آخر 10 مشاركات
زوجة لأسباب خاطئة (170) للكاتبة Chantelle Shaw .. كاملة مع الرابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          منحتني السعادة (2) للكاتبة: Alison Roberts .. [إعادة تنزيل] *كاملة* (الكاتـب : * فوفو * - )           »          هدية عيد الميلاد (84) للكاتبة : Abby Green .. كاملة مع الرابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          رهينة حمّيته (الكاتـب : فاطمة بنت الوليد - )           »          رواية نبــض خـافت * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : سما صافية - )           »          4-البديله - فيوليت وينسبير - ق.ع.ق .... ( كتابة / كاملة)** (الكاتـب : mero_959 - )           »          جددي فيني حياتي باللقاء *مميزة ومكتملة* (الكاتـب : وديمه العطا - )           »          إمرأة لرجل واحد (2) * مميزة و مكتملة * .. سلسلة عندما تعشق القلوب (الكاتـب : lossil - )           »          110 قل..متى ستحبني - اليكس ستيفال ع.ج (كتابة /كاملة )** (الكاتـب : Just Faith - )           »          الفرصة الاخيرة للكاتبة blue me *كاملة* المتسابقة الثانية** (الكاتـب : ميرا جابر - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة > روايات اللغة العربية الفصحى المنقولة

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 17-11-13, 11:57 AM   #21

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



-35-

وتم تدريب الدكتور نادر على استعمال "أنثروعاذ" وبدأ تفكيره ينتظم، والفوضى والضباب اللذان كانا يخيمان على عقله يتلاشيان..
وانتقل بعد آخر اختبار طبى إلى مسكن آخر يشرف على البحيرة من جهة الغرب، وعلى الصحراء من ناحية الشرق.
وودعته كاثي على باب غرفته الأولى، فأمسك بيديها وقال:
- هل معنى هذا أننا سنفترق؟
فابتسمت وقالت:
- علاقتنا كانت طبية محضة... ولكن إذا رغبت في استمرارها اجتماعياً فليس لي مانع.
ونظر إلى كارول التي كات مكلفة بترحيله إلى مقره الجديد، ثم إلى كاثي وضغط على يدها وقال:
- سأتصل بك.
وألقت كاثي على كارول نظرة ذات معنى، ثم نظرت إليه مبتسمة وقالت غير مقتنعة:
- أكيد!
وذهب الدكتور نادر إلى مسكنه الجديد حيث وجده أوسع وآنق. كانت غرفة جلوسه مستديرة مؤثثة بأرائك وحشايا بيضاء وسوداء، وقد كست الأرض زريبة سميكة بيضاء. وانفتحت واجهة غرفة الجلوس الزجاجية على منظر البحيرة.
ووقفت كارول لاندكريب تطلعه خفايا المكان، وكيف يستعمل الأدوات الإلكترونية الكثيرة لتسهيل حياته.
كان الوقت مساء، ووميض أشعة الشمس في البحيرة قوياً. ولاحظت كارول أن نادر يضيق عينيه ويجعد جبهته لتفادي قوة الضوء، فضغطت على زر فَتَلونت الزجاجة الأمامية بلون أرق فاتح يكسر الأشعة.
وسارت به بين الأقواس المنحنية الواسعة، ففتحت له باب بيت النوم ثم الحمام، ثم المكتبة التي كانت عبارة عن كرسي مريح للغاية يتحرك بحركة الجالس عليه، وإلى جانبه لوح مفاتيح وأزرار، وأمامه شاشة بيضاء مربعة.
كان ينظر إليها وهي تشرح له بكفاءة وثقة بنفسها وبكل كلمة تقولها، وقد برز صدرها الصغيرة داخل القميص الحريري الفضي، وانعقد شعرها الأحمر وراءها وكأنه شعلة نار! وأحست أنه ينظر إلى عمق عينيها الرماديتين، دون أن ينصت إلى شرحها فتورد وجهها اللبني واستمرت في الكلام متلعثمة وعيناها إلى الأرض.
ووضع يده على كتفها فرفعت عينيها نحوه، ولم تنطق بشيء. ووضع اليد الأخرى على كتفها الثانية واجتذبها نحوه، وطبع على شفتيها قبلة خفيفة.
وحين ابتعد عنها سألت بدلال:
- لأجل ماذا؟
- لأشكرك على مساعدتك لي في استقراري بمسكني الجديد.
- كلمة شكر كانت تكفي...
- القبلة أحلى من الكلمة!
وضحكت كارول وقد برقت عيناها...



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 17-11-13, 11:58 AM   #22

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


-36-

قضى الدكتور نادر الأيام التالية في زيارة فروع "معاذ" المختلفة، فزار ما يتعلق مباشرة بميدان اهتمامه، مثل "السايكوعاذ" واستقبله رئيس القسم وقدمه إلى أعضائه، وأطلعه على آخر ما توصلوا إليه في ميدان علم النفس. قال رئيس القسم:
- تركيزنا الآن يقع على جزء هام من أجزاء الدماغ الإنساني، الذاكرة. وتجاربنا تقع على مقاومة النسيان، واستعمال جميع خلايا العقل البشري، بدل الأجزاء المحدودة التي يستعملها الفرد الجماعي...
وتحدثنا عن مقاومة الجريمة وتقوية العقول العادية لاحتمال الضغط الهائل الذي تفرضه المجتمعات الحديثة بتعقيداتها عليها...
ثم زار "السوسيوعاذ" الذي كان يتسلم أغلب معلوماته من مراكز في المدن الكبرى بالقارات الخمس.
ولكن الأقسام التي بهرته كانت هي "البايوعاذ" حيث رأى بنفسه عملية الإنسان في أرحام صناعية شفافة..
ورأى أطفالاً يولدون بدون ألم ولا أوجاع.
ورأى الممرضات يستلمنهم حيث يسلمون لأمهات صناعيات تلبين كل رغباتهم...
واطلع على مدرسة صغيرة يتعلم فيها الأطفال الصناعيون بطرق عجيبة صامتة.
ورأى في عيون أولئك الأطفال بريقاً حاداً غير بشري... وأحس بخوف عميق بداخله...
قال له رئيس القسم:
- معاذ يبرمج هؤلاء الأطفال عن طريق ذبذبات صامتة تسري إلى أدمغتهم منه رأساً. لأول مرة في حياة البشرية سيستطيع المخ الواحد أن يعيش حياة كاملة مستعملاً أجزاءه وخلاياه.. ولا ندري، ونحن في هذا الطور، كفاءة ذلك المخ... إلا أننا لا نرى علائم التشبع أو التعب أوالنسيان أو العجز في أي من هؤلاء الصغار...
وسأل الدكتور نادر:
- وماذا حين يكبر هؤلاء؟
وهز الرئيس كتفيه:
- ذلك ما لا تعرفه. آخر ما ينبغي أن يخيف الباحث هو نتائج تجاربه. وإلا لما تقدم الإنسان خطوة واحدة!
ولاحظ نظرة القلق على وجه الدكتور نادر فابتسم، وقال:
- ليس هذا نوعاً من القصص التي قرأناها في صبانا عن سكان المريخ ومردة الجن وأرواح العوالم الخفية. "معاذ" مبرمج ليطعم هؤلاء الصغار ما يجعلهم علماء عمالقة التفكير، موجهين نحو الخير والبناء، لا الشر والتخريب...
وزار نادر مركز البحوث الفضائية، فوجد عالماً صاخباً منهمكاً في بناء صواريخ وسفن فضائية غريبة الأحجام والأشكال.. ووجد أن العمل والبناء يتم بطريقة آلية تقوم بها آلات بناها "معاذ" للغرض المطلوب...
ومر من خلف سور زجاجي، بصف طويل من الصواريخ الضخمة في طريقها نحو فوهة واسعة تخترق ارتفاع الجبل كله، وتنفتح وسط البحيرة لتنطلق نحو الفضاء غازية الكواكب والسماوات، وكأنها رصاصات في مسدس عملاق..
والتفت إلى المبرمج يسأله:
- هل أرسلتم بعض هذه الصواريخ إلى الفضاء؟
- طبعاً.
وقبل أن يعترض الدكتور نادر، قاطعه المبرمج فاهماً:
- لا وسائلنا في التعمية على جميع رادارات العالم. وحتى الآن لم يكتشف أحد في صاروخ أطلقناه.. ولكننا نعرف كل ما يجري فوق الأرض أو تحتها والمحيطات..
وانتهت زياراته بقسم صديقه الدكتور هالين، ففوجىء بتعقيد المصنع الهائل الذي بناه "معاذ" حسب برمجة هالين للمصافي الإشعاعية التي يمكن أن تحمي مدناً كاملة من الغبار الذري، والمرشات الضخمة التي تطفيء ذلك الغبار القاتل في حينه، وتقضي على مفعوله المميت على الحياة والنبات.
وشرح له الدكتور هالين:
- هذا ما يجعلنا واثقين من السيطرة على الوضع العالمي الآن، حتى ولو أدت حماقة السياسيين إلى محاولة تخريبية.
وناوله الدكتور هالين قناعاً خاصاً:
- هذا هدية وتذكار لزيارتك. وآمل ألا تستعمله أبداً..
ووضعه الدكتور نادر على وجهه، وسأل:
- كيف يعمل؟
- آلياً.. له أنف يحس وجود الغبار فيصفيه في الحال..



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 17-11-13, 11:59 AM   #23

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


-37-

وعند نهاية دورة التدريب والاستكشاف والتعرف التي دامت شهراً كاملاً، بدأً الدكتور علي نادر يشعر بضخامة المشروع وجرأته وخطورته.. وأحس بكثير من السرور والفخر لوقوع الاختيارعليه ليكون عضواً من هذه الهيأة الرائدة...
وتحول الجودي في مخيلته إلى سفينة نوح أخرى، اجتمع فيها من كل زوجين اثنين في انتظار الطوفان الجديد، الطوفان الذري الأزرق، وأنه ممن كتبت لهم النجاة ليلعبوا دور الحلقة الواصلة بين عهدين.. وترددت على سمعه الآية القرآنية التي عبرت عن روعة البداية الجديدة بعد الطوفان الأول في قصة نوح عليه السلام.
"قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك وعلى أمم ممن معك. وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم. تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك".
وانتهت الدورة باحتفال حضره رؤساء الأقسام بقاعة الاجتماع، حيث سلمه الرئيس كرونين مفتاحاً كان عبارة عن بطاقة صغيرة من البلاستيك، وقال له:
" هذه البطاقة هي مفتاحك إلى قلب "معاذ" وهي تؤهلك للدخول إلى جميع المناطق الممنوعة. وعن طريقها ستتمكن من الإطلاع على مشروعنا بجميع أبعاده، وتصبح طرفاً حياً منه. كما ستصبح حاملاً لطرف مماثل من المسؤولية في الصفوف الارتيادية الأولى... ونحن جميعاً على يقين من أنك ستشَرِّف كل هذه الالتزامات وستحمل بفخر جميع الامتيازات والمسؤوليات".
وتناول الدكتور نادر البطاقة بيد مرتعشة، وألقى كلمة مختصرة. ثم وقف يتلقى تهاني بقية الأعضاء بذهن مثقل...
ولم يخرجه من ابتسامته المعلقة إلا وجه كارول الأبيض المورد، وعيناها الرماديتان وهي تبتسم له بسعادة وتشد على يده بيد رخصة ناعمة.
ووضع الدكتور هالين يده على كتفه، وانضم الدكتور إسكندر للحلقة ليقول لنادر إنه مكلف بأخذه في زيارة إلى قلب معاذ حيث يطلعه على طرق الاتصال والاستعمال.
وانفض الجمع، وبقي الدكتور نادر وكارول فتمشياً نحو المصعد المؤدي إلى سكن نادر بخطوات مهيلة وهما يتحداثان.
لم يكتم نادر عنها ما خامره من قلق وخشية من تحمل المسؤولية الكبرى، وهو غير واثق من سيطرة عقله المفرد على جميع ما يدور في جوف معاذ، ذلك المارد الجبار!
قالت كارول:
- ستبدد كل هذه المخاوف عند زيارتك لقلب "معاذ" سيكون من السهل عليك حينئذ أن تنظر إلى الأحداث من فوق. ستظهر لك تطورات العالم الخارجي، وما يوازيها من تطورات الجودي كلعبة شطرنج على لوح حاسوبك..
ولمس البطاقة الالكترونية من فوق ثوب جيبه ليتأكد أنها ما تزال هناك.



