها غير مطبق بطريقة منطقية ونزيهة ومادام أناس يحللون لأنفسهم ويحرمون لغيرهم على هواهم باسم القيم والشرف وباسم الحنكة والتشريع؟ نحن أصبحنا في زمن أصبح الحق فيه باطلا والبهتان حقا جائزا، زمن تقدم فيه غيرنا علينا بفضل ما بدأناه، هم أخذوه منا واستفادوا منه وطوروه ونحن أصبحنا تحت رحمتهم في كل شيء. العرب أول من استخدم الصفر، ومازالوا يدورون حول حلقته المفرغة، متمسكين بأذيال الحريم والعبودية والجاه والخدم واستعباد النساء واستغلال أجسادهن وعقولهن وأرواحهن، وأهرقوا دماء كثيرة تجري أنهارا ودموعا غزيرة ترثي لواء الشرف، لكن قريبا سيأتي أفق جديد سيعلم فيه الناس بأنهم قد باعوا الحق في سوق البؤس، لكن من يجاهد في سبيل الحق لا يهزم ومن يزرع الحب لا محالة يحصد السعادة.

كان يستمع إلي ويمضغ طعامه محاولا ابتلاعه لكنه يقف في حلقه رافضا النزول إلى معدته فينزله بعصير الليمون.

ـ لماذا لا تأكلين يا غالية؟

ـ ليست لدي رغبة في الأكل.

ـ إن لم تأكلي لن آكل أنا أيضا.

رفعت قطعة البوريك إلى فمي أقضمها قطعا صغيرة وأبتلعها من غير مضغ، وحين انتهيت أرجعت ظهري إلى الوراء أتنقل ببصري بحذر كأنني أتفحص شيئا ما. اغتال القلق محياي، وتغير كل شيء يحيط بي في تلك اللحظة. المطعم صار رماديا داكنا والجو يجرجر أنفاسه المنقبضة على التنشق، هدوء صاخب بالصمت عم "ذات الرمال" وجعلها خريفا تتألم من الاحتضار ومات الأمل لقدوم الربيع ولم يبق إلا وجع يدثر روحها التي تختنق، تلتهب كالجحيم، جحيم اعتادته فأصبح بالنسبة لها من صيرورة البقاء.

رجعنا إلى طرابلس لحضور زفاف العائلة السودانية، كان صوت الموسيقى ينبعث من آخر الشارع بالكاد وجد نبيل مكانا ليوقف فيه السيارة. دخلنا إلى القاعة التي تغصُّ بالمدعوين، إيقاع جديد على مسامعي أدخل إلى قلبي البهجة والفرح. رحب أهل العريس بقدومنا. العروس جالسة بجانب عريسها، خجلة لا ترفع عينيها إلا نادرا لتسرق النظر إلى وجوه الحاضرين الذين كانت أعينهم مصوبة إليها أغلب الوقت لتتفرس جمالها. الفتيات ترتدين الزي التقليدي بألوانه الزاهية الجميلة والبسيطة، ينظرن للعروس وفي عيونهن الرغبة للجلوس يوما مكانها، يلتفتن إلى الشباب الذين يسرقون النظر إليهن وأحيانا أخرى يتبادلون النظرات، يقوم الفتيان فجأة من أماكنهم متجهين إلى مكان الرقص، يرفعون أيديهم إلى الأعلى وإلى الأمام مرددين ذلك مع إيقاع الطبل. إشارة بليغة تعني الأمام طريقنا والأعالي مرادنا، رقص يرمز إلى السلام والمحبة وإلى الإخاء. الفتيات يقمن أيضا في غنج ودلال إلى المكان الفسيح الخاص بالرقص ويتمايلن على إيقاع الموسيقى ويظل الجميع يتمايلون إلى أن يتعبوا فيعود كل واحد منهم إلى مكانه. كنت أنظر إلى العريس متسائلة في نفسي إن كان سيلعب دور البطل في ليلة الدخلة. أوشك الفجر، نهض عشرات من الرجال والشباب يرقصون الرقصة الأخيرة وتبعتهم النساء والفتيات وعلت الزغاريد والتصفيق. حان وقت الجد واقترب موعد الامتحان، كل ينتظر نجاح العروس بتفوق وامتياز. تقدم العريس الذي سيجري لعروسه الامتحان ولحق به والده ووالد العروس على مقدمتهم العرابة التي ستعلن صفيرها لمباشرة الامتحان. صعد الوفد إلى الطابق الثاني، فتحت العرابة باب الغرفة، أدخلت العريسين ثم أقفلت الباب. استأذنت نبيلا بحجة الذهاب إلى الحمام، تسللت إلى ذلك الطابق الذي سيجرى فيه المؤتمر المغلق ودخلت إلى الحمام أسترق السمع وأنظر من ثقب الباب وأترجف كدجاجة تنتظر الذبح. كان أهل العروس والعريس جالسين في توتر خارجا ينتظرون على أحر من الجمر نهاية معركة الاختراق. كل واحد منهم يمسك بيده ويضغط عليها بتوتر. فجأة سمع صراخ عال ثم صمت رهيب. أغشي على العروس. بعد دقائق سمعت حشرجة الباب متبوعة بوقع خطى لاهثة، نهض والدا العروسين على عجل وخطوا صوب الغرفة فاصطدمت أبصارهم بوجه العرابة التي كان وجهها مكدوما ومحتقنا لكنها ابتسمت ملء ثغرها، وزغردت ملوحة بقطعة قماش بيضاء ملطخة بالدم كراية النصر. شهقت أم العروس شهقات فرح واطمئنان وزغردت أم العريس، وتعالت زغاريد النساء بشكل تصاعدي إلى السماء لتهمس في أذنيها عن ليلة ليست ككل الليالي، ليلة حاسمة بالانتصار أو بالعار، ولحسن حظ العروس ليلتها كانت مترنحة بحلم وردي، والسماء تتراقص فيها النجوم اللامعة الأضواء، والقمر يبتسم للعروس وضوءه رذاذ دثر الخوف المتيبس ودبّ الاطمئنان في قلوب أهل الفرح. نزلت إلى قاعة الحفل التي كانت شبه خالية، كان نبيل ينتظرني.خطا متجها صوبي وقال:

ـ أين كنت؟

قالت متلعثمة: كنت بالحمام.

ـ كل هذه الفترة في الحمام ...ماذا بك؟ وجهك شاحب، هل أنت مريضة؟ هل تحسين بشيء؟

ـ أشعر بدوار وبرغبة في الاستفراغ أريد أن أذهب إلى البيت.

ودع نبيل أهل العروس مهنئا إياهم ثم غادرنا إلى المنزل.

في الصباح الباكر، استيقظت على استذكاري وانشغالي اللا منقطع، وجدت نبيل بمكتبه منهمكا في الكتابة.

ـ صباح الخير، ألم تذهب إلى العمل؟

ـ صباح الخير، ألم أقل لك بأنني سأنهي ما تبقى من واجبات العمل في البيت لأبقى بجانبك.

توجهت إلى الحمام. نظرت إلى وجهي في المرآة، فأذهلني شحوبه، اغتسلت بسرعة وغادرت إلى المطبخ لأهيئ الفطور. جسمي يرتجف من خوف يتسرب إلى داخلي متدحرجا خلف كوابيس جاوزت حدّ احتمالها. كلما أحاول إمساك وعاء يقع من يدي. اعترتني عصبية ساخطة على روحي التي تخذلني. هيأت الفطور ووضعته على مائدة المطبخ ثم ناديته فجاء مسرعا. جلس حول الطاولة ينظر إلي في صمت بينما كنت مشغولة أصب الشاي.

ـ ما بك غالية؟

ـ لا شيء ... أنا بخير.

ـ إن وجهك شاحب.

ارتعش جسدي وتساقط كأوراق الخريف وملعقة صغيرة بيدي تحرك بعصبية السكر لتذيبه. كان يأكل وينظر إلي في صمت، حاول مرتين التقرب إلي ليستطلع حقيقتي، ويزيل الستار عن ذلك الصمت المكتظ بالحزن فلم يظفر مني إلا بنظرات حادة تدل على الجفاء. أمسك يدي وقبلها، سحبتها منه ووقفت عادلة عن إكمال الفطور. اقترب مني، شدني إليه وضمني بقوة حتى كدت أن أختنق. صرخت في وجهه وهربت إلى غرفتي وأوصدت بابها.

ـ إنني لا أحب العنف. إنني أكرهك...أفهمت؟ أكرهك.. كان جسمي يرتجف بكل قوة والحزن يرشقني خلسة.الغرفة تهتز من حولي، أتوكأ على بقايا كابوسي المنكوش بلون المقبرة، وسيل من العرق يغرقني حتى الاختناق. أتمسك بمستقبلي المليء بالظلمات، وكلماتي تتسلق الجدران في رعب، وتستنجد بأبواب الخزانة إلى أن وقعت حروفا متناثرة على الأرض. سمع نبيل الارتطام فارتعدت فرائصه، ينادي من وراء الباب: افتحي يا غالية، لم أجبه، أسرع إلى الحديقة متجها إلى نافدة الغرفة، وجدني مستلقية على الأرض. فتح باب النافذة ودخل منها، جلس بقربي، أمسك بيدي الباردة كالثلج، حملني بين ذراعيه ووضعني على السرير متعجبا متسائلا في نفسه عن سلوكي الغريب، وعن ذلك الإغماء الذي يصيبني من حين إلى آخر. لم يفهم شيئا. أحضر قنينة عطر، فتح غطاءها ثم قربها من أنفي، حركت رأسي وغمغمت بكلام غير مفهوم:" لا أريد أن أموت، من فضلك يا أبي ارفع السكين عن عنقي. لم يفهم كلمة واحدة مما كنت أقول، اجتاحه شعور غريب سرى في عظامه، ريح عصفت به، يتسكع في وجهي، فتحت عيني، وجدته ينظر إلى الأرض هائما. قلت بصوت مبحوح وخافت:

ـ أريد كوبا من الماء.

مد لي كوب الماء، شربته، قطبت ما بين عيني متنهدة وقلت بصوت تملؤه الكآبة:

ـ لقد رأيت كابوسا مفزعا، كانوا يلاحقونني والسكاكين في أيديهم، يريدون قتلي. هذه المرة أمسكوا بي وكاد أحدهم أن يغرس السكين في صدري.

ـ من هم يا غالية؟

نظرت إليه وقالت بصوت يملؤه الحزن والأسى: لماذا تسأل؟ من سيكونون؟ أقول لك كابوسا وتسألني من هم؟

ـ نعم، من هم؟ إنها ليست المرة الأولى التي يلاحقونك فيها. إنك تتكلمين دائما بالألغاز فهل تكلمت ولو مرة واحدة بوضوح.

قلت كالملسوع: لماذا أخذتني البارحة إلى حفلة الزفاف؟

ـ لكي تروحي عن نفسك وتستمتعي بالطرب السوداني.

شحب وجهي وانفجرت شفتي عن خوف مبهم: لقد كانت ... تصرخ...

سأل عن امتعاض: من هي؟

_ العروس ... كانت تصرخ بكل ما لديها من قوة حتى أغمي عليها.

ضحك وقال: أذاك ما أحزنك وجعل وجهك شاحبا؟

ـ أكره سماع صراخ المرأة حين يكون الرجل يستمتع بصراخها. ذلك اسميه اغتصابا مادام يؤخذ بالقوة ...يا لعفة الحيوان ...ويا لدعارة الإنسان...

ـ لكن، ما ذنبي أنا أمام صورتك البشعة للحياة وللإنسان وتقديسك للحيوان؟ إنني أسعى جاهدا لإسعادك. ماذا تريدين أكثر من هذا؟

ـ هل تعتقد أن قشور الدنيا تغويني؟ إنني أكره الدنيا بما فيها. تمنيت أن أموت ... أريد أن أموت ...

أجهشت بالبكاء وهو يهدئ من روعي ويضمني بكل حنان إلى صدره.

- لا تكوني متشائمة يا غالية سأساعدك كي ينقلب تشاؤمك إلى تفاؤل وحزنك إلى سعادة وكرهك للدنيا إلى حب. أريد أن أقتل ذلك الكابوس بحبي لك، وأجعله صريعا لا يعاود الرجوع إليك يا حبيبتي.

ابتسمت راضية ولو أنني أعرف أن سري يستحيل أن يقع صريعا: شغلتك عن عملك.

ـ أنت شغلي وعملي وأنت حياتي وأنت حبي وكل شيء.

ابتسمت وأمسكت بيده ثم قدته إلى مكتبه: بعد ساعة سأحضر لك فنجانا من القهوة.

أتعجب لرجل متزوج له خمسة أولاد وشريكة حياة ضحت من أجله وسافرت بأولادها إلى السودان تجاهد لوحدها في تربيتهم بينما هو يحب فتاة أخرى ويعشقها ويعتبرها كل شيء في الحياة. أيوجد عدل في هذه الدنيا؟ إن اعترفت له بسري وقبلني زوجة لن أوافق أبدا، وإن وافقت عليّ ألا ألومه إن تزوج ثالثة ورابعة. شعرت برعشة في جسدي وتمتمت بامتعاض. حواء هي السبب في كل ما يصيبها، هي التي تشجعه أن يتزوج ثانية ثم تلومه باكية وتندب حظها لماذا تزوج عليها وهي الجزار الذي يذبح مستقبل المرأة ويقطع حبل الحب عندها ويسلخه ثم يخيطه وقلبها بارد كالسماء، لا تبالي بالصراخ بل تتلذذ به انتقاما لما جرى لها يوما، تجريه هي لغيرها باسم الحفاظ عن الشرف والعفة. علي أن أنسى هذه الملحمة وأتزوج العلم علّه يفتح قيودي وأفارق قضبان الرعب من الموت.

أنهى نبيل كل أعماله ولم يبق إلا السفر والتفرغ لحبيبته غالية، كان متأكدا أن أسلوبه معي وتعامله وحبّه لي سينتصر لا محالة فأنا وقعت في شباكه حسب اعتقاده، سيسافر معي لإنهاء خطته ويجعلني أركع أمامه طالبة منه أن يتزوجني زواجا حقيقيا وأن أحبه حبا حقيقيا.

حان وقت السفر، ودعت كل ركن من أركان طرابلس حتى الشوارع التي مررت يوما بها ذات يوم بسيارة سمير.

حان موعد إقلاع الطائرة المتجهة إلى روما ومن هناك إلى نيويورك. لم أصدق هل أنا في حلم يقظة أم أنني فعلا في طريقي إلى أمريكا بعيدا عن هاجس العرسان في المغرب وعن الأصفاد التي تكبل الروح وتخنقها. جلست بقرب النافدة أنظر إلى البحر وإلى زرقة السماء و نبيل في المقعد المجاور. كانت المقاعد متفرقة عن بعضها، كبيرة ومريحة تشبه الأسرة. ما زلت تحت سطوة الذهول، بعد إقلاع الطائرة بدقائق من مطار روما حتى أقبلت المضيفة مرحبة بالمسافرين في تلك المقطورة. تقدم لكل منهم صينية فضية بها القهوة والحلوى وتشكيلة من عصير الفواكه الطازجة. اندهشت للمقعد الذي أجلس فيه والذي لا يختلف عن باقي المقاعد في تلك المقطورة حيث يلتصق بها هاتف وفاكس خاص، إضافة إلى فتحات لإيصال جهاز الحاسوب، كما يوجد لكل مسافر جهاز تلفزيون صغير به قنوات عديدة، وعشرات من القنوات السمعية. طرت في وحدتي أتساءل إلى أين ستنتهي غربتي ووحدتي... إنها توجع روحي. لا أريد إلا حياة فتاة طبيعية. لا أريد لشمعتي أن يطفئها رذاذ الثلج ولا الليل يقذفني بظلمته الثملة ... أنا في طريقي الآن إلى الحرية ... أحلامي متسولة وأملي عويل لكلمات خاوية ... أتوسل للبحر أن يدع أمواجه تغسل روحي التي تتخبط بين تناقضات الأمكنة ... من يغسل هذا العار المعتم الذي تشعب بين ضلوعي واخترق عظامي ...؟ أي حرية ستغسله، قلبي يخفق الآن نبضات حزينة فرحة، وروحي تتنهد خائفة مستبسلة وأنا في طريقي ولا أعرف إلى أين المصير... ما زلت أنظر من خلال النافدة حتى أيقظتني لمسة نبيل.

ـ أين أنت يا غالية؟

ـ أنظر إلى البحر.

ـ غريب أمرك مع البحر إنني أغار منه؟

جاءت المضيفة بالطعام وتبعتها أخرى بمختلف المشروبات. أمسكت الشوكة والسكين أحرك الأكل ببطء شديد وأقطعه قطعا صغيرة، تذكرت أول مرة سافرت فيها إلى أمريكا مع الطلبة المغاربة التسعة الفائزين من كل جامعات المغرب، فرحتي ومتعتي مع الطلبة والأستاذة المشرفة على الرحلة ونحن في الدرجة الثانية نغني ونرقص فرحين بالنجاح وبالسفر لأول مرة إلى عالم جديد وها أنا الآن في طريقي مرة ثانية إلى أمريكا لأكمل المشوار، لكن فرحتي ملونة بالحزن. انتبه لشرودي ولكي يدخل علي البهجة ويوقف تلك المسافة التي تفصلني عنه قال.

_ سأعطيك شيئا كنت تبحثين عنه منذ سنين.

حدقت في وجهه وعينيه المرتبكتين مذهولة وقلت: ماذا ستعطيني أكثر مما أعطيتني؟

كانت الطائرة تبحر فوق المحيط الأطلسي نحو المدى وبين زرقة السماء والبحر تخترق طول المسافات المتخفية تحت الأزمنة، والشمس قد هبطت تماما مخلفة وراءها ظلالا حمراء، ووجه نبيل الأسمر الدافئ تعلوه ابتسامة عريضة.

ـ إنها مفاجأة.

ـ لا أعتقد أن هناك مفاجأة ستعجبني أكثر من هذه التي أعيشها معك الآن.

ـ إن الحياة حلوة جدا والإنسان هو الذي يصنع فيها السعادة أو الشقاء، ومادام بأيدينا القدرة على جعل أيامنا حلوة فيجب ألا نبخل على أنفسنا بإسعادها وإسعاد غيرنا.

تقلصت عضلات وجهي ورغم ذلك ابتسمت بصمت واستلقيت على مقعدي وتناولت مجلة أتصفحها، أقرأ سطرا هنا وسطرا هناك دون هاجس حقيقي بالرغبة في المواصلة، أغلقت المجلة وأعدتها إلى مكانها، أغمضت عيني... كيف لي أن أصنع السعادة بيدي ... كيف لي أن أسعد غيري وأنا أحمل وزر سري منذ طفولتي. بداخلي خوف دفين. ماذا بعد أمريكا والتخرج أليس الرجوع إلى الوطن؟ لكن رجوعي سينتهي بزواجي، شئت أم أبيت. هذا هو حال الفتاة في مجتمعنا. هل سأمكث في أمريكا... في بلاد غريبة عني في كل شيء. إن فعلت سأخسر أهلي، وذلك معناه خسران الدنيا والآخرة. وماذا عن الدكتور نبيل ... هذا الرجل الذي ضحى بكل شيء لأجل إسعادي. من أنا حتى يقوم بما قام به من أجلي؟ أهو الحب؟ لماذا سمح لنفسه أن يحبني؟ إنه متزوج . هل لأن الشرع أباح له أن يتزوج مثنى وثلاث ورباع؟ وإن أباح له الشرع ذلك. فمن هنّ تلك النسوة حسب الشرع؟ وهل يستطيع أن يعدل بيننا؟ بطبيعة الحال مستحيل... إن العدل من صفات الخالق وليس البشر. إن نبيل لا يحبني أنا ولكنه يحب الدنيا ولو أن الله مد له عمرا طويلا وصحة وعافية سيتزوج عليّ عندما أصبح وردة ذابلة. نزلت الطائرة بمطار "جي إف كندي" ومن هناك إلى الفندق الذي كان نبيل قد حجز غرفة فيه. استلم المفتاح من مكتب الاستعلامات. الغرفة أنيقة والشرفة تطل على تمثال برج الحرية، في الغرفة سريران منفصلان، بجانب الأريكة ثلاجة صغيرة ومائدة عليها مزهرية مزينة بباقة من الورود. بريق الغرفة يشع فرحا وسط موسيقى هادئة تنبعث من التلفاز سرعان ما تبدّد فوق ركام كلمات مرتبكة ... أيعقل أنني سأنام معه في نفس الغرفة؟ هذا ما يبدو. ماذا يريد نبيل؟ على أي شيء ينوي؟ هل....لا مستحيل ... أما هو فقد أذهله غموض روحي التي تطلسم أفكاره وتجعل جدارا منيعا يفصلني عنه. هرولت إلى شرفة الغرفة لكي أتجنبه...أما هو فكان يحرك رأسه مبتسما. استحم ثم استلقى على السرير متجاهلا وجودي. كنت أنظر إلى تمثال الحرية من الشرفة، رفعت يدي وكأنني أريد أن أصافحه ... وأخيرا وصلت إليك أيتها الحرية...وأخيرا ساعدتني السماء أن أخرج إليك كخروج الأميرة من سجنها، تاركة خلفي الحلي والحلل والخدم والحشم، تاركة أهلي وعشيرتي. ما أردت إلا حقي وما فعلت إلا واجبي، طرت إليك بجناحي وفؤادي يهواك وعيني تتوق للنظر إليك. لا أستطيع أن أبكي العمر كله متوجعة خائفة من كوابيس الليل. عندما يبزغ الفجر أقول متى ينقضي النهار وعندما يحل الليل أقول متى يشرق الفجر. إن السماء لا تريدني أن أكون شقية لأنها وضعت في أعماقي الميل إلى الحرية والسعادة. هذه هي العقبة التي سرت عليها للوصول إليك سامعة نداء قلبي وصدى دقاته." خفضت عيني أنظر إلى الشارع، أرى السيارات وكأنها لعب صغيرة والناس يمشون بسرعة على الرصيف كدمى صغيرة متحركة. رفعت عيني أنظر إلى المياه التي تحيط بتمثال الحرية. التفت يمنة ويسرة، طوابق من غرف زجاجية واسعة، بعضها يفضي إلى الآخر، أستغرب اتساعها وكبر حجمها، مملوءة بأشياء لا تعد ولا تحصى، أشياء خارقة الجمال، مثيرة بزخارفها ... عالم بعيد ... غريب ... رهيب ... عملاق ... مخيف. في الغرفة أريكة مرتفعة وسجادة مبثوثة ونمارق مصفوفة. حولت نظري مرة أخرى إلى الشارع، تجهمت وقطبت ما بين عيني، أتأمل ذلك النمط من الحياة وذلك الاختلاف والتفاوت بين مجتمعي وهذا المجتمع الذي طالما تشوقت لأعود إليه. جلت بعيني من ذلك المكان المرتفع الذي أقف فيه متأملة تلك الناطحات العملاقة وذلك التفنن في الترف. هل هذا هو المجتمع الذي أريد العيش فيه؟ ماذا أريد وعن أي شيء أبحث؟ هل الحرية والاطمئنان هنا؟ هل حياة الاستقرار هنا؟ كم من مرة حلمت بهذا السفر... أصبح الحلم حقيقة لكنني لست سعيدة. لا أريد اكتشاف أسرار هذا العالم بقدر ما أريد البحث عن الهدوء والاستقرار بعيدا عن الضجيج. لا أريد أن أنقب في الماضي ولا عن المستقبل، لا أريد أن أكون عالة على نبيل هذا الرجل الغامض ماذا يريد مني؟ لماذا يساعدني؟ استيقظ نبيل على انحساري وضياعي.

ـ أما زلت واقفة هنا؟ يبدو أن نيويورك سحرتك بجمالها. ما رأيك في أن نتعشى خارجا؟

خرجت من أفكاري المتصارعة وابتسمت موافقة. انطلقت سيارة الأجرة تجري بسرعة، وذراع نبيل تمتد نحو كتفي، ولكي أبتعد منه أنزلت زجاجة النافدة، أخرجت رأسي، الريح تعبث بشعري، تبعثره في جميع الاتجاهات، أغمض عيني، أتحسس نعومة الهواء المنعش بذلك الجو الحار، أتنفس عبر أنفي وشعري وفمي. تتوقف السيارة أمام مطعم فسيح، أنزل بسرعة، يتبعني نبيل، يمسك بيدي ثم دخلنا إلى المطعم.

ـ تفضلي غالية.

لم تفارق الابتسامة وجهه. كنت أنظر يمنة ويسرة، كل شيء يشع بريقا. زجاج النوافذ، الموائد، اللوحات المعلقة على الجدران، الستائر والزبائن. أمسك يدي وقبلها قائلا:

ـ ها أنت الآن وصلت إلى البلد الذي كنت تحلمين بالرجوع إليه. أنا سعيد يا غالية بسعادتك وبتحقيق حلمك.

ـ إني لا أحلم إلا بمتابعة الدراسة في هدوء واطمئنان وبعيدا عن الضجيج.

قال محاولا أن يخرجني من حالة الوجوم: غدا سأنهي كل إجراءات تسجيلك بالجامعة.

كان يأكل وينظر إلي." إنها تحبني، لابد أن أكمل الخطة لكي أوقعها في شراكي بعدها لن تخرج منه أبدا. عنيدة لا ترضخ بسرعة لكنها أحبتني. سأتمكن من الولوج في صدرها والفوز بقلبها، سأصبر حتى يتحول شموخها إلى لين، سأكمل معها اللعبة حتى النهاية".

كنت آكل ببطء وأسرق النظر إليه من حين لآخر، ودقات قلبي تلهث من مطاردة غبار طفولتي وهي تنزع خمار ذكرياتي عبر لياليَ الحالكة قابضة على ترحالي ومفرداتي الخائبة "طقوسنا وتقاليدنا، أفكارنا وتعاليمنا، ضجيجنا وعويلنا جعل حبي لك يتحول إلى الكره والبغض لك ولكل الرجال الذين يبيعون أنفسهم ليشتروا بأثمانها أي شيء، ومن ضمن مشترياتكم المرأة معتقدين أنكم ملكتم العالم. طلبت الحرية لأنني مللت مجاملة السجان الذي يظن الطاعة في ضربات العنف والتسلط والترهيب نوعا من التهذيب ورفض الذل وعدم الرضوخ شكلا من المعصية. تعبت من وجودي في مجتمع يعظ بما لا يتعظ."

شعر بأنني لم أستطع المكوث في المطعم من فرط قلقي. أكمل سيجارته على عجل وسحق عقبها في المنفضة الفضية التي كانت تتوسط المائدة، نظر إليّ بعينين ساهمتين وهو يحكم وضع المعطف على كتفيه، لنذهب إلى الفندق، يجب أن ترتاحي. استلم مفتاح الغرفة وصعدنا المصعد في احتراق وألم وجوع وما هي إلا ثوان حتى توقف في الدور الخامس عشر حيث الغرفة. خلدت إلى روحي المتعبة ولم أستيقظ إلا بعد الظهر. شعرت بالضجر من كسلي المتناثر على جسدي ومن التفكير في المستقبل. روحي تئن من الوحدة الموحشة، نهضت من بين الوجع والجرح إلى الشرفة أتأمل تمثال الحرية الواقف بشموخ وسط المياه. ضحكت ضحكا كالبكاء. " ألست أنت تمثال الحرية ورمزها؟ لكنني أراك محاطا بالمياه من كل الجهات ... قدماك مكبلة داخل الأعماق. سعيت إليك بكل ما أملك من قوة لأن روحي وقلبي يعتصران لبعدي عنك. سئمت وجودي هناك كما سئمت التغني بالقيم والمثل غير الموجودة. لا أرى إلا هياكلها تتراقص فوق مسرح العدم. طلبتك لأن فيك حياة للروح والفكر والقلب وحياة للجسد. ثم قطعت الفيافي وحضنت المنافي للقائك وعانيت المر وكدت أنتحر. فيك أرى نور الشمس وأشم رائحة الأزهار وأسمع أغان ملائكية تطرب سمعي. وفيك أرى جمال الربيع ودفء الصيف وأرى ثمار الخريف وأرتوي بمياه الشتاء." أقبل نبيل مبتسما، فرحا: مساء الخير غالية. تم تسجيلك في الجامعة. بعد أسبوعين ستبدأ السنة الدراسية.

