شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   روايات اللغة العربية الفصحى المنقولة (https://www.rewity.com/forum/f407/)
-   -   سنلتقي بعد دهر الكاتبة / فضاء , فصحى , مكتمله (https://www.rewity.com/forum/t296716.html)

[/TABLE1]
اسطورة ! 24-02-14 04:40 AM

سنلتقي بعد دهر الكاتبة / فضاء , فصحى , مكتمله
 
[TABLE1="width:100%;background-color:silver;border:6px double deeppink;"]


https://store1.up-00.com/2014-01/1389382667341.png


الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

كيف حالك إن شاء الله دائما بخير ؟

نقدم لكم رواية سلنتقي بعد دهر بقلم فضاء
للعلم الكاتبة مو نفسها فضاء كاتبة اجمل غرور ورومانسيات قلوب متوحشه
الكاتبتين مختلفات

نتمنى تحوز على رضاكم

https://upload.rewity.com/upfiles/YWz19645.png

قراءة ممتعة

اسطورة ! 24-02-14 04:44 AM

سنلتقي بعد دهر
_ 1 _

( و افترقنا )
صرير الحقائب المجرورة على أرضية الغرفة يضج بالمكان . . و قضى صراخ الأطفال
على ما تبقى من طبلتيها !
رمت إليها بسؤال بصوتها حاد : . .
- ماذا تفعلين ؟ !
لم تجب عليها بل اكتفت بحمل طفلها الصغير معها بينما هي تجر حقائبها جراً إلى
حجرة
هديل و صياح الأطفال الصغار حولها يمنعها من سمع همستها الوحيدة . .
أكملت هديل صراخها على خالتها . .
- ما الذي جلبك إلى هنا ؟ ..ماذا تريدين ؟ . .أرجو أن تحلي مشاكلك بنفسك
بعيداً عنا . .
أمسكت الهاتف وضغطت على عدة أرقام ثم أردفت . .
- سأتصل عليه و سيأتي ليأخذك و تذهبين معه . . أنتِ و أطفالك . .
أتاها صوت من خلفها :
- لن يرد عليكِ . .
استدارت لترى ذات القوام الممشوق تبتسم ببرود . .
ردت عليها بصوت بارد و ابتسامة مقهورة . .
- و لِمْ ؟ . . أتريدون أن يتطلقا والدي ؟
- ليست بالفكرة السيئة ، لكن ليس هذا سبب قدوم أمي بجيشها الصغير . .
استشاطت هديل غضباً من ردها المثلج . . حاولت أن تحافظ على بقايا هدوءها . .
بينما أكملت هناء حديثها . .
- انتهى كل ما حصل بنهاية غير متوقعة ..
ضحكت ضحكة جافة . . فسألتها هديل بنبرة مفجعه متخوفة :
- أتطلقا ؟ !
- يا ليت . .
- إذن . . ماذا !
- امم . .
جلست هناء على الأريكة و وضعت ساقاً فوق ساق . . أخرجت سيجارة من حقيبتها و
همت بإشعالها . .
جحظت عينا هديل و هي تنزع السيجارة من بين أصابعها ، و زعقت بها . .
- ماذا تفعلين . .! ؟
سحبت هناء السيجارة من بين يدي هديل المذهولة بخفة . . وقالت وهي تشعل
السيجارة :
- أدخن . .
نفثت سموم تلك السيجارة في الهواء ثم أردفت بابتسامة صفراء . .
- لم أخبرك القصة بعد . . أخي جابر تم تجنيده في الجيش إلزامياً كما حصل
لجميع شباب البلاد ،. .
أردفت وهي ترسم دوامات دخانية بتلك السيجارة ببرود . .:
- حسنا , هذه ليست قصتنا . . قبل شهر خرج علينا والدي منهاراً من عمله و
خائفاً من كل شيء من همومه و الأزمة . . إلخ ، أخذت أمي تخفف عنه و تشد من
أزره بكلماتها المعهودة ، بأنه سيسدد الديون في يوما ما و أنه قريب و و و و
إلخ . . لكن المفاجأة الحقيقة هي أن والدي . . قد طرد من عمله . .
استنشقت من السيجارة ما استطاعت ثم بثت غبار السموم حولها . .
وقالت مكملةً حديثها وهي تخرج كرة هوائية صغيرة و تلوح بسيجارتها يميناً و
شمالا :
- هذا سيكون شيئاً عادياً في ظِل الأزمة السياسية و الاقتصادية في البلاد . .
لكن ما هو غير متوقع . .
أن يمسك أبي بالزناد و يطلق طلقات عشوائية حوله . . و أن تخترق إحدى الطلقات
دماغه الغبي هكذا . .
ضحكت ضحكة مجلجلة وهي تشير بأصبعها على رأسها . . و تقول . .:
- أتصدقين هكذا . . بكل بساطة انتحر . . و . . أمامنا . .
ذهلتْ هديل مما سمعت و اغتنت عينيها بالدموع بينما تابعت هناء قص قصتها ،
محدقةً في الفراغ مبتسمةً ببلاهة . .
- هذا ليس كل ما حدث ، مرت أحدى الرصاصات بجانب أخي محمد الذي يرقد في
المستشفى حالياً . . بالطبع . .
اممم . . و ماذا أيضاً . .؟

طفرت الدموع من عينيهما وضحك هناء الهستيري مازال مستمراً . .
- د تذكرت أخيراً . . تم طردنا من منزلنا . . طردنا المالك بعدما تركنا
أسبوعاً لندبر مالاً للانتقال إلى منزل آخر ،
و بعد كل ذلك هو من دفع أجرة السائق . . أليس هذا مضحكاً . .؟
و انخرطت في بكاء مرير تارة و تارة أخرى في ضحكات هستيرية مبعثرة ، ثم رمت
بسيجارتها على سطح الأرضية ، لتنطفئ . .


|||
شيعتهم بتحياتي على أمل أن لا ألتقيهم مرةً أخرى . . و ابتسامة بلهاء منطبعة
على وجهي .:
- إلى اللقاء ..
أوصتني أم تركي وهي ترتب مظهرها و تتأكد من زينتها . . بقولها . . :
- اعتني بـ تركي . . و إذا احتجتما للأسلحة ستجدونها في مكانها . .
أوه ، متى ستزول هذه الأزمة . .
رددت و أنا أحاول المحافظة على ابتسامتي . .
- حسناً يا خالتي . . أتمنى أن لا نضطر لذلك . .
لوحت بيدي لهم لأعلن انتهاء هذا التوديع الذي لم ينتهي بعد . .
ردت هيفاء بنعومة و غنج زائدين . . :
- إلى اللقاء
- إلى اللقاء
و اخيرا تخلصت من عائلة تركي المستفزة ، أم مُتصابِية و فتاة كـ الدمية ، و
أب صامت لا محل له من الإعراب لا ينصب و لا يرفع فقط مبني على الكسر . و ما
أن خرجوا حتى انطلقت إلى حجرته . .
دخلت إلى غرفته . . ووجدته كعادته ، الأوراق ممدة على المكتب و كأنها مريض
بينما يرسم هو فوقها الخطوط و التعاريج كـ طبيب يفحص مريضة و بذات الحرص و
الدقة . .
- السلام عليكم . .
لا رد !
أعدت حديثي بصوت أعلى عله يسمعني :
- السلاام عليكم !
أشار لي بيده الممسكة بالقلم .
- انتظر لحظة واحدة فقط . .
رددت منزعجاً من تلك الإيماءة القلمية :
- هاي أنت .. أن ألقي السلام فيجب أن تـ . .
رد منزعجاً هو الآخر :
- و عليكم السلام ورحمة الله و بركاته . . تفضل لست محتاج لمحاضراتك الآن !
و انكب في عمله مرة أخرى ، جلست على سريره استكشف آخر خرائطه التي رسمها . .
- ما هذا يا فتى الخرائط . .! لقد غطيت جوانب المدينة كلها !!
أجابني من بين خطوطه و مساطره و أدواته الغريبة بابتسامة سعيدة تعلو محياه .
.
- أتحسبني فلتُ من التجنيد لعباً ؟ !
- أأنت أيضاً فلت منه ؟
ترك ما بيديه بغتة . . و قال بفرحة . . :
- إذن ستذهب معي للغابة . .
انعقد حاجبيّ مع بعضهما عجباً . .:
- ولم ؟ ماذا ستفعل ؟
أجابني متحمساً . .
- سأستكشف المكان هناك و ارسمه على خارطة تحتوي على كل تفاصيل الغابة و كل ما
تحويه من نباتات و حشرات و حشائش . .
- و من سيساعدك في هذا ؟
هب من مقعده و احتضنني بقوة . .
- أنت يا فتى الحشائش . .
- هدئ من روعك يا فتى ، لم سنذهب إلى هناك ؟
قفز إلى أريكته الطويلة و تربع عليها بحماس . . :
- قلت لك مسبقاً أطمح إلى استكشافها . .
وقف و أشار إلى الغابة على الخريطة بحماس . .:
- لم يقم أحد ما مسبقاً بتغطية هذه المنطقة و وصف ما فيها أشجار و نباتات و
حيوانات . .
- بصراحة هناك من قام بتغطيتها . .
ابتسمت وأنا أتمم . .:
- لكن لا بأس فليس لدي ما أفعله و خاصة أني اشتقت لتلك الحشرات الصغيرة . .
انطلقت من بعدها أجهز حقيبتنا بينما تابع تركي فحص خرائطه و الانتقال من
تفصيل إلى آخر . .

|||
علقت ذرات الهواء في حنجرتها و أطبق الصمت على شفتيها . . نهضت و الذنب
يخرسها . . لا تعرف ماذا يجب أن تقول عن تصرفاتها الخرقاء . . اكتفت في ذلك
الوقت بمساعدة خالتها في ترتيب الحقائب و إعداد الطعام وهي لا ترى شيئا
فالضباب غطى كل شيء . . قهقهة هناء و حتى رائحة سيجارتها و صياح الأطفال لا
تشعر به مطلقاً . .
وضعت الطعام أمام تلك الأجساد الصغيرة المنهكة . . وهمست مذكرة . . :
- لا تنسوا بسم الله . .
لم يسمعها أحد منهم أو هكذا خيل لها فقد انقضوا على الطعام كمن لم يأكل أبداً
. .
ذهبت إلى خالتها تساعدها على إفراغ الحقائب على أرضية غرفتها . . حاولت بث
القليل من الشجاعة لحل شفتيها فتحت فاها للحظة ثم عاود الأطباق بـ جبن . .
- لا داعي للاعتذار . . أقدر موقفك . .
نطقت خالتها بذلك بينما ألقت هديل بنفسها في حضن خالتها . . و دمعاتها تنسكب
لتبلل شفتيها . . وقالت بكلمات متحشرجة نادمة . .:
- لم . . لم . . أكن . . أعلم . .


|||
طلع الصبح . . أغلقت عيني محاولة كف هذا الضوء المزعج عن التسلل إلى عيني . .
و لم ينجح ذلك ! . . نهضتُ و أنا ألمم فراشي و أبعده عني . . ما أن استويتُ
عليه جالسة حتى تفاجأتُ بأطفال خالتي نائمين بجانب بعضهم البعض بينما كانت
خالتي بوجهها الكسير ترتب ملابسها في خزانتها . .
آه . . تذكرت ما حدث بالأمس !
تذكرت اندفاعي و كأنني مراهقة . . بلا تفكير . . و لا وزن !
ألتفتت إلي خالتي و هي تبتسم ببؤس . .:
- صباح الخير . . أسرعي قبل أن تتأخري على الجامعة . .
ابتسمت بينما كنت أحاول جمع بأسي . . :
- صباح النور . .
سرت إلى خزانة ملابسي و أنا أحوال تفادي دهس أحد هؤلاء الأطفال الصغار . .
سحبت ما وصلت إليه يداي . . ذهبت لتبديل ملابسي و الخروج من الغرفة بذات
الحذر . .
ما أن بدلت ملابسي حتى ذهبت لمساعدة خالتي في تحضير الفطور . . و كالعادة ها
أنا أراقبها و أخفق البيض بتعاسة بينما هي تقطع الطماطم و البصل و كأن شيئاً
لم يكن ، تجمع شتات ابتسامة مكسورة لتعيش يومها فكل يوم جديد يستحق أن
نستقبله بابتسامه كمن سبقه و من سيتليه ، لا أعرف أن كانت تمتلك ذلك التفاؤل
أو ذلك بؤس الذي يمكنها من الابتسام كل يوم و بابتسامة متكسرة متناثرة بين
ليل و فجر كل يوم . . لا استطيع التحدث معها عما حدث بالأمس فهي ستتظاهر و
كأن شيء لم يكن و كأن ذلك قد حدث قبل ميلادي بعشرين سنه و لم يحدث بالأمس . .
- أأنت معجبة بي لتنظري إلي هكذا ؟
سألتني و ابتسامتها تحاول ضم حطامها . .
- هاه
- صباح الخير . . سيفسد البيض ما لم توقفي الخفق . .
بقيت أحدق بها بلا وعي . .
- ما بالكِ . . هل فقدتي عقلكِ . . ؟
انتزعت وعاء البيض من بين يدي . .
- اذهبي لتجهيز حقيبتك . . سأتكفل بالفطور . .
- حسنا . .
ذهبتُ و صوتها يتبعني . .
- لا تنسي أن توقظي أخوتك . .
كان ردي كالهمس . .
- حسنا . .

جمعتُ كتبي ثم وضعتها في الحقيبة ذهبت بعد ذلك لأحمد لإيقاظه ليذهب إلى
مدرسته . .
ما أن استيقظ حتى ذهبت لأجد الإفطار قد أعد و خالتي تضع الأطباق على الطاولة
. .
ابتسمت لخالتي بينما كنت أضع حقيبتي على الكرسي . .
أخرجت ما بصدري من هواء . . و طفقت أساعدها في وضع الأطباق
- أين جابر ؟
توقفت عن صف الأطباق فجأة . . أردفتُ :
- أعني لِم لم يـ . .؟
- تم تجنيده . .
وطغى الصمت على لمكان . .


|||
أوقف السيارة بجانب الطريق فتح الباب ثم ترجل من السيارة . . فتح الباب
الخلفي للسيارة و أنزل الحقائب . . نظر إليه عبدالله وسط تلك التصرفات
الغريبة متعجباً !
قال له تركي وهو يهم بإغلاق باب السيارة الخلفي . .
- ماذا تفعل عندك . . تعال أحمل معي الحقائب !
- أنت ما الذي تفعله !
ألتفت إلى أرض الخالية بجانب الطريق . .
- أود استكشاف الغابة من هذه الجهة . .
أخذ يشير إليها بينما عبدالله مأسور في حالة ذهول . . أكمل تركي . :
- أعني تغطية الغابة من هذه الجهة أولا . .
- من هذه الجهة !
ابتسم باضطراب مترقب و قال تركي :
- ماذا تنتظر ؟
- اذهب لوحدك يا ابن بطوطة . . لستُ ذاهب إلى أي مكان . .
رد تركي بنبرة طفولية :
- لكن منظر الغابة سيكون من هناك أجمل . .
- سيكون ؟! . . ثم كم تبعد المسافة من هنا إلى الغابة ؟
ألقى تركي نظره إلى جهازه الصغير . .
- تقول الخريطة الإلكترونية . . 3 كلم فقط . .
ابتسم بابتسامة أوسع . . ينتظر استجابة عبدالله . . و لما طال الانتظار سأله
. .:
- ألن تأتي معي ؟
لم يرد عبدالله بل اكتفى بإدارة محرك السيارة . .
- أن كنت ستذهب معي اركب حالاً . .
رد تركي بإحباط :
- انتظر . . انتظر . . سأعيد الحقائب إلى السيارة . .
وضعها تركي بسرعة و ركب بجانب كرسي السائق عبدالله . .
- فيما كنت تفكر بترك السيارة هنا ! . . تفقد صوبك و تصبح كالطفل إذا فكرت
فقط في التخييم . .

وصلت السيارة إلى بيت الشاطئ الكبير . .
قال تركي وهو يشير . . :
-ها هو بيت الشاطئ الجديد الذي اشتراه أبي قبل فترة قصيرة . .
علق عبدالله مبتسماً . .:
- يبدو جميلاً من الخارج . . دعنا نراه من الداخل . .
فتح الباب وهم بالنزول . . أوقفه تركي بقوله الجاد . .:
- لا تنسى أننا لم نأتي هنا لتسكع بل أتينا لاستكشاف الغابة . .
نظر إليه بابتسامة لعوب . .:
- أود لو تنسى ذلك . .
- في أحلامك . .

وضعا حقائبهما عند المدخل . . سأله عبدالله متعجباً . . :
- أليس هنالك أي خدم ؟
- كلا ، في الظروف الراهنة لم نستطيع تدبير خدم دائمين للمنزل . .
همهم عبد الله وهو يستكشف المكان . .
- تفضل من هنا . .
أشار تركي إلى أحد الأبواب البعيدة . .
- هناك حجرتي . .
- و لم هي بالطابق السفلي ! ؟
ابتسم تركي ابتسامة واسعة . .:
- لكي أستطيع الخروج و الدخول بسهولة . .
- ماذا تعني ؟
سأله عبد الله بعينين واثقتين و ابتسامة ماكرة . .
- لستُ كما تظن . .!
و تابع الاثنان جدالهما أو كما يسمونه نقاش الذي ليس له نهاية . .
|||


ودعته و دمعاتها تعبر عن خوفها الساكن فيها و الذي يبدو أنه سيظل يعمر معها .
.
شهقت وهي تترجاه أن لا يذهب و تمسك ببذلة العسكرية . .:
- أرجوك لا تذهب . . أتود أن يرى أبننا النور دون أن يرى والده ؟ . .
- لا استطيع الوطن يناديني . .
مسح على رأسها برقة . .
- لكي أحميك
مسح على بطنها و أكمل . . :
- و أحميه . . و أحمي أهلك و أهلي و وطنك و وطني . .
- لكن هذه الأزمة لم و لن تنتهي أبداً منذ ولدت و أنا أتذوق مرارتها . .
طمأنها بصوته العذب . . :
- ثقي بالله . . ثقي بي . . سنضع لها نهاية بإذن الله . .
خرج و لم يعد . . انخرطت آمال في بكاء صامت و عينيها تراقب آخر
خطواته ,
تتمنى له العودة سالماً و لم تطمع أن يكون غانماً . . فقط . .
تريده سالماً . .

أحكمت إغلاق حقيبتها . . و شرعت في صف ملابس صغيرة جداً لطفلها المترقب . .
سيخرج بعد شهر و نصف ليرى الدنيا دمار . .
و سينشأ كأمه جائعاً , هارباً من المجهول . . من لا شيء . . سيصعد الجبال و
ينزل الوديان . .
سيتوسد الأرض . . و يلتحف السماء . . و ينام في بـ. . .

نهرت نفسها عن التفكير بهذا اليأس . . يجب أن تتمنى له مستقبلاً أفضل
مستقبلها
و تتطلع إليه . . ماذا سيجابه عبد السلام ؟ تتمنى أن لا يواجه ما واجهها . .
أكملت تطبيق ملابسه و ترتيبها في حقيبته الصغيرة بجانب مفرشه الناعم و رضاعته
الصغيرة . .

سحبت حقائبها الثقيلة لوحدها و هي تحمل معها بطنها الكبير . .
كان ذلك شاقاً عليها جداً . .
أوقفت سيارة أجرة حينما كانت تحاول ضبط زمام حقائبها من الانزلاق بعيداً عنها
. .
فتحت الباب و ركبت . .
سألها السائق . . :
- إلى أين نذهب . .؟


|||

بدلا ملابسهما ولبسا ملابس مريحة تناسب الرحلة التي سيخوضانها . .
مشا إلى الغابة سيراً على أقدامهما . .
استقبلتهما أشجار الصنوبر
بدا تركي ساكناً ليس كما يكون في رحلاتهما السابقة . !
سأله عبد الله . . :
- ماذا بك ؟ . .
رد تركي و هو يقطع ورقة إحدى الأشجار إلى قطع صغيرة . . :
- لا أدري . .
سكتا بعد ذلك برهة حتى . . :
- أتعرف . . لا أظن أن انفلاتنا من التجنيد فكرة جيدة . .!
تطلع عبد الله إلى تركي متعجباً من حديثه . ! رد تركي على تلك النظرة بقولة .
.:
- أعني أن هذا ليس جيداً . . الكل يذهب ليحمي هذا الوطن و يحمي عائلته بينما
نحن هنا نخطط لمشاريعنا و . .
قاطعه عبدالله . .:
- أنظروا إلى من يتحدث و كأنك لم تكن أول من نادى بإفلات من التجنيد . .
ثم عائلتك ليست هنا هربت هي الأخرى من هذه المعمعة . . و هذه الأزمة ليست
بجديدة علينا لقد ولدنا في سابقتها . .
- لكننا لم نكن هنا . . لم نرى كيف تكون الحرب مخيفة . .
- و ها نحن سنراها كأي شخص بقي في البلاد . . ثم نحن هنا ليس للهو بل توثيق
كل ما نراه عل خريطة ستكون مفيدة على جميع الأصعدة . .
صمت تركي يفكر . . شد انتباهه حديث عبد الله وهو يراقب إحدى الحشرات من بعد
ليس بقريب . .
- هذه إحدى الحشرات التي تسمى بالنتنة و تتغذى على أوراق الخضروات . .
أشار إلى أحد الأشجار . . و قال . .:
- مثل دوار الشمس . . أعني أنك تجدها بين نباتات الخضروات غالباً . .
انشغل تركي بتوثيق هذه المعلومات و اخذ صورة لتلك الحشرة الصغيرة و غذائها .
. ثم سأل . . :
- ماذا عن فوائدها و أضرارها . .؟
- لديها مادة على ظهرها تساعد في التئام الجروح بشكل أسرع و تعمل كمطهر . .
لكن يجب أن تكون المعالجة بها و هي ميتة حديثاً . .
-
حتى لا يغطي النتن ظهرها . . فهذه إحدى وسائل دفاعها ضد الحشرات و الحيوانات
التي تلتهمها . .
- لكن كيف سنقتلها قبل أن تخرج نتنها ؟
- هذا عملي . . فلا بد و أن هنالك طريقة ما . . سأبحث عن ذلك في مكتبة
الجامعة . .


|||

يقلب صفحات الجريدة بهدوء و روية و رشفة رشفات متباينة من الشاي الأخضر . .
مازال يقرأ الجريدة بتركيز و كأنني لا أحادثه مطلقاً . .
- أبي ، أبي ، أبي . . أبي أبي . .!
طوى الجريدة ببطء و حتى بدت لي لا مبالاته السابقة لحديثي . . :
- نعم . . ماذا هناك . .؟
- كيف لا يمكن لنا العودة إلى هناك ؟
- ماذا تقصدين بـ هناك ؟
رددت بغيظ . .:
- أبي أنت تعرف !
رشفة رشفة من الشاي الذي أخاله قد تجمد من برودته و قال . .:
- لا ، لا أعرف . .
حاولت مسك السيطرة على نفسي فهو مازال أبي . .:
- بلى تعرف أن أخي عبد الله هناك و أن صديقتي هناك و أن عائلتنا كلها هناك .
. !
قال و كأنه لا يدري في أي وادي أهيم . . :
- أين ؟
قلت و أنا أكاد أبكي مما أحس به . .:
- في الوطن . . يا أبي . .
- و ماذا تريدينني أن أفعل ؟ !
- أريد أن نعود إلى هناك . .
- أترك عملي و تتركين دراستك ! . . ثم هذا هو اختيارهما و هذا ما أراداه !
- أبي بسمة ضعيفة لا تحتمل شيئا , و أخي عبد الله متهور . . و الأدهى أنك
تركته يفلت من التجنيد و لم تجلبه إلى هنا . .
- هو من رفض أن يأتي . .
- و ماذا عن بسمة ؟
- ستعتني بنفسها . .!
- و ماذا لو . .
أغلق الموضوع برفعه للجريدة و قوله . .:
- سيعتني بها عبد الله . .
رشفة آخر قطرة من الشاي الأخضر . . :
- لقد انتهينا . .


قمت عن كرسيي و دفعته بقوة عله يحس بغيظي ! . . و قلت . .:
- لن أذهب إلى المدرسة . . !
تركت حقيبتي على المنضدة بعنف . .
و ذهبت إلى غرفتي بينما صرخة الباب هي ما سمعتها بعد دفعي لها . .
بدلت ملابس المدرسة بملابس البيت . . و الغضب مازال يحتويني . .
أود لو أضرب أحداً . . يجب أن أهدئ . .
ألقيت نظرة من خلف زجاج النافذة لأرى زحام المدينة من عشرين طابقاً . .
كم هذا مزعج . . ضوضاء تملئ الهواء . .
انفتح الباب من خلفي ثم انغلق بهدوء . . ابتسمت في سري سيأتي ليراضيني . !
- آنستي يخبرك سيدي بأنه سيذهب إلى عمله . . و يود لو تعودي إلى رشدك . .
- حسناء !
- نعم !
- لا تجعليني أغضب أكثر من ذلك . . أرجوك . .
- حسناً . .
- أتعلمين أن العصبية تؤدي إلى التهابات في المسالك البولية . !
ألتفت إليها بابتسامة بلهاء . . و شاهدت آثار معلومتي عليها . . كانت
كالمصعوقة كهربائياً . !
- لا ترتعبي لستُ مصابة بإحدى هذه التهابات . . لكن . .
جلست على الأريكة المتمددة على الأرضية . . بينما كان نظري محلقاً إلى السماء
التي تمنعني عن رؤيتها الكثير من المباني . . و أكملت . .:
- أتعلمين أن أحد الأشياء التي تجعلني غاضبة من أبي أنه لا يلقي بالاً بأخوتي
. . فهو يأخذ أي موضوع يمسهم ببرود و كأنهم ليسوا أخوتي . . أولاً أبعدني
عنهم و هاجرنا إلى بلاد أخرى . . و لم أعد أراهم إلا في العطل . . و في حالة
السلم أو الحرب لامناص من الخروج من هذه البلاد إلا في العطل . . و هذا ما
يقلقني . . ألأنهم أخوتي من أمي فهم ليسوا من عائلتنا ! هذا ليس بعـ ..
ألتفتُ لأرى الفراغ يهزئ بي ! كم هذا محرج . ! ليس هنالك أحد يسمعك هنا
مطلقاً و كأنهم صم بكم لا يفقهون !


|||

قطعت شوطاً كبيراً لأصل إلى الجامعة و سيراً على الأقدام !
وكنت طوال طريقي من المنزل إلى الجامعة أحاول منع ضميري في التفكير في
تصرفاتي الخرقاء و ما قلته في الليلة الماضية . . يالسخرية . . في يوم ولادتي
تم الاصطلاح بين الأخوين و في يوم ميلادي العشرين يتخاصمان و سيؤدي خصامهما
إلى نشوب الحرب مرة أخرى . !
بعد أن كانت بلادنا تعيش في أمان في ظل الحاكم . . أنجب توأمين و الذين انقضا
على الحكم بعد وفاة والدهما و أنشأت الأحزاب معنا أم معهم . . عمت الفوضى
البلاد بعد ذلك أدى الوزراء السابقين في تهدئة الفتنة بصلح نقض عدة مرات
بمناوشات بسيطة لم تكن تأثر على الشعب و لم تكن هناك قوى عسكرية تستعد للحرب
. . حينما يتم تجنيدك لتقاتل أخوتك المسلمين قد يكون احد أصدقائك أقربائك
مهما كان و ما يكون مادام ليس يعيش على أرضنا فهو ليس منا . . يستحق القتل و
يستحق الموت . . مادام بقي هناك في الجانب الآخر للجزيرة . . تم قطع الجسد
الواحد إلى قطعتين سرعان ما تشعبت لتتقطع إلى قطع أصغر و أصغر . . أصحت
البلاد و شاهدت يدها تمزق يدها الأخرى و جسدها يمزق بعضه لمن المؤلم أن تكون
أحد مشاهدي هذا الجسد وهو يمزق نفسه . . فيكف أن كنت بداخله كنت أحد الأطراف
الممزقة ترى دماء مهدرة . . و رقاب تتطاير . .
لأجل قطعة أرض . !
لأجل الطمع . !
لأجل السيطرة . !
لأجل الحكم . !
قطعت طريقي في التفكير في مستقبلنا البائس بيأس . .
- صباح الخير . .
حيتني بسمة بابتسامة مشرقة متفائلة لم استطع مقاومة مبادلتها تلك الابتسامة
بابتسامة بائسة . .
- صباح النور . .
و كأننا سنرى النور . !
- ماذا بك . ؟
وجهت سيري إلى المقهى أجبتها و أنا أسير. . :
- انتحر زوجي خالتي . .
توقفت برهة عن السير بينما تابعت سيري و قالت متفاجأة . . :
- انتحر !
- نعم . . ببساطة آثر الموت على العيش في هذا التمزق . !
- أوه . . آسفة على ذلك . .
ردت بحزن و همست . . :
- سآتي للتعزية . .
رددت بانزعاج من كل شيء . . :
- كيف تعزين في شخص انتحر . ! و منذ شهر . !
- شهر !
- لا أزال لا أصدق هذا . . أعني ما وصلنا إليه . . أوصل بنا الخوف إلى هذه
الدرجة . . أبعد الأمن و الأمان يحصل هذا . !
صمتت بسمة لم تعد تدري بما ترد . . أو لم تعد تستطيع لومي على ابتسامتي
اليائسة و عصبيتي التي بدت تطفو على السطح بسبب كل تلك الأفكار و التخيلات و
الضغوط ! أتمنى لو استرخي . . لو رزقني الله باللامبالاة بما حولي . !
- لا تأخذي المشاكل و كأنها مشاكلك لوحدك فهذه الأمة مشكلة شعبية يضطرب لها
شعبنا و يتشاركها كلا الشعبين كما الأرض الشمالية تعاني فالأرض الجنوبية
تعاني أيضاً . .
- ليس الموضوع بالبساطة التي تتصورينها . .
- و ليس الموضوع بالضخامة التي تتصورينها . !
صمتُ كارهةً بدأ جدال لا معنى له بين التفاؤل المطلق و الواقعية و الذي لن
يفيدنا في شيء . .
أردت أن أبدد ذلك الصمت بموضوع مغاير . .
- ما أخبار ريناد ؟
مازالت هالة الصمت تحيط بها و هي تفكر بعيداً و تتعدى البحار و المحيطات تفكر
في أختها الصغيرة و كأنها ستراها . .
- إنها بخير . .
- الحمدلله . .
و جلسنا على إحدى الطاولات المتناثرة . .