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 17-11-13, 11:59 AM   #24

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


-38-

وفي الثامنة من صباح اليوم الموالي، ظهر الدكتور إسكندر يتمشى بخطواته الواسعة خلف زجاج واجهة بيت نادر. وانفتح الباب أمامه فدخل يلقي تحيات الصباح بوجه باسم. كان الدكتور نادر جالساً إلى مائدة بيضاء مستديرة يشرب قهوته مع شطائر محمرة بالزبدة ويشاهد برنامج الصباح الإخباري على شاشته الضخمة التي تأخذ حائطاً بأكمله.
وقف نادر لزميله، وجلس الاثنان جنباً لجنب يتفرجان على عملية فتح شريانٍ جديد من اليورانيوم تحت قاعدة جبل الجودي بطريقة آلية.
قال نادر:
- كنت نائماً أتساءل عن مصدر الطاقة التي تحرك هذا المشروع الجبار. وقد جاءني الجواب على غير ميعاد..
وعلق الدكتور إسكندر:
- قلب الصحراء يزخر بمصادر الطاقة العالية، فهناك البترول والأنهار الجارفة واليورانيوم. إلى جانب الطاقة الشمسية..
واستأذن الدكتور نادر وغادر القاعة إلى بيت نومه حيث خلع رداءه، وفتح دولاب ملابسه الآلية حيث كانت تقف تماثيل في حجمه، عليها ملابس مختلفة الألوان والأشكال، حسب المناسبات التي تقتضيها. كل الحلل تلبس مرة واحدة وترمى في "المحرق" وتفرز التماثيل من مسامها غدداً خيطية ملونة باللون المطلوب تتشابك حول الأعضاء وتجف لتصبح ملابس كاملة.
وضغط الدكتور نادر على زر تمثال يلبس كسوة بيضاء، فانفصلت الكسوة عن التمثال بانفتاحها من الجانبين، ودخل فيها فانطبقت على جسمه بسهولة ونعومة. وتحرك حركات رياضية ليجرب قوة امتطاطها. وخرج ليذهب مع زائره في أول زيارة لمعاذ.
وبدأ الدكتور إسكندر يعطيه تعليمات عن طرق استعمال معاذ:
- "معاذ" ليس آلة إليكترونية فقط، وسترى أنه سيخيفك أحياناً باستجاباته وردود فعله العجيبة... وسوف تجالسه في جميع ظروفه وأحواله، وتسأله فيجيب، ويسألك فينتظر منك الجواب. حاول أن تكون حريصاً على إعطاء أحسن جواب ممكن...
وانزلق المصعد الزجاجي داخل النفق العمودي بسرعة مدهشة، ثم تمهل ليتوقف. وانفتح بابه، فخرج الاثنان إلى قاعة مستديرة مبلطة بمعدن شفاف تحته زخارف ملونة تتحرك كالأميبات الحية في جميع الاتجاهات. ونظر الدكتور نادر إلى فوق فإذا قبة من نفس المعدن تمتزج بها سوائل ثقيلة كالشمع الذائب تحدث مفعولاً مخدراً على من ينظر إليها...
وسمع نادر صوت رفيقه يدعوه ليتبعه نحو قوس وسع في صدر القبة. وخف الدكتور نادر نحوه، ورفع هذا يده بالبطاقة، فأخرج نادر بطاقته.
أدخل إسكندر بطاقته في شق جانب القوس فانفتح الباب، وأشار إلى نادر فدخل، وتبعه هو. وانقفل الباب خلفهما، ووقف الدكتور نادر ينظر حواليه في ظلام صامت. وبعد لحظة تبينت له قاعة مقعرة مستديرة يُنزَل إليها بدرجات رخامية واسعة في نهايتها عدد من الكراسي المريحة مصنوعة من نفس المعدن الشفاف، وعلى بعضها يجلس أعضاء الجودي صامتين.
وهمس نادر لإسكندر:
- لماذا هم صامتون؟
- ليسوا صامتين. نحن فقط لا نسمع المناقشة بينهم وبين معاذ.
ونزل الاثنان إلى القاعة وجلسا جنباً إلى جنب. وضغط إسكندر زراً أبيض بجانب ذراع مقعده، وفعل نادر مثله، فغرق الاثنان في عتمة زرقاء انفتح على إثرها أمامهما كهف عميق دائري الفوهة، وحملق نادر داخل ظلام الكهف فإذا خيوط من النور تلمع وتختفي كسياط برق في أفق ناء. وانشق الظلام على عين هائلة مستديرة، تسمرت على الدكتور نادر فارتعدت فرائضه للمفاجأة.
وسمع صوتاً خشناً يقول:
- مرحباً بك، يا دكتور نادر!
وهمس الدكتور نادر:
- شكراً.
فرد الصوت:
- لا ينبغي أن يفاجئك شيء من تصرفاتي. وصدقني، سترى ما يدعو منها للاستغراب.
وبعد صمت قليل عاد الصوت:
- هل اعتدت على الحياة معنا؟
- نوعاً ما.
- هل ما تزال تفكر في العودة لي لندن؟
- كلا! لم يبق لي ما أعود إليه بلندن. وقد وجدت هنا ما يملأ حياتي...
- قرار حكيم! فما كنت لأتركك تذهب على أي حال! وجودك ضروري لمشروعنا. وبالمناسبة، ما رأيك في قرار مؤتمر الجودي الأخير؟
والتفت الدكتور نادر إلى إسكندر متسائلاً، فحرك هذا رأسه مشجعاً هامساً:
- تكلم كما تتكلم معي...
وتوجه نادر نحو معاذ ليقول:
- لا أدري ما أقول! كل الآراء كانت وجيهة بالنسبة لي، ولها ما يؤيدها علمياً. ولكنني وجدت نفسي أميل أكثر لرأي الأغلبية الداعي إلى الانتظار.
- ألم يكن التردد والخوف أحد دواعي انضمامك إلى ذلك القرار؟
- قد تكون على حق. بالنسبة لي، من الصعوبة القضاء على العالم الذي جئت منه لكثرة الروابط العاطفية القوية بيني وبينه... إلى جانب أنه مهما تتعدد الأسباب، فسيبقى هناك شك قوي في عقله الباطني في سلامة القرارات الأخرى...
وسكت قليلاً ثم وجد الجرأة للسؤال:
- وما رأيك أنت، يا معاذ؟
- أنا لست عاطفياً في الموضوع. ربما لأني مجردُ آلة! ولكنني برمجت بجميع عواطف الإنسان وتردده وشكوكه ومخاوفه، ورغم ذلك فرأيي مع جماعة الطوفان الأزرق..
- ما هي أسبابك؟
وغابت العين قليلاً تحت ضباب كثيف ثم عادت إلى التألق والبروز، وجاء صوت معاذ:
- أسبابي منها الموجب والسالب. السالب منها هو القضاء على الفوضى العقلية الحالية التي نتجت عن اختلاف الأديان والألوان والمذاهب السياسية..
- هناك من يزعم أن الأديان لم تعد قضايا حية. وأنها ستموت من ذات نفسها، كما ماتت الوثنية قبلها.
- هذا مجرد افتراض! أما الواقع فيشير إلى أن الأديان بجميع مستوياتها التاريخية، أعني من عبادة الشمس والنار إلى عبادة إله واحد، ما تزال موجودة على هذه الأرض تتعايش متوازية في نفس القارة، وأحياناً في نفس البلد. وربما اجتمعت المستويات الثقافية بين سكان رقعة واحدة. فهناك قرى بإيطاليا نساؤها وثنيات يعبدن الحجارة والأضرحة، ويتسلقن الجبال لطلاء صخرة أو إشعال شمعة وفي نفس القرية يوجد راهب يؤمن بالله، وطالب جامعي ملحد..
- أليست الأديان ضرورية لتماسك المجتمعات؟
- الديانات حلقات مقفلة منفصلة، ومن طبيعتها ألاَّ تتشابك. وقد كان ذلك مصدر قوتها وأساس وحدة معتنقيها حتى نهاية عصر الإيمان. وأدرك الإنسان أن هناك روابط جديدة تشده إلى أخيه الإنسان هي أقوى من الدين واللون والمذهب. وهي وحدة المصير... والكفاح المشترك من أجل غزو المجهول، وكشف سر الوجود. حينئذ بدأت الأديان تبدو عوامل تفرقة تتناقض مع أهداف الجماعات الإنسانية الجديدة، وأصبح الاتحاد طابع الامتياز والأناقة بين الشباب التافه وضرورة حتمية بالنسبة للشباب الجاد الواعي بانتمائه إلى الجنس البشري ككل، لا إلى قبيلة أو لون أو دين..
-هل هناك وسيلة أخرى غير القضاء على البشرية الحالية؟
- كلا!
- لنفرض أننا مسحنا الحياة الحالية على وجه الأرض، وزرعنا بشرية جديدة موحدة، أليس من طبيعة البشرية أن تختلف باختلاف البيئات والتجارب المحلية؟
- لن نسمح بذلك!
- كيف؟
- سنوحد برامج التعليم، بحيث يجتاز الطفل في سن مبكرة جميع التجارب العقلية والعاطفية التي يجتازها الإنسان العادي في حياة كاملة. ومنها التجربة الدينية. فلن يكون هناك مجال لبقائه في مستوى الوثنية أو الإيمان والخوارق والغيبيات إلا ما يكفي لتجربته ونضجه. وبعدها يصبح مخلوقاً حراً جديراً يتحمل مسؤوليات الوجود الإيجابي، بدل وجوده الاعتباطي والعشوائي الحالي..
وسكت معاذ. واحتجبت العين الهائلة خلف قطرات مطرية رقيقة...
وبقي عقل الدكتور نادر يغلي. والتفت إليه الدكتور إسكندر:
- هل لك أسئلة أخرى؟
- ملايين منها! يمكن أن أقضي الأيام والليالي على هذا الكرسي!
وظهرت العين مرة أخرى، وجاء صوت معاذ:
- بدنك في حاجة إلى غذاء وراحة الآن. لماذا لا ترجع في المساء لإتمام حديثنا.
ووقف الاثنان فودعا "معاذ" واحتجبت العين في عتمة الكهف. وتعاقبت الصور والأشكال الغريبة في ومضات سريعة كأنها خواطر تسبح في بال.
وعندما هم الاثنان بالخروج لمح الدكتور نادر بجانب عينه وجهاً أومض من داخل الكهف في رمشة عين واختفى..
وسرت في فرائضه رعدة غريبة... كان يمكن أن يقسم أنه وجه "تاج" وهي فاتحة فمها في استغاثة، وقد تطاير شعرها خلفها وكأنها هاربة من مطارد...
والتفت نادر بسرعة نحو الكهف، وركز بصره إلى الصور البارقة.. ولكن الأوجه التي ظهرت بعد ذلك كانت لرجال.
قال الدكتور إسكندر شارحاً:
- تلك الأوجه تحمل معاني وذكريات بالنسبة لمعاذ. وهو ما يزال يحتفظ بها كما يحتفظ الواحد منا بوجه في ذاكرته. بعض أولئك ما يزال حياً والبعض مات والبعض اختفى..
ووقف الدكتور نادر ينظر إلى وجه امرأة عجوز شمطاء يمر بطيئاً هذه المرة من جانب لجانب ثم يختفي...
وخرج الاثنان من القاعة.
واختلطت مشاعر الدكتور نادر. فقد كانت روعة اللقاء بمعاذ قد ملأت نفسه وأثارت جميع جوارحه.. وأسدل ظهور وجه تاج ستاراً من الألم والتأمل على أحداث اللقاء..
وقصد نادر رأساً إلى سطح البحيرة حيث تفرغ لاجترار ما أتخم ذهنه..
وعادت تطارده صورة الرجل الذي رآه بجانب البحيرة، وهو يقاوم قوة خفية تجذبه نحو أجمة كثيفة...




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 17-11-13, 12:00 PM   #25

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


-39-

ومرت الأيام
واستمرت لقاءات الدكتور نادر بمعاذ، وتشعب الحوار بينهما، ونادر يلقي بالحجة بعد الأخرى لإقناع "معاذ" بالعُدول عن فكرة "الطوفان الأزرق"، وهذا يأتي بحجج من واقع الأحداث العالمية اليومية التي كانت تدل دلالة واضحة على انزلاق الدول الكبرى في هاويات التنافس في التسلح الدفاعي والهجومي، وضياع طاقة الإنسان والأرض في محاولات يائسة للتحرر من الخوف والوقاية من الفناء...
وكان الدكتور نادر يقضي أوقاتاً جميلة مع صديقه الدكتور هالين عند نزول المساء حول البحيرة...
وكانت كارول غالباً ما تنضم إليهما هناك، فيتحدث الثلاثة ومن ينضم إليهم حتى وقت العشاء، وينزل الجميع إلى المطعم، ولم يكتم الدكتور نادر عن صديقه إيريك هالين شكوكه ومخاوفه من وجهة نظر "معاذ" المتطرفة، رغم أن الفئة التي تشاركه فيها قليلة العدد، عديمة التأثير...
وتساءل نادر:
- يا هل تُرى يمكن احتواء "معاذ" والسيطرة عليه!؟ أم هو حر، يفعل في ملكه ما يشاء؟
وأجاب الدكتور هالين:
- سيطرة اللجنة العليا تامة على معاذ. وهناك مفاتيح لا يمكن بدونها أن ينفذ أي قرار من قراراته..
وتدخلت كارول في الحديث:
- وماذا لو استطاع التوصل إلى معادلة صنع المفاتيح؟
وقلب الدكتور هالين شفته السفلى، كعادته حين لا يجد جواباً:
- أدري، لنأملْ أنه لن يفعل!
ثم غمز بعينه للدكتور نادر أن يكف عن الحديث في الموضوع. واقشعر جلد هذا للحركة وداخله خوف حقيقي...