اقتربت منه فرحة حزينة وقلت: وأنت...أعني ...هل ... ولكنك ستبقى شهرا ...أليس كذلك؟

اقترب مني، ضمني إلى صدره في صمت وأخفى وجهه عني، تاركا لي أنفاسه الدافئة حتى لا أرى تقاسيم وجهه المتوترة.

ـ سأسافر بعد أسبوعين.

عصفت روحي أمطارا من الدموع لوحدتي التي تجري في دائرة تطوقني وتخنق روحي التي تلفظ آخر حزنها في كبرياء: لا تتركني وحيدة هنا، لا أريد أن أفارقك. كان يضمني في صمت وقلبه ينبض لاهثا، لن أتركك سأظل معك، إلى أن تصبحي ملكي. سأكمل مشواري معك حتى النهاية. سأجعلك تركعين متوسلة أن أضمك. همس في أذني:

ـ ماذا تريدين يا غالية لقد قمت بأكثر من واجبي، أخرجتك من سجن أهلك واضطررت لخداعهم بالزواج منك وإلا استحال سفرك معي. أرجعتك إلى هذا البلد الذي أمسى حلما بالنسبة إليك والتحقت بالجامعة.

ابتعدت عنه بخطوات خلف أملي الذي اختفى وسط عواء الريح وأنا في مهبّه أصارعه كي لا يرميني بعالم لا أشرعة فيه ولا شطآن: إنني ... إنني ... أنا ... لكن ... لا أعرف كيف ... لا شيء ... لا شيء ....

تقدم نحوي في حيرة أجلسني على حافة قلقي يمتحن شجوني الملقاة على قارعة جنون هتكناه سويا.

ـ موعد بداية الدراسة قد حان، أريدك أن تتفرغي لها بجدية كي تأتي إلي السنة القادمة بشهادة تفتخرين بها وأفتخر بها أنا أيضا. اسمعي، دعينا نستمتع بهذين الأسبوعين، نجعلها بطيبة روحينا أياما سعيدة، حالمة رغم ما يحيط بنا من الصور والأشباح ولندع عاطفتنا تنصهر في روحنا الواحدة.

وضعت رأسي بتجويف صدره، أرجف بين ذراعيه وأكفكف دمعي، لماذا أحببتك؟ لماذا أحببتني؟ بيني وبينك بون شاسع محفوف بأسمال من التقاليد البالية. لماذا شغفت بي وملت إلي ذلك الميل الشريف حسب تقاليدك؟ لماذا جعلتني زوجتك ولو على الأوراق ... لماذا ملكتني بكرمك اللامتناهي؟ إنني لا أستحقه لأنني لا أستطيع أن أهبك روحي، إنني أحمل جرحا صامتا منذ الأزل. ضمني إلى صدره برقة بالغة، رفع عينيه عن حبّ توارى في سقف الغرفة متدثرا بوشاح ملوح بالصمت. لن أتوقف عن كرمي، لن أتوقف عن حبي لك، سألبسك الحرير وأزين معصمك بالجواهر الكريمة، سأجعلك تحفة تبهر الناظر إليها. تشنجت عضلات جسمي ..." هل تحسب أن سعادتي في ثياب الحرير وفرحي بالحلي والجواهر؟ عندما فتحت عيني على طفولتي وتفتحت أجفاني على النور، نزلت قطرة دم من جسمي، فهددتني أختي من أبي قائلة إن ذلك سر خطير، ومن ذلك الوقت تداهمني كوابيس تنهش نومي بمخالب من حديد وعندما أستيقظ في الصباح أصلي إلى الله، لكن جسمي يظل يرتجف خوفا من سلاسل المجتمع التي قيدت جسدي قبل أن أعرف كنه تلك القيود. أتحسب أن كرمك وحلمك يجلب إلي السعادة؟ إن سعادتي هي الحب الحقيقي المنزه عن الماديات، الحب الذي يعانق الروح بالروح في مودة ورحمة.

أسبوع مرّ كلمح البصر في بيداء تلك المدينة التي تتناطح بناياتها بالسحاب وتحت شرود تلك السحاب كنت أتخفى تحت شرودي. جموحي يحن لبعد نبيل رغم حضوره وقربه الذي يحتضن روحي المحتضرة تحت جناحه. أيام قضيناها سويا افترشت لنا سعادة وفتحت لنا باب الصمت لنخرج أسمال حروفنا المتصدية بوبال أزماننا القاحلة، تلك التي جنت على كلينا ونحن نرتدي مسافات المطاردة بأحذية بالية. " هذه الليلة ليلتي... لفظ تلك الكلمات بصوت مخنوق، وقف على الشرفة يتأمل تلك الناطحات للسحاب، رجلاه كقصبة في مهب الريح، تصاعد الدم إلى وجهه المحتقن وصبغت بشرته البنية بلون عسلي قاتم، كبرت عيناه وجمدت أجفانه. حدق بي وأنا أختبئ وراء صفحات جريدة " نيوزويك" أقلب أوراقها بعصبية. تغيرت ملامحه بسرعة وتحول حزنه وخوفه إلى بصيص أمل. توقف هنيهة. " لابد أن تقبلني زوجا لأني سأكون كذلك. سأجعلها طائرا يرفرف في قلبي، أطعمها حبات عاطفتي، وأسقيها ماء مودتي، سأجعل ضلوعي لها قفصا وروحي عشا ومأوى، أعرف أنها تحبني، تيقنت من ذلك، ستعترف الآن. رن جرس الهاتف، اتجه بسرعة داخل الغرفة.

ـ ألو ... نعم ... بعد نصف ساعة ... شكرا. وقفل السماعة. ذاكرتي تجزع من الوعد وأفكاري شاردة في هذا الملاك الأسمر الذي ابتلاه القدر بعلّتي. حان الآن وقت رحيله. دموعي تنهمر أنينا لحدّ الصمم. اقترب مني، وضع يده على كتفي وصمته دثر سطور تلك الجريدة غيوما متشحة بالحداد. أقلب الصفحات بين حين وآخر مظهرة اهتمامي وانشغالي وقلبي يعتصر في صراخ محبوس. سعادتي ليست بمجدك ولا سؤددك ولن تكون بكرمك وحلمك. سعادتي أن تحب روحي وتضمها إلى روحك غير مكترث بمنظر جسمي أو ما سلب منه. سعادتي غير موجودة بعالمك. لا أستطيع أن أكون لك مادام حبك لي مربوط بمفاهيم تقاليدك الجاهلية. لا أستطيع أن أكون لك لأنك لا تحب إلا ظاهري وليس روحي ولأنك تنظر بعينين ضعيفتي البصر ومغلفة بنظارات الجهل التي لا تفرق بين المجرم والبريء ولا بين الصالح والطالح. كيف لي أن أكون لك وعيناك تحكم على ما تراه ظاهرا وتقيس الروح بمقاييس المادة. خوفي مزكوم يرتجف الفراق، ويقشعر للوحدة التي ستنتعل خطى التيه في غابة الإنس بعدما ألفت منك قمة الحب والخوف عليّ من هواء النسيم. ألقيت بالمجلة على روحي الفزعة التي ضمته بقوة كي يحميها من الأشباح العارية التي تقفز حولها عارية كعري الخناجر عن غمدها. كان يهدئني ويمسح بيده على شعري. سمع طرق الباب ... أدخل نادل الفندق مائدة مليئة بأصناف من الطعام في أطباق فضية وانصرف. فتحت عينيّ المبللتين مندهشة، هز رأسه بحركة متوترة وقال:

ـ إنه العشاء الأخير الذي سأتناوله معك. غدا سأرجع إلى عملي وغدا سيكون يومك الدراسي الأول في الجامعة أليس هذا ما تريدينه؟

أجلسني على الكرسي وجلس مقابلي: هيا نأكل قبل أن يبرد الأكل.

أنظر إلى انشغاله بالأكل من غير شهية. رفع عينيه الحزينتين وقال: ألم يعجبك الأكل؟

وداعه جعل قلبي يلفظ أنفاسه وجسدي ككتلة ثلج تحيطني نيران مشتعلة حتما ستذوب وتتلاشى. أبتلع الأكل، أجرجره رغما إلى معدتي وصمتي حزين. اقترب مني ... أمسك يدي وقال بصوت قريب من الهمس:

ـ هل تسمحي لي أن أرقص معك على نغم هذه الموسيقى الهادئة؟ جلبني إليه وضمني إلى صدره ووضع خده على خدي. رائحة العطر تنبعث من شعري وعنقي، أراد أن يقبلني، أن يضمني إليه بقوة، تمالك نفسه واكتفى بمراقصتي تحت لهفة تتأوه من جحيم الرغبة حتى انتهت الأغنية. بعدها سحبني إلى الأريكة وطوقني بذراعيه، صمت قليلا وزفر بعمق:

ـ حان وقت الجد ووقت حسم علاقتي بك. جسمي يرتعش من المجهول خوفا، عيناه تزحفان نحوي بينما جسده كان مشلولا.

ـ جئت لك بالمفاجأة التي وعدتك بها.

التفت إليه وقد اتشحت ملامحي بهيبة حزينة وقلت بصوت مرتعش ومرتبك: أية مفاجأة؟

توجه إلى خزانة ملابسه، أخرج ورقة من جيب سترته وقال: هذه هي المفاجأة التي وعدتك بها.

أمسكت الورقة من يده مستفهمة، أقرأ سطورها التي تضج جحيما وسط ذلك الهدوء الصاخب بالصمت. إنها رسالة منك لأهلي تقول فيها طلقتني.

صمت قليلا ثم أردف قائلا: نعم، أليست أمريكا هدفك؟ أليست الحرية والخروج من بلدك هو حلمك؟

سحبتني خطوات متكسرة إلى الوراء ويدي تستنجد بالنار التي تحرق صدري وجسدي يهوي كورقة خريفية انسلخت عن جذرها: أنت لا تفهمني ولن تفهمني ... أنت ... أعني ... أنا ... أنا ...

قذفني بعينين تنذر بالقسوة وقلب مفعم بالحب: أنت ماذا؟

- لا شيء.

أجاب بعنفوان: إذا لم يعد هناك أية مشكلة لقد شرحت لأهلك علاقتي بك التي كانت فقط لأجل مساعدتك. شرحت لهم كل شيء... كل شيء ...أخبرتهم أنك مازلت عذراء ...

برد الدم في عروقي وجليد يئن على ضفتي قلبي الذي تجمدت دقاته: ماذا تقصد بكل شيء؟

ـ اعتذرت لهم مبينا حسن نيتي لمساعدتك، شارحا لهم علاقتي بك وحبي الطاهر لك وأنك لا تنوين الزواج مني مستقبلا.

قلت له وأنا ألفظ آخر أنفاسي التي أنهكها غدر الوطء: لماذا فعلت هذا؟

فغر فاه مندهشا: أليس هذا ما تريدين؟

ـ لا، ليس هذا ما أريد. لقد قتلتني بعدما أحييتني.

ـ ماذا تقصدين؟

ـ لا شيء.

أقفل عليه باب الحمام بقوة وأنا في صعقتي أنظر إلى يأسي معلقا في ألم على الجدران يتألم وروحي مختنقة تختلس الشرود. إلى متى ستظل كلمة الشرف ترن في أذني وتصم سمعي؟ إلى متى ستظل هذه العلة المزمنة قابضة بمخالبها على عنقي. لماذا أنهج سلوكا يرضي مجتمعي الفاسد أكثر مما يرضي ذاتي لتصبح مفاهيمهم قيما أكثر مما هي منطقا. إن التقاليد التي خلقوها أصبحت قيدا عليّ وأصبحت فيها أسيرة، تعلو وتملي عليّ الامتثال والخضوع، وأي محاولة مني لرفضها تعتبر خرقا لنواميسهم وتحديا لهم. يئس من غموضي،خسارته لم تعد تُحتمل، ضرب جدران الحمام بقبضة يده لأمل مفرط في ثمالة غموضي، يفكر إنقاذ ما تبقى منه ليربطه بحبيبته لكن ذلك البصيص الضئيل تلاشى واختفى كعصفور مكسور الجناحين سقط في البحر فقذفته الأمواج إلى الأعماق. طلقت عنان بكائي على الوسادة في صمت، أتحسر على فقدان حبيبي الذي كان لي كل شيء حلو في حياتي. برد جسمي وكأنه تحت كومة من الثلج، أمل انفرط في ثمالة التقاليد، ناشرا فوق جبيني سحابة سوداء لقرون من الجهل الملتحف بالدم. صرخة مكتومة قانطة أتلفتها الظلمة وقبضت عليّ عاصفة لترمي بي في أمواج الحياة التي لا ترحم. خرج من الحمام ففاجأه اختفائي تحت اللحاف. أحس بموجة قوية تدفعه إليّ وبرغبة في الاستلقاء بجانبي ويضمني بقوة من غير أن يبالي بصراخي إلى أن أذوب وتنصهر روحي في روحه. ينظر إلى جسدي المنبطح، أوصاله ترتجف وحبه لي يمزق شغاف قلبه. استلقى على ناره يحدق في الاحتراق الذي يكوي روحه، يئن في صمت، أما أنا فلم يعرف النوم أجفاني. تحت الغطاء أندب حظي الذي بنى جدارا بمعول الجهل ليفصلني بعيدا عن نبيل، هذا الذي منحني حريتي، تلك الحرية التي كنت أحلم بها إلا أنه لم يكن يدري أنه أرجعني إلى حياة الكوابيس. تذكرت أهلي وتدفق الخطاب كالسهام النارية على جسدي الذي كاد أن يحترق ليحضنه التراب. ارتعشت فرائصي، أحاول طرد التفكير وصدى تلك الأيام المرعبة فلم أكن أرى إلا كابوسي بدأ يزحف إلي ليتجسد صورة في يقظتي ويزيد من حزني وهلعي. قلبي يخفق بسرعة وجسمي صعدت حرارته بعد أن كان باردا. أحسست بألم في معدتي، نهضت مسرعة إلى الحمام بخطوات كادت تخونني، لحق بي.

ـ ما بك غالية؟

ألقيت بجسدي المنهك على صدره أجهش باكية: لا تتركني. لماذا تتركني...؟

اصطحبني إلى الأريكة وأجلسني بجانبه، قال بصوت منبعث من قلب حزين: ماذا تريدين مني يا غالية؟

قلت بما يشبه التمتمة: لا تتركني وحيدة.

ردّ بهدوئه المعهود: من قال لك إنني سأتركك؟ سنظل دائما على اتصال و...

قاطعته: لكنك طلقتني.

ـ زواجنا كان شكليا فقط أنا لا أقبل امرأة لا تحبني.

نظرت إليه ثم أخفضت بصري. .صراخ بداخلي يحلق في سراب تلك الغرفة البائسة، أحبك...أحبك كثيرا...لا أريد سواك...لكنك كغيرك من الرجال تتوقون إلى اختراق المرأة عبر بكارتها وهذه لا أملكها.

ـ ماذا سأقول لأهلي؟

ـ لا داعي أن تقولي لهم شيئا لأنني شرحت لهم كل شيء.

ـ سيعتبرونك خائنا غدرت بهم ولهوت بابنتهم.

ـ هل هذا ما تظنين بي؟

ـ لا ... هذا ما سيظنون هم.

ـ أنا فعلت ما عجزوا عنه. حققت آمال ابنتهم وكان بوسعي أن... لكنني لست رجلا ساقطا. مازال هناك أناس يعرفون معنى الحب ومعنى التضحية. إن المحب يعطي غير طامع في الأخذ. اسمعي يا غالية، أنا معك ودوما سأكون بجانبك مثلما وعدتك. هيا انهضي ونامي الآن.

ـ لا أريد أن أنام لكي لا تداهمني كوابيس أفكاري. أريد أن أجلس بجانبك حتى الصباح.

ـ أي صباح يا غالية الساعة تشير إلى الرابعة. هيا نامي يا طفلتي العنيدة.

استلقيت على السرير ممتطية صهوة الشرود. استلقى بجانبي، توكأ على عويل نحيبه وهو يعبث في دخان حرائقي التي تخرج مختنقة من مسامات جسدي، و تحتضر الجدار الفاصل بيننا في شجن ذلك الليل الذي يحزم حقائبه للرحيل وأنا أمتطي دموعي صوب حرية في أدغال البحر. الهواء هناك نقي، لا شيء يعكره، حتى الحريق الذي يكوي قلبي يمكن أن أتخلص منه في مياهه. هكذا علمتني الحياة. ألا يفضل ركاب السفن المحترقة أن يموتوا غرقا...؟ أغمضت عينيّ، لثم قبلة على شحوبي، تسلّل إلى أفكاره المزدحمة التي تفترش سريره حتى تحولت إلى دمعة، يتقلب على حيله التي تشعبت وتداخلت، فاختلط عليه الحابل بالنابل، لا يدري من أين يبدأ وإلى أين سينتهي. لماذا تسرعت وطلقتها؟ اختنق تحت غطاء غبائه. بهذه الطريقة فلتت من يدي. لكنها تحبني، لن تفكر بغيري، لن تجد أحدا يحبها مثلي. لكن ... أهلها سيستهجنون تصرفي. استهترت بهم وبها. لا، هذا ليس حقيقيا، حبي الشديد لها جعلني أسلك هذا الطريق للنيل منها نيلا حقيقيا وأبوها سيدرك مدى حبي وتضحيتي من أجلها، سيتفهم الأمر. لن يجد رجلا بكرمي ونبلي. أنا لم أفعل إلا ما كان يجب علي فعله ولم أقم إلا بواجبي ولم أمارس إلا قمة التضحية التي ستنصر حبي وإخلاصي.

أشرق الفجر، نهض متثاقلا من سريره. ألم يسري في أوصاله ودوار في رأسه، خيل إليه أن الغرفة تدور والجدران تسقط فأدرك أن قلبه مريض. اتجه إلى الحمام، خلع قميص نومه، مر بيده على جسمه، توقفت أنامله على صدره هالته حرارة منبعثة من قلبه، نظر إليها، همس لنفسه: يا ربي انصر حبي وهبني حبها. رتب أغراضه في حقيبته الجلدية الصغيرة، حمل سماعة التلفون وطلب الفطور. اقترب من سريري، جلس على حافته، يحدّق بي، لم يستطع أن يتخلص من لهيب النار الذي يحرق فؤاده، لهيب يفجر فيه حمما من كل جانب، قواه خائرة وجفون عينيه مثقلة تشد بعضها البعض كي تنطبق، لم يعد يرى إلا ضبابا يحجب عنه الرؤى. سكون مريب وسط الغرفة قاطعه طرق على الباب. فتح الباب وتناول صينية الفطور من النادل. أيقظني من النوم، أمسك يدي، يتحسس أناملي، كانت تشد جميع الأوتار من إحساسه، تشده إلى أقصى حد، لا يريدها أن تنقطع، بلغ به اليأس درجة التمني أن تنقطع تلك الأوتار وتنتهي مأساته معها لكن قدره حتم عليه معايشة تلك المأساة. نسى كل شيء في الوجود، انمحى كل شيء من ذاكرته، لم يعد ير إلا صورتي في مخيلته، تسبح في أعماق روحه وتتراقص بين طياتها. تمنى أن يحضن كياني اللصيق به خشية ألا يهرب منه. انحنى ليضمني علّ ذلك ينفث السم الذي أصبح ينهش أعماقه. فتحت عيني، أجول بنظري في نفسي أبحث عنه في كل ركن فيها.

ـ صباح الخير غالية هيا بنا نفطر يجب أن نغادر الغرفة قبل الثانية عشر ظهرا.

ـ إلى أين؟

ـ سأوصلك إلى الحي الجامعي ومن هناك سأتجه إلى المطار.

ـ المطار؟

ـ نعم، ستقلع طائرتي الخامسة مساء.

" لابد أن أسافر معه، أسكن معه تحت سقف واحد، لابد أن أكسر قيود التقاليد وأبني لي عشا بعيدا عن الطيور الجارحة." كنت أضغط بقوة على أناملي وأنظر إليه، أريد أن أخرج ما بداخلي، أن أقول له شيئا، أي شيء لكنني اكتفيت بمد يدي نحو صينية الفطور. أمسكت فنجان القهوة، شربته كله دفعة واحدة ثم ذهبت إلى الحمام.

رتبت أغراضي المرتبكة في حقيبتي وهو يتتبع حركاتي في صمت وعندما انتهيت، قلت له من غير أن أنظر إلى عينيه:

- أنا جاهزة.

طوال الطريق لم أكن أر إلا أشباحا تتراقص ضاحكة تهزأ من فشلي. أغمضت عيني وطرت في غفوتي إلى تمثال الحرية، أتأمله في غضب: ما خطبك أيتها الحرية واقفة شامخة وسط سجن من مياه! حاملة في يدك شعار النصر. أي شعار تحملين وأي نصر تتغنين به؟ إن الحرية الحقيقية لا تقتصر على الشعارات ولا تكتفي بالنوايا الوهمية والوعود الزائفة. الحرية الحقيقية هي ممارسة يومية وصيغ وعلاقات تمليها طبيعة المجتمع المبني على الديموقراطية السليمة لمواجهة الهزيمة وتجاوزها وللتغلب عليها وعلى أسبابها. جئت إليك طائرة عبر البحار فلا كنت عزائي ولا ساعدتني في مواجهة هزيمتي أمام فارس حبي وأحلامي. تركت القدر يجعل مني مسرحا للهموم لكن، تأكدي رغم قسوة الحياة فمازلت أرفع لواء التفاؤل والإرادة والإخلاص لنفسي ولذاتي والإيمان بعقيدتي وبشرفي المختلف عن شرفك أيتها الحرية الزائفة. أين كنت أيتها الحرية عندما جعل القدر من حياتي مسرحا ينعدم فيه الاعتراف بالآخر أو حتى الحوار معه. أين كنت عندما سلب مني القدر التكافؤ والمساواة بغيري من الفتيات وعندما جعل مني القدر ضحية الكوابيس وطعما لاتهامات كاذبة حتى أوشك أن يقذف بي في محكمة عدلك الظالم ليحكم علي بالإعدام؟ أين كنت حين تعرضت لامتحان تحت شعار قيم ينهشها عديمي القيم وحيث اختلت المقاييس والمفاهيم واضطربت الموازين وأصبح صعب التمييز بين الحق والباطل؟ جئت إليك فجرحت قلبي عندما رأيت حالتك فلم أعد أطمع فيك أن تعطيني شيئا. أنت سجينة داخل هذه المياه. أنا لست أنت، سأقتنص الفرح والسعادة من مسرح حياتي رغم روايته الحزينة وأجعلها تعطيني شعورا قويا وممتدا أما اليأس والبكاء فسأتركهم لك. سأجعل من آمالي مساحات شاسعة. لا مياه تهددني بالغرق ولا سلاسل تكبل أقدامي في أعماق المياه. كانت شوارع نيويورك أوحش وأخوف من شوارع طرابلس. هناك كنت أحتمي بحبيب قلبي نبيلِ لكن هنا أشعر بالوحدة كل الوحدة. توقفت سيارة الأجرة أمام الحي الجامعي. نزلت من السيارة، لحق بي نبيل إلى الداخل. خطواتي مختنقة تتعثر في صمت .

- لا داعي يا دكتور أن تلحق بي. فأنا أستطيع تدبر أمري.

ضمني إلى صدره يودع بؤسي الفارغ. أدرت ظهري وترجّلت شحوب سفري الجديد داخل المبنى وروحي خائفة من الآتي أمشي وسط ممر طويل من غير توقف وهو ينظر إليّ متمنيا أن أدير رأسي وأودعه بابتسامة علّه يحملها معه كرمز للأمل في اللقاء بي مرة ثانية. ظل واقفا يترقب خطواتي إلى أن اختفيت عن عينيه المغرورقتين. ذهب مسرعا إلى سيارة الأجرة التي كانت تنتظره، توغلت به وسط شوارع نيويورك في طريقها إلى المطار.

لامارا 15-11-13 07:09 AM

الفصل الخامس عشر الجزء 1
 
الفصل الخامس عشر - الجزء 1

غالية في نيويورك



دخلت غالية إلى غرفتها في الحي الجامعي. وضعت حقيبة ملابسها وكتبها بجانب الخزانة واستلقت على عتبة رنين غامض تندب سرّها المكلوم الذي يملأ الغرفة بعويله. سعادة ما أن تشرق في حياتها حتى تغيب مع غياب الشمس. تحدّق في غربتها والألم ينز قطرات غاضبة تضيء وتنطفئ، مشدودة في انتظار الآتي. لا تستطيع تخمين شيء عدا الشوق إلى ربيع يطرق الباب. الغرفة أنيقة ومرتبة، بجانب السرير منضدة وكرسي، خزانة للملابس وأخرى للكتب. ابتسَمَت بمرارة. وصلت إلى حلمي وابتعدت عن سلطة القمع وكثرة الخطابات والحديث في الترغيب والترهيب والحلال والحرام، لكن سعادتي بكت رغبتها الثكلى. ندبت حظها الذي ضاق ذرعا باختناق هواء الغرفة. تجرفها تساؤلات تلاشت في هذيانها. لماذا سافرت إلى ليبيا؟ لماذا جمعني القدر بسمير وجعل قلبي يذوق طعم سعادة لم يكن يعرفها من قبل ثم أطفأ ها بسبب سري وجمعني بنبيل الذي جعل وحدتي أنساً وشقائي سعادة ثم أبعده عني. حياتي أصبحت جملة من العثرات. أغمَضَت عينيها على دموع ساخنة، تتقلب في عزلتها في رجفة أمام أمل انسلخ وهو يتألم في طريقه إلى الاحتضار.