|||

حشد شبابي كبير محبوس في ساحة كبيرة . . و أمامهم يتحدث عسكري ذو رتبة عالية
. .
يتحدث بفمه الكبير و أوداجه المنتفخة لصراخها بينما يستقبل الميكرفون ما
يتطاير من فمه بصبر أيوب . .
- أنه لم المخزي أن نخسر هذه الحرب . . و أن تأخذ أرضنا و تسلب أمام أنظارنا
، و من قبل أعدائنا و نحن صامتون . ! يجب علينا أن نجهز جيشنا . . أن لا
تأخذنا بهم رحمهم ما داموا لم يرحموا صغارنا و نسائنا . . فمن يفعل ذلك يستحق
القتل أن كان صديقك أو أخوك أو حتى أبوك . . مهما كان مبررة . . يجب قتله ما
دام ضدنا . . ضد بلادنا . . ضد أمننا . .
تأمل جابر في الحشد الكبير الذي أتى ليلبي نداء الوطن سواء رضي أم أبى . . كل
من به القوة أتى . . تاركاً أهله و أحبابه خلفه ليواجه هو العدو و يبقوا
بأمان . . ليسمعوا هذه الكلمات عن قتل أخوته و أصدقائه لمجرد أنهم ضده . !
بحث بين الحضور عن أبوه . . فلابد و أنه أتى . . و لن يستطيع الاتصال به لأنه
من الممنوع الاتصال بالأهل حتى يعتادوا على قسوة القلب . !
تم توزيع اللباس العسكري و توزيع الغرف بعد تلك الخطبة العسكرية الطويلة . .
فتح حقيبته و أخذ يخرج ملابسه منها . .لاحظ أن حقيبته كانت من الداخل أصغر من
المعتاد . ! تلمس ذلك السطح الجديد . . حتى وجد خيط يخرج منه سحبه فلم يخرج
سحبه بقوة ليتفاجأ بكمية من الحلويات و الطعام المعلب المخبئة بحرفية و ورقة
صغيرة

-----
أعرف كم من السيئ أن تكون مجنداً . .
أخبرتني صديقتي أن والدها كان يعاني من سوء التغذية
لهذا حضرت لك أطعمة خفيفة يمكنك أكلها بخفية . . : )


هناء
-----
ابتسم وهو يقرأ تلك الورقة المنزوعة من مفكرتها الوردية . .
- أهناك شيء يدعو للابتسام . . ؟
أغلق حقيبته بسرعة و كرمش الورقة في يده . .
- كلا . . لا شيء . .
- لاشيء . !
رمى بنفسه على السرير المجاور لجابر . .
- الكل هنا يقول لا شيء . . و كأن هذا شيء طبيعي أن تجند إجبارياً . !
تابع جابر إدخال ملابسه في الخزانة . .
- كم هذا مزعج . !
لم يعر جابر اهتماماً لما يقوله رفيقه في الحجرة . . بينما أكمل الآخر حديثه
. . :
- أعني أن تكون محبوساً هنا . . سيكون السجن أرحم من ذلك . . فهم لن يتعبوك
بتدريبهم القاسي . .
- هلّا كففت عن التذمر . !
تحدث جابر بعد أن انتهى من إغلاق حقيبته . .
- أوه و أخيراً تحدثت . . ظننتك أصم . .
- هذا ليس مضحكاً . .
رد بنصف ابتسامة و نبرة مستفزة . :
- أوه , أنت أحد هؤلاء الذين ينادون بالقسوة !
- بل أحد هؤلاء الذين يكرهون التذمر الذي لا فائدة منه !
- ألست معي بأن هذا ليس بعدل ؟ . . أعني أن أولاد الأغنياء يتنزهون بالخارج و
نحن هنا نعاني . !
صمتا لفترة . .
ثم هب ذلك الصبي من مكانه . . وقال وهو يمد يده و ابتسامة صافيه تجمل وجهه .
.
- بالمناسبة أنا حبيب . .
مد جابر يده هو الآخر . . :
- تشرفنا . . معك جابر . .
ابتسم جابر بسخرية ممتزجة بأسى في سره . . فهذا الصبي ذو الستة عشر عاماً كما
يبدو . . مازال طرياً ليكون جندياً . . لم يجابه الحرب و لم يرى قسوتها . .
فكيف يجندونه ؟ !

اسطورة ! 24-02-14 04:51 AM

_2_
(لا بأس )
قال و عيناه المشتعلتان تضيقان شيئاً فشيئا ثم صرخ بها . :
- كم من مرة يجب أن أقول لكِ أن هذا ممنوع ؟
اصطكت أسنانها ببعضها ، عضت على شفتها بغيظ . . حاولت خفض صوتها قدر
استطاعتها .:
- ممنوع ! و من أنت لتحدد لي ما هو الممنوع . .
- أنا أخوك . ! و سأحدد ما ينفعك شئتِ أم أبيتِ . !
- تقصد، تمنعني من العيش حياتي بدون تدخلاتك وتوصياتك المتسلطة !
ممنوع الخروج . ! ممنوع الزيارات . !
أكملت و صوتها يعلو رويداً رويدا . .:
- ممنوع !
ممنوع !
ممنوع !
متى ستمنعني من العيش و تريحني !
- و قرن في بيوتكن و لا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى . !
جحظت عيناها حتى كادت أن تخرج من محجرها و قالت بغضب . .:
- و هل تراني متبرجة ! ؟
- المرأة ليس عليها إلا السمع و الطاعة . .
نظرت إليها بعينان ضيقتان تشعان بالتحدي و ابتسامة سخرية ترتسم على شفتيها .
:
- لستُ بامرأتك حتى تأمرني و تنهاني كما تريد ! و لست بولي أمري . !
- حسناً . !
اتجه إلى الباب و قبل أن يصفقه قال :
- لكي ما تريدين ، ستكونين امرأة أحدهم و هذا الأسبوع . !
دفعت بذلك الهواء المحبوس في صدرها بصرخة صغيرة . .
اتجهت إلى النافذة الكبيرة مررت أناملها بعبث على الأريكة المستندة إلى
النافذة . .
جلست على الأريكة و وجهها صوب الشارع الضيق
و صفحة جريدة ضلت الرياح تدحرجها على الإسفلت حتى تعبت . .
زمت شفتيها بضجر ، لا يمكنه أن يزوجني . . من يظن نفسه !
ألا انه كان ضالاً ثم اهتدى يبقون الناس ضالين ما داموا ليسوا مثله !
هذا هراء . !
شعرت بحركة أكرة الباب من خلفها رغم بعده . .
فهذه الطريقة في إدارته . . تميزها من بين كل الاستدارات . .
ما أن انفتح الباب حتى رفعت يدها و أشارت لها أن تأتي دون أن تلتفت إليها . .
بقيت محدقة في الشارع . .
شعرت بلمستها الرقيقة على كتفيها و هي تشد من أزرها . .
ابتسمت رهام براحة ثم استدارت إليها و أشارت لها أن تجلس بجانبها . .
رفعت هبة يديها و أخذت تثني أصابعها بسرعة بحركات مختلفة
بلغة الإشارة و علامات التساؤل و الخوف ترتسم على وجهها . .
ابتسمت رهام لتطمئنها بأنه ليس هناك شيء ،
تحدثت ببطء و هي تحرك و تثني أصابعها لكي تستطيع هبة فهمها . :
- لقد زعق علي يريدني أن لا اتصل بالعالم الخارجي . .
أقصد الانترنت . . فقلت بأن هذا ظلم . . و ارتفع صوته فارتفع صوتي . .
و في النهاية . .
ضحكت رهام بينما كانت علامات الدهشة ترتسم على أختها الكبرى
ثم أكملت . :
- انتهينا بأنه سيزوجني هذا الأسبوع !
بان على هبة الضيق و تكدر وجهها . .
مدت رهام يدها وضعت أنملة سبابتها و أنملة إبهامها على زاويتي شفتيها
لترفعهما صانعة ابتسامة على وجه هبة . . و أشارت لها بأن لا تقلق . .
أشارت لها هبة بنفس مثبطة . . كيف لا تقلق و هو سيزوجها حتماً . !
أشارت لها رهام بضحكة صغيرة . . لأنه سيجند في الجيش غداً أو بعد الغد . .
وقفت رهام ثم سارت تخطو بخطوات عسكرية . .
استدارت إلى هبة المذهولة وحيتها بتحية عسكرية . .
التي زادتها عجباً . .
- ألا تعلمين ؟
هزت رأسها بـ لا
جلست رهام بجانبها على الأريكة . . ثم قالت و هي تشير . :
- تم تجنيد شباب العاصمة و غداً سيتم تجنيد شباب المدن الأخرى . .
حل الرعب على وجه هبة و أشارت بـ لماذا ؟
- لأن الحرب ستقوم . .
قامت رهام و هي تمثل دور جندي في الميدان . .
ثم يمسك بمسدسه و يطلق برشاشه في عدة جهات . .
كان وجه هبة جامداً و عيناها تحدقان في خواء . .
آخر أصوات سمعتها عادت من جديد لتسكن أذنيها . .
ضربات رصاص تضج بالمكان و دمار يغص بالأمان . .
لا نور هناك إلا نور الطلقات و الانفجارات . .
وهي تملئ الفضاء دخاناً لتزيده حلكة و تكتم الأنفاس . .
ضغطت على أذنيها وهي تأن بأنين حاد اخترق طبلة رهام . .
توقفت رهام عن دورنها برشاشها الخيالي و طلقاتها الوهمية . .
و استدارات إليها . .
شخصت عينا هبة للأعلى و يديها ما تزال تحكم قبضتها على أذنيها . .


|||

ترجلت من سيارة الأجرة بصعوبة بسبب بطنها المنتفخ . . اتجهت إلى الباب . .
وضلّت تلوم نفسها على حملها خلال هذه الفترة الحرجة
حتى فتح لها الباب و دخلت. .
تفاجئت الاثنتين ببعضهما وقالتا بصوت واحد . .:
- هناء !
- آمال !
- ماذا تفعلين هنا ؟
سألت آمال هناء و التعجب مرتسم على وجهها قالت وهي تغلق الباب . :
- سأحكي لكِ لاحقاً . . تعالي قبل أن تلدي هنا . .
جرت هناء الحقائب الثقيلة إلى مدخل المنزل وهي تقول . :
- يالكِ من قوية . . كيف جررت هذه إلى هنا !
لم تنبس لها ببنت شفة . .
بل اكتفت بمراقبة وجهها المصفر و عينيها المنتفختان . .
سألتها بقلب قلق . .
- ماذا هناك هل حصل شيء ما ؟
توقفت هناء عند مدخل المنزل أراحة يدها على أكرة الباب ثم قالت . .
- لا شيء يذكر كالعادة . .
واجهتها و هي تجر الحقائب إلى الخلف إلى داخل المنزل . . و قالت . :
- ماذا عنكِ . ؟ ، ما الذي جلبك إلى هنا ؟
تنهدت وهي تضع يدها إلى ظهرها تسنده في حمل هذا الوزن الزائد . .
- تم تجنيده . .
- كـ حال كل الشباب !
دخلتا ثم أغلقت آمال الباب بينما أكملت هناء و الحقائب المجرورة طريقهما
إلى الصالة و من ثم إلى الطابق العلوي إلى حجرة آمال سابقاً . .
تفجرت الأسئلة من مزنه وهي ترى بين يدي هناء حقائب كبيرة تجرها . .
أيعقل أن تكون جلبت رجل ما إلى هنا ! ؟
ساورتها الظنون التي ألجمتها عن سؤالها عن السبب . .
- السلام عليكم . .
ارتبكت من صوت أنثوي أتاها من خلفها . .
قابلتها آمال وهي تبتسم و تقول . :
- ما بكِ يا أمي ؟ ! . .
حملقت بها بـ فاه منفرج يكاد يسقط إلى الأرض . .
ابتسمت آمال وهي تكتم ضحكتها و قالت . :
- ألم تتعرفي على صوت ابنتك . !
زمت شفتيها بدلال ثم توجهت إليها وجلست بجانبها على الأريكة البيضاء . .
- ما الذي جلبكِ إلى هنا . ؟
سألت آمال و قلبها يخفق خوفاً . .
زمت آمال شفتيها أكثر وهي تقول . :
- أهكذا تلقين السلام . !
وضعت حقيبتها الصغيرة بجانبها ركزت عينيها على السحاب وهي تلعب به . .
ثم أردفت . :
- لقد تم تجنيده أيضاً . .
طردت الهواء الساكن من صدرها ثم استنشقت نفساً عميقاً . .
- ما هذه الرائحة ؟ ! . . من ذا الذي يدخن هنا ؟
انعقد حاجبيها وهي تنظر إلى أمها تنتظر جوابها . .
و بعد أن طال صمت أمها . .
استحضرت كل شخص يعيش هنا لتتوقع من هو صاحب هذه الرائحة . :
- أهو أحمد ؟
أشارت أمها بـ لا . .
مرت هناء وهي تحمل أخوها حكيم الصغير ذو السنتين و بيدها الأخرى رضاعة فارغة
. .
- آمال . .
وجهت آمال انتباهها إليها . . أكملت هناء و يدها بالرضاعة تشير إلى الأعلى .
.
- رتبت لكِ حقائبك ، أرجوا أن تسمحي لي بالنوم معك ، ستجدين فراشي مطوي هناك
. .
ابتسمت ثم توجهت إلى المطبخ . .
ألتفت آمال إلى أمها بينما كان بصر أمها يتابع هناء حتى دلفت إلى الطبخ ،
توقف بصرها هناك و كأن الزمن في تلك اللحظة قد توقف . .
نقرت آمال أمها بأصبعها و قالت :
- ما بكِ ؟
بدت أمها تحلق خارج هذا العالم الذي تعيش فيه . .
خرجت هناء و هي تحمل حكيم القابض على الرضاعة يمتص منها الحليب الدافئ . .
بينما كانت آمال حائرة إزاء هذا الموقف الغريب . .


|||
ذهبت مسرعة إلى الباب لتوقف منيرة عن ضغط الجرس مرارا و تكرار كعادتها . .
بينما كانت هبة تشاهدها و هالة من الحيرة تكتنفها . .
وقفت عند الباب وهي تصرخ . :
- لن افتح لكِ أيتها المزعجة . . حتى تفكي عن إزعاجنا !
تركت الباب ثم عادت له بعد برهة و قالت بصوت غاضب عالي .:
- و أبقي إلى الصبح . !
- ألا يوجد استثناء لي ؟
جمدت يد رهام على الباب من هذا الصوت الرجولي . .
شعرت بنار الحرج تحرقها . . و قالت بصوت منخفض من خلف الباب . :
- من ؟
- أنا منور من تظنين !
أحست رهام بحرارة الدماء تسري في عروقها . . فعلتها تلك الـ .. !
فتحت الباب قليلاً . . ثم دخلت إلى الداخل بسرعة . .
أوقفتها هبة تسألها عما حصل . .
أشارت لها بحركات سريعة و هي تقول بوجه محترق
لا تدري إن كان من الإحراج أو من الغضب . :
- لقد فعلتها و أحضرت فارس معها !
حتى يتسنى لها إحراجي . . لكنني سأريها !
تهادى لها ضحكة فارس :
- هل تصرخ عليك هكذا دائماً . .
و تابع ضحكه بضحكة أعلى . .
أشارت رهام بيديها لتترجم ما تقوله بعصبية لـ هبة . :
- أرأيت أنها تريده أن يضحك علي . .
سأريها من سيضحك في النهاية . .
ثم أشارت لها بيديها أن تنادي سعد الذي لم تحادثه منذ ذلك اليوم . .
و في الساحة . .
تابع ضحكه بينما كانت منيرة تحاول جاهدة إسكاته . .
أمسكت بذراعه الطويلة . :
- فارس أرجوك . . لن تتركني أعود سالمةً اليوم . !


|||

وضعتُ آخر كتاب لآخر محاضرة في حقيبتي بكسل . .
كم هو متعب أن تسير بين ممرات الجامعة الطويلة التي تبدو لا منتهية . .
خرجت من القاعة و التعب قد أخذ مني ما أخذ . .
رفعت يدي اليمنى قليلاً بسبب ثقل الحقيبة الذي يجذبني إلى الأسفل . .
تقدمت بسمة و هي تضحك علي . . رددت على ضحكتها قائلة . :
- أهذه هي تحيتكِ ؟
- و أنتِ أهذه تحيتكِ ؟
و غرقت في الضحك . .
غضبت فلا يوجد شيء مضحك . !
- ما المضحك . ؟
- يدك و تحيتها المتعبة . .
- و ما بها . . أهذا جزاء من أراد تحيتك ؟
ابتسمت و قالت . :
- لا . .
ابتسمت لها بابتسامة مشرقة . .
- جيد . .
- نعم هذه هي الابتسامة التي أريدها . .
ضحكت بسخرية في سري . .
فكيف تستطيع بسمة الابتسام وهي تعيش معيشة ضنكا . .
تعيش مع أخيها الحاضر الغائب . .
الذي يقضي معظم وقته مع صديقه المرفه و لم يتحمل مسؤولية في حياته
و أجراها على وجهها الصحيح . .
ودعتُ بسمة عند محطة الحافلات و كل منا تمتطي حافلة آخر . .
تخطت الحافلة الشوارع و الأشجار . .
و كل ما تخطيته سيراً على الأقدام هذا الصباح . .
دقائق و وصلت إلى المنزل بينما أقطع هذا الطريق
في نصف ساعة سيراً على أقدامي . .
نزلت من الحافلة و أخرجت مفتاحي و فتحت الباب . .
دخلت ثم أرخيت حجابي . . الجو حار جداً . .
خلعت نعليّ عند مدخل البيت و ارتديت بدلاً منهما نعليّ المنزل . .
تخطيت المدخل مسرعة إلى غرفتي في الطابق العلوي . .
لمحت امرأة حامل تجلس بجانب أمي و لم أعرها اهتماماً . .
تذكرت لولهة أنها تشبه أختي آمال . .
توقفت في منتصف الدرج ثم ألتفت إليها . .
لم أدري بنفسي إلا ساقطة عند أسفل درجات الدرج . .
رأسي على الأرض و قدماي متمددتان على بداية الدرج . .
بينما يداي معقوفتان بجانب راسي . .
كان الألم يحيط بكل جزء من أجزاء جسمي . .
حينها تذكرت أنني كنت مسرعة في النزول و أن قدمي زلت فتدحرجت من الدرج . .
استدرت برأسي المتصدع إلى الدرج و رغم أن كل شيء بدا ضبابياً
لكني مازلت استطيع لمح كتبي المتناثرة هنا و هناك . .
أحسست بشيء ينبض في يدي فأدركت انه الوريد أو ذلك الشريان ..
و أن ذلك يعني أن قلبي يخفق بقوة ،
صوت تنفسي يعلو و تزداد صعوبة التنفس ثانية بعد ثانية . .
- هديل ما بكِ ؟
سألتني أمي و الخوف ينهشها . .
أمسكت آمال برأسي وهي تضربني على وجهي بخفة تحاول إفاقتي . .
و هي تقول . :
- استيقظي . . أرجوك . .
رويداً رويدا بدت الرؤية تضمحل و الأصوات تبعد شيئاً فشيئا . .
.
.
كنت في الحافلة أشاهد الناس يسيرون بجانبنا و الأشجار تودعنا مبتعدة . .
أيقنت أنني نائمة و أحلم . .
فتحت عيني لأستيقظ . .
تفاجئت بمن حولي و عيني تجول حولهم . .
ممرضات . .
طبيب . .
أمي . .
و آمال .!
كان دهشة تملأني فقد كنت أحلم قبل قليل و نائمة في بيتي ما الذي جلبني إلى
هنا . !
قال الطبيب . :
- لا تخشي شيئا . . لقد حصل لك حادث . . و سقطت من الـ . .
تخليت عن سماع حديث الطبيب و مضيت استرجع ما حصل . .
عدت إلى البيت ثم دخلت ثم شاهدت آمال ثم سقطت من الدرج . .
- لا بأس عليكِ بإذن الله . .
وجهت بصري الشارد إلى المتحدث و كانت آمال . .
خرج الطبيب و جعل الممرضة تقيس ضغطي . .
- أريد أن أعود إلى المنزل . .
جلست بغتة لأرى أن الجبيرة قد أحاطت قدمي اليمنى . .
ارتددت إلى السرير بعجز . .
- متى سأخرج ؟
أجابتني آمال . :
- إذا انتهت الفحوصات . .
قالت أمي و ابتسامة واسعة مرتسمة على شفتيها . :
- لقد أرعبتني . . الحمدلله على سلامتك . .
قلت متممة . :
- الحمدلله . .

.
.
احضروا لي الكرسي المتحرك ليقلني إلى السيارة . .
رفضت الجلوس عليه عدة مرات وتحت إصرار الطبيب جلست فيه . .
بينما العكازين مع أمي . . و الممرضة تدفع الكرسي إلى بوابة الخروج . .
كانت تلك هي أول مرة أسير فيها بين الممرات و أنا جالسة . .
المرة الأولى التي أحتاج فيها لرفع رأسي لأرى من يمر بجانبي . .
أن أقاد لا أقود . .
يمكن بدفعة من احدهم أن اسقط أرضاً . .
أحسست لحظتها بأنني شعرت و لو قليلاً بما يحسه من ارتبط بهذا الكرسي لمدة يوم
واحد فقط . .
ركبت السيارة بمساعدة أمي . .
جلست أمي في المنتصف بيني و بين آمال . .
سار بنا السائق ذاهب إلى المنزل . .
سألت أمي و عيني ترقب العالم الخارجي . :
- ماذا حصل مع أبي . ؟
سكتت أمي . . و كان سكوتها مؤكداً لشكوكي . .
أحبت آمال أن تلطف الجو . .
- ألم تعلمي يا هديل . ؟
- ماذا ؟
- سأبيت عندكم إلى وقت ولادتي . .
- أجند أيضاً . ؟
سكتت آمال هي الأخرى و حل الصمت . .
أرحت رأسي إلى إطار النافذة . .
لماذا تأتي المصائب أزواجاً أزواجا . !


|||

قالت لي وهي تحرك يديها و أصابعها بطريقتها الغريبة . .
و عينيها الجاحظتان تحدق فيّ بشكل إجرامي . :
- أهكذا تفعلين بي . ؟
- اهدئي دعيني أخبركِ بالقصة . .
هدئت قليلاً و قليلاً فقط . .
جلستُ على الكرسي . . فجلستْ على الكرسي المقابل لي . .
ضمت ذراعيها إلى بعضهما و وضعت ساقاً تهتز فوق ساق وهي تنتظر مبرراً لي . .
لاحظت أنها أشارت بلغة الإشارة لأحد ما خلفي . .
ألتفت إلى هبة ثم ابتسمت لها بصعوبة . .
ذهبت هبة . .
- أخبريني هيا . !
صرخت بغضب . . ألتفت إليها و أنا اشتمها في سري . .
كم تخيفني إذا تحولت إلى هذه الحالة . .
- حسنا , لقد تشاجرت مع نورة بالأمس شجاراً عنيفاً . .
عنيفاً جداً . . منعتني من استخدام جهازها في الدخول
إلى الانترنت و لكي احرق قلبها . .
أتيت اليوم لأستخدم جهازك . .
ابتسمتُ بحذر . . قالت رهام .:
- ثم . .
- ثم طلبت من فارس أن يحضرني إلى هنا . .
رفض و رفض إلى أن أغريته بدفع فاتورة المطعم . .
- إذن هذا سبب تهذبك اليوم تريدين أن تستخدمي حاسوبي . . هاه ؟
أومأت برأسي بـ نعم . . و ابتسامة رائعة ترتسم على شفتي . .
ابتسمت هي الأخرى و قالت . :
- يبدو أن الأمس كان اليوم العالمي للشجار الأخوي . .
- أتشاجرت مع سعد مرة أخرى . !
أومأت بـ نعم . .
تقدمت هبة منا و بين يديها الشاي و الفطائر . .
وضعتها مع ابتسامة لطيفة . . جلست في كرسي . .سكبت الشاي في الأكواب . .
ثم أعارت انتباهها إلى رهام التي كانت تخبرها بما حصل . .
رغم أنني أصغر من رهام بخمسة أعوام . .
إلا أنني أعتبرها صديقتي و أحضر إلى بيت خالي لأجلها . .
و لأجل الاستفادة منها بالطبع . .
تكره رهام أخي فارس لأنها عندما كانت صغيره تكلمت أمي إلى خالتي
و قالت أنها تريد أن تزوجهما إذا كبرا . .
كانت في ذلك الوقت لا ينفك شجارهما أبداً . .
و خاصة أن رهام من محبي الشجار و لا تترك حقها أبداً أبداً . .
كما أن الندبة الذي بجانب شفتها العليا لن تنساها لـ فارس أبداً . .
و أنه هو من تسبب فيها بضربها بسيخ معدني . .
كانوا أطفالاً لكن حقدها عليه ما زال موجود . !


\|/
|||

- o.k .. o.k … if you want any thing else from me just call me . .
( - حسنا . . حسنا . . إذا كنت تريد أي شيء آخر اتصل بي . . )
دخلت ثم أغلقت الباب بقوة . . لتثير انتباهه . .
أشار لها بالجلوس في الكرسي الذي يقابله . .
ترك كرسي ثم سار بعيداً عنها أدار لها ظهره ثم تقدم إلى النافذة
و تابع حديثه إلى من يحادثه . .
وضعت حقيبتها فوق مكتبه بضجر ثم رمت بنفسها على كرسيه بحنق . .
دفعت الجدار برجليها و أدارت الكرسي . .
ابتسمت بـ عبث وهي تحس بنشوة الانتصار . .
بعد أن رأت بقعة حذائها على الجدار الناصع . .
أغلق الهاتف . . التفت إليها وهو يضع يده في جيب بنطاله . .
- ماذا تريدين . ؟
قالت وهي تدير الكرسي بسرعة أقوى . .
- No thing . .
تقدم إليها و امسك الكرسي على حين غفلة منها . .
كادت أن تقع أرضاً بسبب التوقف المفاجأ . .
أدار الكرسي لتكون مواجهةً له و قال بصوت جامد يهددها . :
- إن لم تكفي عن عبثك سأبعثكِ إلى المدرسة الداخلية . .
حدقت في بؤبؤيه بعينين ضيقتان محترقتان و لم تنبس ببنت شفة . .
- ألم تسمعيني . ؟
لم يكن يرى أي رد فعل . . عدا تلك النظرات الحاقدة و المشتعلة . .
فكر في أنه أخطأ في تدليلها أكثر مما يجب . .
فجأةً . .
قامت ثم دفعت الكرسي بعيداً بغضب جامح . .
قبضت على حقيبتها قالت و هي تمنع دمعتها من الهبوط . :
- أفعل ما شئت . .
خرجت ساخطة من الحجرة و أغلقت الباب مصدرة ضوضاء في ذلك السكون . .
ابتسم لطيف هذه المراهقة الصغيرة . . كم يكره ردودها المنفعلة . .
و كم تذكر بنفسه عندما كان صغيراً . . لكن ستعلمها الأيام الهدوء و ضبط النفس
. .
بعد أن أغلقت الباب . . أدخلت يديها في حوامل الحقيبة بسرعة . .
سمعت صوته البارد يقول للسكرتيرة . .
- send me someone to clean this . .
) أرسلي لي أحداً لينظف هذا . . )
نزلت من الدرج بعصبية و هي لا ترى أي شيء أمامها . .
ضغطت على الأرقام حتى دفنتها بأصابعها . .صرت على أسنانها و هي تقول و بلا
ندم . .
- Hello . . when you can bring me the Bogus Passport ?
( مرحباً . .متى يمكنك أن تجلب لي جواز السفر لمزيف . ؟ )

اسطورة ! 24-02-14 04:53 AM

_3_
( أفسددت الثمرة )

خرجت من الطائرة و نشوة الانتصار تحتويني و ابتسامة رقيقة ترتسم على شفتيها .
.
شددت يديّ على طوقيّ حقيبتي الملاصقة لظهري . .
نزلت إلى المطار . . سرت و أنا أحاول تخيل تفاجئ أبي برسالتي
و إتباعه للمعلومات الخاطئة التي بداخلها . .
أني في تلك البلاد الغبية . . بينما أنا في وطني الآن . .
حررت يداي و حركتهما في الهواء بكسل . .
أخيراً سأعانق الحرية . . و أرى أخوتي . .
اتجهت إلى موقع وجود حقيبتي و أنا أتمطى . .
ما أن أتت تلك الحقيبة الصغيرة حتى أخذتها بحركة سريعة بهلوانية . .
أعتقد أنها رائعة . !
ابتسمت لتنفسي هذه المغامرة الشيقة . .
فلا يمكن لأي احد كان أن يسافر بجواز يجعله اكبر من عمره بثلاث أعوام . .
في السن القانونية تماماً لتسافر وحيداً و تعيش حراً . .
أخرجت ما بصدري من الهواء . . و استمتعت باستنشاق هذا الهواء العليل . .
كم هذا مريح . .
تقدمت إلى المقهى و أنا أجر حقيبتي الكبيرة معي
بينما هناك أخرى تستريح على ظهري . .
جلست على الكرسي و أمسكت بـ قائمة المشروبات . .
ألقيت نظره إلى القمر المنير من خلف زجاج المطار الكبير . .
كم الساعة الآن . . الواحدة و النصف . .
و المطار مكتظ بالمسافرين و القادمين . !
طلبت شوكولا ساخنة . .
أزحت حقيبتي عن ظهري ثم فتحتها لأخرج حافظة نقودي . .
بحثت عنها . . و لم أجدها ! .
ما هذا . !
أنا متأكدة أنني حشرتها في حقيبتي في ذلك المطار الأخرق . !
بحثت عنها عدة مرات . .
لكنها غير موجودة . !
آه لا بأس . . لدي البطاقات المصرفية . .
اوه . . لا !
أنها مستدفئة في تلك المحفظة . .
لقد سرقت . !
غادرت المقهى بسرعة و أنا أفكر في حل لهذه المعضلة . .
بدا حس المغامرة يختفي و استوطن بدلاً منه الخوف . .
عصرت عقلي لأجد حلاً لكن ما من مجيب . !

|||
دقت أناملها على ذلك الشيء الصلب . .
استرخت على السرير أكثر و هي تغرق في التفكير . .
ربما من الأفضل لها أن لا تفكر بتلك السوداوية . .
ربما من الأفضل لو فكرت في شيء يسعدها و يسعد من حولها . .
بدلاً من جعلهم يعيشون الحزن مرتين . .
انتبهت إلى صوت صرير الباب المفتوح . .
وهو يفتح ببطء و كأنه شيء يصعب دفعه . .
خرج من خلفه الطفل حكيم وهو يبتسم بلطف . .
مدت يديها إليه . . تشير إليه لكي يأتي . .
تقدم إليها على استحياء . .
بينما توجأهه بابتسامتها التي أشرقت برؤيته . .
رغم كسر قدمها . .
رغم هرب أبيها خارج البلاد . .
رغم ما تواجهه من مشاكل . .
رغم تلك الأزمة . .
قررت أن تستنشق الأمل مع نسمة كل صباح . .
و أن تواجهه مشاكلها و تحلها مهما كانت صعب . .