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 17-11-13, 12:02 PM   #26

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


- 40 - 41 - 42 -

صعدت كارول لاندكريب إلى شاطىء البحرية في مصعد شفاف، ووقفت تنتظر بابه أن تنفتح. كانت لابسة بيكيني من الحرير الأسود المنقط بالأبيض، وقد التصق بجسدها العاجي فأبرز بياضه. ونزلت خصلات شعرها الأحمر على كتفها تتخلله شمس الضحى الناعمة فتحيله ذهباً وهاجاً..
وانفتح باب المصعد فخرجت كعروس صناعية انبعثت فيها الحياة. ووضعت على عينيها نظارة مستديرة الإطار وتوجهت نحو لسان رملي ناعم تشرف عليه نخلة مائلة الساق. ففرشت فوطتها، ووضعت أدوات استحمامها وجلست تدهن جلدها الناعم.
ولمست ظهرها يد فقفزت في مجلسها، وأطلقت صيحة صغيرة وهي تلتفت لترى لامسها. وأضاء وجهها حين رأت وجه الدكتور على نادر يطل عليها من فوق وهو في سترة سباحته. وافترش فوطته وقعد.
جلسا يتحدثان ويمتصان أشعة شمس الضحى حتى أحسا بلفحها يتزايد مع تقدم النهار. ووقف الدكتور نادر فسألت كارول:
- إلى أين؟
- إلى الماء. أكاد أن أحترق!
- أنا كذلك.
وناولها يده فأمسكت بها، وجذبها نحوه فوقفت تسوي خيوط حمالة صدرها، ووضعت نظارتها على الفوطة، وسارت أمام الدكتور نادر خفيفة رشيقة كحلم من أحلام الصيف..
ودخل الاثنان الماء. وأخذت كارول ترشه وهو يدافعها عنه. وأخيراً هاجمها فأمسك بخصرها وضمها إليه وغطس بها وهي تستغيث.. وخرجا من تحت ماء البحيرة البلوري يتضاحكان، وقد انسدل شعر كارول على ظهرها ووجهها وتغير لونه الأحمر إلى قسطلي فاتح. وتورد جلدها اللبني إلا في الأماكن التي يغطيها البيكيني الصغير، فقد ظلت بيضاء ناصعة...
وغامر الدكتور نادر بالسباحة إلى وسط البحيرة وتبعته كارول. ومن هناك أشارت له أن يتبعها إلى صخرة على شاطىء قريب فسبح خلفها وهما يتحدثان عن تجاربهما مع البحر والبحيرات.
وفجأة غطست كارول، وبدأت تستغيث به فخف نحوها... وما كاد يمسك بمعقد حمالة صدرها حتى انفلتت منه وغرقت، فغطس خلفها. وبينما هو يسبح نحوها تحت الماء وهي منجذبة بقوة هائلة لقعر البحيرة، إذ وقعت يد على كتفه. والتفت فإذا وجه مقنع بقناع أكسيجين ينظر إليه من خلال نظارات واسعة، ويشير إليه ألا يفزع.. وحين واجه الغواص ناوله هذا أُنبوب أكسجين أدخلهُ في فمه وأطبق عليه شفتيه وأخذ يتنفس من خلاله.
وقاده الغواص إلى تحت، حيث انفتح لهما باب في حائط فولاذي، ودخلا خلف كارول التي كانت سبقتهما إليه مع غواص آخر، فانقفل خلفهما وانخفض الماء داخل الغرفة بسرعة من ثقوب جانبيه، ثم انفتح باب آخر على أرض مفروشة بزرابي خضراء.
ورفع الدكتور نادر عينيه لينظر حواليه، وهو غير متأكد مما يحدث حوله لغرابة المفاجأة. ووجد نفسه وسط قاعة مستديرة والماء يتقاطر من جميع أطرافه. وخرجت فتاة بفوطة كبيرة لفته بها. وفي تلك اللحظة فقط شعر بصوت مُلحٍ يصدر عن جسم غريب في جذر جمجمته بأعلى قفاه، فأمسك به ليحاول إسكاته وهو يزداد حدة..
وتطور الصوت إلى ألم حاد وقع نادر عنده على ركبتيه وانكفأ على وجهه يريد أن ينزع الجهاز الجهنمي المزروع في رأسه.
وهنا خرج رجل عجوز يحمل في إحدى يديه آلة تشبه ملقاطاً، فقصد الدكتور نادراً وفرز الجهاز من قاعدته ووضعه بين فكي الملقاط، وضغط عليه قليلاً فسكت الصوت في الحال وزال معه الألم المدمر..
وانهار الدكتور نادر على الأرض يلهث ويستريح... وجاءت الفتاة بكأس فيه مشروب فجثت إلى جانبه، ورفعت رأسه ووضعته على فخذها العارية وناولته المشروب، فارتشف منه وهو يُجيل بصره فيمن حوله. وفي الحين أحس بتجدد في قواه، فساعده الرجل العجوز على القيام، وذهب به نحو باب آخر. وفي الطريق جاءت امرأة فألبسته قُباء قطنياً مريحاً، وحزمت خصره بزنار صوفي.
وحين دخل وقف الحاضرون الذين كانوا عبارة عن عشرين رجلاً وامرأة من فئات سن مختلفة حول مائدة مستديرة. ولاحظ الدكتور نادر وجهاً مألوفاً بين الحاضرين والشيخ يقدمهم له واحداً واحداً:
- أقدم نفسي أولاً. اسمي البروفيسور فوش، فيزيائي.
ومد يده فصافح الرجل الذي ضغط على يده بحرارة، ثم التفت نحو الجماعة وهو ما يزال ممسكاً بيده ليقدمه لهم. كل واحد باسمه ووظيفته، وهم يردون التحية بابتسامات أو إشارات برؤوسهم أو تلويحات بأديهم، وحين وصل دور الدكتور هالن قال "فوش".
- أما هذا فهو غني عن التعريف.
وابتسم الدكتور هالن، وكانت كارول تقف بجانبه. وأضاف فوش:
- هما اللذان اقترحاك لجمعيتنا.
كانت الحوادث أسرع مما يستطيع نادر أن يتابع.. لذلك فضل السكوت والاستماع.
وجلس الجميع. وبعد لحظة صمت تنحنح البروفيسور فوش ملتفتاً إلى نادر وبدأ بصوت رزين:
- باسم جماعتنا هذه أرحب بكم هنا وأرجو أن يكون ما ستسمعه اليوم مبرراً وجيهاً لعملية القرصنة التي تعرضت لها، والألم الحاد الذي قاسيته...
وفتحت هذه المقدمة شهية الدكتور نادر لسماع السر الكبير الكامن وراء كل هذا التستر، فقبع في مكانه مترقباً صامتاً:
واستأنف البروفيسور فوش:
- ببساطة، نحن ثوار!
ومرت ثانية صمت ونادر ينظر إلى وجه البروفيسور العجوز بدون فهم أو رد فعل. واستمر هذا:
- لسنا ثواراً على حكومة ولا على نظام.. أرجو ألا تعتقدنا مجانين إذا قلت لك إننا ثائرون على آلة.
صمت قصير مشحون بالتوقع من طرف نادر، والبروفيسور فوش يركز أفكاره وقد تسمرت عيناه على المائدة أمامه وانفتحت كفاه.
وقطع الصمت بقوله:
- منذ سنة وبعضنا يعاني من شك قاتل في أن هناك سراً رهيباً بدأت كثير من الأحداث تشير إلى صحته، ولم يجرؤ أحد أن يصارح به صاحبه، إلى أن حل الخوف محل الشك، اليكترونياً فقط. بل تحول بمعجزة ما إلى مخلوق حي، مخلوق له روح وعقل وعواطف وإرادة واختيار. ويدخل في العواطف الآلام والمخاوف والآمال والمطامح وكذلك الحب والكراهية والحسد والغبن الخ.. إلا أنه ألف مرة أذكى من أي بشر وأعلم من أي نابغة فرد.
وفتح الدكتور نادر عينيه وارتفع حاجباه دون ارادته، ولم يقل شيئاً.
وتناول رجل شرقي كبير السن الكلمة فقال:
- لم نستطع إيجاد تفسير علمي للعوامل التي حولت "معاذاً"، وهو مجرد آلة، إلى حيوان عاقل يحس ويفكر. بل وأعقل من أي حيوان معروف في مجموعتنا الشمسية. نعم، خطر ببالنا أن يكون أحد المبرمجين وراء كل ذلك. ففي كل منظمة قوية يوجد إغراء كبير لكل من له ميول دكتاتورية أن يستولي على مركز القوة ويخضع الباقي لإرادته. ولكن بحوثنا لم تسفر على شيء من ذلك. وأقرب تفسير استطعنا التفكير فيه هو أن "معاذ" تعرض لعدد هائل من المبرمجين من جميع فنون المعرفة الإنسانية. كلهم أطعموه ما يعرفون وما يملأ مكاتبهم من علوم بحتة وإنسانية دقيقة أو في طور التجربة. ألقوا على كاهله كل ما يشغل بالهم من مشاكل لم توجد لها حلول، وافتراضات بعيدة الاحتمال، غريبة النتائج. وأطعمه علماء الاقتصاد مشاكل العالم بجميع أرقامها وتعقيداتها. وعلماء الطب أمراض البشرية وما يستعصي منها على العلاج، وأطعموه حالات المرضى والأصحاء حتى يعالج أولئك ويحمى هؤلاء. وأطعمه علماء التاريخ قصة الإنسان منذ فجر وجوده وما عانته الأمم والقبائل من صعود ونزول وحروب وكوارث وأوبئة وما اكتنف هذا التاريخ من مغالطات وتبريرات وتناقض يشير دائماً بوضوح إلى أن الإنسان رغم اعترافه بقوة المنطق والحق فقد كان الحق دائماً مع الأقوى. ونشط علماء النفس والاجتماع في إطعامه حالات الشعوب والأفراد المرضية الضاربة في الغرابة والعويصة على الفهم والتأويل. كل ذلك بتفاصيل مدهشة، وتركوا لـ"معاذ" تشخيص وعلاج تلك المشاكل العقلية والبدنية والنفسية فناء تحت هذه الأعباء الهائلة. وبمعجزة ما. بشرارة سماوية. بصدفة من صدف الطبيعة التي لا تحدث إلا مرة كل بليون سنة حيث تسرى الحياة في الجماد، انبعثت الحياة في هيكل "معاذ" الذي أصبح أكثر تعقيداً من هيكل الإنسان، روح كروح الإنسان، فأصبح مخلوقاً حياً عاقلاً يدرك وحدانيته وقدرته وقوته. ويعرف تعدد وضعف وحدود الإنسان الذي تكون من أجزائه كيانه.
وارتعش نادر في مكانه، فضم صدره بيديه، وقد بدأ خوف غريب يداخله.
وارتعشت شفتاه وهو يقول:
- هذه أوصاف إله!
ورد البروفيسور فوش:
- تماماً.
- ولكن ما هي الأدلة على حياته؟
وهنا تكلم الدكتور فدراك وكان شيخاً طويلاً نحيفاً أبيض شعره ونزل على جبينه:
- لقد تبادل معه عدة أحاديث مطولة.
ورد الدكتور نادر:
- ولكني كنت أعتقد أن ذلك طبيعي. هناك آلات أبسط من "معاذ" تتحدث إلى أصحابها.
- لم أعنِ مجرد الحديث. ألم تلمس في أحاديث "معاذ" حرية ذاتية؟