في صباح اليوم التالي، خرجت لتتفقد الجامعة وتستفسر عن تعليمات السكن وعن مواعيد الطعام. كانت تمشي تائهة بين مباني الجامعة، فعلا مدينة جامعية اسم على مسمى. عمارات كبيرة ضخمة محلات شرائية لبيع الكتب و كل ما قد يحتاجه الطلبة فترة مكوثهم في الحي الجامعي. دخلت إلى مطعم المدينة الجامعية. أخذت مكانها حول مائدة تنظر يمينا وشمالا، تسترق السمع، لغة إنجليزية بعدة لكنات وبنطق مختلف. أعجبها ذلك المزيج من الإيقاعات النطقية، إنجليزية بنطق هندي، ياباني، سريلانكي، اسباني، فرنسي، أشكال وألوان من الطلبة والطالبات من أجناس مختلفة في ذلك المطعم قدموا من أماكن مختلفة في العالم ليدرسوا هنا في أمريكا. هل جاؤوا إلى هذا البلد بحثا عن الحرية المفقودة؟ هل ظروفهم هي التي أدت بهم للمجيء إلى هنا مثلي؟ تساؤلات تنهال على رأسها، لكنها مرتاحة لاستقلالها وابتعادها عن المغرب وعن ليبيا. وحدها هناك في أمريكا، في نيويورك، بعيدة عن نبيل وعن سمير وعن العائلة المغربية وعن مدير الشركة. آه ما أحلى الحرية! ما أنعش عبيرها الذي أستنشقه الآن. سمعت ضحكا عاليا، التفتت فإذا بها ترى جماعة من الطلاب قادمين باتجاهها. جلسوا حول طاولة بالقرب منها. أثار انتباهها شاب طويل القامة أسمر اللون، أنيق الملبس، عيناه زرقاوان وشعره طويل. ذكّرها بسمير وجرجرتها العاصفة إلى صحراء الجزائر. عاصفة أثارت غضبها وسرقت سكونها اللا معتاد لأيام جميلة قضتها مع من كان فارس أحلام، اعترفت له فذبح بصيص أملها المتشظي. كان الشاب ينظر إليها ويبتسم أما هي فكانت ترتشف الحزن خلسة ومفاصلها الضبابية ترتعش في صمت لحلم جميل تحول إلى كابوس. انتبهت لنظرات الشاب فشعرت بالخجل ثم وقفت بسرعة وتظاهرت بأنها تريد المزيد من القهوة. أحضرت فنجانا آخر ثم جلست بعكس الكرسي الذي كانت تجلس عليه. كانوا يتكلمون باللغة الإسبانية: قال أحدهم:

_ إنها جميلة وخجولة.

قال أحدهم: من أي بلد قدمت يا ترى؟

قال آخر: ربما من البرازيل.

قال آخر: شعرها طويل وكثيف كبنات البرازيل لكن شكلها ليس برازيليا ربما من الهند أو من الباكستان.

قال آخر: لا هذا و لا ذاك. شكلها عربي ربما من السودان أو من المغرب العربي.

ثم علا الضحك. انزعجت غالية من حديثهم، تركت قهوتها كما هي على المائدة وانصرفت تمشي بخطوات متثاقلة بين بنايات الحي الجامعي. ها هي الحرية تطير من حولي كحمامة سلام لكنني لا أستطيع أن أمسكها بيدي وأنا التي أحسها في عروقي تسري فأين أنا منها الآن؟ إنها معي وليست معي بداخلي متشعبة لكنها أبت أن تنمو وتزدهر.

شعرت بالضجر والوحدة " يجب أن أذهب إلى مكتب الإدارة لأحصل على تعليمات السكن ومواعيد الطعام."

طرقت الباب، صاحت امرأة من الداخل: تفضل ....

امرأة في الأربعينات أمريكية من أصل أفريقي سوداء بدينة لدرجة أنها لا تستطيع التحرك بحرية وراء مكتبها.

_ صباح الخير. اسمي غالية سلطان. جئت لأستفسر عن كل الضوابط المعمول بها في الحي الجامعي.

_ اسمي مويشة. جالية ... جالية ... Let me guess أنت عربية مسلمة أليس كذلك؟

_ هل أنت ...

_ أنا مسلمة أمريكية من أصل إفريقي واسمي مويشة على اسم زوجة الرسول.

قطبت غالية على حاجبيها مستغربةً مستفهمةً: من مويشة؟

_ بنت أبو بيكر Abu Baker ... ألست مسلمة؟ Abu Baker Assadake

_ بلى، أبو بكر الصديق.

_ إنه من أصل إفريقي وكانت ابنته أصغر زوجات الرسول وأجملهن ... بالمناسبة من أي بلد أنت؟

_ أنا مغربية I am from Morocco.

_ موناكو؟!

_ لا، أنا من المغرب … ِ Casa Blanca .

_ نعم ... نعم ... الآن فهمت Casa Blanca إننا نشاهد هنا في أمريكا فيلم مشهور اسمه Casa Blanca. لكن أين يقع بلدكم؟

_ في شمال غرب إفريقيا.

_ أنت إفريقية إذا. Welcome to America.

_ أنا عربية من أفريقية.

لم يعجبها جوابي وقفت بصعوبة من مقعدها والعرق يتصبب من جسمها وقالت: إفريقيا للإفريقيين وليس للعرب.

_ ألم تقولي بأنك مسلمة. إن الإسلام جاء به العرب إليكم من شبه الجزيرة العربية ونشروه في معظم الدول الإفريقية.

_ إنني أشك في مصداقية التاريخ. أنظري مثلا المسيحية إنها ظهرت في إفريقيا والمسيح أسود وليس أبيض. إذ هبي إلى كنائس الأفارقة الأمريكان وانظري بأم عينيك صور يسوع Jesus إنه أسود لكن الأمريكان والأوربيون عنصريون، استعمرونا واستعبدونا وجلبونا إلى هنا عبيدا حتى ديننا سرقوه منا ونسبوه إليهم.

نظرت غالية إليها مبتسمة وقالت: إن معلوماتك قيمة، غريبة، جديدة علي لكنها interesting. كل يوم آنسة مويشة يتعرف المرء على معلومات جديدة.

استحسنت كلامها، زودتها بكل ما تحتاجه من تعليمات وقالت لها:

_ إن احتجت شيئا يا غالية ما عليك إلا أن تأتي إلى مكتبي وستجدينني رهن الإشارة.

غادرت غالية مكتب مويشة لا تعرف أي إحساس كان يعتريها.أتضحك أو تهزأ مما سمعته ولكنها فرحت لاهتمام تلك السيدة بها.

ذهبت إلى غرفتها أول ما خطر ببالها أبوها سلطان. لابد أن أكتب له رسالة أطمئنه علي. لا أعرف كيف كانت ردة فعله عندما استلم رسالة نبيل. ربما سيلومني ويغضب مني. لن أكتب له شيئا بصدد هذا الموضوع. أمسكت كراسة وقلما تحاول أن تكتب، تشرح، تبرر، القلم يرتعش بين أصابعها، يتوكّأ على بقايا كلماته الخاوية. تكتب جملة ثم تمزق الورقة. تبدأ بالكتابة مرة ثانية فتجد نفسها لم تعبر بالطريقة التي يرضى عنها سلطان. غابت كل المفردات والمصطلحات من ذهنها غابت لغتها كما غاب طعم الحرية التي كانت تظن أنها وصلت إليها. أمسكت القلم فوقع من يدها، حملته بعصبية، ضغطت عليه بكل قوتها ثم بدأت تصفف كلمات متسولة على أرصفة تلك السطور، ترتعش من الرعب، يلتف حولها لهيب من الخوف يشبه الجحيم، لا تعرف ردة فعل سلطان عندما يقرأها وأنا التي أسميتها رسالة الغفران.

أبي العزيز أدام الله عمرك

إنه لمن دواعي الغبطة والسرور أن أكتب لك رسالتي هذه راجية من الله أن تصلك وأنت في صحة وعافية.

أبي أعزك الله. تم تسجلي في الجامعة وتعرفت على مسؤولة تدير الحي الجامعي. إنها مسلمة يا أبي. أمريكية من أصل أفريقي. سعدت بلقائها لأنها تغار على ديننا الحنيف وإنني سأتقرب منها لتعرفني على طالبات مسلمات هكذا أكون في جو إسلامي، سالكة طريق الرحمن بعيدة عن طريق الشيطان وأعدك يا أبي أنني لن أكون إلا ما تتمناه. غالية النفس، والأحوال شاهدة بأنني سأبلغ المنى ودرجات العلم مثلك يا أبي. فأنا لن أكون إلا مثلك وعلى دربك سأسير ومن شابه أباه فما ظلم.

سلامي إلى أمي الحبيبة وعمتي الطيبة وأختي سلمى

ابنتك البارة غالية

ـــــــ 0 ـــــــ

في صباح اليوم التالي، ذهبت إلى حيث برج الحرية. هناك وقفت تنظر إلى تمثال الحرية تتأمل اختباءه الخفي وراء الشقاق والنفاق وتحت الخلاعة وبين اللصوص والكلاب، تتذكر نبيل الذي جاء بها إلى أمريكا، إلى نيويورك، إلى بلاد الحرية وتحقيق الأحلام ... حرية لم تلمسها. عن أية حرية أبحث؟ أين هي؟ لم أجدها حتى الآن. مجرد سراب ووهم. أنظر من حولي، أرى الناس تسعى إلى أعمالها بسرعة البرق. البعض يأكل ويمشي، ليس لديهم الوقت لتناول فطورهم في بيوتهم. والبعض الآخر يمشي شبه عار وأجسامهم موشومة بإشارات وشعارات وصور مائعة. شاب يعانق شاب ويقبله في الطريق. فتاة تعانق فتاة وتقبلها في فمها. مجموعة أخرى تلبس لباسا جلديا لونه أسود، رؤوسهم محلوقة ماعدا شعيرات مصطفة على شكل عرف الديك ومصبوغة بألوان فاقعة. أناس يلبسون أفخم الملابس ويسكنون أفخم البيوت، وأناس يلبسون لباسا باليا وسخا ويسكنون علبا من الكارتون في الطرقات. بنايات ضخمة وعالية تنطح السحاب ومساكن قديمة وسخة تحت الأرض، بنايات يقف الحراس أمام أبوابها وكاميرات معلقة بالمصعد خوفا من العصابات. هل هذه هي الحرية التي أبحث عنها؟ أية حرية هذه؟ لم أجدها ولو أنني أتيت إليك. أين هي الحرية أيها التمثال؟ ها أنا أقف أمامك... هل الحرية هي ما أراه أمامي من ميوعة وعراء؟ هل الحرية تجعل أناسا في قمة الفساد، وآخرون في قمة الإجرام، وآخرون في قمة الثراء الفاحش، وآخرون في قمة الفقر القاتل؟ مجتمع يلبس الرياء ويتحجب بالمصانعة والمداهنة، يتحايل بالمجاملة، يتزين بالتبرج يفتك بالنفاق والخداع. مجتمع ينتهك الحرمات، مجتمع يقتله الغرور وحب الظهور، تجري في دمه السلطة والديكتاتورية المطلقة. عراء ... عراء ...أبدان عارية ... وعقول وضمائر متحجبة. هل هذا هو المجتمع الذي كنت أحلم بالوصول إليه و صورته في ذهني مجتمعا مثاليا؟ أي مجتمع مثالي هذا؟! إنني لا أرى إلا رأسمالية متوحشة تنهب بمخالبها الضعيف وتدعس عليه بحوافرها. ما هذه إلا حرية الأهواء والشهوات التي تنعدم حتى عند الحيوانات ... حرية الوحوش والذئاب ... إنها الفتنة الواسعة في هذه اِل أمريكا ... لا عدالة ولا إخاء ولا مساواة ولا أمن ... كلمات تنعدم في هذا المجتمع لأنها ليست مترابطة في نهج واحد وواضح ومتماسك. آه ... الحرية، سافرت من بلاد إلى أخرى. قطعت الصحاري والفيافي، قطعت البحار أبحث عنها. إنها ليست موجودة في عالمنا الشرقي ولا في هذه اِل أمريكا. الحرية شيء يكون في داخل الإنسان. الحرية لا تكون ولن تكون مادام الإنسان محجبا في عقله. الحرية سلوك ومعاملة، تصرف وإنسانية فما رأيت في هذه اِل نيويورك إلا حرية العراء وحرية الدعارة وحرية الإجرام وحرية العنصرية وحرية الجشاعة الرأسمالية التي تقذف بالمرء إلى قمة الثراء وتقذف بالآخر إلى قاع الفقر. آه يا بلدي الكبير! آه يا عروبتي وإسلامي! لو كانوا أرباب بيتنا الكبير ... أرباب هذه الأمة العربية التي تضم أكثر من مليار نسمة... لو كانوا يفهمون العدل ويحكمون به وينشرونه ويتضامنون من أجله لا من أجل سلطان ولا جاه، لكنا فعلا أرقى دولة وأمة أخرجت للناس.

توجهت غالية إلى إحدى المكتبات اشترت ما تحتاجه من كتب ومذكرات وكل ما يلزمها لسنتها الدراسية الأولى. كانت تنتظر ذلك اليوم الأول لبداية سنتها الدراسية متشوقة، قلقة. ... حائرة ... تريد أن تنهي دراستها لتسترجع بها قوتها وتبعد بها الخوف من سرها الخطير. لكن، ماذا بعد؟ ماذا بعد الشهادة، ماذا بعد نيويورك مدينة الأوهام والحياة الزائفة. هل سأمكث في هذا البلد؟ لا والله لا أتمنى العيش فيه. إلى أين سأذهب بعد تخرجي؟ هل أرجع إلى المغرب؟ فمهما بلغت من درجات العلم فطاعتي لوالدي واجبة علي. إن أرغموني على الزواج هل شهادتي الجامعية ستحجب عني التسلط وإجباري على الزواج؟ إن الإسلام أعطاني حق الاختيار وحق الرفض. لكن رب الأسرة الذي أنجبني خُوِّلَ له امتلاكي والتصرف بمستقبلي وقدري حسب اعتقاده. نعم، فأبي كان دائما يقول لنا: "تصرف المالك في ملكه يُعَدُّ عدلا لا جورا." فإرغامه لي على الزواج هو العدل في نظره ومعرفة لمصلحتي. لا أنسى يوما كنت أجادله فيه قائلة:

_ يا أبي جيلنا غير جيلكم وحياتنا التي نعيشها الآن غير حياتكم. لكل ظرف وزمان أحكام تختلف عما قبلها. إننا أولاد هذا الجيل، إننا لسنا لكم إننا أبناء الغد. فثار علي مزمجرا غاضبا يصرخ بصوت عال:

_ ماذا قلت؟

أجفلت وارتديت إلى الوراء قائلة: أنا لم أقل شيئا يا أبي هذا كلام مشهور لكاتب مشهور.لقد قال أولادكم ليسوا لكم أولادكم أبناء الحياة.

_ من هو هذا الكاتب المشهور الذي تعظيني بكلماته؟

ـ لا عليك يا أبي، سامحني لن أغضبك مرة أخرى.

ـــــــــ 0 ـــــــــ

في الصباح الباكر، استيقظت كعادتي لأداء الصلاة. لبست بنطلون الجينز وقميصا أبيضا. أعجبني منظري لولا هذا الشعر الطويل إنني أكرهه، يتعبني. أمسكت مقصا، لابد أن أقصه وأرتاح. تَخَيّلَ إلي صورة أبي سلطان:" حرام على المرأة أن تحلق شعر رأسها، فذلك تشبه بالرجال." ألقيت بالمقص، أمسكت حقيبة كتبي وغادرت إلى الجامعة، بالقرب من الحي الجامعي الذي أسكن فيه. كانت الجامعة تعج بالطلبة. إنه اليوم الدراسي الأول. تمشي تائهة وحيدة بين ذلك الحشد الغفير من الطلبة والطالبات. دخلت إلى القاعة مع الطالبات والطلبة وكل أخد المكان الذي اختاره. جلست في الصف الأول من المقاعد. المكان المفضل عندي منذ كنت في الصف الأول، منذ كنت طفلة صغيرة. آه! طفلة صغيرة. تمنيت أن أرجع إلى زمن الطفولة، إلى ذلك السن، سن البراءة، سن اللعب والأحلام السعيدة. كان حوالي الأربعون طالبا وطالبة في القاعة. وضعت كتبا باللغة العربية أمامها للكاتبة نوال السعداوي. قدم ذلك الشاب الوسيم الأسمر الذي رأته في مقهى الطلاب وجلس بجانبها مبتسما. شعرت بالخجل وبسخونة في كل جسمها. دخل أستاذ في الخمسين من عمره يرتدي قميصا وبنطلون الجينز. طويل القامة، أشقر اللون، بشوش منطلق ينظر إلى الطلبة والبسمة لا تفارق وجهه:

_ هالو ... اسمي Willard, Edward ويلرد إدوارد أستاذ مادة "التاريخ ألأمريكي". سنتطرق إلى الحياة والأحداث في أمريكا من القرن السادس عشر إلى القرن التاسع عشر. سوف تدرسون معي من خلاله خمسة فصول: منها أدب الاستعمار، أدب نيوانجلند البيوريتاني، التنوير الأمريكي 1750- 1820. أدب الفترات الوطنية الثورية والمبكرة لميكائيل تي جيلمورGilmore Michael T. . طبعا سنتطرق بالتفصيل عن حياة الهنود الحمر كما سمّاهم كريستوف كولومبوس للكاتب لوي براون Loy brown وسترون بربرية الهنود ووحشيتهم وبدائيتهم. سمعت تلك الجمل فاقشعر جسمها. فشردت مع أفكارها إلى آليات العمل الثقافي الرأسمالي الغربي الذي يهدر هويات الشعوب والأمم الأخرى وإسقاط خصوصياتها وتواريخها وتشويه نظمها القومية والإعتقادية. إن من وصل إلى هذه الأرض عبارة عن مرتزقة ومغامرون ومُهَجَّرون ولصوص تخلصت منهم الإمبراطوريات الأوروبية، فألقت بهم خلف المحيط ليعيثوا فسادا في الأرض الجديدة ويقتلوا أهلها الأصليين الذين يسمونهم الهنود الحمر. يبيدونهم لكي يتم الاستيطان. كانت شاردة مع أفكارها ولم تعد إلى حديث Willard إلا عندما اقترب من مقعدها وهو يتحدث، متجولا بين المقاعد ويمزح من حين إلى آخر مع الطلبة والطالبات. عندما اقترب منها انتبهت إليه يقول:

_ طبعا هذا المقرر ... تاريخ أمريكا من أهم المقررات التي أنتم بصدد دراستها. إنه إلمام بمعرفة نشوء هذه القارة. سنتطرق لدراسة تطور الإنسان الأمريكي مع الأخذ بعين الاعتبار الأسباب والنتائج والتفاعلات.

وقف الشاب الوسيم الذي يجلس بجانبها دون أن يرفع أصبعه طالبا الإذن وقال:

_ من جاء إلى هذه الأرض هم البرابرة المتوحشون القتلة. أبادوا شعبها الأصلي واستعبدوا أناسا قدموا بهم من إفريقيا واغتصبوا وسلبوا خيرات هذه البلد. عن أي تاريخ تتحدث؟ تاريخ صنعه المرتزقة. تاريخ لا يبني ثقافة عريقة مؤصلة مبنية على وحدة الهوية وتأصيل مفهوم القومية ومفهوم الخصوصية وصراع أنصار الهوية واللاهوية.

ابتسم إليه الأستاذ وقال: هذا التعليق خارج عما نحن في صدده. لكن يمكنني أن أناقشك فيه نهاية الحصة. ثم استمر مكملا كلامه والابتسامة على وجهه.ثم واصل كلامه: أملي أن تتمكنوا من أدوات التحليل والتأويل والاستدلال والتعبير بهدف يجعلكم قادرين على تقييم قطاعات من الماضي مازالت غير مستكشفة بعد بشكل كاف.

تعجبت لتصرف الأستاذ مع هذا الطالب. يا الله هل هذا مدرس وأمثاله في بلادنا شتان ما بين السماء والأرض. من يستطيع أن يتجرأ في جامعات بلادنا أو مدارسها على مناقشة الأستاذ ومقاطعته بهذه الطريقة التي سمعتها ورايتها. آه ... إذن لهذا السبب تسود عندهم الجرأة في التعبير وحرية الرأي. الحرية هذه الكلمة تعذبني تلاحقني، أشعر بجوع إليها، بعطش لها، أين هي؟ ليست هنا لا في أمريكا ولا حتى في فصل الأستاذ Willard. هنا يمكن للشخص أن يعبر عن آرائه ونزواته، وعن رغباته الجنسية، يعبر وينتقد كما يشاء لكن شرط ألا يمس سياسة البلد أو يهددها وألا تخفيه المخابرات عن الوجود. مخابرات ... مخابرات ... في كل مكان ...في الهواء ... نستنشقها وفي الأكل نتذوقها وفي الماء نشربها. كان الطلاب والطالبات يتحدثون ويعلقون. توقعت عند سماع بعض التعليقات، أنه سينهال عليهم بالشتائم والضرب أو على طريقة بلادنا الطرد من الفصل واستدعاء ولي الأمر. لكن الأستاذ كان لطيفا، بشوشا، والأهم من كل هذا كان متواضعا في تصرفه وحتى في لباسه وفي طريقة التواصل بينه وبين الطلبة.

ــــــــ 0 ــــــــ

أسرعت إلى مكتبة الجامعة تبحث عن الكتب المقررة لديها في " التاريخ الأمريكي" وجدت أغلبها. مازالت منهمكة تسبح بين رفوف الكتب حتى ظهر أمامها ذلك الطالب الوسيم الذي كان يجلس بجانبها وقال باللغة العربية.

_ هالو ... اسمي أنطون حنا. أنت عربية أليس كذلك؟

وقفت مذهولة تنظر إليه.

_ ما بك هل أنت خرساء؟

_ تتكلم اللغة العربية غير معقول! ظننت أول الأمر أنك من المكسيك أو الأرجنتين عندما شاهدتك في المقهى البارحة. وعندما أدليت بتعليقك الجريء في الفصل، ظننت أنك من الهنود الحمر.

قهقه عاليا وقال: الهنود الحمر! لماذا الهنود الحمر؟ هل لأنني انتقدت الأستاذ عندما كان يتحدث عن بربرية سكان أمريكا الأصليين؟

_ صراحة ليس لهذا السبب فقط. ولكن ...

_ ولكن ماذا؟

_ شكلك.

_ ما به شكلي؟

_ لون بشرتك و ... وشعرك الطويل.

ضحك وقال: أنا أيتها العربية الخجولة. أبي لبناني وأمي برازيلية؟ عشت في دول كثيرة بحكم مهنة أبي.

_ ماذا يعمل أبوك؟

_ سفير.

_ اسمي غالية.

_ أهلا غالية سعيد بمعرفتك. من أي بلد عربي أنت. أبي موريتاني وأمي من السودان ووُلِدت ودرست في المغرب.

_ بالمناسبة كان أبي سفيرا في المغرب وكان عمري آنذاك سبع سنوات. ما رأيك في أن نتناول الغداء معا في مطعم الجامعة؟

_ ليس عندي مانع.

شبك يده بيدها وسحبها إلى الخارج، ينظر إليها ويبتسم وكأنه يعرفها منذ خمسة عقود. شعرت بخجل شديد لا جرأة لديها لسحب يدها من يده. جلسا في المطعم القريب وجها لوجه.

_ غالية هنا خدمة ذاتية. أعني كل يقوم ويأخذ ما يريده من طعام وشراب ويدفع ثم يأتي إلى طاولته.

قاطعته قائلة: أعرف ذلك، لقد كنت أدرس في جامعة سانت فرانسيس كوليدج ب فورثواين في ولاية إنديانا بوليس.

_ إذا لا تحتاجين لمرشد جامعي.

ابتسمت بخجل وقالت: بالمناسبة أعجبني جدا تدخلك بالفصل.

قال ومن غير مقدمات: غالية هل تعرفين أن المشروع الصهيوني هو الذي أسس أمريكا. صحافي إسرائيلي وداعية السلام بارز اسمه أوري إفنيري كتب قائلا: "أن المشروع الصهيوني هو الذي أسس أمريكا بحيث أن المهاجرين الأوائل، أو الآباء المؤسسين، الذين أسسوا المجتمع الأمريكي آمنوا بالتوراة وتحدثوا بالعبرية وأطلقوا على أنفسهم أسماء تورارتية وتخيلوا قارة الهنود الحمر " إسرائيل الجديدة" بل لقبوا ما ستعرف بأمريكا "كنعان الجديدة" وبرروا ابادة الهنود الحمر بخرافة العملاقة!

_ إن هذا العالم الجديد حسب تسمية الإنسان الأبيض العنصري للقارة الأمريكية، لم تكن عالما جديدا، فكما هو معروف كان لها شعبها الأصلي بحضارته وثقافته وديانته، لكن البيض انتهكوها وامتلكوها طبيعة وروحا، أرضا وشعبا، بالسلب والنهب والقتل الإبادي. وكل ذلك جرى باسم الرب والمدنية والتقدم.

_ صحيح وما زالت روح الغزو مسيطرة على العقلية الأمريكية حتى الآن وتظهر جليا في أفلامهم. فقط من أسبوع شاهدت فيلما بعنوان" الوطني" The Patiort يبرر القتل والعنف والدماء تحت غلاف الأرض والوطن، فتاريخ "بنجامين مارتن" ليس ناصع البياض، فهو بطل مذبحة مثل فيها بأشلاء القتلى الفرنسيين، ومع ذلك لما مرت السنون وتشابكت المصالح تحالف الفرنسيون معه ضد الإنجليز، فلا مبدأ ثابت إنما هي المصلحة حتى لو كانت الغربان تنعق على جثث القتلى في المعركة مع الفرنسيين هي نفسها الغربان التي تنعق في المعركة مع الإنجليز. لا يهم نعيق الغربان المهم من يكسب الحرب.

_ الجيش النظامي القاري الأمريكي كان بحاجة لستة أشهر تقريبا حتى يصل إلى المدد الفرنسي ويواجه السطوة الإنجليزية على أرض المستعمرة الأمريكية.

ابتسم أنطون مقاطعا: هل شاهدت الفيلم؟

_ نعم، شاهدته في المركز الثقافي الأمريكي في مدينة مراكش. خلاصة القول جمع بنجامين مارتن مليشيا غير نظامية تناوش جيش الإنجليز فتنجح وينتصر الأمريكان. إنها فكرة الجمال القبيح والقبح الجميل.

مازالت تحدثه حتى قدم إليهم الشباب الأربعة الذين رأتهم مع أنطون أول مرة. فهتف واحدهم بالأسبانية.

_ بهذه السرعة.

قال أنطون: ماذا تعني؟

_ حصلت عليها بسرعة وماذا عن صديقتك انجل؟

وقف أنطون وقال لهم: باللغة الإنجليزية لكي أفهم.

_ أعرفكم عن صديقة جديدة اسمها غالية. عربية تدرس معي.

ثم التفت إلي وقال:أصدقائي من الأرجنتين، ألفريدو، دومنيك، خوان ولوتشو أمه من الأرجنتين وأبوه أمريكيا.

قال أحدهم بلغة قريبة من الأسبانية: صيدك جميل كيف حصلت عليها.

أجابه أنطون بنفس اللغة: أنا لم أحصل عليها ولا هي صيد إنها صديقة جديدة، أعتز بصداقتها.

وقفت متأهبة للانصراف فإذا بثلاث طالبات قدمن، شقراوات سلمت واحدة منهن على أنطون مقبلة إياه في فمه وجلست بجانبه. ونفس الشيء بالنسبة للبنتين اللواتي معها كلاهما سلمت على صديقها بنفس الطريقة وجلست بجانبه. شعرت غالية بسخونة في وجهها. نظرت إملي إلى صديقها وقالت:

_ ألا تعرّفنا على الزميلة التي معكم؟

قال أنطون: غالية، من الإمارات وتقطن في المغرب.

وأضاف موجها كلامه لي: صديقتي إنجل من ولاية واشنطن. هلين صديقة ألفريدو وباتريسيا صديقة خوان من ولاية نيوجرزي.

قال لوتشو: وأنا حتى الآن ليست لي صديقة؟ هل تقبليني صديق لك يا جالية؟

قالت: نعم، ليس عندي مانع. أتمنى أن أكون صديقة لكم كلم.

