سنلتقي بعد دهر الكاتبة / فضاء , فصحى , مكتمله [TABLE1="width:100%;background-color:silver;border:6px double deeppink;"] | [/TABLE1]https://store1.up-00.com/2014-01/1389382667341.png الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كيف حالك إن شاء الله دائما بخير ؟ نقدم لكم رواية سلنتقي بعد دهر بقلم فضاء للعلم الكاتبة مو نفسها فضاء كاتبة اجمل غرور ورومانسيات قلوب متوحشه |
سنلتقي بعد دهر _ 1 _ ( و افترقنا ) صرير الحقائب المجرورة على أرضية الغرفة يضج بالمكان . . و قضى صراخ الأطفال على ما تبقى من طبلتيها ! رمت إليها بسؤال بصوتها حاد : . . - ماذا تفعلين ؟ ! لم تجب عليها بل اكتفت بحمل طفلها الصغير معها بينما هي تجر حقائبها جراً إلى حجرة هديل و صياح الأطفال الصغار حولها يمنعها من سمع همستها الوحيدة . . أكملت هديل صراخها على خالتها . . - ما الذي جلبك إلى هنا ؟ ..ماذا تريدين ؟ . .أرجو أن تحلي مشاكلك بنفسك بعيداً عنا . . أمسكت الهاتف وضغطت على عدة أرقام ثم أردفت . . - سأتصل عليه و سيأتي ليأخذك و تذهبين معه . . أنتِ و أطفالك . . أتاها صوت من خلفها : - لن يرد عليكِ . . استدارت لترى ذات القوام الممشوق تبتسم ببرود . . ردت عليها بصوت بارد و ابتسامة مقهورة . . - و لِمْ ؟ . . أتريدون أن يتطلقا والدي ؟ - ليست بالفكرة السيئة ، لكن ليس هذا سبب قدوم أمي بجيشها الصغير . . استشاطت هديل غضباً من ردها المثلج . . حاولت أن تحافظ على بقايا هدوءها . . بينما أكملت هناء حديثها . . - انتهى كل ما حصل بنهاية غير متوقعة .. ضحكت ضحكة جافة . . فسألتها هديل بنبرة مفجعه متخوفة : - أتطلقا ؟ ! - يا ليت . . - إذن . . ماذا ! - امم . . جلست هناء على الأريكة و وضعت ساقاً فوق ساق . . أخرجت سيجارة من حقيبتها و همت بإشعالها . . جحظت عينا هديل و هي تنزع السيجارة من بين أصابعها ، و زعقت بها . . - ماذا تفعلين . .! ؟ سحبت هناء السيجارة من بين يدي هديل المذهولة بخفة . . وقالت وهي تشعل السيجارة : - أدخن . . نفثت سموم تلك السيجارة في الهواء ثم أردفت بابتسامة صفراء . . - لم أخبرك القصة بعد . . أخي جابر تم تجنيده في الجيش إلزامياً كما حصل لجميع شباب البلاد ،. . أردفت وهي ترسم دوامات دخانية بتلك السيجارة ببرود . .: - حسنا , هذه ليست قصتنا . . قبل شهر خرج علينا والدي منهاراً من عمله و خائفاً من كل شيء من همومه و الأزمة . . إلخ ، أخذت أمي تخفف عنه و تشد من أزره بكلماتها المعهودة ، بأنه سيسدد الديون في يوما ما و أنه قريب و و و و إلخ . . لكن المفاجأة الحقيقة هي أن والدي . . قد طرد من عمله . . استنشقت من السيجارة ما استطاعت ثم بثت غبار السموم حولها . . وقالت مكملةً حديثها وهي تخرج كرة هوائية صغيرة و تلوح بسيجارتها يميناً و شمالا : - هذا سيكون شيئاً عادياً في ظِل الأزمة السياسية و الاقتصادية في البلاد . . لكن ما هو غير متوقع . . أن يمسك أبي بالزناد و يطلق طلقات عشوائية حوله . . و أن تخترق إحدى الطلقات دماغه الغبي هكذا . . ضحكت ضحكة مجلجلة وهي تشير بأصبعها على رأسها . . و تقول . .: - أتصدقين هكذا . . بكل بساطة انتحر . . و . . أمامنا . . ذهلتْ هديل مما سمعت و اغتنت عينيها بالدموع بينما تابعت هناء قص قصتها ، محدقةً في الفراغ مبتسمةً ببلاهة . . - هذا ليس كل ما حدث ، مرت أحدى الرصاصات بجانب أخي محمد الذي يرقد في المستشفى حالياً . . بالطبع . . اممم . . و ماذا أيضاً . .؟ طفرت الدموع من عينيهما وضحك هناء الهستيري مازال مستمراً . . - د تذكرت أخيراً . . تم طردنا من منزلنا . . طردنا المالك بعدما تركنا أسبوعاً لندبر مالاً للانتقال إلى منزل آخر ، و بعد كل ذلك هو من دفع أجرة السائق . . أليس هذا مضحكاً . .؟ و انخرطت في بكاء مرير تارة و تارة أخرى في ضحكات هستيرية مبعثرة ، ثم رمت بسيجارتها على سطح الأرضية ، لتنطفئ . . ||| شيعتهم بتحياتي على أمل أن لا ألتقيهم مرةً أخرى . . و ابتسامة بلهاء منطبعة على وجهي .: - إلى اللقاء .. أوصتني أم تركي وهي ترتب مظهرها و تتأكد من زينتها . . بقولها . . : - اعتني بـ تركي . . و إذا احتجتما للأسلحة ستجدونها في مكانها . . أوه ، متى ستزول هذه الأزمة . . رددت و أنا أحاول المحافظة على ابتسامتي . . - حسناً يا خالتي . . أتمنى أن لا نضطر لذلك . . لوحت بيدي لهم لأعلن انتهاء هذا التوديع الذي لم ينتهي بعد . . ردت هيفاء بنعومة و غنج زائدين . . : - إلى اللقاء - إلى اللقاء و اخيرا تخلصت من عائلة تركي المستفزة ، أم مُتصابِية و فتاة كـ الدمية ، و أب صامت لا محل له من الإعراب لا ينصب و لا يرفع فقط مبني على الكسر . و ما أن خرجوا حتى انطلقت إلى حجرته . . دخلت إلى غرفته . . ووجدته كعادته ، الأوراق ممدة على المكتب و كأنها مريض بينما يرسم هو فوقها الخطوط و التعاريج كـ طبيب يفحص مريضة و بذات الحرص و الدقة . . - السلام عليكم . . لا رد ! أعدت حديثي بصوت أعلى عله يسمعني : - السلاام عليكم ! أشار لي بيده الممسكة بالقلم . - انتظر لحظة واحدة فقط . . رددت منزعجاً من تلك الإيماءة القلمية : - هاي أنت .. أن ألقي السلام فيجب أن تـ . . رد منزعجاً هو الآخر : - و عليكم السلام ورحمة الله و بركاته . . تفضل لست محتاج لمحاضراتك الآن ! و انكب في عمله مرة أخرى ، جلست على سريره استكشف آخر خرائطه التي رسمها . . - ما هذا يا فتى الخرائط . .! لقد غطيت جوانب المدينة كلها !! أجابني من بين خطوطه و مساطره و أدواته الغريبة بابتسامة سعيدة تعلو محياه . . - أتحسبني فلتُ من التجنيد لعباً ؟ ! - أأنت أيضاً فلت منه ؟ ترك ما بيديه بغتة . . و قال بفرحة . . : - إذن ستذهب معي للغابة . . انعقد حاجبيّ مع بعضهما عجباً . .: - ولم ؟ ماذا ستفعل ؟ أجابني متحمساً . . - سأستكشف المكان هناك و ارسمه على خارطة تحتوي على كل تفاصيل الغابة و كل ما تحويه من نباتات و حشرات و حشائش . . - و من سيساعدك في هذا ؟ هب من مقعده و احتضنني بقوة . . - أنت يا فتى الحشائش . . - هدئ من روعك يا فتى ، لم سنذهب إلى هناك ؟ قفز إلى أريكته الطويلة و تربع عليها بحماس . . : - قلت لك مسبقاً أطمح إلى استكشافها . . وقف و أشار إلى الغابة على الخريطة بحماس . .: - لم يقم أحد ما مسبقاً بتغطية هذه المنطقة و وصف ما فيها أشجار و نباتات و حيوانات . . - بصراحة هناك من قام بتغطيتها . . ابتسمت وأنا أتمم . .: - لكن لا بأس فليس لدي ما أفعله و خاصة أني اشتقت لتلك الحشرات الصغيرة . . انطلقت من بعدها أجهز حقيبتنا بينما تابع تركي فحص خرائطه و الانتقال من تفصيل إلى آخر . . ||| علقت ذرات الهواء في حنجرتها و أطبق الصمت على شفتيها . . نهضت و الذنب يخرسها . . لا تعرف ماذا يجب أن تقول عن تصرفاتها الخرقاء . . اكتفت في ذلك الوقت بمساعدة خالتها في ترتيب الحقائب و إعداد الطعام وهي لا ترى شيئا فالضباب غطى كل شيء . . قهقهة هناء و حتى رائحة سيجارتها و صياح الأطفال لا تشعر به مطلقاً . . وضعت الطعام أمام تلك الأجساد الصغيرة المنهكة . . وهمست مذكرة . . : - لا تنسوا بسم الله . . لم يسمعها أحد منهم أو هكذا خيل لها فقد انقضوا على الطعام كمن لم يأكل أبداً . . ذهبت إلى خالتها تساعدها على إفراغ الحقائب على أرضية غرفتها . . حاولت بث القليل من الشجاعة لحل شفتيها فتحت فاها للحظة ثم عاود الأطباق بـ جبن . . - لا داعي للاعتذار . . أقدر موقفك . . نطقت خالتها بذلك بينما ألقت هديل بنفسها في حضن خالتها . . و دمعاتها تنسكب لتبلل شفتيها . . وقالت بكلمات متحشرجة نادمة . .: - لم . . لم . . أكن . . أعلم . . ||| طلع الصبح . . أغلقت عيني محاولة كف هذا الضوء المزعج عن التسلل إلى عيني . . و لم ينجح ذلك ! . . نهضتُ و أنا ألمم فراشي و أبعده عني . . ما أن استويتُ عليه جالسة حتى تفاجأتُ بأطفال خالتي نائمين بجانب بعضهم البعض بينما كانت خالتي بوجهها الكسير ترتب ملابسها في خزانتها . . آه . . تذكرت ما حدث بالأمس ! تذكرت اندفاعي و كأنني مراهقة . . بلا تفكير . . و لا وزن ! ألتفتت إلي خالتي و هي تبتسم ببؤس . .: - صباح الخير . . أسرعي قبل أن تتأخري على الجامعة . . ابتسمت بينما كنت أحاول جمع بأسي . . : - صباح النور . . سرت إلى خزانة ملابسي و أنا أحوال تفادي دهس أحد هؤلاء الأطفال الصغار . . سحبت ما وصلت إليه يداي . . ذهبت لتبديل ملابسي و الخروج من الغرفة بذات الحذر . . ما أن بدلت ملابسي حتى ذهبت لمساعدة خالتي في تحضير الفطور . . و كالعادة ها أنا أراقبها و أخفق البيض بتعاسة بينما هي تقطع الطماطم و البصل و كأن شيئاً لم يكن ، تجمع شتات ابتسامة مكسورة لتعيش يومها فكل يوم جديد يستحق أن نستقبله بابتسامه كمن سبقه و من سيتليه ، لا أعرف أن كانت تمتلك ذلك التفاؤل أو ذلك بؤس الذي يمكنها من الابتسام كل يوم و بابتسامة متكسرة متناثرة بين ليل و فجر كل يوم . . لا استطيع التحدث معها عما حدث بالأمس فهي ستتظاهر و كأن شيء لم يكن و كأن ذلك قد حدث قبل ميلادي بعشرين سنه و لم يحدث بالأمس . . - أأنت معجبة بي لتنظري إلي هكذا ؟ سألتني و ابتسامتها تحاول ضم حطامها . . - هاه - صباح الخير . . سيفسد البيض ما لم توقفي الخفق . . بقيت أحدق بها بلا وعي . . - ما بالكِ . . هل فقدتي عقلكِ . . ؟ انتزعت وعاء البيض من بين يدي . . - اذهبي لتجهيز حقيبتك . . سأتكفل بالفطور . . - حسنا . . ذهبتُ و صوتها يتبعني . . - لا تنسي أن توقظي أخوتك . . كان ردي كالهمس . . - حسنا . . جمعتُ كتبي ثم وضعتها في الحقيبة ذهبت بعد ذلك لأحمد لإيقاظه ليذهب إلى مدرسته . . ما أن استيقظ حتى ذهبت لأجد الإفطار قد أعد و خالتي تضع الأطباق على الطاولة . . ابتسمت لخالتي بينما كنت أضع حقيبتي على الكرسي . . أخرجت ما بصدري من هواء . . و طفقت أساعدها في وضع الأطباق - أين جابر ؟ توقفت عن صف الأطباق فجأة . . أردفتُ : - أعني لِم لم يـ . .؟ - تم تجنيده . . وطغى الصمت على لمكان . . ||| أوقف السيارة بجانب الطريق فتح الباب ثم ترجل من السيارة . . فتح الباب الخلفي للسيارة و أنزل الحقائب . . نظر إليه عبدالله وسط تلك التصرفات الغريبة متعجباً ! قال له تركي وهو يهم بإغلاق باب السيارة الخلفي . . - ماذا تفعل عندك . . تعال أحمل معي الحقائب ! - أنت ما الذي تفعله ! ألتفت إلى أرض الخالية بجانب الطريق . . - أود استكشاف الغابة من هذه الجهة . . أخذ يشير إليها بينما عبدالله مأسور في حالة ذهول . . أكمل تركي . : - أعني تغطية الغابة من هذه الجهة أولا . . - من هذه الجهة ! ابتسم باضطراب مترقب و قال تركي : - ماذا تنتظر ؟ - اذهب لوحدك يا ابن بطوطة . . لستُ ذاهب إلى أي مكان . . رد تركي بنبرة طفولية : - لكن منظر الغابة سيكون من هناك أجمل . . - سيكون ؟! . . ثم كم تبعد المسافة من هنا إلى الغابة ؟ ألقى تركي نظره إلى جهازه الصغير . . - تقول الخريطة الإلكترونية . . 3 كلم فقط . . ابتسم بابتسامة أوسع . . ينتظر استجابة عبدالله . . و لما طال الانتظار سأله . .: - ألن تأتي معي ؟ لم يرد عبدالله بل اكتفى بإدارة محرك السيارة . . - أن كنت ستذهب معي اركب حالاً . . رد تركي بإحباط : - انتظر . . انتظر . . سأعيد الحقائب إلى السيارة . . وضعها تركي بسرعة و ركب بجانب كرسي السائق عبدالله . . - فيما كنت تفكر بترك السيارة هنا ! . . تفقد صوبك و تصبح كالطفل إذا فكرت فقط في التخييم . . وصلت السيارة إلى بيت الشاطئ الكبير . . قال تركي وهو يشير . . : -ها هو بيت الشاطئ الجديد الذي اشتراه أبي قبل فترة قصيرة . . علق عبدالله مبتسماً . .: - يبدو جميلاً من الخارج . . دعنا نراه من الداخل . . فتح الباب وهم بالنزول . . أوقفه تركي بقوله الجاد . .: - لا تنسى أننا لم نأتي هنا لتسكع بل أتينا لاستكشاف الغابة . . نظر إليه بابتسامة لعوب . .: - أود لو تنسى ذلك . . - في أحلامك . . وضعا حقائبهما عند المدخل . . سأله عبدالله متعجباً . . : - أليس هنالك أي خدم ؟ - كلا ، في الظروف الراهنة لم نستطيع تدبير خدم دائمين للمنزل . . همهم عبد الله وهو يستكشف المكان . . - تفضل من هنا . . أشار تركي إلى أحد الأبواب البعيدة . . - هناك حجرتي . . - و لم هي بالطابق السفلي ! ؟ ابتسم تركي ابتسامة واسعة . .: - لكي أستطيع الخروج و الدخول بسهولة . . - ماذا تعني ؟ سأله عبد الله بعينين واثقتين و ابتسامة ماكرة . . - لستُ كما تظن . .! و تابع الاثنان جدالهما أو كما يسمونه نقاش الذي ليس له نهاية . . ||| ودعته و دمعاتها تعبر عن خوفها الساكن فيها و الذي يبدو أنه سيظل يعمر معها . . شهقت وهي تترجاه أن لا يذهب و تمسك ببذلة العسكرية . .: - أرجوك لا تذهب . . أتود أن يرى أبننا النور دون أن يرى والده ؟ . . - لا استطيع الوطن يناديني . . مسح على رأسها برقة . . - لكي أحميك مسح على بطنها و أكمل . . : - و أحميه . . و أحمي أهلك و أهلي و وطنك و وطني . . - لكن هذه الأزمة لم و لن تنتهي أبداً منذ ولدت و أنا أتذوق مرارتها . . طمأنها بصوته العذب . . : - ثقي بالله . . ثقي بي . . سنضع لها نهاية بإذن الله . . خرج و لم يعد . . انخرطت آمال في بكاء صامت و عينيها تراقب آخر خطواته , تتمنى له العودة سالماً و لم تطمع أن يكون غانماً . . فقط . . تريده سالماً . . أحكمت إغلاق حقيبتها . . و شرعت في صف ملابس صغيرة جداً لطفلها المترقب . . سيخرج بعد شهر و نصف ليرى الدنيا دمار . . و سينشأ كأمه جائعاً , هارباً من المجهول . . من لا شيء . . سيصعد الجبال و ينزل الوديان . . سيتوسد الأرض . . و يلتحف السماء . . و ينام في بـ. . . نهرت نفسها عن التفكير بهذا اليأس . . يجب أن تتمنى له مستقبلاً أفضل مستقبلها و تتطلع إليه . . ماذا سيجابه عبد السلام ؟ تتمنى أن لا يواجه ما واجهها . . أكملت تطبيق ملابسه و ترتيبها في حقيبته الصغيرة بجانب مفرشه الناعم و رضاعته الصغيرة . . سحبت حقائبها الثقيلة لوحدها و هي تحمل معها بطنها الكبير . . كان ذلك شاقاً عليها جداً . . أوقفت سيارة أجرة حينما كانت تحاول ضبط زمام حقائبها من الانزلاق بعيداً عنها . . فتحت الباب و ركبت . . سألها السائق . . : - إلى أين نذهب . .؟ ||| بدلا ملابسهما ولبسا ملابس مريحة تناسب الرحلة التي سيخوضانها . . مشا إلى الغابة سيراً على أقدامهما . . استقبلتهما أشجار الصنوبر بدا تركي ساكناً ليس كما يكون في رحلاتهما السابقة . ! سأله عبد الله . . : - ماذا بك ؟ . . رد تركي و هو يقطع ورقة إحدى الأشجار إلى قطع صغيرة . . : - لا أدري . . سكتا بعد ذلك برهة حتى . . : - أتعرف . . لا أظن أن انفلاتنا من التجنيد فكرة جيدة . .! تطلع عبد الله إلى تركي متعجباً من حديثه . ! رد تركي على تلك النظرة بقولة . .: - أعني أن هذا ليس جيداً . . الكل يذهب ليحمي هذا الوطن و يحمي عائلته بينما نحن هنا نخطط لمشاريعنا و . . قاطعه عبدالله . .: - أنظروا إلى من يتحدث و كأنك لم تكن أول من نادى بإفلات من التجنيد . . ثم عائلتك ليست هنا هربت هي الأخرى من هذه المعمعة . . و هذه الأزمة ليست بجديدة علينا لقد ولدنا في سابقتها . . - لكننا لم نكن هنا . . لم نرى كيف تكون الحرب مخيفة . . - و ها نحن سنراها كأي شخص بقي في البلاد . . ثم نحن هنا ليس للهو بل توثيق كل ما نراه عل خريطة ستكون مفيدة على جميع الأصعدة . . صمت تركي يفكر . . شد انتباهه حديث عبد الله وهو يراقب إحدى الحشرات من بعد ليس بقريب . . - هذه إحدى الحشرات التي تسمى بالنتنة و تتغذى على أوراق الخضروات . . أشار إلى أحد الأشجار . . و قال . .: - مثل دوار الشمس . . أعني أنك تجدها بين نباتات الخضروات غالباً . . انشغل تركي بتوثيق هذه المعلومات و اخذ صورة لتلك الحشرة الصغيرة و غذائها . . ثم سأل . . : - ماذا عن فوائدها و أضرارها . .؟ - لديها مادة على ظهرها تساعد في التئام الجروح بشكل أسرع و تعمل كمطهر . . لكن يجب أن تكون المعالجة بها و هي ميتة حديثاً . . - حتى لا يغطي النتن ظهرها . . فهذه إحدى وسائل دفاعها ضد الحشرات و الحيوانات التي تلتهمها . . - لكن كيف سنقتلها قبل أن تخرج نتنها ؟ - هذا عملي . . فلا بد و أن هنالك طريقة ما . . سأبحث عن ذلك في مكتبة الجامعة . . ||| يقلب صفحات الجريدة بهدوء و روية و رشفة رشفات متباينة من الشاي الأخضر . . مازال يقرأ الجريدة بتركيز و كأنني لا أحادثه مطلقاً . . - أبي ، أبي ، أبي . . أبي أبي . .! طوى الجريدة ببطء و حتى بدت لي لا مبالاته السابقة لحديثي . . : - نعم . . ماذا هناك . .؟ - كيف لا يمكن لنا العودة إلى هناك ؟ - ماذا تقصدين بـ هناك ؟ رددت بغيظ . .: - أبي أنت تعرف ! رشفة رشفة من الشاي الذي أخاله قد تجمد من برودته و قال . .: - لا ، لا أعرف . . حاولت مسك السيطرة على نفسي فهو مازال أبي . .: - بلى تعرف أن أخي عبد الله هناك و أن صديقتي هناك و أن عائلتنا كلها هناك . . ! قال و كأنه لا يدري في أي وادي أهيم . . : - أين ؟ قلت و أنا أكاد أبكي مما أحس به . .: - في الوطن . . يا أبي . . - و ماذا تريدينني أن أفعل ؟ ! - أريد أن نعود إلى هناك . . - أترك عملي و تتركين دراستك ! . . ثم هذا هو اختيارهما و هذا ما أراداه ! - أبي بسمة ضعيفة لا تحتمل شيئا , و أخي عبد الله متهور . . و الأدهى أنك تركته يفلت من التجنيد و لم تجلبه إلى هنا . . - هو من رفض أن يأتي . . - و ماذا عن بسمة ؟ - ستعتني بنفسها . .! - و ماذا لو . . أغلق الموضوع برفعه للجريدة و قوله . .: - سيعتني بها عبد الله . . رشفة آخر قطرة من الشاي الأخضر . . : - لقد انتهينا . . قمت عن كرسيي و دفعته بقوة عله يحس بغيظي ! . . و قلت . .: - لن أذهب إلى المدرسة . . ! تركت حقيبتي على المنضدة بعنف . . و ذهبت إلى غرفتي بينما صرخة الباب هي ما سمعتها بعد دفعي لها . . بدلت ملابس المدرسة بملابس البيت . . و الغضب مازال يحتويني . . أود لو أضرب أحداً . . يجب أن أهدئ . . ألقيت نظرة من خلف زجاج النافذة لأرى زحام المدينة من عشرين طابقاً . . كم هذا مزعج . . ضوضاء تملئ الهواء . . انفتح الباب من خلفي ثم انغلق بهدوء . . ابتسمت في سري سيأتي ليراضيني . ! - آنستي يخبرك سيدي بأنه سيذهب إلى عمله . . و يود لو تعودي إلى رشدك . . - حسناء ! - نعم ! - لا تجعليني أغضب أكثر من ذلك . . أرجوك . . - حسناً . . - أتعلمين أن العصبية تؤدي إلى التهابات في المسالك البولية . ! ألتفت إليها بابتسامة بلهاء . . و شاهدت آثار معلومتي عليها . . كانت كالمصعوقة كهربائياً . ! - لا ترتعبي لستُ مصابة بإحدى هذه التهابات . . لكن . . جلست على الأريكة المتمددة على الأرضية . . بينما كان نظري محلقاً إلى السماء التي تمنعني عن رؤيتها الكثير من المباني . . و أكملت . .: - أتعلمين أن أحد الأشياء التي تجعلني غاضبة من أبي أنه لا يلقي بالاً بأخوتي . . فهو يأخذ أي موضوع يمسهم ببرود و كأنهم ليسوا أخوتي . . أولاً أبعدني عنهم و هاجرنا إلى بلاد أخرى . . و لم أعد أراهم إلا في العطل . . و في حالة السلم أو الحرب لامناص من الخروج من هذه البلاد إلا في العطل . . و هذا ما يقلقني . . ألأنهم أخوتي من أمي فهم ليسوا من عائلتنا ! هذا ليس بعـ .. ألتفتُ لأرى الفراغ يهزئ بي ! كم هذا محرج . ! ليس هنالك أحد يسمعك هنا مطلقاً و كأنهم صم بكم لا يفقهون ! ||| قطعت شوطاً كبيراً لأصل إلى الجامعة و سيراً على الأقدام ! وكنت طوال طريقي من المنزل إلى الجامعة أحاول منع ضميري في التفكير في تصرفاتي الخرقاء و ما قلته في الليلة الماضية . . يالسخرية . . في يوم ولادتي تم الاصطلاح بين الأخوين و في يوم ميلادي العشرين يتخاصمان و سيؤدي خصامهما إلى نشوب الحرب مرة أخرى . ! بعد أن كانت بلادنا تعيش في أمان في ظل الحاكم . . أنجب توأمين و الذين انقضا على الحكم بعد وفاة والدهما و أنشأت الأحزاب معنا أم معهم . . عمت الفوضى البلاد بعد ذلك أدى الوزراء السابقين في تهدئة الفتنة بصلح نقض عدة مرات بمناوشات بسيطة لم تكن تأثر على الشعب و لم تكن هناك قوى عسكرية تستعد للحرب . . حينما يتم تجنيدك لتقاتل أخوتك المسلمين قد يكون احد أصدقائك أقربائك مهما كان و ما يكون مادام ليس يعيش على أرضنا فهو ليس منا . . يستحق القتل و يستحق الموت . . مادام بقي هناك في الجانب الآخر للجزيرة . . تم قطع الجسد الواحد إلى قطعتين سرعان ما تشعبت لتتقطع إلى قطع أصغر و أصغر . . أصحت البلاد و شاهدت يدها تمزق يدها الأخرى و جسدها يمزق بعضه لمن المؤلم أن تكون أحد مشاهدي هذا الجسد وهو يمزق نفسه . . فيكف أن كنت بداخله كنت أحد الأطراف الممزقة ترى دماء مهدرة . . و رقاب تتطاير . . لأجل قطعة أرض . ! لأجل الطمع . ! لأجل السيطرة . ! لأجل الحكم . ! قطعت طريقي في التفكير في مستقبلنا البائس بيأس . . - صباح الخير . . حيتني بسمة بابتسامة مشرقة متفائلة لم استطع مقاومة مبادلتها تلك الابتسامة بابتسامة بائسة . . - صباح النور . . و كأننا سنرى النور . ! - ماذا بك . ؟ وجهت سيري إلى المقهى أجبتها و أنا أسير. . : - انتحر زوجي خالتي . . توقفت برهة عن السير بينما تابعت سيري و قالت متفاجأة . . : - انتحر ! - نعم . . ببساطة آثر الموت على العيش في هذا التمزق . ! - أوه . . آسفة على ذلك . . ردت بحزن و همست . . : - سآتي للتعزية . . رددت بانزعاج من كل شيء . . : - كيف تعزين في شخص انتحر . ! و منذ شهر . ! - شهر ! - لا أزال لا أصدق هذا . . أعني ما وصلنا إليه . . أوصل بنا الخوف إلى هذه الدرجة . . أبعد الأمن و الأمان يحصل هذا . ! صمتت بسمة لم تعد تدري بما ترد . . أو لم تعد تستطيع لومي على ابتسامتي اليائسة و عصبيتي التي بدت تطفو على السطح بسبب كل تلك الأفكار و التخيلات و الضغوط ! أتمنى لو استرخي . . لو رزقني الله باللامبالاة بما حولي . ! - لا تأخذي المشاكل و كأنها مشاكلك لوحدك فهذه الأمة مشكلة شعبية يضطرب لها شعبنا و يتشاركها كلا الشعبين كما الأرض الشمالية تعاني فالأرض الجنوبية تعاني أيضاً . . - ليس الموضوع بالبساطة التي تتصورينها . . - و ليس الموضوع بالضخامة التي تتصورينها . ! صمتُ كارهةً بدأ جدال لا معنى له بين التفاؤل المطلق و الواقعية و الذي لن يفيدنا في شيء . . أردت أن أبدد ذلك الصمت بموضوع مغاير . . - ما أخبار ريناد ؟ مازالت هالة الصمت تحيط بها و هي تفكر بعيداً و تتعدى البحار و المحيطات تفكر في أختها الصغيرة و كأنها ستراها . . - إنها بخير . . - الحمدلله . . و جلسنا على إحدى الطاولات المتناثرة . . ||| حشد شبابي كبير محبوس في ساحة كبيرة . . و أمامهم يتحدث عسكري ذو رتبة عالية . . يتحدث بفمه الكبير و أوداجه المنتفخة لصراخها بينما يستقبل الميكرفون ما يتطاير من فمه بصبر أيوب . . - أنه لم المخزي أن نخسر هذه الحرب . . و أن تأخذ أرضنا و تسلب أمام أنظارنا ، و من قبل أعدائنا و نحن صامتون . ! يجب علينا أن نجهز جيشنا . . أن لا تأخذنا بهم رحمهم ما داموا لم يرحموا صغارنا و نسائنا . . فمن يفعل ذلك يستحق القتل أن كان صديقك أو أخوك أو حتى أبوك . . مهما كان مبررة . . يجب قتله ما دام ضدنا . . ضد بلادنا . . ضد أمننا . . تأمل جابر في الحشد الكبير الذي أتى ليلبي نداء الوطن سواء رضي أم أبى . . كل من به القوة أتى . . تاركاً أهله و أحبابه خلفه ليواجه هو العدو و يبقوا بأمان . . ليسمعوا هذه الكلمات عن قتل أخوته و أصدقائه لمجرد أنهم ضده . ! بحث بين الحضور عن أبوه . . فلابد و أنه أتى . . و لن يستطيع الاتصال به لأنه من الممنوع الاتصال بالأهل حتى يعتادوا على قسوة القلب . ! تم توزيع اللباس العسكري و توزيع الغرف بعد تلك الخطبة العسكرية الطويلة . . فتح حقيبته و أخذ يخرج ملابسه منها . .لاحظ أن حقيبته كانت من الداخل أصغر من المعتاد . ! تلمس ذلك السطح الجديد . . حتى وجد خيط يخرج منه سحبه فلم يخرج سحبه بقوة ليتفاجأ بكمية من الحلويات و الطعام المعلب المخبئة بحرفية و ورقة صغيرة ----- أعرف كم من السيئ أن تكون مجنداً . . أخبرتني صديقتي أن والدها كان يعاني من سوء التغذية لهذا حضرت لك أطعمة خفيفة يمكنك أكلها بخفية . . : ) هناء ----- ابتسم وهو يقرأ تلك الورقة المنزوعة من مفكرتها الوردية . . - أهناك شيء يدعو للابتسام . . ؟ أغلق حقيبته بسرعة و كرمش الورقة في يده . . - كلا . . لا شيء . . - لاشيء . ! رمى بنفسه على السرير المجاور لجابر . . - الكل هنا يقول لا شيء . . و كأن هذا شيء طبيعي أن تجند إجبارياً . ! تابع جابر إدخال ملابسه في الخزانة . . - كم هذا مزعج . ! لم يعر جابر اهتماماً لما يقوله رفيقه في الحجرة . . بينما أكمل الآخر حديثه . . : - أعني أن تكون محبوساً هنا . . سيكون السجن أرحم من ذلك . . فهم لن يتعبوك بتدريبهم القاسي . . - هلّا كففت عن التذمر . ! تحدث جابر بعد أن انتهى من إغلاق حقيبته . . - أوه و أخيراً تحدثت . . ظننتك أصم . . - هذا ليس مضحكاً . . رد بنصف ابتسامة و نبرة مستفزة . : - أوه , أنت أحد هؤلاء الذين ينادون بالقسوة ! - بل أحد هؤلاء الذين يكرهون التذمر الذي لا فائدة منه ! - ألست معي بأن هذا ليس بعدل ؟ . . أعني أن أولاد الأغنياء يتنزهون بالخارج و نحن هنا نعاني . ! صمتا لفترة . . ثم هب ذلك الصبي من مكانه . . وقال وهو يمد يده و ابتسامة صافيه تجمل وجهه . . - بالمناسبة أنا حبيب . . مد جابر يده هو الآخر . . : - تشرفنا . . معك جابر . . ابتسم جابر بسخرية ممتزجة بأسى في سره . . فهذا الصبي ذو الستة عشر عاماً كما يبدو . . مازال طرياً ليكون جندياً . . لم يجابه الحرب و لم يرى قسوتها . . فكيف يجندونه ؟ ! |
_2_ (لا بأس ) قال و عيناه المشتعلتان تضيقان شيئاً فشيئا ثم صرخ بها . : - كم من مرة يجب أن أقول لكِ أن هذا ممنوع ؟ اصطكت أسنانها ببعضها ، عضت على شفتها بغيظ . . حاولت خفض صوتها قدر استطاعتها .: - ممنوع ! و من أنت لتحدد لي ما هو الممنوع . . - أنا أخوك . ! و سأحدد ما ينفعك شئتِ أم أبيتِ . ! - تقصد، تمنعني من العيش حياتي بدون تدخلاتك وتوصياتك المتسلطة ! ممنوع الخروج . ! ممنوع الزيارات . ! أكملت و صوتها يعلو رويداً رويدا . .: - ممنوع ! ممنوع ! ممنوع ! متى ستمنعني من العيش و تريحني ! - و قرن في بيوتكن و لا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى . ! جحظت عيناها حتى كادت أن تخرج من محجرها و قالت بغضب . .: - و هل تراني متبرجة ! ؟ - المرأة ليس عليها إلا السمع و الطاعة . . نظرت إليها بعينان ضيقتان تشعان بالتحدي و ابتسامة سخرية ترتسم على شفتيها . : - لستُ بامرأتك حتى تأمرني و تنهاني كما تريد ! و لست بولي أمري . ! - حسناً . ! اتجه إلى الباب و قبل أن يصفقه قال : - لكي ما تريدين ، ستكونين امرأة أحدهم و هذا الأسبوع . ! دفعت بذلك الهواء المحبوس في صدرها بصرخة صغيرة . . اتجهت إلى النافذة الكبيرة مررت أناملها بعبث على الأريكة المستندة إلى النافذة . . جلست على الأريكة و وجهها صوب الشارع الضيق و صفحة جريدة ضلت الرياح تدحرجها على الإسفلت حتى تعبت . . زمت شفتيها بضجر ، لا يمكنه أن يزوجني . . من يظن نفسه ! ألا انه كان ضالاً ثم اهتدى يبقون الناس ضالين ما داموا ليسوا مثله ! هذا هراء . ! شعرت بحركة أكرة الباب من خلفها رغم بعده . . فهذه الطريقة في إدارته . . تميزها من بين كل الاستدارات . . ما أن انفتح الباب حتى رفعت يدها و أشارت لها أن تأتي دون أن تلتفت إليها . . بقيت محدقة في الشارع . . شعرت بلمستها الرقيقة على كتفيها و هي تشد من أزرها . . ابتسمت رهام براحة ثم استدارت إليها و أشارت لها أن تجلس بجانبها . . رفعت هبة يديها و أخذت تثني أصابعها بسرعة بحركات مختلفة بلغة الإشارة و علامات التساؤل و الخوف ترتسم على وجهها . . ابتسمت رهام لتطمئنها بأنه ليس هناك شيء ، تحدثت ببطء و هي تحرك و تثني أصابعها لكي تستطيع هبة فهمها . : - لقد زعق علي يريدني أن لا اتصل بالعالم الخارجي . . أقصد الانترنت . . فقلت بأن هذا ظلم . . و ارتفع صوته فارتفع صوتي . . و في النهاية . . ضحكت رهام بينما كانت علامات الدهشة ترتسم على أختها الكبرى ثم أكملت . : - انتهينا بأنه سيزوجني هذا الأسبوع ! بان على هبة الضيق و تكدر وجهها . . مدت رهام يدها وضعت أنملة سبابتها و أنملة إبهامها على زاويتي شفتيها لترفعهما صانعة ابتسامة على وجه هبة . . و أشارت لها بأن لا تقلق . . أشارت لها هبة بنفس مثبطة . . كيف لا تقلق و هو سيزوجها حتماً . ! أشارت لها رهام بضحكة صغيرة . . لأنه سيجند في الجيش غداً أو بعد الغد . . وقفت رهام ثم سارت تخطو بخطوات عسكرية . . استدارت إلى هبة المذهولة وحيتها بتحية عسكرية . . التي زادتها عجباً . . - ألا تعلمين ؟ هزت رأسها بـ لا جلست رهام بجانبها على الأريكة . . ثم قالت و هي تشير . : - تم تجنيد شباب العاصمة و غداً سيتم تجنيد شباب المدن الأخرى . . حل الرعب على وجه هبة و أشارت بـ لماذا ؟ - لأن الحرب ستقوم . . قامت رهام و هي تمثل دور جندي في الميدان . . ثم يمسك بمسدسه و يطلق برشاشه في عدة جهات . . كان وجه هبة جامداً و عيناها تحدقان في خواء . . آخر أصوات سمعتها عادت من جديد لتسكن أذنيها . . ضربات رصاص تضج بالمكان و دمار يغص بالأمان . . لا نور هناك إلا نور الطلقات و الانفجارات . . وهي تملئ الفضاء دخاناً لتزيده حلكة و تكتم الأنفاس . . ضغطت على أذنيها وهي تأن بأنين حاد اخترق طبلة رهام . . توقفت رهام عن دورنها برشاشها الخيالي و طلقاتها الوهمية . . و استدارات إليها . . شخصت عينا هبة للأعلى و يديها ما تزال تحكم قبضتها على أذنيها . . ||| ترجلت من سيارة الأجرة بصعوبة بسبب بطنها المنتفخ . . اتجهت إلى الباب . . وضلّت تلوم نفسها على حملها خلال هذه الفترة الحرجة حتى فتح لها الباب و دخلت. . تفاجئت الاثنتين ببعضهما وقالتا بصوت واحد . .: - هناء ! - آمال ! - ماذا تفعلين هنا ؟ سألت آمال هناء و التعجب مرتسم على وجهها قالت وهي تغلق الباب . : - سأحكي لكِ لاحقاً . . تعالي قبل أن تلدي هنا . . جرت هناء الحقائب الثقيلة إلى مدخل المنزل وهي تقول . : - يالكِ من قوية . . كيف جررت هذه إلى هنا ! لم تنبس لها ببنت شفة . . بل اكتفت بمراقبة وجهها المصفر و عينيها المنتفختان . . سألتها بقلب قلق . . - ماذا هناك هل حصل شيء ما ؟ توقفت هناء عند مدخل المنزل أراحة يدها على أكرة الباب ثم قالت . . - لا شيء يذكر كالعادة . . واجهتها و هي تجر الحقائب إلى الخلف إلى داخل المنزل . . و قالت . : - ماذا عنكِ . ؟ ، ما الذي جلبك إلى هنا ؟ تنهدت وهي تضع يدها إلى ظهرها تسنده في حمل هذا الوزن الزائد . . - تم تجنيده . . - كـ حال كل الشباب ! دخلتا ثم أغلقت آمال الباب بينما أكملت هناء و الحقائب المجرورة طريقهما إلى الصالة و من ثم إلى الطابق العلوي إلى حجرة آمال سابقاً . . تفجرت الأسئلة من مزنه وهي ترى بين يدي هناء حقائب كبيرة تجرها . . أيعقل أن تكون جلبت رجل ما إلى هنا ! ؟ ساورتها الظنون التي ألجمتها عن سؤالها عن السبب . . - السلام عليكم . . ارتبكت من صوت أنثوي أتاها من خلفها . . قابلتها آمال وهي تبتسم و تقول . : - ما بكِ يا أمي ؟ ! . . حملقت بها بـ فاه منفرج يكاد يسقط إلى الأرض . . ابتسمت آمال وهي تكتم ضحكتها و قالت . : - ألم تتعرفي على صوت ابنتك . ! زمت شفتيها بدلال ثم توجهت إليها وجلست بجانبها على الأريكة البيضاء . . - ما الذي جلبكِ إلى هنا . ؟ سألت آمال و قلبها يخفق خوفاً . . زمت آمال شفتيها أكثر وهي تقول . : - أهكذا تلقين السلام . ! وضعت حقيبتها الصغيرة بجانبها ركزت عينيها على السحاب وهي تلعب به . . ثم أردفت . : - لقد تم تجنيده أيضاً . . طردت الهواء الساكن من صدرها ثم استنشقت نفساً عميقاً . . - ما هذه الرائحة ؟ ! . . من ذا الذي يدخن هنا ؟ انعقد حاجبيها وهي تنظر إلى أمها تنتظر جوابها . . و بعد أن طال صمت أمها . . استحضرت كل شخص يعيش هنا لتتوقع من هو صاحب هذه الرائحة . : - أهو أحمد ؟ أشارت أمها بـ لا . . مرت هناء وهي تحمل أخوها حكيم الصغير ذو السنتين و بيدها الأخرى رضاعة فارغة . . - آمال . . وجهت آمال انتباهها إليها . . أكملت هناء و يدها بالرضاعة تشير إلى الأعلى . . - رتبت لكِ حقائبك ، أرجوا أن تسمحي لي بالنوم معك ، ستجدين فراشي مطوي هناك . . ابتسمت ثم توجهت إلى المطبخ . . ألتفت آمال إلى أمها بينما كان بصر أمها يتابع هناء حتى دلفت إلى الطبخ ، توقف بصرها هناك و كأن الزمن في تلك اللحظة قد توقف . . نقرت آمال أمها بأصبعها و قالت : - ما بكِ ؟ بدت أمها تحلق خارج هذا العالم الذي تعيش فيه . . خرجت هناء و هي تحمل حكيم القابض على الرضاعة يمتص منها الحليب الدافئ . . بينما كانت آمال حائرة إزاء هذا الموقف الغريب . . ||| ذهبت مسرعة إلى الباب لتوقف منيرة عن ضغط الجرس مرارا و تكرار كعادتها . . بينما كانت هبة تشاهدها و هالة من الحيرة تكتنفها . . وقفت عند الباب وهي تصرخ . : - لن افتح لكِ أيتها المزعجة . . حتى تفكي عن إزعاجنا ! تركت الباب ثم عادت له بعد برهة و قالت بصوت غاضب عالي .: - و أبقي إلى الصبح . ! - ألا يوجد استثناء لي ؟ جمدت يد رهام على الباب من هذا الصوت الرجولي . . شعرت بنار الحرج تحرقها . . و قالت بصوت منخفض من خلف الباب . : - من ؟ - أنا منور من تظنين ! أحست رهام بحرارة الدماء تسري في عروقها . . فعلتها تلك الـ .. ! فتحت الباب قليلاً . . ثم دخلت إلى الداخل بسرعة . . أوقفتها هبة تسألها عما حصل . . أشارت لها بحركات سريعة و هي تقول بوجه محترق لا تدري إن كان من الإحراج أو من الغضب . : - لقد فعلتها و أحضرت فارس معها ! حتى يتسنى لها إحراجي . . لكنني سأريها ! تهادى لها ضحكة فارس : - هل تصرخ عليك هكذا دائماً . . و تابع ضحكه بضحكة أعلى . . أشارت رهام بيديها لتترجم ما تقوله بعصبية لـ هبة . : - أرأيت أنها تريده أن يضحك علي . . سأريها من سيضحك في النهاية . . ثم أشارت لها بيديها أن تنادي سعد الذي لم تحادثه منذ ذلك اليوم . . و في الساحة . . تابع ضحكه بينما كانت منيرة تحاول جاهدة إسكاته . . أمسكت بذراعه الطويلة . : - فارس أرجوك . . لن تتركني أعود سالمةً اليوم . ! ||| وضعتُ آخر كتاب لآخر محاضرة في حقيبتي بكسل . . كم هو متعب أن تسير بين ممرات الجامعة الطويلة التي تبدو لا منتهية . . خرجت من القاعة و التعب قد أخذ مني ما أخذ . . رفعت يدي اليمنى قليلاً بسبب ثقل الحقيبة الذي يجذبني إلى الأسفل . . تقدمت بسمة و هي تضحك علي . . رددت على ضحكتها قائلة . : - أهذه هي تحيتكِ ؟ - و أنتِ أهذه تحيتكِ ؟ و غرقت في الضحك . . غضبت فلا يوجد شيء مضحك . ! - ما المضحك . ؟ - يدك و تحيتها المتعبة . . - و ما بها . . أهذا جزاء من أراد تحيتك ؟ ابتسمت و قالت . : - لا . . ابتسمت لها بابتسامة مشرقة . . - جيد . . - نعم هذه هي الابتسامة التي أريدها . . ضحكت بسخرية في سري . . فكيف تستطيع بسمة الابتسام وهي تعيش معيشة ضنكا . . تعيش مع أخيها الحاضر الغائب . . الذي يقضي معظم وقته مع صديقه المرفه و لم يتحمل مسؤولية في حياته و أجراها على وجهها الصحيح . . ودعتُ بسمة عند محطة الحافلات و كل منا تمتطي حافلة آخر . . تخطت الحافلة الشوارع و الأشجار . . و كل ما تخطيته سيراً على الأقدام هذا الصباح . . دقائق و وصلت إلى المنزل بينما أقطع هذا الطريق في نصف ساعة سيراً على أقدامي . . نزلت من الحافلة و أخرجت مفتاحي و فتحت الباب . . دخلت ثم أرخيت حجابي . . الجو حار جداً . . خلعت نعليّ عند مدخل البيت و ارتديت بدلاً منهما نعليّ المنزل . . تخطيت المدخل مسرعة إلى غرفتي في الطابق العلوي . . لمحت امرأة حامل تجلس بجانب أمي و لم أعرها اهتماماً . . تذكرت لولهة أنها تشبه أختي آمال . . توقفت في منتصف الدرج ثم ألتفت إليها . . لم أدري بنفسي إلا ساقطة عند أسفل درجات الدرج . . رأسي على الأرض و قدماي متمددتان على بداية الدرج . . بينما يداي معقوفتان بجانب راسي . . كان الألم يحيط بكل جزء من أجزاء جسمي . . حينها تذكرت أنني كنت مسرعة في النزول و أن قدمي زلت فتدحرجت من الدرج . . استدرت برأسي المتصدع إلى الدرج و رغم أن كل شيء بدا ضبابياً لكني مازلت استطيع لمح كتبي المتناثرة هنا و هناك . . أحسست بشيء ينبض في يدي فأدركت انه الوريد أو ذلك الشريان .. و أن ذلك يعني أن قلبي يخفق بقوة ، صوت تنفسي يعلو و تزداد صعوبة التنفس ثانية بعد ثانية . . - هديل ما بكِ ؟ سألتني أمي و الخوف ينهشها . . أمسكت آمال برأسي وهي تضربني على وجهي بخفة تحاول إفاقتي . . و هي تقول . : - استيقظي . . أرجوك . . رويداً رويدا بدت الرؤية تضمحل و الأصوات تبعد شيئاً فشيئا . . . . كنت في الحافلة أشاهد الناس يسيرون بجانبنا و الأشجار تودعنا مبتعدة . . أيقنت أنني نائمة و أحلم . . فتحت عيني لأستيقظ . . تفاجئت بمن حولي و عيني تجول حولهم . . ممرضات . . طبيب . . أمي . . و آمال .! كان دهشة تملأني فقد كنت أحلم قبل قليل و نائمة في بيتي ما الذي جلبني إلى هنا . ! قال الطبيب . : - لا تخشي شيئا . . لقد حصل لك حادث . . و سقطت من الـ . . تخليت عن سماع حديث الطبيب و مضيت استرجع ما حصل . . عدت إلى البيت ثم دخلت ثم شاهدت آمال ثم سقطت من الدرج . . - لا بأس عليكِ بإذن الله . . وجهت بصري الشارد إلى المتحدث و كانت آمال . . خرج الطبيب و جعل الممرضة تقيس ضغطي . . - أريد أن أعود إلى المنزل . . جلست بغتة لأرى أن الجبيرة قد أحاطت قدمي اليمنى . . ارتددت إلى السرير بعجز . . - متى سأخرج ؟ أجابتني آمال . : - إذا انتهت الفحوصات . . قالت أمي و ابتسامة واسعة مرتسمة على شفتيها . : - لقد أرعبتني . . الحمدلله على سلامتك . . قلت متممة . : - الحمدلله . . . . احضروا لي الكرسي المتحرك ليقلني إلى السيارة . . رفضت الجلوس عليه عدة مرات وتحت إصرار الطبيب جلست فيه . . بينما العكازين مع أمي . . و الممرضة تدفع الكرسي إلى بوابة الخروج . . كانت تلك هي أول مرة أسير فيها بين الممرات و أنا جالسة . . المرة الأولى التي أحتاج فيها لرفع رأسي لأرى من يمر بجانبي . . أن أقاد لا أقود . . يمكن بدفعة من احدهم أن اسقط أرضاً . . أحسست لحظتها بأنني شعرت و لو قليلاً بما يحسه من ارتبط بهذا الكرسي لمدة يوم واحد فقط . . ركبت السيارة بمساعدة أمي . . جلست أمي في المنتصف بيني و بين آمال . . سار بنا السائق ذاهب إلى المنزل . . سألت أمي و عيني ترقب العالم الخارجي . : - ماذا حصل مع أبي . ؟ سكتت أمي . . و كان سكوتها مؤكداً لشكوكي . . أحبت آمال أن تلطف الجو . . - ألم تعلمي يا هديل . ؟ - ماذا ؟ - سأبيت عندكم إلى وقت ولادتي . . - أجند أيضاً . ؟ سكتت آمال هي الأخرى و حل الصمت . . أرحت رأسي إلى إطار النافذة . . لماذا تأتي المصائب أزواجاً أزواجا . ! ||| قالت لي وهي تحرك يديها و أصابعها بطريقتها الغريبة . . و عينيها الجاحظتان تحدق فيّ بشكل إجرامي . : - أهكذا تفعلين بي . ؟ - اهدئي دعيني أخبركِ بالقصة . . هدئت قليلاً و قليلاً فقط . . جلستُ على الكرسي . . فجلستْ على الكرسي المقابل لي . . ضمت ذراعيها إلى بعضهما و وضعت ساقاً تهتز فوق ساق وهي تنتظر مبرراً لي . . لاحظت أنها أشارت بلغة الإشارة لأحد ما خلفي . . ألتفت إلى هبة ثم ابتسمت لها بصعوبة . . ذهبت هبة . . - أخبريني هيا . ! صرخت بغضب . . ألتفت إليها و أنا اشتمها في سري . . كم تخيفني إذا تحولت إلى هذه الحالة . . - حسنا , لقد تشاجرت مع نورة بالأمس شجاراً عنيفاً . . عنيفاً جداً . . منعتني من استخدام جهازها في الدخول إلى الانترنت و لكي احرق قلبها . . أتيت اليوم لأستخدم جهازك . . ابتسمتُ بحذر . . قالت رهام .: - ثم . . - ثم طلبت من فارس أن يحضرني إلى هنا . . رفض و رفض إلى أن أغريته بدفع فاتورة المطعم . . - إذن هذا سبب تهذبك اليوم تريدين أن تستخدمي حاسوبي . . هاه ؟ أومأت برأسي بـ نعم . . و ابتسامة رائعة ترتسم على شفتي . . ابتسمت هي الأخرى و قالت . : - يبدو أن الأمس كان اليوم العالمي للشجار الأخوي . . - أتشاجرت مع سعد مرة أخرى . ! أومأت بـ نعم . . تقدمت هبة منا و بين يديها الشاي و الفطائر . . وضعتها مع ابتسامة لطيفة . . جلست في كرسي . .سكبت الشاي في الأكواب . . ثم أعارت انتباهها إلى رهام التي كانت تخبرها بما حصل . . رغم أنني أصغر من رهام بخمسة أعوام . . إلا أنني أعتبرها صديقتي و أحضر إلى بيت خالي لأجلها . . و لأجل الاستفادة منها بالطبع . . تكره رهام أخي فارس لأنها عندما كانت صغيره تكلمت أمي إلى خالتي و قالت أنها تريد أن تزوجهما إذا كبرا . . كانت في ذلك الوقت لا ينفك شجارهما أبداً . . و خاصة أن رهام من محبي الشجار و لا تترك حقها أبداً أبداً . . كما أن الندبة الذي بجانب شفتها العليا لن تنساها لـ فارس أبداً . . و أنه هو من تسبب فيها بضربها بسيخ معدني . . كانوا أطفالاً لكن حقدها عليه ما زال موجود . ! \|/ ||| - o.k .. o.k … if you want any thing else from me just call me . . ( - حسنا . . حسنا . . إذا كنت تريد أي شيء آخر اتصل بي . . ) دخلت ثم أغلقت الباب بقوة . . لتثير انتباهه . . أشار لها بالجلوس في الكرسي الذي يقابله . . ترك كرسي ثم سار بعيداً عنها أدار لها ظهره ثم تقدم إلى النافذة و تابع حديثه إلى من يحادثه . . وضعت حقيبتها فوق مكتبه بضجر ثم رمت بنفسها على كرسيه بحنق . . دفعت الجدار برجليها و أدارت الكرسي . . ابتسمت بـ عبث وهي تحس بنشوة الانتصار . . بعد أن رأت بقعة حذائها على الجدار الناصع . . أغلق الهاتف . . التفت إليها وهو يضع يده في جيب بنطاله . . - ماذا تريدين . ؟ قالت وهي تدير الكرسي بسرعة أقوى . . - No thing . . تقدم إليها و امسك الكرسي على حين غفلة منها . . كادت أن تقع أرضاً بسبب التوقف المفاجأ . . أدار الكرسي لتكون مواجهةً له و قال بصوت جامد يهددها . : - إن لم تكفي عن عبثك سأبعثكِ إلى المدرسة الداخلية . . حدقت في بؤبؤيه بعينين ضيقتان محترقتان و لم تنبس ببنت شفة . . - ألم تسمعيني . ؟ لم يكن يرى أي رد فعل . . عدا تلك النظرات الحاقدة و المشتعلة . . فكر في أنه أخطأ في تدليلها أكثر مما يجب . . فجأةً . . قامت ثم دفعت الكرسي بعيداً بغضب جامح . . قبضت على حقيبتها قالت و هي تمنع دمعتها من الهبوط . : - أفعل ما شئت . . خرجت ساخطة من الحجرة و أغلقت الباب مصدرة ضوضاء في ذلك السكون . . ابتسم لطيف هذه المراهقة الصغيرة . . كم يكره ردودها المنفعلة . . و كم تذكر بنفسه عندما كان صغيراً . . لكن ستعلمها الأيام الهدوء و ضبط النفس . . بعد أن أغلقت الباب . . أدخلت يديها في حوامل الحقيبة بسرعة . . سمعت صوته البارد يقول للسكرتيرة . . - send me someone to clean this . . ) أرسلي لي أحداً لينظف هذا . . ) نزلت من الدرج بعصبية و هي لا ترى أي شيء أمامها . . ضغطت على الأرقام حتى دفنتها بأصابعها . .صرت على أسنانها و هي تقول و بلا ندم . . - Hello . . when you can bring me the Bogus Passport ? ( مرحباً . .متى يمكنك أن تجلب لي جواز السفر لمزيف . ؟ ) |