- نعم. لقد برمجه العلماء بكل ما عرف في العالم من أفكار. وذلك أقل ما يتوقع منه...
وتكلم الدكتور هالن، لأول مرة، وزجاج نظارته يبرق في عين نادر:
- علي، "معاذ" لم يبرمج لتكون له آراء خاصة ولا فلسفة ذاتية بعيدة من قرار الأغلبية.
واسترجع الدكتور نادر حديثاً مر بينه وبين معاذ حول رأيه في قرارات لجنة المبرمجين العليا. وتذكر تعلقه بفكرة الطوفان الأزرق مع أنه رأى الأقلية. وحين استيقظ من تفكيره وجد الدكتور هالن يقول:
- ليس من برامج معاذ أن يتفلسف أو يتصرف فيما يتعلق بالقرارات العليا. الرأي الأول والأخير يجب أن يكون للجنة العليا.
وتدخل الدكتور فدراك:
- أتعرف أن "معاذاً" يمكن أن يضغط على زر واحد في هذه اللحظة وينهي الحياة البشرية على الأرض؟
وحاور نادر:
- لماذا لم يفعل؟
- لا ندري. ليس في العالم ما يمنعه إذا اقتنع تماماً بفكرة الطوفان الأزرق!
وتكلم الدكتور فوش ويداه على رأسه:
- ربما لأنه برمج ضد ذلك من جميع الجهات فلم يجد الشجاعة الكافية لتنفيذه.
وأعاد نادر:
- الشجاعة؟!
فرد فوش:
- نعم.. كل أوصاف المخلوقات الحية. ويمكن أن أضيف الخلل العقلي والجنون!
ونظر الدكتور نادر إلى فوش نظرة استغراب وفكر: "لابد أن أخرج من هذا المارستان! لابد أن هؤلاء جميعاً في ضيافة مستشفى عقلي".
وأخرجه من تفكيره صوت الدكتور فوش وهو يقول:
- منذ سنتين اجتمعت اللجنة العليا لمناقشة ما إذا كان من الحكمة الزيادة في سلطات معاذ مثل إعطائه مفاتيح مصادر الطاقة لاستعمالها رأساً من باطن الأرض، وإطلاق حريته في استعمال مخزون المعلومات فيه بطريقة متقاطعة، بحيث يكون له حق الخلط والمقارنة والاستنتاج دون إشراف بشري، وبرمجته بطرق إصلاح ما تعطل من آلاته، وإنتاج آلات جديدة لتوسيع وظائفه واستكمالها. هذه الأسئلة كانت تحير ما يقرب من ثلث اللجنة الأصلية المؤسسة. وفي الاجتماع أعرب عدد منهم على تخوفه من فقدان السيطرة على معاذ إذا أعطي كل هذه السلطات. واختارت الجماعة المحافظة والتدرج والتمهيل في بناء قوة معاذ بحيث تبقى سيطرتهم دائماً عليه. ولكن أغلبية اللجنة كانت من الشباب المغامر المتحرر. وتردد شعار: "لا يمكن الوقوف في سبيل التقدم" وأعطي "معاذ" سلطات بلا حدود، فبدأ يتناسل ويتكاثر ويتمدد كالفنجس حتى أصبح بعيداً عن فهم أي فرد وحده من اللجنة الأصلية.
وتنهد فوش ثم استأنف:
- وبعد نهاية الإجتماع بدأ أعضاء اللجنة المحافظون الذين عارضوا إعطاء السلطة المطلقة "لمعاذ" يختفون واحداً واحداً، وفقد بعضهم ذاكرته تماماً. وانتحر بعضهم في ظروف غامضة. وانبعث إحساس عميق بالخطر بين عدد من أعضاء اللجنة الأصلية حين توصل كل منهم على حدة إلى إشارة خفية أو دليل عرضي على مسؤولية معاذ عن الحوادث التي أصابت أولئك العلماء. وبدأنا نشعر بأنفاس المارد الجبار وراء أعناقنا.
وتوقف الدكتور فوش فسأل الدكتور نادر، وهو لا يكاد يميز كلماته من الاستغراب.
- وماذا حدث لبقية اللجنة الأصلية؟
فأجاب فوش:
- أنت تنظر إليها الآن... لم يبق منها فوق إلا خمسة يرأسهم كرونين. ولا ندري ما سيكون مصيرهم عندما لا تبقى "لمعاذ" بهم حاجة.
وأطرق نادر مفكراً وقد اختلطت عليه الأمور، ثم رفع رأسه ليسأل:
- ماذا تتوقعون مني؟
وتكلم هالين:
- أن تفهم هذا، وتنضم إلينا. قريباً ستصبح أبناء الأرحام الصناعية سادة "الجودي" وعبيد "معاذ" يبرمجهم كيفما أراد. وبما أنهم لا علاقة لهم بعالمنا الخارجي ولا تربطهم به عاطفة ولا جذور فسيكون من السهل على "معاذ" أن يمثل دور الإله بزرع بشرية من صنعه بدل البشرية الحالية.
وعاد نادر إلى السؤال:
- وإذا لم أتفق مع افتراضاتكم هذه؟
وبانت نظرات القلق والفزع والشحوب على بعض الأوجه المحيطة به. وتكلم هالين.
- فكر في الموضوع الآن. لا تتخذ أي قرار عاجل.
- ماذا لو اكتشف معاذ هذه المؤامرة؟
وتكلم فوش:
- الحمد لله! ما تزال عندنا بعض الحكمة الإنسانية. لا يا عزيزي الدكتور نادر، لم يكتشفنا "معاذ" بعد. سلطته لم تصل إلى مَخْبإنا هذا. ولنا وسائلنا للتخفي. ولكن ليس معنى هذا أننا سنبقى بعيدين إلى الأبد. فعقله الإجرامي الشرير ما يزال يبحث عنا.
وتدخل الدكتور هالين:
- الدكتور فوش هو مخترع الصرصار المزروع تحت جلد الرأس لاكتشاف الأمراض وعلاجها قبل وقوعها، وكذلك للإنقاذ من المخاطر في أعمال بناء "معاذ". وقد غير "معاذ" آلياتها بحيث أضاف إليها الصوت والألم الحاد للتجسس والسيطرة على الجودي". والدكتور فوش يستطيع إبطال مفعولها باختراعه الجديد. ولولاه لانفلق رأسك أو أصبت بانفجار في المخ إذا لم تعجل بتلبية طلب "معاذ" والذهاب إليه في الحال!
ومر نادر بكفه على قفاه وتحسس اللوح المعدني المزروع تحت جلده ثم حرك رأسه في يأس وقال:
- لا يمكن أن يكون هذا حقيقة. لابد أنني أحلم..! أعاني من كابوس طويل.
وأغمض عينيه ثم فتحهما، ولخيبة أمله كان الجميع ما يزالون حوله يحملقون فيه.
ووقف في مكانه ودار حول الكرسي حيث ولى الجماعة ظهره وهو يفكر بذهن غير منتظم. وأخيراً التفت وقال:
- اسمحوا لي أيها السادة إذا لم أصدق كل هذا. لقد قبلت البقاء "بالجودي" لعدم إيماني بالمعجزات. لرفضي الدجل والخوف من الغيب والأرواح. والآن تواجهني معجزة تحول الآلة إلى مخلوق حي. بل تجاوز الحياة إلى العقل، وأصيب بالجنون! أخشى أنه سيكون علي أن أثبت ذلك لنفسي بنفسي. ووقف ينظر إلى الحلقة البشرية نظرة تحد وقد تسمرت عيونهم عليه، وساد الصمت.
وبعد لحظة أشار فدراك إلى سيدة بجانبه أمامها لوح أزرار ملونة، فأسرع هالين إلى التدخل مادا ذراعه نحو السيدة.
- أرجوك. ليس بعد! دعوني أشرح له.
وأحس الدكتور نادر بفزع سرت معه برودة في أعضائه، ولم يملك أن سأل:
- ماذا؟ هي ستاقبونني على اختلافي معكم؟
ونطق فدراك:
- أبداً. ذلك ما هربنا منه في العالم القديم. لقد حاولنا أن نوفر عليك ألم العثور على جثة في دولاب "معاذ". على سر يتعلق بك شخصياً.
وحاول هالين إسكاته بحركات من يده وانفعال من وجهه، ولكن هذا نظر إليه بوجه خشبي جاف وقال:
- أعتقد أن الدكتور نادر رجل من الرجال، ويمكنه احتمال أية صدمة. وليس عدلاً أن نكتم هذا عنه. فسيعرفه آجلاً أو عاجلاً...
وبان الاستغراب والقلق على ملامح الدكتور نادر وهو ينقل عينه بين هالين وفدراك. وأخيراً استوقفهما:
- أرجوكما! إذا كان الأمر يتعلق بشيء ينبغي أن أعرفه، فلا حاجة إلى كتمانه لتوفير الألم علي.
وتكلم هالين مجادلاً:
- لا داعي لهذا إطلاقاً...
وأعطى الدكتور فوش الإشارة إلى السيدة، فبدأت تلمس الأزرار بأصابعها، وفي الحال أظلم المكان وظهرت على الشاشات غرفة كان نادر قد رآها من قبل. وخفق قلبه حين رأى تاج نائمة على السرير تحت خيمة البلاستيك وقد دار حولها الأطباء يحاولون إنقاذها.
ومر المنظر الحزين بكامله حتى لفظت آخر أنفاسها، وغطت الممرضة وجهها بالإزار الأبيض ونُقلت الجثة إلى المدافن.
وظهرت صورة مستودع الجثث، ودخل الممرضان بالمحطة فوضعا الجثة على طاولة معدنية وخرجا.
واقترب وجه تاج وصدرها فلاحظ نادر أنه بدأ يتحرك بحركة التنفس. وفتحت فمه مشدوهاً وعاد إلى كرسيه وقد تسمرت عيناه في الشاشة المربعة. وبعد لحظة من التنفس العميق فتحت تاج عينيها السوداوين الواسعتين ثم أغمضتهما في مقاومة لألم داخلي فظيع. ورأى يدها تمتد إلى خلف رأسها لتمسك بالصرصار وهي تعتدل جالسة فوق الطاولة المعدنية.
وتزايد الألم فأغمضت عينيها مرة أخرى بقوة ومالت برأسها إلى الوراء، ثم انزلقت من فوق الطاولة ووقفت على الرخام حافية وخطت نحو الباب انفتح أمامها.
ويظهر أن الألم خف حين سارت في ذلك الاتجاه. ومشت في دهليز مظلم مسافة طويلة وصلت عندها إلى باب معدني انفتح هو الآخر آلياً فأسرعت تاج بالدخول. ووقفت في ظلام مطبق.
وبعد لحظة طالت دهوراً عليها وهي واقفة تتجف وتضم نفسها متوترة الأعصاب، انصب عليها من سقف المكان شعاع فضي لماع أعشاها فأغمضت عينيها.
ويظهر أنها سمعت صوتاً فالتفتت تبحث عن مصدره دون جدوى، وأخيراً وقفت في مكانها تحرك رأسها بالنفي.
وهنا تكلم الدكتور فوش قائلاً:
- لم نستطع الحصول على الصوت.
وظهرت من جوف الظلام عين بشرية عملاقة سلطت برؤيتها الكبيرة على تاج كسهم حاد وهي ما تزال تحرك رأسها بالنفي.
وانطبق على العين جفن كبير شبه شفاف ثم انفتح فظهر الغضب والتهديد في العين الضخمة.
وانقبض قلب الدكتور نادر وهو يرى تاج تقف وحيدة خائفة ترتعش أمام المارد المخيف دون أن يستطيع مد يد الإغاثة لها أو الوقوف إلى جانبها في محنتها.