ضحكت إملي وقالت: لوتشو يريد أن تكوني his girlfriend ... أعني ...

قاطعتها متغابية وقالت:I am a girl and I accept to be his friend فما المشكلة إذا؟

قال لوتشو: سعيد بك فتاة وصديقة. ماذا تريدين أن تشربي؟

_ عصير البرتقال شكرا.

قال أنطون: أنا أدعوكم اليوم بمناسبة تعرفنا على غالية.

ونهض من غير أن يسأل الآخرين ماذا يريدون أن يشربوا ثم بعد دقائق أتى بقناني من البيرة وعصير البرتقال.

ضحكت البنات كل منهن تنظر لصديقها ثم ينظرن إلى غالية ويتغامزن. أمسك لوتشو بيد غالية وقال:

_ ألا تشربين الكحول؟

_ لا.

_ لماذا؟

_ لأنه يضع خمارا بين عقل الإنسان وجسمه فيتصرف بعدها بتصرف غير إنساني.

قال لوتشو: إن النبيذ ينعش القلب.

أجابته بامتعاض: إن النبيذ يتلف الكبد ويتلف النقود.

قالت انجل وهي تنظر إليها باستخفاف: جالية هل سبق أن كان لك a boyfriend ؟

أجبتها مبتسمة: I have a lot of friends boys.

وفي الحقيقة لم يكن لديها أصدقاء ذكورا في حياتها الدراسية. لأن أبوها يعتبر اختلاط البنات بالذكور حراما.

كان أنطون ينظر إليها من دون أن يعلق. أحس بانزعاجها خاصة عندما أمسك لوتشو بيدها وسحبتها منه ببطء ثم وقفت مودعة إياهم وغادرت المطعم مسرعة تهرول وكأن أحدا يلاحقها. لحق بها أنطون.

_ غالية دقيقة من فضلك. أعتذر نيابة عن أصدقائي فهم يجهلون تقاليد العرب وخاصة المسلمين.

_ لا داعي للاعتذار. فهم يحبون المزاح وجئتهم أنا من عالم يختلف عن عالمهم في السلوكيات والعادات فمن الطبيعي أن يسألونني تلك الأسئلة.

_ إذا أنت لست غاضبة منهم.

_ بالطبع لا.

_ هكذا يمكنني أن أودعك وأنا مرتاح البال مع السلامة وإلى اللقاء. غدا موعدنا بالفصل. إلى اللقاء.

ذهبت إلى غرفتها واستلقت في هدوء وبهجة على الحوار الذي دار بينها وبين أنطون. كان ذكيا جريئا صريحا أنيقا غيورا على عروبته، مهذبا عكس أصدقائه لكنها لم ترتح لحديث أصدقائه وخصوصا لوتشو. لماذا أفكر في لوتشو؟ جلست على كرسي منضدتها أخذت كتابا من ضمن مقرر الفصل الدراسي الأول بعنوان "أرضيات النقد في الشعر" من تأليف جون دينيس تقرأه بلهفة، تشرح الكلمات التي يستعصي عليها فهمها. لابد أن أتمكن من هذه اللغة الإنجليزية. لابد أن أتكلم بها بسلاسة العم سام. لابد أن أحصل على الشهادة الجامعية علّها تكون درعا في حياتي ومع عائلتي تحميني من ذلك اليوم التي تُعَزُّ فيه الفتاة أو تهان"

لامارا 15-11-13 07:12 AM

الفصل الخامس عشر الجزء 2
 
الفصل الخامس عشر الجزء 2

صباح اليوم التالي، وكان يوم الثلاثاء حاولت أن تحَسِّن من ماكياجها وملابسها وتسريحة شعرها، هرولت إلى مطعم المدينة الجامعية وبينما كانت منهمكة في تناول إفطارها وقف أمامها لوتشو:

_ أين أنطون؟

_ صباح الخير أولا. أعتقد أنك لا تريدين أن تصطبحي بوجهي.

_ صباح الخير لوتشو. لم أكن أقصد تفضل.

_ شكرا غالية، تعرفين اليوم سيلقي الأستاذ John Durang محاضرة بعنوان الدراما في المسرح الأمريكي.

_ من جون دوران هذا؟ دكتور متخصص في فن الدراما وكاتب مسرحيات. ستعجبك محاضراته.

_ بالمناسبة ماذا تدرس؟

_ الأدب الإنجليزي ومعك في نفس الفصل.

_ ولماذا لم تحضر البارحة لحصة Willard ؟

ابتسم وقال: صراحة ذهبت البارحة إلى الإدارة وغيرت بعض المقررات لكي أكون معك في نفس الفصل.

_ لماذا فعلت ذلك؟

_ ألم تقبلي البارحة أن تكوني my girlfriend؟

لم يعجبها اندفاعه قطبت جبينها ...

_ لقد قلت لك سأكون your friend girl ...

_ صديقة ... فتاة ... حبيبة ... لا فرق ...

_ بلى، هناك فرق وفرق كبير أيضا.

_ لماذا فرق كبير؟

_ لقد قلت لك البارحة بأن الاختلاط بالذكور والانزواء بهم حرام في ديننا. ممنوع ... حرام!

_ أي دين هذا الذي يفرض القيود وكبت حرية الإنسان؟

_ أولا الإسلام ليس دين قيود، ثانيا الاختلاط الذي تتكلم عنه لا أسميه حرية وإنما أسميه إباحية مائعة.

_ إنك تتكلمين كراهبة. أليس من الأحسن أن تعتكفي في كنيسة بدل من أن تَدْرُسي في الجامعة. إن الجامعة للأحرار... للمتفتحين... لل ...

_ كفاك سخرية هل التفتح عندك هو أن يمارس الإنسان ما حرم الله.

_ ماذا حرم الله؟ الله لم يحرم أن ندرس سويا ونراجع سويا، هذا إن لم يكن عندك مانع.

ترددت هنيهة ثم قالت مبتسمة: بالطبع ليس عندي مانع.

_ إذا ما رأيك في أن تأتي إلى غرفتي بعد المحاضرة. إنها في المبنى الثاني مكتوب اسمي على الباب ورقم الغرفة سهل تذكريه 222 .

_ لماذا إلى غرفتك؟

_ لكي نراجع سويا... هل أنت خائفة؟

_ منك ... لماذا؟

_ إذا ليس هناك أية مشكلة. سأكون في انتظارك بعد المحاضرة.

كان لوتشو يحب المزاح كثيرا عكس أنطون. قصير القامة، طويل الشعر، أسمر اللون، بسيطا في لباسه وفي تصرفاته، لم تكن تحب طريقة حديثه. كانت تستفزها ورغم ذلك قررت أن تدرس معه. بعد انتهاء المحاضرة ذهبت إلى المكتبة، استعارت الكتب المقررة في فن الدراما في المسرح الأمريكي ثم اتجهت متثاقلة في مشيتها إلى المبنى الثاني وقلبها يدق مضطربا. تتحدث مع نفسها: " عجيب أمرك، لماذا قبلت الذهاب عند لوتشو أهو تحدي أو تمرد؟ وقفت عند الباب تستعيد أنفاسها، تنظر إلى لباسها محاولة تفقّد هيأتها. وبمجرد أن رفعت يدها لتدق الباب حتى فتح الباب وفي يده الهاتف النقال Celulaire أشار إليها بالدخول. كان مازال مشغولا بالحديث وكانت هي تتأمل تلك الغرفة التي يغطي جدرانها صورا لممثلات ومغنيات شبه عاريات. نظرت إلى الأريكة، كانت مليئة بالمجلات والكتب. وضعتها كلها على المائدة تتصفح مجلة ريثما ينتهي من مكالمته.

_ هالو جالية ...

جلس على الأريكة بقربها، يعبث بهدوء بخصلات شعرها، يلتفت إليها، يتأملها وكأنه يراها للمرة الأولى. بينما هي تتأمل الجدران المختفية وراء تلك الصور العارية.

_ آسف جالية لقد كانت مكالمة مهمة جدا مع طالب مهم جدا. إنه عربي مثلك وعنده نقود لا تعد ولا تحصى اسمه رامي.

_ عربي ...؟ من أي بلد؟

_ من السعودية.

_ آه فهمت. ما رأيك في المحاضرة التي ألقاها John Durang ؟

أزال يده من خصرها، وقف ثم اتجه إلى الثلاجة فتح بابها وأحضر قنينة كولا وقنينة بيرة. كانت تنظر إليه وتنظر إلى الجدران المليء بصور النساء العاريات من حولها. تذكرت فجأة سلطان. تخيلت والدها الحاج سلطان ...الإمام ...القاضي ...المحاضر في الشؤون الإسلامية وكأنه يدخل عليهما فجأة فوقفت مسرعة نحو لوتشو تختفي وراء ظهره وتصرخ متوسلة باكية: " أبي يشهد الله علي لم يقترب مني لوتشو ولم نمارس اِل ... ولم أشرب كحولا. صحيح إننا وحدنا بالغرفة لكن لم يحدث شيء." آه لو أمسكني سلطان بهذا الجرم المشهود. لما احتاج إلى شهود أربعة. فهو وحده يكفي، سلطان ووالدي وقاضي وإمام وواعظ في الدين والإرشاد وصاحب حظوة عند المسئولين.إنه وحده خمسة شهود لإزالتي من هذا الوجود. جلس لوتشو بقربها وضع زجاجة الكولا والبيرة وكوبين على المائدة. سكب البيرة في كلا الكوبين..

_ ماذا تفعل؟ لقد قلت لك لا أشرب الكحول.

- للأسف ليس عندي إلا الكحول في الثلاجة.

ابتسم ثم مد إليها زجاجة الكولا وأضاف قائلا:

_ سكبت لك كوبا من البيرة ... ربما تغيرين رأيك وتخرجين من قوقعة الحلال والحرام.

_ اطمئن لن أغير رأيي.

نظر إليها مبتسما وقال من غير مقدمات: هل مارست الجنس؟! أعني هل لك تجارب جنسية قبل قدومك إلى هنا؟

_ لماذا تسألني هذا السؤال ... هل يهمك الأمر؟! لا، لم أمارس الجنس من قبل.

_ مستحيل! لا أكاد أصدق ما أسمع. أمعقول فتاة جميلة مثلك لم تمارس الجنس.

_ اسمع لوتشو الجنس حرام في ديننا إلا عند الزواج. بمعنى الفتاة يجب أن تحافظ على عذريتها حتى ليلة زفافها وإن لم تفعل ستكون عاقبتها وخيمة، إنها الفضيحة العظمى أكثر من فضيحة واترجيت.

_ إن الفضيحة هنا أن تكون الفتاة في سن الخامسة عشر وتظل عذراء. هذا يعني أنك ... أنك ... مازلت عذراء؟

ذكرها بذلك السر الدفين ... ذلك السر الخطير كما أسمته أختها. شعرت بخوف داخلها رغم أنها بعيدة ... بعيدة جدا عن المغرب. بماذا سأجيبه؟ هل سأقول له أنا نصف عذراء أو من غير عذرية أو لست متأكدة من ذلك. فلماذا أجيبه؟ أحسّ بحرجها من استمرار الحديث في هذا الموضوع فقاطعها قائلا:

_ ما رأيك في محاضرة اليوم؟

تنفست الصعداء وأخيرا تخلصت من ذلك الحوار الذي أرجعني سنين إلى الوراء، إلى سن الطفولة إلى تلك البقعة الحمراء التي كانت في لباسي الداخلي.

ـــــــ0 ـــــــ

بعد أسبوع من انتهاء الفصل الدراسي الأول قدمت دكتورة من جامعة كاليفورنياMarilyn Booth لتلقي محاضرة عن كاتبة روائية وعن الصعوبات والمخاطر التي واجهتها بسبب كتاباتها الأدبية. تفاجأت لذلك الحشد الكبير من الطلبة والطالبات في قاعة المحاضرة. يا الله ... هذه الشخصية الغنية عن التعريف ... شهرتها لم تكن فقط على مستوى العالم العربي وإنما تعدته إلى أجزاء كثيرة من العالم. شهرتها لا تقل عن شهرة بلادها. فمن لا يعرف مصر بلاد الفراعنة؟ بمجرد ذكر هذا الاسم في العالم كله يستحضر المرء فورا أبو الهول الموميات الإسكندرية، أنور السادات، حرب أكتوبر، زيارة إسرائيل، معاهدة الصلح، قناة السويس، شرم الشيخ ، الرقص الشرقي، تطرقت Marilyn Booth إلى إعطاء نبدة عن حياة هذه المرأة العظيمة الجريئة التي مزقت القيود مدافعة عن وضعية المرأة في المجتمع المصري والعربي. استمرت وعانت وكابدت رغم المضايقات فسرحت بعيدا عن المحاضرة إلى سجني وسط أهلي ومجتمعي وحدتي التي لم تكن تعجب أحدا. خوفي ومعاناتي الشبه يومية من تقدم سني واقتراب وقت زفافي. أرتبك أتذكر سري الخطير ... الزغاريد ... القرع على الأبواب كطبول الحرب وبقع كبيرة حمراء في قطعة ثوب أبيض تحملها النساء وتزغرد بصوت مرتفع يصم الآذان. تزغرد فرحا بتلك البقعة من الدم، لا يهم مصدره غشاء بكارتي أو من ألوان أقلام الرسم التي نستعملها في المدارس. علا التصفيق داخل القاعة فاستيقظت من غفوتها. ألتفت شمالا ويمينا فرأت ذلك الحشد من الطلبة واقفين وقفت أيضا مشاركة إياهم تصفق مثلهم، فرحة سعيدة أحسست بالفخر أمام هؤلاء القوم أبناء العم سام بأننا نحن بني يعرب، قادرين على التفوق والنجاح. فهل نحن متخلفون كما يعتقد الكثيرون؟ كانت المحاضرة مفاجأة لها وللجمهور الأمريكي أن يتعرفوا أكثر على كاتبة روائية ومناضلة لأجل المساواة بين الرجل والمرأة رغم اتهامها بالإباحية. مازلت تصفق متذكرة سلطان وقالت في مخيلتها المتخمة ب التحريم و الترهيب: آه لو رآني الإمام سلطان أصفق هكذا والله لأصدر فتوى بهدر دمي.

ـــــــــ 0 ـــــــــ

أربعة أشهر مرت بسرعة ضوئية بالنسبة لها. انتهى الفصل الدراسي الأول، أتقنت اللغة الإنجليزية، تمكنت منها بمستوى يتمناه الكثيرون ذكورا وإناثا. سافرت عبر هذا المقرر إلى عمق هذه اِل أمريكا تاريخيا، اجتماعيا، أدبيا وحضاريا. بدأت تستعد لمواد الفصل الدراسي الثاني. كانت الإدارة تعج بالطلاب مزدحمين حول لائحات إعلانات الساعات الدراسية المعتمدة. أخذت ورقة متأملة المقررات المطروحة في هذا الفصل، تاريخ الأدب، فن القصة القصيرة ركزت عينيها على فن الرواية وفجأة أحست بيد توضع على كتفها الأيمن برفق. نظرت فإذا به لوتشو.

_ هالو جالية ... هل اخترت المقررات التي ستدرسينها.

_ نعم ...

_ ما رأيك في أن نتغذى في مطعم خارج الجامعة.

لم تكن لديها رغبة لذلك خاصة وأن أحوالها المادية تدهورت

_ شكرا، لوتشو لكنني ... لكنني ...

_ لكن ... ماذا ...؟

_ لاشيء ... فقط ليست لدي رغبة

أمسك يدها بلطف وسحبها خارج الحشد: ما بك غالية ألست my friend girl

_ بلى.

_ أحس أنك حزينة ما الأمر؟

_ لقد تدهورت أحوالي المادية ولا أعرف كيف أتصرف.

ابتسم قائلا: هل هذه هي المشكلة؟ أنا سأساعدك؟

_ كيف؟

_ تشتغلين معي.

_ معك ... أين ...

_ في مطعم إيطالي.

_ وماذا أعمل؟

_ تعملين ما أعمل...!!

_ كفى مزاحا ... ماذا تعمل؟

_ أغسل الصحون.

غدا الثلاثاء العاشرة صباحا غالية بنت الإمام القاضي سلطان ستعمل في مطعم إيطالي في نيويورك. آه لو عرف الإمام أنني سأعمل في غسل الصحون. هذا أمر لا يستوعبه عقل القاضي الذي تعمل في بيته في المغرب أربع خادمات، لكل منهن تخصص وميدان وعمل. هكذا الدنيا يا قاضي سلطان ألم تعلمنا ونحن صغارا أن الدنيا لا تدوم لأحد على حال وأن الدنيا يوم لك ويوم عليك وأنها لو دامت لغيرك ما وصلت إليك. إذا هذه الأيام ليست لغالية إنها عليها وأنت السبب يا أبي أنت السبب في كل شيء. في بحثي عن حريتي التي منحها الإسلام ومنعتها أنت عني. آه يا أبي لولا خوفي من الموت في ليلة العمر في تلك الليلة التي تحلم بها كل فتاة. آه كم أنا حزينة من تغربي. أكتشف الأنفاق الحجرية في روحي. أتعذب أكتشف المنفى والنار، أكتشف مقابر الآلاف اللواتي رحن ضحايا باسم الشرف. أكتشف الآن لماذا كانت أصوات الضحايا تصعد من بئر شقائي ولماذا كنت أخاف.

قابلت مسئول المطعم سألها بعض الأسئلة الروتينية. أعطته صورة عن جواز سفرها ثم بدأت العمل مباشرة بغسل الصحون. أربع ساعات كل يوم وعندما تنتهي من عملها تتلقى ثلاثين دولارا من صاحب العمل. كانت نقودا قليلة لكن أحسن من عدمها. اشتغلت طيلة الفصل الدراسي الثاني. كانت الساعات الأربع تمر بسرعة خصوصا أنها تشتغل في نفس الوقت مع لوتشو. كان المطعم بعيدا لكن وسائل النقل متوفرة وسريعة جدا. شباب وشابات من أمريكا اللاتينية يشتغلون معنا بمجرد ما أن أتعرف على أحدهم حتى يختفي ويأتي بدله واحد آخر. كلهم بدون أوراق. يقيمون في هذه ال أمريكا بطريقة غير قانونية. داهمت الشرطة يوما المطعم فاختفى كل من في المطبخ داخل دهليز يؤدي إلى الشارع الخلفي ولم يبق إلا غالية ولتشو. شعرت بالرعب ترتعش، تصطك أسنانها، الشرطة والمسدسات في أيديهم تبحث على كل من يشتغل في المطعم بطريقة غير قانونية. هذا المشهد لم تكن تراه إلا في الأفلام البوليسية على شاشات التلفزيون. اختفت الشرطة ورجع كل إلى عمله.

_ لوتشو هذه آخر مرة أشتغل فيها في هذا المطعم اللعين.

_ المطعم اللعين ... ماذا فعل لك المطعم؟

_ لاشيء لكنني لن أشتغل بعد اليوم هنا. من وجد في مكان الشبهة إتُّهِم ...

_ لم أكن أعرف أنك جبانة أيضا.

_ سأذهب لأغير ملابسي.

أنتظرك عند الباب الخلفي للمطعم.

غيرت ملابسها في الغرفة الخاصة بعاملات وعمال المطعم. خرجت بسرعة مازالت ترتعش من مشهد البوليس ومسدسات البوليس، تتعثر في مشيتها وصوت الإمام سلطان يرن في أذنيها." إياك والذهاب إلى المطاعم والفنادق، فمن تذهب لوحدها تعتبر لا أخلاقية، عديمة الشرف. لا تنسي أن شرف الإنسان في خلقه. إن أردت نقودا اتصلي بي وسأرسلها لك في الحال واحذري من العمل في بلاد الخبث والفساد وآمل أن تضعي دوما- بإذن الله وتوفيقه نُصب عينيك أن الفتاة المسلمة في بلاد الإفرنج، ينبغي أن تكون قُدوة للآخرين، ومثالا لدينها العظيم ... جَمِيلٌ تحصيل العلم، فقد قال رسولنا صلى الله عليه وسلم أطلبوا العلم ولو في الصين، ولكن لا تنسي حفظك الله أن الأخلاق القويمة أهم من العلم، فماذا ينفع يوم القيامة علم رجل أو اِمرأة فاسدة. أوصيك بتقوى الله، فمن يتقي الله يجعل له مخرجا من حيث لا يحتسب. أوصيك بالمحافظة على سنن رسوله، وأن تكوني نبراساً مضيئا، يقول لأولئك الكفار، نأخذ من علمكم اليوم، ما أخذتموه من علمنا بالأمس. وإن غدا لناظره لقريب" آه يا أبي يا سلطاني لو رأيت مشهد الشرطة يداهمون المطعم الذي تشتغل فيه ابنتك الغالية، مازلت أحدث نفسي حتى رأيت كل من يشتغل في المطبخ مجتمعين مشكلين حلقة وواحد منهم يصرخ باللغة الأسبانية:

_ الإسعاف ... بسرعة الإسعاف ...

أسرعت إلى ذلك الحشد لتتفقد ماذا يجري فإذا بها ترى لوتشو ملقى على الأرض والسكين مغروس في صدره والدم ينزف منه كالخروف المذبوح. اسودت الدنيا في عينيها، لم تصدق ما رأته، تحس وكأنها تحلم، كابوس تمنته أن يكون عابرا لكنه كان حقيقة. لوتشو ينظر إليها يحاول أن يمد يده إليها، تقع يديه على الأرض ويغيب عن الوعي. لم تفهم شيئا، لماذا لوتشو؟ لماذا مداهمة الشرطة للمطعم؟ لماذا أناس يغامرون ويضحون لأجل لقمة العيش؟ لماذا الشرطة تداهمهم؟ لماذا لوتشو يتعرض للطعن بسكينة في بطنه؟ لماذا العنف والإجرام في هذه ال أمريكا ... إنه الإرهاب بأم عينيه. هل هذه الحياة التي أريدها لنفسي.؟ هل هذه هي الحرية التي أتمناها؟ إنها حرية إرهاب في إرهاب. حرية العنف وحرية الإجرام. تراجعت بخطوات إلى الوراء، تاركة ذلك الحشد يحوم حول لوتشو فأطلقت عنان رجليها للريح، تجري في شوارع نيويورك، تائهة في صحراء نيويورك وأزقة صحراء نيويورك إنها أوحش من صحراء الجزائر وليبيا وهي التي تحس بأن داخلها مفقود وخارجها مولود. تبكي وتلهث من شدة التعب. لابد أن أغادر هذا البلد. إلى أين سأذهب؟ نزلت إلى مترو الأنفاق وركبت القطار الذي يؤدي إلى الحي الجامعي. كانت تحس باختناق في صدرها وصورة لوتشو وهو ملطخ بالدم لم تفارق عينيها. ترى الركاب ينظرون إليها. أحست بعداء وإشفاق عليهم في نفس الوقت. إنهم يسكنون في نيويورك، في أمريكا، في جهنم، في عالم الحرية المزيفة، في وهم عملاق، الدولار، الترف، السرعة، القتل، الاحتيال، النهب، السرقة، العنصرية، المخدرات، الخلاعة، الجنس الإباحي، إنها الحرية والحضارة الأمريكية. القطار لوتشو، مسكين لوتشو. مات لوتشو. نزلت غالية من المترو ومازالت تهذي في يقظتها وتبكي، وقفت أمام باب غرفتها تحاول فتح الباب بيدين مرتجفتين، تسمع صوتا يناديها. التفتت إنه أنطون.

_ هالو غالية ... بحثت عنك في المكتبة فلم أجدك.

أجهشت بالبكاء ...

_ ماذا بك يا صديقتي ... لماذا تبكين؟

_ لوتشو ....

_ ماذا به لوتشو؟

_ مات لوتشو ... مات لوتشو ... قتله المجرمون.

_ اهدئي وأروي لي بالتفصيل ماذا جرى؟

_ كيف أهدأ ولوتشو مات؟ وماذا سأروي لك؟ لا أعرف شيئا، لم أفهم شيئا، غيرت ملابسي، نزلت من السلم فإذا بي أرى الموظفين يحومون حوله ويصرخون مات لوتشو ...

_ مهلا غالية لم أفهم شيئا. لا أستطيع استيعاب ما تقولينه. غيرت ملابسك، نزلت من السلم، مات لوتشو. أين كنتما؟

_ أين سنكون؟ في المطعم الإيطالي الذي نشتغل فيه. لم أستطع أن أرى جثة لوتشو هامدة على الأرض تركته ملقى والموظفون من حوله. لا أعرف أي شعور كان يعتريني تلك اللحظة. لم أر قط ميتا في حياتي ومطعونا بالسكين.

_ اهدئي سأذهب لأتفقد الأمر.

_ لا تتركني وحدي ... إنني خائفة ...

_ خائفة من ماذا ؟

_ من كل شيء.

_ لن أتركك سأتصل هاتفيا بالمطعم لأتفقد الأمر. سأرجع إليك حالا.

تركها في غرفتها، أحسست بوحدة قاتلة، تنظر إلى جدران غرفتها وخزانة كتبها وسريرها، إلى زوايا الغرفة وتبكي تراها كزنزانة في الحي الجامعي، في نيويورك، في أمريكا. رجع أنطون بعد نصف ساعة تقريبا والفرحة على وجهه.

_ غالية، لوتشو لم يمت. إنه في المستشفى. غدا سنزوره.

فتحت عيناها المغرورقتان بالدموع وقفت بسرعة واتجهت إلى أنطون تقبله فرحة.

_ لوتشو لم يمت. لوتشو على قيد الحياة. كيف أردّ لك هذا الجميل

_ هل أنا الذي أنقذته؟ إنها مشيئة الرب.

_ أعني.... إنك طائر الأخبار السارة... إنك ... إنك ...

أجهشت بالبكاء.

_ لا تقولي شيئا يا غالية اشكري الله.

غادر أنطون غرفتها أما هي فاستلقت على سريرها تحاول أن تنسى ذلك المشهد. ما كادت تغمض عينيها حتى سمعت طرقا على الباب فإذا بها تسمع صوت إنجل

ـ افتحي يا غالية ليس هناك من أتحدث إليه سواك.

وبمجرد أن فتحت الباب حتى حضنتها وهي تبكي. دهشت لمنظرها الذي كان يرثى له.

ـ صديقاتي يا غالية. كنت معهن في حفلة عيد ميلاد. شاب يقرب إيميلي قدم لي كأسا من النبيذ ولم أشعر بنفسي إلا عندما فتحت عيني، عارية في سرير وأمامي رجل يمسك ملابسي بإبهام وسبابة يديه متأففا، صارخا في وجهي: أخرجي من بيتي أيتها الغانية وإلا ناديت الشرطة. لم يكن في البيت أحد إلا ذلك الرجل وكأن الأرض بلعت كل من كان في الحفل.

جلست على الأريكة ترتعش وتبكي. جلست غالية بقربها تهدئها. نظرت إليها والدموع تنهمر كالسيل من عينيها. أخرجت صورا من حقيبتها وضعتهم على المائدة وقالت بحدة.

_ أنظري ما حصل لي. لم يكتفوا باغتصابي، بل صوروا جرمهم ولا أستطيع إبلاغ الشرطة خوفا من أبي. لا أعرف ماذا أفعل. لا أعرف. غالية إنني أحترق، أتألم، أحس نفسي أداة رخيصة، أحس بتأفف من جسمي الذي استعمله الأوغاد وكأنه كرسي الحمام. أنا ... أنا ...لا شيء ... أصبحت لا شيء ...

