آخر 10 مشاركات
روايتي الاولى.. اهرب منك اليك ! " مميزة " و " مكتملة " (الكاتـب : قيثارة عشتار - )           »          120- أتيت من بعيد - آن ميثر - ع.ق ( كتابة / كاملة )** (الكاتـب : أمل بيضون - )           »          نيران الجوى (2) .. * متميزه ومكتملة * سلسلة قلوب شائكه (الكاتـب : hadeer mansour - )           »          قيود ناعمة - ج1سلسلة زهورالجبل - قلوب زائرة - للكاتبة نرمين نحمدالله *كاملة&الروابط* (الكاتـب : noor1984 - )           »          غيوم البعاد (2)__ سلسلة إشراقة الفؤاد (الكاتـب : سما صافية - )           »          جدران دافئة (2) .. سلسلة مشاعر صادقة (الكاتـب : كلبهار - )           »          الفرصة الأخيرة (95) للكاتبة: ميشيل كوندر ...كاملة... (الكاتـب : سما مصر - )           »          شيءٌ من الرحيل و بعضٌ من الحنين (الكاتـب : ظِل السحاب - )           »          أميرها الفاتن (20) للكاتبة: Julia James *كاملة+روابط* (الكاتـب : ميقات - )           »          دموع على خد القمر (124) للكاتبة: Helen Bianchin (الجزء 2 من سلسلة عواطف متقلبة) كاملة (الكاتـب : salmanlina - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة > روايات اللغة العربية الفصحى المنقولة

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 16-05-14, 11:44 AM   #21

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



ـــــــــــــــــ


الــجـــزء 10 :







و أقفل الباب ، و خرج، و بقيت تتردد في ذهن زينة أصداء كلمتين فريدتين : " شغلت بالي ، شغلت بالي "

و على باب مقصورة ابراهيم على شاطىء ( بوزنيقة ) ، خرج اسماعيل من سيارته و توجه نحو المنتزه المشرف على البحر .

كان الوقت أصيلا ، و الجو ما يزال دافئا ، و صفحة البحر هادئة ناعمة ملونة بصفائح الذهب ، و النحاس ، و دنانير الفضة و البلور.

و كان يجلس إلى المائدة الحديدية البيضاء رجلان، احدهما صديق ابراهيم و الآخر عرف من صوته أنه " عزوز " عميد الشرطة ، و وقف الاثنان لتحيته ، و بادره ابراهيم :

— أين كنت ؟ تأخرت يا أخي كثيرا .

ثم ضغط على ذراعه ، و همس في أذنه :

— عندي لك مفاجأة ، و أية مفاجأة !

و غمز بعينيه في اتجاه الشاطىء ، فنظر اسماعيل ، فإذا بثلاث سيدات في مايوهات السباحة ، عرف من بينهن مريم، زوجة ابراهيم ، و حسناء زوجة عميد الشرطة ، و لم يستطع تمييز الثالثة التي كانت أصغرهن سنا ، و أرشقهن عودا، و أكثرهن أناقة فقد كانت تلبس قبعة واسعة بيضاء و نظارة شمس كبيرة الحجم تغطي نصف وجهها و " بكيني " مزخرف بالزهور موصول الأطراف بسلاسل من ذهب .

و كان النساء الثلاث على الشاطىء مستغرقات في الحديث ، يتحركن ببطء شديد نحو المنتزه، و لم يكن بقي على الشاطىء من السابحين إلا القليل . و التفت اسماعيل إلى ابراهيم و قال له :

— عرفت مريم و حسناء ؛ فمن هي الثالثة ؟

فاقترب منه ابراهيم متحمسا :

— قل لي أولا ، ما رأيك فيها ؟

فهز اسماعيل كتفيه حرجا :

— أنا لا أعرفها .

فضحك عميد الشرطة حتى اهتزت بطنه ، و قال :

— يذكرني جوابك بحكاية أشعب حين رأى جماعة يأكلون ، فدخل بينهم و أخذ يأكل ، و حين سأله احدهم : هل تعرف منا أحدا ، أجاب : نعم ، أعرف هذا و أشار إلى الطعام !

و عاد يضحك على نكتته ، ثم قال شارحا :

— هل لا بد من الحديث إلى الموزة و اللوزة أو التفاحة ، و تبادل العناوين و التلفونات معها ، قبل أكلها ؟

و ضحك اسماعيل ، و علق :

— تعجبني فلسفتك ، يا حضرة العميد ، و اتمنى لو استطعت تطبيقها !

فرد العميد :

— لو فعلت لوفرت على نفسك كثيرا من المتاعب .

و خشي ابراهيم أن ينحرف العميد بالموضوع فيصيب جرحا داميا في نفس اسماعيل ، يفسد الجو المهيأ ، فتدخل :

— أنا لم أرد رأيك في طبعها ، و أخلاقها ، أو ثقافتها ، أريد رأيك في شكلها كامرأة .

و مد يده ، فتناول منظارا مقربا و أعطاه إياه :

— خذ ، انظر إليها ، انظر .

فتردد اسماعيل ، و بدا عليه الحياء و الحرج ، فعلق العميد :

— مسكين اسماعيل ، يعاني من أعراض العزوبة ، الخجل ،و التعفف الناتج عن حرية الاختيار ، و كثرة المعروضات و الشبع و التخمة ، انتظر حتى تتزوج فتصبح شرسا مثلنا !

فرد عليه ابراهيم :

— تكلم عن نفسك ! اسماعيل ليس من ذلك النوع ، انه خلق ليكون متزوجا و رب عائلة .

و نظر عبر المنظار ، و ركزه قليلا ثم ناوله لاسماعيل :

— انظر الآن ، انه مركز على المسافة .

و علق العميد ضاحكا :

— إذا لم تعجبك النحيفة ذات القبعة ، و ما دمت شابا مهذبا فلا مانع عندي من أن تنظر إلى زوجتي " حسناء " فإذا اعجبتك فسأكتب لك تنازلا عنها في الحال !

و ضحك الثلاثة ، فقال ابراهيم :

— انت يجب طردك من نادي المتزوجين !

فرد العميد :

— لن تحتاجوا لمجهود كبير !

و أمسك اسماعيل بالمنظار ، و نظر فبدت له النساء الثلاث و كأنهن أمامه . و دقق النظر في وجه الفتاة الرشيقة فاستدارت لتواجه مريم التي كانت تتحدث ، فنظر إلى تفاصيل جسمها البديع .

و أزال المنظار و علق :

— لا استطيع رؤية وجهها ، إنها تمشي إلى الوراء .

ثم أعاد المنظار إلى عينيه فوقعت نظرته على وجهها المستدير و شفتيها الممتلئتين ، و أنفها الصغير الأشم ، فوضع المنظار ، و التفت إلى ابراهيم باسما من غفلته :

— زبيدة !

فضحك ابراهيم :

— نعم ، زبيدة ! أنا نفسي لم أصدق أنها تخفي كل ذلك الجمال و كل تلك الأنوثة خلف مظرها الكفء العلمي ، و ذكائها الحاد البارد !

و التفت إلى العميد الذي كان يعب من علبة عصيره الباردة :

— أليس كذلك يا عزوز ؟

فحرك رأسه موافقا :

— مفاجأة سارة !

و التفت ابراهيم لاسماعيل :

— ما رأيك ؟ هل سبق لك أن رأيتها هكذا من قبل ؟

فحرك اسماعيل رأسه نافيا .