_3_ ( أفسددت الثمرة ) خرجت من الطائرة و نشوة الانتصار تحتويني و ابتسامة رقيقة ترتسم على شفتيها . . شددت يديّ على طوقيّ حقيبتي الملاصقة لظهري . . نزلت إلى المطار . . سرت و أنا أحاول تخيل تفاجئ أبي برسالتي و إتباعه للمعلومات الخاطئة التي بداخلها . . أني في تلك البلاد الغبية . . بينما أنا في وطني الآن . . حررت يداي و حركتهما في الهواء بكسل . . أخيراً سأعانق الحرية . . و أرى أخوتي . . اتجهت إلى موقع وجود حقيبتي و أنا أتمطى . . ما أن أتت تلك الحقيبة الصغيرة حتى أخذتها بحركة سريعة بهلوانية . . أعتقد أنها رائعة . ! ابتسمت لتنفسي هذه المغامرة الشيقة . . فلا يمكن لأي احد كان أن يسافر بجواز يجعله اكبر من عمره بثلاث أعوام . . في السن القانونية تماماً لتسافر وحيداً و تعيش حراً . . أخرجت ما بصدري من الهواء . . و استمتعت باستنشاق هذا الهواء العليل . . كم هذا مريح . . تقدمت إلى المقهى و أنا أجر حقيبتي الكبيرة معي بينما هناك أخرى تستريح على ظهري . . جلست على الكرسي و أمسكت بـ قائمة المشروبات . . ألقيت نظره إلى القمر المنير من خلف زجاج المطار الكبير . . كم الساعة الآن . . الواحدة و النصف . . و المطار مكتظ بالمسافرين و القادمين . ! طلبت شوكولا ساخنة . . أزحت حقيبتي عن ظهري ثم فتحتها لأخرج حافظة نقودي . . بحثت عنها . . و لم أجدها ! . ما هذا . ! أنا متأكدة أنني حشرتها في حقيبتي في ذلك المطار الأخرق . ! بحثت عنها عدة مرات . . لكنها غير موجودة . ! آه لا بأس . . لدي البطاقات المصرفية . . اوه . . لا ! أنها مستدفئة في تلك المحفظة . . لقد سرقت . ! غادرت المقهى بسرعة و أنا أفكر في حل لهذه المعضلة . . بدا حس المغامرة يختفي و استوطن بدلاً منه الخوف . . عصرت عقلي لأجد حلاً لكن ما من مجيب . ! ||| دقت أناملها على ذلك الشيء الصلب . . استرخت على السرير أكثر و هي تغرق في التفكير . . ربما من الأفضل لها أن لا تفكر بتلك السوداوية . . ربما من الأفضل لو فكرت في شيء يسعدها و يسعد من حولها . . بدلاً من جعلهم يعيشون الحزن مرتين . . انتبهت إلى صوت صرير الباب المفتوح . . وهو يفتح ببطء و كأنه شيء يصعب دفعه . . خرج من خلفه الطفل حكيم وهو يبتسم بلطف . . مدت يديها إليه . . تشير إليه لكي يأتي . . تقدم إليها على استحياء . . بينما توجأهه بابتسامتها التي أشرقت برؤيته . . رغم كسر قدمها . . رغم هرب أبيها خارج البلاد . . رغم ما تواجهه من مشاكل . . رغم تلك الأزمة . . قررت أن تستنشق الأمل مع نسمة كل صباح . . و أن تواجهه مشاكلها و تحلها مهما كانت صعب . . من السهل أن نحلم . . لكن الأصعب أن نحقق هذا الحلم . . ||| تقدمت آمال إليّ . . و رغم أنها رأتني على هذه الحالة . . ابتسمت لي . . ثم أتت و جلست بجانبي . . كان ذلك غريباً . . فكل من بالمنزل يقاطعني بسبب تلك الـ . . - ماذا تفعلين . ؟ أوقفتْ سيل أفكاري ، غادر بصري إلى السماء المزدانة بضوء القمر . . اضطرب حالي . . فلم يسألني أحد بهذه اللطافة عما أفعل . . أحسست بأني فقدت شيئاً كان بين أصبعي . . بحثت في الأرض عنها . . علها تخفف مما بي . . و لم أرها . ! أتفت إلى آمال . . فوجدتها بين يديها تكاد تضعها في فمها . . و بدون أن أشعر سحبتها منها و رميته تحت قدمي ثم رصعتها بها . . نظرت إليّ متفاجأة . . بينما حاولت تفادي نظرتها بالنظر إلى السماء الواسعة . . لن أسمح لها أن تسمم نفسها بها . . - لماذا فعلتي ذلك . ؟! سألتني . . و لم أدري كيف سأبرر فعليّ . . حدقت في السماء ألف مرة و رسمت خطوطاً وهمية بين النجوم عليّ أجد شيئاً يبرر فعليّ ؛ أو تنسى ما فعلته بالسيجارة . . وضعت يدها على كتفي و يدها الأخرى على بطنها . . شعرت بابتسامتها الرقيقة بجانبي . . - ما دمتي تعلمين أن هذا خطأ و مضر بصحتي لماذا ترضين لصحتك أن تعاني منه . ؟ لم أجبها . . حاولت الابتعاد عما تقوله . . و صم إذنيّ عن حديثها باستماعي و تركيزي على أي شيء آخر . . لم أحرك ساكناً . . توالت و تساقطت الذكريات من صندوق الذاكرة . . ما زلت أذكر أول يوم استنشقت فيه سيجارة و كم تقززت من رائحتها و طعمها . . حتى أفرغت معدتي بما فيها . . ما زلت أسمع ضحكاتهن عليّ و هن يردن السماع عن مغامرتي و أي إثارة وجدتها فيها . . أقنعوني باستنشاقها مرة واحدة لأعانق ذلك الإحساس الذي يراود شاربها . . شعور من يمسكها بين يديه و يضعها بين شفاهه . . هذا من باب الفضول لا غير . . ثم بعد ذلك بدأن يفصحن عن تجاربهن معها . . إحداهن تعرفت إليها عبر صديقها . . و إحداهن اختطفتها من علبة أخيها النائم و استنشقتها في حجرتها المقفلة . . أم الأخرى بقيت صامته و لم تحدثنا كيف تعرفت إليها و تقول الشائعات أن صديق أمها أعطاها إياها وخجلت رفض طلبه . . أعفان ولدت أعفانا . . و كنت أنا تلك الثمرة التي سمحت لنفسها بالتعفن هناك . . لم يكن هناك ما يبرر لي فعل هذا . . لكنني وجدت المبرر الآن . . عندما انتحر والدي وجدت لي مبرراً ؛ و عندما أدمنتها أيقنت بأن عذري كان واه جداً حد التلاشي من ذرة نسيم . . كم هذا مضحك . . فرغم أنني أعلم بأنها خطأ يوازي خطأ . . إلا أنني ما زلت مستمرةً فيه . ! توقفت فجأة . . و خرجت من تلك الأعماق السحيقة من نفسي . . لأجد شفاهي تنطق بما كنت أفكر به و تتحدث عن تلك الذكريات المخجلة لآمال . . مددت يدي لأمنع شفاهي عن سبر أغواري أكثر . . سقط بصري إلى الأرض خجلاً منها و خجلاً من كل شيء كشفته إليها . . شعرت بلمستها الحانية على شعري . . - لا بأس . . كلنا نخطأ ؛ لكن الخطأ الأكبر أن نستمر على ذلك و نصر عليه . . و أن كن صديقاتك هكذا فمن الجيد أنكِ هجرتيهن . . شعرت بنفسي تصغر أكثر و أكثر . ثم قلت نادمة و المياه تغزو عيني . : - لكني لا أنفك عن الاتصال بهن . . - يكفي أنكِ تدركين أنهم على خطأ . . سقطت دمعة من مقلتي أندت التراب . . - لكنني ما زلت على ذلك الخطأ . ! - و ها أنتِ تسعين لتصحيحه . . رفعت ذقني حتى أصبحت بمستواها و أدارتني إليها . : ثم قالت . : - أليس هاتان العينان تعبران عن ندمهما . . و ترغبان في تصحيح أخطائهما . ؟ أليس كذلك . ؟ ! رمت ببصرها إلى السماء و قالت . : - كان من المستحيل أن يصل المرء إلى السماء . . لكنه الآن وصل إلى الفضاء . . فليس هناك شيء مستحيل إن كانت هنالك العزيمة و الإصرار . . ثم ابتسمت بحب . . ||| طرقاتُ أناملها على لوحة المفاتيح أقلقتْ مضجعها . . قالت و يدها تكبس على الوسادة المتوارية خلفها إذنيها . . - منيرة . . وافقت على مبيتكِ عندي لتستمتعي . . لا أن تحرمي عينيّ من النوم . . لم تلتفت إليها . . يبدو أن السماعات قد أصابتها بالصمم . . أرتدت بعجز على سريرها . . أحست بحركة خلفها ، استدارت ثم أشعلت نور بسيط تسلل بين المساحة التي بين سريرها و سرير هبة . . رأت إشارات هبة تسألها عما بها . ؟ أشارت لها من بين ضحكات منيرة . . بأنها لا تستطيع النوم بسبب إزعاج منيرة . . و أن السماعات تمنع منيرة من سماعها . . دق الباب بقوة . . قامت عن سريرها بضجر . . ما الذي سيأتي به في آخر الليل . ! تتبعت هبة ببصرها خطوات رهام و استعجبت من توجهها للباب . . توقفت منيرة عندما رأت رهام ذاهبة ، أبعدت السماعات عن أذنيها لتفاجأ بصوت طرق قوي . . خرجت رهام . . انكمشت منيرة على نفسها ، عندما سمعت صراخه عليها . . و ردودها المستفزة عليه . . ما الذي جعلها تبيت هنا . . كم يشعر هذا بالرهبة و الخوف . . لكنها لكما تذكرت أن هذه هي آخر ليلة له هنا أطمئنت . . تمنت لو كان على فساده لارتاحوا منه . ! سارت هبة إلى منيرة و أشارت إليها عما يحصل ، اكتفت منيرة بالإشارة بأنها لا تدري . . دخلت بهدوء و كأن شيئا لم يكن . . سألتها منيرة . : - ماذا حصل . ؟ تكلمت وهي تشير إلى هبة بإشارات مغايرة لموضوع حديثها حتى لا تعرف هبة ما تقوله . : - لقد وبخني . . قائلاً بأننا نصدر أصوات مزعجة . . كانت تتكلم وهي تبتسم في وجه هبة . . و كأنها تخبرها بشيء يسر . ! ابتسمت هبة . . ثم أشارت إليها بإشارات . . استنتجت منيرة بمعرفتها المحدودة جداً بلغة الإشارة أن هبة تدعو لأحد ما . ! و كم تملكها العجب حينذاك . ! عادتا إلى فراشهما حينما أعادت منيرة انتباهها إلى من تحادثهم . . أعطت رهام ظهرها لهبة مواجهةً الكرسي الجالسة عليه منيرة . . - لا تلتفتي أبداً . . مهما قلت . . لا أريد أن تعلم هبة بأننا نتحدث . . - حسناً . ! - حسناً . ! لقد وبخني سعد لضحكك الذي يتسم بالصوت العالي . . أرجو أن تنتبهي إلى هذه النقطة . ! - مفهوم . . - ثم . . منذ متى سمحت لكِ بدخول الدردشة من حاسوبي ؟ ألتفت إليها منيرة بسرعة بوجه مصدوم و كأن قنبلةً انفجرت في وجهه . . - كيف علمتِ ذلك . ؟ جلست رهام ثم ألقت بصرها على هبة فوجدتها نائمة . . ارتاح قلبها ، فيكفي ما سببته لهبة من مشاكل بالأمس و إثارتها لتلك الذكريات المشئومة . . - هل رأيتني و أنا أتحدث . ؟ ألتفتت رهام إليها ثم قالت . : - هذا لا يهم . ! أطفئت الإضاءة البسيطة ثم قامت من سريرها . . بينما تداركت منيرة نفسها و استدارت إلى الحاسوب بسرعة لتغلق تلك الصفحات الكثيرة . . انعكس نور الشاشة على وجه رهام . . - لا ألوم نورة إذا منعتكِ من فعل هذا الهراء على حاسوبها . ! نظرت منيرة إلى وجه رهام بعيني مذنب ثم قالت . : - أنا لم أفعل شيئاً . ! كنت أدردش فقط . ! - و لو كان هذا غير خاطئ لفعلتي ذلك أمامي أليس كذلك . ؟ - نعم هذا صحيح . . - إذن أدخلي إلى تلك الدردشة ، التي مازلت أذكر اسمها و اسمك . . صمتت لبرهة ثم أضافت وهي تشدد على حروفها . : - المخزي . ! جمدت يد منيرة على الفأرة . . لم تحرك ساكناً . . ربتت رهام على كتفي منيرة بخفة متناهية بعد أن تذكرت ذلك الشيء . . ثم قالت بسرعة بصوت مرعوب . : - ابتعدي عن الحاسوب . . لا داعي لفتح تلك الدردشة . . مال رأس منيرة إلى الطاولة بخزي . . طرقت رهام على الطاولة بقوة . . و قالت بغضب . : - هذا ليس وقت الشعور بالخزي . . انهضي قبل أن تحصل مصيبة . ! قامت منيرة ببطء . . و لم تستطع رهام صبراً فدفعتها أرضاً . . جلست على الكرسي بسرعة . . قالت بغضب لمنيرة وهي تضرب بأناملها على المفاتيح بقوة . . - ألا تعلمين في أي مصيبةً وضعتني . ! هذا ما كان ينقصني أن يجد سعد علي شيئاً . . نهضت منيرة من الأرض بجزع و كأن شيء قرصها . . قالت بدهشة . : - سعد . ! هزت رهام رأسها . . و هي تقول . : - أرجو أن تدركي خطأك على الأقل . . و أنه قد يؤدي إلى شنقي . . و بسببك . . - لم . ! تابعت ضرب المفاتيح حتى كادت تقلعها من مكانها . . قالت بسرعة و هي تحاول السيطرة على أعصابها . : - لأني اكتشفت منذ يومين أن سعد زرع برنامج تجسس في جهازي يصله بحاسوبه مباشرةً . . و هو ليس بالبرنامج العادي الذي تكتشفه برامج الحماية من الفيروسات . . رأيته بالصدفة و أنا ابحث عن صورة ما . . وجدت مجلد فارغ باسم ذلك البرنامج . . قالت منيرة بخوف متوجس . : - و ماذا يفعل ذلك البرنامج . ؟ أخرجت رهام ما بصدرها من الهواء . . - ما لا يمكنك تخيله . . يقوم بنسخه صورة لشاشة الحاسوب كل ثانية و يسجل كل نقره يقوم بها المستخدم على لوحة المفاتيح . . برزت عينا منيرة وهي تشهق . : - أتعنين أنه علم بكل ما كتبت . ؟ هزت رهام رأسها و هي ترخي أصابعها على لوحة المفاتيح . . - لا أعلم . . فهو يرسل المعلومات عن طريق البريد . . و يتم تغيير الإعدادات من نفس الجهاز . . ذهبت بالفأرة إلى أبدأ ثم ضغطت على إيقاف تشغيل الحاسوب . . و بدأ الحاسوب بإغلاق نفسه . . ألتفت رهام إلى منيرة بالكرسي و قالت بجمود و صوت صارم . : - حري بكِ أن تخافي من الله . . قبل أن تخافي من سعد . ! توجهت رهام إلى سريرها ثم استلقت عليه . . و قالت . : - لن أحاسبكِ على أخطائك . . ربك هو من سيحاسبكِ عليها يوم القيامة . . ثم غطت نفسها بفراشها . . تحررت منيرة من جمودها بعد خمس دقائق من الصدمة التي صلبتها . . اتجهت إلى فراشها . . و سمعت رهام تقول من تحت فراشها . : - فكري لو كنت أنا في مكانك . . و فعلتُ ما فعلتي . . ماذا سيكون موقفك مني . ! أزالت رهام الغطاء عن وجهها ثم جلست بعد أن تذكرت شيئاً . . قالت لمنيرة المتكورة على نفسها . : - كنتِ تقولين سابقاً عندما ابتدأتِ هذا المشوار الخائب . . أنكِ لست من النوع الذي نظنه و أنكِ لن تقعي فيما وقع فيه غيرك . . و ها أنتِ تسقطين فيما لم يخطر ببالك أن تصلي إليه . . أتمنى أن لا تكوني قد ارتكبتِ ما هو أعمق من هذا . ! ارتدت رهام إلى سريرها تحاول النوم ، و التفكير في طريقة تساعدها في حل هذه المشكلة . . هل تخبر خالتها بخيبة ابنتها . ؟ هل تعلم نورة عم فعلت أختها . ؟ أم نورة تعلم بذلك و تقوم بفعل ذلك أيضاً .؟ ! ||| اتجهنا معاً إلى كوخه الجديد . . كوخه الخاص الذي اشتراه بمال والده . . ظهر لنا ذلك المنزل الصغير من خلف الأشجار . . كان تركي متحمس جداً ليريني إياه . . ابتسمت له بذات الحماس ، تقدمت إليه حتى أصبحت بجانبه . . وهو يلتفت كل حين إلي و يقول بهدوء يحاول به إخفاء شوقه لرؤية ذلك لكوخ . : - أرأيته ؟ . ! تابع حديثه و بصره متعلق به و بما حوله . . - أليس جميلاً رغم بساطته . ! ، البحر الهائج . . و الأشجار المنتشرة بالأرجاء تضفي جواً من الألفة، رغم بعده عن المدينة و إزعاج الناس المتطفلين . . اقتربنا منه أكثر حتى وصلنا إلى عتبة بابه . . بحث تركي عن المفتاح تحت احد الأحجار . . و أخرجه من تحتها . . ثم قال وهو يبتسم بفرح . : - هنا كان يخبئ المالك السابق مفتاحه . . سألته بينما نحن ندلف إلى داخل الكوخ . : - متى اشتريته . ! ؟ - بالأمس . . ذهلتُ من رده . . فقد كان معي بالأمس . ! - لكن كيف اشتريته . . و قد كنت مع طوال اليوم . ! أشار إلى السقف وهو يضحك . .: - ما بك .؟ . . انه عصر الانترنت و الأقمار الصناعية . . اخذ يجول في المنزل . . يتلمس جدرانه و يفحص حالته و كأنه يراه لأول مرة . ! انتبه تركي أني واقفاً أتابع ما يفعله بدهشة . . فقال وهو يبرر لي منظر المنزل العادي . : - لم أكن أريده لتفاخر أو لاستجمام . . أردته ليكون مكاناً لمبيتي . . لقربه من الغابة و مقابلته للبحر . . أمسك بإحدى الوسادات الصغيرة ثم جلس على الأريكة المنفردة و قال بترقب فرح . .: - ما رأيك فيه . ؟ تلمست ملمس الجدار . . ثم ذهبت لألقي نظرة من خلف الشرفة . . كان المنظر ساحراً . . وقفت هناك ثم قلت . .: - أنه رائع . ! وقف تركي بسرعة ثم قال . : - جيد . . ما رأيك أن نرى ما يحتوي من حجرات . ؟ اندهشت و للمرة الثانية . ! - ألم يرك صاحب المنزل الصور . ؟ صعد إلى الأعلى مع الدرج وهو يقول . : - كلا . . لقد اكتفى بوصف المكان . . لم يستطع تصويره لأنه خارج البلاد . . حسناً . . صحيح أنني قد أكون أبلهاً في بعض الأحيان . . لكن ليس هكذا . . أأشتري منزلاً لم أره . ! و من مالك مسافر . ! غير موجود . !! لكنه لا يهتم لشيء مادام المال يتساقط تحت قدميه . . فكرت للحظة . . حتى أنا يتساقط المال تحت قدميّ . . أوه لماذا أشغل نفسي بالتفكير و كأنني أحد الحكماء . ! - ألن تأتي . ! ؟ صعدت على الدرج و أنا أقول . : - أنا قادم . . ظهرت لي في البداية سطح الطابق الثاني و كانت مرصوفة إحدى أنواع السيراميك أو الأحجار . . في الحقيقة . . لم أعرف ما هي . ! ثم بدا بعد ذلك صالة صغيرة تحتوي على تلفاز و آرائك متراصة بلا أي تناسق جميل . . ما أن تصعد إلى الطابق العلوي . . حتى يتفرع الطريق بك إلى قسمين يتوسطهما الصالة . . عن يميني ممر يقف فيه تركي ، فتح باب إحدى الغرفتين ثم دخل بها . . تابعت خطواته ثم دلفت إلى الحجرة . . كان الحجرة من أول نظرة تخبرك بأنها حجرة فتاة ، لامتلائها بالفراشات الساقطة المتشبثة بالسقف بخيط دقيق . . تبدو الفراشات و كأنها تطير في الهواء ، فوق رأسك . . وهي تبدو يدوية الصنع . . حلقت أصابعي حول إحدى الفراشات الطائرة ، ثم لممت أصابعي و ضغطت عليها . . فتحتها لأرى الفراشة قد غدت كالعجوز بتجاعيدها . . ابتسمت و أنا أوجه بصري إلى تركي . . قال وهو يمسك إطار صورة بين يديه و يتأمل في صورة ما . : - كان مستعجلاً جداً . . لدرجة أنه نسي أن يأخذ صورة ابنته . ! سكت برهة ثم ألقى تركي نظرة أخرى . و قال . : - تبدو في بداية العشرينات . ! ابتسمتُ و أنا متحمس لأراها . . قلت و أنا اتجه إليه . : - حقاً . ! هبّ تركي واقفاً وهو يرفع الإطار . . خرج مسرعاً من الحجرة و صوته يتردد في أرجاء المنزل . . - حاول أن تمسك بي . ! و انطلقت خلفه . . ||| وضعت يدي تحت الماء البارد . . ثم غسلت وجهي به . . عليّ أصحو من هذا الكابوس . ! لكنه لم يكن حلماً . . كان هذا من صنع يديّ . . فأنا من خطط للهرب و أنا من يجب أن يجد طريقه بنفسه . . أغلقت صنبور الماء . . مسحت يديّ بالمنديل ثم رميته على الأرض مبللاً مشتت في قطع صغيره . . لم تستطع أناملي مقاومة تمزيقه أرباً أربا . . أمسكت حقيبتي ابحث فيها عن هاتفي النقال . . بحثت عنه في كل مكان . . بدآ حاجبي متحدان ببعضهما . . لا يمكن أن أكون قد نسيته أيضاً . . شعرت بيدي تلمس شيء صلب . . أوه الحمد لله . . ها هو . ! وجدته . . قبضت عليه بيدي و أنا اقفز و أردد بفرح . . - yes . .yes .. yessssssss خرجت من حمام النساء . . و مشاعر الفرح قد حجبت خوفي . . أمسكت بهاتفي . . دققت رقم هاتف بسمة . . لم تضيء الشاشة . . ضغطته مرة أخرى . . و لم تضيء أيضاً . ! أوه لا . . أنا متأكدة أنني قد شحنت البطارية . ! فتحت الهاتف من الخلف . . و لم أجد البطارية . ! هذا اليوم ليس بيوم حظي أبداً . ! اتجهت إلى السيدة الكبيرة و الوحيدة الجالسة في قاعة الانتظار . . - عفواً هل يمكنني استخدام هاتفك . ؟ سألتها . . و لم تجبني . ! كررت سؤالي . . - هل يمكنني استخدام هاتفك . ؟ قالت بعينيها النزقتان . : - لا !! - أرجوك . . أنا في مشكلة . ! - حليها بعيداً عني . . و أتصلي على صديقكِ ليأتي إليكِ . . أكملت بقلب حقود و هي تهذي بنزق . : - هذا ما تقمن بفعله هذه الأيام . . تصادقن الشباب . . و عندما يأخذونكم لحماً و يرمونك عظماً تبكون و تصيحون . . و كأنكم لم تخطأوا . . و من الغد تصبحن إحدى بنات الهوى . ! تركت تلك العجوز تكمل هذيانها لوحدها . . تلفت حولي بجزع . . فلم يتبق أحد في هذا المطار إلا القليل من الناس . . شعرت بالوحدة و الخوف . . اتجهت إلى أحد الهواتف المعدنية . . بحثت بين جيوبي علي أجد أي عملة تنفعني لأتصل على بسمة أو عبد الله . . خرجت يداي من جيبي خاوية الوفاض . . خاب أملي أكثر و أكثر و ازداد عمق خوفي و وحدتي . . تقدم إليّ شخص ما مريب و مخيف . . ثم قال بصوته المريع و ابتسامته المقززة . : - إلى أين تريدين الذهاب يا آنسة . ؟ تراجعت إلى الخلف أخبره انه ليس معي نقود عله يبتعد عني. : - شكراً . . لكن ليس معي نقود . . ابتسمت بحذر ثم التفت لأحاول الهرب . . أحسست بيد قوية تمسك بذراعي و صوت يقول . : - لا تهمني النقود . . أن من سيدفع لكِ النقود أن أردتي . . ثم ابتسم ابتسامته البشعة مرةً أخرى . . |