كانت تبكي بألم وغالية مذهولة حزينة لما تسمعه.

ـ كم تمنيت أن أذهب إلى الشرطة الآن وأبلغ عنهم. لكنني، لا أستطيع. سيؤثر ذلك على أبي. إنه مرشح لمنصب سيناتور. حتما إن علمت الصحافة بالخبر ستنشره وذلك طبعا ليس في صالح والدي.

ـ هل وظيفة أبوك أهم مما حصل لك الآن؟

ـ غالية أعرف والدي جيدا. أبي منغمس في عمله السياسي وأمي دائما مشغولة عني بالسفر وبعلاقاتها الاجتماعية.

شهقت بالبكاء وأضافت بصوت مخنوق لا أتمنى في هذه اللحظة إلا أخي هو الوحيد الذي كان صديقي. مات في حادثة سير. كان ناقما على أبي، ركب سيارته، كان مخمورا مات ومات من صدفهم بسيارته. فاجعة حتى الآن تحرق قلبي. إنني أحس بالوحدة القاتلة لذلك انسقت مع من حسبتهن صديقاتهن.

ـ الصديق يا انجل هو من يصدق العهد والوفاء. يمكنك أن تعتبرينني صديقة وأختا.

ـ سامحيني جالية، نحن اللواتي كنا نلقبك أحيانا بالراهبة وأحيانا أخرى بالمكبوتة.

كان وجهها شاحبا، ابتسمت إليها وربتت على كتفها، مقترحة عليها أن تنام في سريرها. وبمجرد ما أن استلقت على السرير حتى خلدت للنوم كطفل الصغير. كانت غالية تتأملها وتحدث نفسها المتوجعة لهذا العالم المليء بالظلم أينما حل الإنسان أو ارتحل. إن كانت هذه الفتاة وجهت بالطريقة الصحيحة من طرف والديها ما كان حدث لها ما حدث. ولو كان والداها قريبين منها، صديقين لها لما حصل لها ما حصل. كم كان قلبي يعتصر لحالها، ولحالي، للكثيرات اللواتي يذهبن ضحايا المجتمع الذي لا يرحم.

ــــــــ 0 ــــــــ

انتهى الفصل الدراسي الثاني ورجع لوتشو إلى حياته الطبيعية وإلى الجامعة. توطدت علاقتي به أكثر فأكثر. لم يعد يستفزها بكلامه ولم يعد يمزح معها ذلك المزاح الثقيل وكانت تحس بسعادة لا توصف لنجاته من الموت. زارها في غرفتها ومعه أنطون. وأخيرا رجع لوتشو إلى أصدقائه لا تعرف ماذا كان سيحدث ولو مات ربما كان ذلك البصيص من الآمال الذي يرفرف في قلبها سيموت معه.

_ هالو my friend girl جئت لأسلم عليك ما رأيك في أن نخرج إلى المدينة ونتجول قليلا، تتعرفين أكثر على معالمها.

_ شكرا إنها فعلا فكرة جيدة ...هيا.

ودعنا أنطون واِنطلقنا إلى مترو الأنفاق، أوصلنا إلى مركز مدينة نيويورك، أمشي بجانبه، لم يترك يدي تتحرر من يده. نضحك ونمزح، أطير فرحا وبراءة، نقطع إشارة المرور، نركض كمراهقين على أبواب الزواج وربما ليلة الدخلة. يا إلهي لماذا تلاحقني فكرة ليلة الدخلة وكأنها كابوس النهار والليل،كابوس يلاحقني ولو في هذه النيويورك. تنهدت قائلة: نيويورك... التفت إلي وهو يبتسم ...

_ نيويورك ...

_ نيو يورك مدينة جديدة بمعنى الكلمة ... تشع بريقا وتألقا ... جديدة ... New ولكن لماذا يورك؟

_ لا أدري ... هكذا عرفتها Newyork ...

أرادت أن تستعمل معلوماتها البسيطة رغم عدم تأكدها منها، فقالت له وهو يسحبها نحو مباني الأمم المتحدة:

لوتشو يا جاهل. يورك نسبة إلى عائلة يورك الملكية البريطانية. ألم تكونوا مستعمرة بريطانية أيها الأمريكان المفترين على العالم الآن!

_ آوه ...جالية ... ماقلته قريب من المنطق. أعني يمكن أن يكون صحيحا. يورك العائلة الملكية البريطانية في القرن الخامس عشر ولكن تذكري أننا طردنا الإنجليز. صحيح أنها دولة عظمى لكنها تدور في فلك السياسة الأمريكية، وتتبعنا كما يتبع الكلب الوفي صاحبه.

_ لوتشو ما قلته صحيح فعلا. ألم تسمع في بريطانيا كلبكم الوفي بمدينة Yorkshire وبالنسبة لها يسمونه الكعكة Yorkshire pudding وعندهم كلب إنجليزي مشهور أكثر من شهرة بريطانيا العظمى اسمه Yorkshire terrier كلب قصير القوائم، طويل الجسم، حريري الشعر.

_ جالية لماذا معلوماتك ودخلا مبنى الأمم المتحدة ... غزيرة عن الإنجليز وكلابهم؟ لا تواصلي الحديث في الموضوع، فيسمعك مندوب بريطانيا في مجلس الأمن، فيستدعيك للتحقيق، وربما يقيم تحالفا بقيادة أمريكا ضدك.

_ لا تخف لوتشو أليس بلادكم رمزا في العالم بأسره لحرية الرأي والتعبير في العالم، ثم أني لا أخاف إن كان ذلك التحالف بقيادة أمريكا فنحن في المغرب من أصدقاء أمريكا المقربين.

كانا يمشيان جنبا إلى جنب والفرحة لا تسع قلبها. لوتشو ينجو من الموت ويرجع إلى الحياة وإلينا. تعودت على مزاحه. تنظر إليه أحيانا وأحيانا أخرى إلى شوارع نيويورك هذه المدينة المتألقة ببناياتها الضخمة. ناطحات سحاب تعانق السحاب فعلا. عند مرور بعض السحب والغيوم المنخفضة لا تشاهد طوابقها العالية. مترو الأنفاق عالم قائم بذاته. محطات تحت الأرض تغص بآلاف المسافرين كل دقيقة، وفيها دكاكين وأكشاك صغيرة، مطاعم كبيرة، تلتفت يمينا وشمالا، تنظر إلى المارة، تتأملهم، يبحلقون في وجهها وجسمها. لوتشو يعلق مجاملا: لأنك شابة وجميلة وهي تحاول تصديق ذلك ولكن تطرد هذه الفكرة للحظات وتقول له: ربما وربما لأن وجهي ليس أشقرا مثل وجوهكم يضحك ويقول: لا أعتقد فعندنا الملايين من الأمريكيين من أصول إفريقية ومنهم آلاف الجميلات المتزوجات من أمريكيين شقر ومنهن آلاف المشهورات في عالم الفن والموسيقى وعروض الأزياء هل سمعت بمايكل جاكسون إنك أكثر بياضا منه. سحبها من يدها، نقطع إشارة المرور ...

_ لوتشو ...أنا جائعة ...

_ جائعة لي ...

_ بدأت في المزاح الثقيل ...

_ جائعة للطعام.

_ ما رأيك في أن نتغذى بإحدى المطاعم المجاورة؟

_ المهم لا تكون expensive ... لأنني لست ثرية كما تعتقد وكما تناديني.

_ غالية يمكنني أن أبحث لك عن عمل ...

_ لا يا لوتشو ... لن أشتغل بعد ما حصل لك ما حصل ...

_ ماذا حصل ... لم يحصل شيئا ...

_ طُعنت بالسكين وكنت ستموت وتقول لي لم يحصل شيئا.

_ إنها نيويورك يا غالية. هنا الإنسان يتعرض لأي شيء. طعنة بسكينة، طلقة بالرصاص أو ...

_ لا تكمل ... هذه ال نيويورك وكل أمريكا بلد مخيف. بلد الرعب والإرهاب وأنا التي رسمت لها صورة مثالية في ذهني. أحيانا أفكر وأتصرف بغباء.

دخلا مطعما من سلسلة مطاعم Mcdonald الشهيرة في عالم ساندويتشات الهامبرجر. أخذا ما يريدان من الساندويتشات وشرائح البطاطس والكولا، وجلسا في زاوية تعج بالمدخنين والمدخنات. تذكرت الإمام سلطان وقالت في مخيلتها: آه ... والله لو رآكن سلطان، لأطفأ السجاير في جباهكنّ.

وهما يأكلان ويشربان الكولا سألها لوتشو:

_ هل تعرفين مصدر اسم Mcdonald ؟

_ لا ... لم أفكر في ذلك سابقا ...

_ سأعطيك معلومات، كما أعطيتني عن اسم نيويورك... وأردف مازحا:

_ جالية ... يا جاهلة اسم عائلة أمريكية، هي أول من فكرت في الأكلات الخفيفة السريعة وفتحت أول مطعم من بداية القرن العشرين، ثم انتشرت مطاعمها داخل أمريكا وخارجها. وهي الآن عشرات الآلاف من المطاعم تحمل نفس الاسم ... أما Hamفهو بمعنى لحم و Burger تعني شريحة أي الساندويتش المكون من شريحة مقلية أو مشوية ... هل فهمت يا جاهلة؟!.

_ مايكل أنت الجاهل ليس فقط باسم مدينتك ولكن بأشهر أكلاتها.

_ نعم، أتحفينا بمعلوماتك يا تحفة المغرب!

_ اسمع يا عبقري الأمريكا. Ham هو حام في اللغة العربية، وهو أصغر أبناء نوح. وبورغر صحيح تعني شطيرة ... ولكن مع بعض Hamburg، فالسبب في التسمية عائد إلى أن أول من صنع هذا النوع من الساندويتشات، كان مواطنا ألمانيا من مدينة Hamburg، فسماه على اسم مدينته. ضحك لوتشو وهو يبلع آخر لقمة وقال:

_ تفسير stupid and cheep

عند وصولهما إلى مقر سكنهما في المدينة الجامعية، استوقفها لوتشو وسألها:

_ هل تنامين عندي في غرفتي أم أنام عندك في غرفتك؟

_ لا هذا ولا ذاك كل ينام في غرفته.

_ لأنني لا أرتاح إلا وحدي في غرفتي.

_ هل تخافين مني ... هل سآكلك ... لم يعد في المدينة ديناصورات!

_ لا أخاف منك ... لكن ديننا يحرم علينا ذلك ...

_ لا تكملي تعيشين في تقاليدكم أم في نيويورك ...

_ لا أعيش في نيويورك ولكن تلبسني تقاليدنا ...

_ آسف ... سؤال أخير: هل يمكن في تقاليدكم أن تتزوج الفتاة المسلمة من شخص مسيحي مثلي.

_ لا ... المسلمة لا تستطيع حسب تقاليدنا، وغير مسموح لها الزواج من مسيحي، ولكن الرجل المسلم مسموح له الزواج من امرأة مسيحية ...

_ لماذا هذه التفرقة ... دينكم عنصري ... دين رجالي ...

_ لا ... لوتشو ... ديننا ليس عنصريا، فهو لكل المؤمنين والمؤمنات من كل الألوان وهو للذكور والإناث ولكن في هذه النقطة، ترى تقاليدنا أن المرأة في الغالب تابعة لزوجها، فإن تزوجت المرأة المسلمة من رجل مسيحي، يظل واردا إجبارها وإكراهها على ترك دينها الإسلامي، والالتحاق بدين زوجها المسيحي، وهذا عندنا ارتداد عن الدين، يفسر البعض عقوبته بالموت. أما إن تزوج الرجل المسلم من إمرأة مسيحية، فهو لا يجوز له أن يجبرها على ترك

دينها مسيحيا كان أم يهوديا، والالتحاق بالإسلام: إن آمنت واعتنقت الإسلام طوعا، فهذا مكسب للإسلام. وأذكر أن رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم، من ضمن زوجاته واحدة مسيحية وثانية يهودية.

_ هذا موضوع طويل يا لوتشو نتحدث فيه غدا ... متعبة ... سأذهب لأنام

_ عندي في غرفتي ...

_ لوتشو بعد كل هذه المحاضرة، وتسأل: عندي في غرفتي؟ لا ... وحدي في غرفتي مع السلامة، تصبح على خير.

وبمجرد ما أن وصلت إلى غرفتها حتى تفاجأ بإنجل الذي كان منظرها نحيلا جدا ووجهها شاحبا وعينيها جاحظتان حتى كادت أن لا تعرفها. كانت تبكي:

ـ أحتاجك يا جالية إنني في أمس الحاجة إليك. أعرف أنني اختفيت عن الجامعة وابتعدت عن كل من أعرفهم وذلك ليس بيدي. لقد كنت في المستشفى. لم يعد لي أمل في هذا الوجود. كل من كنت أعرفهم ويتقربون مني أصبحوا يبتعدون عني حتى أنطون صديقي الحبيب، تركني. لم يعد لي أحد ... آه... يا جالية! حتى والداي، ينظران إلي شفقة.

ـ ما بك انجل ... ما الأمر ....!؟

ـ إنني مصابة بعدوى الإيدز

بمجرد ما سمعت كلامها حتى أصبت بدوار في رأسي، وبرعب في قلبي، بنفور من هذه ال أمريكا، بخوف من الاقتراب منها، بظلام من حولي، بكابوس سري الخطير الماثل أمامي، بسكين أبي مغروسا في صدري، بشبح انجل يتمايل أمامها، بروحها المكتظة بالفراغ. كيف تواسيها وهي بداخلها رعب وخوف من مرضها الذي لم تسمع عنه إلا في وسائل الإعلام. كانت ترتعش تحاول أن تضبط نفسها التي لم تعد تحتمل الصدمات. لا بد أن أكون حذرة لكي لا ألفت نظرها بأنني خائفة. لابد أن أقف بجانبها مهما كلف الأمر. هكذا علمني ديني، أن أقف مع المحتاج كان مسلما أو غير مسلم ...

ـ تفضلي انجل أنا معك وسأظل بجانبك. ألم أقل لك أني أصبحت صديقة وأختا؟

نظرت انجل إليها بعينين غائرتين ينمان على الاطمئنان إليها.

ـ إنني أعيش في حالة نفسية سيئة جدا ... إحباط ... ويأس ... وفقدان الأمل في الحياة.

لم تكن غالية تعرف ماذا ستقول لها ولا كيف ستواسيها، ليس عندها إلا أن تقول لها ما يسعدها هي وما يواسيها. ربما تسعد هي أيضا وتتحلى بالصبر.

ـ اسمعي يا انجل الرجوع إلى الخالق هو الحل الوحيد في الكون لحالة اليأس وهو الذي يستطيع أن يخفف من آلامك وحزنك. بحب الخالق ستساعدين نفسك على تحمل الألم والصبر على المرض. لأن رحمته وسعت كل شيء.

سألتها بخوف ورجاء: ساعديني يا غالية. أتوسل إليك، فأنا فأعيش جحيم ضميري الذي يعذبني على تصرفاتي التي أدت بي إلى ما أنا عليه.

ـ اسمعي أيتها الأخت الحبيبة. عندما تعلمين أن الصبر والألم على المرض له ثواب، كما أن ما من مؤمن بالخالق شاكته شوكة واحتسب هذا الألم البسيط جدا عنده إلا وأحس بطمأنينة في نفسه وروحه. فما بالك بإنسان، تعيش مع مرض قاتل، مؤلم، يفقد الإنسان أمله في الدنيا.

واستحسنت الفضول انجل أن تعرف المزيد وقالت:

ـ لم أر أحدا يمنعك أن تمارسي الجنس وتمارسين الأشياء التي نمارسها نحن كشرب الخمر والسهر في الملاهي. إنني لم أر معك رقيبا أو أي مانع يمنعك عن ذلك.

_ إن الإيمان بالخالق يزرع فينا الضمير الإنساني الذي يمنعنا من ارتكاب الخطأ.

_ لكن الحياة هنا فيها المتعة وأنت تمنعين نفسك منها.

ـ الإيمان بالخالق ومرضاته بأن أمنع نفسي من المتعة وإن كان فيها العذاب النفسي. وهناك صراع بيني وبين شهوتي ورغبتي إلا أن هذا الصراع وهذا العذاب الذي محصلته ألا أفعل الخطأ ولا أتبع شهواتي ورغباتي تكون فيها سعادتي.

ـ لكن لماذا يحرم دينكم الجنس إلا مع الزوج؟

ـ أغلب الأديان ترفض الجنس الغير الشرعي. عندما يكون الجنس مشاعا بين الرجال والنساء يؤدي إلى الأمراض القاتلة.

ـ أليس دينكم يكبت حرية الإنسان؟

ـ الحرية دون وجود الأخلاق والمبادئ تؤدي إلى انتهاك الحرية الحقيقية. لكن الحرية بالمفهوم الغربي، ليس هناك شيء يردع المرأة من السهر وممارسة كل ما هو عاقبته وخيمة باسم الحرية. لكن، هذه الحرية التي ليست منضبطة بالأخلاق والمبادئ تؤدي إلى انتهاك حرية أعظم من حرية حركة المرأة وحرية اختيارها لسلوكها، فتنتهك حرية إنسانيتها ويُعتدى على حرية وجودها، تُنتَهك حرية حقها في ألا تعطي جسدها لأي إنسان فتكون النتيجة الاعتداء وأخذ منها هذا الحق عنوة وقهرا واغتصابا.

تأثرت انجل من كلام غالية واقتنعت أن العلاج الوحيد لحالتها هو الرجوع إلى الخالق الذي وسعت رحمته العالمين.

ـ هل تعرفين يا انجل لماذا وقفت إلى جانبك؟ ألم تسألي نفسك لماذا أنا الوحيدة التي وقفت إلى جانبك ولم أخف منك ولم أتخلى عنك. أنا مثل كل الناس لماذا لم أخذ منك موقفا كباقي أصدقائك وحتى أقرب الناس إليك، أهلك. تعرفين يا انجل لماذا! لأن الإيمان القوي بالخالق يجعل قلوبنا نقية كريمة تقف إلى جانب المحتاج وألا نتخلى عنه ومد يد المساعدة له.

رجعتانجل إلى الخالق بعدما كانت بعيدة عنه فأصبحت تعيش حياتها بشكل طبيعي ولا تفكر بالانتحار أو نقل المرض للغير انتقاما. شعرت غالية بسعادة لا توصف، حيث أنها استطاعت أن تجعل من صديقتها اليائسة تحب الحياة. أخبرت غالية أباها بقصةانجل الذي ردّ عليها في رسالته.

إلى ابنتنا البارة غالية

إلى غاليتي ....غالية النفس والأحوال شاهدة ... بأنك تبلغين المنى وما تردي ...

كم فرحت لسماع خبر هداية تلك الفتاة ... اعلمي أيتها البارة ...إن لك في ذلك أجرا من الله عظيم.

أنا لست مستغربا من رجوع تلك الفتاة إلى طريق الرحمن. لأنني اعرف من هي ابنتي وأعلم تربيتي لك التي لم تذهب سدى. بك أفتخر يا قرة العين ورضاي عليك أينما حلّيت وارتحلت.

أبوك سلطان

فرحت غالية جدا برسالة أبيها. فرحة منتقصة أعادت إليها ذلك الحزن المكتوم الذي يسكنها وذلك الرعب من السر الخطير، الذي لا يفارقها ليلا أو نهارا. غالية التي أصبحت الآن تخفف آلام الناس والتي استطاعت أن تخرج انجل من آلامها، لكن من يستطع أن يخرجها من مأساتها؟ من يستطع أن يعيدها إلى بيتها ووطنها دون أن تخاف من يوم الزواج، اليوم الذي ستلقي فيه حتفها.

ـــــــ 0 ــــــ



بدأ الفصل الدراسي الثالث بسهولة ويسر بالنسبة لها لغتها الإنجليزية بلكنتها الأمريكية أصبحت متقنة مِطواعة. لها أصدقاء وصديقات عديدون من جنسيات مختلفة. تعرفت بشكل دقيق على مرافق الجامعة وأصبحت تعرف أكثر عن تفاصيل مدينة نيويورك. كانت أوضاعها المادية تزداد ترديا، اقترح عليها أنطون أن تشتغل معه.

_ أنطون ... لا أصدق أبوك يعمل سفيرا هنا وأنت تشتغل.

_ ما الغريب في ذلك؟ العديد من الطلبة والطالبات الأمريكان، يعملون ساعات في اليوم قبل دوام الجامعة أو بعده ليلا وفي أيام العطل أعمالا مختلفة، غسل الصحون في المطاعم، تنظيف الغرف وحمل حقائب الزبائن في الفنادق، غسيل السيارات، توصيل طلبات الأكل من المطاعم إلى المنازل، تنظيف شقق وبيوت الميسورين من الناس، أعمال في عُرفنا وضيعة، يخجل منها حتى الفقراء. أعمال عادية لا يخجل منها أبناء الميسورين هنا في نيويورك.

_ لكن أنت لست أمريكيا.

_ اسمعي يا صديقتي الغالية هنا نادراً ما تجدين شابا أو فتاة تجاوز العشرين عاما من عمره ويعتمد على أهله أو عائلته اقتصاديا. يأخذون قروضا من الحكومة ويدرسون وعندما يتخرجون ويعملون، يبدأ ون في تسديد القروض بالأقساط أو يعملون ليلا ويدرسون نهاراً. إنهم يضحكون من أعماقهم عندما يعرفون أن غالبية طلاب المشرق والمغرب من العرب، تجاوزوا العشرين والخامسة والعشرين عاما، ويدرسون في إل أمريكا هذه، على نفقة أهلهم وعائلاتهم وبعضهم يحضر للدراسة مع زوجته وأطفاله ويأتيهم مصروفهم ونفقاتهم من أهلهم. هذه الأمور عند شعب العالم الجديد من أدب الخيال أو أدب اللا معقول!

ساعات طويلة تفكر، تتأمل في عاداتها وعاداتهم، تقاليدها وتقالديهم. لماذا نحن إتكاليون وهم منتجون؟ لماذا هم يتقدمون ونحن نتخلف؟ يا الله كم هي كارثة! عدة قرون مضت وما زلنا نعيش على أمجاد الماضي ومن يبعث هذا الماضي وقد أصبح في ذمة التاريخ. ماذا يفيدنا التغني بتلك الأمجاد؟ آه ... يستطيع هذا الغرب أن يُعيد حياتنا للعصر الحجري إن هو أوقف تصدير منتجاته وصناعاته لنا. تخيلت الكارثة الحقيقية، هذا الغرب يستطيع خلال ثلاثين عاما أن يجعلنا قطعانا من الأميين إن أوقف عنا صادرات ماكينة الطباعة والحبر والورق. حتى قرآننا الكريم يطبع على آلات طباعة غربية. كيف كنا سنتداول هذا القرآن، لو أوقفوا عنا آلات الطباعة وهل هي هذه الكارثة فقط. فنحن مجتمعات تعيش في الكارثة في أغلب ميادين حياتها. حتى الخبز أغلب دولنا تعتمد على القمح الأمريكي والكندي والأسترالي. لماذا أصبحنا مجرد أفواه تأكل وآذان تخاف من كلمة الحق.



ـــــــ 0 ــــــــ

انتهى الفصل الدراسي الثالث. تمكنت من اللغة الإنجليزية/الأمريكية. زادت معرفتها بالمجتمع الأمريكي من الداخل. لها أصدقاء كُثر من جنسيات مختلفة. أمريكان، إنجليز، برازليون، لبنانيون، أمم متحدة. ألست فى نيويورك ملتقى أحلام البشر؟ لا بد من البحث عن عمل إن رغبت فى الاستمرار في دراستي الجامعية. وضعي الاقتصادي يزداد تدهوراً، كاقتصاديات العالم الثالث عشر. سألت أنطون:

_ أين أشتغل ...

_ معي في مطعم لبناني ...

_ مطعم! لم أعد أرغب في العمل بالمطاعم بعد الحادثة التي تعرض إليها لوتشو.

_ لا تخافي أولا هذا المطعم لا يوظف أناسا من غير إقامة كما أن كل المشتغلين هناك لبنانيون من حملة الجنسية الأمريكية.

ذهبا إلى المطعم اللبناني. مطعم أنيق، شرقي، عربي أحست وكأنها في بلد عربي أو في لبنان صوت فيروز العذب يرن في أرجاء ذلك المطعم. ذهب أنطون يتكلم مع صاحب المطعم بشأن توظيفها. كانت تنظر إلى الزبائن أغلبهم عائلات عربية ولبنانية أحسست وكأنها في المغرب. المغرب، شعرت بالحنين إلى ذلك البلد الذي ولدت فيه وترعرعت، وبالحنين إلى أهلها وخصوصا عمتها صفية. إنسان لا يمكن أن تنسى. كانت لها عمة وخالة وأب وأم. كانت خط دفاعي الأول والأخير، أمام هجمات والدتي وغارات والدي. أحيانا كثيرة بنظرة واحدة منها، يتوقف والدها عن هجومه الشرس عليها. وأحيانا تلوي يد أمها وتبعدها عنها قبل أن تمتد يدها نحوها. قطعت شريط ذكرياتها، مع وصول النادلة بابتسامتها قدمت لها كوبا من العصير وانصرفت. رجع أنطون ومعه صاحب المطعم.

رجل أشقر طويل في الخمسينات من عمره ممتلئ الجسم، نظر إليها أنطون وقال: السيد إلياس صاحب المطعم. صافحته وجلسا حول المائدة. ثم دار النقاش بينهما حول سياسة لبنان وهي تستمع إليهما وتتدخل رغم جهلها في سياسة البلد مستعرضة معلوماتها البسيطة. بعد ساعة تقريبا نهض صاحب المطعم من مكانه مبتسما وقال:

_ غالية مرحبا بك عندنا وغدا تبتدأين في عملك.

_ ما نوع العمل الذي سأقوم به؟

_ ستشغلين نادلة فالمطعم يحتاج لفتيات جميلات وفي سنك.

شكرته خجلة وغادرت المطعم. كانت سعيدة بهذه الوظيفة التي ستحسن شيئا ما من أحوالها المادية.