— كنا ننزل للشاطىء معا كطلبة في الابتدائي و الثانوي ، و كانت زبيدة نحيفة لا تثير انتباه أحد ، في الواقع كانت تدعو للرثاء !

و تحمس ابراهيم :

— أما اليوم : " ماما ميا " !

و قبل أطراف أصابعه قبلة الاعجاب ، و التفت إلى العميد و قال :

— اسمع يا عزوز ، أنت شاهد ، لقد حلفت لزوجتي بالايمان المغلظة ، و الطلاق الثلاث ، أنه إذا لم يتزوجها ، فسأتزوجها أنا !

و التفت إلى اسماعيل :

— و الله العظيم ، لا يمكن أن أتركها لصعلوك آخر !

فهز العميد رأسه متأسفا في سخرية من ابراهيم :

— مسكين ! يا لها من تضحية عظمى !

و اقترب النساء الثلاث فوقف ابراهيم ، و أخذ يناديهن ، و يشير إلى اسماعيل :

— مريم ، عندك ضيف .

و رفعت النساء أيديهن بالتحية .

و وقف اسماعيل فقبل النساء الثلاث على خدودهن ، و ضغطت زبيدة على يده بيد باردة ، و نزعت النظارة و القبعة ، و حركت رأسها حركة رشيقة إلى الوراء ،فانسدل شعرها اللامع الأسود على ظهرها و كتفيها و جلست إلى جانبه تنظر إليه و تبتسم هو يجيب عن اسئلة مريم :

— أين تأخرت ؟ لقد انتظرناك بالغذاء ، ألم تصلك مكالمة ابراهيم ؟

— تأخرت في الورش قليلا ، و اضطررت للغذاء خارج الدار . و بمجرد استماعي للمكالمة المسجلة جئت .

و وقفت زبيدة فسألته :

— هل تريد مشروبا ؟

و رفع هو يده إلى رأسه ، و عيناه على صدرها الصغير ،فقال ابراهيم مجيبا عنه :

— هاتي له بيرة لتفتح شهيته للعشاء ، و لنا كذلك .

و وافق اسماعيل ، و دخلت النساء إلى المقصورة ليهيئن العشاء ، و عادت زبيدة بالمشروبات ثم انضمت إليهن .

و غرق الرجال الثلاثة في صمت مفاجىء و الشمس تنحدر إلى مغربها في حفل رائع صامت ، كان لهدأة الغسق ، و رتابة انكسار الأمواج الصغيرة و انحسارها ، و نداء ات النوارس و طيور البحر العائدة إلى أوكارها ، مفعول مخدر عليهم يضاعف من نشوة الكحول .

و وجد اسماعيل نفسه سابحا في حلم لذيذ مع أسيرته زينة ، ذات الجمال المتوحش ، و كلما رشف من بيرته رشفة منعشة تخيل أنهه يقبل شفتيها الخمريتين ، و يغرق في عينيها الساحرتين ، و استعجل الزمن للعودة إليها .

و لم ينتبه الثلاثة من غفوتهم اللذيذة إلا على ضحكة مريم التي خرجت لترتب المائدة للعشاء ، فوجدتهم صموتا كالتماثيل تحت عتمة المساء ، و اشعلت مصابيح المنتزه المرفوعة فوق السواري ، و صاحت :

— ما لكم ساكتين و كأن على رؤوسكم الدجاج !

و أطلقت زبيدة ضحكة ذهبية خجولة ، و هي تساعد مريم على ترتيب المائدة .

و أثناء العشاء تطرق الحديث إلى غلاء أرض البناء بالدار البيضاء ، فاغتنم اسماعيل الفرصة ليقول :

— غلاء الأرض في " انفا " و الضواحي العصرية كان من جملة ما دفعني إلى بناء داري في تلك المنطقة الفقيرة .

و علق عميد الشرطة :

— في البداية ، خفت عليك من السكنى هناك ، و اعجبت بشجاعتك ، و اليوم، و بعد مرور عام على سكناك هناك، بدأت اعجب بحكمتك .

و توقف اسماعيل عن المضغ ، و نظر إلى وجه العميد لعله يرى علامة هزل أو سخرية ، و لكن الرجل كان جادا ، إذ استأنف :

— أتعرف أن نسبة الجريمة قلت بشكل ملحوظ منذ بنيت دارك هناك ؟

و التفت الجميع إلى العميد الذي كان ينظر إلى اسماعيل كمن ينتظر تفسيرا لهذه الظاهرة الغريبة .

و انتقلت الانظار إلى اسماعيل الذي كان يمضغ لقمته ببطء مقصود ،و يحاول اعطاء انطباع الاندهاش جوابا على تساؤل العميد، و في تلك اللحظة رن صوت زبيدة بكلمة واحدة وقعت على اسماعيل كطوق نجاة في خضم ارتباكه ، قالت :

— الاضواء !

و أحاطت العيون بوجهها الأبيض المستدير ، فبرقت عيناها و هي تضع الكوب البلوري الطويل الساق ، و تمص شفتيها الممتلئتين ، و أضافت :

— الأضواء تبعد الجريمة ، جميع علماء الجريمة يؤكدون ذلك .

و كان اسماعيل قد استعاد بديهته و تماثل من مفاجأة السؤال ، فاضاف مستبقا تساؤل العميد و فضول النساء :

— إلى جانب ما قالته زبيدة ، هناك هندسة المبنى نفسها ، فقد أخذت في حسابي البيئة الاجتماعية الفقيرة و الموبوءة بالجريمة ، أثناء تصميمي للدار ، فجعلتها محصنة تماما ضد الاقتحام أو السرقة .

و ابتسم ابتسامة عريضة و قال و هو ينظر إلى زوجة العميد :

— و قد قمت بعملية تحصين أخرى ، تحصين بسيكولوجي !

فاسرعت مريم تقاطع :

— سمعت بذلك ، و قد قلتها لابراهيم فلم يصدق ، بعض الناس يدفنون كتابات و تمائم خاصة في أساس الدار فتحميهم من السرقة ، حتى أثناء غيابهم عنها ، أليس كذلك يا اسماعيل ؟






لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 16-05-14, 11:57 AM   #22

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


فرد اسماعيل :

— أنا الآخر سمعت بذلك ، و لكن عمليتي لم تكن عملية روحانية بهذه الدرجة ، كانت بسيكولوجية كما قلت ، و بسيطة في نفس الوقت ،فقد نشرت إشاعة في الحي بأن الدار مسكونة ، و سكانها لا يقبلون الغرباء عنها ، و كل غريب دخلها لا يخرج منها أبدا ، استعنت على نشر ذلك بالحارس العجوز ، و الخادمة حليمة ، و يبدو أن الفكرة نجحت فقد وصلتني اصداء مشجعة في هذا الباب .

و مسح العميد فمه ، و قال :

— وصلتنا نحن كذلك بعض الأصداء كتفسيرات محتملة لاختفاء بعض اللصوص المحترفين بالمنطقة .

فشرح اسماعيل :

— أنا لا أعرف لصوص المنطقة ، و لكن كثيرا من الشبان العاطلين جاؤوني لطلب العمل في أوراشي فكنت استخدمهم ، و حين امتلأت أوراش الدار البيضاء بدأت ابعث بهم إلى أوراشي أو أوراش الأصدقاء المهندسين بالمدن الأخرى ،و ربما كان هذا سبب بعض الاختفاأت المفاجئة .

و مسح الوجوه بنظرة متسائلة ، فوقعت عيناه في عيني زبيدة ، فلاحظ فيهما بارق حيرة خاطف ، أسلبت على اثره جفنيها و انشغلت بما في صحنها .