من السهل أن نحلم . . لكن الأصعب أن نحقق هذا الحلم . .
|||
تقدمت آمال إليّ . .
و رغم أنها رأتني على هذه الحالة . . ابتسمت لي . .
ثم أتت و جلست بجانبي . .
كان ذلك غريباً . . فكل من بالمنزل يقاطعني بسبب تلك الـ . .
- ماذا تفعلين . ؟
أوقفتْ سيل أفكاري ، غادر بصري إلى السماء المزدانة بضوء القمر . .
اضطرب حالي . . فلم يسألني أحد بهذه اللطافة عما أفعل . .
أحسست بأني فقدت شيئاً كان بين أصبعي . .
بحثت في الأرض عنها . . علها تخفف مما بي . .
و لم أرها . !
أتفت إلى آمال . .
فوجدتها بين يديها تكاد تضعها في فمها . .
و بدون أن أشعر سحبتها منها و رميته تحت قدمي ثم رصعتها بها . .
نظرت إليّ متفاجأة . .
بينما حاولت تفادي نظرتها بالنظر إلى السماء الواسعة . .
لن أسمح لها أن تسمم نفسها بها . .
- لماذا فعلتي ذلك . ؟!
سألتني . . و لم أدري كيف سأبرر فعليّ . .
حدقت في السماء ألف مرة و رسمت خطوطاً وهمية بين النجوم عليّ أجد شيئاً يبرر
فعليّ ؛
أو تنسى ما فعلته بالسيجارة . .
وضعت يدها على كتفي و يدها الأخرى على بطنها . .
شعرت بابتسامتها الرقيقة بجانبي . .
- ما دمتي تعلمين أن هذا خطأ و مضر بصحتي لماذا ترضين لصحتك أن تعاني منه . ؟
لم أجبها . . حاولت الابتعاد عما تقوله . .
و صم إذنيّ عن حديثها باستماعي و تركيزي على أي شيء آخر . .
لم أحرك ساكناً . .
توالت و تساقطت الذكريات من صندوق الذاكرة . .
ما زلت أذكر أول يوم استنشقت فيه سيجارة و كم تقززت من رائحتها و طعمها . .
حتى أفرغت معدتي بما فيها . .
ما زلت أسمع ضحكاتهن عليّ و هن يردن السماع عن مغامرتي و أي إثارة وجدتها
فيها . .
أقنعوني باستنشاقها مرة واحدة لأعانق ذلك الإحساس الذي يراود شاربها . .
شعور من يمسكها بين يديه و يضعها بين شفاهه . .
هذا من باب الفضول لا غير . .
ثم بعد ذلك بدأن يفصحن عن تجاربهن معها . .
إحداهن تعرفت إليها عبر صديقها . .
و إحداهن اختطفتها من علبة أخيها النائم و استنشقتها في حجرتها المقفلة . .
أم الأخرى بقيت صامته و لم تحدثنا كيف تعرفت إليها
و تقول الشائعات أن صديق أمها أعطاها إياها وخجلت رفض طلبه . .
أعفان ولدت أعفانا . .
و كنت أنا تلك الثمرة التي سمحت لنفسها بالتعفن هناك . .
لم يكن هناك ما يبرر لي فعل هذا . .
لكنني وجدت المبرر الآن . . عندما انتحر والدي وجدت لي مبرراً ؛
و عندما أدمنتها أيقنت بأن عذري كان واه جداً حد التلاشي من ذرة نسيم . .
كم هذا مضحك . .
فرغم أنني أعلم بأنها خطأ يوازي خطأ . .
إلا أنني ما زلت مستمرةً فيه . !
توقفت فجأة . . و خرجت من تلك الأعماق السحيقة من نفسي . .
لأجد شفاهي تنطق بما كنت أفكر به و تتحدث عن تلك الذكريات المخجلة لآمال . .
مددت يدي لأمنع شفاهي عن سبر أغواري أكثر . .
سقط بصري إلى الأرض خجلاً منها و خجلاً من كل شيء كشفته إليها . .
شعرت بلمستها الحانية على شعري . .
- لا بأس . . كلنا نخطأ ؛ لكن الخطأ الأكبر أن نستمر على ذلك و نصر عليه . .
و أن كن صديقاتك هكذا فمن الجيد أنكِ هجرتيهن . .
شعرت بنفسي تصغر أكثر و أكثر . ثم قلت نادمة و المياه تغزو عيني . :
- لكني لا أنفك عن الاتصال بهن . .
- يكفي أنكِ تدركين أنهم على خطأ . .
سقطت دمعة من مقلتي أندت التراب . .
- لكنني ما زلت على ذلك الخطأ . !
- و ها أنتِ تسعين لتصحيحه . .
رفعت ذقني حتى أصبحت بمستواها و أدارتني إليها . :
ثم قالت . :
- أليس هاتان العينان تعبران عن ندمهما . . و ترغبان في تصحيح أخطائهما . ؟
أليس كذلك . ؟ !
رمت ببصرها إلى السماء و قالت . :
- كان من المستحيل أن يصل المرء إلى السماء . . لكنه الآن وصل إلى الفضاء . .
فليس هناك شيء مستحيل إن كانت هنالك العزيمة و الإصرار . .
ثم ابتسمت بحب . .

|||
طرقاتُ أناملها على لوحة المفاتيح أقلقتْ مضجعها . .
قالت و يدها تكبس على الوسادة المتوارية خلفها إذنيها . .
- منيرة . . وافقت على مبيتكِ عندي لتستمتعي . . لا أن تحرمي عينيّ من النوم
. .
لم تلتفت إليها . . يبدو أن السماعات قد أصابتها بالصمم . .
أرتدت بعجز على سريرها . .
أحست بحركة خلفها ، استدارت ثم أشعلت نور بسيط
تسلل بين المساحة التي بين سريرها و سرير هبة . .
رأت إشارات هبة تسألها عما بها . ؟
أشارت لها من بين ضحكات منيرة . .
بأنها لا تستطيع النوم بسبب إزعاج منيرة . .
و أن السماعات تمنع منيرة من سماعها . .
دق الباب بقوة . . قامت عن سريرها بضجر . .
ما الذي سيأتي به في آخر الليل . !
تتبعت هبة ببصرها خطوات رهام و استعجبت من توجهها للباب . .
توقفت منيرة عندما رأت رهام ذاهبة ، أبعدت السماعات عن أذنيها
لتفاجأ بصوت طرق قوي . .
خرجت رهام . .
انكمشت منيرة على نفسها ، عندما سمعت صراخه عليها . .
و ردودها المستفزة عليه . .
ما الذي جعلها تبيت هنا . . كم يشعر هذا بالرهبة و الخوف . .
لكنها لكما تذكرت أن هذه هي آخر ليلة له هنا أطمئنت . .
تمنت لو كان على فساده لارتاحوا منه . !
سارت هبة إلى منيرة و أشارت إليها عما يحصل ،
اكتفت منيرة بالإشارة بأنها لا تدري . .
دخلت بهدوء و كأن شيئا لم يكن . .
سألتها منيرة . :
- ماذا حصل . ؟
تكلمت وهي تشير إلى هبة بإشارات مغايرة لموضوع حديثها
حتى لا تعرف هبة ما تقوله . :
- لقد وبخني . . قائلاً بأننا نصدر أصوات مزعجة . .
كانت تتكلم وهي تبتسم في وجه هبة . . و كأنها تخبرها بشيء يسر . !
ابتسمت هبة . . ثم أشارت إليها بإشارات . .
استنتجت منيرة بمعرفتها المحدودة جداً بلغة الإشارة أن هبة تدعو لأحد ما . !
و كم تملكها العجب حينذاك . !
عادتا إلى فراشهما حينما أعادت منيرة انتباهها إلى من تحادثهم . .
أعطت رهام ظهرها لهبة مواجهةً الكرسي الجالسة عليه منيرة . .
- لا تلتفتي أبداً . . مهما قلت . . لا أريد أن تعلم هبة بأننا نتحدث . .
- حسناً . !
- حسناً . ! لقد وبخني سعد لضحكك الذي يتسم بالصوت العالي . .
أرجو أن تنتبهي إلى هذه النقطة . !
- مفهوم . .
- ثم . . منذ متى سمحت لكِ بدخول الدردشة من حاسوبي ؟
ألتفت إليها منيرة بسرعة بوجه مصدوم و كأن قنبلةً انفجرت في وجهه . .
- كيف علمتِ ذلك . ؟
جلست رهام ثم ألقت بصرها على هبة فوجدتها نائمة . . ارتاح قلبها ،
فيكفي ما سببته لهبة من مشاكل بالأمس و إثارتها لتلك الذكريات المشئومة . .
- هل رأيتني و أنا أتحدث . ؟
ألتفتت رهام إليها ثم قالت . :
- هذا لا يهم . !
أطفئت الإضاءة البسيطة ثم قامت من سريرها . .
بينما تداركت منيرة نفسها و استدارت إلى الحاسوب بسرعة لتغلق تلك الصفحات
الكثيرة . .
انعكس نور الشاشة على وجه رهام . .
- لا ألوم نورة إذا منعتكِ من فعل هذا الهراء على حاسوبها . !
نظرت منيرة إلى وجه رهام بعيني مذنب ثم قالت . :
- أنا لم أفعل شيئاً . ! كنت أدردش فقط . !
- و لو كان هذا غير خاطئ لفعلتي ذلك أمامي أليس كذلك . ؟
- نعم هذا صحيح . .
- إذن أدخلي إلى تلك الدردشة ، التي مازلت أذكر اسمها و اسمك . .
صمتت لبرهة ثم أضافت وهي تشدد على حروفها . :
- المخزي . !
جمدت يد منيرة على الفأرة . . لم تحرك ساكناً . .
ربتت رهام على كتفي منيرة بخفة متناهية بعد أن تذكرت ذلك الشيء . .
ثم قالت بسرعة بصوت مرعوب . :
- ابتعدي عن الحاسوب . . لا داعي لفتح تلك الدردشة . .
مال رأس منيرة إلى الطاولة بخزي . .
طرقت رهام على الطاولة بقوة . . و قالت بغضب . :
- هذا ليس وقت الشعور بالخزي . . انهضي قبل أن تحصل مصيبة . !
قامت منيرة ببطء . . و لم تستطع رهام صبراً فدفعتها أرضاً . .
جلست على الكرسي بسرعة . .
قالت بغضب لمنيرة وهي تضرب بأناملها على المفاتيح بقوة . .
- ألا تعلمين في أي مصيبةً وضعتني . !
هذا ما كان ينقصني أن يجد سعد علي شيئاً . .
نهضت منيرة من الأرض بجزع و كأن شيء قرصها . .
قالت بدهشة . :
- سعد . !
هزت رهام رأسها . . و هي تقول . :
- أرجو أن تدركي خطأك على الأقل . . و أنه قد يؤدي إلى شنقي . . و بسببك . .
- لم . !

تابعت ضرب المفاتيح حتى كادت تقلعها من مكانها . .
قالت بسرعة و هي تحاول السيطرة على أعصابها . :
- لأني اكتشفت منذ يومين أن سعد زرع برنامج تجسس في جهازي
يصله بحاسوبه مباشرةً . .
و هو ليس بالبرنامج العادي الذي تكتشفه برامج الحماية من الفيروسات . .
رأيته بالصدفة و أنا ابحث عن صورة ما . . وجدت مجلد فارغ باسم ذلك البرنامج .
.
قالت منيرة بخوف متوجس . :
- و ماذا يفعل ذلك البرنامج . ؟
أخرجت رهام ما بصدرها من الهواء . .
- ما لا يمكنك تخيله . . يقوم بنسخه صورة لشاشة الحاسوب كل ثانية
و يسجل كل نقره يقوم بها المستخدم على لوحة المفاتيح . .
برزت عينا منيرة وهي تشهق . :
- أتعنين أنه علم بكل ما كتبت . ؟
هزت رهام رأسها و هي ترخي أصابعها على لوحة المفاتيح . .
- لا أعلم . . فهو يرسل المعلومات عن طريق البريد . .
و يتم تغيير الإعدادات من نفس الجهاز . .
ذهبت بالفأرة إلى أبدأ ثم ضغطت على إيقاف تشغيل الحاسوب . .
و بدأ الحاسوب بإغلاق نفسه . .
ألتفت رهام إلى منيرة بالكرسي و قالت بجمود و صوت صارم . :
- حري بكِ أن تخافي من الله . . قبل أن تخافي من سعد . !
توجهت رهام إلى سريرها ثم استلقت عليه . . و قالت . :
- لن أحاسبكِ على أخطائك . . ربك هو من سيحاسبكِ عليها يوم القيامة . .
ثم غطت نفسها بفراشها . .
تحررت منيرة من جمودها بعد خمس دقائق من الصدمة التي صلبتها . .
اتجهت إلى فراشها . . و سمعت رهام تقول من تحت فراشها . :
- فكري لو كنت أنا في مكانك . . و فعلتُ ما فعلتي . .
ماذا سيكون موقفك مني . !
أزالت رهام الغطاء عن وجهها ثم جلست بعد أن تذكرت شيئاً . .
قالت لمنيرة المتكورة على نفسها . :
- كنتِ تقولين سابقاً عندما ابتدأتِ هذا المشوار الخائب . .
أنكِ لست من النوع الذي نظنه و أنكِ لن تقعي فيما وقع فيه غيرك . .
و ها أنتِ تسقطين فيما لم يخطر ببالك أن تصلي إليه . .
أتمنى أن لا تكوني قد ارتكبتِ ما هو أعمق من هذا . !
ارتدت رهام إلى سريرها تحاول النوم ، و التفكير في طريقة تساعدها في حل هذه
المشكلة . .
هل تخبر خالتها بخيبة ابنتها . ؟
هل تعلم نورة عم فعلت أختها . ؟
أم نورة تعلم بذلك و تقوم بفعل ذلك أيضاً .؟ !


|||

اتجهنا معاً إلى كوخه الجديد . . كوخه الخاص الذي اشتراه بمال والده . .
ظهر لنا ذلك المنزل الصغير من خلف الأشجار . .
كان تركي متحمس جداً ليريني إياه . .
ابتسمت له بذات الحماس ، تقدمت إليه حتى أصبحت بجانبه . .
وهو يلتفت كل حين إلي و يقول بهدوء يحاول به إخفاء شوقه لرؤية ذلك لكوخ . :
- أرأيته ؟ . !
تابع حديثه و بصره متعلق به و بما حوله . .
- أليس جميلاً رغم بساطته . ! ،
البحر الهائج . . و الأشجار المنتشرة بالأرجاء تضفي جواً من الألفة،
رغم بعده عن المدينة و إزعاج الناس المتطفلين . .
اقتربنا منه أكثر حتى وصلنا إلى عتبة بابه . .
بحث تركي عن المفتاح تحت احد الأحجار . .
و أخرجه من تحتها . . ثم قال وهو يبتسم بفرح . :
- هنا كان يخبئ المالك السابق مفتاحه . .
سألته بينما نحن ندلف إلى داخل الكوخ . :
- متى اشتريته . ! ؟
- بالأمس . .
ذهلتُ من رده . . فقد كان معي بالأمس . !
- لكن كيف اشتريته . . و قد كنت مع طوال اليوم . !
أشار إلى السقف وهو يضحك . .:
- ما بك .؟ . . انه عصر الانترنت و الأقمار الصناعية . .
اخذ يجول في المنزل . . يتلمس جدرانه و يفحص حالته و كأنه يراه لأول مرة . !
انتبه تركي أني واقفاً أتابع ما يفعله بدهشة . .
فقال وهو يبرر لي منظر المنزل العادي . :
- لم أكن أريده لتفاخر أو لاستجمام . . أردته ليكون مكاناً لمبيتي . .
لقربه من الغابة و مقابلته للبحر . .
أمسك بإحدى الوسادات الصغيرة ثم جلس على الأريكة المنفردة و قال بترقب فرح .
.:
- ما رأيك فيه . ؟
تلمست ملمس الجدار . . ثم ذهبت لألقي نظرة من خلف الشرفة . .
كان المنظر ساحراً . .
وقفت هناك ثم قلت . .:
- أنه رائع . !
وقف تركي بسرعة ثم قال . :
- جيد . . ما رأيك أن نرى ما يحتوي من حجرات . ؟
اندهشت و للمرة الثانية . !
- ألم يرك صاحب المنزل الصور . ؟
صعد إلى الأعلى مع الدرج وهو يقول . :
- كلا . . لقد اكتفى بوصف المكان . . لم يستطع تصويره لأنه خارج البلاد . .
حسناً . .
صحيح أنني قد أكون أبلهاً في بعض الأحيان . .
لكن ليس هكذا . .
أأشتري منزلاً لم أره . !
و من مالك مسافر . ! غير موجود . !!
لكنه لا يهتم لشيء مادام المال يتساقط تحت قدميه . .
فكرت للحظة . .
حتى أنا يتساقط المال تحت قدميّ . .
أوه لماذا أشغل نفسي بالتفكير و كأنني أحد الحكماء . !
- ألن تأتي . ! ؟
صعدت على الدرج و أنا أقول . :
- أنا قادم . .
ظهرت لي في البداية سطح الطابق الثاني و كانت مرصوفة إحدى أنواع السيراميك أو
الأحجار . .
في الحقيقة . . لم أعرف ما هي . !
ثم بدا بعد ذلك صالة صغيرة تحتوي على تلفاز و آرائك متراصة بلا أي تناسق جميل
. .
ما أن تصعد إلى الطابق العلوي . .
حتى يتفرع الطريق بك إلى قسمين يتوسطهما الصالة . .
عن يميني ممر يقف فيه تركي ، فتح باب إحدى الغرفتين ثم دخل بها . .
تابعت خطواته ثم دلفت إلى الحجرة . .
كان الحجرة من أول نظرة تخبرك بأنها حجرة فتاة ،
لامتلائها بالفراشات الساقطة المتشبثة بالسقف بخيط دقيق . .
تبدو الفراشات و كأنها تطير في الهواء ، فوق رأسك . .
وهي تبدو يدوية الصنع . .
حلقت أصابعي حول إحدى الفراشات الطائرة ، ثم لممت أصابعي و ضغطت عليها . .
فتحتها لأرى الفراشة قد غدت كالعجوز بتجاعيدها . .
ابتسمت و أنا أوجه بصري إلى تركي . .
قال وهو يمسك إطار صورة بين يديه و يتأمل في صورة ما . :
- كان مستعجلاً جداً . . لدرجة أنه نسي أن يأخذ صورة ابنته . !
سكت برهة ثم ألقى تركي نظرة أخرى . و قال . :
- تبدو في بداية العشرينات . !
ابتسمتُ و أنا متحمس لأراها . . قلت و أنا اتجه إليه . :
- حقاً . !
هبّ تركي واقفاً وهو يرفع الإطار . .
خرج مسرعاً من الحجرة و صوته يتردد في أرجاء المنزل . .
- حاول أن تمسك بي . !
و انطلقت خلفه . .

|||
وضعت يدي تحت الماء البارد . . ثم غسلت وجهي به . .
عليّ أصحو من هذا الكابوس . !
لكنه لم يكن حلماً . . كان هذا من صنع يديّ . .
فأنا من خطط للهرب و أنا من يجب أن يجد طريقه بنفسه . .
أغلقت صنبور الماء . .
مسحت يديّ بالمنديل ثم رميته على الأرض مبللاً مشتت في قطع صغيره . .
لم تستطع أناملي مقاومة تمزيقه أرباً أربا . .
أمسكت حقيبتي ابحث فيها عن هاتفي النقال . .
بحثت عنه في كل مكان . .
بدآ حاجبي متحدان ببعضهما . .
لا يمكن أن أكون قد نسيته أيضاً . .
شعرت بيدي تلمس شيء صلب . .
أوه الحمد لله . . ها هو . !
وجدته . .
قبضت عليه بيدي و أنا اقفز و أردد بفرح . .
- yes . .yes .. yessssssss
خرجت من حمام النساء . . و مشاعر الفرح قد حجبت خوفي . .
أمسكت بهاتفي . .
دققت رقم هاتف بسمة . .
لم تضيء الشاشة . .
ضغطته مرة أخرى . .
و لم تضيء أيضاً . !
أوه لا . .
أنا متأكدة أنني قد شحنت البطارية . !
فتحت الهاتف من الخلف . .
و لم أجد البطارية . !
هذا اليوم ليس بيوم حظي أبداً . !
اتجهت إلى السيدة الكبيرة و الوحيدة الجالسة في قاعة الانتظار . .
- عفواً هل يمكنني استخدام هاتفك . ؟
سألتها . . و لم تجبني . !
كررت سؤالي . .
- هل يمكنني استخدام هاتفك . ؟
قالت بعينيها النزقتان . :
- لا !!
- أرجوك . . أنا في مشكلة . !
- حليها بعيداً عني . . و أتصلي على صديقكِ ليأتي إليكِ . .
أكملت بقلب حقود و هي تهذي بنزق . :
- هذا ما تقمن بفعله هذه الأيام . . تصادقن الشباب . .
و عندما يأخذونكم لحماً و يرمونك عظماً تبكون و تصيحون . .
و كأنكم لم تخطأوا . . و من الغد تصبحن إحدى بنات الهوى . !
تركت تلك العجوز تكمل هذيانها لوحدها . .
تلفت حولي بجزع . .
فلم يتبق أحد في هذا المطار إلا القليل من الناس . .
شعرت بالوحدة و الخوف . .
اتجهت إلى أحد الهواتف المعدنية . .
بحثت بين جيوبي علي أجد أي عملة تنفعني لأتصل على بسمة أو عبد الله . .
خرجت يداي من جيبي خاوية الوفاض . .
خاب أملي أكثر و أكثر و ازداد عمق خوفي و وحدتي . .
تقدم إليّ شخص ما مريب و مخيف . .
ثم قال بصوته المريع و ابتسامته المقززة . :
- إلى أين تريدين الذهاب يا آنسة . ؟
تراجعت إلى الخلف أخبره انه ليس معي نقود عله يبتعد عني. :
- شكراً . . لكن ليس معي نقود . .
ابتسمت بحذر ثم التفت لأحاول الهرب . .
أحسست بيد قوية تمسك بذراعي و صوت يقول . :
- لا تهمني النقود . . أن من سيدفع لكِ النقود أن أردتي . .
ثم ابتسم ابتسامته البشعة مرةً أخرى . .

