16-05-14, 11:44 AM | #21 | ||||
مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام
| ـــــــــــــــــ الــجـــزء 10 : و أقفل الباب ، و خرج، و بقيت تتردد في ذهن زينة أصداء كلمتين فريدتين : " شغلت بالي ، شغلت بالي " و على باب مقصورة ابراهيم على شاطىء ( بوزنيقة ) ، خرج اسماعيل من سيارته و توجه نحو المنتزه المشرف على البحر . كان الوقت أصيلا ، و الجو ما يزال دافئا ، و صفحة البحر هادئة ناعمة ملونة بصفائح الذهب ، و النحاس ، و دنانير الفضة و البلور. و كان يجلس إلى المائدة الحديدية البيضاء رجلان، احدهما صديق ابراهيم و الآخر عرف من صوته أنه " عزوز " عميد الشرطة ، و وقف الاثنان لتحيته ، و بادره ابراهيم : — أين كنت ؟ تأخرت يا أخي كثيرا . ثم ضغط على ذراعه ، و همس في أذنه : — عندي لك مفاجأة ، و أية مفاجأة ! و غمز بعينيه في اتجاه الشاطىء ، فنظر اسماعيل ، فإذا بثلاث سيدات في مايوهات السباحة ، عرف من بينهن مريم، زوجة ابراهيم ، و حسناء زوجة عميد الشرطة ، و لم يستطع تمييز الثالثة التي كانت أصغرهن سنا ، و أرشقهن عودا، و أكثرهن أناقة فقد كانت تلبس قبعة واسعة بيضاء و نظارة شمس كبيرة الحجم تغطي نصف وجهها و " بكيني " مزخرف بالزهور موصول الأطراف بسلاسل من ذهب . و كان النساء الثلاث على الشاطىء مستغرقات في الحديث ، يتحركن ببطء شديد نحو المنتزه، و لم يكن بقي على الشاطىء من السابحين إلا القليل . و التفت اسماعيل إلى ابراهيم و قال له : — عرفت مريم و حسناء ؛ فمن هي الثالثة ؟ فاقترب منه ابراهيم متحمسا : — قل لي أولا ، ما رأيك فيها ؟ فهز اسماعيل كتفيه حرجا : — أنا لا أعرفها . فضحك عميد الشرطة حتى اهتزت بطنه ، و قال : — يذكرني جوابك بحكاية أشعب حين رأى جماعة يأكلون ، فدخل بينهم و أخذ يأكل ، و حين سأله احدهم : هل تعرف منا أحدا ، أجاب : نعم ، أعرف هذا و أشار إلى الطعام ! و عاد يضحك على نكتته ، ثم قال شارحا : — هل لا بد من الحديث إلى الموزة و اللوزة أو التفاحة ، و تبادل العناوين و التلفونات معها ، قبل أكلها ؟ و ضحك اسماعيل ، و علق : — تعجبني فلسفتك ، يا حضرة العميد ، و اتمنى لو استطعت تطبيقها ! فرد العميد : — لو فعلت لوفرت على نفسك كثيرا من المتاعب . و خشي ابراهيم أن ينحرف العميد بالموضوع فيصيب جرحا داميا في نفس اسماعيل ، يفسد الجو المهيأ ، فتدخل : — أنا لم أرد رأيك في طبعها ، و أخلاقها ، أو ثقافتها ، أريد رأيك في شكلها كامرأة . و مد يده ، فتناول منظارا مقربا و أعطاه إياه : — خذ ، انظر إليها ، انظر . فتردد اسماعيل ، و بدا عليه الحياء و الحرج ، فعلق العميد : — مسكين اسماعيل ، يعاني من أعراض العزوبة ، الخجل ،و التعفف الناتج عن حرية الاختيار ، و كثرة المعروضات و الشبع و التخمة ، انتظر حتى تتزوج فتصبح شرسا مثلنا ! فرد عليه ابراهيم : — تكلم عن نفسك ! اسماعيل ليس من ذلك النوع ، انه خلق ليكون متزوجا و رب عائلة . و نظر عبر المنظار ، و ركزه قليلا ثم ناوله لاسماعيل : — انظر الآن ، انه مركز على المسافة . و علق العميد ضاحكا : — إذا لم تعجبك النحيفة ذات القبعة ، و ما دمت شابا مهذبا فلا مانع عندي من أن تنظر إلى زوجتي " حسناء " فإذا اعجبتك فسأكتب لك تنازلا عنها في الحال ! و ضحك الثلاثة ، فقال ابراهيم : — انت يجب طردك من نادي المتزوجين ! فرد العميد : — لن تحتاجوا لمجهود كبير ! و أمسك اسماعيل بالمنظار ، و نظر فبدت له النساء الثلاث و كأنهن أمامه . و دقق النظر في وجه الفتاة الرشيقة فاستدارت لتواجه مريم التي كانت تتحدث ، فنظر إلى تفاصيل جسمها البديع . و أزال المنظار و علق : — لا استطيع رؤية وجهها ، إنها تمشي إلى الوراء . ثم أعاد المنظار إلى عينيه فوقعت نظرته على وجهها المستدير و شفتيها الممتلئتين ، و أنفها الصغير الأشم ، فوضع المنظار ، و التفت إلى ابراهيم باسما من غفلته : — زبيدة ! فضحك ابراهيم : — نعم ، زبيدة ! أنا نفسي لم أصدق أنها تخفي كل ذلك الجمال و كل تلك الأنوثة خلف مظرها الكفء العلمي ، و ذكائها الحاد البارد ! و التفت إلى العميد الذي كان يعب من علبة عصيره الباردة : — أليس كذلك يا عزوز ؟ فحرك رأسه موافقا : — مفاجأة سارة ! و التفت ابراهيم لاسماعيل : — ما رأيك ؟ هل سبق لك أن رأيتها هكذا من قبل ؟ فحرك اسماعيل رأسه نافيا . — كنا ننزل للشاطىء معا كطلبة في الابتدائي و الثانوي ، و كانت زبيدة نحيفة لا تثير انتباه أحد ، في الواقع كانت تدعو للرثاء ! و تحمس ابراهيم : — أما اليوم : " ماما ميا " ! و قبل أطراف أصابعه قبلة الاعجاب ، و التفت إلى العميد و قال : — اسمع يا عزوز ، أنت شاهد ، لقد حلفت لزوجتي بالايمان المغلظة ، و الطلاق الثلاث ، أنه إذا لم يتزوجها ، فسأتزوجها أنا ! و التفت إلى اسماعيل : — و الله العظيم ، لا يمكن أن أتركها لصعلوك آخر ! فهز العميد رأسه متأسفا في سخرية من ابراهيم : — مسكين ! يا لها من تضحية عظمى ! و اقترب النساء الثلاث فوقف ابراهيم ، و أخذ يناديهن ، و يشير إلى اسماعيل : — مريم ، عندك ضيف . و رفعت النساء أيديهن بالتحية . و وقف اسماعيل فقبل النساء الثلاث على خدودهن ، و ضغطت زبيدة على يده بيد باردة ، و نزعت النظارة و القبعة ، و حركت رأسها حركة رشيقة إلى الوراء ،فانسدل شعرها اللامع الأسود على ظهرها و كتفيها و جلست إلى جانبه تنظر إليه و تبتسم هو يجيب عن اسئلة مريم : — أين تأخرت ؟ لقد انتظرناك بالغذاء ، ألم تصلك مكالمة ابراهيم ؟ — تأخرت في الورش قليلا ، و اضطررت للغذاء خارج الدار . و بمجرد استماعي للمكالمة المسجلة جئت . و وقفت زبيدة فسألته : — هل تريد مشروبا ؟ و رفع هو يده إلى رأسه ، و عيناه على صدرها الصغير ،فقال ابراهيم مجيبا عنه : — هاتي له بيرة لتفتح شهيته للعشاء ، و لنا كذلك . و وافق اسماعيل ، و دخلت النساء إلى المقصورة ليهيئن العشاء ، و عادت زبيدة بالمشروبات ثم انضمت إليهن . و غرق الرجال الثلاثة في صمت مفاجىء و الشمس تنحدر إلى مغربها في حفل رائع صامت ، كان لهدأة الغسق ، و رتابة انكسار الأمواج الصغيرة و انحسارها ، و نداء ات النوارس و طيور البحر العائدة إلى أوكارها ، مفعول مخدر عليهم يضاعف من نشوة الكحول . و وجد اسماعيل نفسه سابحا في حلم لذيذ مع أسيرته زينة ، ذات الجمال المتوحش ، و كلما رشف من بيرته رشفة منعشة تخيل أنهه يقبل شفتيها الخمريتين ، و يغرق في عينيها الساحرتين ، و استعجل الزمن للعودة إليها . و لم ينتبه الثلاثة من غفوتهم اللذيذة إلا على ضحكة مريم التي خرجت لترتب المائدة للعشاء ، فوجدتهم صموتا كالتماثيل تحت عتمة المساء ، و اشعلت مصابيح المنتزه المرفوعة فوق السواري ، و صاحت : — ما لكم ساكتين و كأن على رؤوسكم الدجاج ! و أطلقت زبيدة ضحكة ذهبية خجولة ، و هي تساعد مريم على ترتيب المائدة . و أثناء العشاء تطرق الحديث إلى غلاء أرض البناء بالدار البيضاء ، فاغتنم اسماعيل الفرصة ليقول : — غلاء الأرض في " انفا " و الضواحي العصرية كان من جملة ما دفعني إلى بناء داري في تلك المنطقة الفقيرة . و علق عميد الشرطة : — في البداية ، خفت عليك من السكنى هناك ، و اعجبت بشجاعتك ، و اليوم، و بعد مرور عام على سكناك هناك، بدأت اعجب بحكمتك . و توقف اسماعيل عن المضغ ، و نظر إلى وجه العميد لعله يرى علامة هزل أو سخرية ، و لكن الرجل كان جادا ، إذ استأنف : — أتعرف أن نسبة الجريمة قلت بشكل ملحوظ منذ بنيت دارك هناك ؟ و التفت الجميع إلى العميد الذي كان ينظر إلى اسماعيل كمن ينتظر تفسيرا لهذه الظاهرة الغريبة . و انتقلت الانظار إلى اسماعيل الذي كان يمضغ لقمته ببطء مقصود ،و يحاول اعطاء انطباع الاندهاش جوابا على تساؤل العميد، و في تلك اللحظة رن صوت زبيدة بكلمة واحدة وقعت على اسماعيل كطوق نجاة في خضم ارتباكه ، قالت : — الاضواء ! و أحاطت العيون بوجهها الأبيض المستدير ، فبرقت عيناها و هي تضع الكوب البلوري الطويل الساق ، و تمص شفتيها الممتلئتين ، و أضافت : — الأضواء تبعد الجريمة ، جميع علماء الجريمة يؤكدون ذلك . و كان اسماعيل قد استعاد بديهته و تماثل من مفاجأة السؤال ، فاضاف مستبقا تساؤل العميد و فضول النساء : — إلى جانب ما قالته زبيدة ، هناك هندسة المبنى نفسها ، فقد أخذت في حسابي البيئة الاجتماعية الفقيرة و الموبوءة بالجريمة ، أثناء تصميمي للدار ، فجعلتها محصنة تماما ضد الاقتحام أو السرقة . و ابتسم ابتسامة عريضة و قال و هو ينظر إلى زوجة العميد : — و قد قمت بعملية تحصين أخرى ، تحصين بسيكولوجي ! فاسرعت مريم تقاطع : — سمعت بذلك ، و قد قلتها لابراهيم فلم يصدق ، بعض الناس يدفنون كتابات و تمائم خاصة في أساس الدار فتحميهم من السرقة ، حتى أثناء غيابهم عنها ، أليس كذلك يا اسماعيل ؟ | ||||
16-05-14, 11:57 AM | #22 | ||||
مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام
| فرد اسماعيل : — أنا الآخر سمعت بذلك ، و لكن عمليتي لم تكن عملية روحانية بهذه الدرجة ، كانت بسيكولوجية كما قلت ، و بسيطة في نفس الوقت ،فقد نشرت إشاعة في الحي بأن الدار مسكونة ، و سكانها لا يقبلون الغرباء عنها ، و كل غريب دخلها لا يخرج منها أبدا ، استعنت على نشر ذلك بالحارس العجوز ، و الخادمة حليمة ، و يبدو أن الفكرة نجحت فقد وصلتني اصداء مشجعة في هذا الباب . و مسح العميد فمه ، و قال : — وصلتنا نحن كذلك بعض الأصداء كتفسيرات محتملة لاختفاء بعض اللصوص المحترفين بالمنطقة . فشرح اسماعيل : — أنا لا أعرف لصوص المنطقة ، و لكن كثيرا من الشبان العاطلين جاؤوني لطلب العمل في أوراشي فكنت استخدمهم ، و حين امتلأت أوراش الدار البيضاء بدأت ابعث بهم إلى أوراشي أو أوراش الأصدقاء المهندسين بالمدن الأخرى ،و ربما كان هذا سبب بعض الاختفاأت المفاجئة . و مسح الوجوه بنظرة متسائلة ، فوقعت عيناه في عيني زبيدة ، فلاحظ فيهما بارق حيرة خاطف ، أسلبت على اثره جفنيها و انشغلت بما في صحنها . و في طريق العودة اختار اسماعيل تسجيلا موسيقيا رقيقا ، و دس الكاسيت في آلة التسجيل و راح يتصور زينة تراقصه و تعانقه . و في الدار فتح الباب على زينة فوجدها واقفة و كأنها كانت تنتظره . كانت تلبس بيجامة بيضاء ، و فوقها معطف حمام ازرق ، و شعرها معقود إلى أعلى . — كنت أنوي الرجوع إليك مبكرا ، ألم تنامي بعد ؟ — لم أفعل شيئا غير النوم ، ماذا يمكن أن يفعل الواحد بين أربعة جدران ؟ — اراك اغتنمت فرصة فراغك للاستحمام . و اقفل الباب خلفه ، و وقف ينظر إليها فأحست كأنه يعريها ليلتهمها ، فتراجعت قليلا و ضمت صدرها بذراعيها ، فقال : — هل توصلت إلى قرار ؟ فأجابت بسؤال مفحم و بدون انفعال : — و هل تركت لي أي اختيار ! فابتسم اسماعيل و قال مهونا عليها : — ما كان ينبغي أن ألقي عليك ذلك السؤال ، أنا آسف ، كم تمنيت لو كنت هنا معي بمحض اختيارك . و تنهد و أضاف : — كانت سعادتي ستكون مضاعفة ! و لم تزد على أن أسلبت عينيها ثم رفعتها ، فتوجه نحوها لينظر إلى وجهها الغض الناعم ،و كانت هي تنظر إليه باسترخاء و بدون عداء ، فقال ملاحظا هندامها الجديد : — لا أدري أيهما انسب إليك ، ملابس الجين الرجالية الخشنة التي تتناقض مع نعومة الأنوثة فتبرزها أو ملابسك الحريرية هذه ؟ فقالت : — أنا افضل ملابسي الأخرى ، و لا اعتقد أنها تبرز أية أنوثة ، لذلك البسها . فاقترب منها و أمسك بحزام معطفها ، و قال : — بالعكس ، كنت في منتهى الجاذبية في ملابسك الأخرى ،و قد حاولت أن اتصورك في ملابس غيرها فخانني الخيال . و حاولت أن أتخيلك عارية فلم .. و هنا ابتعدت عنه زينة بحركة مفاجئة ، و بقي طرف الحزام في يده فسحبته منه ،و راحت تعقده بنوع من العصبية الهادئة ، و هي تقول مقاطعة كلماته الأخيرة : — اريدك أن تعرف أنني لست من أوليءك ، في بلادي تموت النساء من أجل شرفهن ! فانزعج اسماعيل لتصلبها ، و دق قلبه و هو يرى الهوة تنفتح بينها و بينه ، فقرر اسرضاءها ! — سامحيني يا زينة ، لم أقصد اهانتك أو المس بشرفك ، أنا الآخر لست من أولئك . و نظر إليها ، فبدا له أن ملامحها قد استرخت قليلا ، فاضاف : — لو عرفت انك من ذلك النوع ما فكرت فيك ، و لا ضيعت ساعات من الأحلام اللذيذة عليك ، ألم أقل لك أنك تضيعين شبابك و جمالك على شخص لا يستحق ، و لا يستطيع أن يعطيك شيئا مما تستاهلينه ، و لا اعني الأشياء المادية ، رغم أنها مهمة بالنسبة للمرأة ولكن أعني الحب العظيم ،و المنزلة الكبيرة في القلب ، و الوجدان . و اقترب منها و أمسك بيدها فلم تعارض ، فقال : — كم كان أملي عظيما أن التقي بفتاة مثلك ، و ها نحن التقينا ، و كم تمنيت لو كنا التقينا في غير هذه الظروف الشاذة . و رفع يدها إلى شفتيه فقبلها بحرارة ، و نظر إلى عينيها بعينين تكادان تغرورقان فرأى دمعتين في حجم اللؤلؤتين تجريان على خدها ، فاخرج منديله و أخذ يمسح به دموعها بلطف و حنان كبير ، ثم انحنى فطبع قبلة مليئة بالعطف و المحبة ، فاغمضت عينيها في استسلام مسحور . و أمسك بيدها : — تعالي ، تعالي معي إلى فوق . و صعد السلم إلى غرفة نوم واسعة مكسوة الجدران بورق ملون بالوردي الفاتح و بها سرير مستدير مزخرف الغطاء بنفس اللون. وقفت زينة تنظر حواليها مبهورة بجمال الغرفة و إضاءتها الخفية ، و العطر الخفيف الذي يفوح من أثاثها ، و الموسيقى الناعمة الدفينة في ارجائها ، و البساط الوردي الناعم ، و المرايا البلورية الكبيرة . و أقفل هو الباب خلفها ، و أمسكك بكتفيها من الخلف ، و همس في أذنها : — أريدك لي ، و لي وحدي . و انزلقت يده على المعطف الناعم إلى خصرها النحيل ، ففسخ حزام المعطف و خلعه عن كتفيها ، و تركه يسقط على قدميها و أدارها نحوه وضمها إلى صدره ، فأحس بدفء صدرها الشاب على ظلوعه التي أوهاها الألم ، و أحرقها الحقد الأسود على العالم . و وجدت هي نفسها في يده دمية طيعة يفعل بها ما يشاء . و اقفلت باب ذهنها تماما عن التفكير ، و أخذت تعيش اللحظة الحالية حالمة ، هائمة تستمرىء لمساته ، بل و تضحك حين يصدر عنه ما يسليها . و أثناء إحدى القهقهات الناعمة مد يده فضغط على أحد الأزرار ، فتوقفت الموسيقى ، و أحست زينة بشك غامض كأن غطاء زال عنها بتوقف الموسيقى ، و بأنها أصبحت عارية ، فأخذت تبحث عن قميصها بحركات لا إرادية و هي تسأل : — لماذا اوقفت الموسيقى ؟ — أريد أن اسمع اصواتك انت ، ضحكاتك أحلى من الموسيقى ، و أنفاسك أطيب من مسك الليل ! فتوسلت إليه بطريقتها الساحرة : — اعدها ، أعدها ، يعطيك الستر ! و وضعت اصابعها على شفتيه ، فقال : — حسنا يا عزيزتي ، و لكن لماذا ؟ — بدونها أحس كأني عارية ! و ضحك ، وهو يضغط الزر مرة أخرى ، فقالت : — إنه عرى من نوع آخر ، لا أدري ! و لكني شعرت كأن أحدا يراقبنا . — و الآن ؟ هل تغطيت ؟ فأجابت بجفنيها ، و عادت إلى حركاتها و ضحكاتها اللعوبة .. و عاشت تلك الليلة بجسدها وحده حلما معطرا ، دافئا مخمورا . و في القبو الأسفل ، كان مجاهد الأسير يتفرج على ما يحدث في غرفة النوم على الشاشة العريضة أمامه بالالوان الطبيعية ، و حاول الانعتاق فوجد نفسه مفرغا داخل أنبوبه كمومياء في تابوت ، و أخذ يعض على قضيب من حديد أمامه ، و يصرخ فيتضخم صراخه عشرات المرات حتى كاد صداه يفجر أذنيه ، و في النهاية أخذ يضرب رأسه مع جدار الأنبوبة في جنون انتحاري . كان اسماعيل يتفرج عليه في غرفة نومه على شاشة صغيرة داخل نافذة برأس الفراش لا تراها زينة ، و لم يعرف في حياته نشوة أعظم ، و لا لذة أعنف و أعمق من هذه التي عرفها في تلك اللحظة ، كل آهة و كل أنة ، و كل ضحكة و حركة ، ولمسة ، وكل خلجة او انتفاضة تصدر عنهما ، كانت طعنة دامية في قلب اللص الأسير ، مجاهد ! و حاول اسماعيل تحليل اسرار هذه النشوة العارمة ، و هو منطرح إلى جانب زينة ، جسدا خاويا من كل طاقة ، يسبح في عالم دافىء ناعم بين اليقظة و الحلم ، فلم يصل إلى نتيجة . فهل كان سببها حرمانه الطويل من جسد الأنثى الذي يلمسه منذ وفاة زوجته ( كارين ) ؟ أن كان شيئا ما في زينة الوحشية الجمال و الجاذبية ؟ أم أن لذة الجسد امتزجت بلذة الانتقام من مغتصبي زوجته و قاتليها ؟ إلا أنه كان مؤمنا في اعماقه بأن مجاهدا لم يكن من أفراد العصابة ، و بأن هدف حياته سيبقى غير محقق إذا هم لم يسقطوا في قبضته ، و تصرخ أرواحهم القذرة طالبة النجدة و هو يقتلهم ببطء ثم يحييهم ألف مرة كل يوم . و تعزي في موقفه ذلك بأن مجاهدا ، رغم أنه ليس من أفراد عصابة طنجة ، فهو لص شرس على أي حال ، و قادر لو مكنته الظروف على القتل و الاغتصاب و أبشع أنواع الارهاب و التنكيل بالنساء و الأطفال الأبرياء ! و أخذه النعاس ، فامتزجت أفكاره بأحلامه ، حتى غرق في سبات عميق . انتهى البارت . دمتم في رعاية الله و حفظه . | ||||
16-05-14, 12:06 PM | #23 | ||||
مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام
| ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ الــجــزء 11 : و في الصباح أفاق اسماعيل على فكرة أطارت نشوة النعاس من رأسه ، فخرج من السرير بهدوء ، حتى لا يوقظ زينة ، و لبس معطفه ، و نزل إلى القبو السفلى حيث كان مجاهد ، و فتح عليه باب الغرفة ، و أشعل النور ، ثم ضغط على زر أصبح معه الحائط الأمامي شفافا يكشف عن مجاهد وراءه . و بنظرة واحدة إليه ، ادرك انه فارق الحياة ، كان رأسه ملقى إلى الوراء ، و قد شحب لونه حتى أصبح في لون الزعفران ، و انفتح فمه و عيناه ، و سال الدم من منخيريه و أذنيه ، و خرجت من فمه رع"وه" ممتزجة بالدم . وقف اسماعيل لحظة ينظر إليه دون احساس معيين ، ثم ضغط على زر فانحسر اللوح الشفاف ، فتقدم و مد يده فجس نبض الأسير خلف أذنيه ، ثم مر بكفه أمام فمه فوجده انتهى . و عاد فضغط على الأزرار فعاد اللوح ، و تغير لونه تدريجيا من شفاف إلى أبيض ، و انطفأ النور في الغرفة ، كانت نشوة الليلة التي قضاها مع زينة ، و وقوعه أسيرا لجاذبيتها الوحشية الغريبة ، عاملا حاسما في قراره بالاحتفاظ بها بصفة دائمة ، و بأي شكل من الأشكال ! و على مائدة الفطور ، نظر اسماعيل إلى وجه زينة الجميل ، و هو ينضح حيوية من جدة الصباح ، و فكر بأن المرأة هي الفاكهة الوحيدة الي لا تنقص بالاستهلاك. و نظر إلى طبقها ، فوجده كما كان ، فسألها : — ألا تأكلين ؟ — لا رغبة لي في الأكل ، أريد أن أرى مجاهد ، و نذهب إلى أهلنا . فلا بد أنهم قلقون عليها . و لم يجبها ، بل انحنى على صحنه يتم فطوره ، و وقفت هي فجأة بنوع من الاحتداد : — اريد الذهاب الآن ، من فضلك ، إذا لم يكن لك مانع ! فرفع رأسه مبتسما نصف ابتسامة : — أفضل طريقتك الأخرى في الاستعطاف .. — أرجوك ، ليس لي قابلية الدعابة . — مالك ؟ هل فقدت مرحك فجأة ؟ و مسح فمه بالمنديل ، ثم أضاف : — هل تشعرين " بندم الصباح " من ليلة أمس ؟ فعقدت قبضتها بعصبية مضبوطة و قالت : — بالأمس اتفقنا على أن أعطيك نفسي مقابل اطلاق سراح مجاهد. ألا تنوي الوفاء بعهدك ؟ فرشف اسماعيل من فنجان قهوته ، و أجاب متجاهلا سؤالها : — أراك حريصة على مجاهد ، بينما هو غير حريص عليك . — لا دخل لك في هذا ! ألا تنوي الوفاء بوعدك ؟ — بلى ، و قد اطلقت سراح مجاهد هذا الصباح . — أين هو ؟ — ذهب . — ذهب ؟ بدوني ؟ إنه يعرف اني هنا ، ألم يسأل عني ؟ — بلى ، و قلت له أنك بخير . — لا أصدقك ! و ضربت على مائدة الفطور بقبضتها حتى قفزت الاطباق و الفضيات ! فنظر إليها اسماعيل بعينيه الواسعتين الحزينتين ، و قال بهدوء : — لا داعي للانفعال ، يا عزيزتي زينة ، اقعدي ، و سأشرح لك ، اقعدي . — لا ، شكرا . — كما تشائين ، سأشرح لك على أي حال ، في الواقع كان هناك اتفاقان كلاهما يناقض الآخر ، أولهما اتفاقي معك على اطلاق سراح مجاهد مقابل ، ( و تنحنح ) أنت تعرفين ، و بالمناسبة ، أود أن أقول لك : لقد كنت رائعة ! فتصلب وجه زينة مستسخفة حشره الموضوع في سياقه : — أرجوك ، أتم كلامك . فأحنى رأسه مطيعا : — حسنا ، و الاتفاق الثاني كان مع مجاهد ، و ليس على اطلاق سراحك . فبدت المفاجأة على وجهها ، فأضاف : — اتفقت مع مجاهد على أن أشتريك منه ! لنقل : أن يتنازل لي عنك . ففتحت زينة فمها ، و أرتج عليها لحظة ، ثم قالت شبه صائحة : — ماذا ؟ ! اشتريتني منه ؟ ! — نعم ، — أنت مجنون ! هل أنا بضاعة ؟ و هل يملكني مجاهد حتى يبيعني لك أو لغيرك ؟ فحرك اسماعيل رأسه آسفا : — آسف يا عزيزتي ، لقد قلت لك إن اللصوص لا شرف لهم ولا ولاء ، و إلا ما كانوا لصوصا ، اللصوصية تعني الحقارة و الجبن ، و الخيانة و الغدر ، و مجاهد لص رخيص حقير ، فقد تنازل لي عنك ، دون لحظة تردد ، و باعك لي بأتفه الأثمان ، تنازل عنك مقابل اطلاق سراحه ، و أقسم لي على المصحف أنه لن يطالب بك ، و لن يخبر الشرطة بوجودك عندي ، و بالطبع لم أصدق قسمه ، فلا كرامة للص ! و لكني أعرف أنه لن يخبر الشرطة فهو أجبن من ذلك ، و بمجرد أن فتحت له باب الدار ، انطلق يعدو كالأرنب الهارب من الفخ ! و تركك لي ، رماك كما يرمي منديل ورق مستعمل في سلة المهملات ! وتطاير شرر الغضب من عيني زينة ، و أخذ صدرها يرتفع و ينخفض ، و صرخت في وجه اسماعيل : — كذاب ! كذاب و مجرم ! اللعنة عليك ! اللعنة عليك ! و بدا على وجهها التنمر و التشنج ، فأمسكت بسكين الفطور ، و ارتممت عيله كاللبؤة الجريحة ، و لم يشعر اسماعيل حتى كانت فوقه ، و السكين على عنقه ، و هي تصرخ فيه : — كذاب و مجرم ! ماذا فعلت بمجاهد ؟ و لم يستطع زحزتها من فوق صدره ، و لا الامساك بالسكين ، فقد كانت أقوى منه بكثير ، و زادها انفعالها الجنوني قوة و شراسة ، فقال من خلال لهاثة : — لن يجديك قتلي شيء ، إذا قتلتني فستحكمين على نفسك بالاعدام في هذه الدار ، بل حتى هذه الغرفة تنسد كالمحارة آليا ، بحيث لا يمكن الخروج منها ، و لا الدخول إليها بأي شكل كان ، و إذا قتلتني فستبقين هنا سجينة مع جثتي الأيام و الأسابيع، حتى تنتن و تتعفن ، و تقتلك الروائح الكريهة و الميكتوبات ، هذا إذا لم يسبقها لقتلك الجوع و العطش و فساد الهواء . فقالت ، و كأنها لم تسمع ما قال : — ماذا فعلت به ؟ و أحد اسماعيل بجد السكين يضغط على حنجرته ، و رأى وجهها يكاد يلمس وجهه ، و قد احمرت عيناها المتوحشتان المشرفتان على الجنون ، و أخذ يبحث في ذهنه عن فكرة ذكية بسرعة المشرف على الهلاك ... — ماذا فعلت به ؟ تكلم، ماذا قلت له عني ؟ و زاد السكين ضغطا ، فخرج لسانه و جحظت عيناه و أخذ يسعل بقوة و يحاول الكلام، فتخرج كلماته مبحوحة : — زينة أرجوك ، إذا قتلتني فستقتلين رجلا يحبك.. و أحس بجسدها فوقه يرتعش و ينتفض بقوة ، و خفت حدة ضغط السكين على عنقه ، فأضاف لاهثا : — إذا كنت فعلت شيئا أغضبك ، فبدافع حبي لك ، و رغبتي في الاحتفاظ بك لنفسي ، أنت تعلمين أنني رجل وحيد و شقي . و فاضت عينا زينة ، و سقط السكين من يدها ، و هي تضرب على صدره بقبضتهيها و تردد : — كذاب ! كذاب ! | ||||
16-05-14, 12:07 PM | #24 | ||||
مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام
| فأمسك هو بيدها ، و أزالها عنه برفق ، و نهض فبقيت هي جائية . و غادر الغرفة ، و أحكم اقفال الباب خلفه ، و خرج إلى الحديقة ليفكر بوضوح فيما سيفعله بجثة أسيره مجاهد ، كان عليه أن يقرر ما إذا كان الأفضل التخلص من الجثة عن طريق القائها داخل السائل المفترس ، و بذلك ستختفي كل آثارها إلى الأبد ، أو باخراجها إلى ضاحية البحر ، حيث تكثر الكهوف و المخابىء الموبوءة بالمجرمين ، و السكارى ، و المقامرين و اللصوص ، و القاؤها هناك لتكتشفها الشرطة ، و تتحدث عنها الصحافة ، و بذلك يثبت لزينة براءته من دم مجاهد ، أو يبذر الشك في تهمتها اياه ، على الاقل . و مال إلى الرأي الخير ، رغم ما ينطوي عليه من مغامرة و مفاجآت ، و قبل أن ينفذه ، أخرج سيارته ، و توجه نحو الشاطىء حيث مسح بعناية تضاريسه و تعاريجه ، و لم يتوقف عند اي نقطة حتى لا يثير شك أحد من العابرين . وعرج في طريق عودته ، على سوق الفواكه و الزهور ، فاشترى باقة ندية من الورود و سلة من الفواكه المنوعة ، و عاد إلى الدار بفكرة واضحة عما يجب أن يفعله تلك الليلة . و نقر باب زينة بلطف ثم فتحه و دخل عليها فإذا هي ملقاة على وجهها على السرير بملابسها الزرقاء ،و رن جرس حاد في رأسه خشية أن تكون ارتكبت في نفسها حماقة ما ، و ندم على ترك أدوات الأكل معها داخل الشقة ، و دق قلبه بسرعة و هو يقترب منها و يناديها : — زينة ، زينة . و لحسن حظه ، رفعت رأسها و التفتت نحوه ، وعلى وجهها آثار البكاء الطويل ، و النوم العميق . و تنفس اسماعييل الصعداء ، و سارع بوضع باق الورد ، و سلة الفواكه على المائدة التي كانت ما تزال كما تركها منذ الفطور ، و اقترب منها بحذر ، و جلس على حافة السرير ، و وضع يده فوق رأسها و ظهرها في حنان كبير ، و قال : — كيف تحسين ؟ لابد أنك جائعة و عطشى من كثرة البكاء ، لقد جئتك ببعض الفواكه و الزهور ، قومي ، إنه يوم صيفي جميل ، و إذا طاوعتني فسوف نتغدى إلى جانب المسبح على السطح، قومي سيعجبك ذلك . و نهض فأمسك بيدها ، و أجلسها ، فوقفت ، و اسرعت نحو الحمام و يداها على وجهها ، و جمع هو أدوات الفطور وسط غطاء المائدة ، و وضعه داخل مصعد صغير يؤدي إلى المطبخ الرئيسي ، و ضغط الزر فتحركت الصرة إلى فوق . و خرجت زينة ، و قد عاد إلى وجهها بعض الانتعاش و النضارة ، ففتح لها الباب ، و قادها إلى مصعد انفتح أمام اسماعيل آليا. و لاحظت زينة ذلك من خلال غشاوة الضباب التي ملأت رأسها منذ وقوعها في شرك اسماعيل ، و قررت أن تراقب حركاته بدقة عند فتح الأبواب . فأشار لها فدخلت ، و انقفلت الباب ، فضغط اسماعيل على الزر الأعلى و صعد بهما المصعد إلى السطح و توقف ، و انفتحت بابه على مسبح على شكل قيثارة ماؤءه الصافي في لون اللازورد الفاتح. و بهرها المشهد فنسيت حالها لحظة و هي تجيل بصرها بين الأرائك البديعة التي اختلط في أشكالها الجمال بالراحة ، و بين الزهريات و النباتات الاستوائية الغريبة الزهور و الأوراق. يحيط بذلك كله سور من معدن زجاجي شفاف . و قادها اسماعيل إلى مقصف على الطرف الجنوبي للمسبح ، يمتد أمامه عريش من القلع الأبيض المزخرف بمشاهد بحرية و حيوانات أسطورية ، و دخل المقصف الذي كان مزودا بكل ما يحتاج إليه مطعم صغير ، و ناداها : — زينة ، ماذا تريدين للغذاء ؟ و لم تجب ، فخرج يبحث عنها فإذا هي تقف أمام السور الزجاجي تنظر إلى معالم مدينة الدار البيضاء الممتدة أمامها كبحر من الاسمنت الأبيض . و نظر إليها و هي مستغرقة في تأملها ، ثم إلى المنظر ، و علق : — مشهد أخاذ ، أليس كذلك ؟ و لكن من بعيد فقط ، لذلك وضعت بيني و بينه هذا السور الشفاف ، و لا يغريك مظهره الزجاجي الهش ، فهو في صلابة الفولاذ ، و ينطبق عليه ما ينطبق على بقية الدار ، فهذا السطح مقفل و محروس اليكترونيا ، بحيث يستهحيل اجتيازه من الداخل او الخارج . فالتفتت نحوه ، و نطقت لأول مرة : — هل هذا تهديد غير مباشر لي حتى لا أحاول الهرب ؟ فرد معتذرا : — آسف ، لم أقصد ذلك ، كنت فقط أشرح لك مزايا الدار ، هذه بعض عيوب المهندسين . ثم اضاف مغيرا الموضوع : — جئت لأسألك ماذا تريدين للغداء ؟ فقالت و هي تنطر بعيدا : — لا شيء ، لست جائعة . و لم يناقشها ، بل انصرف قائلا : — سأقلي بعض السمك ، أعرف أنه سيعجبك ، و سوف تغيرين رأيك . و على المائدة ، جلست زينة تنظر إلى طبقها في شبه اغفاءة ، فدق اسماعيل بسكينه على الكأس أمامه ليلفت انتباهها و قال مشيرا إلى السمكات الثلاث على الصحن : — ذوقيه ، سيعجبك ، صدقيني ، أنا من طنجة ، و السمك اختصاصنا. فرفعت رأسها نحوه : — كيف يطيب لي الأكل ، و أنا لا أعرف مصيري ؟ فمال برأسه جانبا و قال مهدئا : — زينة ، هذا تهويل لا داعي له ، من سمع شكواك يقول انك في زنزانة أو دهليز من دهاليز القرون الوسطى ، و ليس على حافة مسبح بأجمل بناية في المدينة ، كثير من النساء يحلمن بمثل هذا الأسر و يتمنينه .. فردت بقوة : — ليس أنا ، أنا لم أحلم بهذا و لم أتمنه ، أنا فتاة مسكينة ، و من عائلة متواضعة ، أحلامي على قد حالي ، و حتى لو خطبتني من عائلتي ، و جئت بي إلى هنا ، فسأجد نفسي في غير مكاني . فنظر إليها مبتسما : — أليس لك طموح بالمرة ؟ — لا . فأشار إلى طبقها بسكينه . — كلي الآن ، قبل أن يبرد السمك ، و اعدك أن نناقش هذا الموضوع بتوسع قريبا . و في ساعة متأخرة من تلك الليلة ، خرج اسماعيل بسيارته الثانية الصغيرة البيضاء متوجها نحو شاطىء الضاحية الجنوبية ، متفاديا الطرق الرئيسية ، و الشوارع المضاءة و حين اقترب من مكان خال أبطأ السير ، و أطفأ النور تدريجيا ، ثم توقف . و خرج من السيارة ، و نظر في كل اتجاه ، ثم فتح صندوقها ، و أمسك بالجثة من تحت الابطين ، و انطلق بدون نور بضعة كيلومترات حتى اختفى بين المنازل . و في الصباح عادت الحياة إلى الدار البيضاء الغامضة الراقدة وسط الغابة و المحاطة بهالة من الأسوار الرهيبة . عادت الخادم حليمة من عند اختها ، و فتح لها الحارس البوابة الخارجية ، فوقفت تتبادل معه التحيات ، و تسأله عن حركات السيد اسماعيل ، ثم دخلت المطبخ من بابه الخلفي لاعداد الفطور . و دق جرس الباب مرارا ، فجاء غلام الدكان ، و الجزار و الخضار يحملون تموين الأسبوع كما اعتادوا كل اثنين صباحا . و كان اسماعيل يتفرج من سريره على حركة الباب من خلال جهاز تلفزيوني داخلي ، و يسمع الأحاديث ، حتى الهامسة منها ، عن طريق توجيه آلة الانصات الحادة ناحية المتكلم . و بعد لحظة مد يده فضغط زرا آخر ، فبدت له غرفة زينة خالية فهبط قلبه و لكن سرعان ما اطمأن حين رآها تخرج من الحمام و قد غسلت شعرها و لفته في فوطة و التفت في معطف قطني ، و جلست إلى مرآة الزينة تنظر إلى وجهها ، و كأنها سيدة بيت عادية ليس ببالها ما يقلق . و سرح اسماعيل في حلم من أحلام يقظته يتخيلها ملكا خالصا له ، و تحبه و لا تريد فراقه ، و قد اصبح مجاهد ذكرى سقيمة ، بالية مكروهة في حياتها ، ترفض حتى أن تخطر على بالها . و تذكر الليلة التي استسلمت له فيها في غرفته الوردية . و تمنى لو أنها فعلت ذلك حبا له و رغبة في الاستمتاع به ، بدل أن تكون فعلته حبا لصديقها الوسخ ، الأهوج المتمرد، و تمنى لن أنها رفضت الاستسلام له ، اذن لكان ذلك دليلا على عدم حرصها على حرية مجاهد و حياته ، و لكن استسلامها له مزج استمتاعه بجسدها الغض الملتهب ، بألم الغيرة و الحسد لمجاهد الذي كان يمتلك قلبها و وجدانها ، و ربما كان الاستمتاع الذي لم تستطع اخفاءه حين كانت معه ، كان استمتاعا بمجاهد ، و ليس به هو ، كانت تتخيل جسد مجاهد بين ذراعيها ، و رائحته في أنفها ، و صوته في سمعها معوضة بصورته في خيالها ، عن واقع جسد اسماعيل ، وجوده بأكمله : إذ كان ذلك ما حدث فعلا ، فما اتعس حظه ! و لكنه وجد العزاء في أنه لا يمكن التأكد من أن هذا ما حدث فعلا ، فقد تكون أعجبت به هو لذاته ، و قد لا تكون واقعة في حب مجاهد بالشكل الذي يتصوره ! و أقوى عزاء له ، هو انتحار مجاهد ، و انفجاره بذلك الشكل البشع ! فقد أكلت الغيرة قلبه ، و أحرقت أعصابه و هو يشاهد ما كان يحدث في الغرفة الوردية بينه و بينها ، و لو عرف ما كان يعانيه اسماعيل من غيرة منه ، وحسد له على حبها الحقيقي له هو ، لهدأت اعصابه ، و لشعر في ساعة قهره و عجزه ، بكثير من العزاء و الانتصار . و ضغط على زر آخر فظهرت على الشاشة الصغيرة صورة حليمة و هي تدور في المطبخ . — صباح الخير حليمة . فرفعت وجهها نحو مكبر الصوت و عدسة الكاميرا : — صباح الخير سيدي اسماعيل ، كيف اصبحت ؟ — الحمد لله ، كيف وجدت ابنتك ؟ — بخير ، يا سيدي و تسلم عليك . — بلغيها تحياتي ، أريد إعداد الفطور لاثنين و ارساله بالمصعد إلى جناح الضيوف التحتي . — حالا يا سيدي . و ضغط زرا آخر فعادت صورة زينة ، و هي تخرج من الدولاب ملابسها الزرقاء المهترئة ، فحياها بصوت مرح : — صباح الخير ، يا زينة . فقفزت في موقفها فزعا ، و غطت صدرها نصف المكشوف بحركة آلية من يدها ، و نظرت حواليها تبحث عن مصدر الصوت، و أخيرا لاحظت صورة اسماعيل على شاشة التلفزيون ، و هو يبتسم لها : — آسف لافزاعك ، كيف اصبحت ؟ — لم أنم حتى الصبح . فضحك اسماعيل ، و أضاف : — بالصحة الحمام ، و لا داعي للبس تلك الملابس ، اتركيها هناك لتغتسل ، و البسي غيرها ، ستجدين في الدولاب شيئا يناسبك . — شكرا ، سأغسلها بنفسي حالما أخرج . — كما تشائين ، الفطور جاهز ، و سأنزل حالا لنفطر معا . و اختفت صورته ، و قام فدخل الحمام . و على مائدة الفطور ، سألته بقلق : — ماذا قررت بشاأاني ؟ و انشغل عن جوابها بقطع البيضة المقلية فوق شطيرة الخبز المحمر ، و لاحظت لأول مرة أنه يستعمل سكينا و شوكة من البلاستيك فأعادت السؤال : — هل سمعتني ؟ ماذا قررت في شأني ؟ — لا شيء. — ماذا تعني بلا شيء ؟ — قلت لك سنناقش ذلك بتوسع قريب ، فاعطيني مهلة من فضلك . — قريبا ؟ متى ؟ الليلة ؟ غدا ؟ بعد اسبوع ؟ أو شهر ؟ — لا ادري ، الأمر يحتاج إلى تفكير طويل . — اتعرف انك تعرض وضعك لحرج كبير ، و ربما لخطر أكبر باستمرارك في حجزي هذا ؟ ثم ان والدتي لا بد أنها قلقة علي لللغاية ، و ربما أخبرت الشرطة باختفائي أنا و مجاهد ، و ماذا لو اخبرها مجاهد بمكاني ؟ فقاطعها اسماعيل : — لن يخبرها ، و لن يتصل بها ؟ — كيف عرفت ؟ — سأقول لك ، إذا وعدتني ألا تغضبي و تهاجميني كالمرة السابقة . — لا تخش شيئا ، لم يبق لي ما أهاجمك به غير معالق البلاستيك . فضحك اسماعيل ، و قال بجد : — مجاهد ، الذي تعرفينه تغير تماما ، لقد استطعت اقناعه بأخذ عمل جيد بالخارج ، و حصلت له على جواز سفر ، و أعطيته مبلغا من المال و تذكرة سفر ، و نقلته من هنا رأسا على المطار حيث سافر تاركا المغرب وراءه دون دمعة حسرة لفرقه . و فتحت فمها للمفاجأة ، فقال مجهزا : — أنت تعرفين أن العمل بالخارج كان نقطة ضعفه الكبرى . و لم تستطع هي انكار ذلك ، و حتى لا تنهزم امام منطقه ، جادلت : — و ماذا لو عاد من السفر ، و أخل بالاتفاق ،و أخبر الشرطة ؟ فقال اسماعيل بثقة كبيرة : — لن يفعل من ذلك شيء ، و قد اخذت حيطتي للأمر على أي حال ، و اقسمت له ، على نفس المصحف الذي اقسم لي عليه انه لن يفعل ، بأن اتخلص منك بقتلك إذا شممت رائحة خيانة منه .. و رشف من فنجان قهوته ، و نفخ البخار ، و أضاف : — افهمت الآن لماذا يجب أن ننتظر قليلا لنناقش موضوع إطلاق سراحك ؟ فجحدته بنظره متوحشة يائسة : — إذن انت لا تنوي اطلاق سراحي بالمرة ، تريد إبقائي هنا رغم ارادتي ، و إلى آخر حياتك أو حياتي . فقال ببرودة : — إذا لم تتركي لي أي خيار . فوقفت في مكانها غاضبة : — أنت مجنون ! و نهض هو بسرعة ، و دفع الكرسي إلى الوراء و ادخل يده في جيبه و أمسك بأنبوب الغاز المسكن ، استعدادا لرشه في وجهها ، إذا هي هاجمته، و قال بصوت موزون يخفي غضبا عميقا : — حذار من أن تكرري تلك الكلمة مرة أخرى ! فابتسمت زينة ابتسامة انتصار شرسة ، و قالت بتشف كبير : — اذن انت تعرف انك مجنون ! فاتسعت عيناه عن غضب وحشي ، و هو يخرج الابنوب من جيبه و يسير نحوها مكررا : — اخرسي ، اخرسي ، اخرسي ! فتراجعت ، و هي و ابتسامة التشفي ما تزال على شفتيها ، و في عينيها ، و هي تقول : — لن أكررها ، لا ، لن أكررها ، و الا كنت أنا الاخرى مجنونة . و هنا لاحظت زينة الأنبوب ، لأول مرة ، مصوبا نحو وجهها ، فأصابها ذعر شديد و تراجعت بسرعة حتى التصقت بالحائط ، و هو يقرب منها مرددا : — ما أبشع وجهك ، و ما أخبث ابتسامتك ! و ضغط على زر الأنبوب ، فانطلق منه بخار نحو خياشيم زينة و فمها المفتوح بالصراخ ، فهوت على الأرض مغمضة العينين فاقدة الوعي . و خرج اسماعيل ، و اقفل الباب وراءه بعنف ، و هو يرتجف من الانفعال ، هذه أول مرة ينفعل فيها مع أحد أسراه و يفقد أعصابه ، كانت اليد العليا دائما له عليهم ، و كان يتفرج عليهم و هم يستعطفون ، و يستنجدون و يستخذون ، فيحس بتلك العين الكبيرة ، المفتوحة أبدا داخل دماغه ، تزيد انفتاحا ، و بريقا فيمد اصبعه إى الزر الاحمر ، فيضغطه ، و يرتفع السائل الناري المفترس ليلتهم جسد اللص الأسير ، ابتداء من قدميه ، إلى شعر رأسه ، و حينئذ تغمض العين الكبيرة داخل دماغه في ارتياح ، و نشوة و اغتباط . و تسترخي اعصابه هو ، فيتحول إلى انسان لين ناعم مرح . فماذا أصابه اليوم ؟ لقد خرج من عند أسيرته هذه كسيرا مهزوما ، و كان بامكانه ، كما حثته العين الكبيرة الجاحظة بداخله ، أن يلقي بجسدها المخدر إلى اللجة الجهنمية لتحولها إلى ماء كما فعلت بعشرات الجثث قبلها، فماذا يمنعه من ذلك ؟ انتهى الجزء . دمتم في رعاية الله و حفظه .. | ||||
16-05-14, 12:11 PM | #25 | ||||
مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام
| ــــــــــــــ الــجـــزء 12 : لقد خرج من عند أسيرته هذه كسيرا مهزوما ، و كان بامكانه ، كما حثته العين الكبيرة الجاحظة بداخله ، أن يلقي بجسدها المخدر إلى اللجة الجهنمية لتحولها إلى ماء كما فعلت بعشرات الجثث قبلها، فماذا يمنعه من ذلك ؟ إنها ليست لصة ، لم تقع في فخه بالطريقة العادية ، بل دخلت من الباب ، و ارتفع بداخله صوت آخر يفند هذا المنطق : " بل لأنك تحبها ، تحبها ، تحبها ! " و ترددت اصداء الكلمة داخل رأسه ، فصعد يجري إلى غرفة نومه ، و ارتمى على السرير هربا من الصوت ، و هو يردد : " بل اكرهها ، أكرهها ، أكرهها ! " و مد يده إلى جانب السرير ، فضغط على احد الأزرار ، كما كان يفعل في لحظات ضيقه الكبير ، فاظلمت الغرفة ، و انبعثت انغام من الموسيقى التصويرية الرقيقة الحالمة من كل مكان ممتزجة بخرير الشلالات ، و زقزقة الشلالات ، و زقزقة العصافير ، و انطبعت على الحائط الكبير أمامه صور شفافة بالأحجام الطبيعية لزوجته القتيلة " كارين " ، و طفلته الصغيرة ، في أوضاع شاعرية صامتة أو مرحة باسمة ، أو متحركة أو ساكنة تنطق بالسعادة و الدفء و الجمال . و تخللت انغام الموسيقى أصوات كارين ، و ضحكات الطفلة و هي تستجيب لمناغاة أمها ، و قهقهتها و هي ترفعها في الهواء. و تمنى من أعماقه لو بكي ، لو انفجرت دموعه ، و تهاطلت تهاطل الغيث من سحابة مثقلة سوداء ، إذن لانطفأت النيران المضطربة في آفاق روحه ، و لنبتت زهور الرحمة في ارضها ، و انقشعت سحائب الدخان الكثيف عن فضائها لتكشف عن زرقة المساء و جمال الكواكب ، و حلكة الليل ، و نعومة الهواء ، بدل هذه الدماء التي ما يفتأ يفسحها فلا تكاد تخمد النار حتى تزيدها اشتعالا . ووجد نفسه يردد وعده القديم لطفلته و لزوجته كارين : " سأبكي يوم ترجعين ! " و رن جرس التلفون ، فأخرجه من كابوسه القائظ ، و مد يده فضغط زر الاستماع على جهاز بدون سماعة و تكلم : — نعم . و جاءه صوت زبيدة واضحا ، ناعما ، مرحا كعادته كل صباح ، فقد كانت عصفورا مبكرا ، تحب اليقظة و الحياة ، و لا تنام إلا اضطرارا . قالت مزقزقة : — صباح الخير ! — صباح الخير ، زبيدة . — هل أيقظتك ؟ — لا ، أبدا ، أنا صاح منذ السابعة . و أحس في غيبوبته كأنها معه داخل الغرفة تتجسس على أحاسيسه و تتفرج على عواطفه العارية ، فمد يدا مرتعشة ، فأطفأ الموسيقى و الصور و أعاد النور تدريجيا إلى الغرفة . و جاءه صوت زبيدة الرقيق الحازم : — ناديتك لاذكرك بغذاء الاجتماع مع المهندس ، اليوم بمطعم " المجرة " بفندق المنارة ، على الساعة الثانية عشرة و النصف . — شكرا يا زبيدة ، سأكون هناك . — لا تنس الخرائط . — شكرا . — صوتك متهدج ، هل بك زكام ؟ — لا. — لا بد أنه التلفون . إذن إلى اللقاء . — مع السلامة . و اقفل الجهاز و نهض شاكرا لزبيدة إخراجه من كابوسه الذي لم يكن يعتريه إلا عند حالة الوحدة الحادة ، و في الليل فقط . و في الغرفة الخاصة برجال الأعمال " المجرة " جلست زبيدة و ابراهيم ، و المهندس السعودي الشاب ، أمين ناصر الاختصاصي في هندسة المنازل الشمسية ، ينصتون إلى اسماعيل البناء ، و هو يشرح على خريطة ملصقة بسبورة أهدافه من مشروعه الجديد الذي ينوي تجربته قبل تقديمه للمعرض الدولي للمنازل الشمسية . " المنزل ، كما ترونه ، سيكفي لعائلة من أربعة إلى ستة أفراد ، و سيستعمل الطاقة الشمسية في التدفئة ، و التبريد ، و تسخين الماء ، و الطبخ ، و التصبين ، و الاضاءة ، و تشغيل جهازين للتلفزيون ، و راديو في نفس الوقت ، إلى جانب تشغيل جهاز تصفية المياه المستعملة ، و استغلالها لسقي الحديقة ، و غسل الارض ، و السيارة و غير ذلك من الاغراض باستثناء الطبخ ، و الاغتسال ، و الشرب و ليس لأنها غير صالحة لذلك ، و لكن فقط لأن الناس ينفرون منها . و قلب الصفحة : " هذا سطح المنزل ، و السقف الهرمي المستطيل يعكس اشعة الصباح ، و الزوال و المساء ، و يمتص عن طريق المرايا المزودة بخلايا خاصة شديدة الحساسية حرارة الشمس مهما بلغ ضعفها ، و مهما كانت السماء غائمة ، لاستعمالها في تسخين الماء لدرجة الغليان ، و استغلال البخار الناتج لتشغيل المحركات ، و توليد الطاقة التي يحتاج إليها المنزل . و قلب الصفحة : " هذا جزء الدار المدفون في الارض ، و هذا جهاز تكرير المياه المستعملة و إرسالها إلى الخزان بالسطح ، و هذا هو بئر المياه الحارة ، لن نحتاج إلى ربط المنزل بشبكة المياه الحارة للتخفيف من التلويث . " و كاد يقلب الصفحة ، فاستوقفته زبيدة رافعة يدها لتسأل : — ذلك الأنبوب الواسع الذي ينزل من السطح إلى القبو ، و يصب في ذلك البرميل . فقاطع اسماعيل شارحا : — نسيت أن أشرح ذلك ، شكرا يا زبيدة ، هذا نظام جديد تحت التجربة ، لاعدام القمامة محليا ، عن طريق إذابتها كيماويا ، فجميع الازبال المنزلية العادية قابلة للاحتراق أو الانصهار في محاليل كيماوية قوية . فقال ابراهيم : — ألا يسبب ذلك خطرا على السكان ، الأطفال على الأقل ؟ فرد المهندس السعودي : — أبدا ، سيكون مأمونا للغاية ، حتى بالنسبة للحيوانات المنزلية الاليفة . فسألت زبيدة : — و ماذا عن الابخرة الكيماوية ؟ ألا تكون خطرا على السكان ، و عاملا من عوامل التلوث ؟ فأجاب اسماعيل : — ابدا ، فالانبوب يحتوي على صمامات عدة لا تسمح للأبخرة بالصعود بالمرة ، و حتى لو حدثت هزة ارضية ، فالوحدة السكنية ستبقى قائمة سليمة . و حتى لو حدث انفجار داخل الدار ، فإن أوعية الكيماويات تنسد آليا . و رفع راسه باسما : — لم نجرب الانفجار بعد ، و لكنه احتمال يجب أخذه في الاعتبار في عصرنا هذا . و قلب الصفحة ليكشف عن صورة كاملة لمظهر المنزل الخارجي الأنيق جدا ، و هو محمول على ظهر جمل كالهودج ، و قال : — هناك إضافات أخرى ، و كماليات ، مثل أجهزة خاصة لاستغلال طاقة الريح في المناطق التي تكثر فيها الرياح ، و أجهزة أخرى لاستغلال طاقة الموج بالنسبة للساكنين على الشواطىء ، و إذا لم يكن هذا كافيا ، فهناك أجهزة تحت الدرس لاستغلال الجو القاري البارد ليلا ، و الساخن نهارا ، عن طريق استغلال تقلص بعض المعادن أو السوائل بفعل البرد ، و تمددها بفعل الحرارة . " و هذا أيتها الآنسة ، و السادة ما يجعل من منزلنا هذا سكنا فريدا من نوعه . فهو مستقل في احتياجاته ، بحيث لا يكلف المدينة شيئا . و عقب المهندس أمين الناصر ، موجها الكلام إلى زبيدة التي أسرت عينيه ببريق عينيها السوداوين ، الصافيتين ، المشرفتين على الابتسام ، و قال : — إذا نجحت التجربة العلمية التي سنقوم بها ببناء نسخ طبق الأصل لهذا التصميم في ضواحي المدن المغربية ، فسوف نشن حملة إعلام عالمية للتعريف بمزاياه و حينئذ سيكون علينا أن نبني مصانع البناء الجاهز في جميع الدول ، لافراغ منزلنا النموذجي في قوالب جاهزة ، بحيث يصبح صنعه كطبع عشرات آلاف النسخ من الكتاب الواحد . و سكت لحظة مستمرئا مفعول كلماته على وجه زبيدة الشفاف ، ثم أضاف : — سنقضي على أزمة السكن في العالم بأسره. فمد ابراهيم يده ، و نقت بقبضته على رأس زبيدة ، و علق مازحا : — لنلمس الخشب ، حتى لا يسبقنا أحد لتسجيله ! و مدت زبيدة يدها ، هي الأخرى ، وسط ضحكات الجميع ، و نقرت رأس ابراهيم قائلة : — الخشب المسوس أكثر جلبا للحظ ! | ||||
16-05-14, 12:13 PM | #26 | ||||
مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام
| و ضحك أمين ناصر الذي لم يكن يستطيع إخفاء اعجابه بزبيدة الأنيقة ، والذكية ، و كأنما فوجىء بمرحها و خفة دمها . و دخل النادل بأواني الطعام ، فقام الجميع للجلوس حول المائدة . و بعد الغذاء ، ودع اسماعيل الجماعة و عاد إلى داره ليعد حقائب السفر . و في الطريق ، توقف عند مكتبة ، و اشترى نسخة من كتاب " علم نفس السجن " ، ليقرأه في الطائرات و الفنادق ، أثناء أسفاره عبر أقاليم المملكة في مهمة اختيار بقع البناء ، و الاعداد لمشروعه الكبير . و في غرفة نومه فتح شاشة التلفزيون الداخلي ، على غرفة زينة فوجدها تذرعها جيئة و ذهابا و كأنها لبؤة في قفص . و مرة أخرى تصور وجهها ، و هي تصرخ فيه : " أنت مجنون " ثم تبتسم له ابتسامتها البشعة ، و تقول بلهجة من كشف السر الكبير : " إذن أنت تعرف أنك مجنون " ! و غلى الدم في عروقه ، و أطبق شفتيه على أن يجعلها تتوسل إليه و تستجدي رحمته و عفوه ! و في صباح الغد ، سافر صحبة زبيدة و أمين ناصر بطائرة خاصة إلى مراكش . و كان في انتظارهم مقاول محلي و سمسار ، فأخذهم رأسا إلى المكان الذي تتوفر فيه المواصفات التي اشترطها اسماعيل مسبقا . و اشرفت زبيدة على توقيع عقود الشراء و البناء . و انتقل الجميع إلى قصر البديع لتناول الغذاء في مطعم الخيمة . و في صباح الغد انتقل الفريق إلى أكادير حيث قاموا بنفس العملية . و حرص اسماعيل على اخفاء عنوان كتابه عن سيكولوجية السجن عن زبيدة حتى لا يثير فضولها القديم ، و ينشط ذهنها الجهنمي ، فتصل إلى استنتاجات مقلقة لراحته . و عمد إلى تغليف الكتاب بورق سميك ، و عدم تركه لتفتيشها في أي مكان ، فكان يضعه في جيب سترته كلما انتهى من قراءته . و سأله أمين ناصت مرة بطريقة عابرة ، بعد لحظة صمت أثناء حديتة مع زبيدة التي كانت تجلس دائما بينه و بين اسماعيل في الطائرة . — طال عمرك ، ماذا تقرأ ، يا اسماعيل ؟ — رواية بوليسية . — لابد أنها شيقة للغاية . — فعلا . و لم تقتنع زبيدة ، لم يسمح لها ذهنها الشكاك بالاقتناع ، و اغتنمت فرصة استغراق اسماعيل في القراءة ، فأخرجت مرآتها الصغيرة من حقيبة يدها ، و أخذت تنظر إلى وجهها ، و تميل برأسها ، متظاهرة بتفادي الأشعة حتى استرقت النظر إلى عنوان أحد الفصول بداخل الكتاب ، هو " الحبس الانفرادي " . و دامت الرحلة ثلاثة و عشرين يوما ، زار فيها الثلاثي عشر مدن كبيرة و متوسطة على المحيط ، و على البحر الابيض ، و بالداخل . و تركوا التصميم النموذجي للمقاولين في كل من أكادير و مراكش و الجديدة و فاس و مكناس و الرباط و سلا و طنجة و تطوان و الناضور ، على أن يبدأ البناء في الحال . و كان اسماعيل طوال الرحلة ممتنا للمهندس السعودي الشاب ، أمين ناصر ، على أخذه عبء زبيدة من فوق كاهله ، فكان يتركهما يتحدثان على موائد الكوكتيل بحانات الفنادق المعتمة ، العبقة بدخان السجائر ، و الموسيقى المعلبة ، و يصعد إلى غرفته لقراءة كتابه ، أو يخرج للتجول في المنطقة التي اختار فيها بقعة البناء ، و التي غالبا ما تكون موحشة خطيرة على المتجول المنفرد الغريب ، لكثرة اللصوص و قطاع الطرق ، و المقامرين و السكارى الذين تعج بهم الطرق بين المدينة ، و قرى الصفيح . و كان دائما يتسلح بأنبوبه الغازي ، و يشعر بنشوة الصياد الذي اكتشف بقعة من البحر عامرة بالاسماك ، و يتخيل اعدادهم الهائلة التي ستقع في شراكه . و أكد لنفسه انه بهذا التنظيم الجديد ، لابد سيقع في قبضته أحد اأفراد عصابة طنجة . و رغم بعد هذه المنازل و انتشارها عبر مدن المملكة ، فإن جهازه الجديد لتسجيل اعترافات اللصوص الأسرى ، و ارسالها إليه بالتلفون في منزله بالدار البيضاء ، يسهل عليه مهمة المراقبة ، رغم خلو المنازل من السكان . و في كل مساء ، بعد انتهاء العمل بالخارج ، كان اسماعيل يعود إلى غرفته بالفندق و يطلب داره بالدار البيضاء . كان تلفونه موصلا بجهاز إجابة آلي يختزن مكالمته و يعيدها عليه باشارة خاصة عبر التلفون ، و كان هو يسمع إلى المكالمات بصبر فارغ ، في انتظار إشارة شفرية معينة تخبره بما إذا كان قد وقع اسير جديد في أنبوب الاستنطاق . و في الأسبوع الأول بكامله ، كانت الاشارة الشفرية سلبية ، و كان اسماعيل يضع السماعة في خيبة أمل ، و كأنه فتح صندوق بريده فلم يجد خطابا هاما كان ينتظره ، و كان يحس بصداع يتزايد كل يوم لا تأتي فيه الإشارة ، كان يحس بالعين العملاقة تتسع داخل رأسه و تتمدد حدنتها و تنفتح عروقها ، و تتوتر اعصابها ، و تحتقن ، و تجحظ حتى تكاد تنفجر ! و يؤرقه ذلك طوال الليل فيلجأ إلى الحبوب المنومة . و في اليوم العاشر نادى داره من فندق ( عبر الاطلنطي ) بمكناس ، فسمع في نهاية الرسائل الشفوية نبض الاشارة الشفرية تبشره بوقوع صيدين ، و قبل أن يضع السماعة قبلها و هو يحس أن العين الداخلية أخذت تسمع نشوة و توقعا . و عاد فرفع السماة و أخبر زبيدة بأنه عائد إلى الدار البيضاء في مهمة مستعجلة و سيعود في الصباح لمتابعة الرحلة . و طلب منها إشعار الطيار في الحال . و في الطائرة بين مكناس و النواصر ، كان ينظر إلى الأفق المخضب و إلى الشمس ، كرة النار الخالدة ، و قد ثلم حذة أشعتها الغبار الكوني و أبخرة المحيط ، فتحولت إلى برتقالة باردة . كان ينظر إلى مشهد الغروب المترامي أمامه من ذلك الارتفاع ، و يفكر مذا سيفعل لو وقع في يده أحد أفراد العصابة ؟ و تين أنه يعيش من أجل ذلك الأمل ، و ذلك الأمل وحده ! و ماذا لو تحقق ؟ هل ستغمض العين الداخيلة و تنام ؟ أم هل ستختفي من داخله إلى الأبد ؟ أم ستبقى تطالب بدم اللصوص و المجرمين إلى أن تغرقه في بحر من الدم ، أو يكتشف أحد أمره ، و يصبح سره فضيحة القرن ؟ لم يستطع الإجابة على أي من هذه الاسئلة ، فقد كان يحس بأنه مسير بإرادة باردة لا يعرف كنهها و أن عليه أن يقبض على العصابة أولا ليعرف مصيره . انتهى الجزء . دمتم في رعاية الله و حفظه . | ||||
21-05-14, 12:12 PM | #27 | ||||
مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام
| ــــــــــــ الــجــزء 13 : و في الطائرة بين مكناس و النواصر ، كان ينظر إلى الأفق المخضب و إلى الشمس ، كرة النار الخالدة ، و قد ثلم حذة أشعتها الغبار الكوني و أبخرة المحيط ، فتحولت إلى برتقالة باردة . كان ينظر إلى مشهد الغروب المترامي أمامه من ذلك الارتفاع ، و يفكر مذا سيفعل لو وقع في يده أحد أفراد العصابة ؟ و تين أنه يعيش من أجل ذلك الأمل ، و ذلك الأمل وحده ! و ماذا لو تحقق ؟ هل ستغمض العين الداخيلة و تنام ؟ أم هل ستختفي من داخله إلى الأبد ؟ أم ستبقى تطالب بدم اللصوص و المجرمين إلى أن تغرقه في بحر من الدم ، أو يكتشف أحد أمره ، و يصبح سره فضيحة القرن ؟ لم يستطع الإجابة على أي من هذه الاسئلة ، فقد كان يحس بأنه مسير بإرادة باردة لا يعرف كنهها و أن عليه أن يقبض على العصابة أولا ليعرف مصيره . و فكر في أن " المنازل ـ المصايد " ستسهل تلك المهمة . و في الدار ، نزل إلى القبو الاسفل ، و فتح باب الزنزانة ، و أضاء الحائط الشفاف ، فإذا الاثنان يقفان جنبا إلى جنب ، و بنظرة واحدة إلى شكلهما ، ادرك أنهما من لصوص اسواق البادية ، و انهما هاويان ، و لا يمكن ان يكونا من العصابة . و فتح أولهما عينيه بصعوبة أمام الإضاءة المفاجئة ، أما الآخر فكان يبدو عليه أنه ميت، كانت الرغوة تملأ فمه المفتوح . و ضغط اسماعيل على الزر الاحمر ، فسقطت جثة الميت في بئر الحامض ، و اهتز الآخر رعبا و توقعا ! و ضغط اسماعيل على زر الاستنطاق ، فبدأ الاسير يستغيث و يستجدي حالما سمع صوت التسجيل . واصابته نوبة هوس عنيفة ، فلم يجد اسماعيل فائدة من متابعة الاستنطاق على هذا الوحش البشري، فضغط الزر الاحمر ، و ألحقه بجثة صاحبه ليأخذ حمامه الأخير . و صعد إلى غرفة نومه ، و فتح قناة الاتصال بغرفة زينة فوجدها في ملابسها الداخلية ، تجري حول المائدة بحركة رياضية ، ثم تتناول حبلا تقفز عليه ، و وقد وضعت على المائدة عدة علب للمأكولات ، و زجاجة ماء معدني ، و فتح الصوت فسمعها تصرخ بملء رئتيها لتطرد شبح العزلة و الانفراد . و أطفأ الجهاز ، و نزل إلى سيارته قاصدا المطار حيث كان ينتظره طياره إلى جانب طائرة ( السيسنا ) الصغيرة . و في منتصف الليل ، كان داخل فراشه النظيف بأطيل ( عبر الأطلنطي ) بمكناس ، و قد صفا ذهنه ، و نامت العين بداخله قريرة هانئة. و في الصباح ، اقلعت بهم الطائرة نحو الشمال . و انتهت الرحلة بعد ثلاثة و عشرين يوما من القفز من مدينة إلى أخرى عبر جبال الريف بالشمال.