و في طريق العودة اختار اسماعيل تسجيلا موسيقيا رقيقا ، و دس الكاسيت في آلة التسجيل و راح يتصور زينة تراقصه و تعانقه .

و في الدار فتح الباب على زينة فوجدها واقفة و كأنها كانت تنتظره . كانت تلبس بيجامة بيضاء ، و فوقها معطف حمام ازرق ، و شعرها معقود إلى أعلى .

— كنت أنوي الرجوع إليك مبكرا ، ألم تنامي بعد ؟

— لم أفعل شيئا غير النوم ، ماذا يمكن أن يفعل الواحد بين أربعة جدران ؟

— اراك اغتنمت فرصة فراغك للاستحمام .

و اقفل الباب خلفه ، و وقف ينظر إليها فأحست كأنه يعريها ليلتهمها ، فتراجعت قليلا و ضمت صدرها بذراعيها ، فقال :

— هل توصلت إلى قرار ؟

فأجابت بسؤال مفحم و بدون انفعال :

— و هل تركت لي أي اختيار !

فابتسم اسماعيل و قال مهونا عليها :

— ما كان ينبغي أن ألقي عليك ذلك السؤال ، أنا آسف ، كم تمنيت لو كنت هنا معي بمحض اختيارك .

و تنهد و أضاف :

— كانت سعادتي ستكون مضاعفة !

و لم تزد على أن أسلبت عينيها ثم رفعتها ، فتوجه نحوها لينظر إلى وجهها الغض الناعم ،و كانت هي تنظر إليه باسترخاء و بدون عداء ، فقال ملاحظا هندامها الجديد :

— لا أدري أيهما انسب إليك ، ملابس الجين الرجالية الخشنة التي تتناقض مع نعومة الأنوثة فتبرزها أو ملابسك الحريرية هذه ؟

فقالت :

— أنا افضل ملابسي الأخرى ، و لا اعتقد أنها تبرز أية أنوثة ، لذلك البسها .

فاقترب منها و أمسك بحزام معطفها ، و قال :

— بالعكس ، كنت في منتهى الجاذبية في ملابسك الأخرى ،و قد حاولت أن اتصورك في ملابس غيرها فخانني الخيال . و حاولت أن أتخيلك عارية فلم ..

و هنا ابتعدت عنه زينة بحركة مفاجئة ، و بقي طرف الحزام في يده فسحبته منه ،و راحت تعقده بنوع من العصبية الهادئة ، و هي تقول مقاطعة كلماته الأخيرة :

— اريدك أن تعرف أنني لست من أوليءك ، في بلادي تموت النساء من أجل شرفهن !

فانزعج اسماعيل لتصلبها ، و دق قلبه و هو يرى الهوة تنفتح بينها و بينه ، فقرر اسرضاءها !

— سامحيني يا زينة ، لم أقصد اهانتك أو المس بشرفك ، أنا الآخر لست من أولئك .

و نظر إليها ، فبدا له أن ملامحها قد استرخت قليلا ، فاضاف :

— لو عرفت انك من ذلك النوع ما فكرت فيك ، و لا ضيعت ساعات من الأحلام اللذيذة عليك ، ألم أقل لك أنك تضيعين شبابك و جمالك على شخص لا يستحق ، و لا يستطيع أن يعطيك شيئا مما تستاهلينه ، و لا اعني الأشياء المادية ، رغم أنها مهمة بالنسبة للمرأة ولكن أعني الحب العظيم ،و المنزلة الكبيرة في القلب ، و الوجدان .

و اقترب منها و أمسك بيدها فلم تعارض ، فقال :

— كم كان أملي عظيما أن التقي بفتاة مثلك ، و ها نحن التقينا ، و كم تمنيت لو كنا التقينا في غير هذه الظروف الشاذة .

و رفع يدها إلى شفتيه فقبلها بحرارة ، و نظر إلى عينيها بعينين تكادان تغرورقان فرأى دمعتين في حجم اللؤلؤتين تجريان على خدها ، فاخرج منديله و أخذ يمسح به دموعها بلطف و حنان كبير ، ثم انحنى فطبع قبلة مليئة بالعطف و المحبة ، فاغمضت عينيها في استسلام مسحور .

و أمسك بيدها :

— تعالي ، تعالي معي إلى فوق .

و صعد السلم إلى غرفة نوم واسعة مكسوة الجدران بورق ملون بالوردي الفاتح و بها سرير مستدير مزخرف الغطاء بنفس اللون.

وقفت زينة تنظر حواليها مبهورة بجمال الغرفة و إضاءتها الخفية ، و العطر الخفيف الذي يفوح من أثاثها ، و الموسيقى الناعمة الدفينة في ارجائها ، و البساط الوردي الناعم ، و المرايا البلورية الكبيرة .

و أقفل هو الباب خلفها ، و أمسكك بكتفيها من الخلف ، و همس في أذنها :

— أريدك لي ، و لي وحدي .

و انزلقت يده على المعطف الناعم إلى خصرها النحيل ، ففسخ حزام المعطف و خلعه عن كتفيها ، و تركه يسقط على قدميها و أدارها نحوه وضمها إلى صدره ، فأحس بدفء صدرها الشاب على ظلوعه التي أوهاها الألم ، و أحرقها الحقد الأسود على العالم .

و وجدت هي نفسها في يده دمية طيعة يفعل بها ما يشاء . و اقفلت باب ذهنها تماما عن التفكير ، و أخذت تعيش اللحظة الحالية حالمة ، هائمة تستمرىء لمساته ، بل و تضحك حين يصدر عنه ما يسليها .

و أثناء إحدى القهقهات الناعمة مد يده فضغط على أحد الأزرار ، فتوقفت الموسيقى ، و أحست زينة بشك غامض كأن غطاء زال عنها بتوقف الموسيقى ، و بأنها أصبحت عارية ، فأخذت تبحث عن قميصها بحركات لا إرادية و هي تسأل :

— لماذا اوقفت الموسيقى ؟

— أريد أن اسمع اصواتك انت ، ضحكاتك أحلى من الموسيقى ، و أنفاسك أطيب من مسك الليل !

فتوسلت إليه بطريقتها الساحرة :

— اعدها ، أعدها ، يعطيك الستر !

و وضعت اصابعها على شفتيه ، فقال :

— حسنا يا عزيزتي ، و لكن لماذا ؟

— بدونها أحس كأني عارية !

و ضحك ، وهو يضغط الزر مرة أخرى ، فقالت :

— إنه عرى من نوع آخر ، لا أدري ! و لكني شعرت كأن أحدا يراقبنا .

— و الآن ؟ هل تغطيت ؟

فأجابت بجفنيها ، و عادت إلى حركاتها و ضحكاتها اللعوبة ..

و عاشت تلك الليلة بجسدها وحده حلما معطرا ، دافئا مخمورا .


و في القبو الأسفل ، كان مجاهد الأسير يتفرج على ما يحدث في غرفة النوم على الشاشة العريضة أمامه بالالوان الطبيعية ، و حاول الانعتاق فوجد نفسه مفرغا داخل أنبوبه كمومياء في تابوت ، و أخذ يعض على قضيب من حديد أمامه ، و يصرخ فيتضخم صراخه عشرات المرات حتى كاد صداه يفجر أذنيه ، و في النهاية أخذ يضرب رأسه مع جدار الأنبوبة في جنون انتحاري .