اسطورة ! 24-02-14 04:56 AM

_ 4 _
( كابوس )

صوت أزيز المنشار زاد من عدم ارتياحي و قلقي . .
أخذت أتأمل في الجبيرة و هي تجزر من وسطها ، و كأن ساقي تجزر بدلاً عنها . .
ظللت أحملق في المنشار خوفاً من أن يجز لحمي . .
توقف صوت المنشار عن الأزيز . . ارتحتُ قليلاً . .
ثم عادت دوامة الهلع تبتلعني . . حينما احضروا مقصاً كبيراً ليقصوا رجلي . .
أقصد القطن المحيط لقدمي . .
ابتسمت الممرضة و هي ترى قسمات وجهي الخائفة . .
- يمكنك الآن تحريكها . .
ما أن قالت الممرضة هذا . . حتى بدأت بتحسس قدمي بفرح . .
فقد أصبحتْ حرة أخيراً بعد أن كانت تحمل على عتقها جبيرة صلبة ثقيلة . .
حركتها بصعوبة طفيفة . .
تحسست ساقي و أخذت أدلكها . .
ابتسمت الممرضة بعمق و قالت . :
- حاولي الوقوف عليها . .
ارتفع حاجبي و ابتسمت شفاهي ببهجة . :
- أحقاً يمكنني الوقوف عليها . !
ابتسمتْ بلطف . :
- بالطبع . .
تنحيت عن السرير بسلاسة ثم حاولت الوقوف و يديّ متشبثة بحواجز السرير . .
حركت قدمي على الأمام و الخلف بسعادة . . شعرت و كأني ولدتُ من جديد . .
فيمكنني الآن العودة للدراسة في الجامعة و التخلص من تلك الأريكة الكئيبة . .
ألتفت إلى الممرضة لأشكرها . .
فوجدتُ بصرها شارد يحدق في آمال المتعبة و المسترخية على إحدى الكراسي . .
فقلت لأوضح . :
- أصرت أختي على القدوم معي . .
ابتسمت لها . . أدارت بصرها إلي لبرهة ثم عادت به إليها و قالت . :
- تبدو في الشهور الأخيرة . .
اتجهت إلى السرير و جلست عليه حتى ألبس حذائي الآخر القاطن في الكيس . .
و قلت . :
- أنها في الشهر التاسع . . أسبوعان و ستدخل المنطقة الحرجة . .
ابتسمت باضطراب . . لا استطيع تخيل صعوبة الولادة . .
أتت إليّ بغتة و قالت بجدية فاجأتني . :
- يجب أن تتعلمي كيفية الولادة المنزلية . .
- الولادة المنزلية . !
فكرت للحظات بأن أقوم بتوليد آمال . . هذا مستحيل . !
لن أتحمل رؤية الدماء . !
- يجب عليك ذلك . . الأوضاع تزداد خطورة و جدية . .
بهتُ فجأة من جديتها في الموضوع . . ظننت أنها تمزح . !
- ماذا تعنين بأنها تزداد خطورة و جدية . ؟ !
أخذت تجمع القطن و بقايا الجبيرة و تلقي نظرة قلقة على آمال بين الحين و
الآخر . .
و هي تقول . :
- لقد بدأ الوزراء و من لهم صلة بالملك بالتحصن في مواقعهم . .
- ماذا تعنين . ! ؟
- كما أن الجيش بدأ بالمناوشة على حدود البلاد مع البلاد الآخر . .
رمت ما بيديها في القمامة و قالت . :
- لدي كتاب عن الأمومة و الطفل . . و الولادة و ما يتليها سأهديه لك . .
ازداد رعبي . . هل الأمر بهذه الجدية و الخطورة . !


|||

لم أتجرأ على الصراخ و طلب العون من أي أحد حولي . .
كنت أحاول فقط سحب يدي من قبضته بضعف واهٍ . .
و صلنا إلى البوابة المنارة بالأضواء . .
كانت الناس قليلون و لم تمتلكني الشجاعة الكافية لأستنجد بهم . .
لمحت من بين غشاوة عيني المائية وجه مألوف معه شخص آخر . .
بدأت الشجاعة تلبسُني . .
صرختُ بقوة . .
لم أعرف بأي شيء تلفظت . .
شعرت بقبضته تحرر يدي بسرعة . .
و رأيت طيفه الأسود يولي هارباً بينما يقترب مني شخصان ضحكاتهما المتبادلة
العالية . .
و حديثهم يصل إلى أذني . .
رمشت بجفني حتى اتضحت الرؤية كان أخي عبد الله و شخص ما . .
ابتسمت و أحسستُ ببعض الآمن . .
انطلقت إليه بشوق عارم و احتضنته بقوة و أنا أقول . :
- اشتقتُ لك . .
شعرت بيدي وهو يبعدهما . .
و يبعد رأسي و كأنه في قمة الإحراج . .
ما باله أخي يحرج من أمر كهذا . !
رفعت رأسي لأرى أخي يقف بقربه و عيناه جاحظتان . .
شحب وجهي للحظة . .
ماذا فعلت . !
لقد أخطأت في العنوان . !
لم أشعر إلا بطعم الدم يسري في فمي . .
قال عبد الله ضاحكاً و بشكل أبله . :
- لا بأس كان حادثاً . . accident . . accident . .
ثم أضاف بعد برهة وهو يخرج منديلاً . .
- أن شفتك تنزف . .
ابتعدت قليلاً عنهما . . بصمت و منديل أخي في يده . .
كم هذا محرج . !
كيف سأقابلهما . ؟ !
سمعت عبدالله يقول لمن معه وهو يغير الموضوع . :
- و كنت تقول أنها صورة فتاة، و هي صورة منظر طبيعي . ! يالك من مخادع . !
ضحك صديقه بخفة و كأن شيئاً لم يكن . .
ألتفت إليهما و أنا اقنع نفسي بأن أتصرف بشكل طبيعي و أن أنسى ما حدث . .
و لكي أحرج نفسي أكثر . .
ركزت بصري على عبد الله ثم قلت فجأة . :
- أنا جائعة . !
قال عبد الله لصاحبه وهو يحاوره . :
- ما رأيك أن نتناول العشاء في مكان ما . ؟
بدا على وجه صديقه عدم الموافقة لكنه قال على مضض . :
- لا بأس بذلك . .
تذكرت للحظة أنهما لم يسألني عمن كان معي . ؟ !
و كيف لم ينتبه لي من البداية . !
هذا شيء يثير أعصابي حقاً . !
اتجهنا إلى السيارة . .
ركبتُ بالخلف . .
بينما أدار صديقه المقود و أخي يجلس بجانبه . .
كان واضحاً من تلك الأدوات المبعثرة و الخرائط حولي ، أنهما كانا في رحلة . .
أمسكت بإحدى الخرائط المتهرئة ، فتحتها . .
كانت مثيرة للاشمئزاز . . بخطوطها و ألوانها الباهتة . .
كم أكره الجغرافيا . !
سمعت صوت صاحبه ، يقول بحنق بسيط . :
- لا تعبثي بها . . هلّا أعدتها إلى مكانها . !
أشرت برأسي بنعم . .
و ملامح الاستخفاف تلعب بوجهي ، كيف له أن يخاف على شيء كهذا . !!
طويتها ثم أعدتها إلى مكانها مع باقي الخرائط . .
توقفنا عند مطعم ما ، خرج أخي و صديقه ليبتاعا الطعام و تركاني وحيدة في
السيارة . !
فتحت الباب ثم ترجلت من السيارة . .
مازال باب السيارة مفتوحاً و نفسي تراودني في الدخول إلى المطعم أو الجلوس في
السيارة . .
ابتسمت بشقاوة و لهو . .
أظن أنه من الأفضل . .
أن أظل في السيارة و أعبث بما بها ماداما ليسا موجودين . .
ركبت السيارة و أغلقت الباب . .
تقدمت برأسي إلى الأمام و أصبحت بين المقعدين الأماميين . .
أخذت أعبث في الأدراج . .
و لم أجد إلا خرائط لا تشبع فضولي . .
وجدت حقيبة أخي . .
أخذتها ثم فتحتها ,. .
أمسكت بملف ما . .
أووه كم هذا مقزز . . مازال يبحث في تلك الحشرات . .
و لم يجد إلا الصراصير لتكون عنوان بحثه . .
كم هذا مقرف . !
أدخلت يدي داخل الحقيبة تحسست صندوقاً زجاجياً و صندوق آخر مستطيل الشكل
وأكبر حجماً من الصندوق الأول ..
أخرجت الكبير كان ابيض اللون و في منتصفه زجاج يتيح للفضولي أمثالي معرفة ما
به . .
اندلع لساني دون أن اشعر ، وغدت قسمات وجهي كآكل الليمون الحامض . .
أوه . . لا . .
صراصير محنطة . .
أبعدت عيناي عنهم بسرعة . .
اشتدت قسمات وجهي للخلف . .
سأفرغ ما بمعدتي . .
ألم تجد يا أخي حشرات أفضل من هذه . !
ألقيت نظره عليهما . .
فوجدتهما يدفعان الحساب . .
رميت الحقيبة بعنف إلى المقعد الأمامي المجاور للسائق و عدت إلى مقعدي . .
متظاهرةً بالهدوء . .
بينما كنت أرقب حضورهما . .
أحسست بشيء يقفز و يحاول الطيران قرب الزجاج الأمامي . .
و لأن الضوء كان خافتاً . . خمنت بأنها فراشة صغيرة . .
ابتسمت ابتسامة واسعة . .
ما هذا أيعقل أن تكون فراشة . ! ؟
شعرت بها تقترب إليّ . .
اتضح لي أنها صرصور بعدما هبط بين يديّ . .
فتحت الباب بسرعة و أن أصرخ . .
و جلد مقشعر من وقعته عليّ . .
بينما هو يدور طائراً كالأعمى حولي ، يصطدم بباب السيارة و السيارة الأخرى .
.
هبط على الأرض . .
عندها استجمعت ما عندي من شجعه و أغمضت عيني . .
ثم دست عليه بكل قوتي . .
بقيت قدمي واقفة عليه . .
تقززت نفسي أكثر بعدما تذكرت أنني ظننته فراشة . .
ياللقرف . !
اقترب مني عبد الله مسرعاً لاهثاً وهو مرعوب من ملامح وجهي المفزوعة . .
سألني عبد الله بعد أن ألتقط نفسه . :
- ما الذي حصل . ؟
كدت أبكي بعدما تذكرت تلك المفاجئة المشئومة . .
اقترب صديقه بعد لحظات و بيده كيس العشاء . . و قال . :
- ما الذي حصل يا جماعة . ؟
رفعت قدمي ببطء و أنا أقول بنفس مشمئزة . .
- لقد ظهر هذا الصرصار الطائر في وجهي . .
أغمضت عيني و أنا أدعك أسفل حذائي بالإسفلت عله يبعد بقايا الصرصار . .
ضحك صديقه و قال . :
- أليس هذا يشبه صوصو . ؟
ضحك أكثر وهو يقول . :
- ألم أقل لك يا عبدو أن أمانيّ تتحقق . ! فهاهو اليوم مقتول و مثلما تمنيت
بدهسه من احدهم . .
قلت بحنق . .:
- لست بأحدهم . . اسمي ريناااد . .
فتحت الباب . . ثم ركبت السيارة ثم جلست بروية و أنا أعاين مكاني
و أتأكد من صلاحيته للجلوس . .
ركبا الاثنان . .
ركب صديق عبد الله و ابتسامة انتصار و سرور تعلو محياه . .
وضع الكيس بينهما . .
ركب عبدالله أو عبدو كما ناده صاحبه وهو مكتئب و يهذي . .:
- لقد ربيته منذ صغره . . أردت أن أراه وهو يطير . . و من ثم أضيفه في
مجموعتي . .
كنت سأجري عليه الأبحاث . .إلخ .
بينما كان صديقه يضحك بين الحين و الآخر على ما حصل . .
أصممت أذني عما يصدرانه من إزعاج . .
فليست مواجهة الصرصار و لوحدك شيء مضحك . .
و ليس بفقدانه أيضاً شيء محزن . !
أخذت أتأمل في الشوارع التي افتقدها ،
خطر ببالي سؤاله عن كيفية معرفته بمكاني . !
أرخيت أذني لأسمع تذمر عبدالله . .
- هذا هو ثاني صوصو يقتل . . الأول مات خنقاً بإبادة تركي . .
بينما الآخر داست عليه الآنسة ريناد . .
هذا ليس عدلاً أريد أن أحضر طيرانه فكلكما حضرتماه إلا أنا . !
كتمت ضحكتي فأخي يبدو طفلاً صغيراً حينما يفقد شيئاً و تصرفه مغاير لما يفعله
الآخرون ،
و ذلك لأن عصبية والده التي طبعت بصمات على جسده مازلت موجودة ، فهو يمقت
نفسه
حينما يتصرف بشكل عصبي و لذلك يبقى مرحاً طوال الوقت و يحاول حبس غضبه قدر
استطاعته و يتذمر بدلاً عن ذلك . .

ابتسمت بعطف ، هذا هو أخي الذي أحبه . .
عاد السؤال مرةً أخرى ليتجول في عقلي . .
فآثرت طرحه على التفكير فيه . :
- عبد الله . .
اسند رأسه إلى يده المستندة إلى الباب قائلاً بضجر . :
- نعم . .
- ما الذي . . .
قطع سؤالي رنين هاتفه النقال . .
رفعه و رد على المكالمة . .
- أجل . . أجل . . أخبرتكِ بأنها معي . .
رفع رأسه متنهداً . :
- حسناً . . سنتناول العشاء و نحضرها إليكِ . .
ألتفت إلى العالم المتحرك خلف زجاج النافذة . .
أيعقل أنني أشكل عبئاً على أخي . .
بالطبع . !
فقد قتلت صوصوه المقزز . .
لحظة لست وحدي من قتل صوصوه ، فهناك من أباد صوصوه الأول . !
أوه . . مهما كان لابد أن أعتذر . .
ألتفت إليه . :
- أنا . .
رمشتُ بعيني مرةً أخرى غير مصدقة لما أره ، فتأكدت بأن هاتفه قبالة وجهي
مباشرة . .
- تفضلي . . بسمة تريد محادثتك . .
شعرت بفرحة عظيمة و ابتسامة كبيرة ترتسم على شفتيّ . .
كم هذا رائع . !
سحبت الهاتف من بين يديه بقوة . .
- اشتقتُ لكِ كثيراً . . جداً ، جداً ، جداً ، جداً ، جداً ، جداً
سمعتها ضحكتها الرقيقة عبر الأثير . :
- توقفي أرجوك . . لقد أدركت مدى شوقكِ لي . .
- كيف سمحت لكِ المدرسة الداخلية بمحادثتي في هذا الوقت . !
قالت بلطف . :
- كم يلزمكِ من الوقت لتعلمي بأني في الجامعة الآن . . و أنني لست بطفلة
صغيرة . .
و أنني أكبر منكِ سناً أيضاً . .
- حسناً . . حسناً . . لقد أدركت ذلك الآن . . لا داعي للعصبية . .
- متى ستصلون إلى العاصمة . ؟
- العاصمة . !
- نعم . . انتقلت إلى هناك لأكمل دراستي . .
- لحظة . .
أغلقت الميكروفون بيدي و قلت لعبد الله بلهجة مؤنبة . :
- ما الذي تفعله بسمة لوحدها في العاصمة . ! ؟
- و ما الذي تفعلينه وحدكِ في الطائرة و أنتِ تحت السن القانونية . !
أخرسني ذلك الأحمق . !
عدت لبسمة و أبعدت يدي عن الميكروفون . .
- كيف علمتم بأني وصلت . ؟
- لقد أتصل علي والدك ينشد عنكِ و يسأل عن حالك . . و أن كنت وصلت أم لا . .
ظهرت ملامح اليأس على محياي ألا يمكنني خداعه و لو لمرة واحدة . !
أنصتُ لما تقوله بسمة حينما قالت . :
- و سيأتي ليعيدك حينما تتحسن الأحوال الجوية لديهم . .
عندما أحست بصمتي قالت بصوت مطمئن . :

- لا تخافي سوء الأحوال الجوية مرتبط بحركة الملاحة فقط . .
و في الحقيقة لم يكن هذا ما ألزمني الصمت . .
فأبي سيأتي ليبعدني عنهم و لن أراهم حتى تنتهي الحرب أو ينتهوا . .
غرقت عيني بقطرات الدموع . .
- ريناد هل أنتِ بخير . ؟
- نعم . . أنا بخير . . وداعاً . .
أغلقت الهاتف و أنا واثقة أن بسمة قد أصابها القلق بسبب صوتي المبحوح . .
ناولته الهاتف . .
و قلت . :
- رجاءاً دعنا نذهب إلى بسمة أولاً . .
- ماذا عن العشاء . ؟
- لا أشتهيه . .
تدخل تركي موجهاً حديثه لعبد الله . .:
- ما رأيك أن نتناول العشاء في السيارة . ؟
أومئ عبدالله بالموافقة . .
ثم وزعنا الشطائر . .




|||

كانت الممرضة تكلمني بوجه جامد . .
- يجب أن ترحلي . . يجب أن ترحلي . ،
أذهبي إلى أي مكان . . أذهبوا بعيداً عن هنا . .
و بدأت تخرج ونين حاد و طويل يشبه صوت الطائرات ثم اختلطت معه أصوات صفارات
الإنذار و صوتها العالي يخترق أذني . .
وجدتُ نفسي بعدها أجلس بجانب آمال المتمددة في الشارع و الآلام المخاض ترنو
إليها
بينما الدماء تغطي يدي و تغطي ما حولي و النيران و المتفجرات تتفجر من حولنا
. .
كنت مرعوبة لا أعرف ماذا أفعل . .
ألتفت حولي أبحث عن مساعدة فوجدت النيران قد منعت خالتي من مساعدتي
بينما حجب الدمار و الحديد المتناثر محاولاتي اليائسة لجذب انتباه أمي
و التي تمشي بهدوء يتضاد مع ذلك الدمار . .
اختفى المشهد فجأة . .
أغمضت عيني ثم فتحتهما . . شعرت بالماء الذي رطب وجهي و شعري و جزء من ملابسي
..
أدرت عيني إلى من حولي . .
كان خالتي تنظر إليّ و بيدها كوب ماء . :
- لا بأس عليكِ يا ابنتي كان كابوساً . .
درت بعيني حولي مرةً أخرى لأرى الأطفال الصغار مستيقظين ما عدا محمد الذي
يشتكي من ضعف في السمع . .
أيقنت عندها أنني صرخت بأعلى صوتي و أنني قد أيقظت هؤلاء الأطفال . .
مسحتْ على وجهي بالماء لتعيد إليّ وعيي مرةً أخرى ، و هي تردد . :
- بسم الله . . أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق . .بسم الله الذي لا
يضر مع اسمه شيء في الأرض و لا في السماء و هو السميع العليم . .
قربتْ كوب الماء إلى شفتي المرتجفتين . .
أكان كل ذلك حلماً حقاً . !
لا يمكن أن يحدث هذا . .
هببتُ من سرير مسرعةً للبحث عن ذلك الكتاب الذي أعطتني إياه تلك الممرضة . .
أخذت أفتح الأدراج . . بحثاً عنه بينما خالتي تحيطيني بأذكارها . .
لم أجده هناك . .
بحثت عنه مرة أخرى و هلعي يزداد بازدياد كل خفقة يخفقها قلبي . .
وجدته . !
قبضت عليه بقوة . .
يجب علي قراءته الليلة . .
اتجهت إلى سريري وجلست القرفصاء و الكتاب بين يديّ . .
و خالتي تتابعني بعينين مشفقتين على حالي . .
نهضت من سريري و خرجت من الغرفة لأبحث عن مكان يبعدني عن عينيها . .
خرجت إلى الساحة و جلست على الدرج المتدرج من مرتفع مدخل بيتنا الداخلي . .
التهمت الكتاب بنهم الجائع من مقدمته حتى انتصفت فيه . .
تسلل إلى أذني نداء الصلاة . .
" الله أكبر . . الله أكبر . . اشهد أن لا إله إلا الله . . أشهد أن محمداً
رسول الله . .
حي على الصلاة . . حي على الصلاة . . حي على الفلاح . . حي على الفلاح . .
الصلاة خير من النوم . . الصلاة خير من النوم . . الله أكبر . . الله أكبر .
.
لا إله إلا الله . . "
أغلقت الكتاب و أنا أتنهد باطمئنان . . وكلتُ أمري إلى الله . .
ثم توجهت إلى الداخل لأتوضأ و استعد للصلاة . .


|||
قامت عن فراشها برأس مثقل بالنعاس . .

حاولت فتح عينيها و مقاومة النعاس الذي يغريها للعودة إلى النوم . .
سحبت أقدامها إلى خارج الغرفة . .
و قبل أن تخرج ألقت نظره إلى حاسوبها فرأته على هيأته منذ الأمس . .
الأمس . . هل كان ذلك بالأمس . !
أغلقت الباب خلفها . .
شعرت بأحد ما يقف بعيداً عنها . .
رفعت رأسها بتثاقل و هي ترمش بعينيها لتزيل الأثقال التي تجذبها لإغلاق
عينيها . .
و لتحاول أن تعي ما حولها . .
كان سعداً واقفاً هناك ببذلته العسكرية . .
خرج من شفتيها هذا السؤال . :
- أستذهب . ؟
- نعم . !
قالها بجمود . .
أمسكت أذنها اليمنى و أخذت تمرر أنملتها على الصيوان مفكرةً لولهة
ثم استدارت إلى الحمام . .
لحظة . !
أهذا يعني بأنها يمكن أن لا تراه مرةً أخرى . !
ألتفت إليه بسرعة . .
لتجد الرياح تعبث بمكانه الفراغ . .
اتجهت إلى الطابق السفلي تبحث عنه ، يجب عليها أن تودعه على الأقل . .
نزلت الدرجات بسرعة و انطلقت إلى الخارج . .
توقفت بجانب الباب مستندةً إليه بكسل و هي ترقبه وهو يودع والدتها الباكية .
.
أرخت رأسها إلى الباب . .
ابتسمت له وهي تكتم دمعتها الآسية حينما رفع رأسه بنظرته الخالية من أي تعبير
. .
تركت الباب ثم ذهبت إليه . .
صافحته و ابتسامتها تناضل شفتيها تحاول التشبث بهما . .
وقفت على أمشاط قدميها ثم قبلت رأسه ثم قالت . :
- اعتني بنفسك . .
لم ينبس بشيء . . خرج و نظرة عينيه لم تتغير . .
أغلقت الباب خلفه و هي تشاهد والدتها تنحب و تبكي على ابنها . .
تهاوت ابتسامتها أخيراً و ارتجفت شفتيها بينما عينيها أغرقتا بالدموع . .
- هاي . . ألن تأتوا لتناول الفطور . ؟
نطقتها منيرة بمرح . .
خرجت إلى الخارج و هي تراقب ذلك الموقف الدرامي . .
قالت محاولة إضافة القليل من المرح على الموقف . :
- ألن تكفا عن محاولة تقليد الأفلام الهندية . ؟
ألقت رهام بصرها عليها تحدق فيها بنظرات مؤنبة لم تنسى ما فعلته بالأمس . .
- آآآ . . ما رأيكن لو دخلنا لتناول الفطور . ؟
لم تزل عيني رهام لم تغادرها . .
قالت بارتباك . :
- حسنا . . سأذهب . . لـ غلي . . الماء . .
استدارت عائدةً حتى أوقفها ذلك الصوت . :
- لماذا أتعبتِ نفسك و أنتِ ضيفة في بيتنا . .
ألتفت إلى خالتها و هي تبتسم و نظرات رهام لم تهجر عينيها بعد . :
- هذا . . واجبي . .
ثم دلفت إلى الداخل . .
غادرتا الساحة الصغيرة و دلفتا إلى المنزل . .
ما أن أنهوا فطورهن حتى هّبت منيرة لتنظيف الأطباق . .
و دخلت في محادثة بسيطة معاتبة من خالتها بأنها ضيفة و يجب أن لا تغسل
الأطباق معهم . .
ذهبت رهام لتغسل يديها . .
فتحت الصنبور و جعلت يديها تنعم بالماء الدافئ و هي تحدق في مجرى المياه
شاردة . .
أتت يد ما و أغلقت الصنبور و لم تنتبه إلى ذلك ،
إلا عندما توقف الماء عن الانسلال بين يديها . .
ألتفت إليها ، ابتسمت هبة في وجهها و أشارت لها . . ( عما تفكرين . ؟ )
قالت رهام وهي تشير إليها . .
- لا شيء . .
أخذت المنشفة لتجفف يديها . . أحست بنقرة هبة على كتفها . .
التفتت إليها . .
أشارت لها هبة . .( ما الشيء الذي وقعت فيه منيرة . ؟ )
ابتسمت رهام و قالت . .
- و ما الذي يجعلك تظنين هذا . ؟
أشارت لها هبة . . ( أنها تتفانى في عرض خدمتها اليوم . . و هي لا تفعل ذلك
إلى إذا كانت مخطئة . . )
تابعت رهام الابتسام و هي تقول . :
- و كيف علمتِ ذلك . ؟
أشارت لها . . ( أتذكرين حينما كانت معجبة بإحدى الفتيات . . و كشفتي رسالتها
. . و أيضاً عندما فعلت ذلك الشيء. ؟ )
ضحكت رهام بخفة . .
أشارت لها . . و قالت كاذبة بابتسامة مزيفة . :
- هذه الفتاة مليئة بالمشاكل لكنها لم تخطئ هذه المرة . .
ربما تود أن تبيت عندنا أكثر من ليلة ، خاصةً بعد رحيل سعد . .
أشارت لها هبة و هي تبتسم باطمئنان . .
( كم هذا مطمئن لقد خشيت أن تكون قد وقعت في مشاكل مرةً أخرى . . )
عادتا إلى الصالة و هبة تراقب تصرفات منيرة المثيرة للإعجاب . !

|||


تابعا الحديث و المناقشات المملة بالنسبة لـ ريناد و تجاهلوها و كأنها ليست
في نفس السيارة . .
كتمت غيضها بقضم قطع كبيرة من الشطيرة اللذيذة . .
و شرب المشروب الغازي الغير مفضل لها بتاتاً . .
استقبلتهم أضواء العاصمة باليمن و الترحاب ،
بينما تراخت أشعة الفجر و استراحت خلف أضواء العاصمة . .
كانت هذه أول مرة تدلج فيها ريناد إلى العاصمة منذ مدة طويلة . .
أخذت تقلب عينيها و تراقب ما حولها بشفتان مزممتان ضجرتين ، و هي تفكر . .
متى سأصل إلى سكن بسمة هل هو بعيد إلى هذه الدرجة . !
لقد طلع الصبح و أنا لم أصل بعد . !
أووه . .
كم هذا متعب . !
كم من الـ ( كم ) هنا في هذه البلاد . !!
لـ ربما لو جلست في منزلي لكان أفضل لي من أن تحدث لي تلك الحوادث . .
فأولاً سرقت محفظتي ،
ثم نسيت أين وضعت بطارية هاتفي النقال ،
ثم ذلك الرجل المقزز ،
و أخيراً ذلك الصرصار الغبي المجنون . !
تنح الآن شعورها بالمغامرة و تسلل شيئاً فشيئاً و احتل موقعه الضجر . .
توقفت السيارة . . حينما ترجل صاحبه من السيارة ،
قال عبد الله وهو يهم بالنزول . :
- سنذهب لنشتري بعض الكتب و الخرائط . . يمكنك المجيء إذا أردتي . .
نزلت ثم أدارت بصرها عما حولها فوجدت نفسها أمام إحدى المكتبات الكبيرة
و أشعة الشمس تحاول غزوها بنورها الساطع . .
ما الذي يفعلانه في الصباح الباكر . !
دلفت إليها و رأت عبد الله و تركي يذهبان إلى ما يريدانه . .
أخذت تقلب نظرها ذات اليمين و ذات الشمال، تعتبر المكتبة شبه فارغة من الناس
. .
و لا يوجد ألا هذا الرجل الطاعن في السن و نسوة قليلات تناثرن يبحثن عن
غايتهن في القراءة . .
بحثت عن قسم الروايات لترى ما هي آخر الروايات التي نزلت لديهم . .
قرأت عناوين القصص لكن لم تنجح رواية ما في شدها لاقتنائه . .
زفرت بضجر .. وهي تدير عينيها على من حولها . .
رفعت قدمها و جعلت أسفل حذائها على مرمى بصرها . .
لم تجد بقايا واضحة للصرصار . .
أخذت تتنقل بين الأقسام الواحد تلو الآخر حتى تعمقت في المكتبة . .
- ما رأيكِ بهذا . ؟
- لا ليس به ما أريده . .
أرخت أذنها لتسمع تلك المحادثة و صوت الكتب و الأوراق التي تفتح و تغلق . .
- امم . . ماذا عن هذا . ؟
- يبدو مناسب بعض الشيء . .
كانت ترى يديّ الفتاتين و لم تكن تستطيع رؤية وجهيهما
بسبب ذلك الحاجز وتلك الكتب المصفوفة أمامها . .
أغراها الفضول و الفراغ في الاتجاه إليهما و رؤيتهما عن كثب . .
سارت بجانب الحاجز حتى انتهى ثم استدارت لتصعق برؤية شخص ما . .
قالت و السعادة تغمرها . :
- بسمة . !
رفعت بسمة رأسها لهنيهة ألقت نظرة إليها ثم عادت إلى ما تقرأه . .


فجأة تركت الكتاب الذي بين يديها بعد أن أدركت ما رأت . .
هبت إلى ريناد بقلب مفتوح ، التقت الفتاتان و اكتنزت كل منهما الأخرى بين
أحضانها ،
دمعتان انحدرتا على خديهما و اختلطت بشعراتٍ شاذة فتندت بتلك الدموع الحارة .
.
قالت بسمة بقلب محروق . :
- هل أنتِ بخير . ؟ ، كيف تفعلين هذا بي . ؟
كيف تأتين هكذا دون تخبري أحداً و تجعليننا نقلق عليكِ . .
كانت ريناد تحتضن بسمة بصمت و هي تتذكر لحظات وحدتها و حياتها الفاترة و
حيرتها
التي وقعت بها في هذا العمر و لم تجد أم أو أخت تسألها و تثق بها . .
تقدمت هديل و عدة كتب بين يديها . .
- كيف أمست أمسيتك . ؟
خففت ريناد من حدة إمساكها لـ بسمة ثم أبعدت يديها
و هي تزيح دمعة خرجت من عينها بيدها ،
قالت و هي تصافح يد هديل الممدودة بابتسامة . .
- أمسى سعيداً . .
ابتسمت في وجهه ببشاشة و قالت . :
- هذا حسن . .
ألتفت إلى بسمة و قالت . :
- أنا ذاهبة لشراء هذه الكتب . .
تركتهما لتتحدثان ثم اتجهت إلى قسم المحاسبة . .
وضعت الكتب و همت بفتح محفظتها لدفع النقود . .
و سمعت حواراً خلفها لـ شابين و قد أثار هذا استغربها
خاصةً بعد خلو المدينة من الشباب ..
- أرأيت ريناد . ؟
أومئ رفيقه بـ لا . .
- حسنا أنا ذاهب لأبحث عنها . .
بينما استدارت هديل لترى من ذا الذي يعرف ريناد . !
وجدت الشاب يرتب خرائط و أطالس ، و بعض الكتب التي تبدو من غلافها أنها لعالم
الأحياء . .
زاد عجبها و كأن ليس هناك ما يدعو للقلق في هذه البلاد . !
لمحت ساعته الباهظة الثمن . .
عندها أدركت أنه أحد الفارين من الالتحاق بالجيش . !
كيف يُسمح لهم بذلك . .
لم تنتبه إلى نظرته المتعجبة بسبب حديثها مع المحاسب . .

|||
نهضنا على صفير صفارة الإنذار المزعجة و المياه مسكوبة فوق رؤوسنا . .
نهضت مشوشاً كباقي كل الأفراد المشاركين لنا في الحجرة . .
بملابسي العسكرية التي لا يمكننا خلعها و استبدالها بملابس النوم . .
هذا ظلم و انتهاك لحقوق الإنسان . !
نزلت من سريري بسرعة و كدت أسقط على جابر الواقف بشموخ ،
رغم تقاطر قطرات الماء من وجهه . .
أديت التحية العسكرية متأخراً بعد أن أداها الجميع . .
كيف لهم أن ينقلونا إلى حجرة كبيرة و يحشدون فيها الكثير من المجندين . .
أعاد صراخ العميد فكري إلى ما يقوله و هو يصول و يجول بيننا . :
- هذه الحرب سنكون المنتصر فيها . . سنحارب بكل أرواحنا و دمائنا لننقذ هذا
الوطن و المليك و الأهل . .
ابتسمت بسخرية و كأن هذا المليك ليس هو من حشرنا في هذه الحرب
لأجل طمعه و أخيه على قطعة أرض و نهر وفير الخيرات . .
- هاي أنت . . ألا تسمعني . !
- هاه . .
ضربني بعصاه على كتفي و بقوة . .
- كيف تحمي ملكك و وطنك و أنت شارد الذهن . .
ألتفت و تابع حديثه أقصد صراخه علينا و كأنه لم يسبب لي ألماً و كاد أن يخلع
كتفي . .
أنصتُ إلى همسة جابر . .
- تحمل . . أني أرى الصبح قريب . .
أي صبح يتحدث عنه بحق الله . !
آخر ما سمعته و كاد أن يموت منه قلبي خوفاً . .
- غداً سيكون يومكم الحقيقي . . ستدافعون عن وطنكم . . عبر الحدود . .
ألجمتني الفاجعة عن التذمر أكثر . . أسأكون بوجه المدفع و أحاول قذف الرصاصات
بمسدسي . .
و قد يكون أحد الذين أقتلهم عائلة خالي الذي فرقت بيننا الحدود و منعتنا من
الاتصال ببعضنا . !