و عاد اسماعيل ليجد سيارته في انتظاره بموقف المطار . و بعد أن وضع المهندس أمين ناصر ، بباب فندقه و زبيدة بباب عمارتها ، توجه نحو داره متوقعا أن يرى ثلاثة أضواء خضراء على سطحها. و نزل إلى القبو الأسفل ، مباشرة ، بعد أن أخبر حليمة بوصوله ، و قصد غرفة الاستنطاق . و خرج منها بعد ساعة بادى الارتخاء و الارتياح، كأنه وضع عبئا ثقيلا ، أو تخلص من ألم حاد . و صعد إلى غرفة نومه ، و قلبه يدق خشية أن يكون حدث شيء ما لزينة أثناء غيابه ، و بمجرد دخوله الغرفة ، ضغط على أحد الأزرار فظهرت غرفة زينة على الشاشة ، و ظهرت هي جالسة القرفصاء على سريرها ، و رأسها على ركبتيها و كأنها ، في وضع من أوضاع ( اليوغا ) الهندية . و قبل أن يضغط على زر الاتصال ، رفعت رأسها ، و نظرت حواليها بعينين غائرتين ، نظرات جنونية مذعورة ، و كأنها شعرت بأحد يراقبها ، و مدت يدها بحركة لا ارادية فغطت ساقيها العاريتين بأطراف قميصها الحريري الطويل . و ضغط على زر الاتصال ، و نطق محاولا تقليد الادمغة الاليكترونية الناطقة ليمحو آثار انفعاله الشخصي : — زينة ، هذا مجرد تسجيل ، لا تحاولي مخاطبتي ، حين تسمعين رنة الجرس تكلمي . اطلبي ما تحتاجين إليه . و مس اصبعه فضغط زرا آخر ، سمع على إثره رنين جرس دخل غرفة زينة ، و كانت هي قد وقفت ، فانسدل القميص على قدميها ، و توجهت نحو جهاز التلفون تنظر إليه ون تحاول الكلام و لكنه كانت تفتح فمها دون جدوى ، و ارتعشت شفتاها ، و اهتز بدنها بكامله ، و طفرت دموعها بسرعة . و أخيرا استطاعت أن تهمس لنفسها : — يا الهي ! يا الهي ! اسماعيل ؛ أرجوك ، تعال عندي ، أرجوك ، أريد أن أراك ، أريد أن أرى وجهك ، وجه أي بشر حي ! أريد ان اتحدث إليك ، أرجوك لا تتركني وحدي ، فقد كدت أخرج عن عقلي ! لقد ظننتك ذهبت و لن تعود إلى الابد . ظننت حادثا ما وقع إليك ، و بقيت هنا وحدي و الدار مقفلة علي كالمحارة ، أتذكر ما قلت لي عن انسداد الدار كالمحارة آليا ؟ ذلك ما ظننت . أنا آسفة إذا كنت أسأت إليك ، لقد ندمت ، و تبت على كل ما قلت ، ارجوك ، سامحني ، أرجوك ! و ركعت على ركبتيها ، و انخرطت في نحيب مر و هي تردد : — سامحني ، أرجوك ، لا أريد الذهاب ، لا أريد الحرية ، كل ما أريده هو الا تتركني وحدي ، إفعل بي ما شئت ، و لكن لا تتركني وحدي ، فأنا أخاف من وحشة الوحدة ، أخاف من أن أكون جننت ! و رن الجرس مرة أخرى ، و وقف اسماعيل يغالب عواطفه ، و يحاول السيطرة على اعصابه ليقول وسط البوق بصوت ميكانيكي محايد : — ستلبى جميع رغباتك الممكنة . و رن الجرس منهيا التسجيل . و بقي اسماعيل مسمرا في موقفه حتى أحس بألم في قدميه ، فاستلقى على سريره يحاول اتخاذ قرار في موضوع زينة ، و حين أرهقه التفكير ، استسلم للنوم. و وجدت زينة نفسها وحدها ، مرة أخرى ، و نهضت متثاقلة من ركعتها و قد جفت الدموع على خديها ، و تدلى شعرها الأشعث على وجهها ، فقامت تنظر إلى نفسها في مرآة الحمام . و أفزعها منظر وجهها في المرآة ، فتراجعت إلى الوراء قليلا ، و تذكرت صوت اسماعيل ، فعادت تمسح وجهها ، و تجمع شعرها إلى الوراء ، ثم فتحت ماء الحمام حتى امتلأ الحوض ، فرشت فيه بعض الزيوت المنعمة المعطرة ، و خرجت من قميصها ، و دخلت الحوض ، فاحتضنها ماؤه الساخن المعطر ، فاغمضت عينيها و راحت تحلم بدخول اسماعيل عليها ذلك المساء ، و تحاول تخيل وجهه الحزين المستطيل ، باسما و عينيه الواسعتين في عينيها أثناء لحظات الحب القصيرة التي قضتها بين أحضانه. و جلست في مكانها فجأة و قد خامرها شك حاد في أن تكون سمعت صوتا ما في غرفتها . فماذا كان ذلك ؟ هل كان ما سمعته مجرد سراب عابر في رحلتها الموحشة عبر هذه الصحراء التي لا شاطىء لها و لا حدود ؟ أم هل كان مجرد بوق باخرة خيالية مرت على بعد من طوفها التائه في ليل المحيط البهيم ؟ و نظرت من خلال البخار إلى أعلى المرآة ، حيث كانت تسجل الأيام بأحمر شفاهها بخط عمودي لكل يوم ، و كل أربعة خطوط عمودية يقطعها خط مائل لتسهيل عملية الحساب و حسبت المجموعات الخماسية للمرة الألف ، أربعة مجموعات ، و ثلاثة خطوط عمودية .. ثلاثة و عشرون يوما من الوحدة و الشك القاتل في أنها آخر من بقي على الارض مدفونا تحت انقاض زلزال. و الآن ، لم يبق لها من الأمل في الحياة إلا هذا الصوت الميكانيكي الذي سمعته عبر البوق داخل غرفتها..و أصرت بكل قواها على أنه كان حقيقة لا وهما.. و راحت تدلك أطرافها و تغني حتى تطرد من ذهنها خفافيش الشك الحائمة .. أفاق اسماعيل من رقدته العميقة و نظر إلى الساعة ؛ فإذا هي السابعة ، و لم يدر هل كانت الساعة السابعة صباحا أو مساء، حتى نظر إلى نفسه، فوجد أنه نائم بمجموع ملابسه ، فنهض يخلع ربطة عنقه ، و دخل الحمام و فتح الماء ليملأ الحوض. و عاد إلى الغرفة فاتصل بحليمة عن طريق ( الانتركوم ) ، و طلب منها اعداد عشاء جيد لاثنين ، ثم ضغط على زر باصبع مترددة ، و وقف ينصت إلى اعادة تسجيل ما قالته زينة حين اتصل بها قبل أن ينام. و دخل حوض الماء الساخن و هو ينصت إلى استغاثات زينة و استعطافها الدامع المتوسل، فأحس لوحشتها و ذعرها صدى بعيدا في نفسه ، أحس كأنها تعبر عن مشاعر وحدته الهائلة هو الآخر ، و شعر ، و هو يطل عليها من فم الحب المظلم السحيق ، و هي تستنجد و تستغيث ، أنه يقف إلى جانبها في قعر الجب يردد صرخاتها كصداها . و لبس فوق منامته جلبابا من الصوف الأبيض الخفيف الموشع بالحرير ، و نزل إلى جناح زينة بالقبو الأول. و طرق بابها ، فسمع شهقة المفاجأة ، ثم حركات يدها على الباب و هي تحاول فتحه دون جدوى، فقد كان يفتح من الخارج فقط ، أما من الداخل فكان لا ينفتح إلا باشارة خاصة من اسماعيل. و انفتح الباب ، و وقف اسماعيل ينظر إليها و قد زينت وجهها ، و لبست قفطانا أخضر فاتحا خفيفا ، و تحزمت بمضمة حرير ، و وقفت هي تنظر إليه غير مصدقة ، و قد بدأت عيناها تغرورقان. و دخل هو و أقفل الباب خلفه، قائلا : — سمعت نداءك فجئت ، كيف أنت ؟ | ||||
21-05-14, 12:14 PM | #28 | ||||
مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام
| فطوقته بذراعيها ، و أجهشت باكية : — شكرا لك ، شكرا على قدومك ! لا تتركني وحدي أبدا بعد الآن ، أرجوك يا اسماعيل ، سأكون أمة طائعة لك ، و جارية ملك بيمينك ، افعل بي ما تشاء ، و لكن لا تتركني وحدي. فمسح ظهرها بيديه و هو يقاوم غصة في حلقه : — لا تخافي ، لن تبقي وحيدة بعد اليوم ، إذا احسنت التصرف . فقالت و هي ما تزال متمسكة به : — هل ما زلت غاضبا علي ؟ — لننس ما حدث ، و نبدأ من جديد ، فقد ندمت على ما فرط منك و اعتذرت . فقاطعته : — و عوقبت عليه بالدفن حية ! و قد أشرفت غير ما مرة على الجنون ، و لا أدري كيف بقيت على قيد الحياة ! همس لها : — لا خوف عليك بعد الآن ، حين خرجت من هنا لم أكن أفكر في العودة إليك أبدا ، و سافرت في بعض أعمالي ، و لا اكتمك أنني تمنيت في البداية أن اجدك ميتة حين أعود . فنظرت إليه بعينين حزينتين : — هكذا. إلى هذا الحد بلغ غضبك علي ؟ و تراجعت فجلست على حافة السرير : — لقد كادت أمنيتك تتحقق . — كيف ؟ — مرضت في الاسبوع الثاني لغيابك ، أصبت بنوبات من الدوار و القيء فظننت أنني سأموت ، و حاولت الاتصال بالعالم الخارجي بكل وسيلة ممكنة ، فلم أفلح. هذه الدار ، حقيقة محارة مقفلة ، كما قلت ، داخلها مفقود، و الخارج منها كأنه مولود . فابتسم اسماعيل ليطرد سحابة الغم المعلقة بجو الغرفة، و قال : — لعل سبب ما أصابك هو أكل المعلبات ، المهم ، من الآن فصاعدا ، لن تأكلي إلا الطازج من اللحوم و الخضراوات، ابتداء من الآن. و نظر إلى ساعته ، و ذهب ففتح باب مصعد المطبخ ،و أخرج الصينية التي نزلت ساخنة لتوها ، و وضعها على المائدة. و لاحظ تغييرا ما على مظهرها ، و هي جالسة أمامه تأكل ، دون أن يعرف نوعه بالضبط ، فسألها : — تغيرت ، و لكن لا أدري كيف . فأشارت إلى شعرها : — لعله شعري . فتذكر : — تماما ، كان مبلولا أو مخرصا ، فماذا حدث له ؟ — غسلته فعاد إلى أصله خيوطا مستقيمة متهدلة . و لم تخفض عينيها عن وجهه طوال العشاء ، كانت تخشى أن ترمش فيختفي كجني قصص الأطفال ، و كانت تستمتع بأنس وجوده معها و كأنها تعب من ينبوع ماء معين بعد ظمإ طويل. كانت الغرفة ممتلئة به. جاءت معه الموسيقى الحالمة ، و ظهرت الصورة على جهاز التلفزيون بعد أن كان صندوقا ميتا طول غيابه ، رغم محاولاتها المتكررة معه، و جاء العطر ، و الشموع ، و الزهور ، وفوق كل ذلك صوت الرجل ، و رائحة الرجولة ، و هالة الجاذبية المحيطة به . و كان يعذبها الخوف من وداعه لها ، و صعوده إلى غرفة نومه ، ففكرت في أقصر الطرق لاستبقائه. و حين انتهيا من العشاء ، قامت فأشعلت له سيجارة ، و أمسكت بيده و جذبته نحو الأريكة ، و جلست إلى جانبه ملتصقة به ، و قالت : — الآن يمكنني أن اقول بكل قوة : إنني أسعد امرأة في العالم ، على الأقل هذه اللحظة . — حقا ؟ ألا يمكن أن تكوني أسعد بالخارج ؟ فحركت رأسها بنفي قاطع : — أبدا ، لم أعد أذكر ما هو الخارج ، و لم يعد يهمني ، ما دمت أنت بجانبي فلن أطلب الذهاب أبدا ، أبدا . و مالت فطبعت على شفتيه قبلة خفيفة ، فضمها هو إلى صدره ثم ارسلها فقالت : — حدثني عن نفسك ، أريد أن أعرف كل شيء عنك. فلم يزد على أن ابتسم لها ، و نفث دخان السيجارة في الهواء ، فأضافت : — إذا أردت . و سأحكي لك أنا بدوري ، كل شيء عن حياتي ، سأبوح لك بجميع أسراري ، و حتى عقدي و مخاوفي و نقائصي . و أرجو ألا يبعدك ذلك عني . و ضحكت و دفنت وجهها في صدره ، و قد عاد إليها بعض مرحها و ظرفها السابق . و قالت : — الإنسان يحتاج إلى الانسان ، و خصوصا المرأة ، تحتاج إلى الكلام ، إلى الاتصال بالناس ، و ليس اعرف مني الآن ، و بعد هذه التجربة ، بهذه الحقيقة . و مسحت خده بيدها و قالت : — ألا تشعر أنت كذلك بهذا الشعور أحيانا ؟ ألا تحس بالحاجة إلى تفريغ نفسك مع صديق حميم أو صديقة ؟ فمط اسماعيل شفتيه و قال : — ليس لدي أصدقاء .. فأحست بنبرة المرارة مكبوتة في كلماته فوضعت يدها على صدره ، قائلة : — أنا آسفة .. لم أكن أريد إحراجك. فرد بهدوء : — لم تحرجيني بالمرة . فعادت إلى مرحها و قالت متطوعة : — أنا أكون صديقتك .. فحدثني بجميع أسرارك ، و أفكارك ، و حتى عقدك و نقائصك ، إذا كان ذلك سيريحك... و ستجدني بئرا مغلقة .. و لن أخرج من هنا لأحكي لأحد على أي حال. و باتا تلك الليلة معا في غرفة نومه. و في الصبح نزلا للفطور في جناح زينة بالقبو العلوي.. نزلت أمامه طائعة ، و قد حملت تحت ذراعها رزمة من المجلات المصورة ، و الروايات .. و بعد الفطور ، ودعته بقبلة و ترجته ألا يغيب عنها طويلا.. و انشغل اسماعيل بمشاريعه الكبيرة ، المحلية منها والمنتشرة عبر اطراف المملكة ، فكان يعود إلى داره في ساعة متأخرة من المساء فيجد نفسه منساقا إلى جناح زينة ، و كأنه منحدر في أحد أنابيبه دون إرادة .. كان يجدها دائما تنتظره في أبهى زينة و أروق مزاج.. فكانت تصب له كأسا من بيرته المفضلة، و تضعها أمامه ، و تجلس إلى جانبه تؤنسه بحديثها ، و كأنها قضت طول النهار بالخارج.. و حين يسألها من أين كل هذه الأخبار كانت تشير إلى الراديو ، و الجرائد و المجلات.. و مرت الأيام ، و أصبحت زينة عادة ثابتة من عاداته.. ولاحظ أنها تغيرت كثيرا مما كانت عليه منذ دقت جرس بابه.. كانت تميل إلى نضج الأنوثة و وداعتها بدل الاسترجال الذي جاءت به.. و لم تعد تلبس السراويل و ملابس " الجين " الخشنة ، و بدأت تمشط شعرها بطريقة كلاسيكية هادئة. و لاحظ كذلك نعومة بشرتها و صفاءها ، و هدوء طبعها ، و دعة نفسها التي كانت تصبغ عليها في نظره مسحة خفيفة من الحزن، حين تنهمك في القراءة أو عمل " التريكو " . و فاجأها مرة تبكي حين دخل مبكرا على غير عادته ، فدخلت الحمام بسرعة ، و لكنه لحق بها قبل أن تغسل عن وجهها آثار الدموع ، فأمسك بكتفيها ، و نظر إلى عينيها في المرآة : — مالك يا زينة ؟ — لا شيء .. و أدارها نحوه ، ونظر إلا وجهها فأسبلت جفنيها : — ما لك ؟ و لم تجب ... — هل تريدين الخروج ؟ حركت رأسها بالنفي. — هل هي والدتك ؟ تريدين رؤيتها ؟ — لا .. — ما لك إذن ؟ و انهمرت دموعها ، فرفع وجهها نحوه، فأغمضت عينيها .. و رن في رأسه جرس مخدر ، فنبس بكلمة واحدة : — حبلى ! و أحنت رأسها في استسلام — متى عرفت ؟ — منذ شهرين .. — لماذا لم تخبريني ؟ — لم أكن متأكدة .. ليست لي خبرة كبيرة بمثل هذه الأمور.. و أغمض عينيه و راح يسبح في دوامة لم يعرف مثلها من قبل، و جاءه صوتها الباكي : اسماعيل ، هل أنت غاضب ؟ و لم يجب .. لم يكن يعرف الجواب .. و لم ينم يلك الليلة . بات يرقب عقربي الساعة الفسفورين المضيئين في الظلام و يفكر .. و في الخامسة صباحا، أغمض عينيه على قرار ، و راح يفكر في سبات عميق. انتهى الجزء. دمتم بخير . | ||||
21-05-14, 12:17 PM | #29 | ||||
مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام
| ــــــــــــــ الـجــزء14 : و في الخامسة صباحا، أغمض عينيه على قرار ، و راح يفكر في سبات عميق. و حين عاد من عمله ذاك المساء ، كان الارهاق باديا عليه ، و نظرت إليه زينة بعينين صامتتين ، فتفادى نظراتها ، و قصد خزانة المطبخ الصغير ، فأخرج زجاجة صب منها في كأس ، و استرخى على الأريكة يرشف من السائل الذهبي الدافىء و ينتظر مفعوله في عروقه . و التقطت هي زجاجة البيرة المثلجة ، و أخذتها إلى الثلاجة ، و عادت لتجلس على الجانب الآخر من الأريكة. و لاحظت معطفه المبتل بماء المطر ، فقالت محاولة كسر جليد الصمت : — ألا تعطيني معطفك لأعلقه ؟ فعب من الكأس ملء فمه ، وحرك رأسه بالنفي . — ألا تزال غاضبا مني ؟؟ فركز عليها ، و قد أحس بحرارة الكحول تشع من وجهه : — إذا كنت تعتقدين أن الحمل سيخرجك من هنا ، فأنت مخطئة . و أحنت رأسها لتنظر إلى يديها : — لم تعد لي رغبة في الخروج .. — و لن تخرجي ، على أية حال .. فأنت عرفين اكثر مما هو في مصلحتك .. — كل ما عرفته في وقت ما.. هو ما قاله لي مجاهد .. و قد نسيت الآن . و تنهدت : — لم أعد أذكر شيئا عن حياتي خارج هذا الجناح.. كل شيء أصبح في ذاكرتي سرابا و خيالات مهزوزة.. حتى مجاهد.. و كأن عمرا كاملا يفصلني عنه.. لم أعد أذكر حتى ملامح وجهه.. و سكتت لحظة ثم نظرت إليه : — و حتى لو أخرجتني فلمن أذهب في حالتي هذه ؟ أمي تعيش في قرية صغيرة بقبيلة " بني كرفط " بالشمال.. و سيسبب لها ظهوري هكذا حرجا كبيرا بين الناس. و حتى مجاهد لن يقبلني هكذا.. فهو مغفل كبير.. و معتز برجولته إلى حد الشراسة ، بحيث لم يأخذ امرأة مسها رجل آخر.. فإلى أين أذهب ؟ و حاولت الابتسام : — أرأيت ؟ أنت أسيري بقدر ما أنا أسيرتك .. و حين نهض ليصعد إلى غرفته ، لم تلح عليه البقاء.. و في عطلة نهاية الاسبوع بدا على اسماعيل أنه تماثل من الصدمة و قد ظهر عليه الاسترخاء و حتى بعض علامات الاغتباط . و قضى ليلة السبت عند ابراهيم و مريم التي دعت المهندس أمين ناصر، و زبيدة ، لعلها تثير غيرة اسماعيل من اعجاب المهندس الشاب بزبيدة و تعجل بالقائها في فراشه.. و أصرت على مناوراتها ، حتى و هي تودع ضيوفها على الباب .. فقد طلبت من زبيدة أن تأخذ ناصر إلى فندقه ، بدلا من أن تطلب ذلك من اسماعيل .. و زمت شفتيها و هي تنظر إلى اسماعيل يركب سيارته ، غير عابىء بما تحكيه حوله... و اقترب اسماعيل من الغابة القريبة من منزله.. في داخله شعور غريب بالخوف، أحس كأن عيونا تراقبه، فأطفأ الراديو، و أخذ ينظر حواليه ، و قد بدأ جلده يتشوك.. و فجأة ظهرت أمامه صخرتان على حافة الطريق، فداس على الفرامل ، و مال بسرعة ليتفاداهما ، فخرج له من وراء شجرة شبح يحمل صخرة على رأسه رمى بها عليه من خلال واجهة السيارة ، فاخترقت الزجاج و مسحت جانب وجهه الأيمن، و سقطت على المقعد بجانبه تاركة فجوة كبيرة في الزجاجة الأمامية.. و بجهد كبير استطاع أن يسيطر على السيارة الخارجة على الطريق.. و كانت الحجارة تتساقط على ظهر السيارة ، و تخترق زجاجها من كل جانب، و أصوات الأشباح تترامى إليه من بعيد صائحة : — أيها القتال ! أيها السفاح ! اقتلوه .. لا تتركوه يفلت .. و اختفى خلف زوبعة الغبار التي أثارها خروجه على الطريق المعبد، و سمع اصطداما على مقدمة السيارة.. و ثقلا في حركتها .. و من خلال الغبار و الظلام استطاع أن يميز وجه رجل منبطح على غطاء المحرك يحاول الاحتفاظ بتوازنه، و ينظر إلى يساره فإذا شخص آخر يمسك بمقبض الباب يحاول فتحها و استقحامها عليه، فمد يده ، و ضغط زر الأمان فانقفلت الأبواب الأربعة آليا.. و نظر حواليه فإذا أشخاص آخرون ممسكون بمقابض الأبواب الثلاثة الأخرى، و بسرعة مد يده فضغط على زر تحت لوح المؤشرات، فالتصقت الأيدي المبتلة بالعرق بالمعدن البارد المكهرب بتيار عال، و راح هو يدور بالسيارة في كل اتجاه دورات عنيفة حتى رمى بالشخص المنبطح أمامه، و تأكد من أن صرخات المكهربين قد توقفت ، فعزل الكهرباء و انصت إلى الجثث الأربعة تضرب الأرض ، و أحس بالسيارة يخف وزنها مرة أخرى. و انطلق نحو منزله مستعدا لأية مفاجأة، و واجه باب الدار، و ضغط زر العين الكهربائية فانفتح الباب الحديدي و دخل بسرعة حتى وقف بداخل المرأب ، وأسكت المحرك، و أطفأ النور، و جلس يلهث لحظة محاولا تصور ما حدث. و أحس بقطرات الدم تنزل ساخنة على صدره من ذقنه، فوضع كفه على خده ، فأحس بألم الجرح، و تناول رزمة مناديل الورق من صندوقها إلى جانبه، و وضعها على خده، و فتح خزنة الأوراق، فأخرج منها مسدسا و خرج متوجها نحو الباب الخاجرجي. و كان الحارس العجوز ، قد أفاق منزعجا من زعيق العجلات مع الأرض، فخرج ليرى ما يجري ، و فوجىء باسماعيل شاهرا مسدسه يحاول اختراق ستار الظلام بعينيه النمريتين. و في حمام غرفة نومه، نظر إلى الجرح في المرآة، و رش عليه مطهرا من زجاجة رشاشة و غطاه بضمادة، و راح يخلع ملابسه شاعرا بخفة و نشوة شاذتين، لأول مرة كانت العين الكبيرة داخل دماغه تبتسم؛بل ربما كانت تضحك بالدموع تشفيا من فشل القتلة. لابد أنهم سيحاولون اقتحام الدار عليه، و سيستقبل هو كل واحد منهم بقوله: " هيت لك ! " و سوف يعتصرهم واحدا واحدا من كل ما يعرفون، قبل أن يلقي بهم للسائل الجائع ليمص لحومهم، و يمش عظامهم. و فكر هل ينادي الشرطة و يخبرهم بما حدث. و قد يؤدي ذلك إلى تسليط الأضواء عليه، و بالتالي على داره و مشاريعه الأخرى، و ربما تسرب ذلك إلى الصحافة. و من جهة أخرى ، إذ لم يخبر الشرطة فربما عثرت بنفسها على أثر يشير إلى ما حدث الليلة ، و لن يجد شرحا شافيا لصمته. و في النهاية قرر أن يعزف أوتاره بالسمع، فرفع السماعة، و نادى مركز الشرطة ، و سأل عن البعيد، فقيل له إنه في بيته، و حين سأله ضابط الحراسة عن سبب المكالمة، أخبره بأنه كان يود أخبار العميد بحادث اعتداء تعرض له الليلة، و سأل الضابط : — هل أصبت بشيء ؟ — جرح خفيف. — هل تعرفت على المهاجمين أو احدهم ؟ — كان الظلام كثيفا . فانهى الضابط المكالمة بوله : — إذا لم يكن هناك ما يدعو للاستعجال من طرفك، فسنبعث بضابط تحقيق غدا إلى عين المكان، و يمكن أن تدلي له بالمعلومات. و وضع السماعة. و لم يأت أحد في اليوم التالي، و لا الأسبوع أو الشهر الذي بعده. كان اسماعيل يعرف " خروب بلاده " ، فخاطب ضابط الشرطة بلهجة مؤدبة هامسة حتى لا يوقظه من سبات تخلفه الثقيل. و لحسن حظه ، لم يترك المهاجمون وراءهم أثرا يذكر ، و لم يتوقعهم أن يفعلوا فالكوماندو لا يترك جثث صرعاه على أرض المعركة. و مع خيوط الفجر الأولى، ايقظته ساعة الراديو بموجة من الموسيقى ، فتدثر بمعطف صوفي و صعد إلى السطح ، فكشف الغطاء عن منظار مقرب في حجم مدفع صغير يستعمله لمراقبة الكواكب، و وجهه نحو ميدان معركة أمس، و أخذ يمسح الأرض الندية حبة حبة، حتى أثر العجلات، و مساحب الأقدام، و شظايا الزجاج ، مسحوها قبل أن ينسحبوا.. و تساءل : " لصالح من يعملون ؟ " و ترك الجواب للأيام . و نزل إلى الحديقة ، فقطف بعض الزهور، و قد أحس بخفة غير عادية و بفيض من الأريحية نحو زينة، فأخذ الزهور إلى جناحها. و حين رأت الضمادة على جانب وجهه، شهقت، و وضعت يدها على فمها : — ماذا جرى ؟ فناولها الزهور، و قبل خدها : — لا شيء. حادث سيارة بسيط. — ماذا تعني ، حادث بسيط ؟ لقد كاد يذهب بنصف وجهك. — تأكدي أنها مجرد خدوش سطحية لن تترك أثرا يذكر . هل أعجبتك الزهور ؟ فنظرت إليها و كأنها تراها لأول مرة : — هل هي لي ؟ — هي لكما معا. و أشار إلى بطنها ، فابتسمت من تحت سحابة من الكآبة. و عز عليه أن يراها كذلك فقال : — تعالي نصعد إلى السطح ، اليوم الأحد ، و ليس لي التزام ، إلى جانب أن الأم و صغيرها يحتاجان إلى الهواء الطلق، و أشعة الشمس. و على السطح وجدت نفسها تحت قبة زجاجية دافئة تغطي المسبح و المقصف و تحجب برد فبراير القارس. و وقفت هي تنظر بشوق إلى الأفق الغربي ، و قد تراكضت الغيوم المثقلة السوداء آتية من المحيط نحو المدينة، و وقف هو خلفها ينظر إلى سياط البرق تشق بطون الغمام على مرمى البصر، و يصيخ إلى هزيم الرعد الذي يأتي خافتا من بعيد. و أمسك بكتفيها ، و الصق صدره بظهرها و قال : — قريبا ستمطر ، تعالي نعد الفطور. | ||||