كان اسماعيل يتفرج عليه في غرفة نومه على شاشة صغيرة داخل نافذة برأس الفراش لا تراها زينة ، و لم يعرف في حياته نشوة أعظم ، و لا لذة أعنف و أعمق من هذه التي عرفها في تلك اللحظة ، كل آهة و كل أنة ، و كل ضحكة و حركة ، ولمسة ، وكل خلجة او انتفاضة تصدر عنهما ، كانت طعنة دامية في قلب اللص الأسير ، مجاهد !

و حاول اسماعيل تحليل اسرار هذه النشوة العارمة ، و هو منطرح إلى جانب زينة ، جسدا خاويا من كل طاقة ، يسبح في عالم دافىء ناعم بين اليقظة و الحلم ، فلم يصل إلى نتيجة .

فهل كان سببها حرمانه الطويل من جسد الأنثى الذي يلمسه منذ وفاة زوجته ( كارين ) ؟ أن كان شيئا ما في زينة الوحشية الجمال و الجاذبية ؟ أم أن لذة الجسد امتزجت بلذة الانتقام من مغتصبي زوجته و قاتليها ؟

إلا أنه كان مؤمنا في اعماقه بأن مجاهدا لم يكن من أفراد العصابة ، و بأن هدف حياته سيبقى غير محقق إذا هم لم يسقطوا في قبضته ، و تصرخ أرواحهم القذرة طالبة النجدة و هو يقتلهم ببطء ثم يحييهم ألف مرة كل يوم .

و تعزي في موقفه ذلك بأن مجاهدا ، رغم أنه ليس من أفراد عصابة طنجة ، فهو لص شرس على أي حال ، و قادر لو مكنته الظروف على القتل و الاغتصاب و أبشع أنواع الارهاب و التنكيل بالنساء و الأطفال الأبرياء !

و أخذه النعاس ، فامتزجت أفكاره بأحلامه ، حتى غرق في سبات عميق .









انتهى البارت .
دمتم في رعاية الله و حفظه .




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 16-05-14, 12:06 PM   #23

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ
الــجــزء 11 :






و في الصباح أفاق اسماعيل على فكرة أطارت نشوة النعاس من رأسه ، فخرج من السرير بهدوء ، حتى لا يوقظ زينة ، و لبس معطفه ، و نزل إلى القبو السفلى حيث كان مجاهد ، و فتح عليه باب الغرفة ، و أشعل النور ، ثم ضغط على زر أصبح معه الحائط الأمامي شفافا يكشف عن مجاهد وراءه .

و بنظرة واحدة إليه ، ادرك انه فارق الحياة ، كان رأسه ملقى إلى الوراء ، و قد شحب لونه حتى أصبح في لون الزعفران ، و انفتح فمه و عيناه ، و سال الدم من منخيريه و أذنيه ، و خرجت من فمه رع"وه" ممتزجة بالدم .

وقف اسماعيل لحظة ينظر إليه دون احساس معيين ، ثم ضغط على زر فانحسر اللوح الشفاف ، فتقدم و مد يده فجس نبض الأسير خلف أذنيه ، ثم مر بكفه أمام فمه فوجده انتهى .

و عاد فضغط على الأزرار فعاد اللوح ، و تغير لونه تدريجيا من شفاف إلى أبيض ، و انطفأ النور في الغرفة ، كانت نشوة الليلة التي قضاها مع زينة ، و وقوعه أسيرا لجاذبيتها الوحشية الغريبة ، عاملا حاسما في قراره بالاحتفاظ بها بصفة دائمة ، و بأي شكل من الأشكال !

و على مائدة الفطور ، نظر اسماعيل إلى وجه زينة الجميل ، و هو ينضح حيوية من جدة الصباح ، و فكر بأن المرأة هي الفاكهة الوحيدة الي لا تنقص بالاستهلاك.

و نظر إلى طبقها ، فوجده كما كان ، فسألها :

— ألا تأكلين ؟

— لا رغبة لي في الأكل ، أريد أن أرى مجاهد ، و نذهب إلى أهلنا . فلا بد أنهم قلقون عليها .

و لم يجبها ، بل انحنى على صحنه يتم فطوره ، و وقفت هي فجأة بنوع من الاحتداد :

— اريد الذهاب الآن ، من فضلك ، إذا لم يكن لك مانع !

فرفع رأسه مبتسما نصف ابتسامة :

— أفضل طريقتك الأخرى في الاستعطاف ..

— أرجوك ، ليس لي قابلية الدعابة .

— مالك ؟ هل فقدت مرحك فجأة ؟

و مسح فمه بالمنديل ، ثم أضاف :

— هل تشعرين " بندم الصباح " من ليلة أمس ؟

فعقدت قبضتها بعصبية مضبوطة و قالت :

— بالأمس اتفقنا على أن أعطيك نفسي مقابل اطلاق سراح مجاهد. ألا تنوي الوفاء بعهدك ؟

فرشف اسماعيل من فنجان قهوته ، و أجاب متجاهلا سؤالها :

— أراك حريصة على مجاهد ، بينما هو غير حريص عليك .

— لا دخل لك في هذا ! ألا تنوي الوفاء بوعدك ؟

— بلى ، و قد اطلقت سراح مجاهد هذا الصباح .

— أين هو ؟

— ذهب .

— ذهب ؟ بدوني ؟ إنه يعرف اني هنا ، ألم يسأل عني ؟

— بلى ، و قلت له أنك بخير .

— لا أصدقك !

و ضربت على مائدة الفطور بقبضتها حتى قفزت الاطباق و الفضيات !

فنظر إليها اسماعيل بعينيه الواسعتين الحزينتين ، و قال بهدوء :

— لا داعي للانفعال ، يا عزيزتي زينة ، اقعدي ، و سأشرح لك ، اقعدي .

— لا ، شكرا .

— كما تشائين ، سأشرح لك على أي حال ، في الواقع كان هناك اتفاقان كلاهما يناقض الآخر ، أولهما اتفاقي معك على اطلاق سراح مجاهد مقابل ، ( و تنحنح ) أنت تعرفين ، و بالمناسبة ، أود أن أقول لك : لقد كنت رائعة !

فتصلب وجه زينة مستسخفة حشره الموضوع في سياقه :

— أرجوك ، أتم كلامك .

فأحنى رأسه مطيعا :

— حسنا ، و الاتفاق الثاني كان مع مجاهد ، و ليس على اطلاق سراحك .

فبدت المفاجأة على وجهها ، فأضاف :

— اتفقت مع مجاهد على أن أشتريك منه ! لنقل : أن يتنازل لي عنك .

ففتحت زينة فمها ، و أرتج عليها لحظة ، ثم قالت شبه صائحة :

— ماذا ؟ ! اشتريتني منه ؟ !

— نعم ،

— أنت مجنون ! هل أنا بضاعة ؟ و هل يملكني مجاهد حتى يبيعني لك أو لغيرك ؟

فحرك اسماعيل رأسه آسفا :

— آسف يا عزيزتي ، لقد قلت لك إن اللصوص لا شرف لهم ولا ولاء ، و إلا ما كانوا لصوصا ، اللصوصية تعني الحقارة و الجبن ، و الخيانة و الغدر ، و مجاهد لص رخيص حقير ، فقد تنازل لي عنك ، دون لحظة تردد ، و باعك لي بأتفه الأثمان ، تنازل عنك مقابل اطلاق سراحه ، و أقسم لي على المصحف أنه لن يطالب بك ، و لن يخبر الشرطة بوجودك عندي ، و بالطبع لم أصدق قسمه ، فلا كرامة للص ! و لكني أعرف أنه لن يخبر الشرطة فهو أجبن من ذلك ، و بمجرد أن فتحت له باب الدار ، انطلق يعدو كالأرنب الهارب من الفخ ! و تركك لي ، رماك كما يرمي منديل ورق مستعمل في سلة المهملات !