.
.
ركبنا الشاحنات و بنادقنا تسترخي بجانبنا . .
كانت تلك الوجوه في ذلك اليوم عليها غبرة ترهقها قترة . .
تودع بعينيها الممتلئة بالدمع من يحبونهم . .
يحاولون استحضار وجوههم الواحد تلو الأخر ليودعهم بقلوبهم دون أن يلتقوا . .
سارت دمعة على خدي دون إحساسي بها ،
حينما تذكرت والدتي و والدي الذي فقد قدمه بسبب تلك الحرب الماضية المشئومة .
.
نزلنا إلى تلك المخيمات التي تبدو في مكان ما قرب الحدود . .
و أخذ يخبط فينا خطيب يحدثنا عن هدفنا السامي و ما يجب أن نفعله . .

|||
فُتح الباب بهدوء . .
تقدمت إلى مدخل الغرفة و هي ترمي بصرها حولها بينما يدها متعلقة بأكرة الباب
. .
أحاطت بعينيها الممتلئتان بالدموع المحتبسة على سريره إلى حاسوبه و إلى خزانة
ملابسه ،
ثم إلى مكتبه . .
أغلقت الباب خلفها توجهت إلى مكتبه وهي تجر خطاها خطوة تلو الخطوة . .
تلمست صورتهما الباسمة السعيدة . .
تأرجحت دمعة بين رموشها ثم سقطت على خدها . .
عادت بها إلى ذلك اليوم . ،
حينما كان في بداية التزامه و عودته إلى رشده و تركه لأصحاب السوء . .
كان ذلك الانقلاب هو سبب سعادة العائلة . .
فبعد أن كان شخصاً فاسقاً و بذيئاً لا يقدر أحداً و يبخس الأشياء حقها . .
هداه الله إلى صراطه المستقيم فاستقام و استقامت حياته و أصبح من رواد
المساجد . .
لا تنسى ذلك اليوم الذي أتى فيه وهو يقبل إلى الصلاة و يتوضأ مع أخوها هادي .
.
كان ذلك الشيء شيء يستحق أن يحتفل به . .
ابتسمت بألم . . وهي تذكر ما حدث ذلك اليوم . .
بعد أن سافر هادي لإكمال دراسته ،
تبدل اعتدال سعد شيئاً فشيئا إلى غلو في الدين و التشكيك فيها و في أي حركة
تقوم بها . .
فُتح الباب بغتةً خلفها ليعرق سيل أفكارها الجارف ، رأت منيرة تتسلل إلى
الحجرة بخفة . .
استدارت رهام إليها و توقف بصرها يحدق فيها . .
انتبهت منيرة إلى رهام المستندة بظهرها إلى مكتب أخيها ،
تحدق بها بنظرة باردة و مازالت آثار الدمعة محفورة على خدها . .
ارتبكت منيرة و قالت . :
- آ . . آ .. أوه أنتِ هنا . !
أغلقت فمها لبرهة و هي تحاول أن تبحث عن كلمة مناسبة . ،
ثم تابعت حديثها بعد أن رأت صمتها . :
- كنت أبحث عنكِ . .
و أضافت باضطراب . :
- و وجدتكِ هنا . .
جلست منيرة على سرير سعد و قالت . :
- ماذا تفعلين هنا . ؟
عادت رهام إلى وضعيتها السابقة و بقت تحدق في الصورة . .
اقتربت منيرة من رهام حتى أصبحت خلفها . .
- لم يكن هكذا قبل سفر هادي . . لم يكن يرضى منعي من حقوقي و يشدد عليّ . .
تفاجئت منيرة من انفجار نبع دموع رهام التي تابعت الحديث من قلبها المفطور .
:
- كان أخ حكيم . . ينصحني باللين . . و يعينني و يساعدني فيما يستطيع القدرة
عليه . .
كيف آلت علاقتنا إلى هذا التعقيد . !
أن أتناقش و أتشاجر معه كل يوم عن أبسط حقوقي ،
أن يكون خروجي و حديثي مع صديقاتي و زيارتي لهن بأجمعها مشكوك فيها . !
بكت و بكت بمرارة بينما منيرة تشاهد دموعها بوجه جامد و عينان جاحظتان . .
تساءلت منيرة في داخلها . . أكان لها قلب . ! و تحب أخوها . !
و كان له قلب ليساعدها و لم يكن يصرخ عليها . !
- بعد أن سافر أخي هادي . . تعرف سعد على شاب كان فاجراً و أحقر منه بكثير
سابقاً . . أخبره ذلك الشاب عن قصة استدراجه لإحدى الفتيات المتدينات و كيف
أوقعها في حباله * . . و كم كان نادماً على ذلك . . و لا أعرف ما الذي حدث لـ
سعد بعد تلك الحادثة . . تلاشت ثقته بي و أصبح يتتبع كل ما أقوم به . . و لا
يحادثني إذا شك في شيء ما . !
كفكفت رهام دموعها ثم غادرت الحجرة بقلب مكلوم . .
حينها التقطت منيرة أنفاسها . . و قالت . :
- ما بها اليوم . . تبدو غريبة . !
ثم أخرجت صورة ما خبأتها بين ثيابها . .

|||
فتحتُ باب السيارة ثم أرحت الأكياس على مقعد المجانب لي . .
جلستُ على مقعد السائق و قدمي مسترخية خارج السيارة . .
ترى هل أتصل بها . ؟
أم . .
ألقيت نظره على المكتبة . .
ربما من الأفضل أن أذهب و أرى أن كانت ستعود معي أم لا . ؟
ترجلت من السيارة و سحبت المفتاح ثم قمت بإغلاقها . .
سرت إلى بوابة المكتبة . .
خرج منها شخص ما . . يحمل معه خرائط ما و أكياس مملوءة بالكتب . .
ابتعدت عيناي عنه . .
فعار عليه أن يكون مرتاحاً هنا بينما هناك من يبذل دمائه لأجل هذا الشعب و
الوطن . .
أحقاً هناك أشخاص مثله . !
ولجت إلى المكتبة . .
رأيت ريناد و شخص ما يتحادثان بينما انتبهت إليّ بسمة و أشارت لي بأن أعود
إلى السيارة . .
عدت إلى السيارة و أدرت المحرك و أنا أضغط على الاتصال بـ بسمة . .
لأسألها أن كانت تريد أن تعود معي أم لا . .
- السلام عليكم . .
- و عليكم السلام . .
- أتحتاجين إلى توصيلة . ؟
- لحظة . .
تركتني على الخط لدقائق ثم عادت و قالت . :
- أظن ذلك . . انتظري عدت دقائق و سآتي مع ريناد . .
خرجتا من المكتبة . .
ابتسمت بسعادة و أنا أشاهد ريناد المجنونة تقفز هنا و هناك ،
ممسكة بيد بسمة ذات الشفاه المنفرجة بسعادة و بهجة . .
حدقت في ريناد الحيوية . .
ربما لا تدري ريناد بأن بسمة لم يغمض جفن ليلة الأمس قلقاً و خوفاً على أختها
الوحيدة . .
ركبت بسمة بجانبي بينما ركبت ريناد و هي تتذمر بشكل طفولي صانعةً على شفتي
ابتسامة . :
- هذا هو نصيبي . . أن أجلس بالخلف دائماً . . هاه . !
سرت بالسيارة و هي تتابع تذمرها اللانهائي. .
و أنا أحاول كتم ضحكتي بصعوبة ،
بابتسامة واسعة تكاد تفصح عن الضحكة المتوارية خلفها . .
فقالت بغضب . :
- أضحكي . . أضحكي . . فلست من جابهاً صرصاراً لوحده . .
ضحكت بسمة وقالت بعد أن هدئت قليلاً . :
- لم تخبريني بعد عما حصل معكِ . . أيتها المجنونة . .
ارتمت ريناد على الكرسي وهي تتثاءب و تقول . :
- إنها قصة طويلة سأحكيها لكِ بعد أن ارتاح . .
بدت لي طريقتها في الحديث هي تهرب لا غير ،
لكني لم أعر ذلك اهتماماً كبيراً . .
سألت بسمة . :
- هل أخبرتي عبدالله بأنكِ ستبيتين عندي الليلة . ؟
أومأت برأسها بـ نعم . .
هبت ريناد قائمة من استرخائها . .
- أسنبيت عندهم ؟؟ .. لم . ؟
ردت بسمة . :
- ستسافر هديل غداً بعد خروجها من الجامعة إلى المدينة المجاورة . .
لذا سآتي لمساعدتها في تحميل الأغراض اللازمة . .
تقدمت و حشرت نفسها بين كرسيينا و قالت موجهةً السؤال إليّ . :
- و لم ستذهبين . ؟
قلت لها بصراحة مطلقة . :
- لأن الأوضاع هنا غير آمنة ، و أختي قاربت على الوضع . .
كما أنني سأذهب إلى الجامعة لإيقاف دراستي مؤقتاً . .
أومأت بالتفهم . .
و انطلقنا لجمع ما يلزمني للسفر غداً . .

.
.
- ما رأيكِ بهذا . ؟
أومأت بـ لا لـ ريناد فبدا الضجر على وجهها . .
أخذت تنظر إلى الورقة التي بين يديها بعجز . و قالت . :
- أعرف بأني من اقترح مساعدتك . . لكن . .
أخذت تعبث بشعرها بيدها ، بشفتين حائرتين . . ثم قالت . :
- ما رأيكِ أن نتبادل . ؟
- نتبادل . ؟ !
أومأت برأسها بمرح و هي تقول . :
- نعم نتبادل المهام . . أنت تمسكين بورقة الأطعمة و أنا آخذ ورقة المستلزمات
الصحية . .
ما رأيك . ؟
فكرت بالأمر للحظة و كان يبدو جيداً . .
تبادلنا الأوراق ثم انطلقت ريناد إلى القسم بروح نشطة . .
بحثت بين الممرات عن قسم الأطعمة المعلبة . .
رأيت بسمة في أحد الممرات فاتجهت إليها . .
- السلام عليكم . .
وضعتْ كيس الأرز داخل السلة . . ثم قالت . :
- و عليكم السلام . .
- أنا . .
و ما أن رأت معاني الأسف تنبع في وجهي حتى قاطعتني و قالت . :
- لا بأس . . أنا من عرض مساعدتي عليك ، أما عن ريناد فيسعدها أن تبات معي
الليلة و في أي مكان كان ، كما أن محل سكني تقام فيه إصلاحات كما أخبرتك . .
نحن من سيثقل كاهلك و سيزاحمكِ في منزلك . .
- لكن . .
قالت بلطف . :
- بلا لكن . . تفضلي و أكملي عملك . . فقد أشغلتني عن عملي . .
و دفعت العربة خارج الممر . .
.
.
ما أن انتهينا من جمع ما يلزمنا انطلقنا بالسيارة إلى المنزل . .
أدخلت السيارة إلى داخل المنزل . .
ترجلنا من السيارة ، فتحتُ الباب الداخلي و تبعتني بسمة بهدوء و ريناد بفضول
طفولي . .
قلت بابتسامة . :
- تفضلا . .
تقدمت و تفاجئت بالفوضى المحرجة التي تعج بالمكان . .
المكان غير مرتب بتاتاً و أحمد مرتمي على الأريكة يلعب بالـ ( بلاي ستيشن )
بينما محمد نائم في حضن خالتي بشكله البائس و القطن الملفوف حول أذنه . .
سمعت صوت هناء تنادي . :
- حكيم . ! حكييييييم . ! توقف . . !!
دخل حكيم الصغير العاري يركض إليّ وهو يضحك هارباً من هناء التي تلاحقه
بثيابه
لتلبسه إياها . .
آه هذا محرج جداً . !
بهتت هناء عندما رأتهما ثم حملت حكيم و جرت به إلى الداخل . .
استدرتُ إليهما و رأيت ابتسامتان مرتسمتان على شفتهم . . حاولت تدارك الموقف
بابتسامة واثقة . :
- كما ترون عائلة عادية . . و تحصل في أحسن العائلات . .
ضحكت ريناد و قالت . :
- كل أطفال العالم يفعلون ذلك أيضاً . .
انتبهت خالتي إليهما فوضعت محمد بحذر على الأريكة . . و غطته . .
اتجهت إلينا بملابسها البسيطة ثم ألقت الابتسام و السلام عليهما . .

|||
استيقظت بعينين مغلقتين لم أستطيع فتحهما . .
استسلمت من محاولة فتحهما و أخذت أبحث عن المغسلة لأغسل وجهي . .
تسلل إلى أذني صوت طنين طائرات و متفجرات و صفارات إنذار الحرب ترن بصوت عالٍ
جداً . .
رميتُ الماء على وجهي ثم فتحت عيني ببطء . .
و قلت بضجر و صوتي يشوبه النعاس . :
- ألم يسأم من هذه الأفلام . !
جررت قدمي حتى أخرج إلى الصالة لأخفض من صوت التلفاز قليلاً . !
و ما أن ظهرت حتى بغت برؤية التلفاز مغلقاً و الأثاث مبعثر بينما تركي يبحث
كالمجنون بينها ..
سألته بعينين ناعستين . :
- ماذا هناك . . ما بك . ؟
سار بسرعةً إليّ بوجه ثائر و هو يرتدي حقيبة على ظهره . .
نظرت إلى الساعة فوجدتها العاشرة صباحاً . .
لم يخرج أحد من عمله بعد . .
أوه . .
لقد استيقظت مبكراً بسبب هذا الغبي . !
أحسست بقبضته القوية توقظني من نعاسي وهو يصرخ بوجهي . :
- أخيراً استيقظت . . ما الذي تفعله . !
و عندما رأى عدم درايتي بالموضوع قال وهو يصرخ . :
- ألا تسمع . !
غادر و أخذ يكمل بحثه المجهول . .
حاولت الإصغاء بإذني لكني لم أجد شيئاً غريباً . !
سألته و أنا أتكئ إلى الحائط . .
- ما الذي تبحث عنه . ؟
لم يرد علي بل أخذ يفتح و يغلق كل شيء يراه أمامه بغضب . .
ثم فجأةً فقد صوابه و رمى التحفة التي بيده فتكسرت و تحطمت إلى أشلاء صغيرة .
.
دوى صوته في المكان وهو يقول . :
- اذهب و ارتدي ملابسك و حذائك . !
ذهبت إلى الحجرة و بحثت عن ملابسي ثم بدلتها . .
ما أن انتهيت حتى اتجهت إلى الستارة . .
و فتحتها . .
صعقت ، كادت أن تخرج عيناي عن محجريهما و يتوقف قلبي عن النبض . .
كان الدخان يحيط بالمكان و الطائرات تقصف كل ما تمر به . !
أصمت أصوات التفجيرات التي تعلو و تعلو و أزكمت رائحة الدخان أنفي . .
لاح ببالي صورة بسمة و ريناد و هما مرعوبتين أو مصابتين . !
هرعت إلى تركي . . و قلت و أنا أجري بسرعة مغادراً . :
- أنا ذاهب . .
لحق بي و قال . :
- إلى أين . ؟ كيف ستذهب و سيارتي في الصيانة . !
جريت بسرعة إلى الدراجة النارية و ارتديت الخوذة ثم أخرجت المفتاح من جيبي و
أدرت المحرك . .
- انتظر لحظة . . سأجلب شيئاً . .
صرخ بي تركي ثم ذهب مسرعاً . .
ذهب و قشع كل خريطة كانت في حجرته و أخرج الأسلحة من مخبأها ثم حشرها في
حقيبته و أسرع إليّ . .
ركب الدراجة النارية و ارتدا الخوذة بسرعة و تمسك بي بشدة حتى لا يقع . .
خرجنا إلى الشوارع و انطلقت إلى منزل صديقة بسمة و أنا أحاول تذكر موقعه . .
- إلى أين أنت ذاهب ألن نخرج من هنا . !
ربما كنت أصم ذلك الوقت أو تجاهلته لم يكن أحد اهتماماتي ما يقوله . .
فطنين الطائرات و أصوات ضرب الصواريخ . . و البيوت المتفجرة و الدخان المنبعث
من كل مكان حتى غطى على نور الشمس . . كفيلةٌ بإفقادي صوابي . !
توقفت فجأة أمام منزلٍ قد وقعت عليه غارة . .
ملتف بالسواد . . و سيارة تحترق بداخل المنزل خلف الجدار المنهار . .
و آثار قطرات دموية على زجاج السيارة المحترقة . .
ما الذي حدث . !