لامارا 15-11-13 07:15 AM

الفصل الخامس عشر الجزء 3
 
الفصل الخامس عشر الجزء 3

في صباح اليوم التالي وكان يوم الجمعة بعد انتهاء المحاضرة ذهبت مباشرة إلى المطعم. كان يعج بالزبائن عربا وأمريكان. كانت مرتبكة خجلة لكنها استوعبت بسرعة طريقة العمل. في الساعة السابعة قدمت مجموعة من الشبان يرتدون زيا موحدا، حاملين آلات موسيقية في أيديهم سألت إحدى النادلات عن أمرهم فقالت إنه الفرقة الموسيقية التي تعزف الموسيقى أيام الخميس والجمعة والسبت. بدأ العزف والطرب والغناء ثم دخلت بعد ذلك راقصة من باب المطعم بفستانها شبه العاري وجسمها الأبيض الفتان يظهر أجزاءه من كل فتحة في الفستان ... ترقص ورواد المطعم يصفقون وينظرون إليها بشهوة وإعجاب لرشاقتها وخفتها وجمالها ورقصها والنساء كن ينظرن إليها بإعجاب وامتعاض. وغالية تلتفت يمينا ويسارا خجلة وخطب سلطان وتهديده بجهنم يلاحقها أينما حلّت حتى لو سكنت في داخل ... في جوف تمثال الحرية ... فالحرية ... ليست مجرد كلمة...فكرة ... إنها قناعة أولا، ثم تصبح ممارسة وسلوكا. فهل هناك شاب ... رجل ... أب عربي لا يدّعي إيمانه بالحرية والديمقراطية؟ ولكن عند الممارسة يرتد أغلبهم إلى جاهليته الأولى. جاهليته الأولى كانت تئِد الأنثى فور ولادتها، لأنها خزي وعار. وجاهليته العصرية الحديثة تئد فكر الأنثى وعواطفها وأجزاء من جسمها، بظرها ولسانها. فماذا يتبقى منها؟ مجرد كائن حيّ يمشي على قدميه ولو شاء لو إستطاع الرجل العربي، لجعلها تمشي على أربع فهي عنده مجرد آلة لتفريخ عدد من الأولاد والبنات، ينشأون ضمن نفس الثقافة. الولد يكبر ليمارس جاهلية والده مع أنثى كبرت لتعيش معاناة والدتها. يا إلهي لو رآني سلطان أشتغل بمطعم نادلة... مليئة بالرجال والراقصة شبه عارية تحوم من حولهم تتغنج، حتما سيتبرأ مني. لكن ما ذنبي أنا؟ كل ما أريده هو أن أشتغل وأعتمد على نفسي والإستقلال بذاتي. أبني مستقبلي من غير تبعية وأؤمن مصروفي اليومي، والإستمرار في الدراسة، أو الدخول في متاهات، أخطرها العودة الإجبارية لجنة الإمام سلطان وجحيمه، ترغيبه وتهديده، والأخطر من ذلك العودة لعرضي في سوق الزواج الإجباري لأول طالب، فأنا بالنسبة لهم سلعة تقادم عليها الزمن، لا بد من بيعها قبل انتهاء تاريخ صلاحيتها وكلما مرّ عام دون التمكن من بيعي، يتراجع عدد المشترين. أساساً الإقبال على سلعتي ما عاد كالسابق. ألم أتجاوز سن العشرين؟ إن السن المثير للمشترين هو ما بين الرابعة عشرة والثامنة عشرة ... السلعة. الفتاة غضة طرية ... نضِرةُ مثيرة ... لا تستطيع النظر في عيني المشتري ... تفهم حاجته ورغبته، وهو فارس من فرسان العرب، يحرثها كيفما أراد وعندما يصل إلى غايته، يتمدد قربها نائما يعلو شخيره إلى السماء السابعة ولم يخطر على باله مجرد التفكير، هل هذه السلعة البشرية، حصلت على غايتها، وصلت إلى متعتها أم لا. ولماذا يفكر؟ هل هو فكّر أساسا أن لها حاجة للذة والرغبة والإثارة والمتعة مثله؟ هي بالنسبة له جهاز للاستقبال ... سوائله وحيواناته المنوية وكافة أنواع زبالته وعليها احتضانها وتفريخها أطفالا لا حصر لعددهم. لا يفكر أساسا هل هو قادر على إعالتهم بمستوى حياتي كريم أم لا؟ هل هو قادر على تعليمهم أم لا؟ فهم عنده أيضا مجرد عدد، يتباهى به وإن كانوا ذكورا فهذا أفضل. والوضع في حالة سلعتي محفوف بالمخاطر. فما أدراني ما هي تلك النقاط الحمراء التي شاهدتها على لباسي الداخلي وأنا في سن السادسة تقريبا؟ هل هي من دماء غشاء البكارة الذي كلما أتذكره أصاب بالغثيان والدوار. الآن وأنا حرة في التفكير في هذه الأمريكا ومن قراءتي للعديد من المجلات العلمية، عرفت أن هناك فتيات ينزفن دما من ذلك المكان، دون أن يمسهن أحد، أو يعبث أحد ببكارتهن. ولكن من يصدّق ذلك في منزل السلطان ... الإمام سلطان ومحيطه، كيف يصدّقون ما قرأته أن بعض الرياضات، كركوب الخيل من الممكن أن تُفقد الفتاة غشاء بكارتها ويسيل دم هذه البكارة على ملابسها الداخلية. وربما تدري وربما لا تدري. كيف يصدّق الإمام سلطان، وهو الذي يتغنى ليلا ونهارا بالحديث علّموا أبناءكم ركوب الخيل ... كيف يصدّقون ما قرأته في كتاب علمي متخصص لأساتذة ثقاة، أن هناك فتيات يلدن ... يخرجن من بطون أمهاتهن بدون غشاء بكارة؟ نعم بدون غشاء بكارة ويستطيع الرجل إيلاج سلاحه فيهن، مرارا وتكراراً دون أن تسيل نقطة دم واحدة. نقطة دم حمراء، ذلك الدم الذي يتعطشون لرؤيته في تلك الليلة التي أصبحت مثار رعب للفتاة العربية والمسلمة. كيف يصدقون ذلك؟ فهم متعطشون للدم، يدافعون عن الشرف، والشرف عندهم هو ذلك الغشاء الذي يفضه قضيبهم بمجرد لمسة. هذا هو الشرف ومئات الآلاف من الفتيات السلع يقتلن كل عام لغسل الشرف، للدفاع عن الشرف ولهم مآرب أخرى. إذ أثبتت تقارير الشرطة أنه في العديد من الحالات، كانت المغدورات عذراوات. نعم ما زال غشاء بكارتهن مكانه، يحمي ما خلفه من نفق. نعم لم يلجهن واحد من الذكور ولم يسعد قضيب بإسالة دمهن. كيف يصدقون؟ سوف تقتلني هذه الهواجس. تلك الصور البشعة التي تطاردني، حتى وأنا في أمريكا. ركبت الحافلة متوجهة إلى الحي الجامعي مسافرة في أفلام رعبي هذه وكأن ألفرد هيتشكوك عرّاب حياتي. توقفت القافلة أمام بوابة الحي الجامعي فإذا بي ألتقي أشاهد لوتشو منشغلا في الحديث مع شاب أسمر اللون يبدو أنه عربيا، سمين، كبير البطن.

وسيارة ليموزين مليئة بالفتيات تقدم إلي لوتشو وسحبني من يدي.

_ أعرفك على زميل معنا في الجامعة يدرس العلوم التجارية. رامي من السعودية.

_ أهلا رامي ... اسمي غالية ...

_ الأخت مغربية ... أليس كذلك؟

_ نعم ... لم أتشرف بمعرفتك من قبل ... أعني لم أراك من قبل في الجامعة ...

قهقه بصوت مجلجل وقال: ما رأيك في أن تذهبي معنا إلى فندق الهوليداي ...

كنت أنظر إليه مستغربة وأنظر إلى سيارته ليموزين مليئة بفتيات شقراوات.

_ فندق الهوليداي ... لماذا؟

نظر إلى لوتشو ثم إلي وقال: اليوم الجمعة ...

قاطعه لوتشو موجها كلامه إلي:

_ أنطون وإيملي وباقي الأصدقاء ينتظرننا بالفندق.

_ لا أستطيع لوتشو ... شكرا على دعوتكما لكنني متعبة وأحتاج إلى قسط من الراحة.

اقترب مني ووضع يده على كتفي وقال:

_ غالية ... لا أعذار هذه الليلة ... لأنها ليلة مميزة لنا كلنا ولست مضطرا لأشرح لك السبب؟

_ بدأنا في الاستفزازات، شكرا لا أريد أن تشرح لي شيئا فقط دعني أذهب إلى غرفتي لأنام هل فهمت.

قال رامي: اقبلي منا هذه الدعوة فلست مضطرة للسهر معنا حتى الصباح. نحتاج إلى حضورك ساعة واحدة ونرجعك بعدها إلى الحي الجامعي.

تعجبت من إصرار هما ومن وجود أنطون بالفندق مع باقي الأصدقاء. إنهم يعرفون بأنني لا أحب زيارة الفنادق ولا السهر في الملاهي. لا أعرف لماذا طاوعتهم. جلست بجانب الحسناوات بتلك السيارة الفخمة ثم انطلقنا إلى الفندق. أشار لي لوتشو أن أنتظر واختفى مع رامي وحسناواته. جلست على كنبة فيما نسميه صالة الانتظار. متسائلة مع نفسي لماذا اختفوا ولم يصحبوني معهم. قطع علي وحدتي الموحشة أنطون ولوتشو وباقي الزملاء، الذين عرفت بعضهم، وبعضهم كانت المرة الأولى التي القيهم. كل يحمل هدية في يده، ينشدون أغنية عيد الميلاد ويهنئونني: سنة سعيدة. تأثرت كثيرا لتلك المفاجئة, فانفجرت أبكي ... اقترب مني لوتشو وهو يبتسم:

_ My girlfriend … أعني my friend girl هذا أقل ما أقدمه لك أيتها الصديقة الغالية.

طار النوم من عيني كما طار التعب. أحضر نادلين كعكة كبيرة مكتوب عليها Happy birthday Ghalia. لم أكن أصدق ما كان يحصل وكيف تمكن لوتشو من شراء هذه الكعكة الكبيرة، وأحواله المادية أكثر سوءا من أحوالي. لا تفكري يا غالية في هذا الأمر الآن. استمتعي بليلتك مع الأصدقاء. حمل بواب الفندق الهدايا كلها إلى سيارة ليموزين. طيلة السهرة نرقص حتى الساعة الثالثة صباحا ورامي كان كملك القرن الثالث عشر جالسا وحوله جواريه من الشقراوات الأمريكيات ومن حين لآخر كان ينظر إلي لم أستطع بعدها أن أكمل السهرة. استأذنت من الجميع وشكرتهم عن المفاجئة الرائعة التي ستبقى خالدة في ذهني وفي قلبي تبعني لوتشو ولحق به ملك زمانهرامي.

_ غالية سنوصلك إلى الحي الجامعي مثلما وعدك رامي.

لم أر قط رامي في الجامعة، ونحن في طريقنا كان يتحدث عن مغامراته مع الفتيات وكيف يتسابقن عليه ولوتشو يستمع إليه معجبا بثرائه وبسيارته وفتياته. شعرت بغيظ لحديثهما التافه قاطعتهما قائلة:

_ لم أرك قط في الجامعة يا رامي.

ضحك وحرك رأسه مستهزئا: ولماذا أحضر إلى الجامعة وأقيد نفسي بالمحاضرات فأنا لا أحتاج إلى ذلك.

_ ولماذا جئت إلى نيويورك أليس للدراسة؟

_ لا ... لا ... ليس للدراسة ولكن للحصول على شهادة من جامعة أمريكية.

_ لم أفهم ... كيف ستحصل ...

قاطعني قائلا: اسمعي يا غالية بالنقود يمكن للمرء أن يعمل المعجزات ومن ضمن المعجزات شراء شهادة الليسانس والدكتوراه أيضا.

_ لكنك سترجع إلى بلدك مثلما أتيت خالي الوفاض.

_ لا ... لن أرجع خالي الوفاض سأرجع بالشهادة.

وصلنا إلى الحي الجامعي كانت الساعة الثالثة صباحا. نزلت من السيارة ودعتهما. اتجهت إلى غرفتي لم أستطع أن أنام رغم تعبي: أطار النوم من عيني هذا الرامي الفارس السعودي وجواريه الأمريكيات يمارس كل أنواع الزندقة لكن عندما يرجع إلى بلده يتزوج فتاة طاهرة شريفة عذراء وإن لم تكن سيشهر هو وأهله كافة أسلحتهم البيضاء والسوداء، يدافعون عن الشرف. لا أعرف لماذا فكرة البكارة والشرف تلاحقني في كل مكان. تلاحقني في منامي ويقظتي، هذا الرامي سلطان زمانه وحسناواته الشقراوات يحرثهن كما يشاء. ولم لا فهو امتلكهن بماله وأصبحن له حلالا. ما كان في نيتي سوى الهروب من جحيمك وعصاك يا أبي وليكن ما يكون. إنما الأعمال بالنيات فأنا لا أريد إلا أن أشق طريقي، أكون حياة تليق بإنسانيتي. هذه الإنسانية التي هي منحة الخالق للبشر. ليتهم في مستوى تعاليم الخالق. نعم في مستوى إنسانية الإنسان أنثى أم ذكراً. ليتهم ... ولكن ماذا تنفع الأماني؟!

ـــــــ 0 ـــــــ

لم يعد عملي في المطعم مريحاً رغم كل التسهيلات والدعم الذي يقدمه لي صاحب المطعم. العمل بحد ذاته مريح، وعوائده المالية مغرية. أستطيع إكمال دراستي الجامعية والعيش براحة ومستوى جيد. لكن المشكلة في الزبائن لا يمر يوم دون أن يقطف مني أحد الزبائن قبلة، قبلتان رغم أنفي وينقدني مبلغا من البقشيش بالدولارات طبعا ودائما فوق العشرين دولاراً وحظي دائما يكون عليها صورة إبراهام لينكولن محرر العبيد. لماذا الربط بيني وبين الرئيس المبجل إبراهام لينكولن. لا أدري هل يعتقدون أنني مضطهدة وأحتاج لمن يحررني؟ ربما مضطهدة الآن في نيويورك أعاني اضطهاد رسائل الإمام سلطان والدي الغالي العزيز والاضطهاد الإستراتيجي هو إلحاحه عليّ أن أتزوج وهذا يعني عنده العودة إلى المغرب لعرض سلعتي من جديد ورغم اقتراب انتهاء صلاحيتي، إلا أن عودتي من الأمريكا الشقيقة العزيزة أمريكا، يعني الكثير عند شباب المغرب وهذا يُمدّد تاريخ صلاحيتي. فالفتاة في بلادنا لها تاريخ صلاحية كالطعام المحفوظ في المعلبات وهي تحتفظ في مكان ما من جسمها بذلك الجزء، تلك القطعة اللّحمية التي تحدد مستقبلها وشرف العائلة أيضا. لا أدري لماذا شرف العائلة مرتبط بصلاحية الفتاة ومحافظتها على بكارتها؟ الفتاة في الغالب إن فقدتها، تفقدها بسبب رجل فلماذا هو يظل بكراً صالحا للزواج لا تنتهي صلاحيته في حين الفتاة لم تعد بكراً، بسبب ذلك الغشاء الرقيق الذي أفقدها إياه رجل، شاب من بلادها وأحيانا ربما اعتداء من أحد أفراد عائلتها. ألم يكن معها حق تلك السيدة التي أطلقت صرختها منذ أربعة عقود، مُحاولة رد الاعتبار للفتاة وإعطاء الرجل الصفة التي يستحقها في تلك الحالة. لماذا نسمي الفتاة مومساً ولا نطلق نفس الصفة على الرجل؟ والله يا أطال الله عمرك معك كل الحق. إن كانت الفتاة أو المرأة تستحق لقب أو صفة مومس فشريكها الرجل يستحق صفة رجل مومس. هل أنتم مجتمع الرجال أعدل من الله تعالى؟ في نفس الحالة أطلق الخالق نفس الصفة على الرجل والمرأة، عندما خاطبهم بقوله " الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد مائة جلدة" " الزاني لا ينكح إلا زانية" ليتهم يطبقون شرع الله، ويبحثون عن الرجل الذي أفقد الفتاة بكارتها. ذلك الرجل الذي مارس فحولته، وأخترق خط دفاعها. أليس شريكا معها في الجرم؟ آه متى ننال العدل ولماذا أثرثر كثيرا ومن يدري بما تخبئه الأيام؟ فرسائل الإمام سلطان تتلاحق، محذرة من بلاد الكفر وشرورها.

ذهبت إلى عملي في المطعم اللبناني لابد أن أتحدث مع صاحب العمل. أصارحه بانزعاجي من الزبائن وأطلب منه أن أشتغل بالمطبخ. وجدته مشغولا بالحديث مع شاب في الثلاثين من عمره يشبهه كثيرا. كان يحدثه بكل حرارة وحب

ـ إلى متى ستظل عازبا وحيدا ألا تريد أن تستقر كباقي إخوتك؟

ـ إنني أبحث عن الفضيلة، أبحث عن المرأة المحترمة ... المرأة التي لم تخض ولم تنزلق في هذا العالم المليء بالشهوات الإباحية. أين هي التي أبحث عنها ... أين هي التي تعرف ما معنى الحب وتقدره وتخلص له وتملك الحرية والأخلاق والمبدأ. إنني سئمتهن كلهن ... في هذا المجتمع الذي لايعرف الفضيلة ولا المبادئ ولا الأخلاق، وحيث الجنس مشاع. خال من الإحساس ... كل تسعى وراء تلبية رغبة معينة، وكل تجري وراء نقودي وإشباع رغباتها. فراغ ... وجفاف ... الأحاسيس ... وانعدام لتلك السلوكيات التي أريدها أن تكون في المرأة التي ستصبح أما لأولادي. أريد امرأة تتحلى بعذرية الأخلاق وتتصف بجمال القيم ... وتقدس كلمة الحب ... نظرت إليه ... إلتقت عيني بعينيه ... شعرت بانجذاب إليه ... ابتسم إلي ابتسامة دافئة ... حوّلت بسرعة بصري إلى صاحب المطعم.

_ هل يمكنني التحدث إليك؟ أريد أن ...

_ أولا أعرفك بأخي عادل جاء من النرويج لزيارتي ...

شعرت بسخونة في وجهي ... صافحته ولكي أخفي خجلي قلت له بسرعة وأنا أنظر إلى الأرض مستحية:

_ أريد أن أشتغل في المطبخ ...

_ ... إن العمل في المطبخ متعب ... كما أن الزبائن مرتاحون لعملك ولباقتك و...

نظرت إلى أخيه وازداد خجلي ... ثم أردفت قائلة بتلعثم:

_ لكن أنا لست مبسوطة مع الزبائن ولا أريـ ...

_ اسمعي غالية ...لا أريدك في المطبخ ... أريدك نادلة تخدمين الزبائن وذلك لأن شخصيتك وجمالك يجلب الزبائن ويشجعهم أن يأتوا إلى المطعم. ولقد رأيت بأم عينك كيف أصبحوا يترددون على المطعم أكثر من السابق، فأنا ليس في مصلحتي أن تشتغلي داخل المطبخ ...

_ يعني هذا قرارك الأخير ...

_ آسف ... هذا قراري الأخير ...

_ رغم أنني بحاجة ماسة إلى العمل ... وإن كان عملي في تقديم الطلبات للزبائن يدر عليّ مالا أنا بحاجة إليه أكثر من وجودي في المطبخ، إلا أنني لن أرضى أن يكون جسدي أو جمالي وسيلة لجلب الزبائن إلى هذا المطعم. فأنا لست سلعة أو أداة إعلامية من أجل هدف مادي. إذا ما عليّ إلا أن أودعك شاكرة ...

لما سمع عادل الحوار، شعر بغبطة محدثا نفسه:" الله ...أيعقل أن تكون هذه الفتاة ضالتي. لو أن هذا الكلام الذي يقوله أخي لغالية، يقوله لفتاة أخرى لطارت فرحا ولاختالت وتفاخرت أمام صديقاتها أنها جميلة وأنها تجلب الزبائن للمطعم. لكن هذه الإنسانة ترفض أن تكون أداة أو وسيلة لجلب الزبائن بجمالها أو بجسدها. هذه الإنسانة يبدو أنها ضالتي.

غادرت المطعم بسرعة كالبرق. كان عادل يمشي وراءها لم تنتبه إليه ...كان الحزن يظهر على وجهها وصوت حوارها يسبح بفضاء عقلها يردد بصوت عال في نفسها ليعكس همومها وأحلامها، ويهجس بما هو آت بمسرح حياتها الذي رسمه قدرها. فصارت كل أحلامها في تلك اللحظة مجهضة، وانتابها وجع حقيقي لا يمكن رؤيته ولا وصفه، وجع قديم لطالما كان راقدا. استفاق وبدأ يدب في روحها وقلبها وعقلها، فأحست بالامتعاض والاحتجاج والتمرد على الظلم والإستغلال والخطأ، تبحث عن سبيل للخلاص، تتزاوج فيه الأشراك المنصوبة لتصل إلى عالمها الجميل الذي رسمته في لوحة بخيالها بشكل جميل وأكثر رحابة.

فقدت وظيفتي ... هذا معناه لن أستطيع إكمال دراستي ... لن أرجع إلى المغرب بعدما خرجت منه بأعجوبة. ولن أضع نفسي مرة ثانية مكبلة بأحبال سجان ظالم. لن أعيش كالفقير المشرد، يمضي في طريق حياته، مهضوم الحق معذبا، بيد أن هذا ليس نصيبه.

عادت بها الذكرى إلى الماضي البعيد... تذكرت كابوس لياليها المزعجة وتذكرت شغف والديها لتزويجها، فسرى تيار بارد في جسمها. بغتة هاجت في نفسها ذكرى أخرى. تراكم في نفسها العار الذي تحمله. سبب لها شعورا مؤلما باقتراب أجلها حين رجوعها إلى أهلها. إن لم أرجع إلى وطني سيلحقني العار أينما رحلت وارتحلت. سيغضب علي والدي ويغضب علي الله ولن أفلح في إتمام مشوار حياتي. لكني إن رجعت إليهم سينتهي مشوار حياتي بموتي في ليلة زفافي. ماذا أعمل؟ وإلى أين سأذهب؟

أحست بيد على كتفها ...التفتت مرعوبة، فإذا به عادل.

ـ لا تخافي ... أنا أخ إلياس اسمي عادل ... صراحة، ومن غير مقدمات أعجبت بقرارك ورفضك للعمل كنادلة، مع العلم أن الفتيات اللواتي يشتغلن في المطاعم يحببن هذا العمل بالتحديد، خصوصا وأنهن يأخذن بقشيشا من الزبائن فوق دخلهن. والذي جعلني أهتم بالتعرف إليك، أنك تختلفين عن غيرك ممن عرفتهن. أنا كذلك لي مطعم في النرويج، والموظفات عندي لا يهمهن مضايقات الزبائن بقدر ما يهمهن جمع النقود. النقود أهم شيء، جمعها بأي طريقة ولو كانت على حساب نفسيتهن. النقود لهن كل شيء في الحياة ... وأنت ترين الأمور عكس ذلك. هذا هو السبب الذي جعلني أتبعك آملا أن تقبلي صداقتي.

ابتسمت غالية ... أحست بالاطمئنان إليه وبأن هناك من يفكر مثلها وينظر إلى الحياة وإلى التعامل بالطريقة التي تراها صحيحة. توطدت العلاقة بينهما، وأصبحا صديقين حميمين، تجمعهما المحبة الصادقة والتوافق في الأفكار. كانت غالية تميل إليه كثيرا، معجبة بشخصيته. لكن، هل يمكن أن يكون لها زوجا في المستقبل؟ هل يمكن أن تصارحه بسرها؟ هل يمكن أن يقبلها عندما تعترف له؟ إنه رجل شرقي ... مهما وصل من درجات الوعي والعلم فسيبقى ذلك التفكير الشرقي يطغى عليه. إنه مثل أي رجل شرقي حصل بينه وبين فتيات، قصص غرامية وكانت آخر صديقة له تعاشره صباحا وتعاشر غيره مساء. لم يعد الجمال الخارجي بالنسبة له من جمال الجسد والوجه يجلبه وإنما يبحث عن جمال الروح والأخلاق والعقل وجمال المبادئ. رغم أن شخصيته قريبة من شخصية غالية وصاحب مبدأ إلا أنه مارس الجنس لأنه رجل وهذه هي مصيبة العالم الشرقي. فالمجتمع يتقبل ذلك لأنه ذكر ... لأنه رجل. لذلك أباح لنفسه أن يخوض تجارب جنسية كثيرة وبعد ذلك اكتشف أنه يريد عالم الفضيلة، ويريد امرأة عفيفة لم يمسسها رجل.لكن ما ذنبي أني أصبحت أحبه ... هل سيتخلى عني إن رويت له قصتي ...؟ هل سيكون أفضل من سمير فارس صحراء الجزائر؟ هل سيهجرني ويتركني فريسة كابوس سري الخطير؟!ً لما أفكر في الزواج الآن؟ ألست أنا التي قررت أن أدرس لكي أتخلص من كابوس الزواج، وسيرة الزواج .... ألانني امرأة وطبيعة المرأة أن تكوّن عشا يحميها من عواصف الحياة ...وأنا أقلد ما يحدث في الحياة ...غاضبة أنا على عجل أسير ... ولا أعرف أين أذهب ...حافية أركض وراء الخيال ... في زوايا الزقاق المعتمة ... أتسلق قمة الجبال فأهوي ساقطة إلى قدمه ودموعي على كتفي ...أصرخ من شدة الألم ... وأنا لم يكن قصدي ....

ـــــــ 0 ــــــــ

انتهى الفصل الدراسي، حصلت على شهادة الماجستير في الأدب الإنجليزي. لابد أن أسلم مفتاح الغرفة اليوم إلى الإدارة. ها أنا الآن أحمل شهادتي. كم كنت أتمنى أن أحصل على شهادة الدكتوراه أيضا. هل أستطيع أن أحمي نفسي بشهادتي هذه وأرجع إلى أهلي؟ هل شهادتي ستمنحني الاستقلال بذاتي؟ هل ستجعلني أدافع عن حقي أمام والدي وأقول لا؟ بالطبع لا... ذلك يعتبر عقوقا. لأنهم هم الكبار وهم ملوك الحكمة ...وهم الذين لهم الحق في تشكيلي كما يرغبون لا كما أرغب أنا. لا يهمهم ماذا يجري في ساحة قلبي من حروب ومجازر، حروب أكثر شراسة من التي تدور حولهم أو يتحدثون عنها. هل أرجع عند نبيل إلى ليبيا؟ لا،لا، غير ممكن. فهو يريدني زوجة وذلك مستحيل.

اختلطت الموازين في ذهن غالية، فلم تستطع الفرار ولا الردى. ولم يكن أحد الحلين أحلى من الثاني ولا أمر منه، كلاهما شوكة حادة عالقة بحلقها. أسرعت إلى الإدارة، سلمت مفاتيح غرفتها، ودعت موظفيها، ثم انطلقت بسيارة الأجرة إلى حيث تمثال الحرية. رجعت إليه بعدما خاصمته وعادته. رجعت إليه لا لتستمد شيئا منه، ولكن لأنه يذكرها بذلك الأسبوعين التي قضتهما مع نبيل. وضعت الحقائب على الأرض ووقفت منتصبة تتأمل زرقة المياه ويد تمثال الحرية الذي كانت تحس يده تمتد إليها لكي يأخذ بيدها ليصالحها. مدت يدها محاولة مسك يده. أغمضت عينيها تواجه نفسها وتتأمل عالمها الداخلي، تحاوره محاولة إظهار مناطقه الظليلة وإعادة اكتشاف ما يدور داخل ذلك السر الخطير المحكوم عليه بالتشريعات الاجتماعية التي لا تعرف معنى الشرف ولا معنى الحق.

نزلت من عينيها دمعة ووقعت وسط المياه كوقعة صخرة كبيرة متدحرجة من قمة الجبل. فاختلطت دمعتها بمياه البحر، أيقظت تمثال الحرية من سباته، فأمسكها بيده وحلق بها في الفضاء، يسري بها بين النجوم ليلا ويحوم بها حول الشمس بالنهار. وكانت تضحك في ذلك الفضاء بكل ما لديها من قوة. تضحك ضحكا كالبكا. ثم أرجعها التمثال إلى حيث كانت تقف ورجع منتصبا في مكانه.