وتطاير شرر الغضب من عيني زينة ، و أخذ صدرها يرتفع و ينخفض ، و صرخت في وجه اسماعيل :

— كذاب ! كذاب و مجرم ! اللعنة عليك ! اللعنة عليك !

و بدا على وجهها التنمر و التشنج ، فأمسكت بسكين الفطور ، و ارتممت عيله كاللبؤة الجريحة ، و لم يشعر اسماعيل حتى كانت فوقه ، و السكين على عنقه ، و هي تصرخ فيه :

— كذاب و مجرم ! ماذا فعلت بمجاهد ؟

و لم يستطع زحزتها من فوق صدره ، و لا الامساك بالسكين ، فقد كانت أقوى منه بكثير ، و زادها انفعالها الجنوني قوة و شراسة ، فقال من خلال لهاثة :

— لن يجديك قتلي شيء ، إذا قتلتني فستحكمين على نفسك بالاعدام في هذه الدار ، بل حتى هذه الغرفة تنسد كالمحارة آليا ، بحيث لا يمكن الخروج منها ، و لا الدخول إليها بأي شكل كان ، و إذا قتلتني فستبقين هنا سجينة مع جثتي الأيام و الأسابيع، حتى تنتن و تتعفن ، و تقتلك الروائح الكريهة و الميكتوبات ، هذا إذا لم يسبقها لقتلك الجوع و العطش و فساد الهواء .

فقالت ، و كأنها لم تسمع ما قال :

— ماذا فعلت به ؟

و أحد اسماعيل بجد السكين يضغط على حنجرته ، و رأى وجهها يكاد يلمس وجهه ، و قد احمرت عيناها المتوحشتان المشرفتان على الجنون ، و أخذ يبحث في ذهنه عن فكرة ذكية بسرعة المشرف على الهلاك ...

— ماذا فعلت به ؟ تكلم، ماذا قلت له عني ؟

و زاد السكين ضغطا ، فخرج لسانه و جحظت عيناه و أخذ يسعل بقوة و يحاول الكلام، فتخرج كلماته مبحوحة :

— زينة أرجوك ، إذا قتلتني فستقتلين رجلا يحبك..

و أحس بجسدها فوقه يرتعش و ينتفض بقوة ، و خفت حدة ضغط السكين على عنقه ، فأضاف لاهثا :

— إذا كنت فعلت شيئا أغضبك ، فبدافع حبي لك ، و رغبتي في الاحتفاظ بك لنفسي ، أنت تعلمين أنني رجل وحيد و شقي .

و فاضت عينا زينة ، و سقط السكين من يدها ، و هي تضرب على صدره بقبضتهيها و تردد :

— كذاب ! كذاب !




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 16-05-14, 12:07 PM   #24

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



فأمسك هو بيدها ، و أزالها عنه برفق ، و نهض فبقيت هي جائية .

و غادر الغرفة ، و أحكم اقفال الباب خلفه ، و خرج إلى الحديقة ليفكر بوضوح فيما سيفعله بجثة أسيره مجاهد ، كان عليه أن يقرر ما إذا كان الأفضل التخلص من الجثة عن طريق القائها داخل السائل المفترس ، و بذلك ستختفي كل آثارها إلى الأبد ، أو باخراجها إلى ضاحية البحر ، حيث تكثر الكهوف و المخابىء الموبوءة بالمجرمين ، و السكارى ، و المقامرين و اللصوص ، و القاؤها هناك لتكتشفها الشرطة ، و تتحدث عنها الصحافة ، و بذلك يثبت لزينة براءته من دم مجاهد ، أو يبذر الشك في تهمتها اياه ، على الاقل .

و مال إلى الرأي الخير ، رغم ما ينطوي عليه من مغامرة و مفاجآت ، و قبل أن ينفذه ، أخرج سيارته ، و توجه نحو الشاطىء حيث مسح بعناية تضاريسه و تعاريجه ، و لم يتوقف عند اي نقطة حتى لا يثير شك أحد من العابرين .

وعرج في طريق عودته ، على سوق الفواكه و الزهور ، فاشترى باقة ندية من الورود و سلة من الفواكه المنوعة ، و عاد إلى الدار بفكرة واضحة عما يجب أن يفعله تلك الليلة .

و نقر باب زينة بلطف ثم فتحه و دخل عليها فإذا هي ملقاة على وجهها على السرير بملابسها الزرقاء ،و رن جرس حاد في رأسه خشية أن تكون ارتكبت في نفسها حماقة ما ، و ندم على ترك أدوات الأكل معها داخل الشقة ، و دق قلبه بسرعة و هو يقترب منها و يناديها :

— زينة ، زينة .


و لحسن حظه ، رفعت رأسها و التفتت نحوه ، وعلى وجهها آثار البكاء الطويل ، و النوم العميق .

و تنفس اسماعييل الصعداء ، و سارع بوضع باق الورد ، و سلة الفواكه على المائدة التي كانت ما تزال كما تركها منذ الفطور ، و اقترب منها بحذر ، و جلس على حافة السرير ، و وضع يده فوق رأسها و ظهرها في حنان كبير ، و قال :

— كيف تحسين ؟ لابد أنك جائعة و عطشى من كثرة البكاء ، لقد جئتك ببعض الفواكه و الزهور ، قومي ، إنه يوم صيفي جميل ، و إذا طاوعتني فسوف نتغدى إلى جانب المسبح على السطح، قومي سيعجبك ذلك .

و نهض فأمسك بيدها ، و أجلسها ، فوقفت ، و اسرعت نحو الحمام و يداها على وجهها ، و جمع هو أدوات الفطور وسط غطاء المائدة ، و وضعه داخل مصعد صغير يؤدي إلى المطبخ الرئيسي ، و ضغط الزر فتحركت الصرة إلى فوق .

و خرجت زينة ، و قد عاد إلى وجهها بعض الانتعاش و النضارة ، ففتح لها الباب ، و قادها إلى مصعد انفتح أمام اسماعيل آليا.

و لاحظت زينة ذلك من خلال غشاوة الضباب التي ملأت رأسها منذ وقوعها في شرك اسماعيل ، و قررت أن تراقب حركاته بدقة عند فتح الأبواب .

فأشار لها فدخلت ، و انقفلت الباب ، فضغط اسماعيل على الزر الأعلى و صعد بهما المصعد إلى السطح و توقف ، و انفتحت بابه على مسبح على شكل قيثارة ماؤءه الصافي في لون اللازورد الفاتح. و بهرها المشهد فنسيت حالها لحظة و هي تجيل بصرها بين الأرائك البديعة التي اختلط في أشكالها الجمال بالراحة ، و بين الزهريات و النباتات الاستوائية الغريبة الزهور و الأوراق. يحيط بذلك كله سور من معدن زجاجي شفاف .

و قادها اسماعيل إلى مقصف على الطرف الجنوبي للمسبح ، يمتد أمامه عريش من القلع الأبيض المزخرف بمشاهد بحرية و حيوانات أسطورية ، و دخل المقصف الذي كان مزودا بكل ما يحتاج إليه مطعم صغير ، و ناداها :

— زينة ، ماذا تريدين للغذاء ؟

و لم تجب ، فخرج يبحث عنها فإذا هي تقف أمام السور الزجاجي تنظر إلى معالم مدينة الدار البيضاء الممتدة أمامها كبحر من الاسمنت الأبيض .