21-05-14, 12:18 PM | #30 | ||||
مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام
| و على المائدة جلست هي تحتسي قهوتها صامتة مطرقة ، فسألها : — فيم تفكرين ؟ و بقيت مطرقة ، فأعاد السؤال : — شيء ما يشغل بالك ؟ فرفعت رأسها : — إذا قلت لا شيء، سأكون كاذبة. و من جهة أخرى ، لا أريد تعكير صفوك هذا الصباح ، فلم أرك بهذه السعادة و المرح من قبل. فقال باسما : — لذلك ينبغي أن تستغلي الفرصة و تطلبي ما تشائين. فأنا في حالة أريحية قد لا تتكرر. و ابتسمت زينة و قالت : — لا مطالب لي بالمرة. مبدئيا حياتي مكفولة، و ليس لي مسؤولية على شيء. — فماذا يقلقك ؟ — ما قلته لي مرة من أن هذه الدار محارة تسد آليا، و لا يستطيع أحد النفاذ إليها ! — هذا صحيح ، فماذا يقلقك منه. — هذا الحادث الذي تعرضت له خارج الدار ؛ ماذا كان سيجري لي لو قدر الله أن أصبت بسوء ؟ — لا تقلقي، يا عزيزتي بالمرة من هذه الناحية . في حالة غيابي النهائي هناك وصيتي بالبنك، و معها جميع أسرار هذه الدار، و مفاتيح أرصادها الاليكترونية. و توقف ثم سأل : — هل هذا كل ما يقلقك ؟ فتنهدت ، و قالت : — ما يقلقني بطريقة أعمق هو هذا . ووضعت يدها على بطنها و أضافت : — هل سيولد سجينا، و يعيش سجينا ؟ — اطمئني من هذه الناحية كذلك. فقد اعطيت الموضوع تفكيرا طويلا. الوضعية التي نعيشها الآن مؤقتة و عابرة، و سوف تنتهي بمجرد انتهاء أسبابها و سأخبرك بكل شيء في حينه ، إتفقنا ؟ و قام فمد يده لها. — تعالي نلعب مع بعض تنس الطوالة، فأنت في حاجة إلى تمارين رياضية. و بعد بضع دقائق من اللعب المجهد، اظلمت السماء حين اطبقت الغيوم الكالحة على المدينة، و سطع البرق باهرا خاطفا، فتوقف الاثنان عن اللعب، و خافت زينة فالتجأت إلى اسماعيل الذي ضمها إليه، و وقفا يتوقعان انفجار الرعد الهائل الذي لم يلبث أن هز المبنى من تحتهما. و انفتحت أبواب السماء بوابل من المطر الطوفاني، خشيت معه زينة أن يخترق القبة الشفافة. و لكن اسماعيل كان أكثر ثقة بسقفه منها فأخذ يحثها على النظر إلى البحر الهادر فوقهما دون أن يصيبهما ببلل. و نظرت إلى وجهه، و هو منشغل عنها بالنظر إلى الماء الهابط، فرأت في ملامحه براءة الأطفال، و شقاوة الغلمان، و تمنت لو بقي كذلك مقطوع الصلة بماضيه و أحداثه التي شوهت نفسه. و حين خف انصباب المطر، و لم يبق منه إلا رذاذ خفيف أحس الاثنان براحة داخلية عميقة، و تنهدت زينة بصوت مسموع، فقال اسماعيل : — هل اشتقت إلى المطر أنت كذلك ؟ فحركت رأسها بنعم : — في صباي كنت أقف تحته حتى يصل الماء إلى عظامي. و رن جرس التلفون فأسرع اسماعيل يلتقط السماعة : — السيد العميد، كيف حالك ؟ نعم. حادث اعتداء مؤكد. لابد أنها عصابة. لا. جروح خفيفة لا أدري. ربما كانوا يريدون السرقة . لا، لم أميز أحدا. كان الظلام حالكا. شكرا، مع السلامة. — قلت لي كان حادثا ، و ليس اعتداء عصابة. — ما الفرق ؟ النتيجة واحدة . فسألت بخشينة و ارتياب : — هل كان من بينهم مجاهد ؟ فارتفع صوته قليلا : — أكيدا ، لا. — ولكن لم تميز منهم أحدا . — و لكني متأكد من أن مجاهد لم يكن معهم، فقد ذهب و لن يعود . و أضاف مصححا : — و عدني ألا يعود. فقالت بشفتين مرتجفتين : — هذا عمل شبيه بأعماله . مجاهد عنيف الطبع، و يرفض الهزيمة. — قلت لك ليس هو. فاطمئني على مجاهدك. و أحست هي بنبرة الغيرة في صوته، فأسرعت نحوه : — لم أقصد. لم أقصد ما تظن. أرجوك ألا تفهم ذلك . و وضعت يدها على صدره و نظرت إليه من تحت : — أنا أخاف عليك أنت . فنظر إلى عينيها الخائفتين من غضبه ، و قال : — إذا كنت صادقة ، فلا تذكري لي اسمه بالمرة . فوضعت وجهها على صدره : — لن تسمعه مني أبدا . و في صباح اليوم التالي ، الاثنين ، مر على مكتبة فاشترى عدة كتب و مجلات مصورة من بينها كتاب بعنوان : " الحمل و الوضع بدون ألم " ، ثم مر على بائعة أصواف واشترى بضع كبات من عدد من الألوان ، و أدوات عمل التريكو ، و خرج نحو سيارته ، و على بعد رأى زبيدة جالسة في سيارتها بمحاذاة الرصيف، و شخصا يمسك ببابها و يتكلم معها، و هي تريد اقفال الباب . و خاف أن يكون محتالا أو ثقيلا يضايقها، فذهب إليها، و بمجرد ما رآه الشخص، رفع يده لها ابالتحية، و ساعدها على اقفال الباب و ذهب. و ابتسمت زبيدة في وجهه ، حين سألها : — من كان ذلك ؟ عاشق متيم يريد احتلال قلبك بالقوة ؟ — لا، ليس لي مثل ذلك الحظ ، إنه زبون. من النوع الذي يعطي القضية للمحامي، و لا يثق في كفاءته، فيطارده بالنصائح و الفتاوي . و لاحظت الضمادة على وجهه : — ماذا حدث لك ؟ — حادث سيارة بسيط . سأقول لك عنه حين نلتقي. ودعها ، ومر على الخزانة العامة، فاستعار جزأ من دائرة المعارف الطبية يحتوي على قسم الحمل ، و الوضع ، و التوليد ، فأخذه ، و عاد بهداياه إلى زينة التي استقبلتها بسرور الطفلة يوم عيد ميلادها . و بعد يومين أخبرت الصحافة بمقتل أربعة اشخاص صعقا بالكهرباء، لسقوط أحد أسلاك التيار العالي عليهم في إحدى ضواحي المدينة . و ابتسم اسماعيل و هو يقرأ الخبر ، و تعليق الصحيفة اللاذع على إهمال عمال الكهرباء الاجرامي. و أقفل الصحيفة مفكرا في أن محاولة اختطافه أو اغتياله هذه ، لن تكون هي الأخيرة و أن عليه أن يسبقهم بالاحتياط و الحذر . و مرت الأيام . و ثقلت زينة ، و أشرفت على الوضع، و سمح لها اسماعيل بالصعود وحدها إلى المطبخ لاستعمال أدوات الرياضة ، و الحركة في الهواء الطلق، و كانت تشعر في حالتها تلك القناعة و الرضى بالواقع ، فلم يلمس منها ثورة أو تمردا . و جاءها المخاض ، فنادت إسماعيل الذي كان في مكتبه يشتغل بعد العشاء ، فأعدها للولادة ، و لبس حلة معقمة كان يحتفظ بها لهذه المناسبة. و سارت الأمور كما تدربا عليها عدة مرات ، و من أجل طمأنتها و تهدئة أعصابها ، وضع جهاز التلفزيون بجانبه، و رقم أحد أصدقائه الأطباء جنب الجهاز ، و راح يشجعها على التنفس العميق و الدفع ثم الاسترخاء . و في أقل من ساعتين ، رن في الغرفة صوت صبية وردية اللون، كاملة الخلقة ، فرفعها من قدميها ، كما يفعل الأطباء لتراها أمها ، و ضرب على ردفيها في ثقة بمعارفه الطبية. و نام تلك الليلة على الأريكة في جناح زينة ، و بات يحاول تحليل مصدر الخفة التي كان يجدها في قلبه، و يتساءل هل ستكون لهذه التجربة نتائج ما على مجرى حياته . و قضى الأسبوع كله مع زينة، يساعدها على العناية بالمولودة التي كانت تقضي أغلب وقتها نائمة. و في اليوم السادس طلب من زينة أن تحمل الطفلة و تصعد بها إلى السطح . و من هناك قادها إلى حيث أطلت على كبش أبيض ذي وجه أسود و سألها : — ماذا تريدين تسمية الطفلة ؟ و اغرورقت عيناها تأثرا و هي تنظر إلى الكبش الفاره ، و اقتربت حتى لامست بكتفيها كتف اسماعيل ، و قالت : — فكرت في تسميتها بأسماء . اتعرف لماذا ؟ — لماذا ؟ — لأن " أسماء " هو نصف اسمك ، إسماعيل . و في صباح الغد ، اشرفت في نفس المكان على الحارس و هو يذبح الكبش و إسماعيل و حليمة يساعدانه. و خرجت زينة من تجربتها رزينة هادئة، و استرجعت قوتها على الحركة بسرعة، و كان باديا أنها وجدت الهدف من حياتها ، و أن سفينتها رست على بر الأمان . على العكس من حالته هو ، فقد كان يشعر بأن فترات الراحة و الاسترخاء التي كان يجدها بين استنطاق و آخر أخذات تقصر ، و بأنه أصبح معتمدا في صحته النفسية و توازنه العاطفي ، على لحظات القسوة السادية التي كان يقضيها مع أسراه . و اقلقه شعور غامض بأن اللصوص بدأوا يحسون بما كان يحدث لزملائهم داخل الدار ، رغم أن أحدا لم ينج ليحدثهم بما رأى ، فبدأوا يتجنبون الدار، و لم يعد يقع منهم في فخه إلا العابرون ، و الأفاقون و الرحل من غير أبناء الدار البيضاء ، فكان أحيانا يمر أسبوع كامل دون أن يرى الضوء الأخضر من سطح فندقه اللمفضل. و قضى عدة ليالي يفكر في الخروج من هذا الركود. و ايقظه الحل في منتصف ليلة ، و كان عقله الباطني كان يبحث عنه حتى وجده. الحل يكمن في تحطيم الأسطورة ، أسطورة الدار المسكونة أو الملعونة ، الدار القبر التي ما دخلها أحد و خرج منها حيا أو ميتا ! و في تلك اللحظة أشعل النور ، و مد يده إلى جهاز المراقبة الاليكتروني . و في صباح اليوم الثاني تعمد إخراج حقيبته ، على غير عادته ، ليضعها في صندوق السيارة أمام الباب الخارجي تحت أعين جميع المارة ، ليشيع أنه مسافر . و فعلا ذهب في رحلة تفتيش أخذته إلى أكادير ، و مراكش ، و مكناس ، و فاس ، ليشرف على سير الأعمال . و في غرفة فندقه بمكناس ، آخر مراحل تفتيشه ، رن جرس التلفون من عميد الشرطة بالبيضاء ليخبره بحادث مؤسف وقع في منزله ، و انقبض قلبه خشية أن يكون أمر زينة انكشف أو أصابها و الطفلة مكروه . و لكن قلبه انشرح بعد بأن أخبره العميد بأن داره تعرضت لسرقة كبيرة ، و حريق مهول . انتهى الجزء . دمتم في أمآن الله . | ||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|