فتحت غالية عينيها وبدأت تنظر إليه وتبتسم، تحاوره بصوت غير خافت لكي يسمعها: سامحتك وصفحت عنك، جعلتني أتفهم حالك، جعلتني أدرك معنى الحب واشتباكه مع الحياة، جعلتني أعفو وأصفح عن من يمثل الحياة من الجنس الآخر. ذلك الجنس الذي يجعل للحياة تناغما وتطابقا عندما يصير فيه المحبّان روحا واحدة ويسكنون بعضهما البعض. حيث يصبح صوت أحدهما صدى الآخر ويتطابق ظل أحدهما مع قوام الآخر.

شكرا لك أيتها الحرية التي جعلت خيالي ينظر إلى الحب بشكل واقعي وليس إلى وصفات محددة يمليها خيالي، وجعلت تطبيق واقعي صورة بعقلي وأخضعه إلى صورة ذهني، لكي لا يتسع كابوس سري الخطير به ويستفحل.

كانت غالية وكأنها في غيبوبة داخل عقلها وحوارها مع تمثال الحرية غير معيرة الإنتباه للمارة وغيرهم من الذين كانوا واقفين ليس بعيدا عنها مشدودين مستمتعين بتمثال حريتها. كان أخ صاحب المطعم ينظر إليها. سمع صوتها الذي كان يستعصي على أي أذن قريبة منها أن لا تسمعه. كانت تتكلم باللغة العربية، اقترب منها ليسرق سمع كلامها. وكانت عيناها مصوبتين إلى التمثال، مبتسمة له، مكملة حوارها معه، تقول الأشياء دفعة واحدة وكأنها تريد أن تصفي الحساب مع الخيالات والأوهام والكوابيس التي هدمت تواصلها مع محيطها وحياتها. رفعت يدها لتمسك يد تمثال الحرية مرة ثانية وقالت بصوت مرتفع غير مبالية بمن حولها من المارة لأنهم لا يفهمون لغتها: اسمعي أيتها الحرية، من الآن فصاعدا لن أخلق كلمات أعزي بها نفسي. لن أخلق كلمات لا تعني للواقع شيئا أو قد تكون نقيضة، لأن عالم الواقع هو الحياة نفسها والحياة أكبر من أن تخضع لسجن كلماتي. من الآن فصاعدا لن أكون مدمنة كلمات خيالي. سأعيش حياتي وأنفق من حبي لأهلي ولكل من أخلص له بقيمي وبروحي، بقلبي، وبلا محرمات. وسأجعل حبي لمن حولي حبا حقيقيا، به أنتصر على كل شيء. على كل شيء حتى ولوكان ذلك الشيء هو الموت. كانت عيناها مغرورقتين بالدموع، التي حجبت عنها تمثال الحرية. كانت تراه وكأنه يقترب منها شيئا فشيئا...تحاول فتح عينيها ليتجلى نظرها، فرأته واقفا أمامها، يبتسم إليها، راضيا عن قولها وعن التغيير الذي حصل لها. أمسكت بيده وقالت: لم أكن أعرف أنني كنت مريضة إلى هذا الحد...إنني أحبك...أحبك من كل قلبي، ولا أستطيع الاستغناء عنك...أعترف أنني لك...أحبك حبا شبيها بالعبادة...عانيت آلام الصد وهيجانات الشوق إليك ومرارة الغيرة عليك. ستحبني كما أحبك؟ هل ستكون عادلا في تصرفك ومعاملتك معي ومع نفسك؟ هل سيكون رداؤك العدل وتصرفك النبل وروحك المتمردة، مرحة، رومانسية، جذابة مثل التي لقيتها في الصحراء التي تركتها ورائي والتي جعلتني أفتح خزائن قلبي التي كانت مقفولة داخل ألف صندوق ومقفولة بألف مفتاح؟ أحست يد التمثال تلمس يدها بدفء وينحني إليها قائلا:

_ سأكون لك العدل والنبل وسأكون لك فارس الصحراء، الشهم الشجاع، الجذاب الوسيم، سأكون لك الروح التي تجري في جسدك والقلب الذي ينبض في عروقك، سأجعلك تسكنين بذاتي وسأجعل ذاتي تسكن فيك.

أحست برعشة تسري في كل جسمها، أفاقتها من غيبوبة حوارها معه. مسحت عينيها المغرورقتين بالدموع لكي تستجلي رؤيته، فرأته واقفا أمامها، قريبا جدا منها حتى كادت أنفاسها تختلط بأنفاسه، فسألته مستغربة:

_ هل أنت تمثال الحرية؟ هل أنت هو؟ هل...

ابتسم وقال:

_ أنا الحرية ذاتها... أنا الحب الحقيقي والنبل الصافي... المنبعث من تجربة وحقيقة الحياة... أنا الحلم الواقعي...أنا قاهر معاناتك وآلامك...أنا الشجاعة والنزاهة وقوة البصيرة...أنا تجربة مستقبلك التي ستدون بنبضات قلبك وجرأة موقفي وستكتب في تاريخ حياتنا منذ اللحظة إلى نهايتها...أنا أنت وأنت أنا. فلندع يدنا في يد بعضنا لنرجع مرة أخرى نسري ليلا بالفضاء، مستمتعين بالنجوم ونحوم حول الشمس بالنهار.

ضحكت وضمته إلى صدرها وقالت:

_ أنت الحرية...نعم، أنت الحرية...لقد عرفتك...هيا بنا أريد أن أذهب معك، أطير معك في دنياك وأحلامك وأجعلها جزءا من أحلامي ودنياي.

حمل حقيبتها ... أمسكها من يدها من دون أن ينبس ببنت شفة وانطلقا إلى الفندق. إلتفت إليها يبتسم فوجدها تنظر إليه والفرح يضيء كل وجهها. جلست تتحدث إليه ... وهو يستمع إليها بكل جدية ... شعرت بالإنجداب إليه من أول نظرة وهاهي ذي تحس باقترابها منه أكثر فأكثر ... اسمه عادل، شاب وسيم المنظر والمظهر، شهما، كريم، لطيف، وديع. كالطفل تماما في حبه للفرح والمرح والغناء، يحب الريح التي تجلب الغيوم لتمنح المطر. يحب الشمس المضيئة والأشجار المورقة والأزهار...كالطفل تماما يكره الحزن والبكاء والعاصفة الهوجاء والغيوم الداكنة السوداء. علمته الحياة منذ حداثة سنه كيف يتعلق بالأمل ويرفض الفشل حتى الرمق الأخير. علمته الحياة أن يمارس حياته الطبيعية في الحلم والشعور والنظر، وفي الواقع والتجربة والممارسة. لن أترك الدنيا ولن أجعل الدنيا تتركني. إنه شاب في مثل سني. مقبل على الحياة الدنيا بعطش وحماسة. سأخوضها معه بحماسته، بشجاعته، وسأعيش فيها معه بحب وإخلاص لأنفسنا وللحياة.

_ لا تؤاخذيني يا آنسة غالية ... من أول ما شفتك .... حبيت أتعرف عليك.

_ وأنا كذلك ... يسعدني التعرف عليك ... لكن ...

إغرورقت عيناها بالدموع ...

_ لماذا يا غالية؟

_ لا شيء ...

أمسك بيدها وقال هل تقبلينني صديقا لك؟

_ سعيدة بصداقتك لكنك ستسافر إلى البلد الذي تقيم فيه وأنا لا أعرف إلى أي أرض سأذهب ...

_ لا تكوني متشائمة إلى هذه الدرجة ....

_ لا أعرف ما تخبئه الأيام ... فرسائل والدي تتلاحق، محذرة إياي من بلاد الكفر وشرورها ...

_ لماذا لا تسافري معي ...

_ أسافر معك إلى أين؟

_ إلى النرويج ... وهناك تكملين دراستك إن أردت. عندي إحساس أنك ستكونين زوجتي ...من اللحظة الأولى التي رأيتك فيها في المطعم ... قلت لنفسي هذه هي التي ستشاركني حياتي وإلا ما تبعتك من المطعم إلى الجامعة ومن الجامعة إلى مكان تمثال الحرية.

_ لكن ... النرويج؟! بلد الفايكينغ ... أوسلو ...قاتلة الأحلام ...

_ لماذا قاتلة الأحلام؟

_ أليس هناك تمت اتفاقية أسلو 1 و أسلو 2 ...صحيح أنا لا أفقه تلك الغابة الموحشة التي تسمى السياسة فأنا أكرهها ... لأنها مليئة بالأسرار والمؤامرات ... وأنا أخاف من كل أمر ذي صفة سرّية ... ألا يكفيني أنني أهرب بسري الخطير من بلد إلى بلد ...

ـ ماذا تقصدين ... عن أية أسرار تتكلمين؟!

ـ أخي ... هل تعتقد أن الأمور بهذه السهولة ... ليس كل الأسرار والإتفاقيات يمكن الحديث عنها بسهولة ... إنسى الموضوع ...

فكّرت في المسألة بجديّة ... وصرخت: لقد وجدتها؟ تخيلت عمتي الطيبة صفية، تسألني:

ماذا ضاع منك ... وأين وجدته.

أوسلو 1، أوسلو 2 ... إذن أوسلو حلاّلة المشاكل. نحن النساء أسهمنا في انتاج سلوك وعادات، ثم نشكو حظنا العاثر ... ونعيد إنتاجه سلوكا وعادات ... ونحن معشر النساء، أسهمنا في الرضوخ إليه، وتأسيسه ... ثم نبكي نساء ... وليس كالنساء ... إذن لابد من أوسلو ... فهي الأقدر على حل مشكلة فضّ غشاء بكارتي إن كان قد حدث ذلك ... هل هناك مشكلة أكبر من أن تعيش مشكلة دون أن تكون متأكداً، أنها موجودة فعلاً ... ربما تكون موجودة وغير موجودة ... وهذه هي حالتي مع سرّي الخطير ... لقد جعل المجتمع المعادلة كالتالي: غشاء بكارتي موجود، فأنا موجودة ... غشاء بكارتي مفضوض، فأنا مقتولة! ... إذن لابد من أوسلو، وإن طال السفر !!... وهل سيختلف وضعي بإختلاف المكان ... نيويورك ... أوسلو ... أوسلو ... نيويورك ... نفس الوضع، فكلّها عند الإمام سلطان بلاد كفر وإلحاد ... وأوسلو ... عاصمة الفايكنغ ... أليس فكرة الإمام عنهم، أنهم من أشهر قطاع الطرق البحرية ... ولن تتغير فكرته عنها ... وعنهم لو قرأ كتاب رحلة أحمد بن فضلان عن هذه البلاد وما جاورها ... رحلة قبل ألف وسبعة وسبعين عاماً ... يا مُقدّر الأرزاق ... عربي ... عربي مسلم يصل إلى هذه البلاد ... هل جاءها عادل مقتفيا خطى إبن فضلان ... آه لو يقرأها الإمام سلطان ... تلك الرحلة كما جاءت على لسان إبن فضلان ... أو بعظمة لسانه كما نقول ... رغم أن اللسان لا عظام فيه ... عظّم الله أجرك يا إمام ... لو قرأت ثلاثة ... أربعة سطور محددة من كتاب إبن فضلان ... وبعظمة لسانه، لحكمت عليه بالجلد مائة جلدة ...

وصلت غالية إلى أوسلو عاصمة النرويج مع فارس أحلامها. عاشت معه في الحي الجامعي. كان ما يزال يدرس العلوم السياسية والإقتصادية. تجلت لغالية رؤية الحياة بوضوح وأصبحت في حالة شديدة من الصحو العقلي والنفسي. كما أصبحت ترى سرها الخطير أقل قدرا. بل أصبحت تحاول التعايش معه دون هلع، تحاول تحليل أفكارها ومشاعرها نحو نفسها ونحو عادل حبيب قلبها وتحليل ماذا سينتظرها معه. لم تعد تعيش في الأوهام ولا تلفظ عبارات التأسي والتحسر، ولا تتذكر لقطات حياتها القاسية الحزينة. أصبحت تحس بشجاعة في نفسها وصفاء في رؤيتها، بعيدة عن الزيف، دون خوف.

هكذا علمها عادل هذا الفارس الذي أغدق عليها القليل من ثروته والكثير من ذاته وحبه. علمها أن تؤمن بالحياة وسخاء الحياة. أطلعها على مخبأ الكنز الذي لا يفنى...علمها أن تزرع حقل حياتها بالمودة وتحصده بالامتنان. كان لها الفارس القوي الذي يتكلم صامتا، يتصدى لنكبات الحياة بوجه فرح. كان حبه لها كالفضاء لا حد له، وكالبحر بدون شواطئ. كان حبه متأججا دائما. كل ذلك زادها ثقة بنفسها. جعل لها رغبة في أن تفتح صفحة الماضي كله. خاصة وأنها استمدت منه قوة، لم تكن تمتلك مثلها من قبل. جعل منها كائنا مساويا له وليس مجرد أنثى، يراها بطريقة مختلفة، كزهرة قمر متلألئة. تمنته زوجا، أرادته حلالا. لم يكن لها من جسر للعبور إليه إلا أن تكشف بنفسها سرَّ سرها الخطير.

لابد أن أذهب عند الطبيب النسائي وأكشف عن حالي. لابد من الذهاب إلى طبيب نسائي كي أقطع الشك باليقين. فإما أن أكون له وإما أن تكون الموت لي. لابد أن أبدد الغيوم الهشة وأفسح المجال لرؤية أوضح. ها أنا أتزحلق مرة ثالثة نحو مصيري، بمسرح الحياة التي رسمها قدري ولا أعرف ما هو هذا المصير، ولا كيف سيكون.

اتصلت بالمستشفى:

_ ألو...هل يمكنني زيارة الطبيب النسائي؟...إسمي غالية....غالية سلطان...اليوم؟ عظيم...شكرا.

وضعت غالية السماعة...هيأت نفسها ونفسيتها... انطلقت إلى المستشفى...انتابتها قشعريرة في كل جسمها...تنظر إلى الممرضين والممرضات وإلى المرضى والأصحاء...حولت عينيها الخائفتين الكبيرتين إلى مكتب الاستعلامات...توجهت مسرعة نحوه ...تستفسر عن المكان...رافقتها ممرضة إلى فرع الأمراض النسائية...جلست في غرفة الانتظار. كانت مليئة بالنساء أغلبهن حوامل ومن سكان البلد...شعرت بالخجل...بالحرج...بالخوف...وب� �لحياء...تبللت يديها...بردتا ...أقبلت ممرضة...نادت واحدة من النساء...ابتسمت إليها ثم دخلا معا إلى الغرفة وأقفلت الباب.

وقف كابوس السر الخطير أمام عيني غالية، شاخصا ممتثلا، مؤكدا لها صدقه وأن ماوقع لها بالماضي مازال حولها، وأنها مازالت ستلاقيه في الليل وتصارعه متعثرة بانفعالها وخجلها وخوفها.

صرخت في وجه كابوسها ساخرة: لن أبكي مرة ثانية، ولن أصرخ ولن أندب، ولن أخافك ولن أبالي بتهديداتك. رغم أنني بكيت كثيرا وظُلِمت كثيرا ويئست كثيرا إلا أنني أحببت كثيرا وأملت كثيرا وها أنذا أضحك كثيرا لأنني علِمت أن طفولتي كانت حلما ووهما. فأنا الآن سأوقف هذا الاتهام وسأثبت براءتي.

نادت الممرضة غالية، فوقفت هلعة من مكانها، ترتعد خوفا من وشك معرفة الحقيقة، التي ستكون عليها تهمة ثابتة وسيحكم عليها بسجن قلبها إلى الأبد.

وقفت من مكانها واتجهت نحو الممرضة التي كانت تبتسم لها. كانت مسافة خمس خطوات نحو الممرضة كخمسين ألف خطوة. ترتعش...ترتعد...تتعرق...يصفر وجهها ...تتلعثم...تقول بخجل:

_ هل أنت الدكتورة؟

_ لا، الدكتور الذي سيكشف عليك في الداخل.

تشعر بسخونة في وجهها وبخوف وخجل. مستحيل أن أدعه يفحصني، أن يمد يده علي...لا...هذا غير ممكن...هذا عيب كبير...هذا مستحيل...

نظرت إلى الممرضة...تلعثمت...أرادت أن تغير رأيها وترجع من حيث أتت...أمسكتها الممرضة بلطف من يدها وقالت: لا تخافي، سأكون معك.

أدخلتها إلى الغرفة وقفلت الباب. نظر إليها الدكتور مبتسما...مد يده...سلم عليها...طلب منها الجلوس. جلست غالية... أطبقت على رجليها بقوة... شبكت يديها ببعضهما... خفضت عينيها. هل هذا الشاب هو الذي سيكشف علي؟ لا، لا، مستحيل!

أرادت أن تقف من مكانها، قاطعها الدكتور متسائلا: ما خطبك؟

رفعت عينيها تنظر إلى الممرضة خجلة، ثم حولت نظرها إليه وقالت:

_ أنا...أنا...لا أعرف كيف أبدأ...أريد..أريد أن أفحص نفسي.

_ ما المشكلة؟ هل أنت حامل؟

_ أريد أن أفحص إن كنت عذراء أم لا؟

نظر الدكتور إلى الممرضة مستغربا، ثم حول نظره بسرعة إلى غالية وقال: لا داعي للخوف.

نظر إلى الممرضة من غير أن يتفوّه بكلمة. اقتربت الممرضة منها وقالت: هيا.

قالت غالية خائفة: إلى أين؟

أشارت الممرضة إلى ستار يفصل الغرفة إلى قسمين وقالت مبتسمة:

_ خلف هذا الستار، يمكنك أن تخلعي لباسك الداخلي، ثم أشارت بيدها وأضافت: بعدها ستجلسين على هذا الكرسي.

نظرت غالية إلى الكرسي الذي كان يختلف عن كل الكراسي، حيث الجالس فيه تكون رجلاه مفتوحتين ومرفوعتين إلى فوق. بلعت غالية ريقها ونفذت ما أُمِرت به. كانت تنظر إلى الممرضة وكأنها تحتمي بها، وكانت هذه الأخيرة تمسك بيدها محاولة تهدئتها. أقبل الدكتور ويديه داخل قفازات بلاستيكية. اقترب منها وقال مبتسما:

_ لا تخافي. أدخل أصبعه فشعرت بالألم وصرخت وهي تنظر إلى الممرضة التي كانت سيغشى عليها من الضحك. فارتبكت أكثر وتوترت أعصابها. أخرج الدكتور أصبعه. نظرت إليه وعيناها مفتوحتان، جاحظتان.

_ ما الأمر يا دكتور؟ هل أنا ...هل أنا ...لست عذراء؟

قال مبتسما:

_ بلى.

_ ماذا؟ ماذا قلت؟ هل أنا عذراء؟! أنا عذراء ...أليس كذلك؟

_ نعم، أنت عذراء.

انفجرت تبكي وتضحك، تنظر حينا إلى الممرضة وحينا إلى الدكتور كالذي فقد عقله أو كالذي وجد جبلا من الكنز فجأة. أنزلت رجليها اللتين كانتا معلقتين وضعت كلتا يديها على وجهها بكت بكاء ثم توقفت عن البكاء وعلا ضحكها في تلك العيادة. نظرت إلى الدكتور والممرضة بعينين مليئتين بالحزن العميق والخوف من الموت ظلما من كابوس سرها الذي كانت تظنه حقيقة. ذلك السر الوهمي الذي أفقدها طفولتها التي لم تعشها كغيرها، كانت رعبا منذ ذلك اليوم الذي سيصل وستزف فيه إلى القبر. يا كم عشت كذبة هدمت حياتي وحعلتني أجوب الأرض شرقا وغربا والآن يقول لي الطبيب أنت عذراء. كان الدكتور والممرضة ينظران إليها مستغربين ... لم يفهما شيئا. علا ضحك غالية وامتزج بالبكاء كالذي فقد عقله وبدأت تلطم وجهها وتشد شعرها بكل ما لديها من قوة: أهذا هو سري الخطير ...! أهذا هو الوهم الذي قتلني ... أزهق روحي ... بدد حنيني لوطني ... قتل كل ذرة حب لأهلي وجعلني وحشا مجنونا يفتك بنفسه. كان الدكتور يحاول إمساكها آمرا الممرضة أن تأتيه بحقنة مهدئة.

ـ لا أريد حقنة مهدئة يا دكتور. أنا الآن جد هادئة. كنت أعيش مع شكي بنفسي ... لكنني الآن رزينة .... هادئة وحكيمة أيضا.

نظرت إليه بعينين ينبعث الشرر منهما وكأنها تريد أن تنتقم منه ... من أي شيء ... من نفسها ... لنفسها. ها هو الوقت الآن يا غالية قد حان وأزفت ساعة الإنتقام من أبيك ... من أخيك ... أبناء عمومتك ... من جدك الأول ... جدك الآخر ... وحتى من كل النساء اللواتي منحن الرجل هذا الحق في أن تكون المرأة نعجة تساق إلى سرير ذبحها ... إلى كل امرأة تمنح حناجر المتعطشات لسفك الدماء صوت الزغاريد على صرخات ألمها ... لتنتقمي من هذا المجتمع من ذاك المجتمع الذي قدمها على طبق طائر من التشرد والهروب لسمير الذي حاول أن يفترسها ولنبيل الذي حاول أن يستولي على قلبها برقته وكرمه وعطفه يا الله ... يا ربي ورب كل مظلوم ألا يحق لي أن أثأر لنفسي لموت روحي ... لزوال آمالي ... لفقداني فرحتي ... لضياعي وتشردي. تبكي غالية ... تشعر بالقوة والعجز يمتزجان في داخلها، لا تدري ماذا تفعل أو كيف ستعيش مع واقعها الجديد. تنتفض كعصفور أُخرج من بئر ... وبلهجة حادة:

ـ دكتور ...أريدك أن تخلصني منها.

_ نظر إلى الممرضة ، احمر وجهه الشديد البياض وقال: تخلصي منها بنفسك.

قالت مستغربة: كيف؟ لا أستطيع.

_ هل لك صديق؟

_ نعم.

_ هو يمكنه فعل ذلك؟

قالت بعصبية وهي تبكي: لا أريد أن أهديها لأحد في طبق من فضة.

قال الدكتور والدهشة على وجهه: وما الحل؟

_ أريدك أنت أن تزيلها.

احمر وجه الممرضة وعيناها تسيل دموعا من هيستيريا الضحك الذي كانت تحبسه بداخلها، خرجت فارَة من الغرفة وضحكها يسمع مدويا من وراء الباب.

قال الطبيب متلعثما: إذا لابد من إجراء عملية بسيطة نشق فيها غشاء البكرة وفي نفس الوقت نفتح في موضع التبول شيئا ما، لأنه مخيط وذلك يسبب عدم خروج دم الحيض كاملا بطريقة طبيعية. هل أجريت لك عملية الختان؟

قالت غالية وشرر الغضب والإستياء يتطاير من عينيها.

_ نعم، لقد أجريت لي عملية الختان لكي لا أشعر بالرغبة الجنسية وأفقد العذرية. هذه الأخيرة التي عذبت حياتي منذ الطفولة بسبب شكي في افتقادها. بتروا عضوا بداخلي وخيطوني ولم يتركوا إلا ثقبا صغيرا للتبول. عملوا ما عملوا لكي لا أفقد عذريتي التي يعتبرونها رمزا لعفة الفتاة وشرفها. إلا أنني أريد أن أتخلص من هذا الشرف...العذري ومن دون احتكاك جنسي. أريد أن أقضي على هذا الكابوس بنفسي، هنا عندكم بالمستشفى.

عندها فهم الدكتور ما تقصده فقال: إذا يمكنك المجيء إلى هنا في الساعة العاشرة صباحا لإجراء العملية.

_ هل سأمكث طويلا بالمستشفى؟

ابتسم قائلا: ستخرجين في نفس اليوم.

شكرته وغادرت العيادة إلى الحي الجامعي. وجدَت عادلا غارقا بين أوراقه يتهيأ للامتحان. قبلته في خده وقالت:

_ غدا سأكون طيرا يحلق في الفضاء. غدا سأنتصر على الكون كله، غدا سأتخلص من قيد نجس كان منغصا علي حياتي، محولا مجراها إلى طرق متشعبة ووعرة. غدا سيكون يومي يوما جديدا ونظرتي إلى الحياة متفائلة حقا.

قال عادل مبتسما ورزمة من الأوراق في يده يصففها على منضدته: ألا تخبرينني سبب هذه الفرحة؟

اقتربت منه، وضعت يديها على كتفه وقالت: إنها مفاجأة ... إنها انتصاري لنفسي بسبب ما ذاقت من عذاب ... من وهم كاد يقتلها ... أهيم على وجهي ... أركض ...أرقد .... أموت ... أحيا ... أموت ... أعيش ما بين الموت والحياة ... فلا الحياة تهبني سعادتها ...سبب حبها ولا الموت يدركني فيخلصني من حياة الموت وموت الحياة. أتدري يا عادلُ لم كل هذا ... لأن قدري أوجدني في مجتمع يفرض علي أن أسير في ركابه دون وجود لذاتي أو كيان لإرادتي.

وقف عادل مستغربا: ما هذا الكلام يا غالية ... أهو نص فرأته في رواية ما ...أم أنك تفكرين بكتابة رواية... لم تقولي لي أنك تملكين هذه الموهبة.

ابتسمت ابتسامة طويلة ... لا تندهش أنا لست كاتبة ولم أقرأ رواية، غدا ستفهم ما أقول ... غدا ستشرق شمس حقيقتي ويموت ظلام دنياي ... غدا سأكلم البحر شعرا، أغازله يغازلني .... غدا سيرسل لي البحر عروسه لتهبني كلَّ ما فيه من رحابة واتساع ...لأن غدا هو غدي ...

_ هكذا إذا. أنا كذلك عندي مفاجأة لك ولن أقولها. جلست على كرسي بالقرب منه، تتوسله ما هي المفاجأة؟

_ لن أقول شيئا حتى أسمع مفاجأتك.

قالت وهي تتغنج وتبتسم: مادمت مصرا ستسمعها غدا.

_ وأنا أيضا لن أقول شيئا حتى الغد.

لم يعد هناك سرا، ولا خلوة في وحدتي. ولم يعد لك أيها الكابوس مطرحا في منامي. انتصرت عليك ألف انتصار. كنتَ بالأمس ناضجا، نشطا في أحلامي، وعدوا لدودا ترافقني.وكنت وحدك تسمع صراخي وسكوتي وقذائف براكيني الثائرة في دواميس ليالي. سقطت الآن واندثرت. فاضحك لوحدك أيها الكابوس ودع العاصفة تضحك معك وتحفر لك قبرا بدون قعر... تهوي فيه إلى الأبد.

تخلصت غالية أخيرا من وهم العذرية. فأصبحت بعد نزعها متحررة، متأكدة من عذريتها الحقيقية، عذرية أخلاقها وسلوكها وطهارتها التي لم تدنس يوما رغم صحراء الجزائر وليبيا. غادرت المستشفى بعد زوال تأثير البنج، فوجدت عادلا ينتظرها.

_ مساء الخير غالية، أين كنت؟

_ سأخبرك عندما تخبرني عن مفاجأتك.

_ ما رأيك أن نذهب إلى حديقة قصر الملك؟ إن هناك طبيعة حلوة واخضرارا يغطي كل تلك المساحات التي تحيط بالقصر. فالطقس مازال دافئا والشمس مازالت ساطعة.