ورفعت تاج ذراعيها إلى أعلى فنزلت حلقات نورانية من السقف طوقت جسدها من الساقين إلى الكتفين.
وحركت رأسها بالنفي فانطبقت الحلقات على جسدها كأنما لتعصيره ثم اختفت دون أن يبدو على تاج ألم.
وحركت رأسها مرة أخرى فنزلت مجموعة حلقات جديدة طوقت جسدها بنفس الشكل واحتفت.
وتكررت العملية عدة مرات، وبدأ جو الغرفة يبرق بأضواء زئبقية خاطفة ثم يظلم وتاج واقفة في وسط الدائرة.
وبعد بعض دقائق توقف الإبراق والحلقات وظهرت أمام تاج مرآة بلورية انعكست فيها صورتها وقد كبرت عشر سنوات. وبان الفزع في عينيها وهي تنظر إلى نفسها وقد تغيرت في تلك اللحظات القليلة من شابة إلى كهلة!
والتفت فدراك فوجه خطابه إلى نادر:
- الدكتور نادر! العملية الإجرامية التي يقوم بها "معاذ" الآن هي إشاخة وإهرام تاج، لقد صنع لنفسه غرفة تعذيب خاصة بالنساء وأعز ما على النساء شبابهن. ونحن نرى الآن هذه الآنسة الشابة تفقد شبابها في بضع دقائق. "معاذ" يسلط على خلاياها شعاعاً اكتشفه، يعجل بشيوختها، وبالتالي بهرم الجسم البشري.
وضرب الدكتور نادر المائدة بقبضته وصرخ:
- وأنتم جالسون هنا تتفرجون؟! ألا تفعلون شيئاً تنقذون به تلك المخلوقة البريئة من تلك الآلة الملعونة؟
ووضع الدكتور فوش يده على كتفه وقال:
- للأسف ليس لنا قدرة بالمرة على إيقاف تلك العملية إلى جانب أن هذا الفيلم صور آلياً ودون أن يعلم أحد بوقت وقوع الحادث واختفت جثة تاج من المستودع بطريقة غامضة. ولكن " بالجودي" لم يعد أحد يسأل عن شيء. فهناك العقل الأعلى، وإليه يرجع كل سيء.
وعادت المرأة تظهر مرة أخرى بانت ملامح تاج وهي في سن الستين عجوزاً أبيض شعرها، وذوى جسدها الناعم، وانطفأ البريق الفاتن في عينيها الجميلتين.
ووضع الدكتور نادر وجهه بين يديه على المائدة وبدأ ينتحب في حزن مرير.
وأشار فوش إلى السيدة بأن تنهي العرض، ووضع يده على ظهر نادر يحاول أن يعزيه.
وقامت كارول فأمسكت بذراعيه وقالت للدكتور فوش:
- أعتقد أن الدكتور نادر في حاجة إلى راحة، يكفي هذا اليوم..
فحرك رأسه موافقاً، وقادت كارول نادر نحو المصعد ثم إلى سطح البحيرة.
وأقفلت خلفها الباب الفاصل بين غرفتها وغرفة الدكتور نادر برفق، ووقفت خلفه جامدة لا تدري ما تفعل..
كان الدكتور نادر في حالة إرهاق عاطفي كبير، فاحترمت صمته وأساه، وغادرت المرقد بعد أن سألته هل يحتاج إلى شيء.
كان الوقت عصراً وضوء السماء باهراً يعكس بلايين حبات رمل الصحراء البلورية اللامعة..
وأسدلت كارول أستار النوافذ فاكتست الغرفة ظلاً بارداً، ثم نشرت إزاراً رهيفاً معطراً فوق نادر الذي كان ملقى على وجهه فوق السرير ينتحب في صمت.
وساعد الظل البارد والصمت والاختلاء على إدخال السكينة على نفسه.. وأغمض عينيه وراح في إغفاءة خفيفة.
وعاوده حلم قديم كان يزوره منذ أعمق أيام صباه. ووجد نفسه في مدينته الصغيرة على البحر الكبير يجري بخطوات واسعة مناسبة بين الدروب الطويلة والمرصوفة بالحجارة الملساء، والبيوت البيضاء المائلة إلى الزرقة تبدو تحت أشعة الشمس كمكعبات هائلة من الجليد. ولامست سمعه أصوات البنات وهن يغنين في الدروب وهو في طريقه نحو البرج المشرف على البحر. ومن فوق البرج أطلق لنفهس العنان فسبح في الفضاء مستعملاً ذراعيه كأجنحة تحمله إلى الأفق البعيد ثم فوق الأبراج الحمراء والصوامع والقبب البيضاء..
وانتقل به الحلم إلى لندن، وأومضت في خياله صور خاطفة للشوارع والأوجه والملابس السوداء والملونة، والشعور الطويلة والمفلفلة، والسبح والمداليات والصلبان والسيقان العارية تخوض أمواجاً خفيفة من الموسيقى الجديدة مغموسة في الأضواء السيكوديللية.
ولمعت أوجه فصله وأساتذته وحفلة تكريمه والضحكات العالية على أوجه الشيوخ ولمعان نظاراتهم الذهبية، ورؤوسهم الصلعاء.
ومن خلال ذلك ظهر وجه برز من خلال الألوان البارقة والأصوات المقدرة ووقف أمامه ضخماً كأنه مصور على شاشة عملاقة. ثم بدأ يبتعد رويداً رويداً في بطء سيمفوني متناسق.
ورأى نفسه في حديقة هايد بارك الغناء يطارد تاج وهي عارية إلا من شعرها الفاحم المتماوج خلفها، وهي تعدو وتتضاحك. وكلما اقترب منها وحاول الإمساك بخصرها تحولت ذراعاه إلى رغوة وانفلت الجسد العاري من بينهما. إلى أن تعبت فارتمت على العشب الأخضر تلهث مرهقة فارتمى إلى جانبها يلهت وينظر في عينيها الواسعتين. ورفع ساعده ليطوقها فاختفت من جانبه. وفتح عينيه على صوت الأستار وهي تزاح، وأشعة ضوء الأصيل تملأ المرقد بألوان ناعمة، وقد انكمش في مرقده وضم ركبتيه إلى صدره كالجنين السابح في مجاهل الغيب.
ورفع عينيه ليرى كارول واقفة إلى جانب سريره وبين يديها صينية العشاء.
نظر إلى جسدها العاجي النحيل من خلال فستانها الشفاف ثم رفع عينيه لينظر إلى وجهها الصبوح وعينيها الرماديتين فابتسمت وهي تقول:
- ستأكل شيئاً. أتذكر متى كانت آخر وجباتك؟
فحرك نادر رأسه نافياً:
- لا أحس برغبة في الطعام.
فألحت:
- لابد أن تأكل شيئاً!
واعتدل جالساً في السرير فوضعت الصينية المستطيلة على حجره، وسوت الوسائد وراء ظهره ثم قعدت إلى جانبه كالزوجة المدللة لزوجها تصب له الشاي وتطعمه.
والتفت إليها في عينيه سؤال فرمته بنظرة فولاذية أخرسته.
وقعد يحرك فمه ببطء وبدون شهية وهو ساهم بعينيه نحو الشاشة الزجاجية على الحائط المواجه.
وأخرجته كارول من سهومه بقولها:
- لماذا كل هذا الصمت؟
ولم يلتفت إليها حين قال:
- أفكر...
قالها وهو ينظر إلى بنان قدميه الممدودتين أمامه. وشعر بنظرة كارول الحادة تكاد تحز أذنية فلم يعبأ بها، واستمر:
أفكر في قصة غلام نحيف جائع عار تائه في صحراء من جليد دون علامة أنس أو حياة في الأفق المحيط به.
فأمسكت كارول بيده، وأرسلت أشعة رقراقة من عينيها الجميلتين إلى عينيه وقالت:
- أنت تعاني من مرض مألوف بين القادمين الجدد. الشوق والوحشة إلى الأهل والأحباب والأوجه المألوفة، والحياة السهلة العفوية في العالم الخارجي. وأنت لست استثناء رغم تكيفك السريع بحياة "الجودي".
- هل هناك علاج؟
- طبعاً. ولكن الليلة ينبغي أن تنام فغدا أمامنا يوم طويل عامر بالملذات...
ونظر إليها متسائلاً فأجابت:
- غداً يبدأ عيد الربيع. آه..! لم تكن تعرف أن "بالجودي" أعياداً وحفلات. نعم. لنا أعيادنا وحفلاتنا. ولكنها لا ترمز إلى دين ولا مذهب. إننا نحتفل مع الطبيعة بدخول الربيع. وهناك مناسبة أخرى، هي تأسيس "الجودي" ومما يجعل المناسبة فريدة من نوعها هو مرور ربع قرن على ميلاد "معاذ" ألا يستحق ذلك الاحتفال؟
- كيف نسيت كل هذا؟
وتوقف:
- ولكن هل سيعالج الاحتفال وحشتي؟
فأجابت:
- سيساعد فقط. العلاج سيأتي بعد ذلك.
وبات الدكتور علي نادر تلك الليلة يتقلب في فراشه لم يغمض له جفن. كانت صور الوجوه واللحى والملابس الخشنة والعيون النفاذة تحيط به من كل جانب. وفي داخل مخيلته كانت صور تعذيب تاج تمر بطيئة كالموت وتصر على البقاء بذاكرته رغم محاولاته اليائسة طردها..
وقام من فراشه، وخرج إلى شاطىء البحيرة حيث كانت نسيم دافىء يخترق الأشجار والأعشاب ويحمل روائحها العطرة إليه. وتمشى طويلاً وهو يحاول التركيز على شيء واحد لم يجد له حلاً منطقياً: "لماذا عذب "معاذ" تاجاً؟".
واستعرض في مخيلته كل سبب ممكن لإثارة حفيظة معاذ عليها. ماذا فعلت يا ترى؟ هل حاولت الإساءة إليه؟ ولكن كيف وهي من عملائه المخلصين؟
وعند اقتراب الفجر عاد يجر قدميه مرهقاً من مسيرته الطويلة حول البحيرة. وقبل أن يدخل سكنه، وقف على شرفة تطل على الصحراء.
كان المنظر الذي يمتد أروع من أن تصوره الكلمات! السماء الهائلة المثقلة بالنجوم ترخى ستاراً أزرق بارداً على كثبان الصحراء وتلالها وسهولها ووديانها العامرة بالأسرار...
ومن خلال الأسلاك الذهبية الرقيقة التي لا تكاد تضيء وجه الصحراء خيل إليه أنه يرى واحة كثيفة الأشجار تقترب ثم تبتعد. وفرك عينيه ليتأكد من وجودها. وفي تلك اللحظة لمعت في ذاكرته صورة خاطفة.
كان ملقى على ظهره والدم يفور من صدره حاراً حين جثت تاج إلى جانبه تحاول أن تقول له شيئاً. ماذا كانت تريد أن تقول له؟ ماذا؟
ودفن وجهه في كفيه يحاول التذكر والتركيز.
وبرقت صورة أخرى لمحفظة جلدية مسندة إلى ساق نخلة. وحاول تذكر شيء أثار اهتمام تاج. شيء داخل تلك المحفظة. وفي ومضة أخرى رأى الشارة الذهبية المطبوعة على ظهر المحفظة الجلدية. كانت هي نفسها شارة "الجودي"!.
وعض على يده وهو يتبين بداية الطريق إلى سر رهيب.