اسطورة ! 24-02-14 05:05 AM

_ 5 _
( ومضات )
1/2
قلبت الكتاب ذو الخربشات الكثيرة و التوقيعات المختلفة . . ابتسمت بسخرية . .
- ألن تكفي عن العبث بأغراض الصبي . ! ؟
ألتفتت إلى بسمة و قالت وهي تبرر فعلها بابتسامة و كأنها اكتشفت شيئاً مثيراً
. :
- أني أحاول استكشاف شخصيته . !
- من طريقة توقيعه . !
أومأت برأسها بـ نعم و قالت . :
- كريستينا دوماً ما تنجح في تحليل الشخصيات باستخدام خط اليد و التوقيع . .
سكتت لبرهة ثم تابعت حديثها و عينيها تسرد ما على غلاف الكتاب . :
- أنه يعيد كتابة اسمه عدة مرات و بعدة خطوط مزخرفة . . أيظن أن خطه جميل . ؟
. . لحظة . . أعتقد أنه يعاني من النرجسية . .
قلبت الكتاب بقسمات وجهها الحائرة لترى الغلاف الآخر . . :
- كما يكتب أنواع السيارات التي يحبها . . هذا غريب أيضاً . .
رفعت عينيها إلى بسمة التي تكتم ضحكتها . .
وضعت الكتاب بغضب . . ثم ذهبت و جلست بجانبها على السرير و قالت وهي تراقب
شفتيها المبتسمة تناضل ضحكة مجنونة خلفها . .
- اضحكي . ! اضحكي . ! هذا هو ما ألقاه منذ جئت إلى هنا . .
انفجرت بسمة بالضحك أخيراً على ريناد بينما تابعت الأخرى حديثها . :
- لقد تكبدت المخاطر و نسيت ما نسيت لأصل إليكم . . و النتيجة أحدكم يوبخني
لدوسي على صوصوه بدلاً من أن تشجيعي على مجابهته لوحدي . !
نظرت إلى بسمة فوجدتها تتابع الابتسام الضاحك .، صرخت بها و هي تقول :
- و أنتِ تضحكين علي . ! دون أن تسألين كيف أمضيت يومي في المطار و كيف استطع
الإفلات من يد ذلك الشرير و كيف نسيت حاجياتي . . و كيف و كيف . !
قامت من السرير دون أن تنتبه إلى وجه بسمة المتفاجئ . !
أمسكت بكتاب أحمد . . و أخذت تقلب صفحاته بين يديها . .
- ما الذي حدث لكِ هناك . ! ؟
ألتفتت ببرود مصطنع يثير الأعصاب . :
- هل يهمكِ هذا حقاً . !
هرعت إليها و الخوف ينهشها من أن تكون قد أصيبت بأذى . :
- ما الذي حدث بحق الله . ؟
وضعت ريناد الكتاب على المكتب الصغير . . ثم اتجهت بخطوات صغيرة إلى مكتبته
الممتلئة بأشرطة ( البلاي ستيشن ) . .
كانت مستمتعةً برؤية انعكاس وجه بسمة القلق على زجاج المكتبة . .
التفتتا إلى صوت نداهما . .
- ألن تأتيا لتناول العشاء . ؟
بقت بسمة ولهة حتى استوعبت ما قالته هديل بيدها التي مازالت متعلقة بأكرة
الباب . .
أومأت بوجهها المبتسم بقلق . . و قالت . :
- سنأتي بعد قليل . .
أغلقت هديل الباب بعد خروجها بهدوء . .
ثم توجهت إلى حجرة الطعام وهي تتساءل عن سبب تعابير وجهيهما المختلفة . .
.
.
تناولت هديل طعام العشاء و هي تراقب النظرات المختلفة بين بسمة و ريناد . .
بعد انتهائهم من تناول العشاء استأذنت ريناد . :
- عن أذنكم سأذهب لأنام ، فأنا متعبة . .
قالت بسمة . :
- و أنا كذلك . .
لحقت بسمة بـ ريناد و دخلتا للحجرة ثم أغلقتا الباب . .
جمعت هديل الأطباق وعلامة تعجب مرتسمة فوق رأسها . .
فليس من عادة بسمة أن تذهب دون أن تساعدهم في رفع الأطباق . .
رفعت الأطباق وهي تخرج كرة هوائية من صدرها و عينيها محدقتان في الباب المغلق
. .
/
.
.
وضعتُ الأطباق المتسخة في المطبخ ، رأيتُ خالتي تغسل الأطباق . .
خجلت من نفسي فكيف تغسل خالتي الأطباق بينما أنا هنا . :
- أذهبي و ارتاحي سأكمل غسلها . .
شرعتُ في غسل الأطباق بعد أن غادرت خالتي و حملت معها رضاعة حليب . .
دخلت آمال وهي تجر رجليها بصعوبة ثم جلست على الكرسي بتعب . .
ردت على نظرتي المشفقة و قالت مازحة . :
- سيأتي يوم و تتزوجين و تحملين و سأشفق عليكِ . .
- و ستكونين أنتِ من يغسل الأطباق و أنا أقوم بالتمدد فقط . . مثلكِ تماماً .
.
ابتسمت لها بعد أن غسلت يدي و أغلقت صنبور الماء . .
صاح أبريق الماء المغلي خلفي . .
رفعته عن النار بعد أن أطفئتها، ثم سكبت الماء في كوبين و وضعت القليل من
السكر . .
أغمست كيس الشاي في الكوبين ثم وضعتهما على طاولة المطبخ بجانب آمال . .
جلست على الكرسي بينما مددت يدي لآخذ ملعقة لإذابة السكر في الشاي . .
أدرت الملعقة حتى صنعت زوبعة في كأس الشاي . .
قالت وهي تتأوه . :
- ألا يمكنكِ أن تأجلي الرحلة حتى ألد . ؟
مضت برهة أفكر بها في ما قالته تلك الممرضة . .
- أحس هذه الأيام بالتعب يزداد و الطلق أصبح يأتيني بين فترات ليست ببعيدة عن
بعضها أخشى أن ألد قبل أن نصل إلى المنزل . . ما رأيكِ لو مكثنا أسبوعاً ثم .
.
قلت و أنا أقاطعها بحزم . .
- لا . !
- لكن . .
قمت من الكرسي منهية النقاش . .
ثم خرجت إلى الساحة و كوب الشاي بيدي . .
ارتشفت منه رشفة . .
لو كنت أعلم ما يخبئه الغد لمكثنا هنا إلى أن تلدي . .
وضعت كوب الشاي فوق سطح السيارة الأمامي بحيث لا ينزلق . .
فتحت باب السيارة . .
تأكدت من وجود الكتب التي ابتعتها ، تصفحتها بسرعة دون أن أنوي قرأتها . .
وضعتها أمام عجلة القيادة و اخترت إحداها لأتصفحها بينما أشرب الشاي . .
مددت يدي لأرشف رشفةً من الكوب ، فلم أعانق سوى الهواء . .
نسيت بأنه ليس بداخل السيارة . .
تركت الكتاب جانباً و خرجت من السيارة و أخذت كوب الشاي من فوق سطحها . .
رشفة رشفةً أخبرتني ببرود الشاي . .
عدت إلى الداخل و وضعت كوب الشاي فوق طاولة تتوسط المدخل . .
ألتفت إلى الباب و الذي تقف أمامه السيارة ، شعرت بالعجز . .
فكيف سيمكنني أن احشر هذه المجموعة من البشر بداخل سيارة جيب . !
و احد هؤلاء البشر حامل . !
نفضت عن رأسي هذه الأفكار البائسة و ذهبت إلى الصالة لأحضر صندوق الإسعافات
الأولية . .
خرجت بسمة من الحجرة و الحيرة تكسو معالمها . .
سألتها و أنا اتجه بصندوق الإسعافات الأولية إلى الخارج . :
- ما بكِ . ؟
تبعتني حائرة . :
- لا أدري . . ريناد تخفي عني شيئاً . . و هي لا تريد أن تخبرني بذلك شيء حتى
ألح عليها في السؤال . . عندها ستخبرني . .
وقد نامت الآن بعد رحلة متعبة أمضتها من مطار المدينة المجاورة إلى العاصمة .
.
وضعتُ الصندوق على الأرض و فتحت الباب الخلفي للسيارة . .
لم أتفاجئ بالأكياس المبعثرة هنا و هناك . .
أخرجت جميع الأكياس من السيارة و بسمة تساعدني . .
قلت بينما أدخل الصندوق و أرتب الأغراض . .
- و لما لا تلحّي عليها . ؟
- لأنني لا أريدها أن تعتاد على هذه الطريقة في استخراج المعلومات . .
اتجهت إلى الداخل بعد أن احترت في كيفية ترتيب هذه الأشياء . .
ففكرت في وضعها في حقائب . .
- أنتِ تعلمين بأن ريناد عنيدة و ستفعل ما برأسها . .
- و هذا ما يتعبني حقاً . !
توجهت على حجرتي في الطابق العلوي . .
بحثت في خزانتي عن حقيبة مناسبة لحفظ الأطعمة و الأدوية . .
وجدت حقيبتين مناسبتين لذلك , أخذتهما و نزلت إلى الأسفل و من ثم إلى الساحة
. .
ناولت بسمة التي ترتشف من كوب شاي عدة رشفات وهي تتأمل في المكان . .
- هلّا وضعتي بها الأطعمة و دعي الأخرى سأضع بها الباقي . .
تركت كوب الشاي جانباً فوق الدرج . .
اتجهت إلى السيارة المحجوبة بغطاء الأزرق . .
- ما هذه السيارة المحجوبة بالغطاء الأزرق . ؟
سألتني بسمة بينما كنت أتجه إلى سيارة أخي . .
أجبتها حينما أزلت الغطاء عن السيارة ذات الزجاج المكسور منذ خمس سنوات . .
- هذه سيارة أخي حسام . .
- حسام . !
أردفت و زفرة خرجت من رئتي . :
- رحمه الله . .
سكتت بسمة و لم تقل شيئاً سوى أنها أضافت . :
- رحمة الله . .
أخرجت المفاتيح أبحث بينها عن مفتاح سيارته . .
أدخلته في ثقب المفتاح غير متأكدة من إمكانية فتح السيارة . .
أخذت أدير المفتاح يميناً و شمالاً و لم يفتح . .
ضاعفت قوتي . . سمعت صوت ما . . صوتٌ كصوت تحرك xxxxب الساعة . .
حاولت إخراج المفتاح . . لم يخرج . !
جذبته بقوة و لم يخرج . . أيضاً . .
زاد غضبي و أخذت أديرة بعنف يميناً و شمالاً حتى انكسر . !
رميت سلسلة المفاتيح على الأرض بعنف ، يجب أن أخرج بعض الأشياء المهمة من
هناك . !
شعرت باقتراب بسمة مني . .
توجهت إلى مقدمة السيارة و جلست فوق مقدمة السيارة بعجز و أنا أتأمل ذلك
الزجاج المشعّر فـ بدفعة واحدة يمكنك تحطيمه تماماً . .
راقت لي الفكرة كثيراً . .
حاولت الوقوف متزنة فوق مقدمة السيارة . .
- ماذا تفعلين . ! ؟
أجبتها و أنا منغمسةً في الذكريات و في محاولاتي لتحطيم الزجاج . .
- أحاول تحطيم هذا الزجاج . . منذ خمس سنوات . . كان أخي حسام أبن أبي المفضل
. . لا أدري ما السبب لكنه كان كذلك . . و قد توفي بعد أن دعت أمي عليه بقليل
لأنه لم يسمع نصيحتها و ذهب في رحلة خلوية مع أصدقائه . . لم يسمع أحد ما
كانت تدعي به . .لكن أبي كان مصراً أن دعوتها هي سبب موته . . و لكي يعذبها
أخذ سيارته ووضعها هنا لتراها أمي كل يوم ، لتبكي أمي عليه كل يوم . . بعدها
تفككت العائلة و أصبحت كما ترين . !
تحطم الزجاج و تحطمت معه كل ذكريات هديل السعيدة . .
لم أستطيع رؤية أي شيء أمامي ، حيث حجبت الدموع عيني و لم أستطع رؤية الزجاج
المتحطم جيداً . .
أمسكت بسمة بقدمي و هي تناجيني . :
- أنزلي أرجوكِ . .
دخلت إلى السيارة من خلال فتحة الزجاج الأمامي دون أن أراعي شذرات الزجاج
الناشزة هنا و هناك . .
لم تنل مني أي منها . .
جلست على المقعد المجاور للسائق و أخذت ابحث عن أي شيء يساعدني في محنتي . .
فتحت الدرج المواجه لي فوجدت كشاف صغير و شيءٌ مستطيل يحتوي على سكين و عدة
أشياء لا أدري ما فائدتها . !
اتجهت إلى المقاعد الخلفية . .
التقيت بمعطفه الذي بلا كمين و الذي كان يستخدمه حسام في وضع أهم أدوات
الرحلات في جيوبه . .
أخذته و عانقته بدموع ثم ارتديته . .
ولجت إلى مؤخرة السيارة الصغيرة ، بحثت بين الأشياء المبعثرة عن شيء يفيدني .
.
نظرت خلف الزجاج من بين ذرات الغبار ، وجدت بسمة تغادرني إلى الحقيبة و ترتب
الحاجات كما قلت لها . .
تابعت بحثي فالمشوار طويل . .
وجدت خيمة بسيطة ملفوفة فوق بعضها البعض ثم وجدت خيمة أخرى . .
قبضت عليهما بسرعة ثم انطلقت لـ ذات الفتحة بزجاجها المتهشم و الناشز هنا و
هناك . .
خرجت مسرعةً دون أن أعير انتباهاً إلى ذلك الزجاج . .
وصلت إلى مقدمة السيارة . .
جلست على سطحها و أنا أحس بألم في رأسي . .
أصبحت يدي رخوة و لم استطع السيطرة عليها كانت كالأسفنج المبتل . .
فسقطت تلك الخيام الملفوفة على الأرض نزلت من السيارة حتى التقطها رغماً عن
ألم رأسي . .
استندت على سطح السيارة و مسكت الخيمتين بوهن . .
سقطت قطرة دم كسقوط قطرة مطر . .
وقفت و أنا أحاول صلب طولي بالاستعانة بسطح السيارة الزلق . .
رأيت قطرات دم تزيد من لمعان إحدى الزجاجات المتشبثة بإطار الزجاج الأمامي ،
و تابعت خطواتها الحمراء إلى أن وصلت إلى يدي . .
تحسست بداية رأسي بيدي الأسفنجية . .
أخذت الدنيا تدور من حولي ، و لم أستطع متابعة دورانها أكثر فسقطت على الأرض
. .
كان آخر ما سمعته صوت بسمة و هي تصرخ . :
- هديــل . .
و قبل أن تغلق الدنيا عليّ في مكان مظلم ، أدركت أن كل ما أقوم به هو معاندة
مع القدر . .
استسلمت و جعلت الدنيا تغلق علي و على رأسي بألمه الحاد . .
.
.
خرج لي الضوء رويداً رويدا و أناس متحلقون حولي . .
رمشت بعيني لتتضح الرؤيا لدي ، رأيت بيد أحدهم حية سوداء ذات رأس لامع . .
شعرت بأيدهم و هي تمسك برأسي و بتلك الحية و هي تلتهمي جلدة جبهتي . .
و عدت إلى الظلام مرةً أخرى . .
.
.
ميزت صوت والدتي المبحوح من بين كل الأصوات و كانت تسأل عن شيء ما . .
عاندتني عيني و بصعوبة استطعتُ فتحها بشكل طفيف . .
سمعتُ صوت بسمة يخرج من جسم ذائب بين البياض و الصور . :
- لا تقلقي ستكونين بخير بإذن الله . .
شعرت بيدها الدافئة تمسك يدي و صوتها المتراخي يتسلل إلى أذنيّ . :
- جرح رأسك بجرح خطير احتاج إلى عشر غرز . . و تم بعد فضل الله إزالة بقايا
الزجاج من رأسك . .
أرخيت رأسي في الوسادة أكثر متجاهلةً الألم المتصاعد . .
يبدو أني سأمكث هنا لمدة ليست بقصيرة . .
أغمضت عيني ثم فتحتها بعد أن تذكرت أن حجابي لم يعانق رقبتي و لم يحمي رأسي .
.
نطقت بصوت مهتز . :
- أريد غطاء لرأسي . .
وضعت أمي شيئاً ما على رأسي لم استطع تمييزه من شدة تعبي . .
.
.
عدت إلى البيت بعد أن صرح لنا الدكتور في ساعةٍ متأخرة من بعد منتصف الليل
بالخروج . .
استقبلني عند مدخل المنزل . .
دماء متساقطة من بداية سطح سيارة أخي ، حتى تساقطت على الأرضية ثم انقطعت في
مكان بعيد عن السيارة . .
وضعوني على سريري ببطء . .
كان رأسي ثقيلاً جداً غفوت غفوة قصيرة استيقظت منها على كابوس . .
سمعت صوتاً من أصوات ذلك الكابوس . .
مددت يدي إلى الساعة التي بجانبي لأرى الساعة تقارب الرابعة فجراً . .
قمتُ لأتوضأ و أصلي فمن المؤكد أنهم قد أدوا الصلاة منذ نصف ساعة . .
توضأت و عيني تحدق في ذلك الرباط الملفوف على جمجمتي ،
أديت الصلاة و رأسي يثقل شيئاً فشيئا . .
تناولت حبتي مسكن عله يخفف الألم الحاد ، ثم ذهبت إلى المطبخ . .
أشعلت النار على إبريق غلي الماء و انتظرت برأس منكس إلى الطاولة صفارته
المميزة . .
بعد أن زمر و اختلط صوته بصوت ضجيج ذلك الكابوس في رأسي . .
أخرجت كوبي و وضعت فيه البن و السكر و الحليب و مبيض القهوة . .
طوال تلك المدة لم أكن أحس بنفسي فقد كان نصفٌ يعي و نصفٌ مني لا يعي أين هو
. !
خرجت بكوبي و ملعقته العائمة فيه . .
جلست على الدرج الأمامي أمزج تلك المكونات مع بعضها و أراقب منظر قطرات الدم
المتحجرة . .
أخرجت الملعقة و وضعتها بجانبي ، رشفة رشفات صغيرة ثم وضعتُ كوب القهوة . .
يبدو جلياً أن سيارتي لم تتحرك من مكانها ، و ذلك لأن بابها الخلفي مفتوح . !
أنقلوني إلى المستشفى بواسطة سيارة أجرة . ؟ !
رفعت رأسي إلى السماء الصافية و النور يغزوها شيئاً فشيئا و قد تلونت السماء
بموجات الأزرق . .
ذهبت إلى سيارة أخي و تذكرت حينما نظرت أمي إليها يوم دلفنا إلى المنزل برأسي
المعصوب . .
التقطت الخيمتين الملفوفتين حتى أصبحتا بحجم كفيّ ، ثم رميتهما بلا أدنى
اهتمام بداخل السيارة . .
تحسست معطف أخي و تأكدت من أني ما زلت أرتديه . .
عدتُ إلى كوبي عله يوقظ نصفي اللاواعي ، رشفت رشفات و بصري شاخص بالسماء . .
أصبح الضجيج القاطن برأسي يعلو صوته مع انتشار نور الصباح حتى شعرت به و كأنه
أصوات طائرات تقترب . .
مرت أمامي عيني لهنيهة طائرات غريبة تشبه طائرات الـ. ...
نفضت رأسي بـ لا ، فتولد صداع عميق . .
ها قد بدأت أتوهم مرةً أخرى يبدو أن الزجاج قد تغلغل في دماغي . .
نقلت بصري بين سيارة أخي وسلسة المفاتيح المرمية بجانبها . .
ذهبت إليها و كوبي يعانق يدي . .
التقطت سلسلة المفاتيح ، بينما الأصوات تقترب مرةً أخرى و تسير فوقي . .
رفعت بصري بسرعة هذه المرة لأتأكد مما أراه حقاً و لأمحِ تلك الوساوس التي
ابنيها . .
و كأن صاعقةً فرغت شحناته بي . . شخص بصري بالأعلى غير مصدقاً . .
ذهلتُ . !
كانت طائرات حربية . !
و . . و عليها شعار العدو . !!
قبضت على سلسلة المفاتيح و أخذت ارمي كل ما حول السيارة إلى داخله ثم أغلقت
الباب الخلفي بقوة . .
انطلقت إلى الداخل لأوقظهم فقد حان وقت الرحيل . !
|||
ترجل من الدبابة النارية بقلب مرعوب و جسده يكاد يحتضر . .
انطلق ثم وقف فجأة أمام السيارة المدمرة المحاطة بنيران صغيرة يحدق بعينين
جاحظتين غير مصدقتين لما يجري . !
يحدق في تلك الدماء التي تقطع الساحة و يقطعها السواد ، يقطعها الموت و
الظلام . !
نزل تركي من الدبابة و هو في حالة ليست بأفضل من صديقه . .
أيعقل أن تكون قد ماتت . !
كيف يحدث ذلك . ! ؟
دارت عينه حول ذلك الخراب ، كيف آل المكان إلى هذا المنظر . !
أهذه هي حقاً قسوة الحرب . !
لفتت انتباهه أخيراً تلك النيران التي بدأت تلتهم جزءً من السيارة . .
هبّ إلى صديقه و جذبه بعيداً فجأة ، دون أن يبادر الآخر بأي ردة فعل . .
كان الذهول و إحساسه بالذنب قد أخذ منه ما آخذ . .
فهو أخوهما . .
كان يجب عليه أن يعتني بهما و أن يفتح لهما صدره و يضمنهما تحت أجنحته . .
لا أن يتركهما يقضيان الليل في منزل من لا يعرفها و لا يعرف حتى أسرتها . !
كيف تركهما دون أن يقترب منهما و يعرف عما تفكران فيه عما تشعران . . و كيف
تعيشان . !
كان فكره منصب حول أخواته و عقدة الذنب توثق وثاقها بجانب أخواتها ، و قلبه
يتمزق أرباً أربا . .
هوى قلبه حينما سمع صوت انفجار السيارة خلفه . .
حاول أن يلتفت أو أن يعود و يرمي بنفسه تحت هذا الجسم المتحرك . .
لكنه كل محاولاته قابلها الخذلان . .
أخذ يبكي و يبكي حتى تعبت عيناه . .
توقفت الدراجة النارية أمام مكان ما لم يستطع تميزه و لم يرد أن يعرف ما هو .
.
كان يريد أن يموت و يعذب مائة مرة و لا أن يحس بهذا العذاب و هذا الندم . .
نزع تركي مفتاح الدراجة النارية من ثقبها . .
ثم خلع طوقيّ حقيبة الظهر الرياضية المستندة إلى ظهر عبدالله ، فقد أستطاع
بهذه الطريقة أن يمنع عبدالله من الحركة أو السقوط ، و رغم ذلك واجهة صعوبات
في قيادة الدراجة النارية . .
كان المكان يعج بالدخان و النيران منتشرة هنا و هناك و أزيز الطائرات يصم
الأذان . .
و كان المشهد أشبه بـ بركاناً انفجر بالقرب من المدينة . .
نزل تركي من الدراجة بسرعة و هو قابض على يد عبد الله بقوة . .
لم يكن عبدالله يصدر حركة كان ساكناً سكون الأشباح و الدموع لم تفارق عينيه .
.
بعد بحث دقيق بين ذلك الدخان الرمادي ، استطاع أخيراً تركي أن يميز رقم مسار
السيارات الذي يسيرون فيه . .
حاول التذكر بأسرع ما يمكن أين يمكن أن يركنوا سيارته . .
جر عبدالله معه وهو يفكر في لو . .
لو كان لم يرسل سيارته للفحص لكانا الآن بعيدين عن هذا الخطر . .
ارتجف جسمه بغتةً حينما شاهد إحدى الصواريخ و هي تقع بموقع يبعد عنهم كيلو
مترين اثنين ،
لم يكن ما أثار هلعه سقوط الصاروخ بل صرخات الناس و صياح الأطفال الذي كان
يخرق أذنيه خرقا . !
هاج عبدالله فجأة و أصبح يصرخ و يصرخ بجنون بلا وعي . . بينما وقف تركي
ساكناً في حالة يرثى لها ، مذهولاً من هذا الموقف . .
أهذا فيلم رعب أم فيلم حرب أم فيلم موت . !
لم يكن يصدق أن هذا يدور أمام عينيه الاثنتين وهو يقف أعزلاً بلا حراك . !
انتفض بخوف بعد أن اهتز شيء في جيبه . .
أصابه الرعب ، فقنبلة في جيبه . .
قنبلة . !
أخرجه من جيبه دون أن يراه ثم رماه بعيداً عنه . .
جرى ثم توقف فجأة مندهشاً بعد أن سمع صوت تلك القنبلة . !
لم يكن صوت انفجارها بل كان نغمة هاتفه المحمول . .
صدى صوت الموسيقى و ألحان في وسط تلك الضوضاء و الفوضى . .
اقترب من هاتفه الساقط أسفل إحدى السيارات المموّه بالدخان الكثيف و يبدو ان
هناك شيئاً يحترق خلفها . .
جر معه عبدالله الذي أصبح يبكي و يهذي بشحوب الأموات . .
فقد خسر كل ما يملكه اليوم . .
فما هي الحرب . ؟
اقتتال جيشان . !
لا . .
بل هلاك أوطان . !
بالكاد استطاع أن يصل الهاتف بعد أن مد يده أسفل تلك السيارة وهو يكمم فمه و
انفه بطرف بثوبه ، امسكه و كتم الرنين . .
وقف و بيده الهاتف و بيده الأخرى عبدالله الشاحب . .
فتح الخط و حادث والدته ، و كأن شيئاً لم يكن . .
- نحن بخير . . لا بأس لقد ذهبنا إلى بيت الشاطئ . . نعم قررنا المغادرة
بحراً غداً . . هذا صوت التلفاز . . وداعاً . .
أغلق الهاتف وهو يبحث بعينيه الدامعتين بفعل الدخان ، عن سيارته . .
اخرج المفتاح الإلكتروني و ضغط زر فتح القفل حتى يرى أنوار سيارته و يسمع صوت
فتحها المألوف . .
أصغى بأذنه إلى الصوت فلم يسمع سوى صوت الصواريخ و الصراخ . .
حاول أن يلمح بعينيه نور المصابيح فلم يرى سوى احتراق الأشجار . .
ضغطه مرةً أخرى بعنف وهو يسب و يشتم . .
فجأةً خرج صوت من السيارة التي أمامه و صدر ذلك الصوت المألوف . .
كاد أن يطير فرحاً . .
فتح باب صاحب السائق و وضع عبد الله على الكرسي . .
اتجه مستعجلاً إلى بابه . .
ركب و أغلق الأبواب و اتجه بالسيارة بسرعة إلى الخارج قبل أن تحترق بالحريق
الذي يشتعل خلفها . .
داس بقوة على دواسة البنزين . .
و انطلق إلى طريق مختصر يؤدي به إلى خارج العاصمة . .
ما أن خرج خارج العاصمة حتى توقف على جانب الطريق البري . .
و حذا نحو الخلاء يسير حسب خريطته الإلكترونية . .
وهو يلقي نظره إلى الطريق و نظره إلى عبدالله الذي غفي دون وعي منه . .
_ 5 _


( ومضات )
2 / 2
|||

استيقظتُ أخيراً من نومي العميق و الذي تخللته كوابيس مزعجة ، و حقيقةً لا
أدري من الذي سمح لها بالولوج . !


فتحت عيني على طريق ما و رأسي مستنداً إلى زجاجٍ ما . .

ذهلتُ مما أراه أمام عيني . !

لقد كنت نائمةً في منزل صديقة بسمة . !

أين أنا . ؟

هل يعقل أن أكون خطفت و أجر إلى زريبةً ما . ؟

أم . .

عاد ذلك القبيح لأخذي . !

حلّ الرعب على قلبي و كبت عليه . .

ماذا سأفعل لو كنت مخطوفة . !!

حاولت الالتفاف برأسي لأرى من بجانبي ، و لم استطع . .

كان هنالك شيء ما يضغط على راسي . !

يا ويلي لقد خطفت فعلاً . !

و قبل أن انطق بحرف أو اصرخ . .

سمعتُ صوت امرأة تقول . :

- آسفة . . يمكنكِ التحرك الآن . .

استدرت ببطء . .

لأجد أكوام من البشر مصطفون بجانبي . .

كنت في سيارة هديل . !

و ما كانت تلك الأكوام إلا عائلتها . !

ما الذي يجري . .

التفتُ إلى الشارع مرةً أخرى ، و رأيتُ جزءاً من كوابيسي يلهو هناك . !

و سيارات الجيش تعبر بجانبنا إلى داخل المدينة . !

نطقتُ اسمه فجأة بعد أن تذكرته . :

- عبد الله . !

ردت عليّ صوت بسمة من خلف خالة هديل و هناء . :

- أني أحاول الاتصال به مراراً و تكراراً و ما من مجيب . !

اعتصر القلق قلبي ، و لم استطع تخيل ما قد يحدث له . !

- لحظة . !

قالت بسمة ذلك بصوت يشوبه القلق ، ثم قالت بفرح متحمس . :

- ربما يكون هو . !

أصغيت إلى محادثتها الرسمية للمتصل . :

- ألو . . أهلاً . . نحن بخير و الحمدلله . . هانحن خارجين خارج المدينة . .
أأنا


ذاهبون إلى مدينة أخرى . . حسنا . . حسنا . .

امتد هاتفها المحمول حتى وصل إليّ . .

التقطته من الأيدي الموصلة دون أن اسأل بسمة عمن يحادثها . .

قلتُ بصوت سكنه الشوق و الخوف . :

- أين أنت . ؟ هل أنت بخير . ؟

أتاني صوت بعيد عن صوت أخي عبدالله و قريب من صوت شخصٍ أبغضه . !

صوت جامد نوعاً ما . :

- أنا بخير . . أنني في البلاد الآن . . ما أن تصلي سألتقطك و أهرب بكِ
بعيداً عن هذا الدمار . .


رددت بصوت يملئه الدهشة . :

- ماذا عن عبد الله و بسمة . ! ؟

- لستُ بوالدهما . ! و لا أستطيع أن . .

أغلقت السماعة بغضب في وجهه قبل أن يكمل جملته . .

أنهما أخويّ . !

ثم من قال بأني سأعود معه ،

لأن أموت هنا أكثر رحمة من العيش تحت وطأة بروده و الضجر المحيط به . !

لا يمكنني أن أتصور ذلك . .

ودعنا ذلك الشبح الرمادي الصادر من العاصمة معلناً توقفه عن سيره معنا . .

ألتفتُ إلى ذلك الدخان بعينين بائستين ، كيف سيتصرف من بداخل العاصمة . .؟

ضُغط الكابح . . اندفعت فجأة إلى الأمام ثم ارتددت إلى الخلف بقوة . .

توقفت السيارة بغتةً . .

أصابني الهلع كما أصاب الجميع . .

حاولت الاستفسار من هديل عما حصل . .

جحظت عيناي خوفاً عليها ، فقد كان رأسها المعصوب و المحتجب بالحجاب

منكساً مستنداً إلى مقود السيارة بينما تدلت يداها بجانب رأسها مسترخية . .

صرخت والدتها الجالسة خلف هديل . .

مدت يدها إليها . . و أخذت تنقر كتف هديل برعب . .

بينما كانت آمال الجالسة بجانب هديل تحاول رفع رأس هديل عن المقود و إراحته
على مسند الكرسي بيدين مرتجفتين . .


كان الجو متذبذباً مشحون بشتى مشاعر الخوف و القلق . .

أدرت رأسي إلى الخلف لأرى رؤوساً صغيرة قلقه ،

تحاول التقاط صورة لـ هديل و تطمئن عليها . .

ترجلت من السيارة بسرعة و أنا اسمع تساؤلات بسمة القلقة تتبعني . .

- إلى أين أنتِ ذاهبة . ؟

توجهت إلى باب هديل و فتحته بروية حتى لا تسقط على الأرض . .

ثم أشرت إلى أخوها أحمد بالخروج و مساعدتي . .

لا يجب أن تقف السيارة هكذا في منتصف الطريق السريع و في حالة بلاد كهذه . !

نزل أحمد بينما تحاول بسمة ثني أم هديل عن النزول . .

حاولت رفع رأس هديل ثم أسندت رأسها على ظهر الكرسي . .

كان أحمد يقف حائراً خائفاً خلفي قلت له بلهجةٍ آمرة . :

- تعال ساعدني في حملها . !

تقدم بسرعة . .

اسطورة ! 24-02-14 05:09 AM

سألته و أنا أحاول إزاحة هديل عن الكرسي و أختها الحامل تشير إليّ بأن لا
أفعل ذلك . :


- كم عمرك . ؟

رد بسرعة قائلاً . :

- خمسة عشر عاماً . .

- كم وزنك . ؟

- لا أدري . . ربما 59 كجم . .

أزحت هديل إلى جانبي أخيراً و قلت له . :

- جيد يمكنك أن تحمل من هو أقل منك وزناً . !

أضفتُ بعد أن أحسستُ بثقلها عليّ . :

- على ما أعتقد . !

أتت بسمة و ساعدتنا في حملها و وضعها بجانب خالتها مكان مقعدي ، أغلقتُ الباب
خلفها . .


فتولت خالتها مسؤولية إيقاظها بينما تحاول والدتها أن تصل إليها . .

وجهتُ سؤالاً إلى أحمد و أنا أدير بصري حولنا و أرقبُ السيارات الطائرة عن
شمالنا . :


- هل تعرف القيادة . ؟

أشار برأسه لا . .

ألقيت بنظره على بسمة و أشارت بـ لا أيضاً . . زفرتُ ما بصدري من كدر . :

- حسنا . . أركبا السيارة أنا من سيقودها . !

قالت بسمة معارضة . :

- لكنكِ لا تعرفين . .

قاطعتها قائلة و أنا أجلس على مقعد السائق . :

- لقد حصلتُ على رخصة القيادة من هناك . !

أغلقت الباب و أشرتُ لهما بالركوب . .

أدرت مفتاح السيارة بقلق . .

كان يجب أن لا أكذب . !

اممم . .

حسناً لست اكذب . !

اليوم سأتم ستة عشر عاماً و لو كنت هناك لكنت استخرجت الرخصة في مساء هذا
اليوم الأسود . !


إضافةً إلى أنا " جينس " علمني كيف أقود السيارة قبل أسبوعين و يمكنني أن . .

- هل أنتِ متأكدة من قدرتكِ على ذلك . ؟

قطعت بسمة خيط هيامي في القلق . .

استجمعت كل ما أملكه من الشجاعة ، فكما استطعت قتل صرصار أخيراً يمكنني أن
أقود هذه إلى المدينة الأخرى . .


دست على دواسة البنزين بخفة ثم تركتها بعد أن اندفعت فجأة إلى الأمام . !

يا ويلي . ! ماذا سأفعل . !

أنني لا أستطيع القيادة أبداً . .

كلا . . يمكنني ذلك . .

كنت في صراع نفسّي مع نفسي . !

صرخت بي آمال فجأة . :

- أركني السيارة جانباً ستؤدين إلى قتلنا . .

دست مرةً أخرى على دواسة البنزين بحذر اكبر و برقة . .

سارت السيارة بهدوء . . جيد . !

بتُ أجشع نفسي أكثر و أستذكر " جينس " و كيف قاد السيارة و قدتها معه . .

أدرت المقود إلى اليمين إلى خارج الطريق لتكون بعيداً عن السيارات الطائرة .
.


أوقفت السيارة على بعد عدة أمتار عن الطريق . .

تنفست الصعداء ، فقد وصلنا سالمين . .

ابتسمتُ براحة . .

- هديل . . هديــل . .

ألتفتُ إلى الخلف بسرعة لأرى ما حصل . .

صدرت منها ونين تقطع بآهات . .

رفعت يدها بوهن وهي تمسك رأسها بملامح متوجعة . .

همست بشيء لم يصل إلى أذنيّ . .

هزت خالتها رأسها بالموافقة و أمرت أحمد . :

- أجلب لي الماء . .

أخذت تدور هديل بيديها المرتجفتين تبحث عن شيء في معطفها بينما أمها تردد . :

- هداكِ الله . ! لقد طلب منكِ الطبيب أن ترتاحي . .

كيف تقول لها ذلك وهي من أنقذنا من خطر عظيم . !

وجد أحمد أخيراً الماء وسط متابعة الأطفال الصغار لبحثه بعيون بائسة تنقل
بصرها بينه و بينها . .


سلم الماء لخالته . .

أخرجت هديل حبات دواء ما من معطفها . .

تناولتها ثم شربت الماء كمن سيموت عطشاً ، خرجت من بين شفتيها قنوات للمياه
بللت معطفها . .


قالت بصوت متعب وهي تدير عينيها حول الأشخاص الجالسين بجانبها و خلفها و
أمامها . .


أدارت بصرها الشارد إلى النافذة و أخذت تبحلق في الطريق القريب منا لولهة . .

ضاقت عينيها بالتفكير . . و هي تبصر ازدحام السيارات التي بجانبنا . .

امتلئ فجأة الطريق فجأة بالسيارات المتوقفة و أصوات أبواقها يثير الأعصاب . .

قالت هديل و هي تفكر بصوت منخفض . :

- نقطة التفتيش . !

تأوهت ثم استندت إلى الكرسي مرةً أخرى . .

لاحظت أخيراً أننا جميعاً نراقبها حاولت أن تضحك رغماً عن ألمها الظاهر
للعيان . .


- في ماذا تحدقون . ؟

لما رأت صمتنا و أعيننا المشفقة و الخائفة ، قالت . :

- لا بأس أنا بخير . .

فتحت الباب دون أن تبالي بمحاولات خالتها في ثنيها عن النزول . .

أغلقت الباب خلفها ثم استندت إلى سطح السيارة الأمامي تراقب السيارات . .

أخرجت شيئاً من معطفها الذي بلا أكمام . .

كانت خارطة صغيرة لشيء ما . . أظنه المدينة . .

فتحتُ الباب ثم نزلتُ إليها . .

كان من الواضح على هديل أنها تحاول أن تتماسك أمامنا و أنها متعبة بما فيه
الكفاية ،


فقد كانت تتمايل كأنها مصابة بالدوار . !

و تستند إلى سطح السيارة . .

لم أنتبه إلى الفتاة الحامل و كلامها عن إحساسها المتزايد بالطلق ،

إلا بعد لحظات من شخوص بصري على هديل . .

|||
حاولتُ الصمود أمام صف السيارات المتحرك نحوي . .

استندتُ إلى سطح السيارة ، أغلقت عيني بشكل مستميت . .

ليس هذا وقت الدوار . !

تحاملت على نفسي و ألقيت نظره إلى صف السيارات . .

يبدو أن نقطة التفتيش التي على بعد كيلومترين قد أعاقت تقدمهم . !

ليست بعلامة جيدة . .

سنصل بعد خمس ساعات أن استمر تقدم هذا الصف بهذا الشكل . !

أمسكت رأسي محاولة القبض على هذا الصداع و الدوار اللذين لا ينفكان عن إزعاجي
. !


يجب أن أتحمل .! ، يمكنني أن ارتاح و أنام إذا وصلنا سالمين . .

فتشت في معطف أخي عن أي شيء مفيد . .

وجدت خارطة بها تفاصيل تفيد الرحالين و قاطعين البراري و البحار . .

كانت الخارطة دقيقة لا تغفل اسم شارع أو طريق إلا و ذكرته
و تغطي المدن الكبيرة و الصغيرة و القرى المحيطة بمنطقتي . .


وجدتُ الطريق الذي نسير فيه . . تتبعت بأنملة أصبعي الخنصر سيره . .

كان يتفرع في النهاية إلى فرعين فرع يتجه إلى المدينة التي أقصدها و فرع يؤدي
مدينة أخرى بعيدة كل البعد و سيتخذ قطع الطريق إليها في الأحوال العادية ثلاث
ساعات . .


هذا ليس جيداً البتة . !

كان أقرب شيء إلي هي مدينة صغيرة كانت قرية قبل أن تُطور قليلاً . .

كانت هذه القرية بالاتجاه الشمالي الغربي على الخارطة . .

تلفتُ حولي و الدوار بدأ يضللني من جديد . .

أحتاج إلى بوصلة . . بوصلة . !

من المؤكد أن هناك واحدة ما في هذا المعطف . .

أخذتُ أبحث و أبحث دون جدوى . !

- هديل . .

سمعت صوتها المتحشرج الخائف من شيء ما . .

التفتُ إليها ببطء و أنا استند إلى السيارة بضعف . .

قلت لها و أنا أحاول جر الكلمات من حنجرتي جراً . .

- ماذا . . هناك . ؟

قالت ريناد و الارتباك باد على وجهها . :

- لا ادري . . آمال تقول بأنها الطلق يزداد عليها ، و تخشى أن تلد . !

لم أستوعب ذلك إلا بعد مضي هنيهات . .

لكنها من المفترض أن تلد بعد أسبوع ، و ليس اليوم . !

بعد أن وصل المعنى الصحيح لعقلي الواعي صرخت . :

- ستلد . ! الآن . !!

لملمتُ الخريطة بسرعة و طويتها بشدة دون رحمة . .

لا أدري أين وضعتها . ؟ ، و لا أدري أين ذهب ذلك الدوار و الوهن الذي كان
يسكنني . .


تبخرا و حل محلهما طاقة غريبة . .

ركبتُ السيارة و كنت أحاول طمأنة آمال بكلمات لا أدري ما فحواها . .

ألقيت نظره على من خلفي عن طريق المرآة المستحوذة على وسط الجزء الأعلى من
زجاج السيارة الأمامي . .