و نظر إليها و هي مستغرقة في تأملها ، ثم إلى المنظر ، و علق :

— مشهد أخاذ ، أليس كذلك ؟ و لكن من بعيد فقط ، لذلك وضعت بيني و بينه هذا السور الشفاف ، و لا يغريك مظهره الزجاجي الهش ، فهو في صلابة الفولاذ ، و ينطبق عليه ما ينطبق على بقية الدار ، فهذا السطح مقفل و محروس اليكترونيا ، بحيث يستهحيل اجتيازه من الداخل او الخارج .

فالتفتت نحوه ، و نطقت لأول مرة :

— هل هذا تهديد غير مباشر لي حتى لا أحاول الهرب ؟

فرد معتذرا :

— آسف ، لم أقصد ذلك ، كنت فقط أشرح لك مزايا الدار ، هذه بعض عيوب المهندسين .

ثم اضاف مغيرا الموضوع :

— جئت لأسألك ماذا تريدين للغداء ؟

فقالت و هي تنطر بعيدا :

— لا شيء ، لست جائعة .

و لم يناقشها ، بل انصرف قائلا :

— سأقلي بعض السمك ، أعرف أنه سيعجبك ، و سوف تغيرين رأيك .

و على المائدة ، جلست زينة تنظر إلى طبقها في شبه اغفاءة ، فدق اسماعيل بسكينه على الكأس أمامه ليلفت انتباهها و قال مشيرا إلى السمكات الثلاث على الصحن :

— ذوقيه ، سيعجبك ، صدقيني ، أنا من طنجة ، و السمك اختصاصنا.

فرفعت رأسها نحوه :

— كيف يطيب لي الأكل ، و أنا لا أعرف مصيري ؟

فمال برأسه جانبا و قال مهدئا :

— زينة ، هذا تهويل لا داعي له ، من سمع شكواك يقول انك في زنزانة أو دهليز من دهاليز القرون الوسطى ، و ليس على حافة مسبح بأجمل بناية في المدينة ، كثير من النساء يحلمن بمثل هذا الأسر و يتمنينه ..

فردت بقوة :

— ليس أنا ، أنا لم أحلم بهذا و لم أتمنه ، أنا فتاة مسكينة ، و من عائلة متواضعة ، أحلامي على قد حالي ، و حتى لو خطبتني من عائلتي ، و جئت بي إلى هنا ، فسأجد نفسي في غير مكاني .

فنظر إليها مبتسما :

— أليس لك طموح بالمرة ؟

— لا .

فأشار إلى طبقها بسكينه .

— كلي الآن ، قبل أن يبرد السمك ، و اعدك أن نناقش هذا الموضوع بتوسع قريبا .



و في ساعة متأخرة من تلك الليلة ، خرج اسماعيل بسيارته الثانية الصغيرة البيضاء متوجها نحو شاطىء الضاحية الجنوبية ، متفاديا الطرق الرئيسية ، و الشوارع المضاءة و حين اقترب من مكان خال أبطأ السير ، و أطفأ النور تدريجيا ، ثم توقف .

و خرج من السيارة ، و نظر في كل اتجاه ، ثم فتح صندوقها ، و أمسك بالجثة من تحت الابطين ، و انطلق بدون نور بضعة كيلومترات حتى اختفى بين المنازل .

و في الصباح عادت الحياة إلى الدار البيضاء الغامضة الراقدة وسط الغابة و المحاطة بهالة من الأسوار الرهيبة .

عادت الخادم حليمة من عند اختها ، و فتح لها الحارس البوابة الخارجية ، فوقفت تتبادل معه التحيات ، و تسأله عن حركات السيد اسماعيل ، ثم دخلت المطبخ من بابه الخلفي لاعداد الفطور .

و دق جرس الباب مرارا ، فجاء غلام الدكان ، و الجزار و الخضار يحملون تموين الأسبوع كما اعتادوا كل اثنين صباحا .

و كان اسماعيل يتفرج من سريره على حركة الباب من خلال جهاز تلفزيوني داخلي ، و يسمع الأحاديث ، حتى الهامسة منها ، عن طريق توجيه آلة الانصات الحادة ناحية المتكلم .

و بعد لحظة مد يده فضغط زرا آخر ، فبدت له غرفة زينة خالية فهبط قلبه و لكن سرعان ما اطمأن حين رآها تخرج من الحمام و قد غسلت شعرها و لفته في فوطة و التفت في معطف قطني ، و جلست إلى مرآة الزينة تنظر إلى وجهها ، و كأنها سيدة بيت عادية ليس ببالها ما يقلق .

و سرح اسماعيل في حلم من أحلام يقظته يتخيلها ملكا خالصا له ، و تحبه و لا تريد فراقه ، و قد اصبح مجاهد ذكرى سقيمة ، بالية مكروهة في حياتها ، ترفض حتى أن تخطر على بالها .

و تذكر الليلة التي استسلمت له فيها في غرفته الوردية . و تمنى لو أنها فعلت ذلك حبا له و رغبة في الاستمتاع به ، بدل أن تكون فعلته حبا لصديقها الوسخ ، الأهوج المتمرد، و تمنى لن أنها رفضت الاستسلام له ، اذن لكان ذلك دليلا على عدم حرصها على حرية مجاهد و حياته ، و لكن استسلامها له مزج استمتاعه بجسدها الغض الملتهب ، بألم الغيرة و الحسد لمجاهد الذي كان يمتلك قلبها و وجدانها ، و ربما كان الاستمتاع الذي لم تستطع اخفاءه حين كانت معه ، كان استمتاعا بمجاهد ، و ليس به هو ، كانت تتخيل جسد مجاهد بين ذراعيها ، و رائحته في أنفها ، و صوته في سمعها معوضة بصورته في خيالها ، عن واقع جسد اسماعيل ، وجوده بأكمله :

إذ كان ذلك ما حدث فعلا ، فما اتعس حظه !

و لكنه وجد العزاء في أنه لا يمكن التأكد من أن هذا ما حدث فعلا ، فقد تكون أعجبت به هو لذاته ، و قد لا تكون واقعة في حب مجاهد بالشكل الذي يتصوره !


و أقوى عزاء له ، هو انتحار مجاهد ، و انفجاره بذلك الشكل البشع ! فقد أكلت الغيرة قلبه ، و أحرقت أعصابه و هو يشاهد ما كان يحدث في الغرفة الوردية بينه و بينها ، و لو عرف ما كان يعانيه اسماعيل من غيرة منه ، وحسد له على حبها الحقيقي له هو ، لهدأت اعصابه ، و لشعر في ساعة قهره و عجزه ، بكثير من العزاء و الانتصار .

و ضغط على زر آخر فظهرت على الشاشة الصغيرة صورة حليمة و هي تدور في المطبخ .

— صباح الخير حليمة .

فرفعت وجهها نحو مكبر الصوت و عدسة الكاميرا :

— صباح الخير سيدي اسماعيل ، كيف اصبحت ؟

— الحمد لله ، كيف وجدت ابنتك ؟

— بخير ، يا سيدي و تسلم عليك .

— بلغيها تحياتي ، أريد إعداد الفطور لاثنين و ارساله بالمصعد إلى جناح الضيوف التحتي .

— حالا يا سيدي .

و ضغط زرا آخر فعادت صورة زينة ، و هي تخرج من الدولاب ملابسها الزرقاء المهترئة ، فحياها بصوت مرح :

— صباح الخير ، يا زينة .