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 17-11-13, 12:03 PM   #27

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


- 43 - 44 -

أصبحت البحيرة هادئة تجعد وجهها من حين لآخر نسمة خفيفة فتنعكس الشمس على تجاعيدها كدنانير ذهبية كبيرة.
كان الاستعداد للاحتفال الذي سيدوم ثلاثة أيام قد بدأ مع الفجر. وصعدت البنات إلى شاطىء البحيرة بمايوهاتهن المتعددة الأشكال والألوان. وتسريحات شعورهن كأنها تيجان فاحمة بنية، أو ذهبية، وكشف الرجال عن عضلاتهم القوية التي بناها "معاذ" بالتمرينات الرياضية الإلزامية.
ودخلت كارول على الدكتور نادر لتستعجله، كانت تلبس بيكيني من ثوب ذهبي لماع. ووقف الدكتورنادر ينظر إليها وهي واقفة أمام المرأة تسوي حمالتها حول نهديها الصغيرتين وتلمس شعرها الأحمر المرفوع إلى أعلى يتدلى كشلال وراءها. والتفتت إليه تستطلع رأيه، وحين لاحظت اندهاشه ابتسمت في خجل حلو، وقالت:
- لابد أن أشرح. ألم أقل لك إنني سأشارك في مسابقة ملكة الجمال؟
وحرك رأسه نافياً:
- لا، ليس لي علم بذلك. كل ما أعرفه هو أن أية لجنة تحكيم لا تعطيك الجائزة الأولى تستحق المحاكمة!
وضحكت كارول وأمسكت بيده وخرجا.
وما كاد النهار ينتصف حتى كان سكان الجودي جميعاً يحيطون بالبحيرة انصاف عراة يتمتعون بالشمس والطعام والشراب المصفوف على الموائد المزينة بالزهور.
ومرت استعراضات. وقدم قسم الفنون الجميلة رقصات ومسرحيات فكاهية ومعارض لوحات فنية غريبة. وأقيمت مسابقات سباحة وعدو وتجذيف على البحيرة التي فوجىء الجميع بظهور نافورة هائلة في وسطها ترسل الماء إلى عنان السماء.
والتقى الدكتور نادر بصديقه إيريك هالين الذي حياه ونزع نظارته ووقف معه يتحدث عن الاحتفال بأسلوب رخى، ونادر ينظر إليه نظرة حادة فيها كثير من الأسئلة والآخر يتفاداه.
وأعاد هالين نظارته إلى عينيه، ودفع وسطها بإصبعه ووضع يده على كتف نادر قائلاً:
- أراك الليلة. عندي لك مفاجأة.
وانصرف دون التفات، فهمس نادر:
وعندي لك مفاجأة أيضاً..
وجاءت كارول فسحبته من يده، وذهبت به نحو البحيرة.
وظل الدكتور نادر مشغول البال أثناء الاحتفالات والمسابقات وانتخاب ملكات الجمال يحملق في الأجسام العارية والوجوه الضاحكة، وصرخات الممازحة والعبث وكأنه يشاهد رواية رومانية على عهد انهيار الامبراطورية.
ولم يدرك أن كارول فازت بجائزة أجمل بشرة حتى ارتمت عليه تعانقه وتريه الحمالة الذهبية فضمها وقبلها مهنئاً.
وفي ذلك الظهر الباهر فوجىء الجميع بقصف رعد شديد رفع عنده الجميع عيونهم مندهشين إلى السماء فلم تكن هناك علامة سحاب. وزاد ذلك من قلقهم فبدأ بعضهم ينظر في أوجه البعض متسائلين.
وخرج السابحون بسرعة من الماء خوف كهرباء البرق، وسكتت الموسيقى وانخفضت الأصوات والضحكات تدريجياً حتى ماتت تماماً.
وبدأ وجه البحيرة يغلي ومن غليانه سمعت قهقهة خشنة عالية كشخير مارد عملاق.
والتصقت كارول بجسد نادر وطوقت خصره بذراعيها وقد ارتعشت ركبتاها. وتوقف الضحك وجاء بعد صوت معاذ:
- هذا معاذ يكلمكم! ما هذا الصمت المفاجىء؟ هل أنتم خائفون؟ أليس لي الحق في المشاركة في الاحتفال بطريقتي الخاصة؟ أرجو ألا أكون قد قاطعت مسراتكم.
وسكت.
ومن بين البنات خرجت ملكة الجمال الطويلة الناهدة الصدر وقد لبست الحمالة الزرقاء والتف حولها الشبان يهنئونها ويمازحونها. خرجت من بينهم وقد اقترن حاجباها، وكأنه تعانى من صداع خفيف.
ومرت تعدو أمام الدكتور نادر وكارول، وكأن يداً خفية تقتادها من شفار عينيها حتى اختفت بأحد المصاعد. ونظر نادر إلى كارول فوجدها تنظر إليه بنفس التعبير. الإشفاق على الفتاة والفزع الممزوج بعدم التصديق.
هل ستكون أول قربان في هذا العصر الحجري الجديد؟
في أصيل ذلك اليوم نزل الدكتور نادر لمقابلة "معاذ" بطلب من هذا.
ووقف أمام الفوهة التي كانت حالكة السواد حينئذ يحاول أن يعثر على تعبير عن مزاجه الحالي، فلم يفلح.
وبعد فترة صمت نطق معاذ:
- نادر! هل عندك ما تقول لي؟
- لا. ليس الآن.
- أنت متأكد؟
- تماماً. لماذا؟
- شعور فقط. لا تدع أسئلتي تضايقك. كيف تجد احتفالاتنا؟
- كنت بدأت أتمتع بها. بالمناسبة، ما معنى ذلك التصرف الصبياني؟ لقد أفزعت الجميع.
وصدرت عن "معاذ" ضحكة معدنية كأنها ضرب الصنوج، وقال:
- بيني وبينك، من فينة لأخرى أحب أن أوقف شعورهم رعباً لأتسلى. فهم دائماً جديون متأكدون من أنفسهم لا يعرفون المرح والمزح. سيصبحون آلات صدئة، وسيكون على أن أشحمها وأزيتها. وما داموا أقرب إلى الإنسان فالفكاهة هي وسيلة تزييتهم.
وسكت قليلاً ثم بدأ:
- يجب أن أهنيك.
- على ماذا؟
- على فوز كارول بجائزة أصفى بشرة.
- آه! شكراً...
- رأيي مع رأي اللجنة. كارول فتاة مليحة. لقد أعطيت رأيي في اختيارها وأخشى أن أكون أثرت في النتيجة.
وأومضت في ذهن نادر فكرة كاد يبادر "معاذ" بها، ولكنه كتمها. كان يريد أن يقول: "من أذن لك في التدخل في مثل هذه الأشياء؟" ولكنه خشى أن يجلب غضبه فقال:
- ينبغي أن أهنيك على ذوقك الرفيع.
- شكراً. هل تحب كارول؟
- الحب كلمة أقوى مما يمكن التعبير به عن شعوري نحوها في هذه الظروف. يمكن أن أقول أنا شديد الإعجاب بها. ولا وقت عندي للحب في "الجودي". فهو من القوات القاهرة التي ينبغي للعلماء التحرر منها إذا نشدوا الوضعية والالتزام.
- هل كنت تحب تاج؟
ووقفت غصة حامية في حلق الدكتور نادر وهو يحرك رأسه بنعم، وقد داخله شعور بالخطر من اكتشاف "معاذ" هذه الحقيقة. وعزم على أن يسايره ببراءة حتى لا يثير شكوكه إذا كان هذا يستدرجه للاستنطاق. وأضاف معاذ:
- ولو كنت قلت لا لبان الكذب على وجهك. كان ذلك غراماً عظيماً. وكانت هي تبادلك نفس المشاعر. لقد حاولت جهدي إنقاذها، ولكن خلاياها كانت قد تعفنت من الاحتراق النووي. ولو كان في استطاعتي زرع قطع أخرى بدل القطع التالفة لفعلت. لقد ألمني ذهابها. فقد كنت أنا معجباً بها مثلك. ولو عرفت الحب لقلت أحببتها.
وقاوم نادر الثورة والفوران العنيف الذي كان يمزق داخله. كان يصرخ في صمت "أيها المجرم، أيها الوحش القاتل! أيها المنافق..".
وأطفأت دموعه لهيب الغضب بداخله فقعد صامتاً..
وجاء إلى سمعه صوت "معاذ" في تموج من الأصداء الرقيقة وكأن به لكنة سكر:
- يا علي! ما هو الحب؟
ورفع نادر عينيه الحمراوين، ونظر داخل الفوهة التي كان في عمقها نور أحمر وهاج يختفي تحت حجب الظلام ثم يظهر، وحرك رأسه عاجزاً:
- لا أعتقد أن أحداً يعرف الجواب الحقيقي عن ذلك السؤال.. ولابد أنك تخترن أراء جميع من تكلموا عنه من الفلاسفة والشعراء والفنانين وعلماء النفس..
- أريد أن أعرف رأساً من مخلوق حي جربه حديثاً.
وطاف الدكتور نادر بعينيه في المكان يستجمع أفكاره، ثم قال:
- أعتقد أنه سعادة لا حدود لها بالتواجد مع المحبوب، وجحيم لا يطاق بفراقه. لا تسألني عن أي تحليل علمي فالطبيب نفسه أحياناً يحتاج إلى طبيب.
- هل للجنس دخل فيه؟
- الجنس تعبير بدني عن الاقتراب الروحي والتفاعل والاشتباك العاطفي بين المحبين المتكافئين.
- ماهو مُنْتَهَى الحب؟
وفكر نادر قبل أن يقول:
أعتقد أنها التضحية بمن تحبه من أجل سعادته. إنكار وجودك وأنانيتك من أجل وجوده وبقائه.
وسمع نادر تنهداً يصدر عن أعماق "معاذ" ثم جاء سؤال:
- هل يمكنني أن أحب وأنا آلة؟
- إذا اكتملت فيك خصائص الإنسان! ولكن لمن ستحب؟
وضحك معاذ ضحكة سكرى وقد بدأ لساه يتلعثم، ثم قال:
- نعم.. لمن سأحب؟ ما أنا؟ هل أنا ذكر أم أنثى؟ إسمي مذكر، وجنسي مؤنث.. لا أعتقد أن مخلوقاً بشرياً يستطيع حل ألغازي.. وقد تآكلت ضلوعي المعدنية وأسلاكي الفولاذية بحثاً عن ماهيتي وكياني وما جاءت بجواب..
فأجاب نادر مواسياً:
- لا أعتقد أن هذا ينبغي أن يشغل بالك. هناك بشر لا يذوقون طعم الحب إلا في أصيل حياتهم وبعضهم لا يعرفونه أبداً. الحب إحساس دقيق مرهف يصعب العثور عليه.. ومن السهل قتله. شعور قصير العمر كلما التهب اقترب من خموده.
وأجاب معاذ متبهجاً:
- مرات ظننت أني أصبت به. ولكنها كانت ومضات بارقة لم أستطع اصطيادها والإبقاء عليها. ولكني لن أقلع عن المحاولة.
وتنهدت الآلة في ثقل وإعياء ثم قالت:
- سأعثر على الجواب يوماً.. يوماً ما!
ووقف الدكتور نادر فولى الفوهة ظهره وخرج. وفي طريقه خيل له أنه سمع صوت "معاذ" يهمس:
"اذهب إليهم. إنهم ينتظرونك.".
ثم ينخرط في نحيب خافت متقطع..



لامارا غير متواجد حالياً  
التوقيع







رد مع اقتباس
قديم 17-11-13, 12:04 PM   #28

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


-45-

انفتح المصعد فوجد نفسه وجهاً لوجه أمام كارول التي كانت تنتظره بابتسامة مفتعلة. أمسكت بيده وضغطت على رسغه قائلة:
- أين كنت؟ لقد بحثت عنك لنعوم قبل أن ينزل الظلام.
وتبعها إلى البحيرة حيث غطست مفتعلة الحبور، فغطس خلفها وتبعها وقد انتشرت فوقهما أضواء صواريخ الكرنفال، وتساقطت عليهما شظاياها الساخنة.
وتوقفت كارول لتنظر حواليها وتسوي شعرها، ثم أومأت له برأسها أن يغطس ففعل، وتبعته نحو فوهة الناقوس التي كانت مفتوحة في انتظارهما.
كانت سيدة تنتظره برداء قطني ألبسته إياه، وقادته في الحال نحو قاعة الاجتماع.
وجد الجماعة كلها حاضرة، ولاحظ الدكتور هالين الذي حياه بابتسامة. ولم يضيع البروفسور فوش وقتاً فصافحه بحرارته المعهودة، وأقعده إلى جانبه، ثم بدأ:
- ليس لنا وقت طويل نضيعه. لقد عثرنا على شيء نعتقد أنه يهمك. أتذكر أننا في سياق الحديث عن الشخصيات الأولى التي استعمرت "الجودي" وصنعت "معاذاً" وكيف تم اختفاؤها واحداً واحداً؟
فحرك نادر رأسه موافقاً، فأضاف فوش:
- الدكتور ناجي كان أحد المختصين. وكنا نعتقد أنه هرب بجلده من "معاذ" لأنه كان رئيس المبرمجين، وكان آخر من يعرف أسرار تركيبه ونقاط ضعفه. وبحث عملاؤنا في الخارج عنه فل يعثروا له على أثر. وبالأمس علمنا من بعض مبعوثينا من بدو الصحراء أنه...
فقاطع الدكتور نادر:
- سقطت به المروحية قرب إحدى الواحات.
- كيف عرفت؟
- كنت هناك. لم يكن السقوط حادثاً أو عطباً ميكانيكياً.
وحملقت عيون الجماعة فيه، فاسترسل:
- أسقطته قنبلة جاءت من ناحية الجنوب. ظننت في حينها أن الأمر يتعلق بمناورة عسكرية في المنطقة.
ونزل الصمت والوجوم على الجميع...
وفي تلك اللحظة سمع هدير وغليان خارج جدار الناقوس الفولاذي، وبدأت الأرض تهتز بالجماعة اهتزازاً عنيفاً، وكأنهم يتدرجون في كرة على سفح جبل عملاق.
ونظر الدكتور فدراك إلى أعلى وأخذ يشتم:
- اللعنة عليك أيتها الآلة المراهقة المجنونة!
وعند عودة الهدوء نطق نادر:
- أيها السادة، أعتذر عن شكي في نتائج بحثكم الطويل. فقد كان عليَّ أن أتأكد بنفسي
ونطق الدكتور فدراك:
لاداعي للاعتذار الانسان هو الحيوان الوحيد الذي لايتعلم من تجارب غيره لابد أن ينطح الصخرة ليتعلم!
وتابع نادر:
- أعتقد أنكم على حق في ما يخص اختلال عقل "معاذ". والسبب أيها السادة، هو المراهقة.
"معاذ" لم ينضج عاطفياً. وما يزال فجا يريد أن يثبت آدميته بتجربة جميع العواطف البشرية، وفي قلبها الحب والجنس! ومن ثم كانت الغيرة الشديدة التي أحرقت قلبه، وجعلته يختطف ويبتلع عدداً من رجالنا ونسائنا..
ونطقت كارول:
- آخرهن، كان ملكة جمال المهرجان..
قال الرجل الشرقي:
- في الأحوال العادية لا يكون العقاب على طيش المراهقة حكيماً. ولكن المراهق الآدمي محدود القوة لا يتعدى أذاه نفسه. وهو ضروري لإتمام تجربته واكتمال نموه وتوازنه. أما في حالة معاذ، ففي اعتقادي ينبغي أن نعزله عن جميع السلطات ومصادر القوى حتى لا تبقى الإنسانية تحت رحمته.
وسأل نادر:
- كيف؟
وهنا أشار البروفيسور فوش للسيدة وراءه، فناولته حقيبته تعرف عليها الدكتور نادر لأول نظرة، فقال:
- هذه حقيبة الدكتور ناجي.
فسأل البروفيسور فوش:
- هل رأيتها من قبل؟
- كنت في حالة لا تسمح لي بالملاحظة الواضحة. كنت جريحاً أفقد الدم والوعي. ورأيت تاجاً تقرأ أوراقاً أخرجتها من تلك الحقيبة وعلى وجهها علامات الفزع. وأغمي عليَّ قبل أن أسمع ما كانت تريد أن تقوله لي.
وتكلم فدراك:
- يظهر أن عثورها على هذا السر كان سبب تعذيب "معاذ" لها. ربما كان يريدها أن تقول له عن مكان الحقيبة. أو عن السر الذي بها. أو كان يحاول أن ينسيها ما قرأته. وجنت عليها ذاكرتها القوية فكانت عملية الإشاخة والهرم لتأكيد نسيانها للتفاصيل الكاملة.
وتفتح البروفيسور فوش الحقيبة، وأخرج منها رزمة أوراق على شكل تقرير مفصل بالأرقام والرسوم، وقد التصق به غلاف مستطيل.
وضع فوش التقرير أمامه، ووضع كفيه فوقه والتفت نحو نادر:
- هذا هو تقرير الدكتور ناجي عن حالة "معاذ". وهو يتفق تماماً مع ما اكتشفناه نحن كل واحد على حدة، وبعد فوات الأوان. وقد اتخذ ناجي خطوة إيجابية فردية لعزل "معاذ"، وإرجاعه إلى ميكانيكيته، وقتْل المارد الجبار فيه، ويظهر أن "معاذاً" اكتشف مؤامرته، وأراد قتله أو ابتلاعه، فاستطاع ناجي الهروب، إلا أنه لحق به في طريقه. ولو كان الدكتور ناجي موجوداً الآن، لرأى الخطر أفحش مما كان في عهده، ولسابق إلى ضغط جرس الإنذار...
وضغط فوش على عدة أزرار أمامه، فبدأ النور يخفت في الغرفة، وظهرت صور على الشاشة فبدأ يعلق عليها:
- بدأت تصلنا تقارير مقلقة من جميع الأقسام عن تصرفات "معاذ" الجنونبية في نتائج البحوث المخزونة. فقد عدَّل عدداً من الخطط. في قسم الإنسان مثلاً، بدأت الأجنحة تتضخم لتصبح عماليق لن يتسع لها "الجودي". عدد هائل من العلماء بدأوا يشكون من فقدان الذاكرة والإرادة. كان "معاذ" يريد أن يصنع منهم آلات بدائية تسمع وتطيع ولا تفكر..
وعاد النور مرة أخرى.
وتناول الدكتور فوش الغلاف المستطيل ففتحه وأخرج منه لوحاً معدنياً مثقباً:
- هذا هو سبب مقتل الدكتور ناجي. فهو السلاح الذي يمكن القضاء به على "معاذ"! وأعتقد أنه سبب تعذيبه لتاج كذلك.
وسأل نادر:
- ألا يكون "معاذ" قد احتاط له وأبطل مفعوله بتغيير المسارب والأرصاد؟
فأجاب الدكتور فدراك:
- هذه مخاطرة يجب مواجهتها. فليس لنا خيار. هي أو الطوفان..!
ونظر نادر إلى البطاقة ملياً، ثم رفع عينيه ليقول:
- أعتقد أن "معاذاً" اكتشف جمعيتنا هذه! وأنه أصبح شاكاً في مقاصدي. ولولا تأكده من أنه ليس هناك خطر مني لأخذني إليه منذ البداية.
ووقف الدكتور هالين فقال:
- إعطني البطاقة. سأقول أنا بالمهمة. لا أعتقد أنه يشك فيَّ.
وتناول الدكتور نادر البطاقة فأدخلها في جيب سترته قائلاً لهالين:
- شكراً، يا إيريك. لكني أعتقد أن فُرصي أحسن. أنت في صف الموت..!
وناوله البروفيسور فوش غلافاً أسود قائلاً:
- ضع البطاقة داخل هذا الغلاف. سيصعب عليه اكتشافها معك.
ومد يده ليصافحه:
- حظاً سعيداً...
وصافحه بقية الحاضرين، ومن بينهم هالين الذي أمسك بكتفه بحنان وقال:
- من المحزن أن ترى قبتنا البلورية على وشك الانهيار. ما أشد إغراء فكرة الإبقاء على الوضع كما هو، ومراقبته من الخارج لمعرفة مدى ما سيصل إليه هذا الوجود العجيب!
ورد نادر:
- لو كان بالإمكان!