أدرتُ محرك السيارة و أنا أشاهد درجة الحرارة الرقمية . .

و اتجاه السيارة ، انتبهتُ فجأة إلى وجود بوصلة في السيارة . .

بوصلة . !

أدرتُ السيارة إلى الاتجاه المطلوب الشمالي الغربي وسط ذهول الموجودين . .

بحثت عن الخريطة مرةً أخرى . . وجدتها أخيراً . .

فتحتها و أنا أقلب بصري بينها و بين آمال التي كانت تصر على أسنانها بقوة . .

سرتُ على بركة الله في مغامرة غير مأمونة العواقب . .

و لستُ أدري إلى أين ستؤدي بي كل الطرق . ؟

قطعت بالسيارة عدة كيلو مترات . .

دون أن تظهر تلك القرية بعد . !

ألقيت نظرة قلقة على مؤشر خزان الوقود كان يكاد ينفد . .

وضعت يدي على رأسي أحاول بها تصفية عقلي من تلك الهواجس و منع أذني من سمع
تأوهات آمال . .


أبطئت السيارة من سرعتها رويداً رويداً حتى توقفت . .

- ماذا . . هناك . ؟

- هل ضعنا . ؟

- لماذا توقفتِ . ؟

- هل أنتِ بخير . ؟

تطايرت الألسن تسألني . .

وضعتُ يديّ على وجهي للحظة ثم مسحت وجهي بهما قبل أن تتحدان مع بعضهما و
تقفان بين أنفي و بوابة شفتيّ . .


كيف سأحل هذه المعضلة . !

رغم أن ما حلمتُ به لم يحصل لكنني الآن متوقفة في وسط البراري . .

ضائعة و لستُ لوحدي ضائعة بل معي ثلة تاهت تحت قيادتي . .

أحسستُ بيد تربتُ على كتفي ، التفتُ إليها بعين كسيرة . .

كنتُ أرى صر أسنانها على شفتيها بين حين و آخر وهي تتحامل على نفسها و
تحادثني . :


- لا بأس ، ما دامت هذه الخريطة كانت لحسام فلابد و أنها صحيحة . .

ترجلتُ من السيارة و بيدي الخريطة . .

نزلت إلى الأرض بعينين شاردتين تعاين المكان بقلب مفطور . .

وجهتُ بصري إلى الخارطة عدة مرات . .

لماذا لم تظهر بعد . ؟

بحثتُ عن أقرب طريق يؤدي إليها . .

كان حسب مقياس الخارطة يبعد مسافة كيلومترين تقريباً . .

أنه بعيد . !

فلو سرتُ على الأقدام سيستغرق هذا ساعة و ربما أكثر . !

حدقتُ في الخارطة بعين بائسة و أنا أعض على شفتي بعجز . .

كم أنا عطشه . .

اتجهتُ إلى السيارة فوجدتهم يراقبونني جميعاً . !

آه . .

جميعهم يعتمدون علي لا أريد أن أخذلهم في هذه اللحظة . .

أشرتُ لهم و أنا اتجه إليهم بأن يحضروا لي الماء . .

فتحت بسمة الباب و خرجت و معها الماء أعطتني الماء و كانت الشمس تقف فوقنا
تهزئ بي و تسلط أشعتها الحارقة علينا . .


ناولتني الماء . . تلقفته بسرعة و فتحت الماء لآخذ عدة رشفات متتابعة . :

- لماذا توقفتِ . ؟

سألتني فتوقفت المياه في حلقي . .

اختنقت بها ، ثم أخذت أسعل بشدة . .

بينما كانت بسمة تربت على ظهري ، هدئت نفسي قليلاً . .

آثرت أن أخبرها بالحقيقة على أن أكذب عليها و أخسر الوقت و الجهد . .

أعطيتها الماء ثم بدأت أبحث عن بوصلة في هذا المعطف . :

- لقد نفد الوقود . . لهذا لا يمكن أن تسير السيارة أكثر من هذا . .

وجدتُ البوصلة أخرجتها من ذلك الجيب المخفي . .

أطلعتُ بسمة على الخارطة و البوصلة و أخذتُ أشير لها إلى الطريق البريّ . .

- لهذا سأقطع كيلو مترين حتى أجد سيارة تقلنا أو تجلب لنا الوقود ، سأعود
إليكم بعدها لأقلكم . .


الطعام ستجدونه في الحقيبة الحمراء بينما توجد كميات كبيرة من الماء في علب
توجد في الحقيبة الرياضية الكبيرة ، ستجدينها أسفل الحقائب . .


أخذا الماء منها و قلت . :

- هذه سأبقيها معي حتى لا يصيبني العطش . .

احتضنتها و كأنني أراها للمرة الأخيرة ، أعلم بأن ما أفكر به ليس بفكرة صائبة
. .


لكن ليس لدي حيلة . .

استدرتُ و أنا اقبض على الخريطة في يد و في اليد الأخرى البوصلة . .

ثم تابعت سيري . .

كنت استرق لمحات من وجههم التي تتطلع إليّ . .

رأيتُ أمي تحادث بسمة . .

رأيتُ عيني أحمد المذهولتان . .

رأيتُ أعين صغيرة تتبع تحركاتي . .

و عينان شاردتان في لا شيء . .

كانت أذني تصغي إلى كل صوت تتطلع إلى شيء ما . .

أُصغي إلى صوت خطواتي فوق تلك الحصوات الصغيرة و أنا اطحنها . . أو . .
تعيقيني . .


أو . .

يبقى كل منا واقف فوق الحصوات الباقية بشموخ عابر ينتهي بدفعة من أحدهم
فنسقط و نتدحرج فوق من كنا فوقهم و من ثم نكون أسفلهم . .


توقفت خطواتي على صدى صوت أمي التائه بين الحصوات الصغيرة و الفضاء الشاسع .
:


- توقفي . .

لم استدر إليها حتى لا يتهاوى شموخي و أتمزق إلى ألف قطعة
تتساقط و تتناثر بين تلك الحصوات . .


أمسكت بكتفيّ من خلفي و قالت بصوت يملؤه الرجاء . :

- لا تذهبي . ! أنتِ متعبة . .

لم استطع أن أتابع سيري فقد دفعني أحدهم قبل هنيهة . .

استدارت حتى واجهتني وهي تنظر بعمق في عيني الشاردتين في ذلك الفضاء الشاسع .
.


عندما لم يصدر مني سوى إيماءة مرتجفة تلكأت قبل أن تعبر شفتي للحظة . .

سحبت أمي مني الخارطة و البوصلة . .

عندها . !

انفجرتُ ببكاء مر . . و ومضات من حلمي الأسود تسيطر على مخيلتي . .

بكيتُ و بكيت في حضني أمي . .

و توالت شهقاتي و ارتجافاتي . .

اكتنزتُ أمي بين يديّ . :

- لا يمكنكِ أن تذهبي . ! لن أسمح لكِ بذلك أبداً . .

كانت فكرة فقدان أمي تسيطر عليّ و صورتها وهي تسير بهدوء و تخلفني بين ذلك
الدمار . .


جذبتني أيديّ قوية ، جعلتني أصرخ كالمجنونة . .

و صورة أمي تسير بين ذلك الدمار تتراقص أمام عيني . .

عيني اللامعتين بدموعٍ تساقطت على وجنتي ، كمطر هطل على أرض جدباء . .

كنت أصرخ بلا صوت . . و أراها بلا روح . .

و كأن روحي غادرتني هي الأخرى و تبعتها . .

|||

جرت ساعة من الزمن أمام ناظري هديل . .

كانت تراقب ما حولها بجسد بلا روح و كابوسها يمضي عليها كـ ومضات أضحت حقيقة
. .


شعرت بيد آمال تمسك بيدها و تضغط على يدها بقوة حتى تحجر الدم . .

حتى أصبح الجزء العلوي من يدها لا تشعر به . .

التفت بقلب يكاد أن يقفز من جسدها . .

الومضة التالية ، ستلد أختي آمال . !

تلبس لها ذلك الكابوس مرةً أخرى . .

لكنه هذه المرة أمام ناظريها وهي بلا حول و لا قوة . !

خرجت آه عميقة من شدة ألم آمال و أخذ العرق يسيل منها . .

انتبهت خالة هديل و هناء و بسمة و ريناد و كل من كان موجوداً إليها . .

تقدمت خالة هديل إليها و قالت بمقلتين فزعتين . :

- ماذا هناك . ؟

قالت هديل بشفتين مرتجفتين و عينان تشرفان على البكاء . :

- لا أدري . . ربما أتاها المخاض . .

و . . و . . ستلد . !

كانت خالتها تسأل آمال عن شعورها ، و هل حقاً أتاها المخاض . ؟

فتحت هديل الباب هاربةً من هذا الموقف . .

و لأول مرة تقف هديل بجبن ، تراقب حالة آمال بلا حراك و بلا وعي . !

وقفت للحظات ،

وثب في ذهنها أخيراً أن تخرج صندوق الإسعافات الأولية . .

فتحت باب السيارة الخلفي . .

و أخذت تبحث بين الحقائب و تصيح بالأطفال . :

- ابحثوا عنها أنها زرقاء . . زرقاء . . أين هي . ! ؟

سلمها لها أحمد بعد أن وجدها بين أكوام الحقائب . .

فتحت باب ريناد حتى تنزل خالتها و رمت بالحقيبة عليها . .

كان رأسها يدور و ما تنفك التخيلات المشئومة عن الظهور في مخيلتها . .

عادت إلى باب السيارة الخلفي من جديد ،

بعد أن تنبهت أخيراً أن السيارة ليست مكاناً مناسب للولادة . !

لم ترى الانفعالات و التعبيرات التي اعتلت وجههم ،

كانت تبحث فقط عن شيء ملائم لكي ترتاح عليه آمال ،

عوضاً عن تذكُرها أنها لم تجلب معها أي غطاء أو وسادة . .

وجدت شيء ما يمكن أن يستخدم كشيء يجلس عليه . .

أخرجت الخيمتين الملفوفتين كل واحده على حده . .

بسطتهما أمام باب آمال . .

و وضعتهما فوق بعضهما . .

كانت خالتها الواقفة بجانب آمال و بيدها الحقيبة تمسكها بلا وعي ،

و تسأل آمال بين حين و آخر . .

أخبرتها هديل أن تريح آمال على هذه الخيام ،

ريثما تبحثان عن طريقة لحل هذه المعضلة . !

جلست خالتها و هي تمسك يد بيد آمال التي تصارع نفسها لإخراج الطفل . .

بينما بقيت هديل بعيدةً عنهما تعضُ يدها و أصابعها و كل ما تتلقفه أسنانها
بقلق . .


أخذت تسير جيئة و ذهباً تفكر . ،

ليست لديهم أي مؤهلات لاستقبال الطفل . .

ليس لديهم وعاء و ماء نظيف . . و لا مقص مطهر . .

و لم تعد لهذا الحدث شيء أبداً . !

يجب أن تنقلها إلى المدينة . . ، لكن كيف . ! ! ؟

استدارت إليهما بعد أن عبرت أخيراً فكرة ما . .

دعت أحمد لينزل من السيارة و كذلك هناء و بسمة . .

اصطفوا و قد عبث بهم الاضطراب و أخذ منهم ما أخذ . !

سألت هديل خالتها . :

- في غضون كم تتوقعين أن تلد . ؟

- لا أدري . .

التفت إلى آمال مرةً أخرى تسألها ثم قالت . :

- ما زال الوقت مبكراً قليلاً ، ربما . . ساعة أو ساعتين . . أو أكثر . !

التقطت هديل الحقيبة الزرقاء و أدخلت بها ما احتواه صندوق الإسعافات الأولية
. .


ثم أمرت المصطفين بضم أطراف الخيمتين إلى بعضهما و كأنهما جزء واحد . .

و طلبت من خالتها أن تبقى مع الأطفال . .

- سنذهب بها إلى الطريق فقد تتلقفنا سيارة ما . ! و سأعتمد في اتجاهاتي على
بوصلة الحقيبة . .


ألقت خالتها نظره مستعجبة على البوصلة الصغيرة و التي كانت بحجم مفصل الإبهام
. .


ثم قالت . :

- لا يمكنكم الذهاب بها هكذا . !

ردتْ عليها هديل وهي تحزم ما يمكنها أن تستفيد منه الكتب التي ابتاعتها ، ماء
، طعام . :


- لكننا بذلك سنختصر المسافة و سنقطع الطريق في ساعة و نصف . .

رفعت الطرف التي تمسك به ،

ثم قالت بجدية و هي تحاول منع تلك الأفكار القانطة عن الظهور بين جنبات فكرها
. :

- أعدك . !

اسطورة ! 24-02-14 05:19 AM

_ 6 _


( المطر يهطل )
انطلقت بنا هديل بعد أن نطقت بوعد لأظن بأنها ستستطيع الإيفاء به . !

هذا الشعور كان يساورنا جميعاً ،

و نحن نراقبُ أشعة الشمس المتوهجة حتى تعبت من ملاحقتنا فـ برد وهجها و
ابتعدت إلى الغرب


لتغادرنا هي الأخرى كما غادرنا الأمن و السلام و الكرامة . .

تصدرتنا هديل بالمسير ، تجابه ذلك الفضاء الواسع . .

و يديها متعلقتين بأسفل الخيمتين تقبض عليه بقوة حتى لا تفلتان من بين يديها
. .


رغم أنني مازلت أحمل عليها في قلبي ، لصراخها في وجه أمي و استقبالها الرائع
لنا . !!


إلا أنني لم أستطع لومها بعدما غادر أبها و تركهم لتعبث بهم الرياح كيف تشاء
. .


التقطت نفساً ساخراً من هذه الدنيا . !

فكل الرجال سواء أن أكرمتهم خذلوك و أن تجاهلتهم لحقوا بكِ ،

و هكذا دواليك . !

أدرت بصري حول السماء النارية و قرصها المتوهج يلقي رمقه الأخير . .

ستكون جميلة جداً أن كنت في وضع يختلف عن هذا . .

سيكون جابر حينها يتأمل في السماء و يسرد فلسفته

عن كيفية تكون الضوء أو عن جمال هذه السماء . !

بينما سيكون والدي يداعب أخي محمد و يضحك على أي نكتة يلقيها أحد الصغار

رغم أنه قد سمعها للمرة المليون . !

لكن حالي و ما ألت إليه . .

على هامش الحياة ، بقلبٍ يتلو التعازي على نفسه لأنه ينتظر أن تحل فاجعةً ما
. !


يحاول أن يهيئ نفسه ليرتشف الألم وهو متلذذ به . !

أسير معهم . ،

و قلبي يهيئ نفسه لموت أحدنا أو ضياعنا أو أن ينزل جيش من السماء ليلتقطنا ،

و نصبح أسراه يلهو بنا كيف يشاء . !

كنت انتظر تلك اللحظة فقط . .

أخطو بعقلي الشارد الذي يدور حول فلك

( كيف سيخلي ذاكرته ممن يحبهم و يرتب أموره مع وضعه الجديد ) . .

- هناء , أتريدين أن تشربي ماءً . ؟

جرت لحظة حتى انتبه عقلي إليها و توقف عن التفكير . .

ثم تناولتها منها و رشفة عدة رشفات متتابعة و بصرها لا يزال يراقبني . !

انتهيتُ ثم ناولتها لها و قلت مبررة و أنا أزيل عن فمي قطرات الماء . :

- ربما تكون هذه المرة الأخيرة التي أرشف بها ماء صافي . .

وجهتْ نظرة استعجاب إليّ ثم ناولت الماء إلى أحمد . .

رشفه هو الآخر حتى أنهاه عن بكرة أبيه . .

ثم أعادها إلى ريناد . .

أطلت بها ريناد بعينين جاحظتين و قالت . :

- ما هذا . . لقد أنهيتها . !

رد أحمد وهو يمسح قطرات العرق الملتصقة بجبينه . :

- أنني متعب . . أننا نسير في هذه الخلاء لمدة ساعة و لم يظهر لنا أي شيء . !

ردت بغضب . :

- كلنا متعبون . . و لكن هذا لا يعني أن تشرب حتى ينتهي الماء . !

توقفت ريناد عن السير و ملامح الغضب تجعد وجهها . .

توقفت هديل فتوقفنا جميعنا ،

التفت هديل إلينا بوجه كـ لون الليمون الأصفر و شفتين جافتين و قالت . :

- ماذا هناك . ! ؟

جالت ببصرها علينا على بسمة الصابرة و أحمد المتعب و ريناد الغاضبة و أنا
اليائسة . .


أنزلت بصرها إلى آمال التي بلغ بها التعب حتى امتنعت عن الحديث و أكتفت
بهمسات متعبة . .


أنزلت هديل طرفها فأنزلناه معها . .

اقتربت من آمال ثم جلست بجانبها بعجز و قالت هي تحاول البحث بعينيها عن قدر
ألم آمال . :


- هل أنتِ بخير . ؟

كيف تحسين . ؟

كانت تحادثها و كأنها في عالم آخر . . و كأنها ليست في وسط العراء . ! . :

- سنصل للطبيب لا تقلقي . .

لا أعلم أن كانت هديل تهذي أو في عقلها . .

إلا أن حالها لم يكن طبيعياً و قد تناقلت العيون نظرات القلق ثم وجهتها إلى
هديل . .


عادت هديل إلى وضعيتها السابقة و شحذت قواها لرفع البساط لكن قواها خارت ،

استدارات إلينا بابتسامة تهتز بتعب . .

انعكس ضوءٌ على وجوهنا . .

التفتنا إلى مصدر الضوء و مصدر سماع صوت تكسر الصخور الصغيرة تحت عجلات
السيارة . .


أشعت أضواء سيارة على أعيننا فأعمتنا عن رؤية صاحبها . .

أغمضتُ عيني بشدة لأحميها من هذا الضوء الساطع . .

توقفت السيارة ثم ترجل منها شخصان هبّا إلينا بسرعة . !

بينما ظهرت خلفهما سيدة بطرف حجابها المرفرف تركض إلينا . .

وصل الرجلان إلينا بأنفاس لاهثة و هما ينظران بفزع إلى آمال . .

اتضحت ملامح تلك السيدة تحت أشعة الشمس الآفلة . .

كانت خالتي " والدة آمال "

ابتسمتُ أخيراً ابتسامة لامعة بين هذه الظلمة . .

هرعتْ إلى آمال ثم جلست بجانبها . .

- هل أنتِ بخير . ؟

أومأت آمال بضعف بأنها بخير . .

ألقيت نظره على هديل حتى أرى وجهها وهو يستنير بابتسامة . .

تفاجئت بمظهرها . !

تعدا ( الشابين و خالتي ) هديل ، وهي مازالت ساكنه سكون الأشباح . .

ابعد أحد الشابين هديل حتى يرفع البساط و يذهب بآمال إلى السيارة . .

التفت هديل بعينين منفرجتين و فم جامد و وجهها قد توشح باللون الأصفر . .

شخص بصري عليها ، كانت شبحاً بحق . !

لم تحرك ساكناً بل كانت تراقب بـ عقل لا يستوعب الكثير . .

حمل الشابين آمال و اتجها بها إلى السيارة بينما لحقت خالتي بهما

فتحت الباب ثم ساعدتهما في وضع آمال في السيارة . .

عادت إلينا مهرولة و يمشي خلفها أحد الشابين و بيده علبة ماء بها سائل لم
استطع تمييز لونه بسبب طغيان لون الشفق الأحمر . .


توقفت خالتي و قالت لنا من بين أنفاسها اللاهثة ، أثناء وصول الشاب إلينا . :

- معه بعض الوقود سـ يفي بإيصال السيارة إلى المدينة . .

التقطت نفساً ثم نادت وهي تلتفت إلى موقع هديل . :

- هديل . . هديـــل . .

التفتنا إلى موقعها السابق فوجدنها قد غادرته جاريةً إلى تلك السيارة . .

|||

بحثت عنهم في حجرهم فلم أجد أحداً في الطابق العلوي . .

اتجهت إلى الدرج علّ أذني تعملان و تلتقطان أي صوت خافت

أو حتى تشعر بـ وشوشة بسيطة حولي و لا أن أغرق في هذا الصمت . .

أغمضت عيني بألم محاولة بيأس التخلص من ذلك المشهد المحروق على جبين ذاكرتي .
.


نزلت من الدرج و بحثتُ عنهم معتمدةً على بصري ،

الحمدلله ، على الأقل ما زلت أُبصر . .

حاولت نطق عبارة عل أن يسمعها أحد و حاولت ضبط صوتي

عن طريق إحساسي باهتزاز حبالي الصوتية . .

أُرخ صمتي بتاريخ آخر حرب خاضها الملكان . .
ألتزمني شجاعة بالغة لمحاولة فعل ذلك و فُتح فمي للحديث بعد أن أغلق لمدة
عشرين عام . .

فتحت فمي لأتحدث ،

شعرت بنقرة على كتفي أغلقت فمي تارةً أخرى . .

استدرت إلى صاحبـ/ـة النقرة ، كانت منيرة تبتسم بشكل يثير عجبي . .

قالت شيء ما لم تلتقطه أذنايّ و لم أستطع فك رموزه لسرعتها في الحديث . !

حينما رأت علامات الجهل بما تقوله ترتسم على وجهي

أشارت إلى الصالة الداخلية المتوارية خلف حاجز ما . .

ثم رسمت جهاز تلفاز و صنعت وهم مشاهدته . .

هززتُ رأسي بالفهم . .

ثم توجهت إلى الصالة . .

ظهرت لي ظهورهم و وجههم المتسمرة على جهاز التلفاز . .

كانوا متحلقين حوله و الخوف قد لعب في قسمات وجوههم . .

ألقيت نظرة على ما يشاهدونه . .

و لم أستطع تحمل رؤية ما حصل لي . . يتكرر أمام عينيّ . .

/

.

.

أراحتها على الأريكة و هي تخبر أبناء خالتها الابتعاد عنها . .

استندت ركبتيها على الأرض و تعلق بصرها بـ هبة . .

حالتها الصحية أصبحت هشة ، و ازداد فقدانها لوعيها هذه الأيام . .

و ودعتها شهية منذ فترة ليست بقصيرة . !

جلبت أمها الماء البارد و منشفة صغيرة . .

قامت رهام عن الأرض لتفسح لأمها مجالاً للجلوس . .

قالت بينما تغرق أمها المنشفة في الماء البارد و تعصرها لتخرج الماء منها . :

- أمي . . ما بها هبة . ؟ ، لماذا يغشى عليها إذا رأت شيئا ينتمي للحرب . ؟

وضعت والدتها المنشفة على جبهة فتاتها المتعبة و هي تناضل دمعة لتبقيها في
محجرها . .


و لتحاول نسيان تلك الليلة السوداء التي يتهربون من ذكرها جميعاً ، خاصةً أن
هبة فقدت سمعها في تلك الليلة . !


التقطت المنشفة المبللة من يد والدتها المرتجفة . .

زفرت ما كدّر صدرها لتجدد الهواء الراكد ، حلت محل والدتها و أخذت تغرق
المنشفة و تعصرها ثم تضعها على جبهة هبة ، وهي تراقب تقاسيمها الجامدة . .


أطفئت والدتها التلفاز بعد أن شاهدت الدمار الذي حل بالعاصمة . .

و الذكريات ترتد إليها تنهش قلبها ،

كانوا في تلك الليلة يغادرون منزلهم القاطن في العاصمة . .

عادت إليها صورة المنزل . .

زجاجه الذي قد تكسر رغم محاولات الأكياس البلاستيكية التشبث بإطار النافذة عن
طريق الشريط اللاصق . .


التقطوا ما خف وزنه و غلا ثمنه سواء كان مادياً أو عملياً ،

ركبوا السيارة و انطلقوا إلى البحر ليصعدوا على آخر سفينة تغادر هذه الجزيرة
المنكوبة . .


أوقفوا السيارة بجانب البحر ، و أشاروا للسفينة المنطلقة أن تنتظر للحظات

حتى يصعدوا على قارب صغير يوصلهم إليه . .

نزلوا و أصوات صفارات إنذار الحرب تصم أذانهم ، اتجهوا بسرعة إلى القارب
الوحيد . .


رغم أن الليل في أشد حلكته إلا أن نيران الصواريخ التي تلحق بالمدنيين
البريئين


تفتك بهم و تحيطهم و تنير سمائهم بنيران مختلطة برماد . .

صعد الجميع على القارب عدا الطفلة هبة المرعوبة . .

أشار لها والدها بالإسراع و اللحاق بهم . .

جرت إليهم بسرعة و جفنيها يضمان محجريهما بقوة . .

لم تكن ترى ما أمامها . .

تعثرت بشيء ما و كان أخرى ما سمعته صوت انفجاره . .

انفجر اللغم تحت قدميها الصغيرتين ، هبّ والدها إليها

و حملها بين يديه بملابسها الممزقة و جلدها المحترق و وجهها المتضرر . .

لم تكن تلك الفتاة التي بين يديه فتاته أبداً . .

اسطورة ! 24-02-14 05:25 AM

صحا من غفوته وهو يبتهل إلى الله أن يكون هذا كابوساً مزعجاً . .

رفع رأسه ليستكشف المكان الذي يجلس به . .

ظن أنه في سيارة تركي ، كاد يشك في صحة ظنه

لولا أنه رأى الخرائط و مستلزمات الرحلات في المقعدين الخلفيين . .

نفض رأسه حتى ينثر الكابوس بعيداً عنه . .

رأى تركي يحادث بعض الأشخاص ذوي زي الحربي ،

كانوا كما يبدو يصرخون عليه و هم يشيرون إلى قصر الشاطئ الكبير العائد لأسرة
تركي . .


ترجل من السيارة ليرى ما الخطب . ؟ !

أثار عجبه السيارات العسكرية المصطفة في مواقف القصر الشاطئي . !

وصل إلى تركي و أرخى أذنه ليسمع ما يقولون . .

كان أحد الضباط يصرخ عليه و يقول . :

- هذا ملكٌ للدولة تم التنازل عنه من قبل صاحبه ، و أن كنت تعارض هذا الشيء
أنضم إلينا !!


ثم لا أرى أنك مريض ، هل هربت من الجيش و أنت تدعي المرض . !

تجهمت وجههم بشكل مخيف . .

تراجع تركي بجبن إلى السيارة فـ لحق به عبد الله ،

أغلق الباب ثم انطلق بالسيارة و سارا على الطريق . .

قال تركي بصوت مسئول . :

_ أحسن الله عزائك . .

فغر عبد الله فاه متفاجئاً وهو يستعيد ذكريات ذاك الصباح الرمادي . !

أضاف تركي . :

- سنتجه إلى كوخي الصغير ، لا أظن أنهم نالوه . .

فتح جهازه الإلكتروني ليرى موقع الكوخ على الخارطة الإلكتروني . .

بحث عنه و بحث ، لكنه لم يجده . !

ألتفت بوجه مرعوب إلى عبد الله و قال . :

- هل تعرف أين ذلك الكوخ . ! ؟

لم ينبس ببنت شفة بل اكتفى بطرح أمطار ملحية من غيمتين سوداوين تحدقان فيما
خلف ذلك الزجاج . .


|||

حل المساء و سحبت الشمس آخر خيوطها . .

وصلت السيارة ذات الحوض الخارجي إلى المستشفى . .

ترجلت هديل من مقعد السيارة منطلقةً بأقصى سرعتها إلى المستشفى

تستدعي طاقم تمريض أو أي أحد لجلب سرير لـ آمال . .

ترجل مُحسن من السيارة و أشار إلى أخيه ذو الأربعة عشر عاماً ،

أن يقود سيارة هؤلاء النسوة إلى منزله خاصةً بعد أن أصبح منزلهم الكبير ملجأ
لمنكوبيّ العاصمة . .


ربما لحسن حظ هذه العائلة أنه كان يقوم بنقل الوقود ليملأ به سيارة أخيه
المركونة بجانب المنزل . .


استطاع بلمحة أن يعرف بأن تلك الفتاة التي جلست بجانبه ،

لم تنم نومً هنيئاً منذ أيام و لم تضع في فمها طعاماً منذ مدة طويلة . .

كانت شاردة الذهن طوال الوقت و تفرك الجزء الظاهر من عصبةٍ لُف بها رأسها . .

أُحضر السرير و سارع الطاقم بجلبه ، ليقلوا به الفتاة الحامل إلى داخل
المستشفى . .


دخل الجميع بينما بقي هو ،

بقى يتأمل ذلك البناء الذي حفظ حجراته و حفظ مرضاه المداومين على زيارته كما
حفظوه . .


كان يود أن يصبح طبيباً بدلاً من أن يكون مريضاً بلا حول و لا قوة . !

لكن شاء الله . !

دخل وهو مقتنع بأن هذه هي إرادة الله . .

اتجه إلى قسم النساء و الولادة ليرى ما الذي حصل معهم . .

كانت والدة الفتاة الحامل قد دلفت مع ابنتها إلى حجرة الولادة

بينما بقت الفتاة المتعبة تنتظر على كراسي الانتظار . .

تسند وجهها الليموني إلى يدها الواهنة . .

و يسقط رأسها بين حين و آخر غافياً ثم تستيقظ بسرعة تلتفت يميناً و شمالاً ،

دون أن تنتبه لجلوسه أمام الكرسي المقابل لها . .

شعر بالشفقة عليها و ودّ لو ارتاحت قليلاً ،

أسقطت رأسها أخيراً لتغفو دون مقاومة . .