_ 4 _ ( كابوس ) صوت أزيز المنشار زاد من عدم ارتياحي و قلقي . . أخذت أتأمل في الجبيرة و هي تجزر من وسطها ، و كأن ساقي تجزر بدلاً عنها . . ظللت أحملق في المنشار خوفاً من أن يجز لحمي . . توقف صوت المنشار عن الأزيز . . ارتحتُ قليلاً . . ثم عادت دوامة الهلع تبتلعني . . حينما احضروا مقصاً كبيراً ليقصوا رجلي . . أقصد القطن المحيط لقدمي . . ابتسمت الممرضة و هي ترى قسمات وجهي الخائفة . . - يمكنك الآن تحريكها . . ما أن قالت الممرضة هذا . . حتى بدأت بتحسس قدمي بفرح . . فقد أصبحتْ حرة أخيراً بعد أن كانت تحمل على عتقها جبيرة صلبة ثقيلة . . حركتها بصعوبة طفيفة . . تحسست ساقي و أخذت أدلكها . . ابتسمت الممرضة بعمق و قالت . : - حاولي الوقوف عليها . . ارتفع حاجبي و ابتسمت شفاهي ببهجة . : - أحقاً يمكنني الوقوف عليها . ! ابتسمتْ بلطف . : - بالطبع . . تنحيت عن السرير بسلاسة ثم حاولت الوقوف و يديّ متشبثة بحواجز السرير . . حركت قدمي على الأمام و الخلف بسعادة . . شعرت و كأني ولدتُ من جديد . . فيمكنني الآن العودة للدراسة في الجامعة و التخلص من تلك الأريكة الكئيبة . . ألتفت إلى الممرضة لأشكرها . . فوجدتُ بصرها شارد يحدق في آمال المتعبة و المسترخية على إحدى الكراسي . . فقلت لأوضح . : - أصرت أختي على القدوم معي . . ابتسمت لها . . أدارت بصرها إلي لبرهة ثم عادت به إليها و قالت . : - تبدو في الشهور الأخيرة . . اتجهت إلى السرير و جلست عليه حتى ألبس حذائي الآخر القاطن في الكيس . . و قلت . : - أنها في الشهر التاسع . . أسبوعان و ستدخل المنطقة الحرجة . . ابتسمت باضطراب . . لا استطيع تخيل صعوبة الولادة . . أتت إليّ بغتة و قالت بجدية فاجأتني . : - يجب أن تتعلمي كيفية الولادة المنزلية . . - الولادة المنزلية . ! فكرت للحظات بأن أقوم بتوليد آمال . . هذا مستحيل . ! لن أتحمل رؤية الدماء . ! - يجب عليك ذلك . . الأوضاع تزداد خطورة و جدية . . بهتُ فجأة من جديتها في الموضوع . . ظننت أنها تمزح . ! - ماذا تعنين بأنها تزداد خطورة و جدية . ؟ ! أخذت تجمع القطن و بقايا الجبيرة و تلقي نظرة قلقة على آمال بين الحين و الآخر . . و هي تقول . : - لقد بدأ الوزراء و من لهم صلة بالملك بالتحصن في مواقعهم . . - ماذا تعنين . ! ؟ - كما أن الجيش بدأ بالمناوشة على حدود البلاد مع البلاد الآخر . . رمت ما بيديها في القمامة و قالت . : - لدي كتاب عن الأمومة و الطفل . . و الولادة و ما يتليها سأهديه لك . . ازداد رعبي . . هل الأمر بهذه الجدية و الخطورة . ! ||| لم أتجرأ على الصراخ و طلب العون من أي أحد حولي . . كنت أحاول فقط سحب يدي من قبضته بضعف واهٍ . . و صلنا إلى البوابة المنارة بالأضواء . . كانت الناس قليلون و لم تمتلكني الشجاعة الكافية لأستنجد بهم . . لمحت من بين غشاوة عيني المائية وجه مألوف معه شخص آخر . . بدأت الشجاعة تلبسُني . . صرختُ بقوة . . لم أعرف بأي شيء تلفظت . . شعرت بقبضته تحرر يدي بسرعة . . و رأيت طيفه الأسود يولي هارباً بينما يقترب مني شخصان ضحكاتهما المتبادلة العالية . . و حديثهم يصل إلى أذني . . رمشت بجفني حتى اتضحت الرؤية كان أخي عبد الله و شخص ما . . ابتسمت و أحسستُ ببعض الآمن . . انطلقت إليه بشوق عارم و احتضنته بقوة و أنا أقول . : - اشتقتُ لك . . شعرت بيدي وهو يبعدهما . . و يبعد رأسي و كأنه في قمة الإحراج . . ما باله أخي يحرج من أمر كهذا . ! رفعت رأسي لأرى أخي يقف بقربه و عيناه جاحظتان . . شحب وجهي للحظة . . ماذا فعلت . ! لقد أخطأت في العنوان . ! لم أشعر إلا بطعم الدم يسري في فمي . . قال عبد الله ضاحكاً و بشكل أبله . : - لا بأس كان حادثاً . . accident . . accident . . ثم أضاف بعد برهة وهو يخرج منديلاً . . - أن شفتك تنزف . . ابتعدت قليلاً عنهما . . بصمت و منديل أخي في يده . . كم هذا محرج . ! كيف سأقابلهما . ؟ ! سمعت عبدالله يقول لمن معه وهو يغير الموضوع . : - و كنت تقول أنها صورة فتاة، و هي صورة منظر طبيعي . ! يالك من مخادع . ! ضحك صديقه بخفة و كأن شيئاً لم يكن . . ألتفت إليهما و أنا اقنع نفسي بأن أتصرف بشكل طبيعي و أن أنسى ما حدث . . و لكي أحرج نفسي أكثر . . ركزت بصري على عبد الله ثم قلت فجأة . : - أنا جائعة . ! قال عبد الله لصاحبه وهو يحاوره . : - ما رأيك أن نتناول العشاء في مكان ما . ؟ بدا على وجه صديقه عدم الموافقة لكنه قال على مضض . : - لا بأس بذلك . . تذكرت للحظة أنهما لم يسألني عمن كان معي . ؟ ! و كيف لم ينتبه لي من البداية . ! هذا شيء يثير أعصابي حقاً . ! اتجهنا إلى السيارة . . ركبتُ بالخلف . . بينما أدار صديقه المقود و أخي يجلس بجانبه . . كان واضحاً من تلك الأدوات المبعثرة و الخرائط حولي ، أنهما كانا في رحلة . . أمسكت بإحدى الخرائط المتهرئة ، فتحتها . . كانت مثيرة للاشمئزاز . . بخطوطها و ألوانها الباهتة . . كم أكره الجغرافيا . ! سمعت صوت صاحبه ، يقول بحنق بسيط . : - لا تعبثي بها . . هلّا أعدتها إلى مكانها . ! أشرت برأسي بنعم . . و ملامح الاستخفاف تلعب بوجهي ، كيف له أن يخاف على شيء كهذا . !! طويتها ثم أعدتها إلى مكانها مع باقي الخرائط . . توقفنا عند مطعم ما ، خرج أخي و صديقه ليبتاعا الطعام و تركاني وحيدة في السيارة . ! فتحت الباب ثم ترجلت من السيارة . . مازال باب السيارة مفتوحاً و نفسي تراودني في الدخول إلى المطعم أو الجلوس في السيارة . . ابتسمت بشقاوة و لهو . . أظن أنه من الأفضل . . أن أظل في السيارة و أعبث بما بها ماداما ليسا موجودين . . ركبت السيارة و أغلقت الباب . . تقدمت برأسي إلى الأمام و أصبحت بين المقعدين الأماميين . . أخذت أعبث في الأدراج . . و لم أجد إلا خرائط لا تشبع فضولي . . وجدت حقيبة أخي . . أخذتها ثم فتحتها ,. . أمسكت بملف ما . . أووه كم هذا مقزز . . مازال يبحث في تلك الحشرات . . و لم يجد إلا الصراصير لتكون عنوان بحثه . . كم هذا مقرف . ! أدخلت يدي داخل الحقيبة تحسست صندوقاً زجاجياً و صندوق آخر مستطيل الشكل وأكبر حجماً من الصندوق الأول .. أخرجت الكبير كان ابيض اللون و في منتصفه زجاج يتيح للفضولي أمثالي معرفة ما به . . اندلع لساني دون أن اشعر ، وغدت قسمات وجهي كآكل الليمون الحامض . . أوه . . لا . . صراصير محنطة . . أبعدت عيناي عنهم بسرعة . . اشتدت قسمات وجهي للخلف . . سأفرغ ما بمعدتي . . ألم تجد يا أخي حشرات أفضل من هذه . ! ألقيت نظره عليهما . . فوجدتهما يدفعان الحساب . . رميت الحقيبة بعنف إلى المقعد الأمامي المجاور للسائق و عدت إلى مقعدي . . متظاهرةً بالهدوء . . بينما كنت أرقب حضورهما . . أحسست بشيء يقفز و يحاول الطيران قرب الزجاج الأمامي . . و لأن الضوء كان خافتاً . . خمنت بأنها فراشة صغيرة . . ابتسمت ابتسامة واسعة . . ما هذا أيعقل أن تكون فراشة . ! ؟ شعرت بها تقترب إليّ . . اتضح لي أنها صرصور بعدما هبط بين يديّ . . فتحت الباب بسرعة و أن أصرخ . . و جلد مقشعر من وقعته عليّ . . بينما هو يدور طائراً كالأعمى حولي ، يصطدم بباب السيارة و السيارة الأخرى . . هبط على الأرض . . عندها استجمعت ما عندي من شجعه و أغمضت عيني . . ثم دست عليه بكل قوتي . . بقيت قدمي واقفة عليه . . تقززت نفسي أكثر بعدما تذكرت أنني ظننته فراشة . . ياللقرف . ! اقترب مني عبد الله مسرعاً لاهثاً وهو مرعوب من ملامح وجهي المفزوعة . . سألني عبد الله بعد أن ألتقط نفسه . : - ما الذي حصل . ؟ كدت أبكي بعدما تذكرت تلك المفاجئة المشئومة . . اقترب صديقه بعد لحظات و بيده كيس العشاء . . و قال . : - ما الذي حصل يا جماعة . ؟ رفعت قدمي ببطء و أنا أقول بنفس مشمئزة . . - لقد ظهر هذا الصرصار الطائر في وجهي . . أغمضت عيني و أنا أدعك أسفل حذائي بالإسفلت عله يبعد بقايا الصرصار . . ضحك صديقه و قال . : - أليس هذا يشبه صوصو . ؟ ضحك أكثر وهو يقول . : - ألم أقل لك يا عبدو أن أمانيّ تتحقق . ! فهاهو اليوم مقتول و مثلما تمنيت بدهسه من احدهم . . قلت بحنق . .: - لست بأحدهم . . اسمي ريناااد . . فتحت الباب . . ثم ركبت السيارة ثم جلست بروية و أنا أعاين مكاني و أتأكد من صلاحيته للجلوس . . ركبا الاثنان . . ركب صديق عبد الله و ابتسامة انتصار و سرور تعلو محياه . . وضع الكيس بينهما . . ركب عبدالله أو عبدو كما ناده صاحبه وهو مكتئب و يهذي . .: - لقد ربيته منذ صغره . . أردت أن أراه وهو يطير . . و من ثم أضيفه في مجموعتي . . كنت سأجري عليه الأبحاث . .إلخ . بينما كان صديقه يضحك بين الحين و الآخر على ما حصل . . أصممت أذني عما يصدرانه من إزعاج . . فليست مواجهة الصرصار و لوحدك شيء مضحك . . و ليس بفقدانه أيضاً شيء محزن . ! أخذت أتأمل في الشوارع التي افتقدها ، خطر ببالي سؤاله عن كيفية معرفته بمكاني . ! أرخيت أذني لأسمع تذمر عبدالله . . - هذا هو ثاني صوصو يقتل . . الأول مات خنقاً بإبادة تركي . . بينما الآخر داست عليه الآنسة ريناد . . هذا ليس عدلاً أريد أن أحضر طيرانه فكلكما حضرتماه إلا أنا . ! كتمت ضحكتي فأخي يبدو طفلاً صغيراً حينما يفقد شيئاً و تصرفه مغاير لما يفعله الآخرون ، و ذلك لأن عصبية والده التي طبعت بصمات على جسده مازلت موجودة ، فهو يمقت نفسه حينما يتصرف بشكل عصبي و لذلك يبقى مرحاً طوال الوقت و يحاول حبس غضبه قدر استطاعته و يتذمر بدلاً عن ذلك . . ابتسمت بعطف ، هذا هو أخي الذي أحبه . . عاد السؤال مرةً أخرى ليتجول في عقلي . . فآثرت طرحه على التفكير فيه . : - عبد الله . . اسند رأسه إلى يده المستندة إلى الباب قائلاً بضجر . : - نعم . . - ما الذي . . . قطع سؤالي رنين هاتفه النقال . . رفعه و رد على المكالمة . . - أجل . . أجل . . أخبرتكِ بأنها معي . . رفع رأسه متنهداً . : - حسناً . . سنتناول العشاء و نحضرها إليكِ . . ألتفت إلى العالم المتحرك خلف زجاج النافذة . . أيعقل أنني أشكل عبئاً على أخي . . بالطبع . ! فقد قتلت صوصوه المقزز . . لحظة لست وحدي من قتل صوصوه ، فهناك من أباد صوصوه الأول . ! أوه . . مهما كان لابد أن أعتذر . . ألتفت إليه . : - أنا . . رمشتُ بعيني مرةً أخرى غير مصدقة لما أره ، فتأكدت بأن هاتفه قبالة وجهي مباشرة . . - تفضلي . . بسمة تريد محادثتك . . شعرت بفرحة عظيمة و ابتسامة كبيرة ترتسم على شفتيّ . . كم هذا رائع . ! سحبت الهاتف من بين يديه بقوة . . - اشتقتُ لكِ كثيراً . . جداً ، جداً ، جداً ، جداً ، جداً ، جداً سمعتها ضحكتها الرقيقة عبر الأثير . : - توقفي أرجوك . . لقد أدركت مدى شوقكِ لي . . - كيف سمحت لكِ المدرسة الداخلية بمحادثتي في هذا الوقت . ! قالت بلطف . : - كم يلزمكِ من الوقت لتعلمي بأني في الجامعة الآن . . و أنني لست بطفلة صغيرة . . و أنني أكبر منكِ سناً أيضاً . . - حسناً . . حسناً . . لقد أدركت ذلك الآن . . لا داعي للعصبية . . - متى ستصلون إلى العاصمة . ؟ - العاصمة . ! - نعم . . انتقلت إلى هناك لأكمل دراستي . . - لحظة . . أغلقت الميكروفون بيدي و قلت لعبد الله بلهجة مؤنبة . : - ما الذي تفعله بسمة لوحدها في العاصمة . ! ؟ - و ما الذي تفعلينه وحدكِ في الطائرة و أنتِ تحت السن القانونية . ! أخرسني ذلك الأحمق . ! عدت لبسمة و أبعدت يدي عن الميكروفون . . - كيف علمتم بأني وصلت . ؟ - لقد أتصل علي والدك ينشد عنكِ و يسأل عن حالك . . و أن كنت وصلت أم لا . . ظهرت ملامح اليأس على محياي ألا يمكنني خداعه و لو لمرة واحدة . ! أنصتُ لما تقوله بسمة حينما قالت . : - و سيأتي ليعيدك حينما تتحسن الأحوال الجوية لديهم . . عندما أحست بصمتي قالت بصوت مطمئن . : - لا تخافي سوء الأحوال الجوية مرتبط بحركة الملاحة فقط . . و في الحقيقة لم يكن هذا ما ألزمني الصمت . . فأبي سيأتي ليبعدني عنهم و لن أراهم حتى تنتهي الحرب أو ينتهوا . . غرقت عيني بقطرات الدموع . . - ريناد هل أنتِ بخير . ؟ - نعم . . أنا بخير . . وداعاً . . أغلقت الهاتف و أنا واثقة أن بسمة قد أصابها القلق بسبب صوتي المبحوح . . ناولته الهاتف . . و قلت . : - رجاءاً دعنا نذهب إلى بسمة أولاً . . - ماذا عن العشاء . ؟ - لا أشتهيه . . تدخل تركي موجهاً حديثه لعبد الله . .: - ما رأيك أن نتناول العشاء في السيارة . ؟ أومئ عبدالله بالموافقة . . ثم وزعنا الشطائر . . ||| كانت الممرضة تكلمني بوجه جامد . . - يجب أن ترحلي . . يجب أن ترحلي . ، أذهبي إلى أي مكان . . أذهبوا بعيداً عن هنا . . و بدأت تخرج ونين حاد و طويل يشبه صوت الطائرات ثم اختلطت معه أصوات صفارات الإنذار و صوتها العالي يخترق أذني . . وجدتُ نفسي بعدها أجلس بجانب آمال المتمددة في الشارع و الآلام المخاض ترنو إليها بينما الدماء تغطي يدي و تغطي ما حولي و النيران و المتفجرات تتفجر من حولنا . . كنت مرعوبة لا أعرف ماذا أفعل . . ألتفت حولي أبحث عن مساعدة فوجدت النيران قد منعت خالتي من مساعدتي بينما حجب الدمار و الحديد المتناثر محاولاتي اليائسة لجذب انتباه أمي و التي تمشي بهدوء يتضاد مع ذلك الدمار . . اختفى المشهد فجأة . . أغمضت عيني ثم فتحتهما . . شعرت بالماء الذي رطب وجهي و شعري و جزء من ملابسي .. أدرت عيني إلى من حولي . . كان خالتي تنظر إليّ و بيدها كوب ماء . : - لا بأس عليكِ يا ابنتي كان كابوساً . . درت بعيني حولي مرةً أخرى لأرى الأطفال الصغار مستيقظين ما عدا محمد الذي يشتكي من ضعف في السمع . . أيقنت عندها أنني صرخت بأعلى صوتي و أنني قد أيقظت هؤلاء الأطفال . . مسحتْ على وجهي بالماء لتعيد إليّ وعيي مرةً أخرى ، و هي تردد . : - بسم الله . . أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق . .بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض و لا في السماء و هو السميع العليم . . قربتْ كوب الماء إلى شفتي المرتجفتين . . أكان كل ذلك حلماً حقاً . ! لا يمكن أن يحدث هذا . . هببتُ من سرير مسرعةً للبحث عن ذلك الكتاب الذي أعطتني إياه تلك الممرضة . . أخذت أفتح الأدراج . . بحثاً عنه بينما خالتي تحيطيني بأذكارها . . لم أجده هناك . . بحثت عنه مرة أخرى و هلعي يزداد بازدياد كل خفقة يخفقها قلبي . . وجدته . ! قبضت عليه بقوة . . يجب علي قراءته الليلة . . اتجهت إلى سريري وجلست القرفصاء و الكتاب بين يديّ . . و خالتي تتابعني بعينين مشفقتين على حالي . . نهضت من سريري و خرجت من الغرفة لأبحث عن مكان يبعدني عن عينيها . . خرجت إلى الساحة و جلست على الدرج المتدرج من مرتفع مدخل بيتنا الداخلي . . التهمت الكتاب بنهم الجائع من مقدمته حتى انتصفت فيه . . تسلل إلى أذني نداء الصلاة . . " الله أكبر . . الله أكبر . . اشهد أن لا إله إلا الله . . أشهد أن محمداً رسول الله . . حي على الصلاة . . حي على الصلاة . . حي على الفلاح . . حي على الفلاح . . الصلاة خير من النوم . . الصلاة خير من النوم . . الله أكبر . . الله أكبر . . لا إله إلا الله . . " أغلقت الكتاب و أنا أتنهد باطمئنان . . وكلتُ أمري إلى الله . . ثم توجهت إلى الداخل لأتوضأ و استعد للصلاة . . ||| قامت عن فراشها برأس مثقل بالنعاس . . حاولت فتح عينيها و مقاومة النعاس الذي يغريها للعودة إلى النوم . . سحبت أقدامها إلى خارج الغرفة . . و قبل أن تخرج ألقت نظره إلى حاسوبها فرأته على هيأته منذ الأمس . . الأمس . . هل كان ذلك بالأمس . ! أغلقت الباب خلفها . . شعرت بأحد ما يقف بعيداً عنها . . رفعت رأسها بتثاقل و هي ترمش بعينيها لتزيل الأثقال التي تجذبها لإغلاق عينيها . . و لتحاول أن تعي ما حولها . . كان سعداً واقفاً هناك ببذلته العسكرية . . خرج من شفتيها هذا السؤال . : - أستذهب . ؟ - نعم . ! قالها بجمود . . أمسكت أذنها اليمنى و أخذت تمرر أنملتها على الصيوان مفكرةً لولهة ثم استدارت إلى الحمام . . لحظة . ! أهذا يعني بأنها يمكن أن لا تراه مرةً أخرى . ! ألتفت إليه بسرعة . . لتجد الرياح تعبث بمكانه الفراغ . . اتجهت إلى الطابق السفلي تبحث عنه ، يجب عليها أن تودعه على الأقل . . نزلت الدرجات بسرعة و انطلقت إلى الخارج . . توقفت بجانب الباب مستندةً إليه بكسل و هي ترقبه وهو يودع والدتها الباكية . . أرخت رأسها إلى الباب . . ابتسمت له وهي تكتم دمعتها الآسية حينما رفع رأسه بنظرته الخالية من أي تعبير . . تركت الباب ثم ذهبت إليه . . صافحته و ابتسامتها تناضل شفتيها تحاول التشبث بهما . . وقفت على أمشاط قدميها ثم قبلت رأسه ثم قالت . : - اعتني بنفسك . . لم ينبس بشيء . . خرج و نظرة عينيه لم تتغير . . أغلقت الباب خلفه و هي تشاهد والدتها تنحب و تبكي على ابنها . . تهاوت ابتسامتها أخيراً و ارتجفت شفتيها بينما عينيها أغرقتا بالدموع . . - هاي . . ألن تأتوا لتناول الفطور . ؟ نطقتها منيرة بمرح . . خرجت إلى الخارج و هي تراقب ذلك الموقف الدرامي . . قالت محاولة إضافة القليل من المرح على الموقف . : - ألن تكفا عن محاولة تقليد الأفلام الهندية . ؟ ألقت رهام بصرها عليها تحدق فيها بنظرات مؤنبة لم تنسى ما فعلته بالأمس . . - آآآ . . ما رأيكن لو دخلنا لتناول الفطور . ؟ لم تزل عيني رهام لم تغادرها . . قالت بارتباك . : - حسنا . . سأذهب . . لـ غلي . . الماء . . استدارت عائدةً حتى أوقفها ذلك الصوت . : - لماذا أتعبتِ نفسك و أنتِ ضيفة في بيتنا . . ألتفت إلى خالتها و هي تبتسم و نظرات رهام لم تهجر عينيها بعد . : - هذا . . واجبي . . ثم دلفت إلى الداخل . . غادرتا الساحة الصغيرة و دلفتا إلى المنزل . . ما أن أنهوا فطورهن حتى هّبت منيرة لتنظيف الأطباق . . و دخلت في محادثة بسيطة معاتبة من خالتها بأنها ضيفة و يجب أن لا تغسل الأطباق معهم . . ذهبت رهام لتغسل يديها . . فتحت الصنبور و جعلت يديها تنعم بالماء الدافئ و هي تحدق في مجرى المياه شاردة . . أتت يد ما و أغلقت الصنبور و لم تنتبه إلى ذلك ، إلا عندما توقف الماء عن الانسلال بين يديها . . ألتفت إليها ، ابتسمت هبة في وجهها و أشارت لها . . ( عما تفكرين . ؟ ) قالت رهام وهي تشير إليها . . - لا شيء . . أخذت المنشفة لتجفف يديها . . أحست بنقرة هبة على كتفها . . التفتت إليها . . أشارت لها هبة . .( ما الشيء الذي وقعت فيه منيرة . ؟ ) ابتسمت رهام و قالت . . - و ما الذي يجعلك تظنين هذا . ؟ أشارت لها هبة . . ( أنها تتفانى في عرض خدمتها اليوم . . و هي لا تفعل ذلك إلى إذا كانت مخطئة . . ) تابعت رهام الابتسام و هي تقول . : - و كيف علمتِ ذلك . ؟ أشارت لها . . ( أتذكرين حينما كانت معجبة بإحدى الفتيات . . و كشفتي رسالتها . . و أيضاً عندما فعلت ذلك الشيء. ؟ ) ضحكت رهام بخفة . . أشارت لها . . و قالت كاذبة بابتسامة مزيفة . : - هذه الفتاة مليئة بالمشاكل لكنها لم تخطئ هذه المرة . . ربما تود أن تبيت عندنا أكثر من ليلة ، خاصةً بعد رحيل سعد . . أشارت لها هبة و هي تبتسم باطمئنان . . ( كم هذا مطمئن لقد خشيت أن تكون قد وقعت في مشاكل مرةً أخرى . . ) عادتا إلى الصالة و هبة تراقب تصرفات منيرة المثيرة للإعجاب . ! ||| تابعا الحديث و المناقشات المملة بالنسبة لـ ريناد و تجاهلوها و كأنها ليست في نفس السيارة . . كتمت غيضها بقضم قطع كبيرة من الشطيرة اللذيذة . . و شرب المشروب الغازي الغير مفضل لها بتاتاً . . استقبلتهم أضواء العاصمة باليمن و الترحاب ، بينما تراخت أشعة الفجر و استراحت خلف أضواء العاصمة . . كانت هذه أول مرة تدلج فيها ريناد إلى العاصمة منذ مدة طويلة . . أخذت تقلب عينيها و تراقب ما حولها بشفتان مزممتان ضجرتين ، و هي تفكر . . متى سأصل إلى سكن بسمة هل هو بعيد إلى هذه الدرجة . ! لقد طلع الصبح و أنا لم أصل بعد . ! أووه . . كم هذا متعب . ! كم من الـ ( كم ) هنا في هذه البلاد . !! لـ ربما لو جلست في منزلي لكان أفضل لي من أن تحدث لي تلك الحوادث . . فأولاً سرقت محفظتي ، ثم نسيت أين وضعت بطارية هاتفي النقال ، ثم ذلك الرجل المقزز ، و أخيراً ذلك الصرصار الغبي المجنون . ! تنح الآن شعورها بالمغامرة و تسلل شيئاً فشيئاً و احتل موقعه الضجر . . توقفت السيارة . . حينما ترجل صاحبه من السيارة ، قال عبد الله وهو يهم بالنزول . : - سنذهب لنشتري بعض الكتب و الخرائط . . يمكنك المجيء إذا أردتي . . نزلت ثم أدارت بصرها عما حولها فوجدت نفسها أمام إحدى المكتبات الكبيرة و أشعة الشمس تحاول غزوها بنورها الساطع . . ما الذي يفعلانه في الصباح الباكر . ! دلفت إليها و رأت عبد الله و تركي يذهبان إلى ما يريدانه . . أخذت تقلب نظرها ذات اليمين و ذات الشمال، تعتبر المكتبة شبه فارغة من الناس . . و لا يوجد ألا هذا الرجل الطاعن في السن و نسوة قليلات تناثرن يبحثن عن غايتهن في القراءة . . بحثت عن قسم الروايات لترى ما هي آخر الروايات التي نزلت لديهم . . قرأت عناوين القصص لكن لم تنجح رواية ما في شدها لاقتنائه . . زفرت بضجر .. وهي تدير عينيها على من حولها . . رفعت قدمها و جعلت أسفل حذائها على مرمى بصرها . . لم تجد بقايا واضحة للصرصار . . أخذت تتنقل بين الأقسام الواحد تلو الآخر حتى تعمقت في المكتبة . . - ما رأيكِ بهذا . ؟ - لا ليس به ما أريده . . أرخت أذنها لتسمع تلك المحادثة و صوت الكتب و الأوراق التي تفتح و تغلق . . - امم . . ماذا عن هذا . ؟ - يبدو مناسب بعض الشيء . . كانت ترى يديّ الفتاتين و لم تكن تستطيع رؤية وجهيهما بسبب ذلك الحاجز وتلك الكتب المصفوفة أمامها . . أغراها الفضول و الفراغ في الاتجاه إليهما و رؤيتهما عن كثب . . سارت بجانب الحاجز حتى انتهى ثم استدارت لتصعق برؤية شخص ما . . قالت و السعادة تغمرها . : - بسمة . ! رفعت بسمة رأسها لهنيهة ألقت نظرة إليها ثم عادت إلى ما تقرأه . . فجأة تركت الكتاب الذي بين يديها بعد أن أدركت ما رأت . . هبت إلى ريناد بقلب مفتوح ، التقت الفتاتان و اكتنزت كل منهما الأخرى بين أحضانها ، دمعتان انحدرتا على خديهما و اختلطت بشعراتٍ شاذة فتندت بتلك الدموع الحارة . . قالت بسمة بقلب محروق . : - هل أنتِ بخير . ؟ ، كيف تفعلين هذا بي . ؟ كيف تأتين هكذا دون تخبري أحداً و تجعليننا نقلق عليكِ . . كانت ريناد تحتضن بسمة بصمت و هي تتذكر لحظات وحدتها و حياتها الفاترة و حيرتها التي وقعت بها في هذا العمر و لم تجد أم أو أخت تسألها و تثق بها . . تقدمت هديل و عدة كتب بين يديها . . - كيف أمست أمسيتك . ؟ خففت ريناد من حدة إمساكها لـ بسمة ثم أبعدت يديها و هي تزيح دمعة خرجت من عينها بيدها ، قالت و هي تصافح يد هديل الممدودة بابتسامة . . - أمسى سعيداً . . ابتسمت في وجهه ببشاشة و قالت . : - هذا حسن . . ألتفت إلى بسمة و قالت . : - أنا ذاهبة لشراء هذه الكتب . . تركتهما لتتحدثان ثم اتجهت إلى قسم المحاسبة . . وضعت الكتب و همت بفتح محفظتها لدفع النقود . . و سمعت حواراً خلفها لـ شابين و قد أثار هذا استغربها خاصةً بعد خلو المدينة من الشباب .. - أرأيت ريناد . ؟ أومئ رفيقه بـ لا . . - حسنا أنا ذاهب لأبحث عنها . . بينما استدارت هديل لترى من ذا الذي يعرف ريناد . ! وجدت الشاب يرتب خرائط و أطالس ، و بعض الكتب التي تبدو من غلافها أنها لعالم الأحياء . . زاد عجبها و كأن ليس هناك ما يدعو للقلق في هذه البلاد . ! لمحت ساعته الباهظة الثمن . . عندها أدركت أنه أحد الفارين من الالتحاق بالجيش . ! كيف يُسمح لهم بذلك . . لم تنتبه إلى نظرته المتعجبة بسبب حديثها مع المحاسب . . ||| نهضنا على صفير صفارة الإنذار المزعجة و المياه مسكوبة فوق رؤوسنا . . نهضت مشوشاً كباقي كل الأفراد المشاركين لنا في الحجرة . . بملابسي العسكرية التي لا يمكننا خلعها و استبدالها بملابس النوم . . هذا ظلم و انتهاك لحقوق الإنسان . ! نزلت من سريري بسرعة و كدت أسقط على جابر الواقف بشموخ ، رغم تقاطر قطرات الماء من وجهه . . أديت التحية العسكرية متأخراً بعد أن أداها الجميع . . كيف لهم أن ينقلونا إلى حجرة كبيرة و يحشدون فيها الكثير من المجندين . . أعاد صراخ العميد فكري إلى ما يقوله و هو يصول و يجول بيننا . : - هذه الحرب سنكون المنتصر فيها . . سنحارب بكل أرواحنا و دمائنا لننقذ هذا الوطن و المليك و الأهل . . ابتسمت بسخرية و كأن هذا المليك ليس هو من حشرنا في هذه الحرب لأجل طمعه و أخيه على قطعة أرض و نهر وفير الخيرات . . - هاي أنت . . ألا تسمعني . ! - هاه . . ضربني بعصاه على كتفي و بقوة . . - كيف تحمي ملكك و وطنك و أنت شارد الذهن . . ألتفت و تابع حديثه أقصد صراخه علينا و كأنه لم يسبب لي ألماً و كاد أن يخلع كتفي . . أنصتُ إلى همسة جابر . . - تحمل . . أني أرى الصبح قريب . . أي صبح يتحدث عنه بحق الله . ! آخر ما سمعته و كاد أن يموت منه قلبي خوفاً . . - غداً سيكون يومكم الحقيقي . . ستدافعون عن وطنكم . . عبر الحدود . . ألجمتني الفاجعة عن التذمر أكثر . . أسأكون بوجه المدفع و أحاول قذف الرصاصات بمسدسي . . و قد يكون أحد الذين أقتلهم عائلة خالي الذي فرقت بيننا الحدود و منعتنا من الاتصال ببعضنا . ! . . ركبنا الشاحنات و بنادقنا تسترخي بجانبنا . . كانت تلك الوجوه في ذلك اليوم عليها غبرة ترهقها قترة . . تودع بعينيها الممتلئة بالدمع من يحبونهم . . يحاولون استحضار وجوههم الواحد تلو الأخر ليودعهم بقلوبهم دون أن يلتقوا . . سارت دمعة على خدي دون إحساسي بها ، حينما تذكرت والدتي و والدي الذي فقد قدمه بسبب تلك الحرب الماضية المشئومة . . نزلنا إلى تلك المخيمات التي تبدو في مكان ما قرب الحدود . . و أخذ يخبط فينا خطيب يحدثنا عن هدفنا السامي و ما يجب أن نفعله . . ||| فُتح الباب بهدوء . . تقدمت إلى مدخل الغرفة و هي ترمي بصرها حولها بينما يدها متعلقة بأكرة الباب . . أحاطت بعينيها الممتلئتان بالدموع المحتبسة على سريره إلى حاسوبه و إلى خزانة ملابسه ، ثم إلى مكتبه . . أغلقت الباب خلفها توجهت إلى مكتبه وهي تجر خطاها خطوة تلو الخطوة . . تلمست صورتهما الباسمة السعيدة . . تأرجحت دمعة بين رموشها ثم سقطت على خدها . . عادت بها إلى ذلك اليوم . ، حينما كان في بداية التزامه و عودته إلى رشده و تركه لأصحاب السوء . . كان ذلك الانقلاب هو سبب سعادة العائلة . . فبعد أن كان شخصاً فاسقاً و بذيئاً لا يقدر أحداً و يبخس الأشياء حقها . . هداه الله إلى صراطه المستقيم فاستقام و استقامت حياته و أصبح من رواد المساجد . . لا تنسى ذلك اليوم الذي أتى فيه وهو يقبل إلى الصلاة و يتوضأ مع أخوها هادي . . كان ذلك الشيء شيء يستحق أن يحتفل به . . ابتسمت بألم . . وهي تذكر ما حدث ذلك اليوم . . بعد أن سافر هادي لإكمال دراسته ، تبدل اعتدال سعد شيئاً فشيئا إلى غلو في الدين و التشكيك فيها و في أي حركة تقوم بها . . فُتح الباب بغتةً خلفها ليعرق سيل أفكارها الجارف ، رأت منيرة تتسلل إلى الحجرة بخفة . . استدارت رهام إليها و توقف بصرها يحدق فيها . . انتبهت منيرة إلى رهام المستندة بظهرها إلى مكتب أخيها ، تحدق بها بنظرة باردة و مازالت آثار الدمعة محفورة على خدها . . ارتبكت منيرة و قالت . : - آ . . آ .. أوه أنتِ هنا . ! أغلقت فمها لبرهة و هي تحاول أن تبحث عن كلمة مناسبة . ، ثم تابعت حديثها بعد أن رأت صمتها . : - كنت أبحث عنكِ . . و أضافت باضطراب . : - و وجدتكِ هنا . . جلست منيرة على سرير سعد و قالت . : - ماذا تفعلين هنا . ؟ عادت رهام إلى وضعيتها السابقة و بقت تحدق في الصورة . . اقتربت منيرة من رهام حتى أصبحت خلفها . . - لم يكن هكذا قبل سفر هادي . . لم يكن يرضى منعي من حقوقي و يشدد عليّ . . تفاجئت منيرة من انفجار نبع دموع رهام التي تابعت الحديث من قلبها المفطور . : - كان أخ حكيم . . ينصحني باللين . . و يعينني و يساعدني فيما يستطيع القدرة عليه . . كيف آلت علاقتنا إلى هذا التعقيد . ! أن أتناقش و أتشاجر معه كل يوم عن أبسط حقوقي ، أن يكون خروجي و حديثي مع صديقاتي و زيارتي لهن بأجمعها مشكوك فيها . ! بكت و بكت بمرارة بينما منيرة تشاهد دموعها بوجه جامد و عينان جاحظتان . . تساءلت منيرة في داخلها . . أكان لها قلب . ! و تحب أخوها . ! و كان له قلب ليساعدها و لم يكن يصرخ عليها . ! - بعد أن سافر أخي هادي . . تعرف سعد على شاب كان فاجراً و أحقر منه بكثير سابقاً . . أخبره ذلك الشاب عن قصة استدراجه لإحدى الفتيات المتدينات و كيف أوقعها في حباله * . . و كم كان نادماً على ذلك . . و لا أعرف ما الذي حدث لـ سعد بعد تلك الحادثة . . تلاشت ثقته بي و أصبح يتتبع كل ما أقوم به . . و لا يحادثني إذا شك في شيء ما . ! كفكفت رهام دموعها ثم غادرت الحجرة بقلب مكلوم . . حينها التقطت منيرة أنفاسها . . و قالت . : - ما بها اليوم . . تبدو غريبة . ! ثم أخرجت صورة ما خبأتها بين ثيابها . . ||| فتحتُ باب السيارة ثم أرحت الأكياس على مقعد المجانب لي . . جلستُ على مقعد السائق و قدمي مسترخية خارج السيارة . . ترى هل أتصل بها . ؟ أم . . ألقيت نظره على المكتبة . . ربما من الأفضل أن أذهب و أرى أن كانت ستعود معي أم لا . ؟ ترجلت من السيارة و سحبت المفتاح ثم قمت بإغلاقها . . سرت إلى بوابة المكتبة . . خرج منها شخص ما . . يحمل معه خرائط ما و أكياس مملوءة بالكتب . . ابتعدت عيناي عنه . . فعار عليه أن يكون مرتاحاً هنا بينما هناك من يبذل دمائه لأجل هذا الشعب و الوطن . . أحقاً هناك أشخاص مثله . ! ولجت إلى المكتبة . . رأيت ريناد و شخص ما يتحادثان بينما انتبهت إليّ بسمة و أشارت لي بأن أعود إلى السيارة . . عدت إلى السيارة و أدرت المحرك و أنا أضغط على الاتصال بـ بسمة . . لأسألها أن كانت تريد أن تعود معي أم لا . . - السلام عليكم . . - و عليكم السلام . . - أتحتاجين إلى توصيلة . ؟ - لحظة . . تركتني على الخط لدقائق ثم عادت و قالت . : - أظن ذلك . . انتظري عدت دقائق و سآتي مع ريناد . . خرجتا من المكتبة . . ابتسمت بسعادة و أنا أشاهد ريناد المجنونة تقفز هنا و هناك ، ممسكة بيد بسمة ذات الشفاه المنفرجة بسعادة و بهجة . . حدقت في ريناد الحيوية . . ربما لا تدري ريناد بأن بسمة لم يغمض جفن ليلة الأمس قلقاً و خوفاً على أختها الوحيدة . . ركبت بسمة بجانبي بينما ركبت ريناد و هي تتذمر بشكل طفولي صانعةً على شفتي ابتسامة . : - هذا هو نصيبي . . أن أجلس بالخلف دائماً . . هاه . ! سرت بالسيارة و هي تتابع تذمرها اللانهائي. . و أنا أحاول كتم ضحكتي بصعوبة ، بابتسامة واسعة تكاد تفصح عن الضحكة المتوارية خلفها . . فقالت بغضب . : - أضحكي . . أضحكي . . فلست من جابهاً صرصاراً لوحده . . ضحكت بسمة وقالت بعد أن هدئت قليلاً . : - لم تخبريني بعد عما حصل معكِ . . أيتها المجنونة . . ارتمت ريناد على الكرسي وهي تتثاءب و تقول . : - إنها قصة طويلة سأحكيها لكِ بعد أن ارتاح . . بدت لي طريقتها في الحديث هي تهرب لا غير ، لكني لم أعر ذلك اهتماماً كبيراً . . سألت بسمة . : - هل أخبرتي عبدالله بأنكِ ستبيتين عندي الليلة . ؟ أومأت برأسها بـ نعم . . هبت ريناد قائمة من استرخائها . . - أسنبيت عندهم ؟؟ .. لم . ؟ ردت بسمة . : - ستسافر هديل غداً بعد خروجها من الجامعة إلى المدينة المجاورة . . لذا سآتي لمساعدتها في تحميل الأغراض اللازمة . . تقدمت و حشرت نفسها بين كرسيينا و قالت موجهةً السؤال إليّ . : - و لم ستذهبين . ؟ قلت لها بصراحة مطلقة . : - لأن الأوضاع هنا غير آمنة ، و أختي قاربت على الوضع . . كما أنني سأذهب إلى الجامعة لإيقاف دراستي مؤقتاً . . أومأت بالتفهم . . و انطلقنا لجمع ما يلزمني للسفر غداً . . . . - ما رأيكِ بهذا . ؟ أومأت بـ لا لـ ريناد فبدا الضجر على وجهها . . أخذت تنظر إلى الورقة التي بين يديها بعجز . و قالت . : - أعرف بأني من اقترح مساعدتك . . لكن . . أخذت تعبث بشعرها بيدها ، بشفتين حائرتين . . ثم قالت . : - ما رأيكِ أن نتبادل . ؟ - نتبادل . ؟ ! أومأت برأسها بمرح و هي تقول . : - نعم نتبادل المهام . . أنت تمسكين بورقة الأطعمة و أنا آخذ ورقة المستلزمات الصحية . . ما رأيك . ؟ فكرت بالأمر للحظة و كان يبدو جيداً . . تبادلنا الأوراق ثم انطلقت ريناد إلى القسم بروح نشطة . . بحثت بين الممرات عن قسم الأطعمة المعلبة . . رأيت بسمة في أحد الممرات فاتجهت إليها . . - السلام عليكم . . وضعتْ كيس الأرز داخل السلة . . ثم قالت . : - و عليكم السلام . . - أنا . . و ما أن رأت معاني الأسف تنبع في وجهي حتى قاطعتني و قالت . : - لا بأس . . أنا من عرض مساعدتي عليك ، أما عن ريناد فيسعدها أن تبات معي الليلة و في أي مكان كان ، كما أن محل سكني تقام فيه إصلاحات كما أخبرتك . . نحن من سيثقل كاهلك و سيزاحمكِ في منزلك . . - لكن . . قالت بلطف . : - بلا لكن . . تفضلي و أكملي عملك . . فقد أشغلتني عن عملي . . و دفعت العربة خارج الممر . . . . ما أن انتهينا من جمع ما يلزمنا انطلقنا بالسيارة إلى المنزل . . أدخلت السيارة إلى داخل المنزل . . ترجلنا من السيارة ، فتحتُ الباب الداخلي و تبعتني بسمة بهدوء و ريناد بفضول طفولي . . قلت بابتسامة . : - تفضلا . . تقدمت و تفاجئت بالفوضى المحرجة التي تعج بالمكان . . المكان غير مرتب بتاتاً و أحمد مرتمي على الأريكة يلعب بالـ ( بلاي ستيشن ) بينما محمد نائم في حضن خالتي بشكله البائس و القطن الملفوف حول أذنه . . سمعت صوت هناء تنادي . : - حكيم . ! حكييييييم . ! توقف . . !! دخل حكيم الصغير العاري يركض إليّ وهو يضحك هارباً من هناء التي تلاحقه بثيابه لتلبسه إياها . . آه هذا محرج جداً . ! بهتت هناء عندما رأتهما ثم حملت حكيم و جرت به إلى الداخل . . استدرتُ إليهما و رأيت ابتسامتان مرتسمتان على شفتهم . . حاولت تدارك الموقف بابتسامة واثقة . : - كما ترون عائلة عادية . . و تحصل في أحسن العائلات . . ضحكت ريناد و قالت . : - كل أطفال العالم يفعلون ذلك أيضاً . . انتبهت خالتي إليهما فوضعت محمد بحذر على الأريكة . . و غطته . . اتجهت إلينا بملابسها البسيطة ثم ألقت الابتسام و السلام عليهما . . ||| استيقظت بعينين مغلقتين لم أستطيع فتحهما . . استسلمت من محاولة فتحهما و أخذت أبحث عن المغسلة لأغسل وجهي . . تسلل إلى أذني صوت طنين طائرات و متفجرات و صفارات إنذار الحرب ترن بصوت عالٍ جداً . . رميتُ الماء على وجهي ثم فتحت عيني ببطء . . و قلت بضجر و صوتي يشوبه النعاس . : - ألم يسأم من هذه الأفلام . ! جررت قدمي حتى أخرج إلى الصالة لأخفض من صوت التلفاز قليلاً . ! و ما أن ظهرت حتى بغت برؤية التلفاز مغلقاً و الأثاث مبعثر بينما تركي يبحث كالمجنون بينها .. سألته بعينين ناعستين . : - ماذا هناك . . ما بك . ؟ سار بسرعةً إليّ بوجه ثائر و هو يرتدي حقيبة على ظهره . . نظرت إلى الساعة فوجدتها العاشرة صباحاً . . لم يخرج أحد من عمله بعد . . أوه . . لقد استيقظت مبكراً بسبب هذا الغبي . ! أحسست بقبضته القوية توقظني من نعاسي وهو يصرخ بوجهي . : - أخيراً استيقظت . . ما الذي تفعله . ! و عندما رأى عدم درايتي بالموضوع قال وهو يصرخ . : - ألا تسمع . ! غادر و أخذ يكمل بحثه المجهول . . حاولت الإصغاء بإذني لكني لم أجد شيئاً غريباً . ! سألته و أنا أتكئ إلى الحائط . . - ما الذي تبحث عنه . ؟ لم يرد علي بل أخذ يفتح و يغلق كل شيء يراه أمامه بغضب . . ثم فجأةً فقد صوابه و رمى التحفة التي بيده فتكسرت و تحطمت إلى أشلاء صغيرة . . دوى صوته في المكان وهو يقول . : - اذهب و ارتدي ملابسك و حذائك . ! ذهبت إلى الحجرة و بحثت عن ملابسي ثم بدلتها . . ما أن انتهيت حتى اتجهت إلى الستارة . . و فتحتها . . صعقت ، كادت أن تخرج عيناي عن محجريهما و يتوقف قلبي عن النبض . . كان الدخان يحيط بالمكان و الطائرات تقصف كل ما تمر به . ! أصمت أصوات التفجيرات التي تعلو و تعلو و أزكمت رائحة الدخان أنفي . . لاح ببالي صورة بسمة و ريناد و هما مرعوبتين أو مصابتين . ! هرعت إلى تركي . . و قلت و أنا أجري بسرعة مغادراً . : - أنا ذاهب . . لحق بي و قال . : - إلى أين . ؟ كيف ستذهب و سيارتي في الصيانة . ! جريت بسرعة إلى الدراجة النارية و ارتديت الخوذة ثم أخرجت المفتاح من جيبي و أدرت المحرك . . - انتظر لحظة . . سأجلب شيئاً . . صرخ بي تركي ثم ذهب مسرعاً . . ذهب و قشع كل خريطة كانت في حجرته و أخرج الأسلحة من مخبأها ثم حشرها في حقيبته و أسرع إليّ . . ركب الدراجة النارية و ارتدا الخوذة بسرعة و تمسك بي بشدة حتى لا يقع . . خرجنا إلى الشوارع و انطلقت إلى منزل صديقة بسمة و أنا أحاول تذكر موقعه . . - إلى أين أنت ذاهب ألن نخرج من هنا . ! ربما كنت أصم ذلك الوقت أو تجاهلته لم يكن أحد اهتماماتي ما يقوله . . فطنين الطائرات و أصوات ضرب الصواريخ . . و البيوت المتفجرة و الدخان المنبعث من كل مكان حتى غطى على نور الشمس . . كفيلةٌ بإفقادي صوابي . ! توقفت فجأة أمام منزلٍ قد وقعت عليه غارة . . ملتف بالسواد . . و سيارة تحترق بداخل المنزل خلف الجدار المنهار . . و آثار قطرات دموية على زجاج السيارة المحترقة . . ما الذي حدث . ! |
_ 5 _ ( ومضات ) 1/2 قلبت الكتاب ذو الخربشات الكثيرة و التوقيعات المختلفة . . ابتسمت بسخرية . . - ألن تكفي عن العبث بأغراض الصبي . ! ؟ ألتفتت إلى بسمة و قالت وهي تبرر فعلها بابتسامة و كأنها اكتشفت شيئاً مثيراً . : - أني أحاول استكشاف شخصيته . ! - من طريقة توقيعه . ! أومأت برأسها بـ نعم و قالت . : - كريستينا دوماً ما تنجح في تحليل الشخصيات باستخدام خط اليد و التوقيع . . سكتت لبرهة ثم تابعت حديثها و عينيها تسرد ما على غلاف الكتاب . : - أنه يعيد كتابة اسمه عدة مرات و بعدة خطوط مزخرفة . . أيظن أن خطه جميل . ؟ . . لحظة . . أعتقد أنه يعاني من النرجسية . . قلبت الكتاب بقسمات وجهها الحائرة لترى الغلاف الآخر . . : - كما يكتب أنواع السيارات التي يحبها . . هذا غريب أيضاً . . رفعت عينيها إلى بسمة التي تكتم ضحكتها . . وضعت الكتاب بغضب . . ثم ذهبت و جلست بجانبها على السرير و قالت وهي تراقب شفتيها المبتسمة تناضل ضحكة مجنونة خلفها . . - اضحكي . ! اضحكي . ! هذا هو ما ألقاه منذ جئت إلى هنا . . انفجرت بسمة بالضحك أخيراً على ريناد بينما تابعت الأخرى حديثها . : - لقد تكبدت المخاطر و نسيت ما نسيت لأصل إليكم . . و النتيجة أحدكم يوبخني لدوسي على صوصوه بدلاً من أن تشجيعي على مجابهته لوحدي . ! نظرت إلى بسمة فوجدتها تتابع الابتسام الضاحك .، صرخت بها و هي تقول : - و أنتِ تضحكين علي . ! دون أن تسألين كيف أمضيت يومي في المطار و كيف استطع الإفلات من يد ذلك الشرير و كيف نسيت حاجياتي . . و كيف و كيف . ! قامت من السرير دون أن تنتبه إلى وجه بسمة المتفاجئ . ! أمسكت بكتاب أحمد . . و أخذت تقلب صفحاته بين يديها . . - ما الذي حدث لكِ هناك . ! ؟ ألتفتت ببرود مصطنع يثير الأعصاب . : - هل يهمكِ هذا حقاً . ! هرعت إليها و الخوف ينهشها من أن تكون قد أصيبت بأذى . : - ما الذي حدث بحق الله . ؟ وضعت ريناد الكتاب على المكتب الصغير . . ثم اتجهت بخطوات صغيرة إلى مكتبته الممتلئة بأشرطة ( البلاي ستيشن ) . . كانت مستمتعةً برؤية انعكاس وجه بسمة القلق على زجاج المكتبة . . التفتتا إلى صوت نداهما . . - ألن تأتيا لتناول العشاء . ؟ بقت بسمة ولهة حتى استوعبت ما قالته هديل بيدها التي مازالت متعلقة بأكرة الباب . . أومأت بوجهها المبتسم بقلق . . و قالت . : - سنأتي بعد قليل . . أغلقت هديل الباب بعد خروجها بهدوء . . ثم توجهت إلى حجرة الطعام وهي تتساءل عن سبب تعابير وجهيهما المختلفة . . . . تناولت هديل طعام العشاء و هي تراقب النظرات المختلفة بين بسمة و ريناد . . بعد انتهائهم من تناول العشاء استأذنت ريناد . : - عن أذنكم سأذهب لأنام ، فأنا متعبة . . قالت بسمة . : - و أنا كذلك . . لحقت بسمة بـ ريناد و دخلتا للحجرة ثم أغلقتا الباب . . جمعت هديل الأطباق وعلامة تعجب مرتسمة فوق رأسها . . فليس من عادة بسمة أن تذهب دون أن تساعدهم في رفع الأطباق . . رفعت الأطباق وهي تخرج كرة هوائية من صدرها و عينيها محدقتان في الباب المغلق . . / . . وضعتُ الأطباق المتسخة في المطبخ ، رأيتُ خالتي تغسل الأطباق . . خجلت من نفسي فكيف تغسل خالتي الأطباق بينما أنا هنا . : - أذهبي و ارتاحي سأكمل غسلها . . شرعتُ في غسل الأطباق بعد أن غادرت خالتي و حملت معها رضاعة حليب . . دخلت آمال وهي تجر رجليها بصعوبة ثم جلست على الكرسي بتعب . . ردت على نظرتي المشفقة و قالت مازحة . : - سيأتي يوم و تتزوجين و تحملين و سأشفق عليكِ . . - و ستكونين أنتِ من يغسل الأطباق و أنا أقوم بالتمدد فقط . . مثلكِ تماماً . . ابتسمت لها بعد أن غسلت يدي و أغلقت صنبور الماء . . صاح أبريق الماء المغلي خلفي . . رفعته عن النار بعد أن أطفئتها، ثم سكبت الماء في كوبين و وضعت القليل من السكر . . أغمست كيس الشاي في الكوبين ثم وضعتهما على طاولة المطبخ بجانب آمال . . جلست على الكرسي بينما مددت يدي لآخذ ملعقة لإذابة السكر في الشاي . . أدرت الملعقة حتى صنعت زوبعة في كأس الشاي . . قالت وهي تتأوه . : - ألا يمكنكِ أن تأجلي الرحلة حتى ألد . ؟ مضت برهة أفكر بها في ما قالته تلك الممرضة . . - أحس هذه الأيام بالتعب يزداد و الطلق أصبح يأتيني بين فترات ليست ببعيدة عن بعضها أخشى أن ألد قبل أن نصل إلى المنزل . . ما رأيكِ لو مكثنا أسبوعاً ثم . . قلت و أنا أقاطعها بحزم . . - لا . ! - لكن . . قمت من الكرسي منهية النقاش . . ثم خرجت إلى الساحة و كوب الشاي بيدي . . ارتشفت منه رشفة . . لو كنت أعلم ما يخبئه الغد لمكثنا هنا إلى أن تلدي . . وضعت كوب الشاي فوق سطح السيارة الأمامي بحيث لا ينزلق . . فتحت باب السيارة . . تأكدت من وجود الكتب التي ابتعتها ، تصفحتها بسرعة دون أن أنوي قرأتها . . وضعتها أمام عجلة القيادة و اخترت إحداها لأتصفحها بينما أشرب الشاي . . مددت يدي لأرشف رشفةً من الكوب ، فلم أعانق سوى الهواء . . نسيت بأنه ليس بداخل السيارة . . تركت الكتاب جانباً و خرجت من السيارة و أخذت كوب الشاي من فوق سطحها . . رشفة رشفةً أخبرتني ببرود الشاي . . عدت إلى الداخل و وضعت كوب الشاي فوق طاولة تتوسط المدخل . . ألتفت إلى الباب و الذي تقف أمامه السيارة ، شعرت بالعجز . . فكيف سيمكنني أن احشر هذه المجموعة من البشر بداخل سيارة جيب . ! و احد هؤلاء البشر حامل . ! نفضت عن رأسي هذه الأفكار البائسة و ذهبت إلى الصالة لأحضر صندوق الإسعافات الأولية . . خرجت بسمة من الحجرة و الحيرة تكسو معالمها . . سألتها و أنا اتجه بصندوق الإسعافات الأولية إلى الخارج . : - ما بكِ . ؟ تبعتني حائرة . : - لا أدري . . ريناد تخفي عني شيئاً . . و هي لا تريد أن تخبرني بذلك شيء حتى ألح عليها في السؤال . . عندها ستخبرني . . وقد نامت الآن بعد رحلة متعبة أمضتها من مطار المدينة المجاورة إلى العاصمة . . وضعتُ الصندوق على الأرض و فتحت الباب الخلفي للسيارة . . لم أتفاجئ بالأكياس المبعثرة هنا و هناك . . أخرجت جميع الأكياس من السيارة و بسمة تساعدني . . قلت بينما أدخل الصندوق و أرتب الأغراض . . - و لما لا تلحّي عليها . ؟ - لأنني لا أريدها أن تعتاد على هذه الطريقة في استخراج المعلومات . . اتجهت إلى الداخل بعد أن احترت في كيفية ترتيب هذه الأشياء . . ففكرت في وضعها في حقائب . . - أنتِ تعلمين بأن ريناد عنيدة و ستفعل ما برأسها . . - و هذا ما يتعبني حقاً . ! توجهت على حجرتي في الطابق العلوي . . بحثت في خزانتي عن حقيبة مناسبة لحفظ الأطعمة و الأدوية . . وجدت حقيبتين مناسبتين لذلك , أخذتهما و نزلت إلى الأسفل و من ثم إلى الساحة . . ناولت بسمة التي ترتشف من كوب شاي عدة رشفات وهي تتأمل في المكان . . - هلّا وضعتي بها الأطعمة و دعي الأخرى سأضع بها الباقي . . تركت كوب الشاي جانباً فوق الدرج . . اتجهت إلى السيارة المحجوبة بغطاء الأزرق . . - ما هذه السيارة المحجوبة بالغطاء الأزرق . ؟ سألتني بسمة بينما كنت أتجه إلى سيارة أخي . . أجبتها حينما أزلت الغطاء عن السيارة ذات الزجاج المكسور منذ خمس سنوات . . - هذه سيارة أخي حسام . . - حسام . ! أردفت و زفرة خرجت من رئتي . : - رحمه الله . . سكتت بسمة و لم تقل شيئاً سوى أنها أضافت . : - رحمة الله . . أخرجت المفاتيح أبحث بينها عن مفتاح سيارته . . أدخلته في ثقب المفتاح غير متأكدة من إمكانية فتح السيارة . . أخذت أدير المفتاح يميناً و شمالاً و لم يفتح . . ضاعفت قوتي . . سمعت صوت ما . . صوتٌ كصوت تحرك xxxxب الساعة . . حاولت إخراج المفتاح . . لم يخرج . ! جذبته بقوة و لم يخرج . . أيضاً . . زاد غضبي و أخذت أديرة بعنف يميناً و شمالاً حتى انكسر . ! رميت سلسلة المفاتيح على الأرض بعنف ، يجب أن أخرج بعض الأشياء المهمة من هناك . ! شعرت باقتراب بسمة مني . . توجهت إلى مقدمة السيارة و جلست فوق مقدمة السيارة بعجز و أنا أتأمل ذلك الزجاج المشعّر فـ بدفعة واحدة يمكنك تحطيمه تماماً . . راقت لي الفكرة كثيراً . . حاولت الوقوف متزنة فوق مقدمة السيارة . . - ماذا تفعلين . ! ؟ أجبتها و أنا منغمسةً في الذكريات و في محاولاتي لتحطيم الزجاج . . - أحاول تحطيم هذا الزجاج . . منذ خمس سنوات . . كان أخي حسام أبن أبي المفضل . . لا أدري ما السبب لكنه كان كذلك . . و قد توفي بعد أن دعت أمي عليه بقليل لأنه لم يسمع نصيحتها و ذهب في رحلة خلوية مع أصدقائه . . لم يسمع أحد ما كانت تدعي به . .