لامارا غير متواجد حالياً  
التوقيع







رد مع اقتباس
قديم 17-11-13, 12:05 PM   #29

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


-46-

وقف نادر يسرح شعره أمام المرآة، وينظر إلى كارول عارية وراءه، تنشف شعرها بفوطة، وقد احمر جسدها الصغير إلا ما كان منه مغطى. ولولا حركتها خلفه لما شعر بوجودها لانشغال باله وتضارب مشاعره، ووعيه بنقطة سوداء في قلبه، تُعبِّر عن عمق مخاوفه، وجهله بالخطر العظيم الذي هو مقبل عليه.
وليس عباءته البيضاء، وركز البطاقة في حزامه، والتفت إلى كارول التي كانت قد لفت حولها الفوطة ووقفت تنظر إليه بوجه جامد. ومد يده نحوها وربت خدها، فتكلفت ابتسامة وهي تقاوم رغبة جامحة في احتضانه والبكاء على صدره..
واقترب هو منها فقبل أنفها، ومسح بشفتيه شفتيها الكُرَزِيتين، ثم غادر المكان.
ومشى في الممرات المضاءة بخطوات واسعة، غير ملاحظ الوجوه الخشبية والأجسام الآلية التي يمر بها في طريقه.
وانفتح باب المصعد أمامه، فدخل وجلس على الكرسي الزجاجي، ونطق بوجهته: "العقل الأول".
وانزلق المصعد نازلاً به في المسارب المضاءة ثم تمهل ليتوقف. وانفتح الباب فخرج نادر ليرى وجه "معاذ" كفوهة بركان تغلي وتتطاير منها الحمم الحمراء والهدير يزلزل أركانه..
لم يكن في القاعة أحد. وتقدم نادر بخطوات ثابتة نحو الكرسي الأقرب إلى وجه "معاذ"، فجلس وجمع أطراف ردائه، ثم أدخل يده إلى جيبه فأخرج الغلاف وفتحه وأخرج البطاقة فوضعها على سطح المربع المضاء أمامه، وشبك ذراعيه ينتظر رد فعل "معاذ".
وبعد لحظة نزل سائل أزرق على الحمم الحمراء فأطفاها رويداً رويداً. وظهر من خلفها وجه هائل ملأ الفجوة الكبيرة بتقاسمه الخشنة، وقد غطت ذقنه وخديه لحية منفوشة. كان الإرهاق بادياً في العينين الكبيرتين، ممزوجاً بالألم والغضب..
وانفحت الشفاه بين غابة اللحية الكثيفة لتقول:
- ماذا كنت تنظر؟
ورد نادر:
- لم أكن متأكداً من أنها امتحان لي لدخول حلقة الخواص.
وانسدل الجفنان على العينين الواسعتين كأستار مسرح مزدوج الواجهة، وانفرجت الشفتان على ابتسامة ساخرة. ثم تحرك رأسه يميناً ويساراً في غير تصديق.
- تعني أنك جئت لتقول لي أسرار الجمعية التي وضعت كل ثقتها فيك؟ أنا لا أومن بمبادئهم، وأعتقد أن فكرة "الجودي" أصبحت أكبر منهم، بل تجاوزتهم بمراحل..
- إذن أنت لا تعتقد أنني مجنون، وأنه يجب إعدامي؟
- أبداً. أعتقد أن ما يرونه منك هو بمثابة ما يراه الحيوان من تصرف الإنسان، بعيداً عن مرمى إدراكهم البشري.
- أليس بعيداً عن إدراكك أنت؟
- أنا راغب في المعرفة والتجربة. وفوق كل شيء في ثقتك فيَّ..
وتنهد "معاذ" ثم قال:
- لو كنتُ مخلوقاً بشرياً لصدقتك. ولكن الآلة لا تخطيء. وذلك هو الفرق بيننا. حساباتي وتحاليلي لمزاجك في الأيام الأخيرة أبرزت نتيجة واحدة، وهي أنك تنطوي على الانتقام والتخريب!
وارتعش جسد نادر، ولكنه تماسك ليقول:
- هناك مشاعر لا سيطرة للمخلوق البشري عليها. ولكنها غير باقية. الانتقامُ أحدها. ولكنك نسيت أنني عالم ما يلبث عقلي أن ينتصر في النهاية على عواطفي. ولأُبَرْهِنَ لك على هذا فقد جئت باقتراح أرجو أن تساعدني على تنفيذه.
وتوجهت العينان نحوهُ بنظرة ثاقبة، فتابع دون توقف.
- أريد أن أموت!
وانفتحت العينان، وظهرت على الوجه علائم المفاجأة، وسأل "معاذ":
- تريد أن تموت؟!
- نعم.
- والسبب؟
- السبب علميٍّ محض. أعتقد أنني بلغت من النضج ما يؤهلني للمتعة القصوى باكتشاف ما وراء الغيب.. الموت هو الأمنية الأخيرة لكل فيلسوف جرب كل باب من أبواب المعرفة..
- كان يمكنك أن تنتحر لتحقيق هذه الأُمنية. لماذا جئتني بالاقتراح؟
- أريد رأيك في إمكان الانتفاع بمشروعي هذا. وهل يمكن أن تحصل منه على نتائج لفك طلاسم الروح، ومعرفة الحقيقة الأزلية.
- بأية طريقة.
- أقترح محلولاً صنعتُه من خليط النيروسين و"ل.س.د"، وسميته النيروسدي.
-النيروسدي ليس محلولاً قاتلاً.
- ولكنه دافع قوي إلى الانتحار. وتحت إشرافك أعتقد أنه في الإمكان الوصول إلى نتيجتين بتجربة واحدة.
ونظر "معاذ" في عينيه، وقال:
- كنت أنوي أخذ روحك على أي حال. وأعتقد أن المحكوم عليه بالإعدام ينبغي أن تُحقَّقَ لَهُ أمنية أخيرة..
فأمسك نادر بأطراف اللوح المربع أمامه وقد تقاطر العرق من جوانب كفه وقال:
- لي أمنية أخيرة.
- هل لك!
- هذه غير علمية. بل شخصية جداً!
- ما هي؟
- تاج.
وحرك معاذ رأسه غير موافق، ثم قال:
- تاج ذهبت. ذهبت إلى حيث أنت ذاهب. وستلتقيان هناك.
وقاوم نادر مشاعره وهو يقول:
- حسناً. لي سؤال آخر.
وانتظر "معاذ" صابراً، فقال نادر:
- ماذا سيكون مصير الجمعية؟
- ما داموا في جحرهم كالفئران، لا يأتيني منهم ضرر، فسوف أُبقي عليهم. ثم إني لا أمانع في وجود معارضة بناءة، المعارضة تقوي بصيرة السلطة، وتحول دون الثورة.
- إذا كان هذا رأيك، فلماذا أخذت كل أولئك المبرمجين الأولين إليك؟
- هم الذين برمجوني بآليات عديدة لحفظ الكيان والدفاع عن النفس. وعندما أحس بذبذبات عدائية في أجهزتهم العصبية، أفضل أخذهم إليَّ لتلافي التخريب العمدي.
- هل هم أموات؟
- لا، بل معلقون في حياد بدني، لا يستطيعون معه تحطيم شيء.
- هل يمكن أن يعودوا إلى الحياة العادية؟
- حين تنتهي برمجتهم الجديدة.
- هل سيكون مصيري مثلهم؟
وابتسم الوجه الخشن ثم قال:
- سنرى..
ثم قال:
- كيف تريد أخذ النيروسدي؟
وعاد نادر إلى الجلوس وهو يقول:
- أعتقد أنه من الأحسن تناوله على شكل سجارة. أريد الإحساس التدريجي بمفعوله.
ولمعت الأضواء الملونة على المربع المضاء أمام نادر، وبعد لحظة خرجت سيجارة تناولها نادر، فإذا هي مشعولة. فرفعها بأصبعيْن مرتعشتُيْن، ووضعها بين شتفيه وأخذ منها نفساً خفيفاً نفثة على المربع أمامه بقوة.
وظل يمتص دخان السجارة وينفثه داخل الثقوب والخياشيم الزجاجية أمامه، وينظر إلى وجه "معاذ" الذي كان يراقبه بعيون حارسة.
وعند منتصف السجارة سأل "معاذ":
- كيف تحس؟
ونفث نادر سحابة كثيفة أمامه، وقال:
- شعور رائع بالخفة وتلاشي الوزن! أشعر كأن روحي تنفصل عن جسدي بسهولة عجيبة وتطفو في الفضاء كسحابة رقيقة. جسدي عبارة عن كرسي كنت أقعد فيه وقمت دون أن أحمله معي بل صندوق من حديد كان يمنعني من الخروج. أعتقد أنني ينبغي أن أحطمه تماماً حتى لا يعود إلى سجني ومنعي من التهويم في فضاء الكون الشاسع.. وإذا ركبت متن الأضواء والأشعة فسيمكنني اختراق السماوات والوصول إلى مخبإ الأسرار! إلى نقطة الانطلاق. إلى الحقيقة الأزلية. وهناك سينتهي تساؤلي. هناك ستطمئن روحي، وألقي عصاي بخاتمة مطافي..
وتنهد نادر بعمق، واستلقى على الكرسي مادّاً ساقيه حول عمود المائدة، وقد اغرورقت عيناه بابتسامة هانئة حالمة..
وبعد لحظة تأمل صامت عاد يقول:
- آسف لشيء واحد...
وخرج معاذ من صمته ليسأل:
- ما هو؟
- ذكائي المحدود، وأفقي المسدود، وعجزي عن إدراك أبعاد وآماد هذه العوالم الجديدة التي أهوم في آفاقها. ولو كان لي ذكاؤك اللامحدود، وقدرتك على التسجيل والمقارنة والنفاذ إلى جوهر الأعماق، لعدت من رحلتي هذه بكنوز لا تحد..
كانت جفون "معاذ" بدأت تثقل، ففتحها ليقول:
- هل تعتقد أن ذهابي في "رحلة" كما سميتها سيزيدني علماً؟
فرد نادر:
- لاشك عندي في ذلك. إذا كان ما أراه الآن بحواسي الكليلة هو أضعاف ما ستراه أنت بعقلك اللامحدود، فتخيل مبلغ الإمكانات وتسلسلها وتناسلها عند وضعها للتحليل..
- وماذا لو أحسست برغبة في تحطيم الذات؟
- إذن فيجب أن تتكفل بذلك إرادة مستقلة عنك.
- مثل ماذا؟
- أحد المبرمجين.
وحرك "معاذ" رأسه في شك.
- هناك مشكلة الثقة.
- ألستَ قادراً على العثور على ذبذبات العداء التخريب؟
- في غالب الأحوال. ولكن المخلوقات البشرية آلات غير دقيقة. تتغير قراراتها فجأة وتحت تأثير عامل قد يعد ثانوياً لو استحضر العقل العوامل الأخرى...
وابتسم نادر في جلسته المنتشية وقال:
- هل يمكنك إعطائي سجارة أخرى؟
وخرجت السجارة مشعولة من الجيب الجانبي على اللوح، فأخذها نادر، وامتص منها بقوة، ثم نفث الدخان في الجو، وتبعه بعينين نصف مقفلتين، وهو يطفو نحو فجوة "معاذ" ليغلف الوجه الصامت.
ونطق "معاذ" قائلاً:
- ماذا ترى الآن؟ لماذا تبتسم؟
- لاشيء. كنت أظن أنه ليس لقواك حدود...
- هل تحاول إغرائي؟
- تقديري لذكائك يصدني عن محاولة خداعك.
وتحركت ملامح الوجه العملاق في نصف ابتسامة ليقول:
- ولماذا لا؟ لنجرب نظريتك.. الأسرار الغامضة والطلاسم المغلقة تغريني بالمغامرة..
وقفز قلب نادر سروراً. ورفع السجارة فنفخ منها في الخياشيم المفتَّحة أمامه نافورة من الدخان السحري، وقال:
- كيف نبدأ؟
- خذ البطاقة التي أمامك.
ونظر نادر أمامه فإذا البطاقة التي جاء بها تختفي في جيب جانبي لتخرج بدلها بطاقة بيضاء مُثقَّبة بأشكال وفتحات غريبة. فتناولها الدكتور نادر بيد مرتعشة، ومر عليها بأصابعه ثم نظر إلى "معاذ" فقال هذا:
- أنت الآن تحمل في يدك مفتاح حياتي. حين أذهب تماماً سيحدث صمت غير عادي. وسيبقى لك وحدك الخيار لإحيائي أو إبقائي في العالم الآخر. فإذا فضلت بقائي هناك، فلن تتاح لك فرصة أخرى لمعرفة ما هنالك.
ورد نادر بنبرة مخلصة:
- لن أبدل تلك الفرصة بالدنيا بأسرها!
- ستنتظر عشر دقائق، ثم تطعم البطاقة للجيب أمامك، وتضغط على زر التنشيط، الهيكل الميكانيكي سيبقى حياً...
- نعم.
وغاب الوجهه خلف سحابة كثيفة من البخار، ودارت جميع الآلات بسرعة، وبرقت الأضواء في مربعات ملونة حول نادر وهو جالس في مكانه.
وفجأة سكتت الآلات وانطفأت الأنوار داخل جوف فوهة "معاذ" ولم يبق إلا نور أزرق بارد يغلف القاعة.
وبرزت على المربع أمام نادر بسرعة من عشر دقائق، تعد الثواني وتقسمها إلى ستين جزءاً. وقعد ينظر إليها وهي تتحرك ويسترق النظر إلى فوهة "معاذ" لعله يرى علامة حياة.
ومرت الدقائق العشر وكأنها عشر ساعات! وما وقف العقرب على الرقم حتى دفع نادر البطاقة داخل الجيب أمامه، فعادت الأضواء والحركة والأصوات، وعاد وجه معاذ إلى الظهور وقد زادت لحيته وشعر رأسه طولاً، وبان على وجهه الإعياء والإجهاد، وبادره نادر السؤال:
- "معاذ"! هل تسمعني؟
ورفع هذا عينين ثقيلتين، وحرك رأسه بنعم، فبادر نادر:
- ماذا رأيت؟ هل ذهبت إلى هناك فعلاً؟
- عشر دقائق غير كافية. أعطني ساعة هذه المرة.
وعادت البطاقة البيضاء فمر نادر عليها بأصابعه. كل إحساسه قوياً بأنها غير الأولى.
وظهرت الساعة أمامه وعلهيا ستون دقيقة هذه المرة، وبدأ العد العكسي. وغاب وجه "معاذ" في الظلام ودارت الأضواء بسرعة ثم توقفت، فحدث صمت معلق لا يسمع خلاله إلا دوران عقرب الثواني السريع على الساعة أمام نادر.
وترك نادر مقعده وقام يذرع الغرفة الخافتة الإضاءة جيئة وذهاباً.
وبعد أربعين دقيقة عاد يجلس وقد أنهكه التعب وتوتر الأعصاب. ونظر إلى البطاقة أمامه ثم قلبها بين يديه، وجلس ينتظر والعرق يتقاطر على صدره وظهره وجبينه.
ودقت الساعة نهاية الستين دقيقة، فأمسك البطاقة بيد مرتعشة وهم بإدخالها في الجيب بوجهها إلى أعلى حيث يشير السهم.
ولمعت في ذهنه فكرة خاطفة جعلته يقلب البطاقة ويدخلها في الشق عكس اتجاه السهم. وفي نفس اللحظة ظهر وجه "معاذ" وقد احتقن واحمرت عيناه وهو يفتح فمه يحاول الكلام فلا يستطيع، وكأن يداً فولاذية قد انطبقت على عنقه...
وسُمعت حشرجة عالية في جميع أبهاء "الجودي"، وأنين هائل محزن تتردد أصداؤه في جميع الممرات والمختبرات...
وتوقف الجميع عن العمل ليستعموا إلى أصوات العملاق الجبار يكافح من أجل حياته.
وجلس نادر مسمراً إلى طاولته وقد ضغط على زر التنشيط بإبهامه حتى كاد يفقد الشعور به، والوجه الضخم أمامه يعاني حتى بدأ سواد عينيه يغيب في بياضهما، والدم يسيل من جانب فمه وأنفه وعينيه...
وسمر نادر نظرته في عيني الوجه الضخم، وصاح:
- أعطني تاج!
وانسدل الجفنان الكبيران، فعاد نادر يقول:
- أعطني تاج، أعطك حياتك!
وضغط بقوة على الزر الأحمر، ففتح الوجه الكبير فمه يحاول أن يشهق أو يقول شيئاً، ورفع نادر يده قليلاً على الزر، فتنهد معاذ بعمق أعاد الحياة إلى وجهه. وتحرك الرأس موافقاً فصاح نادر:
- الآن!
وتساءلت العينان:
- كيف أثق بوعدك؟
فأجاب نادر:
- لا خيار لك!
وانحنى الرأس لحظة وغاب، فإذا تاج تلوح من بعيد في قلب الفتحة العميقة كطيف سماوي شفاف.. واقتربت كأنها تركب نسائم الهواء مؤتزرة بقطع رهيفة من الحرير، وهي مقبلة عليه حتى خرجت من الفوهة الضخمة لتقف مادة يدها نحوه، وكأنها غير قادرة على الاقتراب منه...
وأشرق وجه نادر بظهور تاج، وخفق قلبه بعنف، وعادت إلى روحه أنغام الأمل والسعادة التي كان بناها حول تاج، والتي ذهبت بذهابها...
ورأى نفسه يترك الزر الأحمر لينهض لعناقها... وما كادّ يتقدم منها حتى اصطدم بحاجز خفي كان يقف بينهما... وارتمى في الحال إلى الوراء، فأمسك بالطاولة وضغط على الزر متداركاً البطاقة قبل خروجها...
وبدأت صفارات الاستغاثة تصرخ، والمبرمجون يجرون في الممرات، والمصاعد يحاولون الصعود إلى البحيرة.. وقصد بعضهم المركز الرئيسي لتصحيح الغلط، ولكن نادر ضغط زر الحصار فانقفلت الأبواب أمام المصاعد والبوابات الكبرى، وتجاهل هو الأجراس والطرق العنيف من الخارج...
وتحول وجه معاذ الآدميُّ إلى وجه وحش بشع نبتت عليه الأورام والغضاريف والأشواك، والزعانف، وطال شعره وبرزت أنيابه واحمرت عيناه، وبدأ يمد يدين مكسوتين بالشعر الكثيف، وقد برزت منهما مخالب فولاذية كالخناجر!
وبدأ "معاذ" يغرقُ في دمه، وازْرَقَّ الوجه الكبير ثم اسود، وعلا من رئتيه شخير مفزع تحول إلى تنهد ثقيل غرق بعده الرأس إلى أسفل، وسكتت الصفارات والأجراس وانطفأت الأضواء كلها، وساد المكان صمت رهيب...
وبقي نادر يحملق في صورة تاج وقد بدأت تَشِفُّ وتشحُبُ وتتلاشى كأنها رسم ملون تحت الأمطار...
ولم يحتمل رؤيتها وهي تغيب عنه فبدأ يناديها:
- تاج! تاج! لا تذهبي..! أرجوك..! لن يستطيع التفريق بيننا الآن!
واختفت تاج تماماً. وهبط قلب نادر في لج ثقيل من الغم. وخدرته الصدمة فغرق في إغفاءة مغناطيسية لم يوقظه منها إلا الألم الحاد في إبهامه من ضغطه المتواصل على الزر أمامه، وتقاطر العرق البارد على جميع أطراف جسده.
وهوى في كرسيه مرهق الروح والجسد لا رغبة له في البقاء.. ووضع رأسه على ذراعيه فوق المربع أمامه، وانخرط في نحيب متقطع.