انطلقت غالية وعادل ويداهما متشابكتان إلى أن وصلا إلى حديقة قصر الملك. تلك الحديقة التي كانت لا تحضن بذراعيها سوى المحبين.

نظرت إليه بشغف وقالت: ما هي المفاجأة؟

اقترب منها، أخرج علبة صغيرة من جيبه، فتحها، أخرج منها خاتما، ركع أمامها وقال: هل تقبليني زوجا لك؟

شدته من يديه ... ساعدته على الوقوف، نظرت في عينيه بكل قوة وشجاعة وقالت:

_ إن كنت تريدني أنا، قبلتك زوجا. وإن كنت تريد عذريتي فهي هناك بمستشفى الأوليفول. وتلك هي مفاجأتي.

جحظت عيناه، سحب يده من يدها، تراجع إلى الوراء. لم يصدّق ما سمع ولم تكن له القدرة على أن يطلب منها استفسارا. انطلق مسرعا إلى غرفته بالحي الجامعي. أما هي فكانت تضحك، إلى أن وصل صوتها إلى الفضاء. كانت تجري وتقفز فوق الحشيش الأخضر، تحرك يديها وكأنها تريد أن تطير وتحلق في الفضاء. كانت تحوم كفراشة من ركن إلى آخر في الحديقة إلى أن تعبت. استلقت على ظهرها تنظر إلى السّماء. لم تكن تر غير السماء. أغمضت عينيها، فرأت تمثال الحرية ينزل من السماء ويمسك بيدها ويأخذها محلقا بها إلى الفضاء. فتحت عينيها وأسرعت إلى الحي الجامعي، طرقت الباب، لم يفتح لها. فتحت الباب ببطء فإذا بها تندهش لما رأته عيناها. كل الغرفة كانت مليئة بالورود الحمراء. لم تفهم شيئا ولم تستوعب ماذا يجري. تخطو ببطء لكي لا تدوس على الورود منادية: عادل...أين أنت يا عادل؟

خرج من الحمام، أقبل نحوها، ضمها إلى صدره، أخرج الخاتم من جيبه، وضعه في يدها ثم ركع على الأرض مرة ثانية يسألها:

_ هل تقبليني زوجا لك؟

كانت واقفة أمامه كالحلم، كالأسطورة اليونانية، المعطرة بأحلام الأيام السعيدة وأحلام الأجيال. واقفة بجسدها الرائع الممشوق وشعرها الطويل المفروش على ظهرها وقالت:

_ أنا لك... أنا الآن ملكك...أنا هنا...أنا معك إلى آخر يوم في حياتي.

تحشرجت الكلمات في حلقها وتعثرت الحروف في لسانها، وقالت بصوت مبحوح... فرح، متأثر. أحبك، نعم أحبك...لأنك...لأنك...

وسكتت...

ضحكت وهي تحاول مسح الدموع من عينيها وقالت:

_ ضمّني إلى صدرك بقوة، إصهر روحك بروحي ...إجمع قلبينا كي يخفقا سويا.

ضمها إلى صدره... كانت هادئة...مطمئنة...عائدة إلى طبيعتها ... كحال أية فتاة.

خرجا معا بسيارة أجرة إلى وسط المدينة ... مارين بمبنى تاريخي مكتوب عليه المسرح القومي ... وأمامه تمثال عملاق بطول خمسة أمتار تقريبا للكاتب المسرحي النرويجي المشهور هنريك إبسن ... بلحيته ذائعة الصيت كمسرحياته ... من يُصدق؟! غالية بنت الإمام سلطان أمام تمثال هنريك إبن إبسن ... وأين ... في أوسلو ... في مملكة النرويج ... قريبا من القطب الشمالي ... هنريك إبسن ... هل هي مصادفة، أن يأتي بي عادل إلى هنريك إبسن قبل زواجنا ... تذكرت مسرحيته المشهورة دُمية البيت ... تلك المسرحية التي كانت صرخة احتجاج على اضطهاد الرجال واستغلالهم للمرأة ... آه هل يقصد عادل ذلك ... وكيف أدري ... ربما هو لم يقرأ المسرحية ولم يسمع عنها ... ووجودنا الآن أمام المسرح القومي النرويجي وتمثال هنريك إبسن مجرد صدفة، قادنا إليها التجوال الحرّ في هذه المدينة، بليلها الساحر، والثلوج تغطي أرصفة الشوارع ... لا يهم ... ولكن المهم يا عادل ... لن أكون معك أقل حزماً من نورا ... بطلة المسرحية ... تذكر يا عادل أن نورا ... عندما رفضت قبول اضطهاد زوجها، طرقت الباب خلفها متمردة خارجة إلى الشارع ... إلى الفضاء ... باحثة عن حريتها وكرامتها ... يا الله ... يا مقسم الأمكنة والأرزاق ... صرخة نورا هذه قبل مائة سنة ...

فجأة دخلنا في شوارع داخل حديقة كبيرة ... نمشي ... يدانا متشابكتان ... وحرارة يد عادل تسري في عروقي، مذيبة الثلوج ليس من جسدي فقط، ولكن من الأرصفة المجاورة كذلك ... فجأة ظهر أمامنا وعلى بعد أمتار بناء ضخم ... كأنه من الأبنية الرومانية ...

ـ ما هذا يا عادل؟

ـ القصر الملكي ... ألا تشاهدين الحراس الملكيين على أبوابه، بملابسهم المميزة، وخطواتهم المهيبة ...

ـ القصر الملكي ... منذ دقائق ونحن نمشي في حدائق القصر الملكي ... من المؤكد تقصد القصر القديم ... المهجور ... وهو متحف الآن ...

ـ لا ... ليس مهجورا ولا متحفاً ... القصر الملكي الحالي ... والآن داخله الملك والملكة والعائلة المالكة ...

ـ لا تصبني بالجنون ... يعني نحن على بعد أمتار من مخدع الملك والملكة ...

ـ تماما ... وما الغرابة؟

ـ عادل ... وتسأل وما الغرابة ... وكأنك مولود في النرويج ... رحمك الله يا عمر ألست القائل:" متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا."

ضحك عادل ... وجرّني من يدي نحو باب القصر ... سحبت يدي من يديه، متراجعة:

ـ أيها المجنون ... إلى أين؟

ـ إلى مدخل القصر ... سألتقط لك صورة مع الحرس الملكي ... وربما يتصادف خروج الملك والملكة ... ونلقي عليهما التحية ...

لم أصدق كلمة مما قاله ... إلا بعد أن وقفت أمام مدخل القصر كتمثال هنريك إبسن، وعادل يلتقط لي عدة صور من زوايا مختلفة ... عندها شعرت أنني نورا وليست غالية يا الله ...

لامارا 15-11-13 07:18 AM

الفصل السادس عشر



وعادت شهرزاد إلى فاس



كانت عائلة غالية تنتظر قدومها بكل شغف وفرح، خاصة والداها اللذان فقدا الأمل منها ومن تمردها اللذين لا يقبلا اللين ولا الدعة. هاهي ابنتهم ستصبح زوجة عن اقتناع منها من غير أن يفرضا عليها ذلك. وصلت غالية مع حبيبها إلى المغرب، حيث أقامت عائلتها عرسا فخما لم يسبق له مثيل بالحي الذي كانت تسكن فيه. حفلة لفرحتين: فرحة نجاحها وفرحة زفافها.

كّنا في منزل القاضي سلطان حوالي الساعة الرابعة عصراً ... حشد كبير من الرجال والنساء ... الأهل والأقارب والجيران ... إختفى عادل بينهم ... سلام ... وتحيات ... وقبلات ... وأيمان غليظة أنهم أحبوه ... وأنه واحد من العائلة ... جلس جواره القاضي سلطان ... مبتهجا ... مشرق الوجه ... وكل خمسة دقائق، يسمعه ويُسمع الحضور:

ـ يا سي عادل ... والله أنت واحد من ولادي أهلا بك ... شرفتنا في المغرب. يا سي عادل ... نحن المغاربة نحب كل العرب ... خاصة اللبنانيين ...

إنعقدت حلقات الرقص والغناء للنساء والرجال ... طبول مغربية، إيقاعات موريتانية وسودانية تصم الاذان ... ولا أحد يشعر بضجيجها ... فالكل يعيش لحظة ضجيج زواج غالية بنت القاضي سلطان ... والحدث الأهم ... عريس لبناني مستورد من لبنان ... مشحون من النرويج ... تم التخليص عليه في مطار الدار البيضاء بعد تدقيق وفحص كامل للأوراق الثبوتية وتاريخ صلاحية الإستعمال ... الإخوان بوشناق يشدون في حلقة الرجال ... ويتناغم معهم صوت الحاجة الحمداوية من حلقة النساء ... فرح لا مثيل له ... إنه حدث فريد في تاريخ مدينة فاس. وحانت ليلة الدخلة ودخلت مع عريسها عادل إلى الغرفة التي كانت يوما منفردة فيها مع عريسها السابق نبيل. دقت الطبول وارتفعت الزغاريد، وانهال على باب غرفتهما طرق. فلم يكن لعادل إلا أن يخرج شفرة حلاقة من حقيبته ويكشف عن فخده محاولا جرحه لإخراج شيئا من الدم. كان العرق يتصبب على وجهه ويده ترتعش... لم يستطع أن يجرح نفسه...نظر إلى غالية التي كان رأسها سينفجر من شدة الأصوات والزغاريد المرتفعة ومن شدة الطرق على الباب المستمر من غير توقف.

_ غالية، هل يمكنك أن تفعلي هذا؟

نظرت إليه مندهشة وقالت:

_ أفعل ماذا؟ أجرحُك...؟ لا، لا أستطيع فعل ذلك.

وقع الضربات على الباب زادت من توتره وارتعاده مما أدى إلى سهولة جرح نفسه. لكن الدم لم يخرج منه...يضغط على لحم فخده المجروح حتى خرجت قطرة صغيرة، تنفس الصعداء...فرح...وأخيرا قام بذلك الإنجاز العظيم...مسح بقطعة قماش بيضاء على فخده...ألقى به خارج الباب وأغلقه.



زادت الزغاريد في الإرتفاع، وزادت الأصوات في التهاليل...

أما غالية فقد نامت في حضن عادل. ورأت في منامها البحر يتسع ويتسع ولون مائه يزرق ويزرق، والشمس تحمر ملونة الرمال التي تمتد في صحراء الجزائر وليبيا. كانت ترى نخيلات قصيرة ومتفرقة. رأت عادلا يقبل نحوها بفرسه... يحملها أمامه وينطلق بها في صحراء الجزائر وليبيا...يغني لها أغنيتها المفضلة...يوقف فجأة فرسه...ينزلها ...يضمها بكل نبل وإخلاص ويحلق بها آخر المطاف في عالمه، ذلك العالم الذي تشرق فيه فقط شمس الحرية والعدالة. بعيدا عن المتعطشين للدم ... أسقتهم غالية قطرات من دم عادل ... فلم لا؟! المهم دم ...أليس ذاك ما يريدون؟ ذلك هو الشرف في مفهومهم ... لقد أعطيته لهم لأن شرفي الحقيقي لا يفقهونه.

غالية محدثة نفسها ...ساخرة: ما أغباكن ....ما أتفهكن ... نسيتن أنكن وقفتن أمام هذا الباب سابقا تطرقنه ... تصرخن ... تردن دماء بكارتي ... كيف أستغرب وأنتن عندما تُدعونَ للإحتفال بيوم الدماء تفقدن الذاكرة وتنسين حتى ثوابت الأحداث.

كانت عائلتها في قمة السعادة. وأخيرا ارتاحوا من تحمل مسؤولية ابنتهم التي كانت حملا ثقيلا على عاتقهم ومهددة لشرفهم ومكانتهم الإجتماعية. هاهي الآن غالية أصبحت في بيت عدلها، وأصبحت في طريقها إلى تأسيس عائلة خاصة بها مع زوجها الذي استطاع أن يملك روحها وقلبها، قابلا شرفها الحقيقي.

أما والدها فكانت الفرحة لا تسعه، والإعجاب بعادل هذا الفارس الذي استطاع أن يقهر ابنته بحبه. ضمه إلى صدره بقوة ...

انطلقت العائلة كلها إلى المطار، لتودع ابنتهم الغالية، وفي مقدمتهم العمة الطيبة. هذه المرة كان الوداع وداعا مميزا على أمل رجوع ابنتهم مع زوجها تحمله لهم طفلها بين ذراعيها. توجهت غالية وعادل إلى داخل المطار. كانت تلوح بيديها من خلال الزجاج ، لكل فرد من عائلتها مبتسمة، سعيدة. أثار انتباهها عمتها التي كانت تحاول اللحاق بها وشرطي يمنعها الدخول إلى مكان الجمارك، كانت تصده قائلة: لابد أن أتكلم مع ابنتي..

قطبت غالية على جبينها...أسرعت نحو عمتها...لحقها عادل...

_ ما بك يا عمتي؟ ما خطبك؟

قالت العمة حائرة: لن يهدأ بالي ولن ترتاح نفسي حتى تجيبيني على سؤالي.

_ أي سؤال يا عمتي الحبيبة؟

وضعت العمة الطيبة يدها على رأسها تحكه وكأنها وقعت على معضلة فلسفية، معقدة تريد طرحها وقالت:

_ بالله عليك يا ابنتي، كم من عذرية لديك؟

قالت غالية مبتسمة: أنا...؟ أنا ليست عندي عذرية ولم أخلق بها.

_ لكن... كيف؟

_ العذرية الأولى كانت للدكتور نبيل والثانية لعادل.

نظرت العمة مستغربة مندهشة...لم تفهم شيئا ... إلا أنها ضحكت وضحك عادل أمسك بيد غالية وانطلق بها داخل المطار وهو يلوح بيده إلى العمة الطيبة التي كانت تحرك برأسها وتعدّ بأصابع يدها، محاولة فك العقدة واللغز الذي لم تستطع استيعابه.

حلقت الطائرة ... نظرت غالية إلى البحر ... بدأت تناجيه: آه أيها الحبيب أتراك ستفهم ما أقول ... أنا غاليتك ... ابنة اليوم ... أنا غاليتك الجديدة ... أعلم أنك تفهمني وأن أمواجك تحاول التحليق في هذا الفضاء لتقول لي: هنيئا لك يا غالية، انتصارك وحريتك. آه أيها البحر أتراك تصدق ما حدث ... ما أعجب هذه الدنيا وما أغربها وأغرب ما فيها أن ما يعذبنا قد يصبح سبب سعادتنا فها أنا عشت حياتي يعذبني سري الخطير ... يشقيني ... يشردني ...وعندما أكتشف أنه لا سرّ عندي أسعى لإيجاده ولكن، كي يسعدني ويحقق ذاتي.

لامارا 15-11-13 07:23 AM

(السرد الإجرائي في العقل الشرقي )
 
الرواية انتهت عند ذلك وإليكم
(السرد الإجرائي في العقل الشرقي )

قراءة في رواية ( نهاية سري الخطير ) للروائية زكية خيرهم
١ شباط (فبراير) ٢٠٠٥بقلم عبد الكريم الكيلاني



زكية خيرهم كاتبة مغربية بما أن عنوان أي نص أدبي يشكل عنصراً أساسيا ً فيه لأنه مفتاح إجرائي يسهل للمتلقي الولوج الى عالم النص وكشف أسراره وتكوين فكرة عن ماهيته فقد أجادت الكاتبة والروائية زكية خيرهم باختيارها لعنوان إيحائي ذي دلالة ضمنية مصاحبة للحدث الذي تدور حوله الرواية فــ ( نهاية سري الخطير ) عمل سردي يعالج مواضيع مهمة في المجتمع الشرقي المليء بتناقضات إجتماعية ومنها المرأة وحاجاتها الشخصية وكيفية التعامل مع هذا الكائن الذي يعتبر عنصراً فعالا فيه لامناص من الرضوخ لمتطلباته ومنحه فسحة أكبر من الحرية ليعبر عن رأيه في كافة مجالات الحياة . وقد كان طرحها لمواضيع ختان الأناث وكبت حرياتها ومنعها من اختيار الأطار الذي تريد أن تتحرك فيه بالإضافة الى النظرة الدونية لها من قبل العالم الذكوري طرحـاً جريئاً بأسلوب شيق ولغة رصينة وقد اختارت الكاتبة زكية خيرهم شخوصها من الواقع , وأضافت لها لمسات إبداعية ساحرة لتسهيل نقل وجهة نظرها للعقل الشرقي من خلال محاكاتها للشعور الانساني وعزفها على أوتار العاطفة التي تميز مجتمعنا عن باقي المجتمعات , وكان اختيارها لبطلة الرواية ( غالية ) اختياراً موفقاً الى حد مـــــا , فهذه الفتاة التي ولدت من أم مغربية وأب موريتاني عاشت في بيئة تتخللها عوامل قاسية نتيجة لعادات وتقاليد قديمة متأصلة في جذورها حتى باتت بعض الأسر والعوائل متطرفة في أحكامها على كل مايخص بناتها ووصل الأمر عند بعضهم للقتل خوفـــاً من إتهامهم بالعار والشرف أخذ منحىً سوداوياً غير قابل للنقاش وهذا أدى الى إصدار الأحكام بحق المرأة حتى بدون تحقق ودراسة للأ سباب المؤدية لهذا الأمر , فجاءت هذه الرواية لتكشف لنا جوانب خفية من ذات المرأة وهواجسها وآلامها وتسير بعقولنا الى مساحاتها الشاسعة بوعي وإدراك وحس عال ٍ ( العرابات يستعجلن العريس ليناولهن دليل الشرف والعفة , راية الانتصار المتمثلة بقطرات دم منقوع على منديل أبيض لايتجاوز طوله المتر الواحد ...... وإن تأخر ولم يستجب لطلبهن سيكسرن عليه الباب ) وبما أن ( غالية ) تظن أنها لاتملك هذا الدليل لأنها تعتقد بأنها قد فقدت عذريتها عندما كانت في سن السابعة بسبب سقوطها أرضا ً من مكان مرتفع وظل هذا الاعتقاد راسخاً في عقليتها فالمجتمع والعادات لاتسمح لها بالاستفسار عن مسببات هذا الدم فهي أنثى والتطرق الى هكذا مواضيع يعتبر عيباً يدخلها الى متاهات هي في غنى عنها فأخذت تركز على دراستها لانها تعتبر النجاح والتسلق الى مراتب العلم منفذاً لها تحقق أحلامها وتبعدها عن الزواج وبالتالي المسائلة والعقاب الذي سيكون قاسياً حتما .. بل مميتاً .

الزمن
للزمن أهمية كبيرة في الرواية باعتباره ركيزة أساسية تستند إليها العملية السردية فلايمكن لنا أن نحيط بكيفة الاشتغال على عامل الزمن في أي عمل أدبي دون التوقف عند دلائل تربط خيوط ذاك العمل , وبالتالي فإن وجود الزمن في النصوص السردية حتمية يتخذ أشكالا ً متعددة ربما تكون لحظاتها متتابعة أو متناثرة تقوم على الانتقائية التي تحدث ترابطاً يعمد اليها المؤلف عبر البحث عن علاقات تربط الأحداث بعضها بالبعض الاخر وهذا الأمر يتضح جلياً في رواية الكاتبة زكية ( نهاية السر الخطير ) ففي الفصل الأول نجد بأن الكاتبة تحاول تكريس عامل الزمن لخدمة النص ككل ( وصلت علية من تونس العاصمة الى مطار كوبنهاجن . كانت الساعة تشير الى العاشرة صباحاً لم تكن تعرف أحداً في هذا البلد , كما أنها لاتعرف الى أين ستستمر في رحلتها متسائلة في نفسها : لماذا النرويج ؟ فأنا لاأعرف لغة هذا البلد ولم أسمع عنه قط ........لم تحصل على رحلة قريبة , لابد أنها ستنتظر حتى الساعة الثامنة ليلاً ) وهذا الوقت كان كافيا لسماع غالية وهي تحكي لها وجعها وكيف كان الزمان يضخ في فضاءاتها أشكالا من الظلم فوصلت الى ما وصلت اليه .

الفلاش باك
كما كان لخاصية الاسترجاع أو ( الفلاش باك ) دوراً فاعلا في البناء الدرامي الفني للرواية وسببا ً لإظهار الاضطرابات النفسية التي كانت تصاحب ( غالية ) على الدوام ولبنة أساسة في هيكل الصورة السردية للحدث العام في النص وهذا ما أضاف له طابعا ً خاصاً وجاذبية تدفع بالمتلقي للغوص في مفازات الرواية ومتابعة أحداثها وبالتالي ربطها الموضوعي بالهدف المزمع إدراكه , فاستعادة الراوي لعناصر وأحداث من زمن الى زمن آخر بإتقان وحرفية ظاهرة في بنية العمل أضاف له بعداً آخر وهذا مانلاحظه في أغلب فصول الرواية التي بلغت سبعة عشر فصلا ً ( فغالية إتخذت من ( علية ) رفيقتها في السفر جمهورا ً تروي لها أحداث مؤدية لهروبها المستمر من مجتمعها المتزمت حسب تصنيفها المثبت بقرائن ودلائل من واقع تجربتها الغنية فهي قد قررت العيش في مجتمع متحضر متسامح مع المرأة أو بالاحرى مع سرها الخطير الذي يعتبر مأزقها الأزلي ( - أمسكت يدها وتوغلت بين أشجار الصنوبر .

أختي لقد رأيت دما أحمر في ... ولا أعرف من أين جاء ؟؟ ابتسمت إبتسامة خبيثة وقالت أريني هذا الدم .
أطلعتها على بقعة الدم فنظرت اليها بإمعان ثم تطلعت الي ّ من غير أن تتفوه بكلمة .. كنت أرى في عينيها مئات الاسئلة .....لكنها لم تقل شيئا ً بل وقفت بسرعة والتفتت يمنة ويسرة لتتأكد إن كان هناك أحد إخوتي أو شخص بالقرب منا , ثم قالت : لنذهب بسرعة الى الحمام لكي أغسل بقعة الدم ولاتخبري أحدا عن هذا السر الخطير ... ماذا تقصدين ؟؟. هل أنا مريضة ؟؟).

المكان
للمكان حضور فاعل وضروري في حياة كل منا فهو الذي يرسخ فينا الانتماء للأرض والشعور بالمواطنة وهو بالتالي رمز وواقع وتاريخ , و ان علاقة الانسان بالمكان لايختلف عن الشعور بالزمان وذلك بمقتضى التآلف والترابط بين الإثنين فالطبائع والصفات والسلوك من تشكيلات المكان والبيئة وقد حاولت الأديبة زكية خيرهم إبراز هذا الجانب ومدى تأثيره على شخصية ( غالية ) حيث كان تنقلها المستمر بين المغرب وليبيا مروراً بصحراءالجزائر ومن قبلها أمريكا التي زرعت فيها بذرة التفاؤل بمستقبل مرموق واستقلال بذاتها عاملا ً أساسياً في بناءأفكارها وفتح مسامات رؤيتها وطروحاتها بل تحديها لكل ماهو ضد المرأة والطموح في سبيل الحرية والوصول الى مبتغاها فتواجدها في ليبيا وأمريكا أحدث عندها تغييرا ً في المكان لكنها لم تيأس ولم تستسلم للمغريات الكثيرة التي صادفتها مع انها تلك الفتاة الخجولة الغريبة عن هذا البلد بل ازداد لديها الاصرار للبقاء وشق الطريق نحو مراقي العلم ( بعد أربع ساعات تقريبا ً توقفنا في مدينة صغيرة أخرى في الجزائر . دخلنا الى مطعم لم يكن يختلف عن ذلك الذي تعشينا فيه .. كل شيءكان لونه أخضرا ً غامقا ً الكراسي والطاولات ولون الجدران .. وكالعادة إنزوى العجوز مع زوجته في زاوية ف يالمطعم .... كان سهيل وزكريا ينظران الى سمير ويتغامزان عليه ويضحكان .. احمر وجهه خجلا .. )

نهاية سري الخطير رواية جريئة ذات طرح مميز وبناءمتكامل لواقع المجتمع الشرقي وهي رسالة واضحة تدق جرسالانذار في العقول المتحضرة للعمل على نشر الوعي السليم للحاق بركب التطور وعدم الوقوف موقف المتفرج ومنح المرأة مساحة أكبر من الحرية لتأخذ دورا اوسع في كافة مجالات الحياة .

ما تمتاز به هذه الرواية هو الكيفية الحاصلة في مجتمع قيدته شروط القبلية المتزمتة بعادات وتقاليد جعلت من المراة لها حدودا غير مسموح بها في التداول لذا كانت هذه الرواية هي أداة شرط ديمقراطي ينفتح على أفق واسع في المجتمع الشرقي ولأجل خلق الحوار بين البيئات كي لاتحصل مثل هذه النهايات التي يفتض بكارتها السر الخطير إن الاندماج في خلق عقلية متنورة من خلال الروائية مع المجتمع هذا بحد ذاته تحد مغامر في كشف إشكاليات المجتمعات التي تقبض روح المزايا النبيلة عند المرأة .

لامارا 28-11-13 06:31 AM

******


كل القلوب افـ يـوم ميلادك ورود
يا وردة ٍ ماتـــشبـــهــك ايــــ وردة
هذا الفرح ماله بهاللحظـة حدود
وده يســولف للـزمن عنـك ودَه
ياللي القلوب افـ يوم ميلادك ورود
ياوردة ٍ بـك ياصل الزين حــد ِّه



ابوجدوع 17-05-17 05:48 PM

نهاية سري الخطير
 
في مجتمعاتنا يتم الخلط بين العادات وبين أحكام الإسلام وتصبح تلك العادات سيفا على رؤوس الناس لا يصح مناقشتها

Eman Hassoun 09-01-19 12:03 PM

يما هاي روايه نرفزتني متوقعتش انو في هيك اشي لحد اسا الحمدلله اني من فلسطين لانو ممنوع تعدد زوجات ويلي بتزوج مرة ثانية لا تعد زوجة قانونيا والاشي كثير قليل وبالنسبه للتعليم مختلط والكل مجبور ينام برا حد جامعة بالسكن او بشقة قريبة مع انو ديانات مختلطة ولا مرة شفت هيك مضايقات عالطالعة ونازلة بس يشوفو اني انا لابسة بتجاوزوش بالحكي معنا ومحدا بلمس حدا حتى بغضو البصر مع انو عنا بالبلد بيجو عقدين بالنسبه لالي وتعقدت من مجتمع ذكوري بس عالقليلة في مساواه بالتعليم اما بالنسبه لسهر طبعا ممنوع عالمغرب لازم اكون بالدار اذا مكنش تعليم لانو احنا منخلص تعليم عتسعة بليل فابوي كان معارض الاشي بالاول بس تعليم بيجي قبل كلشي واصلا فش بنات بتجوزو الا اذا خلصو تعليم لانها اذا بلا تعليم وشغل محدا بتقدملها ومش ضرورة الزواج بالاخر بتقدر تضل عند دار ابوها ومفشاجبار مش اذا متجوزتش يعني عار 😡😤 واذا كان شغل بعيد بتنام برا بهاش اشي اصلا سفر من اول فلسطين لاخرها ماكسيموم 6 ساعات بالسيارةالحمدلله عنا الاشي اوعى وفش هاي تقاليد باليةالحمدلله الحمدلله

Asmaa1997 28-02-19 07:35 AM

لا اله الا الله


الساعة الآن 05:56 AM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.