لكن أبي كان مصراً أن دعوتها هي سبب موته . . و لكي يعذبها أخذ سيارته ووضعها هنا لتراها أمي كل يوم ، لتبكي أمي عليه كل يوم . . بعدها تفككت العائلة و أصبحت كما ترين . ! تحطم الزجاج و تحطمت معه كل ذكريات هديل السعيدة . . لم أستطيع رؤية أي شيء أمامي ، حيث حجبت الدموع عيني و لم أستطع رؤية الزجاج المتحطم جيداً . . أمسكت بسمة بقدمي و هي تناجيني . : - أنزلي أرجوكِ . . دخلت إلى السيارة من خلال فتحة الزجاج الأمامي دون أن أراعي شذرات الزجاج الناشزة هنا و هناك . . لم تنل مني أي منها . . جلست على المقعد المجاور للسائق و أخذت ابحث عن أي شيء يساعدني في محنتي . . فتحت الدرج المواجه لي فوجدت كشاف صغير و شيءٌ مستطيل يحتوي على سكين و عدة أشياء لا أدري ما فائدتها . ! اتجهت إلى المقاعد الخلفية . . التقيت بمعطفه الذي بلا كمين و الذي كان يستخدمه حسام في وضع أهم أدوات الرحلات في جيوبه . . أخذته و عانقته بدموع ثم ارتديته . . ولجت إلى مؤخرة السيارة الصغيرة ، بحثت بين الأشياء المبعثرة عن شيء يفيدني . . نظرت خلف الزجاج من بين ذرات الغبار ، وجدت بسمة تغادرني إلى الحقيبة و ترتب الحاجات كما قلت لها . . تابعت بحثي فالمشوار طويل . . وجدت خيمة بسيطة ملفوفة فوق بعضها البعض ثم وجدت خيمة أخرى . . قبضت عليهما بسرعة ثم انطلقت لـ ذات الفتحة بزجاجها المتهشم و الناشز هنا و هناك . . خرجت مسرعةً دون أن أعير انتباهاً إلى ذلك الزجاج . . وصلت إلى مقدمة السيارة . . جلست على سطحها و أنا أحس بألم في رأسي . . أصبحت يدي رخوة و لم استطع السيطرة عليها كانت كالأسفنج المبتل . . فسقطت تلك الخيام الملفوفة على الأرض نزلت من السيارة حتى التقطها رغماً عن ألم رأسي . . استندت على سطح السيارة و مسكت الخيمتين بوهن . . سقطت قطرة دم كسقوط قطرة مطر . . وقفت و أنا أحاول صلب طولي بالاستعانة بسطح السيارة الزلق . . رأيت قطرات دم تزيد من لمعان إحدى الزجاجات المتشبثة بإطار الزجاج الأمامي ، و تابعت خطواتها الحمراء إلى أن وصلت إلى يدي . . تحسست بداية رأسي بيدي الأسفنجية . . أخذت الدنيا تدور من حولي ، و لم أستطع متابعة دورانها أكثر فسقطت على الأرض . . كان آخر ما سمعته صوت بسمة و هي تصرخ . : - هديــل . . و قبل أن تغلق الدنيا عليّ في مكان مظلم ، أدركت أن كل ما أقوم به هو معاندة مع القدر . . استسلمت و جعلت الدنيا تغلق علي و على رأسي بألمه الحاد . . . . خرج لي الضوء رويداً رويدا و أناس متحلقون حولي . . رمشت بعيني لتتضح الرؤيا لدي ، رأيت بيد أحدهم حية سوداء ذات رأس لامع . . شعرت بأيدهم و هي تمسك برأسي و بتلك الحية و هي تلتهمي جلدة جبهتي . . و عدت إلى الظلام مرةً أخرى . . . . ميزت صوت والدتي المبحوح من بين كل الأصوات و كانت تسأل عن شيء ما . . عاندتني عيني و بصعوبة استطعتُ فتحها بشكل طفيف . . سمعتُ صوت بسمة يخرج من جسم ذائب بين البياض و الصور . : - لا تقلقي ستكونين بخير بإذن الله . . شعرت بيدها الدافئة تمسك يدي و صوتها المتراخي يتسلل إلى أذنيّ . : - جرح رأسك بجرح خطير احتاج إلى عشر غرز . . و تم بعد فضل الله إزالة بقايا الزجاج من رأسك . . أرخيت رأسي في الوسادة أكثر متجاهلةً الألم المتصاعد . . يبدو أني سأمكث هنا لمدة ليست بقصيرة . . أغمضت عيني ثم فتحتها بعد أن تذكرت أن حجابي لم يعانق رقبتي و لم يحمي رأسي . . نطقت بصوت مهتز . : - أريد غطاء لرأسي . . وضعت أمي شيئاً ما على رأسي لم استطع تمييزه من شدة تعبي . . . . عدت إلى البيت بعد أن صرح لنا الدكتور في ساعةٍ متأخرة من بعد منتصف الليل بالخروج . . استقبلني عند مدخل المنزل . . دماء متساقطة من بداية سطح سيارة أخي ، حتى تساقطت على الأرضية ثم انقطعت في مكان بعيد عن السيارة . . وضعوني على سريري ببطء . . كان رأسي ثقيلاً جداً غفوت غفوة قصيرة استيقظت منها على كابوس . . سمعت صوتاً من أصوات ذلك الكابوس . . مددت يدي إلى الساعة التي بجانبي لأرى الساعة تقارب الرابعة فجراً . . قمتُ لأتوضأ و أصلي فمن المؤكد أنهم قد أدوا الصلاة منذ نصف ساعة . . توضأت و عيني تحدق في ذلك الرباط الملفوف على جمجمتي ، أديت الصلاة و رأسي يثقل شيئاً فشيئا . . تناولت حبتي مسكن عله يخفف الألم الحاد ، ثم ذهبت إلى المطبخ . . أشعلت النار على إبريق غلي الماء و انتظرت برأس منكس إلى الطاولة صفارته المميزة . . بعد أن زمر و اختلط صوته بصوت ضجيج ذلك الكابوس في رأسي . . أخرجت كوبي و وضعت فيه البن و السكر و الحليب و مبيض القهوة . . طوال تلك المدة لم أكن أحس بنفسي فقد كان نصفٌ يعي و نصفٌ مني لا يعي أين هو . ! خرجت بكوبي و ملعقته العائمة فيه . . جلست على الدرج الأمامي أمزج تلك المكونات مع بعضها و أراقب منظر قطرات الدم المتحجرة . . أخرجت الملعقة و وضعتها بجانبي ، رشفة رشفات صغيرة ثم وضعتُ كوب القهوة . . يبدو جلياً أن سيارتي لم تتحرك من مكانها ، و ذلك لأن بابها الخلفي مفتوح . ! أنقلوني إلى المستشفى بواسطة سيارة أجرة . ؟ ! رفعت رأسي إلى السماء الصافية و النور يغزوها شيئاً فشيئا و قد تلونت السماء بموجات الأزرق . . ذهبت إلى سيارة أخي و تذكرت حينما نظرت أمي إليها يوم دلفنا إلى المنزل برأسي المعصوب . . التقطت الخيمتين الملفوفتين حتى أصبحتا بحجم كفيّ ، ثم رميتهما بلا أدنى اهتمام بداخل السيارة . . تحسست معطف أخي و تأكدت من أني ما زلت أرتديه . . عدتُ إلى كوبي عله يوقظ نصفي اللاواعي ، رشفت رشفات و بصري شاخص بالسماء . . أصبح الضجيج القاطن برأسي يعلو صوته مع انتشار نور الصباح حتى شعرت به و كأنه أصوات طائرات تقترب . . مرت أمامي عيني لهنيهة طائرات غريبة تشبه طائرات الـ. ... نفضت رأسي بـ لا ، فتولد صداع عميق . . ها قد بدأت أتوهم مرةً أخرى يبدو أن الزجاج قد تغلغل في دماغي . . نقلت بصري بين سيارة أخي وسلسة المفاتيح المرمية بجانبها . . ذهبت إليها و كوبي يعانق يدي . . التقطت سلسلة المفاتيح ، بينما الأصوات تقترب مرةً أخرى و تسير فوقي . . رفعت بصري بسرعة هذه المرة لأتأكد مما أراه حقاً و لأمحِ تلك الوساوس التي ابنيها . . و كأن صاعقةً فرغت شحناته بي . . شخص بصري بالأعلى غير مصدقاً . . ذهلتُ . ! كانت طائرات حربية . ! و . . و عليها شعار العدو . !! قبضت على سلسلة المفاتيح و أخذت ارمي كل ما حول السيارة إلى داخله ثم أغلقت الباب الخلفي بقوة . . انطلقت إلى الداخل لأوقظهم فقد حان وقت الرحيل . ! ||| ترجل من الدبابة النارية بقلب مرعوب و جسده يكاد يحتضر . . انطلق ثم وقف فجأة أمام السيارة المدمرة المحاطة بنيران صغيرة يحدق بعينين جاحظتين غير مصدقتين لما يجري . ! يحدق في تلك الدماء التي تقطع الساحة و يقطعها السواد ، يقطعها الموت و الظلام . ! نزل تركي من الدبابة و هو في حالة ليست بأفضل من صديقه . . أيعقل أن تكون قد ماتت . ! كيف يحدث ذلك . ! ؟ دارت عينه حول ذلك الخراب ، كيف آل المكان إلى هذا المنظر . ! أهذه هي حقاً قسوة الحرب . ! لفتت انتباهه أخيراً تلك النيران التي بدأت تلتهم جزءً من السيارة . . هبّ إلى صديقه و جذبه بعيداً فجأة ، دون أن يبادر الآخر بأي ردة فعل . . كان الذهول و إحساسه بالذنب قد أخذ منه ما آخذ . . فهو أخوهما . . كان يجب عليه أن يعتني بهما و أن يفتح لهما صدره و يضمنهما تحت أجنحته . . لا أن يتركهما يقضيان الليل في منزل من لا يعرفها و لا يعرف حتى أسرتها . ! كيف تركهما دون أن يقترب منهما و يعرف عما تفكران فيه عما تشعران . . و كيف تعيشان . ! كان فكره منصب حول أخواته و عقدة الذنب توثق وثاقها بجانب أخواتها ، و قلبه يتمزق أرباً أربا . . هوى قلبه حينما سمع صوت انفجار السيارة خلفه . . حاول أن يلتفت أو أن يعود و يرمي بنفسه تحت هذا الجسم المتحرك . . لكنه كل محاولاته قابلها الخذلان . . أخذ يبكي و يبكي حتى تعبت عيناه . . توقفت الدراجة النارية أمام مكان ما لم يستطع تميزه و لم يرد أن يعرف ما هو . . كان يريد أن يموت و يعذب مائة مرة و لا أن يحس بهذا العذاب و هذا الندم . . نزع تركي مفتاح الدراجة النارية من ثقبها . . ثم خلع طوقيّ حقيبة الظهر الرياضية المستندة إلى ظهر عبدالله ، فقد أستطاع بهذه الطريقة أن يمنع عبدالله من الحركة أو السقوط ، و رغم ذلك واجهة صعوبات في قيادة الدراجة النارية . . كان المكان يعج بالدخان و النيران منتشرة هنا و هناك و أزيز الطائرات يصم الأذان . . و كان المشهد أشبه بـ بركاناً انفجر بالقرب من المدينة . . نزل تركي من الدراجة بسرعة و هو قابض على يد عبد الله بقوة . . لم يكن عبدالله يصدر حركة كان ساكناً سكون الأشباح و الدموع لم تفارق عينيه . . بعد بحث دقيق بين ذلك الدخان الرمادي ، استطاع أخيراً تركي أن يميز رقم مسار السيارات الذي يسيرون فيه . . حاول التذكر بأسرع ما يمكن أين يمكن أن يركنوا سيارته . . جر عبدالله معه وهو يفكر في لو . . لو كان لم يرسل سيارته للفحص لكانا الآن بعيدين عن هذا الخطر . . ارتجف جسمه بغتةً حينما شاهد إحدى الصواريخ و هي تقع بموقع يبعد عنهم كيلو مترين اثنين ، لم يكن ما أثار هلعه سقوط الصاروخ بل صرخات الناس و صياح الأطفال الذي كان يخرق أذنيه خرقا . ! هاج عبدالله فجأة و أصبح يصرخ و يصرخ بجنون بلا وعي . . بينما وقف تركي ساكناً في حالة يرثى لها ، مذهولاً من هذا الموقف . . أهذا فيلم رعب أم فيلم حرب أم فيلم موت . ! لم يكن يصدق أن هذا يدور أمام عينيه الاثنتين وهو يقف أعزلاً بلا حراك . ! انتفض بخوف بعد أن اهتز شيء في جيبه . . أصابه الرعب ، فقنبلة في جيبه . . قنبلة . ! أخرجه من جيبه دون أن يراه ثم رماه بعيداً عنه . . جرى ثم توقف فجأة مندهشاً بعد أن سمع صوت تلك القنبلة . ! لم يكن صوت انفجارها بل كان نغمة هاتفه المحمول . . صدى صوت الموسيقى و ألحان في وسط تلك الضوضاء و الفوضى . . اقترب من هاتفه الساقط أسفل إحدى السيارات المموّه بالدخان الكثيف و يبدو ان هناك شيئاً يحترق خلفها . . جر معه عبدالله الذي أصبح يبكي و يهذي بشحوب الأموات . . فقد خسر كل ما يملكه اليوم . . فما هي الحرب . ؟ اقتتال جيشان . ! لا . . بل هلاك أوطان . ! بالكاد استطاع أن يصل الهاتف بعد أن مد يده أسفل تلك السيارة وهو يكمم فمه و انفه بطرف بثوبه ، امسكه و كتم الرنين . . وقف و بيده الهاتف و بيده الأخرى عبدالله الشاحب . . فتح الخط و حادث والدته ، و كأن شيئاً لم يكن . . - نحن بخير . . لا بأس لقد ذهبنا إلى بيت الشاطئ . . نعم قررنا المغادرة بحراً غداً . . هذا صوت التلفاز . . وداعاً . . أغلق الهاتف وهو يبحث بعينيه الدامعتين بفعل الدخان ، عن سيارته . . اخرج المفتاح الإلكتروني و ضغط زر فتح القفل حتى يرى أنوار سيارته و يسمع صوت فتحها المألوف . . أصغى بأذنه إلى الصوت فلم يسمع سوى صوت الصواريخ و الصراخ . . حاول أن يلمح بعينيه نور المصابيح فلم يرى سوى احتراق الأشجار . . ضغطه مرةً أخرى بعنف وهو يسب و يشتم . . فجأةً خرج صوت من السيارة التي أمامه و صدر ذلك الصوت المألوف . . كاد أن يطير فرحاً . . فتح باب صاحب السائق و وضع عبد الله على الكرسي . . اتجه مستعجلاً إلى بابه . . ركب و أغلق الأبواب و اتجه بالسيارة بسرعة إلى الخارج قبل أن تحترق بالحريق الذي يشتعل خلفها . . داس بقوة على دواسة البنزين . . و انطلق إلى طريق مختصر يؤدي به إلى خارج العاصمة . . ما أن خرج خارج العاصمة حتى توقف على جانب الطريق البري . . و حذا نحو الخلاء يسير حسب خريطته الإلكترونية . . وهو يلقي نظره إلى الطريق و نظره إلى عبدالله الذي غفي دون وعي منه . . _ 5 _ ( ومضات ) 2 / 2 ||| استيقظتُ أخيراً من نومي العميق و الذي تخللته كوابيس مزعجة ، و حقيقةً لا أدري من الذي سمح لها بالولوج . ! فتحت عيني على طريق ما و رأسي مستنداً إلى زجاجٍ ما . . ذهلتُ مما أراه أمام عيني . ! لقد كنت نائمةً في منزل صديقة بسمة . ! أين أنا . ؟ هل يعقل أن أكون خطفت و أجر إلى زريبةً ما . ؟ أم . . عاد ذلك القبيح لأخذي . ! حلّ الرعب على قلبي و كبت عليه . . ماذا سأفعل لو كنت مخطوفة . !! حاولت الالتفاف برأسي لأرى من بجانبي ، و لم استطع . . كان هنالك شيء ما يضغط على راسي . ! يا ويلي لقد خطفت فعلاً . ! و قبل أن انطق بحرف أو اصرخ . . سمعتُ صوت امرأة تقول . : - آسفة . . يمكنكِ التحرك الآن . . استدرت ببطء . . لأجد أكوام من البشر مصطفون بجانبي . . كنت في سيارة هديل . ! و ما كانت تلك الأكوام إلا عائلتها . ! ما الذي يجري . . التفتُ إلى الشارع مرةً أخرى ، و رأيتُ جزءاً من كوابيسي يلهو هناك . ! و سيارات الجيش تعبر بجانبنا إلى داخل المدينة . ! نطقتُ اسمه فجأة بعد أن تذكرته . : - عبد الله . ! ردت عليّ صوت بسمة من خلف خالة هديل و هناء . : - أني أحاول الاتصال به مراراً و تكراراً و ما من مجيب . ! اعتصر القلق قلبي ، و لم استطع تخيل ما قد يحدث له . ! - لحظة . ! قالت بسمة ذلك بصوت يشوبه القلق ، ثم قالت بفرح متحمس . : - ربما يكون هو . ! أصغيت إلى محادثتها الرسمية للمتصل . : - ألو . . أهلاً . . نحن بخير و الحمدلله . . هانحن خارجين خارج المدينة . . أأنا ذاهبون إلى مدينة أخرى . . حسنا . . حسنا . . امتد هاتفها المحمول حتى وصل إليّ . . التقطته من الأيدي الموصلة دون أن اسأل بسمة عمن يحادثها . . قلتُ بصوت سكنه الشوق و الخوف . : - أين أنت . ؟ هل أنت بخير . ؟ أتاني صوت بعيد عن صوت أخي عبدالله و قريب من صوت شخصٍ أبغضه . ! صوت جامد نوعاً ما . : - أنا بخير . . أنني في البلاد الآن . . ما أن تصلي سألتقطك و أهرب بكِ بعيداً عن هذا الدمار . . رددت بصوت يملئه الدهشة . : - ماذا عن عبد الله و بسمة . ! ؟ - لستُ بوالدهما . ! و لا أستطيع أن . . أغلقت السماعة بغضب في وجهه قبل أن يكمل جملته . . أنهما أخويّ . ! ثم من قال بأني سأعود معه ، لأن أموت هنا أكثر رحمة من العيش تحت وطأة بروده و الضجر المحيط به . ! لا يمكنني أن أتصور ذلك . . ودعنا ذلك الشبح الرمادي الصادر من العاصمة معلناً توقفه عن سيره معنا . . ألتفتُ إلى ذلك الدخان بعينين بائستين ، كيف سيتصرف من بداخل العاصمة . .؟ ضُغط الكابح . . اندفعت فجأة إلى الأمام ثم ارتددت إلى الخلف بقوة . . توقفت السيارة بغتةً . . أصابني الهلع كما أصاب الجميع . . حاولت الاستفسار من هديل عما حصل . . جحظت عيناي خوفاً عليها ، فقد كان رأسها المعصوب و المحتجب بالحجاب منكساً مستنداً إلى مقود السيارة بينما تدلت يداها بجانب رأسها مسترخية . . صرخت والدتها الجالسة خلف هديل . . مدت يدها إليها . . و أخذت تنقر كتف هديل برعب . . بينما كانت آمال الجالسة بجانب هديل تحاول رفع رأس هديل عن المقود و إراحته على مسند الكرسي بيدين مرتجفتين . . كان الجو متذبذباً مشحون بشتى مشاعر الخوف و القلق . . أدرت رأسي إلى الخلف لأرى رؤوساً صغيرة قلقه ، تحاول التقاط صورة لـ هديل و تطمئن عليها . . ترجلت من السيارة بسرعة و أنا اسمع تساؤلات بسمة القلقة تتبعني . . - إلى أين أنتِ ذاهبة . ؟ توجهت إلى باب هديل و فتحته بروية حتى لا تسقط على الأرض . . ثم أشرت إلى أخوها أحمد بالخروج و مساعدتي . . لا يجب أن تقف السيارة هكذا في منتصف الطريق السريع و في حالة بلاد كهذه . ! نزل أحمد بينما تحاول بسمة ثني أم هديل عن النزول . . حاولت رفع رأس هديل ثم أسندت رأسها على ظهر الكرسي . . كان أحمد يقف حائراً خائفاً خلفي قلت له بلهجةٍ آمرة . : - تعال ساعدني في حملها . ! تقدم بسرعة . . |
سألته و أنا أحاول إزاحة هديل عن الكرسي و أختها الحامل تشير إليّ بأن لا أفعل ذلك . : - كم عمرك . ؟ رد بسرعة قائلاً . : - خمسة عشر عاماً . . - كم وزنك . ؟ - لا أدري . . ربما 59 كجم . . أزحت هديل إلى جانبي أخيراً و قلت له . : - جيد يمكنك أن تحمل من هو أقل منك وزناً . ! أضفتُ بعد أن أحسستُ بثقلها عليّ . : - على ما أعتقد . ! أتت بسمة و ساعدتنا في حملها و وضعها بجانب خالتها مكان مقعدي ، أغلقتُ الباب خلفها . . فتولت خالتها مسؤولية إيقاظها بينما تحاول والدتها أن تصل إليها . . وجهتُ سؤالاً إلى أحمد و أنا أدير بصري حولنا و أرقبُ السيارات الطائرة عن شمالنا . : - هل تعرف القيادة . ؟ أشار برأسه لا . . ألقيت بنظره على بسمة و أشارت بـ لا أيضاً . . زفرتُ ما بصدري من كدر . : - حسنا . . أركبا السيارة أنا من سيقودها . ! قالت بسمة معارضة . : - لكنكِ لا تعرفين . . قاطعتها قائلة و أنا أجلس على مقعد السائق . : - لقد حصلتُ على رخصة القيادة من هناك . ! أغلقت الباب و أشرتُ لهما بالركوب . . أدرت مفتاح السيارة بقلق . . كان يجب أن لا أكذب . ! اممم . . حسناً لست اكذب . ! اليوم سأتم ستة عشر عاماً و لو كنت هناك لكنت استخرجت الرخصة في مساء هذا اليوم الأسود . ! إضافةً إلى أنا " جينس " علمني كيف أقود السيارة قبل أسبوعين و يمكنني أن . . - هل أنتِ متأكدة من قدرتكِ على ذلك . ؟ قطعت بسمة خيط هيامي في القلق . . استجمعت كل ما أملكه من الشجاعة ، فكما استطعت قتل صرصار أخيراً يمكنني أن أقود هذه إلى المدينة الأخرى . . دست على دواسة البنزين بخفة ثم تركتها بعد أن اندفعت فجأة إلى الأمام . ! يا ويلي . ! ماذا سأفعل . ! أنني لا أستطيع القيادة أبداً . . كلا . . يمكنني ذلك . . كنت في صراع نفسّي مع نفسي . ! صرخت بي آمال فجأة . : - أركني السيارة جانباً ستؤدين إلى قتلنا . . دست مرةً أخرى على دواسة البنزين بحذر اكبر و برقة . . سارت السيارة بهدوء . . جيد . ! بتُ أجشع نفسي أكثر و أستذكر " جينس " و كيف قاد السيارة و قدتها معه . . أدرت المقود إلى اليمين إلى خارج الطريق لتكون بعيداً عن السيارات الطائرة . . أوقفت السيارة على بعد عدة أمتار عن الطريق . . تنفست الصعداء ، فقد وصلنا سالمين . . ابتسمتُ براحة . . - هديل . . هديــل . . ألتفتُ إلى الخلف بسرعة لأرى ما حصل . . صدرت منها ونين تقطع بآهات . . رفعت يدها بوهن وهي تمسك رأسها بملامح متوجعة . . همست بشيء لم يصل إلى أذنيّ . . هزت خالتها رأسها بالموافقة و أمرت أحمد . : - أجلب لي الماء . . أخذت تدور هديل بيديها المرتجفتين تبحث عن شيء في معطفها بينما أمها تردد . : - هداكِ الله . ! لقد طلب منكِ الطبيب أن ترتاحي . . كيف تقول لها ذلك وهي من أنقذنا من خطر عظيم . ! وجد أحمد أخيراً الماء وسط متابعة الأطفال الصغار لبحثه بعيون بائسة تنقل بصرها بينه و بينها . . سلم الماء لخالته . . أخرجت هديل حبات دواء ما من معطفها . . تناولتها ثم شربت الماء كمن سيموت عطشاً ، خرجت من بين شفتيها قنوات للمياه بللت معطفها . . قالت بصوت متعب وهي تدير عينيها حول الأشخاص الجالسين بجانبها و خلفها و أمامها . . أدارت بصرها الشارد إلى النافذة و أخذت تبحلق في الطريق القريب منا لولهة . . ضاقت عينيها بالتفكير . . و هي تبصر ازدحام السيارات التي بجانبنا . . امتلئ فجأة الطريق فجأة بالسيارات المتوقفة و أصوات أبواقها يثير الأعصاب . . قالت هديل و هي تفكر بصوت منخفض . : - نقطة التفتيش . ! تأوهت ثم استندت إلى الكرسي مرةً أخرى . . لاحظت أخيراً أننا جميعاً نراقبها حاولت أن تضحك رغماً عن ألمها الظاهر للعيان . . - في ماذا تحدقون . ؟ لما رأت صمتنا و أعيننا المشفقة و الخائفة ، قالت . : - لا بأس أنا بخير . . فتحت الباب دون أن تبالي بمحاولات خالتها في ثنيها عن النزول . . أغلقت الباب خلفها ثم استندت إلى سطح السيارة الأمامي تراقب السيارات . . أخرجت شيئاً من معطفها الذي بلا أكمام . . كانت خارطة صغيرة لشيء ما . . أظنه المدينة . . فتحتُ الباب ثم نزلتُ إليها . . كان من الواضح على هديل أنها تحاول أن تتماسك أمامنا و أنها متعبة بما فيه الكفاية ، فقد كانت تتمايل كأنها مصابة بالدوار . ! و تستند إلى سطح السيارة . . لم أنتبه إلى الفتاة الحامل و كلامها عن إحساسها المتزايد بالطلق ، إلا بعد لحظات من شخوص بصري على هديل . . ||| حاولتُ الصمود أمام صف السيارات المتحرك نحوي . . استندتُ إلى سطح السيارة ، أغلقت عيني بشكل مستميت . . ليس هذا وقت الدوار . ! تحاملت على نفسي و ألقيت نظره إلى صف السيارات . . يبدو أن نقطة التفتيش التي على بعد كيلومترين قد أعاقت تقدمهم . ! ليست بعلامة جيدة . . سنصل بعد خمس ساعات أن استمر تقدم هذا الصف بهذا الشكل . ! أمسكت رأسي محاولة القبض على هذا الصداع و الدوار اللذين لا ينفكان عن إزعاجي . ! يجب أن أتحمل .! ، يمكنني أن ارتاح و أنام إذا وصلنا سالمين . . فتشت في معطف أخي عن أي شيء مفيد . . وجدت خارطة بها تفاصيل تفيد الرحالين و قاطعين البراري و البحار . . كانت الخارطة دقيقة لا تغفل اسم شارع أو طريق إلا و ذكرته و تغطي المدن الكبيرة و الصغيرة و القرى المحيطة بمنطقتي . . وجدتُ الطريق الذي نسير فيه . . تتبعت بأنملة أصبعي الخنصر سيره . . كان يتفرع في النهاية إلى فرعين فرع يتجه إلى المدينة التي أقصدها و فرع يؤدي مدينة أخرى بعيدة كل البعد و سيتخذ قطع الطريق إليها في الأحوال العادية ثلاث ساعات . . هذا ليس جيداً البتة . ! كان أقرب شيء إلي هي مدينة صغيرة كانت قرية قبل أن تُطور قليلاً . . كانت هذه القرية بالاتجاه الشمالي الغربي على الخارطة . . تلفتُ حولي و الدوار بدأ يضللني من جديد . . أحتاج إلى بوصلة . . بوصلة . ! من المؤكد أن هناك واحدة ما في هذا المعطف . . أخذتُ أبحث و أبحث دون جدوى . ! - هديل . . سمعت صوتها المتحشرج الخائف من شيء ما . . التفتُ إليها ببطء و أنا استند إلى السيارة بضعف . . قلت لها و أنا أحاول جر الكلمات من حنجرتي جراً . . - ماذا . . هناك . ؟ قالت ريناد و الارتباك باد على وجهها . : - لا ادري . . آمال تقول بأنها الطلق يزداد عليها ، و تخشى أن تلد . ! لم أستوعب ذلك إلا بعد مضي هنيهات . . لكنها من المفترض أن تلد بعد أسبوع ، و ليس اليوم . ! بعد أن وصل المعنى الصحيح لعقلي الواعي صرخت . : - ستلد . ! الآن . !! لملمتُ الخريطة بسرعة و طويتها بشدة دون رحمة . . لا أدري أين وضعتها . ؟ ، و لا أدري أين ذهب ذلك الدوار و الوهن الذي كان يسكنني . . تبخرا و حل محلهما طاقة غريبة . . ركبتُ السيارة و كنت أحاول طمأنة آمال بكلمات لا أدري ما فحواها . . ألقيت نظره على من خلفي عن طريق المرآة المستحوذة على وسط الجزء الأعلى من زجاج السيارة الأمامي . . أدرتُ محرك السيارة و أنا أشاهد درجة الحرارة الرقمية . . و اتجاه السيارة ، انتبهتُ فجأة إلى وجود بوصلة في السيارة . . بوصلة . ! أدرتُ السيارة إلى الاتجاه المطلوب الشمالي الغربي وسط ذهول الموجودين . . بحثت عن الخريطة مرةً أخرى . . وجدتها أخيراً . . فتحتها و أنا أقلب بصري بينها و بين آمال التي كانت تصر على أسنانها بقوة . . سرتُ على بركة الله في مغامرة غير مأمونة العواقب . . و لستُ أدري إلى أين ستؤدي بي كل الطرق . ؟ قطعت بالسيارة عدة كيلو مترات . . دون أن تظهر تلك القرية بعد . ! ألقيت نظرة قلقة على مؤشر خزان الوقود كان يكاد ينفد . . وضعت يدي على رأسي أحاول بها تصفية عقلي من تلك الهواجس و منع أذني من سمع تأوهات آمال . . أبطئت السيارة من سرعتها رويداً رويداً حتى توقفت . . - ماذا . . هناك . ؟ - هل ضعنا . ؟ - لماذا توقفتِ . ؟ - هل أنتِ بخير . ؟ تطايرت الألسن تسألني . . وضعتُ يديّ على وجهي للحظة ثم مسحت وجهي بهما قبل أن تتحدان مع بعضهما و تقفان بين أنفي و بوابة شفتيّ . . كيف سأحل هذه المعضلة . ! رغم أن ما حلمتُ به لم يحصل لكنني الآن متوقفة في وسط البراري . . ضائعة و لستُ لوحدي ضائعة بل معي ثلة تاهت تحت قيادتي . . أحسستُ بيد تربتُ على كتفي ، التفتُ إليها بعين كسيرة . . كنتُ أرى صر أسنانها على شفتيها بين حين و آخر وهي تتحامل على نفسها و تحادثني . : - لا بأس ، ما دامت هذه الخريطة كانت لحسام فلابد و أنها صحيحة . . ترجلتُ من السيارة و بيدي الخريطة . . نزلت إلى الأرض بعينين شاردتين تعاين المكان بقلب مفطور . . وجهتُ بصري إلى الخارطة عدة مرات . . لماذا لم تظهر بعد . ؟ بحثتُ عن أقرب طريق يؤدي إليها . . كان حسب مقياس الخارطة يبعد مسافة كيلومترين تقريباً . . أنه بعيد . ! فلو سرتُ على الأقدام سيستغرق هذا ساعة و ربما أكثر . ! حدقتُ في الخارطة بعين بائسة و أنا أعض على شفتي بعجز . . كم أنا عطشه . . اتجهتُ إلى السيارة فوجدتهم يراقبونني جميعاً . ! آه . . جميعهم يعتمدون علي لا أريد أن أخذلهم في هذه اللحظة . . أشرتُ لهم و أنا اتجه إليهم بأن يحضروا لي الماء . . فتحت بسمة الباب و خرجت و معها الماء أعطتني الماء و كانت الشمس تقف فوقنا تهزئ بي و تسلط أشعتها الحارقة علينا . . ناولتني الماء . . تلقفته بسرعة و فتحت الماء لآخذ عدة رشفات متتابعة . : - لماذا توقفتِ . ؟ سألتني فتوقفت المياه في حلقي . . اختنقت بها ، ثم أخذت أسعل بشدة . . بينما كانت بسمة تربت على ظهري ، هدئت نفسي قليلاً . . آثرت أن أخبرها بالحقيقة على أن أكذب عليها و أخسر الوقت و الجهد . . أعطيتها الماء ثم بدأت أبحث عن بوصلة في هذا المعطف . : - لقد نفد الوقود . . لهذا لا يمكن أن تسير السيارة أكثر من هذا . . وجدتُ البوصلة أخرجتها من ذلك الجيب المخفي . . أطلعتُ بسمة على الخارطة و البوصلة و أخذتُ أشير لها إلى الطريق البريّ . . - لهذا سأقطع كيلو مترين حتى أجد سيارة تقلنا أو تجلب لنا الوقود ، سأعود إليكم بعدها لأقلكم . . الطعام ستجدونه في الحقيبة الحمراء بينما توجد كميات كبيرة من الماء في علب توجد في الحقيبة الرياضية الكبيرة ، ستجدينها أسفل الحقائب . . أخذا الماء منها و قلت . : - هذه سأبقيها معي حتى لا يصيبني العطش . . احتضنتها و كأنني أراها للمرة الأخيرة ، أعلم بأن ما أفكر به ليس بفكرة صائبة . . لكن ليس لدي حيلة . . استدرتُ و أنا اقبض على الخريطة في يد و في اليد الأخرى البوصلة . . ثم تابعت سيري . . كنت استرق لمحات من وجههم التي تتطلع إليّ . . رأيتُ أمي تحادث بسمة . . رأيتُ عيني أحمد المذهولتان . . رأيتُ أعين صغيرة تتبع تحركاتي . . و عينان شاردتان في لا شيء . . كانت أذني تصغي إلى كل صوت تتطلع إلى شيء ما . . أُصغي إلى صوت خطواتي فوق تلك الحصوات الصغيرة و أنا اطحنها . . أو . . تعيقيني . . أو . . يبقى كل منا واقف فوق الحصوات الباقية بشموخ عابر ينتهي بدفعة من أحدهم فنسقط و نتدحرج فوق من كنا فوقهم و من ثم نكون أسفلهم . . توقفت خطواتي على صدى صوت أمي التائه بين الحصوات الصغيرة و الفضاء الشاسع . : - توقفي . . لم استدر إليها حتى لا يتهاوى شموخي و أتمزق إلى ألف قطعة تتساقط و تتناثر بين تلك الحصوات . . أمسكت بكتفيّ من خلفي و قالت بصوت يملؤه الرجاء . : - لا تذهبي . ! أنتِ متعبة . . لم استطع أن أتابع سيري فقد دفعني أحدهم قبل هنيهة . . استدارت حتى واجهتني وهي تنظر بعمق في عيني الشاردتين في ذلك الفضاء الشاسع . . عندما لم يصدر مني سوى إيماءة مرتجفة تلكأت قبل أن تعبر شفتي للحظة . . سحبت أمي مني الخارطة و البوصلة . . عندها . ! انفجرتُ ببكاء مر . . و ومضات من حلمي الأسود تسيطر على مخيلتي . . بكيتُ و بكيت في حضني أمي . . و توالت شهقاتي و ارتجافاتي . . اكتنزتُ أمي بين يديّ . : - لا يمكنكِ أن تذهبي . ! لن أسمح لكِ بذلك أبداً . . كانت فكرة فقدان أمي تسيطر عليّ و صورتها وهي تسير بهدوء و تخلفني بين ذلك الدمار . . جذبتني أيديّ قوية ، جعلتني أصرخ كالمجنونة . . و صورة أمي تسير بين ذلك الدمار تتراقص أمام عيني . . عيني اللامعتين بدموعٍ تساقطت على وجنتي ، كمطر هطل على أرض جدباء . . كنت أصرخ بلا صوت . . و أراها بلا روح . . و كأن روحي غادرتني هي الأخرى و تبعتها . . ||| جرت ساعة من الزمن أمام ناظري هديل . . كانت تراقب ما حولها بجسد بلا روح و كابوسها يمضي عليها كـ ومضات أضحت حقيقة . . شعرت بيد آمال تمسك بيدها و تضغط على يدها بقوة حتى تحجر الدم . . حتى أصبح الجزء العلوي من يدها لا تشعر به . . التفت بقلب يكاد أن يقفز من جسدها . . الومضة التالية ، ستلد أختي آمال . ! تلبس لها ذلك الكابوس مرةً أخرى . . لكنه هذه المرة أمام ناظريها وهي بلا حول و لا قوة . ! خرجت آه عميقة من شدة ألم آمال و أخذ العرق يسيل منها . . انتبهت خالة هديل و هناء و بسمة و ريناد و كل من كان موجوداً إليها . . تقدمت خالة هديل إليها و قالت بمقلتين فزعتين . : - ماذا هناك . ؟ قالت هديل بشفتين مرتجفتين و عينان تشرفان على البكاء . : - لا أدري . . ربما أتاها المخاض . . و . . و . . ستلد . ! كانت خالتها تسأل آمال عن شعورها ، و هل حقاً أتاها المخاض . ؟ فتحت هديل الباب هاربةً من هذا الموقف . . و لأول مرة تقف هديل بجبن ، تراقب حالة آمال بلا حراك و بلا وعي . ! وقفت للحظات ، وثب في ذهنها أخيراً أن تخرج صندوق الإسعافات الأولية . . فتحت باب السيارة الخلفي . . و أخذت تبحث بين الحقائب و تصيح بالأطفال . : - ابحثوا عنها أنها زرقاء . . زرقاء . . أين هي . ! ؟ سلمها لها أحمد بعد أن وجدها بين أكوام الحقائب . . فتحت باب ريناد حتى تنزل خالتها و رمت بالحقيبة عليها . . كان رأسها يدور و ما تنفك التخيلات المشئومة عن الظهور في مخيلتها . . عادت إلى باب السيارة الخلفي من جديد ، بعد أن تنبهت أخيراً أن السيارة ليست مكاناً مناسب للولادة . ! لم ترى الانفعالات و التعبيرات التي اعتلت وجههم ، كانت تبحث فقط عن شيء ملائم لكي ترتاح عليه آمال ، عوضاً عن تذكُرها أنها لم تجلب معها أي غطاء أو وسادة . . وجدت شيء ما يمكن أن يستخدم كشيء يجلس عليه . . أخرجت الخيمتين الملفوفتين كل واحده على حده . . بسطتهما أمام باب آمال . . و وضعتهما فوق بعضهما . . كانت خالتها الواقفة بجانب آمال و بيدها الحقيبة تمسكها بلا وعي ، و تسأل آمال بين حين و آخر . . أخبرتها هديل أن تريح آمال على هذه الخيام ، ريثما تبحثان عن طريقة لحل هذه المعضلة . ! جلست خالتها و هي تمسك يد بيد آمال التي تصارع نفسها لإخراج الطفل . . بينما بقيت هديل بعيدةً عنهما تعضُ يدها و أصابعها و كل ما تتلقفه أسنانها بقلق . . أخذت تسير جيئة و ذهباً تفكر . ، ليست لديهم أي مؤهلات لاستقبال الطفل . . ليس لديهم وعاء و ماء نظيف . . و لا مقص مطهر . . و لم تعد لهذا الحدث شيء أبداً . ! يجب أن تنقلها إلى المدينة . . ، لكن كيف . ! ! ؟ استدارت إليهما بعد أن عبرت أخيراً فكرة ما . . دعت أحمد لينزل من السيارة و كذلك هناء و بسمة . . اصطفوا و قد عبث بهم الاضطراب و أخذ منهم ما أخذ . ! سألت هديل خالتها . : - في غضون كم تتوقعين أن تلد . ؟ - لا أدري . . التفت إلى آمال مرةً أخرى تسألها ثم قالت . : - ما زال الوقت مبكراً قليلاً ، ربما . . ساعة أو ساعتين . . أو أكثر . ! التقطت هديل الحقيبة الزرقاء و أدخلت بها ما احتواه صندوق الإسعافات الأولية . . ثم أمرت المصطفين بضم أطراف الخيمتين إلى بعضهما و كأنهما جزء واحد . . و طلبت من خالتها أن تبقى مع الأطفال . . - سنذهب بها إلى الطريق فقد تتلقفنا سيارة ما . ! و سأعتمد في اتجاهاتي على بوصلة الحقيبة . . ألقت خالتها نظره مستعجبة على البوصلة الصغيرة و التي كانت بحجم مفصل الإبهام . . ثم قالت . : - لا يمكنكم الذهاب بها هكذا . ! ردتْ عليها هديل وهي تحزم ما يمكنها أن تستفيد منه الكتب التي ابتاعتها ، ماء ، طعام . : - لكننا بذلك سنختصر المسافة و سنقطع الطريق في ساعة و نصف . . رفعت الطرف التي تمسك به ، ثم قالت بجدية و هي تحاول منع تلك الأفكار القانطة عن الظهور بين جنبات فكرها . : - أعدك . ! |
_ 6 _ ( المطر يهطل ) انطلقت بنا هديل بعد أن نطقت بوعد لأظن بأنها ستستطيع الإيفاء به . ! هذا الشعور كان يساورنا جميعاً ، و نحن نراقبُ أشعة الشمس المتوهجة حتى تعبت من ملاحقتنا فـ برد وهجها و ابتعدت إلى الغرب لتغادرنا هي الأخرى كما غادرنا الأمن و السلام و الكرامة . . تصدرتنا هديل بالمسير ، تجابه ذلك الفضاء الواسع . . و يديها متعلقتين بأسفل الخيمتين تقبض عليه بقوة حتى لا تفلتان من بين يديها . . رغم أنني مازلت أحمل عليها في قلبي ، لصراخها في وجه أمي و استقبالها الرائع لنا . !! إلا أنني لم أستطع لومها بعدما غادر أبها و تركهم لتعبث بهم الرياح كيف تشاء . . التقطت نفساً ساخراً من هذه الدنيا . ! فكل الرجال سواء أن أكرمتهم خذلوك و أن تجاهلتهم لحقوا بكِ ، و هكذا دواليك . ! أدرت بصري حول السماء النارية و قرصها المتوهج يلقي رمقه الأخير . . ستكون جميلة جداً أن كنت في وضع يختلف عن هذا . . سيكون جابر حينها يتأمل في السماء و يسرد فلسفته عن كيفية تكون الضوء أو عن جمال هذه السماء . ! بينما سيكون والدي يداعب أخي محمد و يضحك على أي نكتة يلقيها أحد الصغار رغم أنه قد سمعها للمرة المليون . ! لكن حالي و ما ألت إليه . . على هامش الحياة ، بقلبٍ يتلو التعازي على نفسه لأنه ينتظر أن تحل فاجعةً ما . ! يحاول أن يهيئ نفسه ليرتشف الألم وهو متلذذ به . ! أسير معهم . ، و قلبي يهيئ نفسه لموت أحدنا أو ضياعنا أو أن ينزل جيش من السماء ليلتقطنا ، و نصبح أسراه يلهو بنا كيف يشاء . ! كنت انتظر تلك اللحظة فقط . . أخطو بعقلي الشارد الذي يدور حول فلك ( كيف سيخلي ذاكرته ممن يحبهم و يرتب أموره مع وضعه الجديد ) . . - هناء , أتريدين أن تشربي ماءً . ؟ جرت لحظة حتى انتبه عقلي إليها و توقف عن التفكير . . ثم تناولتها منها و رشفة عدة رشفات متتابعة و بصرها لا يزال يراقبني . ! انتهيتُ ثم ناولتها لها و قلت مبررة و أنا أزيل عن فمي قطرات الماء . : - ربما تكون هذه المرة الأخيرة التي أرشف بها ماء صافي . . وجهتْ نظرة استعجاب إليّ ثم ناولت الماء إلى أحمد . . رشفه هو الآخر حتى أنهاه عن بكرة أبيه . . ثم أعادها إلى ريناد . . أطلت بها ريناد بعينين جاحظتين و قالت . : - ما هذا . . لقد أنهيتها . ! رد أحمد وهو يمسح قطرات العرق الملتصقة بجبينه . : - أنني متعب . . أننا نسير في هذه الخلاء لمدة ساعة و لم يظهر لنا أي شيء . ! ردت بغضب . : - كلنا متعبون . . و لكن هذا لا يعني أن تشرب حتى ينتهي الماء . ! توقفت ريناد عن السير و ملامح الغضب تجعد وجهها . . توقفت هديل فتوقفنا جميعنا ، التفت هديل إلينا بوجه كـ لون الليمون الأصفر و شفتين جافتين و قالت . : - ماذا هناك . ! ؟ جالت ببصرها علينا على بسمة الصابرة و أحمد المتعب و ريناد الغاضبة و أنا اليائسة . . أنزلت بصرها إلى آمال التي بلغ بها التعب حتى امتنعت عن الحديث و أكتفت بهمسات متعبة . . أنزلت هديل طرفها فأنزلناه معها . . اقتربت من آمال ثم جلست بجانبها بعجز و قالت هي تحاول البحث بعينيها عن قدر ألم آمال . : - هل أنتِ بخير . ؟ كيف تحسين . ؟ كانت تحادثها و كأنها في عالم آخر . . و كأنها ليست في وسط العراء . ! . : - سنصل للطبيب لا تقلقي . . لا أعلم أن كانت هديل تهذي أو في عقلها . . إلا أن حالها لم يكن طبيعياً و قد تناقلت العيون نظرات القلق ثم وجهتها إلى هديل . . عادت هديل إلى وضعيتها السابقة و شحذت قواها لرفع البساط لكن قواها خارت ، استدارات إلينا بابتسامة تهتز بتعب . . انعكس ضوءٌ على وجوهنا . . التفتنا إلى مصدر الضوء و مصدر سماع صوت تكسر الصخور الصغيرة تحت عجلات السيارة . . أشعت أضواء سيارة على أعيننا فأعمتنا عن رؤية صاحبها . . أغمضتُ عيني بشدة لأحميها من هذا الضوء الساطع . . توقفت السيارة ثم ترجل منها شخصان هبّا إلينا بسرعة . ! بينما ظهرت خلفهما سيدة بطرف حجابها المرفرف تركض إلينا . . وصل الرجلان إلينا بأنفاس لاهثة و هما ينظران بفزع إلى آمال . . اتضحت ملامح تلك السيدة تحت أشعة الشمس الآفلة . . كانت خالتي " والدة آمال " ابتسمتُ أخيراً ابتسامة لامعة بين هذه الظلمة . . هرعتْ إلى آمال ثم جلست بجانبها . . - هل أنتِ بخير . ؟ أومأت آمال بضعف بأنها بخير . . ألقيت نظره على هديل حتى أرى وجهها وهو يستنير بابتسامة . . تفاجئت بمظهرها . ! تعدا ( الشابين و خالتي ) هديل ، وهي مازالت ساكنه سكون الأشباح . . ابعد أحد الشابين هديل حتى يرفع البساط و يذهب بآمال إلى السيارة . . التفت هديل بعينين منفرجتين و فم جامد و وجهها قد توشح باللون الأصفر . . شخص بصري عليها ، كانت شبحاً بحق . ! لم تحرك ساكناً بل كانت تراقب بـ عقل لا يستوعب الكثير . . حمل الشابين آمال و اتجها بها إلى السيارة بينما لحقت خالتي بهما فتحت الباب ثم ساعدتهما في وضع آمال في السيارة . . عادت إلينا مهرولة و يمشي خلفها أحد الشابين و بيده علبة ماء بها سائل لم استطع تمييز لونه بسبب طغيان لون الشفق الأحمر . . توقفت خالتي و قالت لنا من بين أنفاسها اللاهثة ، أثناء وصول الشاب إلينا . : - معه بعض الوقود سـ يفي بإيصال السيارة إلى المدينة . . التقطت نفساً ثم نادت وهي تلتفت إلى موقع هديل . : - هديل . . هديـــل . . التفتنا إلى موقعها السابق فوجدنها قد غادرته جاريةً إلى تلك السيارة . . ||| بحثت عنهم في حجرهم فلم أجد أحداً في الطابق العلوي . . اتجهت إلى الدرج علّ أذني تعملان و تلتقطان أي صوت خافت أو حتى تشعر بـ وشوشة بسيطة حولي و لا أن أغرق في هذا الصمت . . أغمضت عيني بألم محاولة بيأس التخلص من ذلك المشهد المحروق على جبين ذاكرتي . . نزلت من الدرج و بحثتُ عنهم معتمدةً على بصري ، الحمدلله ، على الأقل ما زلت أُبصر . . حاولت نطق عبارة عل أن يسمعها أحد و حاولت ضبط صوتي عن طريق إحساسي باهتزاز حبالي الصوتية . . أُرخ صمتي بتاريخ آخر حرب خاضها الملكان . . ألتزمني شجاعة بالغة لمحاولة فعل ذلك و فُتح فمي للحديث بعد أن أغلق لمدة عشرين عام . . فتحت فمي لأتحدث ، شعرت بنقرة على كتفي أغلقت فمي تارةً أخرى . . استدرت إلى صاحبـ/ـة النقرة ، كانت منيرة تبتسم بشكل يثير عجبي . . قالت شيء ما لم تلتقطه أذنايّ و لم أستطع فك رموزه لسرعتها في الحديث . ! حينما رأت علامات الجهل بما تقوله ترتسم على وجهي أشارت إلى الصالة الداخلية المتوارية خلف حاجز ما . . ثم رسمت جهاز تلفاز و صنعت وهم مشاهدته . . هززتُ رأسي بالفهم . . ثم توجهت إلى الصالة . . ظهرت لي ظهورهم و وجههم المتسمرة على جهاز التلفاز . . كانوا متحلقين حوله و الخوف قد لعب في قسمات وجوههم . . ألقيت نظرة على ما يشاهدونه . . و لم أستطع تحمل رؤية ما حصل لي . . يتكرر أمام عينيّ . . / . . أراحتها على الأريكة و هي تخبر أبناء خالتها الابتعاد عنها . . استندت ركبتيها على الأرض و تعلق بصرها بـ هبة . . حالتها الصحية أصبحت هشة ، و ازداد فقدانها لوعيها هذه الأيام . . و ودعتها شهية منذ فترة ليست بقصيرة . ! جلبت أمها الماء البارد و منشفة صغيرة . . قامت رهام عن الأرض لتفسح لأمها مجالاً للجلوس . . قالت بينما تغرق أمها المنشفة في الماء البارد و تعصرها لتخرج الماء منها . : - أمي . . ما بها هبة . ؟ ، لماذا يغشى عليها إذا رأت شيئا ينتمي للحرب . ؟ وضعت والدتها المنشفة على جبهة فتاتها المتعبة و هي تناضل دمعة لتبقيها في محجرها . . و لتحاول نسيان تلك الليلة السوداء التي يتهربون من ذكرها جميعاً ، خاصةً أن هبة فقدت سمعها في تلك الليلة . ! التقطت المنشفة المبللة من يد والدتها المرتجفة . . زفرت ما كدّر صدرها لتجدد الهواء الراكد ، حلت محل والدتها و أخذت تغرق المنشفة و تعصرها ثم تضعها على جبهة هبة ، وهي تراقب تقاسيمها الجامدة . . أطفئت والدتها التلفاز بعد أن شاهدت الدمار الذي حل بالعاصمة . . و الذكريات ترتد إليها تنهش قلبها ، كانوا في تلك الليلة يغادرون منزلهم القاطن في العاصمة . . عادت إليها صورة المنزل . . زجاجه الذي قد تكسر رغم محاولات الأكياس البلاستيكية التشبث بإطار النافذة عن طريق الشريط اللاصق . . التقطوا ما خف وزنه و غلا ثمنه سواء كان مادياً أو عملياً ، ركبوا السيارة و انطلقوا إلى البحر ليصعدوا على آخر سفينة تغادر هذه الجزيرة المنكوبة . . أوقفوا السيارة بجانب البحر ، و أشاروا للسفينة المنطلقة أن تنتظر للحظات حتى يصعدوا على قارب صغير يوصلهم إليه . . نزلوا و أصوات صفارات إنذار الحرب تصم أذانهم ، اتجهوا بسرعة إلى القارب الوحيد . . رغم أن الليل في أشد حلكته إلا أن نيران الصواريخ التي تلحق بالمدنيين البريئين تفتك بهم و تحيطهم و تنير سمائهم بنيران مختلطة برماد . . صعد الجميع على القارب عدا الطفلة هبة المرعوبة . . أشار لها والدها بالإسراع و اللحاق بهم . . جرت إليهم بسرعة و جفنيها يضمان محجريهما بقوة . . لم تكن ترى ما أمامها . . تعثرت بشيء ما و كان أخرى ما سمعته صوت انفجاره . . انفجر اللغم تحت قدميها الصغيرتين ، هبّ والدها إليها و حملها بين يديه بملابسها الممزقة و جلدها المحترق و وجهها المتضرر . . لم تكن تلك الفتاة التي بين يديه فتاته أبداً . . |
صحا من غفوته وهو يبتهل إلى الله أن يكون هذا كابوساً مزعجاً . . رفع رأسه ليستكشف المكان الذي يجلس به . . ظن أنه في سيارة تركي ، كاد يشك في صحة ظنه لولا أنه رأى الخرائط و مستلزمات الرحلات في المقعدين الخلفيين . . نفض رأسه حتى ينثر الكابوس بعيداً عنه . . رأى تركي يحادث بعض الأشخاص ذوي زي الحربي ، كانوا كما يبدو يصرخون عليه و هم يشيرون إلى قصر الشاطئ الكبير العائد لأسرة تركي . . ترجل من السيارة ليرى ما الخطب . ؟ ! أثار عجبه السيارات العسكرية المصطفة في مواقف القصر الشاطئي . ! وصل إلى تركي و أرخى أذنه ليسمع ما يقولون . . كان أحد الضباط يصرخ عليه و يقول . : - هذا ملكٌ للدولة تم التنازل عنه من قبل صاحبه ، و أن كنت تعارض هذا الشيء أنضم إلينا !! ثم لا أرى أنك مريض ، هل هربت من الجيش و أنت تدعي المرض . ! تجهمت وجههم بشكل مخيف . . تراجع تركي بجبن إلى السيارة فـ لحق به عبد الله ، أغلق الباب ثم انطلق بالسيارة و سارا على الطريق . . قال تركي بصوت مسئول . : _ أحسن الله عزائك . . فغر عبد الله فاه متفاجئاً وهو يستعيد ذكريات ذاك الصباح الرمادي . ! أضاف تركي . : - سنتجه إلى كوخي الصغير ، لا أظن أنهم نالوه . . فتح جهازه الإلكتروني ليرى موقع الكوخ على الخارطة الإلكتروني . . بحث عنه و بحث ، لكنه لم يجده . ! ألتفت بوجه مرعوب إلى عبد الله و قال . : - هل تعرف أين ذلك الكوخ . ! ؟ لم ينبس ببنت شفة بل اكتفى بطرح أمطار ملحية من غيمتين سوداوين تحدقان فيما خلف ذلك الزجاج . . ||| حل المساء و سحبت الشمس آخر خيوطها . . وصلت السيارة ذات الحوض الخارجي إلى المستشفى . . ترجلت هديل من مقعد السيارة منطلقةً بأقصى سرعتها إلى المستشفى تستدعي طاقم تمريض أو أي أحد لجلب سرير لـ آمال . . ترجل مُحسن من السيارة و أشار إلى أخيه ذو الأربعة عشر عاماً ، أن يقود سيارة هؤلاء النسوة إلى منزله خاصةً بعد أن أصبح منزلهم الكبير ملجأ لمنكوبيّ العاصمة . . ربما لحسن حظ هذه العائلة أنه كان يقوم بنقل الوقود ليملأ به سيارة أخيه المركونة بجانب المنزل . . استطاع بلمحة أن يعرف بأن تلك الفتاة التي جلست بجانبه ، لم تنم نومً هنيئاً منذ أيام و لم تضع في فمها طعاماً منذ مدة طويلة . . كانت شاردة الذهن طوال الوقت و تفرك الجزء الظاهر من عصبةٍ لُف بها رأسها . . أُحضر السرير و سارع الطاقم بجلبه ، ليقلوا به الفتاة الحامل إلى داخل المستشفى . . دخل الجميع بينما بقي هو ، بقى يتأمل ذلك البناء الذي حفظ حجراته و حفظ مرضاه المداومين على زيارته كما حفظوه . . كان يود أن يصبح طبيباً بدلاً من أن يكون مريضاً بلا حول و لا قوة . ! لكن شاء الله . ! دخل وهو مقتنع بأن هذه هي إرادة الله . . اتجه إلى قسم النساء و الولادة ليرى ما الذي حصل معهم . . كانت والدة الفتاة الحامل قد دلفت مع ابنتها إلى حجرة الولادة بينما بقت الفتاة المتعبة تنتظر على كراسي الانتظار . . تسند وجهها الليموني إلى يدها الواهنة . . و يسقط رأسها بين حين و آخر غافياً ثم تستيقظ بسرعة تلتفت يميناً و شمالاً ، دون أن تنتبه لجلوسه أمام الكرسي المقابل لها . . شعر بالشفقة عليها و ودّ لو ارتاحت قليلاً ، أسقطت رأسها أخيراً لتغفو دون مقاومة . . عم السكون و لم يجد شيئاً ليقطع به هذا السكون ، فكر عما تفعله والدته الآن و من المؤكد أنها تحكي لهم عن قصة حصولهم على هذا القصر و بكل فخر . . قطع تفكيره سماعه لصياح طفل ، ابتسم ابتسامة واسعة فرحة ( فالحياة مستمرة رغم أنفها ). . انتبه إلى الفتاة التي استيقظت على صياح الطفل ، أدارت بصرها حول المكان بلا استيعاب توقف بصرها لولهة عليه ثم على حجرة الولادة . . قامت على أمشاط أقدامها مسرعةً إلى باب الحجرة . . ظهرت والدتها وهي تحمل الطفل قائلةً بفرح لأبنتها . : - إنه صبي . ! إنه عبد السلام . ! ابتسمت الفتاة بفرح متعب ثم قالت وهي تداعب الوليد بأنملة أصبعها . : - كيف حال آمال . ؟ - إنها بخير و الحمد لله ، لكنها ستبيت الليلة هنا . . سكتت الأم للحظة تأملت بها وجه ابنتها ثم أضافت . : - اذهبي إلى المنزل لترتاحي و سألحق بكِ غداً . . ابتسمت هديل بسخرية و قالت . : - أي منزل تتحدثين عنه . ؟ هبّ محسن إليهما و قال متدخلاً . : - منزلي ، يمكنكم المبيت فيه كما أن أفراد عائلتكم المتبقية قد ذهبت إلى هناك . . هزت هديل برأسها نافيةً تلك الفكرة . . و قالت . : - لن أذهب إلى هناك . ! ردت والدتها . : - لكن يجب أن . . قطع حديثهم خروج الممرضة التي تناولت عبد السلام من يديّ أم هديل و قالت . : - إنه يحتاج لبعض الفحوصات . . ألتفتت إلى أم هديل ثم أضافت . : - أبنتك تحتاج إليكِ . . دخلت والدتها و تركتها مع ذلك الشاب الغريب عنها . . قال لها مستفسراً . : - هل نذهب . ؟ تجاهلت هديل سؤاله و اكتفت بالجلوس على كراسي الانتظار مغمضةً عينيها تنشد الراحة . . جلس على الكرسي المقابل لها يتأمل ملامحها المجهدة . . اقترب منها و قال . : - عذراً . . فتحت عينيها بصعوبة و قالت . : - نعم . ! أشار بيده إلى إحدى الممرات . : - توجد هناك حجرة للمرافقين يمكنكِ أن ترتاحي بداخلها . . قامت وهي تحاول صلب جسمها ، تبعت خطواته حتى دخلت الحجرة التي أشار عليها . . قالت قبل أن تقفل الباب خلفها . : - أخبر والدتي بأني أرتاح هنا . ! أغلقت الباب ثم قفلته قبل إجابته . . أرخت حجابها ثم نامت على السرير دون أن تعير انتباهاً لما يوجد بداخل الحجرة . . / . . استيقظتُ و رأسي مستند إلى زجاج نافذة سيارة . . ألتفتُ حولي بعينين تجتهدان لرفع أجفانهما ، كانت أمي بجانبي و تتليها آمال المتعبة و طفل صغير . ! بدأت مقتطفات من الليلة الماضية تظهر ، استذكرت طرقُ الباب و استيقاظي بسرعة و ركوبي السيارة بلا وعي ، و وقوعي في النوم مرةً أخرى .. توقفنا عند منزل كبير أشبه بقصر قديم . . ترجل السائق من السيارة قائلاً بابتسامة . : - تفضلوا . . ترجلت من السيارة و أنا أتأمل مظهر المنزل . . ولجنا إلى منزله أو أن صح التعبير ملجأه . . كان المنزل مليئاً بالأطفال الذين تهافتوا لتحيته مادين أيديهم إليه . . وزع عليهم الحلوى طفلاً طفلاً بابتسامة واسعة . . أتت إحدى السيدات و بيدها ملعقة غرف الطعام و قالت . : - نسي فريد إحضار الطماطم . . هلّا اشتريته من الدكان . ؟ أومئ برأسه موافقاً و قال . : - حسناً . . تبعته والدتي وهي تسند آمال إليها . . توقفنا لدى باب فتحه بعد طرقه ، ظهرت لنا حجرة كبيرة الحجم ، جلسوا بها خالتي و أبنائها و بسمة و أختها و أحمد . . قال مبتسماً بعد أن ترك أكرة الباب . : - اتخذوا هذا المنزل كـ منزلكم . . وجه حديثه لأحمد قائلاً . : - أحمد . . يمكنك أن تبيت معي و مع أخي ، قال قبل أن يغادر . : - عن أذنكم سأذهب لشراء الطماطم . . خرج بعد أن أرسل ابتسامة واسعة إلينا . . قام الجميع من فوق السرير الوحيد ، استلقت آمال عيه و تمدد عبد السلام بجانبها بقبضته الصغيرة المتمسكة بأصبعها الذي يبدو ضخماً مقارنةً بيده الصغيرة . . تسللت أحاسيس رائعة إلى صدري ، و كأن الحياة قد بدأت من جديد . . عبث هذا المشهد في وجوهنا فصنع ابتسامة مرتاحة هانئة غابت عنا ، و تحلقنا حول ذلك الضيف الجديد . . . . ضرب الجرس الذي فاجأنا و أثار استعجابنا و وصل إلى مسامعنا صوت سيدة تصرخ و تقول . : - وقت الغداء . . الغــداء . . طعام . . طعام خرج الجميع بينما بقيت أداعب عبد السلام بجانب آمال . . دخلت السيدة بعد طرقها للباب و قالت مبتسمة بسماحة . : - عزيزتي ، لقد حان وقت الغداء ، تعالي شاركينا في قاعة الطعام . . وضعت حافظة طعام بجانب سرير آمال و علب معدنية و قالت . : - هذا غدائها . . و هذه العلب بها أدوية شعبية لفترة ما بعد الولادة ، ستفيدها بإذن الله . . ابتسمت بحنان وهي تمس أرنبة أنف عبد السلام النائم و قالت . : - هل سميتموه . ؟ قلت و أنا أضعه بجانب آمال النائمة . : - عبد السلام . . علقت قائلة . : - اسم جميل . . نهضتْ و سرتُ معها إلى قاعة الطعام ، مررنا خلال ما قطعناه بعدة أزقة تغص بالأبواب المطلة على الحجر . . كان ذلك المنزل قصراً بحق . ! أصغيت إلى ما تقوله تعليقاً على استعجابي من عدد الغرف . : - لقد كان هذا القصر للملك ، الملك السابق و ليس أحد ابنيّه . . توارثته عائلتنا حتى وصل إلينا . . الجناح الذي تبيتون فيه هو الجناح الخاص بالملك سابقاً لذا لا ترين به الحجر متراصة بل واسعة ، و كما ترين كل هذه الأزقة امتلأت بالناس المتشردين أبناء هذه الحرب . . سألتها بعد أن ولجنا إلى قاعة الطعام التي تبدو بحجم صالة طعام لقاعة أفراح . : - جميعهم من العاصمة . ؟ قالت بينما كنت أدير بصري على الأطفال الصغار و المصابين الذي يتناولون الطعام و كأنهم لم يتناولوا طعام قط . ! - من العاصمة و من المدينة السهلية . . - المدينة السهلية . ! ؟ ثم أضافت موضحة . : - ألم تري الأخبار . ؟ ، تعرضوا بالأمس للقصف بالنيران و قد ورد بالأخبار أن جيوش الأعداء قد اقتحمت العاصمة . ! قلبت نظري بين هؤلاء الضحايا و المنكوبين و يدي تمسك بصحن الطعام . . وصل دوري غرفت لي أحد السيدات الأرز و وضعت لي أخرى المرق و اللحم . . أشارت لي والدتي إلى مكانها ، جلست على الأرض بجانبها و أنا أحاول مضغ الطعام دون الشعور بالمرارة كلما رأيت هؤلاء الضحايا . . جرفت حبات الأرز الصغيرة لصحن محمد ، ابتسمت لي خالتي شاكرة . . ابتسمت بسخرية و عيني تحيط بالشخوص ، المبكي حقاً أننا نخوض الحرب طمعاً في النفوذ و السلام الأبديين . ! وهذا ما نناله . ! بعد انتهاء الجميع من الغداء رفع كل شخص صحنه الفارغ أو الأشبه بالملحوس ليضعه فوق طاولة مخصصة لذلك . . ذهبوا الفتيات لرفع بساط الغداء بينما ذهبت السيدات لغسل الأطباق . . أعنتهم في العمل حتى انتهينا منه . . كانت القاعة ممتلئة بالنساء اللاتي ذهبن إلى حجرهن و لم يبقى إلا النزر القليل ممن يقوم بتبادل الأحاديث و الأخبار و التوقعات إلخ . . دخل أحمد ومعه محسن و أخوه . . توجه أحمد إليّ بينما ذهب محسن و أخوه إلى والدتهما . . وضع أحمد مفتاح على يدي ، سألته . : - هذا مفتاح لـ . ؟ ابتسم وقال . : - لـ سيارتكِ أنسيتِ . ! توجهت إلى جناح المحتوي على حجرتنا سألته بينما نسير في الطريق و يدي تلعب بالمفتاح و ترميه من يد إلى أخرى . : - و لِم هو معك . ! ؟ - ليعلمني فريد قيادة السيارة . . توقفت لولهة ثم استدرتُ إليه . : - فريد . ! أومئ رأسه بحماس قائلاً . : - نعم . . فرغم أنه أصغر مني بسنة إلا أنه يستطيع قيادة السيارة بطريقة محترفة . . تابعت سيري إلى الحجرة و أنا أفكر في صغر سن فريد . ! فـ لو كان في العاصمة لما أستطاع أن يقود دراجة . ! من شدة الزحام . ! . . حزمتُ حقائبنا لمغادرة هذا المكان بعد أن لبثنا فيه عدة أيام ، حتى تعافت آمال قليلاً . . وضعت آخر حقيبة بداخل السيارة و أغلقت بابها الخلفي . . أتاني فريد و بيده كيس أسود . . ناولني إياه قال مبتسماً . : - هذا لحم طازج ذبح للتو هديةً منا . . تناولته منه على استحياء و قلت . : - نحن من يجب أن نشكركم على سعة صدركم . . ركبتُ السيارة و أغلقت الباب بعد أن تأكدت من ركوب الجميع . . لوحت لهم بابتسامة أمل تحاول المحافظة على شمعتها المشتعلة تحت المطر . . خرجنا إلى الطريق و أيديهم تشيعنا مودعة . . و من يدري فقد لا نراهم مرةً أخرى أبداً . ! سرت على الطريق الطويل المؤدي إلى منزلنا الصغير . . ذلك المنزل الذي أختاره حسام بعناية مراعياً خصوصيتنا و قربة من موارد الحياة . . كان موقعه مميزاً لمن يريد أن يرتاح و يبتعد عن ضوضاء المدينة و يتمتع بصوت هدير البحر الساحر . . و رغم سعره المرتفع إلا أن أبي دفع مبلغاً كبيراً من المال لأجل ابنه الوحيد الذي جلبته امرأته التي أحبها ، صعقتني هذه الحقيقة . ! حينما أدركتها . . لم أعي دوماً السبب الذي كان أبي يفضل حسام علينا إلا بعد أن سمعت دعاء أمي له ليلة الأمس . . أصغيت إلى بكائها الممزوج بعدة كلمات ثلاثةٌ منها فقط هي من صعقتني . . و التي كانت . : ( ربي أنت تعلم أن حسام ليس قطعة مني و لم يكن ابني . . لكنه عبدك الضعيف اليتيم . . ) عند سمعت تلك الكلمات أدركت عندها تفسيراً لكثير من الكلمات الملغمة و فهمت الكثير و الكثير من المواقف كما يجب . . ابتسمت بسخرية . : عش يوماً ترى عجباً . ! أرجأت تأكدي من هذه المصيبة لصباح الغد أن كتبت لي الحياة . . قطع تفكيري مرور الكثير من السيارات العسكرية و دخولها منطقة للقصور الشاطئية الخاصة . ! توقف بصري على منارات تلك القصور . . يبدو أنها أضحت مُلكً للدولة . ! ، أرجو أن لا يلحق هذا بمنزلنا . ! سرت على طول الطريق إلى أن وصلت إلى منعطف منزلنا . . سرت عدة كيلو مترات لم تظهر خلالها أي سيارة عسكرية ، ساهم ذلك في تهدئة روعي قليلاً . . أوقفت السيارة بجوار المنزل و أنا ابتسم بسعادة فـ طالما كان هذا المنزل بمثابة جنة الله في أرضه بالنسبة لي . . ترجلت من السيارة و عيني تتابع أطياف الذكريات السعيدة . . هنا كنت ألعب و هناك على ذلك الشاطئ بنيت أقبح قصر رملي . . ضحكت في سري حينما تذكرت تعليقاتهم عليه و بكائي لذلك . . ابتسمت بسعادة غامره و أنا استنشق نفساً عميقاً عبق بعبير البحر . . غمر البحر جزء من قدمي ، غمرها و كأن الأيام لم تمر و لم أُصبح على هذه الحالة . . مازال مائه بارداً يروي القلوب بالسحر و يغذي الجروح ملحاً يحييها و يشفيها . . ذو وجهين جميلين . . رغم كل شيء . . عدتُ إليهم ، كانوا يضعون الحقائب بالأرض و جزء منهم يقف عند الباب بانتظاري . . هرولت إليهم فقد نسيت فتح الباب . . وصلت إليهم بنفس لاهث و قلت معتذرةً . : - آسفة نسيت نفسي . . و بدلاً من بحث مطول عن المفتاح في سترتي أو بالأصح سترة حسام . . بحثت عن المفتاح بجانب الأحجار ، وجدته تحت أحد الأحجار . . فتحت الباب و أنا أحاول تفسير العبث الموجود على الرمل المجانب للأحجار و آثار أصابع آدمية . ! ألقيت نظره متفحصة على المنزل ، لا يبدو أن هناك شيء تبدل أو وضع في غير مكانه . . كان كما كان قبل خمس سنوات . . صعدت بسرعة إلى حجرتي ، استقبلتني تلك الفراشات الصغيرة الجميلة التي صنعتها بيدي هاتين بينما علقها حسام على السقف . . ابتسمت لسيل الذكريات و يديّ تقلب الفراشات بين أصابعها . . و كم ثار عجبي حينما وجدتُ إحداها مجعدة مشوهة بطريقة بشعة . ! العبث بالرمال . ! آثار الأصابع . ! الفراشة المشوه . ! أيعقل أن يكون أبي قد مر من هنا . !! |
_7_ ( التقينا ولو بعد دهر ) توقفا لدى إحدى المزارع التي تبدو مهجورة يحيط بها أشجار مهملة إما آفلة أو ميتة . ! ترجل تركي من السيارة وهو يضرب في جهازه و يلعن الخارطة الإلكترونية التي خذلته حينما احتاج إليها ، كان متشبعاً بالندم و القهر . . و ودّ لو حدد موقع ذلك الكوخ " القبيح " على الخارطة التقليدية . . تقدم حتى تعدا سور المزرعة المنهار جزئياً أو كما يبدو كلياً . ! خلع نظارته الشمسية بعد سقوط ظلال الأشجار المهملة عليه . . كانت تلك المزرعة مخيفة و موحشة كالزريبة إذا شاهدت قشورها ، لكن كلما تعمقت فيها كلما اكتشفت سحر و جمال لبها . . أشجار التفاح الأحمر تتوسط البستان بينما تحيط بتلك الأشجار أشجار مهملة متعبة ، كان ذلك المنظر عجيباً و غريبا . ! توجه إلى إحدى الشجيرات المثمرة و قطف تفاحة ناضجة تغريك لـ التهامها . . فركها بملابسه ليزيل عنها ذرات الغبار و صديقتيها ، قضم منها قضمة . . - ألم تتعلم من والديك أن السرقة حرام . ؟ ألتفت و التفاحة متعلقةٌ بأسنانه إلى مصدر الصوت ، إلى ذلك الذي رسمت عليه خطوط الزمن ، ذا الحاجبين اللذان يكودان أن يسقطا على عينيه بينما جذبت الجاذبية الأرضية ظهره تاركةً إياه يعتمد على عصاً غليظة حتى لا يسقط عليها . . قال تركي بعد أن أكمل قضمته الثانية . : - أهذا التفاح يعود لك . ؟ أشار الشيخ لأشجار التفاح الشهي المنتشرة حولهما . . - نعم . . أنت قد أخذت مني مالا ليس به لك حق و . .. قطعه تركي بإخراج الخريطة و قال وهو يقضم من التفاحة مرةً أخرى . : - أخبرني عن الطرق البرية المتفرعة من هذه الطرق المسفلتة . . أتجه الشيخ إلى شجرته التي سرق منها ثمرها . . قال وهو يمسح على جذعها بيده التي أكل عليها الدهر و شرب . : - سيكون عقابك على سرقتك تفاحتي هو قطف ثمار هذه الشجرة و وضعها في هذا الصندوق . . أشار إلى الصندوق . . ثم أضاف وهو يشير إلى أشجار البستان . : - أما كوني دليلا لك ، فهذا ليس بالشيء المجاني . . إذا قطفت لي ثمار هذه الأشجار عندها سأخبرك بما تريد و يزيد . . واجهه تركي بوجهٍ تعلوه علامة تعجب . . : - ماذا تقول . ! ابتسم الشيخ ابتسامة جعدت جلده الرقيق راسمة خطوط إضافية حددها الزمن و تفنن في التوائها . : - لكل شيء ثمن . . رمى تركي بقايا التفاحة المقضومة دون أدنى اهتمام و رحل بالسيارة باحثاً بنفسه عن الطريق المؤدي إلى الكوخ . . . . ولجت سيارته بعد ساعتين من البحث المضني ، مخترقةً خلوة الشيخ الذي اعتلت وجهه ابتسامة منتصرة . . ترجل الشابان إحداهما يبدو حانقاً منكس الرأس بينما الآخر يمشي على هونه يحدق في لا شيء شارداً تارة و مبتسمً باكياً تارةً أخرى . . تقدم تركي و قال . : - ماذا تريدنا أن نفعل . ؟ أشار الشيخ إلى الشجرة التي ميزها بالنظر إلى جذعها فقط و قال مشيراً بسبابته إليها . : - أبدأ بقطف التفاح من الشجرة التي سرقتها أولاً . . اتجه تركي إليها صاغراً بينما تبعه عبد الله باستكانة . . - أنت . !! توقف تركي و توقف معه عبد الله . . استدار إليه فرحاً ظناً أنه قد عدّل من رأيه . : - نعم . . قال شيخ وهو يحاول التقاط ملامح عبد الله بعينيه الضعيفتين . : - ليس أنت بل هو . ! أشار إلى تركي ثم قال حانقاً . : - أنت من سرقت و أنت من سيتحمل مسئولية فِعلك لوحدك ، فليسترح هو . . أم هذا الصندوق الفراغ أريده أن يمتلئ بالتفاح حتى يفيض به . . قال موجهاً حديثه إلى عبد الله . : - تعال يا بني . . نقل عبد الله بصره بينهما ثم توجه إلى الشيخ . . أرخى الشيخ عصاه ثم جلس مستنداً إلى الجدار ماداً رجليه الضعيفة الواهنة فوق البساط ذو ألوان الباهتة . . أشار لـ عبد الله بالجلوس و قال . : - ما بك يا بني . ؟ أراك شارد الذهن و في حالة لا تسر عدواً و لا صديق . . بني ، لا تحزنْ منْ كدرِ الحياةِ ، فإنها هكذا خُلقتْ . إنَّ الأصل في هذه الحياة المتاعبُ والضَّنى ، والسرورُ فيها أمرٌ طارئٌ ، والفرحُ فيها شيءٌ نادرٌ وقال النبي قال عبد الله بصوت حزين وهو يخرج نفساً كدر صدره و يحاول أن ينصت لكلام ذلك الشيخ الذي لا يدري ما به و لو علم لم لامه أبداً . : - عليه الصلاة و السلام . . تابع الشيخ حديثه رغم رؤيته لتعبير عبد الله الغير مقتنع . : - (( الدنيا سجنُ المؤمنِ ، وجنَّةُ الكافرِ )) جفَّ القلمُ ، و رُفعتِ الصحفُ ، و قضي الأمرُ ، و كتبت المقادير ، ﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا ﴾ ، ما أصابك لم يكنْ لِيُخطئِك ، وما أخطأكَ لم يكنْ لِيُصيِبك . يا بني ، لقد فقدت زوجتي في الحرب الماضية قبل عشرين عاماً و توفيت أبنتي بسبب مرض السرطان وهي بعمر الزهور ، تتألم و تعاني حتى أراحها الله بموتها . . أما ابني الوحيد فهو في عداد المفقودين منذ خمس سنوات . . منذ خمس سنوات و أنا أعيش لوحدي دون زوجة أو ابن أو ابنة ، كان هذا قدري الذي يجب أن أرضى به . . و لم يرجع بكائي و سخطي زوجتي و لم تعد صرخاتي أولادي إلي . . بني ، لا تظنُّ أنه كان بوسعِك إيقافُ الجدار أن ينهار ، وحبْسُ الماءِ أنْ ينْسكِبُ ، ومَنْعُ الريحِ أن تهبُّ ، وحفظُ الزجاج أن ينكسر ، هذا ليس بصحيحٍ على رغمي و رغمك ، وسوف يقعُ المقدورُ ، وينْفُذُ القضاءُ ، ويحِلُّ المكتوبُ ﴿ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ﴾ هذه هي الدنيا دار عمل و تعب أما الراحة الأبدية سنجدها في الجنة إن شاء الله . تابع الشيخ حديثه على هذا المنوال رغم شرود ذهن عبد الله . ! أعلنت الشمس عن رحيلها و تصدر لون الشفق صدر السماء . . نادى الشيخ تركي الواقف فوق جذع الشجرة يقطف التفاح متذمراً . : - بني . . بـــنــي . . أقترب الشيخ من الشجرة ، ألتفت في تلك اللحظة تركي يمني نفسه بأنه قد أسِف عليه و أخذته الشفقة به ليوقفه عن العمل . . - يا بني . . توقف عن العمل . . - حقاً . ! قفز تركي من الشجرة فرحاً دون أن يحسب المسافة التي بينه و بين الأرض . . سقط على قدميه بقوة ، صرخ متألماً . . ثم ابتسم حينما دنا منه الشيخ و قال . : - هل أنت بخير . ؟ أومأ بـ نعم و قال . : - أنا بخير . . هل قُلت أتوقف عن العمل . ! ؟ استند تركي على الشجرة ليقف . . قال الشيخ مؤكداً حديثه . : - نعم توقف عن العمل لنصلي المغرب و من بعدها ستستأنف العمل . . هبط تركي جالساً على الأرض و خيبة الأمل تطفح على وجهه . : - ماذا قُلت . ! ؟ - قلتُ فلنصلي . . اتجه الشيخ إلى داره المستند إلى حائطها عبد الله الحزين . . نقر على كتف عبد الله ثم أشار إلى باب داره قائلاً . : - تعال توضأ للصلاة و أطلب الرحمة لهم . . رفع عبد الله رأسه و استغرق عدة لحظات حتى يفهم ما قال الشيخ ، وقف بجانبه ثم تبعه إلى داره . . ولجا إلى دار بسيطة يجد الوالج على يمينه جلسة أرضية بوسائد متشتتة هنا و هناك جزءٌ منها قد خرج قطنه من بين ثقوب القماش . . - هذه الوسائد حاكتها زوجتي بنفسها لذا لم استطع رميها بأي حال من الأحوال . . ابتسم الشيخ بعد توضيحه لـ عبد الله سبب إبقائه على هذه الوسائد في مجلسه ، اتجه به إلى المغاسل ليتوضآ لصلاة المغرب . . ولج تركي إلى داخل الدار وهو يعرج و يسب و يشتم كونه بين يدي هذا العجوز ، ذهب باتجاه صوت تدفق المياه ، وجدهما يتوضأن محتلين المغسلتين الوحيدتين . . انتظر حتى انتهى عبد الله ثم حل محله و فتح الصنبور . . - كيف كان شعورك و أنت تقطف التفاح . ؟ رد تركي على العجوز بينما كان يمرر الماء على ذراعيه . : - بائساً . ! - و لِم . ! ؟ ألم تستمتع بجنيه . ؟! سأله تركي بعد أن أغلق الصنبور . : - إلى أين تتجه القبلة . ؟ تقدم الشيخ إلى خزانة عتيقة و أخرج منها سجادتين عتيقتين فاخرتين رغم مرور الزمن عليها . . فرشهما باتجاه القبلة ، إحداهما بسطها بالطول و خلفها سجاده أخرى فُرشت بالعرض ، ثم قال . : - يا ذا النظارات السوداء ، ستكون أنت إمَامَنا . . قال تركي ذو النظارة الشمسية المتعلقة بجيب قميصه . : - أنا . !! - نعم . . دفعه الشيخ بيديه الواهنتين إلى السجادة المفروشة بالطول حتى وقف عليها و قال موجهاً حديثه لـ عبد الله . : - لا توجد لدي إلا سجادتين لذا سنصلي معاً على هذه السجادة . . ابتسم الشيخ في وجهه ثم ألتفت إلى تركي الذي لا يزال لا يصدق بأنه سيجعله يكون إمامهما . . فهو منذ زمن لم يصلي و من المحرج أن يذكر هذا للشيخ . ! تساءل في نفسه عن كون صلاة مغرب جهرية أم سرية . . يعني هل يجهر بتلاوته أم لا . .! وقف أمام هذا السؤال عاجزاً ، قطع الشيخ حيرته قائلاً . : - ألن تصلي بنا . ! ؟ أم تنتظر خروج وقت الصلاة . . هاه . ؟ ! حار تركي أكثر هل يسأله أم لا . ! ؟ و حينما حمى و ازداد تقريع الشيخ له ، سأله بسرعة فجأةً و دون مقدمات . : - هل صلاة المغرب جهرية أم سرية . !! ؟؟ - جهرية أم سرية . !! أتسأل هذا السؤال بينما طفل في الصف الابتدائي يستطيع أجابتك عليه و يستطيع طفل ذو ست سنوات يداوم على حضور المسجد أن يجيبك . !! حك تركي رقبته حرجاً بوجهٍ مطليٌ بالحمرة . . و بعدما انتهى الشيخ من توبيخه أجاب أخيراً . : - جهرية . . يا بني جهرية !! اتجه تركي إلى القبلة رفعاً يديه قائلاً . : - الله أكبر . . كان تركي ساهياً عن صلاته و لم يكن يدري بالضبط ما يتلوه ، و كان ما يشغله فكره هو معرفة متى كانت آخر مرة قد صلى فيها لـ وجه الله . ! و كم كان ذلك الشيخ يذكره بجده المرحوم . . - يا بني . . اقطع صلاتك . ! استلزم تركي عدة هنيهات حتى ينتبه على الشيخ الواقف بجانبه . . قطع صلاته مذهولاً متسائلاً ما الذي يحدث . !؟ أعاده الشيخ و أوقفه بجانب عبد الله وهو يتبرم قائلاً . : - حتى الصلاة لا تعرفون كيف تصلون بالناس دون أن تسهوا . !! كبر الشيخ و كبر خلفه تركي و عبد الله ، وهذه المرة كان تركي أكثر خشوعاً بعدما أصغى إلى صوت الشيخ الرخيم في تلاوة القرآن . . بعد انتهائهم من الصلاة سمح الشيخ لـ تركي بأخذ استراحة بعدما أزعجه تركي مطالباً باستراحة . . منذ أن كان تركي في الثامنة لم يكن مزعجاً بهذا القدر لأحد أبداً ، و لم يشعر بهذا القرب و المودة لأحد أبداً . . فبعد وفاة جده لم يجد من يهتم به و يراعيه و يسأله عنه و كان الكل يتجاهله حتى أصبح يعيش لوحده مع خارطة حائطية معلقة بحجرته أهداها إليه جده . . - تفضلا بعضاً من التفاح . . عاد تركي بتفكيره إليهما ، ابتسم في وجه الشيخ و قال مازحاً كما كان يمزح مع جده أيام طفولته . : - هل هذا مجاني . ؟ رد الشيخ مؤكداً مع ابتسامة . : - مجاني . . |
الساعة الآن 01:25 PM |
Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.