عم السكون و لم يجد شيئاً ليقطع به هذا السكون ،

فكر عما تفعله والدته الآن و من المؤكد أنها تحكي لهم

عن قصة حصولهم على هذا القصر و بكل فخر . .

قطع تفكيره سماعه لصياح طفل ،

ابتسم ابتسامة واسعة فرحة ( فالحياة مستمرة رغم أنفها ). .

انتبه إلى الفتاة التي استيقظت على صياح الطفل ،

أدارت بصرها حول المكان بلا استيعاب توقف بصرها لولهة عليه ثم على حجرة
الولادة . .


قامت على أمشاط أقدامها مسرعةً إلى باب الحجرة . .

ظهرت والدتها وهي تحمل الطفل قائلةً بفرح لأبنتها . :

- إنه صبي . ! إنه عبد السلام . !

ابتسمت الفتاة بفرح متعب ثم قالت وهي تداعب الوليد بأنملة أصبعها . :

- كيف حال آمال . ؟

- إنها بخير و الحمد لله ، لكنها ستبيت الليلة هنا . .

سكتت الأم للحظة تأملت بها وجه ابنتها ثم أضافت . :

- اذهبي إلى المنزل لترتاحي و سألحق بكِ غداً . .

ابتسمت هديل بسخرية و قالت . :

- أي منزل تتحدثين عنه . ؟

هبّ محسن إليهما و قال متدخلاً . :

- منزلي ، يمكنكم المبيت فيه كما أن أفراد عائلتكم المتبقية قد ذهبت إلى هناك
. .


هزت هديل برأسها نافيةً تلك الفكرة . .

و قالت . :

- لن أذهب إلى هناك . !

ردت والدتها . :

- لكن يجب أن . .

قطع حديثهم خروج الممرضة التي تناولت عبد السلام من يديّ أم هديل و قالت . :

- إنه يحتاج لبعض الفحوصات . .

ألتفتت إلى أم هديل ثم أضافت . :

- أبنتك تحتاج إليكِ . .

دخلت والدتها و تركتها مع ذلك الشاب الغريب عنها . .

قال لها مستفسراً . :

- هل نذهب . ؟

تجاهلت هديل سؤاله و اكتفت بالجلوس على كراسي الانتظار مغمضةً عينيها تنشد
الراحة . .


جلس على الكرسي المقابل لها يتأمل ملامحها المجهدة . .

اقترب منها و قال . :

- عذراً . .

فتحت عينيها بصعوبة و قالت . :

- نعم . !

أشار بيده إلى إحدى الممرات . :

- توجد هناك حجرة للمرافقين يمكنكِ أن ترتاحي بداخلها . .

قامت وهي تحاول صلب جسمها ، تبعت خطواته حتى دخلت الحجرة التي أشار عليها . .

قالت قبل أن تقفل الباب خلفها . :

- أخبر والدتي بأني أرتاح هنا . !

أغلقت الباب ثم قفلته قبل إجابته . .

أرخت حجابها ثم نامت على السرير دون أن تعير انتباهاً لما يوجد بداخل الحجرة
. .


/

.

.

استيقظتُ و رأسي مستند إلى زجاج نافذة سيارة . .

ألتفتُ حولي بعينين تجتهدان لرفع أجفانهما ،

كانت أمي بجانبي و تتليها آمال المتعبة و طفل صغير . !

بدأت مقتطفات من الليلة الماضية تظهر ،

استذكرت طرقُ الباب و استيقاظي بسرعة و ركوبي السيارة بلا وعي ،

و وقوعي في النوم مرةً أخرى ..

توقفنا عند منزل كبير أشبه بقصر قديم . .

ترجل السائق من السيارة قائلاً بابتسامة . :

- تفضلوا . .

ترجلت من السيارة و أنا أتأمل مظهر المنزل . .

ولجنا إلى منزله أو أن صح التعبير ملجأه . .

كان المنزل مليئاً بالأطفال الذين تهافتوا لتحيته مادين أيديهم إليه . .

وزع عليهم الحلوى طفلاً طفلاً بابتسامة واسعة . .

أتت إحدى السيدات و بيدها ملعقة غرف الطعام و قالت . :

- نسي فريد إحضار الطماطم . . هلّا اشتريته من الدكان . ؟

أومئ برأسه موافقاً و قال . :

- حسناً . .

تبعته والدتي وهي تسند آمال إليها . .

توقفنا لدى باب فتحه بعد طرقه ،

ظهرت لنا حجرة كبيرة الحجم ، جلسوا بها خالتي و أبنائها و بسمة و أختها و
أحمد . .


قال مبتسماً بعد أن ترك أكرة الباب . :

- اتخذوا هذا المنزل كـ منزلكم . .

وجه حديثه لأحمد قائلاً . :

- أحمد . . يمكنك أن تبيت معي و مع أخي ،

قال قبل أن يغادر . :

- عن أذنكم سأذهب لشراء الطماطم . .

خرج بعد أن أرسل ابتسامة واسعة إلينا . .

قام الجميع من فوق السرير الوحيد ، استلقت آمال عيه و تمدد عبد السلام
بجانبها


بقبضته الصغيرة المتمسكة بأصبعها الذي يبدو ضخماً مقارنةً بيده الصغيرة . .

تسللت أحاسيس رائعة إلى صدري ، و كأن الحياة قد بدأت من جديد . .

عبث هذا المشهد في وجوهنا فصنع ابتسامة مرتاحة هانئة غابت عنا ،

و تحلقنا حول ذلك الضيف الجديد . .

.

.

ضرب الجرس الذي فاجأنا و أثار استعجابنا

و وصل إلى مسامعنا صوت سيدة تصرخ و تقول . :

- وقت الغداء . . الغــداء . . طعام . . طعام

خرج الجميع بينما بقيت أداعب عبد السلام بجانب آمال . .

دخلت السيدة بعد طرقها للباب و قالت مبتسمة بسماحة . :

- عزيزتي ، لقد حان وقت الغداء ، تعالي شاركينا في قاعة الطعام . .

وضعت حافظة طعام بجانب سرير آمال و علب معدنية و قالت . :

- هذا غدائها . . و هذه العلب بها أدوية شعبية لفترة ما بعد الولادة ،
ستفيدها بإذن الله . .


ابتسمت بحنان وهي تمس أرنبة أنف عبد السلام النائم و قالت . :

- هل سميتموه . ؟

قلت و أنا أضعه بجانب آمال النائمة . :

- عبد السلام . .

علقت قائلة . :

- اسم جميل . .

نهضتْ و سرتُ معها إلى قاعة الطعام ،

مررنا خلال ما قطعناه بعدة أزقة تغص بالأبواب المطلة على الحجر . .

كان ذلك المنزل قصراً بحق . !

أصغيت إلى ما تقوله تعليقاً على استعجابي من عدد الغرف . :

- لقد كان هذا القصر للملك ، الملك السابق و ليس أحد ابنيّه . .

توارثته عائلتنا حتى وصل إلينا . .

الجناح الذي تبيتون فيه هو الجناح الخاص بالملك سابقاً لذا لا ترين به الحجر
متراصة


بل واسعة ، و كما ترين كل هذه الأزقة امتلأت بالناس المتشردين أبناء هذه
الحرب . .


سألتها بعد أن ولجنا إلى قاعة الطعام التي تبدو بحجم صالة طعام لقاعة أفراح .
:


- جميعهم من العاصمة . ؟

قالت بينما كنت أدير بصري على الأطفال الصغار و المصابين الذي يتناولون
الطعام


و كأنهم لم يتناولوا طعام قط . !

- من العاصمة و من المدينة السهلية . .

- المدينة السهلية . ! ؟

ثم أضافت موضحة . :

- ألم تري الأخبار . ؟ ،

تعرضوا بالأمس للقصف بالنيران و قد ورد بالأخبار أن جيوش الأعداء قد اقتحمت
العاصمة . !


قلبت نظري بين هؤلاء الضحايا و المنكوبين و يدي تمسك بصحن الطعام . .

وصل دوري غرفت لي أحد السيدات الأرز و وضعت لي أخرى المرق و اللحم . .

أشارت لي والدتي إلى مكانها ،
جلست على الأرض بجانبها و أنا أحاول مضغ الطعام دون الشعور بالمرارة


كلما رأيت هؤلاء الضحايا . .

جرفت حبات الأرز الصغيرة لصحن محمد ، ابتسمت لي خالتي شاكرة . .

ابتسمت بسخرية و عيني تحيط بالشخوص ،

المبكي حقاً أننا نخوض الحرب طمعاً في النفوذ و السلام الأبديين . ! وهذا ما
نناله . !


بعد انتهاء الجميع من الغداء رفع كل شخص صحنه الفارغ أو الأشبه بالملحوس

ليضعه فوق طاولة مخصصة لذلك . .

ذهبوا الفتيات لرفع بساط الغداء بينما ذهبت السيدات لغسل الأطباق . .

أعنتهم في العمل حتى انتهينا منه . .

كانت القاعة ممتلئة بالنساء اللاتي ذهبن إلى حجرهن

و لم يبقى إلا النزر القليل ممن يقوم بتبادل الأحاديث و الأخبار و التوقعات
إلخ . .


دخل أحمد ومعه محسن و أخوه . .

توجه أحمد إليّ بينما ذهب محسن و أخوه إلى والدتهما . .

وضع أحمد مفتاح على يدي ، سألته . :

- هذا مفتاح لـ . ؟

ابتسم وقال . :

- لـ سيارتكِ أنسيتِ . !

توجهت إلى جناح المحتوي على حجرتنا سألته بينما نسير في الطريق

و يدي تلعب بالمفتاح و ترميه من يد إلى أخرى . :

- و لِم هو معك . ! ؟

- ليعلمني فريد قيادة السيارة . .

توقفت لولهة ثم استدرتُ إليه . :

- فريد . !

أومئ رأسه بحماس قائلاً . :

- نعم . . فرغم أنه أصغر مني بسنة إلا أنه يستطيع قيادة السيارة بطريقة
محترفة . .


تابعت سيري إلى الحجرة و أنا أفكر في صغر سن فريد . !

فـ لو كان في العاصمة لما أستطاع أن يقود دراجة . ! من شدة الزحام . !

.

.

حزمتُ حقائبنا لمغادرة هذا المكان بعد أن لبثنا فيه عدة أيام ، حتى تعافت
آمال قليلاً . .


وضعت آخر حقيبة بداخل السيارة و أغلقت بابها الخلفي . .

أتاني فريد و بيده كيس أسود . .

ناولني إياه قال مبتسماً . :

- هذا لحم طازج ذبح للتو هديةً منا . .

تناولته منه على استحياء و قلت . :

- نحن من يجب أن نشكركم على سعة صدركم . .

ركبتُ السيارة و أغلقت الباب بعد أن تأكدت من ركوب الجميع . .

لوحت لهم بابتسامة أمل تحاول المحافظة على شمعتها المشتعلة تحت المطر . .

خرجنا إلى الطريق و أيديهم تشيعنا مودعة . .

و من يدري فقد لا نراهم مرةً أخرى أبداً . !

سرت على الطريق الطويل المؤدي إلى منزلنا الصغير . .

ذلك المنزل الذي أختاره حسام بعناية مراعياً خصوصيتنا و قربة من موارد الحياة
. .


كان موقعه مميزاً لمن يريد أن يرتاح و يبتعد عن ضوضاء المدينة

و يتمتع بصوت هدير البحر الساحر . .

و رغم سعره المرتفع إلا أن أبي دفع مبلغاً كبيراً من المال

لأجل ابنه الوحيد الذي جلبته امرأته التي أحبها ،

صعقتني هذه الحقيقة . ! حينما أدركتها . .

لم أعي دوماً السبب الذي كان أبي يفضل حسام علينا إلا بعد أن سمعت دعاء أمي
له ليلة الأمس . .


أصغيت إلى بكائها الممزوج بعدة كلمات ثلاثةٌ منها فقط هي من صعقتني . .

و التي كانت . :

( ربي أنت تعلم أن حسام ليس قطعة مني و لم يكن ابني . . لكنه عبدك الضعيف
اليتيم . . )


عند سمعت تلك الكلمات أدركت عندها تفسيراً لكثير من الكلمات الملغمة

و فهمت الكثير و الكثير من المواقف كما يجب . .

ابتسمت بسخرية . :

عش يوماً ترى عجباً . !

أرجأت تأكدي من هذه المصيبة لصباح الغد أن كتبت لي الحياة . .

قطع تفكيري مرور الكثير من السيارات العسكرية و دخولها منطقة للقصور الشاطئية
الخاصة . !


توقف بصري على منارات تلك القصور . .

يبدو أنها أضحت مُلكً للدولة . ! ، أرجو أن لا يلحق هذا بمنزلنا . !

سرت على طول الطريق إلى أن وصلت إلى منعطف منزلنا . .

سرت عدة كيلو مترات لم تظهر خلالها أي سيارة عسكرية ، ساهم ذلك في تهدئة روعي
قليلاً . .


أوقفت السيارة بجوار المنزل و أنا ابتسم بسعادة

فـ طالما كان هذا المنزل بمثابة جنة الله في أرضه بالنسبة لي . .

ترجلت من السيارة و عيني تتابع أطياف الذكريات السعيدة . .

هنا كنت ألعب و هناك على ذلك الشاطئ بنيت أقبح قصر رملي . .

ضحكت في سري حينما تذكرت تعليقاتهم عليه و بكائي لذلك . .

ابتسمت بسعادة غامره و أنا استنشق نفساً عميقاً عبق بعبير البحر . .

غمر البحر جزء من قدمي ،

غمرها و كأن الأيام لم تمر و لم أُصبح على هذه الحالة . .

مازال مائه بارداً يروي القلوب بالسحر و يغذي الجروح ملحاً يحييها و يشفيها .
.


ذو وجهين جميلين . . رغم كل شيء . .

عدتُ إليهم ، كانوا يضعون الحقائب بالأرض و جزء منهم يقف عند الباب بانتظاري
. .


هرولت إليهم فقد نسيت فتح الباب . .

وصلت إليهم بنفس لاهث و قلت معتذرةً . :

- آسفة نسيت نفسي . .

و بدلاً من بحث مطول عن المفتاح في سترتي أو بالأصح سترة حسام . .

بحثت عن المفتاح بجانب الأحجار ، وجدته تحت أحد الأحجار . .

فتحت الباب و أنا أحاول تفسير العبث الموجود على الرمل المجانب للأحجار

و آثار أصابع آدمية . !

ألقيت نظره متفحصة على المنزل ، لا يبدو أن هناك شيء تبدل أو وضع في غير
مكانه . .


كان كما كان قبل خمس سنوات . .

صعدت بسرعة إلى حجرتي ،

استقبلتني تلك الفراشات الصغيرة الجميلة التي صنعتها بيدي هاتين بينما علقها
حسام على السقف . .


ابتسمت لسيل الذكريات و يديّ تقلب الفراشات بين أصابعها . .

و كم ثار عجبي حينما وجدتُ إحداها مجعدة مشوهة بطريقة بشعة . !

العبث بالرمال . !

آثار الأصابع . !

الفراشة المشوه . !
أيعقل أن يكون أبي قد مر من هنا . !!

اسطورة ! 24-02-14 05:32 AM

_7_
( التقينا ولو بعد دهر )
توقفا لدى إحدى المزارع التي تبدو مهجورة يحيط بها أشجار مهملة إما
آفلة أو ميتة . !
ترجل تركي من السيارة وهو يضرب في جهازه و يلعن الخارطة الإلكترونية
التي خذلته حينما احتاج إليها ،

كان متشبعاً بالندم و القهر . .
و ودّ لو حدد موقع ذلك الكوخ " القبيح " على الخارطة التقليدية . .
تقدم حتى تعدا سور المزرعة المنهار جزئياً أو كما يبدو كلياً . !
خلع نظارته الشمسية بعد سقوط ظلال الأشجار المهملة عليه . .
كانت تلك المزرعة مخيفة و موحشة كالزريبة إذا شاهدت قشورها ،

لكن كلما تعمقت فيها كلما اكتشفت سحر و جمال لبها . .

أشجار التفاح الأحمر تتوسط البستان بينما تحيط بتلك الأشجار أشجار مهملة
متعبة ،


كان ذلك المنظر عجيباً و غريبا . !

توجه إلى إحدى الشجيرات المثمرة و قطف تفاحة ناضجة تغريك لـ التهامها . .

فركها بملابسه ليزيل عنها ذرات الغبار و صديقتيها ،

قضم منها قضمة . .

- ألم تتعلم من والديك أن السرقة حرام . ؟

ألتفت و التفاحة متعلقةٌ بأسنانه إلى مصدر الصوت ،

إلى ذلك الذي رسمت عليه خطوط الزمن ،

ذا الحاجبين اللذان يكودان أن يسقطا على عينيه

بينما جذبت الجاذبية الأرضية ظهره تاركةً إياه
يعتمد على عصاً غليظة حتى لا يسقط عليها . .


قال تركي بعد أن أكمل قضمته الثانية . :

- أهذا التفاح يعود لك . ؟

أشار الشيخ لأشجار التفاح الشهي المنتشرة حولهما . .

- نعم . . أنت قد أخذت مني مالا ليس به لك حق و . ..

قطعه تركي بإخراج الخريطة و قال وهو يقضم من التفاحة مرةً أخرى . :

- أخبرني عن الطرق البرية المتفرعة من هذه الطرق المسفلتة . .

أتجه الشيخ إلى شجرته التي سرق منها ثمرها . .

قال وهو يمسح على جذعها بيده التي أكل عليها الدهر و شرب . :

- سيكون عقابك على سرقتك تفاحتي هو قطف ثمار هذه الشجرة و وضعها في هذا
الصندوق . .


أشار إلى الصندوق . .

ثم أضاف وهو يشير إلى أشجار البستان . :

- أما كوني دليلا لك ، فهذا ليس بالشيء المجاني . . إذا قطفت لي ثمار هذه
الأشجار عندها سأخبرك بما تريد و يزيد . .


واجهه تركي بوجهٍ تعلوه علامة تعجب . . :

- ماذا تقول . !

ابتسم الشيخ ابتسامة جعدت جلده الرقيق راسمة خطوط إضافية حددها الزمن و تفنن
في التوائها . :


- لكل شيء ثمن . .

رمى تركي بقايا التفاحة المقضومة دون أدنى اهتمام

و رحل بالسيارة باحثاً بنفسه عن الطريق المؤدي إلى الكوخ . .

.

.

ولجت سيارته بعد ساعتين من البحث المضني ،

مخترقةً خلوة الشيخ الذي اعتلت وجهه ابتسامة منتصرة . .

ترجل الشابان إحداهما يبدو حانقاً منكس الرأس

بينما الآخر يمشي على هونه يحدق في لا شيء شارداً تارة و مبتسمً باكياً تارةً
أخرى . .


تقدم تركي و قال . :

- ماذا تريدنا أن نفعل . ؟

أشار الشيخ إلى الشجرة التي ميزها بالنظر إلى جذعها فقط و قال مشيراً بسبابته
إليها . :


- أبدأ بقطف التفاح من الشجرة التي سرقتها أولاً . .

اتجه تركي إليها صاغراً بينما تبعه عبد الله باستكانة . .

- أنت . !!

توقف تركي و توقف معه عبد الله . .

استدار إليه فرحاً ظناً أنه قد عدّل من رأيه . :

- نعم . .

قال شيخ وهو يحاول التقاط ملامح عبد الله بعينيه الضعيفتين . :

- ليس أنت بل هو . !

أشار إلى تركي ثم قال حانقاً . :

- أنت من سرقت و أنت من سيتحمل مسئولية فِعلك لوحدك ، فليسترح هو . .

أم هذا الصندوق الفراغ أريده أن يمتلئ بالتفاح حتى يفيض به . .

قال موجهاً حديثه إلى عبد الله . :

- تعال يا بني . .

نقل عبد الله بصره بينهما ثم توجه إلى الشيخ . .

أرخى الشيخ عصاه ثم جلس مستنداً إلى الجدار ماداً رجليه الضعيفة الواهنة فوق
البساط ذو ألوان الباهتة . .

أشار لـ عبد الله بالجلوس و قال . :
- ما بك يا بني . ؟ أراك شارد الذهن و في حالة لا تسر عدواً و لا صديق . .

بني ،

لا تحزنْ منْ كدرِ الحياةِ ، فإنها هكذا خُلقتْ .

إنَّ الأصل في هذه الحياة المتاعبُ والضَّنى ،

والسرورُ فيها أمرٌ طارئٌ ، والفرحُ فيها شيءٌ نادرٌ

وقال النبي 

قال عبد الله بصوت حزين وهو يخرج نفساً كدر صدره و يحاول أن ينصت لكلام ذلك
الشيخ الذي لا يدري ما به و لو علم لم لامه أبداً . :


- عليه الصلاة و السلام . .

تابع الشيخ حديثه رغم رؤيته لتعبير عبد الله الغير مقتنع . :

- (( الدنيا سجنُ المؤمنِ ، وجنَّةُ الكافرِ ))
جفَّ القلمُ ، و رُفعتِ الصحفُ ، و قضي الأمرُ ، و كتبت المقادير ،
﴿ قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا ﴾ ، ما أصابك لم يكنْ
لِيُخطئِك ،
وما أخطأكَ لم يكنْ لِيُصيِبك .
يا بني ،
لقد فقدت زوجتي في الحرب الماضية قبل عشرين عاماً
و توفيت أبنتي بسبب مرض السرطان وهي بعمر الزهور ،
تتألم و تعاني حتى أراحها الله بموتها . .
أما ابني الوحيد فهو في عداد المفقودين منذ خمس سنوات . .
منذ خمس سنوات و أنا أعيش لوحدي دون زوجة أو ابن أو ابنة ،
كان هذا قدري الذي يجب أن أرضى به . .
و لم يرجع بكائي و سخطي زوجتي و لم تعد صرخاتي أولادي إلي . .
بني ،

لا تظنُّ أنه كان بوسعِك إيقافُ الجدار أن ينهار ، وحبْسُ الماءِ أنْ
ينْسكِبُ ، ومَنْعُ الريحِ أن


تهبُّ ، وحفظُ الزجاج أن ينكسر ، هذا ليس بصحيحٍ على رغمي و رغمك ، وسوف يقعُ

المقدورُ ، وينْفُذُ القضاءُ ، ويحِلُّ المكتوبُ ﴿ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن
وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ ﴾


هذه هي الدنيا دار عمل و تعب أما الراحة الأبدية سنجدها في الجنة إن شاء الله
.


تابع الشيخ حديثه على هذا المنوال رغم شرود ذهن عبد الله . !

أعلنت الشمس عن رحيلها و تصدر لون الشفق صدر السماء . .

نادى الشيخ تركي الواقف فوق جذع الشجرة يقطف التفاح متذمراً . :

- بني . . بـــنــي . .

أقترب الشيخ من الشجرة ،

ألتفت في تلك اللحظة تركي يمني نفسه بأنه قد أسِف عليه

و أخذته الشفقة به ليوقفه عن العمل . .

- يا بني . . توقف عن العمل . .

- حقاً . !

قفز تركي من الشجرة فرحاً دون أن يحسب المسافة التي بينه و بين الأرض . .

سقط على قدميه بقوة ، صرخ متألماً . . ثم ابتسم حينما دنا منه الشيخ و قال .
:


- هل أنت بخير . ؟

أومأ بـ نعم و قال . :

- أنا بخير . . هل قُلت أتوقف عن العمل . ! ؟

استند تركي على الشجرة ليقف . .

قال الشيخ مؤكداً حديثه . :

- نعم توقف عن العمل لنصلي المغرب و من بعدها ستستأنف العمل . .

هبط تركي جالساً على الأرض و خيبة الأمل تطفح على وجهه . :

- ماذا قُلت . ! ؟

- قلتُ فلنصلي . .

اتجه الشيخ إلى داره المستند إلى حائطها عبد الله الحزين . .

نقر على كتف عبد الله ثم أشار إلى باب داره قائلاً . :

- تعال توضأ للصلاة و أطلب الرحمة لهم . .

رفع عبد الله رأسه و استغرق عدة لحظات حتى يفهم ما قال الشيخ ،

وقف بجانبه ثم تبعه إلى داره . .

ولجا إلى دار بسيطة يجد الوالج على يمينه جلسة أرضية بوسائد متشتتة

هنا و هناك جزءٌ منها قد خرج قطنه من بين ثقوب القماش . .

- هذه الوسائد حاكتها زوجتي بنفسها لذا لم استطع رميها بأي حال من الأحوال .
.


ابتسم الشيخ بعد توضيحه لـ عبد الله سبب إبقائه على هذه الوسائد في مجلسه ،

اتجه به إلى المغاسل ليتوضآ لصلاة المغرب . .

ولج تركي إلى داخل الدار وهو يعرج و يسب و يشتم كونه بين يدي هذا العجوز ،

ذهب باتجاه صوت تدفق المياه ، وجدهما يتوضأن محتلين المغسلتين الوحيدتين . .

انتظر حتى انتهى عبد الله ثم حل محله و فتح الصنبور . .

- كيف كان شعورك و أنت تقطف التفاح . ؟

رد تركي على العجوز بينما كان يمرر الماء على ذراعيه . :

- بائساً . !

- و لِم . ! ؟ ألم تستمتع بجنيه . ؟!

سأله تركي بعد أن أغلق الصنبور . :

- إلى أين تتجه القبلة . ؟

تقدم الشيخ إلى خزانة عتيقة و أخرج منها سجادتين عتيقتين فاخرتين

رغم مرور الزمن عليها . .

فرشهما باتجاه القبلة ، إحداهما بسطها بالطول

و خلفها سجاده أخرى فُرشت بالعرض ،

ثم قال . :

- يا ذا النظارات السوداء ، ستكون أنت إمَامَنا . .

قال تركي ذو النظارة الشمسية المتعلقة بجيب قميصه . :

- أنا . !!

- نعم . .

دفعه الشيخ بيديه الواهنتين إلى السجادة المفروشة بالطول

حتى وقف عليها و قال موجهاً حديثه لـ عبد الله . :

- لا توجد لدي إلا سجادتين لذا سنصلي معاً على هذه السجادة . .

ابتسم الشيخ في وجهه

ثم ألتفت إلى تركي الذي لا يزال لا يصدق بأنه سيجعله يكون إمامهما . .

فهو منذ زمن لم يصلي و من المحرج أن يذكر هذا للشيخ . !

تساءل في نفسه عن كون صلاة مغرب جهرية أم سرية . .

يعني هل يجهر بتلاوته أم لا . .!

وقف أمام هذا السؤال عاجزاً ، قطع الشيخ حيرته قائلاً . :

- ألن تصلي بنا . ! ؟ أم تنتظر خروج وقت الصلاة . . هاه . ؟ !

حار تركي أكثر هل يسأله أم لا . ! ؟

و حينما حمى و ازداد تقريع الشيخ له ، سأله بسرعة فجأةً و دون مقدمات . :

- هل صلاة المغرب جهرية أم سرية . !! ؟؟

- جهرية أم سرية . !! أتسأل هذا السؤال بينما طفل في الصف الابتدائي

يستطيع أجابتك عليه و يستطيع طفل ذو ست سنوات يداوم على حضور المسجد أن يجيبك
. !!


حك تركي رقبته حرجاً بوجهٍ مطليٌ بالحمرة . .

و بعدما انتهى الشيخ من توبيخه أجاب أخيراً . :

- جهرية . . يا بني جهرية !!

اتجه تركي إلى القبلة رفعاً يديه قائلاً . :

- الله أكبر . .

كان تركي ساهياً عن صلاته و لم يكن يدري بالضبط ما يتلوه ،

و كان ما يشغله فكره هو معرفة متى كانت آخر مرة قد صلى فيها لـ وجه الله . !

و كم كان ذلك الشيخ يذكره بجده المرحوم . .

- يا بني . . اقطع صلاتك . !

استلزم تركي عدة هنيهات حتى ينتبه على الشيخ الواقف بجانبه . .

قطع صلاته مذهولاً متسائلاً ما الذي يحدث . !؟

أعاده الشيخ و أوقفه بجانب عبد الله وهو يتبرم قائلاً . :

- حتى الصلاة لا تعرفون كيف تصلون بالناس دون أن تسهوا . !!

كبر الشيخ و كبر خلفه تركي و عبد الله ، وهذه المرة كان تركي أكثر خشوعاً

بعدما أصغى إلى صوت الشيخ الرخيم في تلاوة القرآن . .

بعد انتهائهم من الصلاة سمح الشيخ لـ تركي بأخذ استراحة بعدما أزعجه تركي
مطالباً باستراحة . .


منذ أن كان تركي في الثامنة لم يكن مزعجاً بهذا القدر لأحد أبداً ،

و لم يشعر بهذا القرب و المودة لأحد أبداً . .

فبعد وفاة جده لم يجد من يهتم به و يراعيه و يسأله عنه و كان الكل يتجاهله

حتى أصبح يعيش لوحده مع خارطة حائطية معلقة بحجرته أهداها إليه جده . .

- تفضلا بعضاً من التفاح . .

عاد تركي بتفكيره إليهما ، ابتسم في وجه الشيخ و قال مازحاً

كما كان يمزح مع جده أيام طفولته . :

- هل هذا مجاني . ؟

رد الشيخ مؤكداً مع ابتسامة . :

- مجاني . .


الساعة الآن 01:25 PM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.