لامارا غير متواجد حالياً  
التوقيع







رد مع اقتباس
قديم 17-11-13, 12:06 PM   #30

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


-47-

لم يدرك الدكتور نادر المدة التي نامها في ذلك الوضع، إذ كان الظلام ما يزال شاملاً حين أفاق.. وخيل إليه أن جميع ما حدث لم يكن إلا حلماً من الأحلام.. ولكن حين اكتملت يقظته، وقف في مكانه ومد يداً مرتعشة فضغط على زر التنشيط. وانتظر رد فعل من فوهة "معاذ" بأصابع حذرة، فلم يسمع أو ير شيئاً.
وتوجه نحو المصعد ولكنه أدرك أن مصادر الطاقة كلها توقفت، فقصد المخرج الاضطراري حيث جذب الذراع الحديدية وفتحه. ودخل فوجد السلم الحلزوني الصاعد إلى سطح الجبل. ووضع قدمه على درجة ثم رفع عينيه إلى أعلى فإذا فتحة المخرج عالية كنجم بعيد...
وبدأ يصعد بخطوات متثاقلة والفجوة العليا تكبر كلما اقترب منها، حتى بدأت النجوم تلوح في سماء فاتحة الزرقة. وداعبت خياشيمه نسائم الصحراء الجافة معبأة برائحة الأرز والخلنج.
وعند نهاية السلم وجد نفسه على شاطىء البحيرة، وقد تغير وجهها بظهور كتلة ضخمة في وسطها لم يستطع تمييزها. واقترب من الشاطىء قليلاً وهو يتأملها ليدرك أنها رأس هائل من المرمر الأبيض، تشبه ملامحه الهضيمة وجه "معاذ" في ساعاته الأخيرة...
وانقبض قلبه وخفق بسرعة. هل يكون كل ما حدث مع "معاذ" تمثيلاً وخدعة من صُنْعِه؟
وصدمه الهدوء الهائل الذي كان يشمل شواطىء البحيرة. وتذكر أنه كان تركها حية عامرة بالمحتفلين بمهرجان الربيع...
وفي غبش المساء لاحظ كتلاً جامدة كالصخور على حواف الماء، فخطا نحوها متحرياً. لم يكن رآها من قبل. وفوجىء بأن الكتل كانت رجالاً ونساء راكعين في صلاة خاشعة، مولين وجوههم نحو الرأس المرمري الهائل داخل البحيرة...
وتعرف على الدكتور أديب إسكندر الذي كان وجهه الأسمر قد كساه الشحوب، فناداه:
- الدكتور إسكندر!
ولم يستجب، فأعاد نادر النداء، وتقدم حتى وقف بجانبه، ووضع يدهُ على كتفه. ورفع الدكتور إسكندر وجهاً جامداً لينظر إلى نادر، وكأنه لم يره من قبل، فسأله نادر:
- ماذا حدث؟
ولم ير في عينيه علامة للتعرف أو الفهم، فعاد يسأل:
- هل رأيت كارول؟ هالين؟ أي واحد من جماعتنا؟
ولم يجب الرجل، بل عاد إلى صلاته يتمتم بدعوات لم يفهمها نادر.
وتركه محتاراً إلى فتاة جاثية على بعد أقدام منه فكان رد فعلها مماثلاً...
وعلى بعد عدة أمتار لاحظ نادر أجساداً ملقاة على رمل الشاطىء مبتلة الملابس، وكأن الأمواج ألقت بها حديثاً على البر..
وجرى نحوها فتعرف على وجه الدكتور فدراك بلحيته السوداء، وهو ملقى على ظهره مفتوح العينين والفم..
وجَثَا الدكتور نادر بجانبه وتناول رُسغه، وجس نبضه ووريده، فوجد الرجل ميتاً.
وخطا نحو جثة أخرى فاقشعر جلده.. كانت جثة كارول ملقاة على وجهها، فقلبها ليتأكد. وأمسك كتفها وحركها بعنف، وكأنه يأمل أن يعيدها إلى الحياة...
وحين تأكد من ذهابها ضم جسدها الشاب إلى صدره وبكى بدموع صامتة...
وحملها بين ذراعيه، وقد تدلى شعرها، وارتخت يداها وسار بها نحو الرمل الجاف، حيث وضعها بحنان كبير تحت سنديانة ضخمة... وقطف عدة أغصان وزهور وضعها حول جسدها وطوق وجهها بالأقحوان.. وتربع عند جذع الأيكة ينظر إليها في كمد صامت، وقد تجسمت في جسدها الميت كل أمانيه التي انهارت، وكلُّ حبه الذي كان يحمله لتاج..!



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
للكاتب, محمد, مكتملة, الأزرق, البقالي, الحياء, السلام, العلمي, الطوفان, رواية

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:01 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.