فقفزت في موقفها فزعا ، و غطت صدرها نصف المكشوف بحركة آلية من يدها ، و نظرت حواليها تبحث عن مصدر الصوت، و أخيرا لاحظت صورة اسماعيل على شاشة التلفزيون ، و هو يبتسم لها :

— آسف لافزاعك ، كيف اصبحت ؟

— لم أنم حتى الصبح .

فضحك اسماعيل ، و أضاف :

— بالصحة الحمام ، و لا داعي للبس تلك الملابس ، اتركيها هناك لتغتسل ، و البسي غيرها ، ستجدين في الدولاب شيئا يناسبك .

— شكرا ، سأغسلها بنفسي حالما أخرج .

— كما تشائين ، الفطور جاهز ، و سأنزل حالا لنفطر معا .

و اختفت صورته ، و قام فدخل الحمام .

و على مائدة الفطور ، سألته بقلق :

— ماذا قررت بشاأاني ؟

و انشغل عن جوابها بقطع البيضة المقلية فوق شطيرة الخبز المحمر ، و لاحظت لأول مرة أنه يستعمل سكينا و شوكة من البلاستيك فأعادت السؤال :

— هل سمعتني ؟ ماذا قررت في شأني ؟

— لا شيء.

— ماذا تعني بلا شيء ؟

— قلت لك سنناقش ذلك بتوسع قريب ، فاعطيني مهلة من فضلك .

— قريبا ؟ متى ؟ الليلة ؟ غدا ؟ بعد اسبوع ؟ أو شهر ؟

— لا ادري ، الأمر يحتاج إلى تفكير طويل .

— اتعرف انك تعرض وضعك لحرج كبير ، و ربما لخطر أكبر باستمرارك في حجزي هذا ؟ ثم ان والدتي لا بد أنها قلقة علي لللغاية ، و ربما أخبرت الشرطة باختفائي أنا و مجاهد ، و ماذا لو اخبرها مجاهد بمكاني ؟

فقاطعها اسماعيل :

— لن يخبرها ، و لن يتصل بها ؟

— كيف عرفت ؟

— سأقول لك ، إذا وعدتني ألا تغضبي و تهاجميني كالمرة السابقة .

— لا تخش شيئا ، لم يبق لي ما أهاجمك به غير معالق البلاستيك .

فضحك اسماعيل ، و قال بجد :

— مجاهد ، الذي تعرفينه تغير تماما ، لقد استطعت اقناعه بأخذ عمل جيد بالخارج ، و حصلت له على جواز سفر ، و أعطيته مبلغا من المال و تذكرة سفر ، و نقلته من هنا رأسا على المطار حيث سافر تاركا المغرب وراءه دون دمعة حسرة لفرقه .

و فتحت فمها للمفاجأة ، فقال مجهزا :

— أنت تعرفين أن العمل بالخارج كان نقطة ضعفه الكبرى .

و لم تستطع هي انكار ذلك ، و حتى لا تنهزم امام منطقه ، جادلت :

— و ماذا لو عاد من السفر ، و أخل بالاتفاق ،و أخبر الشرطة ؟

فقال اسماعيل بثقة كبيرة :

— لن يفعل من ذلك شيء ، و قد اخذت حيطتي للأمر على أي حال ، و اقسمت له ، على نفس المصحف الذي اقسم لي عليه انه لن يفعل ، بأن اتخلص منك بقتلك إذا شممت رائحة خيانة منه ..

و رشف من فنجان قهوته ، و نفخ البخار ، و أضاف :

— افهمت الآن لماذا يجب أن ننتظر قليلا لنناقش موضوع إطلاق سراحك ؟

فجحدته بنظره متوحشة يائسة :

— إذن انت لا تنوي اطلاق سراحي بالمرة ، تريد إبقائي هنا رغم ارادتي ، و إلى آخر حياتك أو حياتي .

فقال ببرودة :

— إذا لم تتركي لي أي خيار .

فوقفت في مكانها غاضبة :

— أنت مجنون !

و نهض هو بسرعة ، و دفع الكرسي إلى الوراء و ادخل يده في جيبه و أمسك بأنبوب الغاز المسكن ، استعدادا لرشه في وجهها ، إذا هي هاجمته، و قال بصوت موزون يخفي غضبا عميقا :

— حذار من أن تكرري تلك الكلمة مرة أخرى !

فابتسمت زينة ابتسامة انتصار شرسة ، و قالت بتشف كبير :

— اذن انت تعرف انك مجنون !

فاتسعت عيناه عن غضب وحشي ، و هو يخرج الابنوب من جيبه و يسير نحوها مكررا :

— اخرسي ، اخرسي ، اخرسي !

فتراجعت ، و هي و ابتسامة التشفي ما تزال على شفتيها ، و في عينيها ، و هي تقول :

— لن أكررها ، لا ، لن أكررها ، و الا كنت أنا الاخرى مجنونة .

و هنا لاحظت زينة الأنبوب ، لأول مرة ، مصوبا نحو وجهها ، فأصابها ذعر شديد و تراجعت بسرعة حتى التصقت بالحائط ، و هو يقرب منها مرددا :

— ما أبشع وجهك ، و ما أخبث ابتسامتك !

و ضغط على زر الأنبوب ، فانطلق منه بخار نحو خياشيم زينة و فمها المفتوح بالصراخ ، فهوت على الأرض مغمضة العينين فاقدة الوعي .

و خرج اسماعيل ، و اقفل الباب وراءه بعنف ، و هو يرتجف من الانفعال ، هذه أول مرة ينفعل فيها مع أحد أسراه و يفقد أعصابه ، كانت اليد العليا دائما له عليهم ، و كان يتفرج عليهم و هم يستعطفون ، و يستنجدون و يستخذون ، فيحس بتلك العين الكبيرة ، المفتوحة أبدا داخل دماغه ، تزيد انفتاحا ، و بريقا فيمد اصبعه إى الزر الاحمر ، فيضغطه ، و يرتفع السائل الناري المفترس ليلتهم جسد اللص الأسير ، ابتداء من قدميه ، إلى شعر رأسه ، و حينئذ تغمض العين الكبيرة داخل دماغه في ارتياح ، و نشوة و اغتباط . و تسترخي اعصابه هو ، فيتحول إلى انسان لين ناعم مرح .

فماذا أصابه اليوم ؟

لقد خرج من عند أسيرته هذه كسيرا مهزوما ، و كان بامكانه ، كما حثته العين الكبيرة الجاحظة بداخله ، أن يلقي بجسدها المخدر إلى اللجة الجهنمية لتحولها إلى ماء كما فعلت بعشرات الجثث قبلها، فماذا يمنعه من ذلك ؟









انتهى الجزء .
دمتم في رعاية الله و حفظه ..







لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 16-05-14, 12:11 PM   #25

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


ــــــــــــــ

الــجـــزء 12 :







لقد خرج من عند أسيرته هذه كسيرا مهزوما ، و كان بامكانه ، كما حثته العين الكبيرة الجاحظة بداخله ، أن يلقي بجسدها المخدر إلى اللجة الجهنمية لتحولها إلى ماء كما فعلت بعشرات الجثث قبلها، فماذا يمنعه من ذلك ؟

إنها ليست لصة ، لم تقع في فخه بالطريقة العادية ، بل دخلت من الباب ، و ارتفع بداخله صوت آخر يفند هذا المنطق :

" بل لأنك تحبها ، تحبها ، تحبها ! "

و ترددت اصداء الكلمة داخل رأسه ، فصعد يجري إلى غرفة نومه ، و ارتمى على السرير هربا من الصوت ، و هو يردد :

" بل اكرهها ، أكرهها ، أكرهها ! "

و مد يده إلى جانب السرير ، فضغط على احد الأزرار ، كما كان يفعل في لحظات ضيقه الكبير ، فاظلمت الغرفة ، و انبعثت انغام من الموسيقى التصويرية الرقيقة الحالمة من كل مكان ممتزجة بخرير الشلالات ، و زقزقة الشلالات ، و زقزقة العصافير ، و انطبعت على الحائط الكبير أمامه صور شفافة بالأحجام الطبيعية لزوجته القتيلة " كارين " ، و طفلته الصغيرة ، في أوضاع شاعرية صامتة أو مرحة باسمة ، أو متحركة أو ساكنة تنطق بالسعادة و الدفء و الجمال .

و تخللت انغام الموسيقى أصوات كارين ، و ضحكات الطفلة و هي تستجيب لمناغاة أمها ، و قهقهتها و هي ترفعها في الهواء.

و تمنى من أعماقه لو بكي ، لو انفجرت دموعه ، و تهاطلت تهاطل الغيث من سحابة مثقلة سوداء ، إذن لانطفأت النيران المضطربة في آفاق روحه ، و لنبتت زهور الرحمة في ارضها ، و انقشعت سحائب الدخان الكثيف عن فضائها لتكشف عن زرقة المساء و جمال الكواكب ، و حلكة الليل ، و نعومة الهواء ، بدل هذه الدماء التي ما يفتأ يفسحها فلا تكاد تخمد النار حتى تزيدها اشتعالا .

ووجد نفسه يردد وعده القديم لطفلته و لزوجته كارين :

" سأبكي يوم ترجعين ! "

و رن جرس التلفون ، فأخرجه من كابوسه القائظ ، و مد يده فضغط زر الاستماع على جهاز بدون سماعة و تكلم :

— نعم .

و جاءه صوت زبيدة واضحا ، ناعما ، مرحا كعادته كل صباح ، فقد كانت عصفورا مبكرا ، تحب اليقظة و الحياة ، و لا تنام إلا اضطرارا . قالت مزقزقة :

— صباح الخير !

— صباح الخير ، زبيدة .

— هل أيقظتك ؟

— لا ، أبدا ، أنا صاح منذ السابعة .

و أحس في غيبوبته كأنها معه داخل الغرفة تتجسس على أحاسيسه و تتفرج على عواطفه العارية ، فمد يدا مرتعشة ، فأطفأ الموسيقى و الصور و أعاد النور تدريجيا إلى الغرفة .

و جاءه صوت زبيدة الرقيق الحازم :

— ناديتك لاذكرك بغذاء الاجتماع مع المهندس ، اليوم بمطعم " المجرة " بفندق المنارة ، على الساعة الثانية عشرة و النصف .

— شكرا يا زبيدة ، سأكون هناك .

— لا تنس الخرائط .

— شكرا .

— صوتك متهدج ، هل بك زكام ؟

— لا.

— لا بد أنه التلفون . إذن إلى اللقاء .

— مع السلامة .

و اقفل الجهاز و نهض شاكرا لزبيدة إخراجه من كابوسه الذي لم يكن يعتريه إلا عند حالة الوحدة الحادة ، و في الليل فقط .

و في الغرفة الخاصة برجال الأعمال " المجرة " جلست زبيدة و ابراهيم ، و المهندس السعودي الشاب ، أمين ناصر الاختصاصي في هندسة المنازل الشمسية ، ينصتون إلى اسماعيل البناء ، و هو يشرح على خريطة ملصقة بسبورة أهدافه من مشروعه الجديد الذي ينوي تجربته قبل تقديمه للمعرض الدولي للمنازل الشمسية .

" المنزل ، كما ترونه ، سيكفي لعائلة من أربعة إلى ستة أفراد ، و سيستعمل الطاقة الشمسية في التدفئة ، و التبريد ، و تسخين الماء ، و الطبخ ، و التصبين ، و الاضاءة ، و تشغيل جهازين للتلفزيون ، و راديو في نفس الوقت ، إلى جانب تشغيل جهاز تصفية المياه المستعملة ، و استغلالها لسقي الحديقة ، و غسل الارض ، و السيارة و غير ذلك من الاغراض باستثناء الطبخ ، و الاغتسال ، و الشرب و ليس لأنها غير صالحة لذلك ، و لكن فقط لأن الناس ينفرون منها .

و قلب الصفحة :

" هذا سطح المنزل ، و السقف الهرمي المستطيل يعكس اشعة الصباح ، و الزوال و المساء ، و يمتص عن طريق المرايا المزودة بخلايا خاصة شديدة الحساسية حرارة الشمس مهما بلغ ضعفها ، و مهما كانت السماء غائمة ، لاستعمالها في تسخين الماء لدرجة الغليان ، و استغلال البخار الناتج لتشغيل المحركات ، و توليد الطاقة التي يحتاج إليها المنزل .

و قلب الصفحة :

" هذا جزء الدار المدفون في الارض ، و هذا جهاز تكرير المياه المستعملة و إرسالها إلى الخزان بالسطح ، و هذا هو بئر المياه الحارة ، لن نحتاج إلى ربط المنزل بشبكة المياه الحارة للتخفيف من التلويث . "

و كاد يقلب الصفحة ، فاستوقفته زبيدة رافعة يدها لتسأل :

— ذلك الأنبوب الواسع الذي ينزل من السطح إلى القبو ، و يصب في ذلك البرميل .

فقاطع اسماعيل شارحا :

— نسيت أن أشرح ذلك ، شكرا يا زبيدة ، هذا نظام جديد تحت التجربة ، لاعدام القمامة محليا ، عن طريق إذابتها كيماويا ، فجميع الازبال المنزلية العادية قابلة للاحتراق أو الانصهار في محاليل كيماوية قوية .

فقال ابراهيم :

— ألا يسبب ذلك خطرا على السكان ، الأطفال على الأقل ؟

فرد المهندس السعودي :

— أبدا ، سيكون مأمونا للغاية ، حتى بالنسبة للحيوانات المنزلية الاليفة .

فسألت زبيدة :

— و ماذا عن الابخرة الكيماوية ؟ ألا تكون خطرا على السكان ، و عاملا من عوامل التلوث ؟

فأجاب اسماعيل :

— ابدا ، فالانبوب يحتوي على صمامات عدة لا تسمح للأبخرة بالصعود بالمرة ، و حتى لو حدثت هزة ارضية ، فالوحدة السكنية ستبقى قائمة سليمة . و حتى لو حدث انفجار داخل الدار ، فإن أوعية الكيماويات تنسد آليا .

و رفع راسه باسما :

— لم نجرب الانفجار بعد ، و لكنه احتمال يجب أخذه في الاعتبار في عصرنا هذا .

و قلب الصفحة ليكشف عن صورة كاملة لمظهر المنزل الخارجي الأنيق جدا ، و هو محمول على ظهر جمل كالهودج ، و قال :

— هناك إضافات أخرى ، و كماليات ، مثل أجهزة خاصة لاستغلال طاقة الريح في المناطق التي تكثر فيها الرياح ، و أجهزة أخرى لاستغلال طاقة الموج بالنسبة للساكنين على الشواطىء ، و إذا لم يكن هذا كافيا ، فهناك أجهزة تحت الدرس لاستغلال الجو القاري البارد ليلا ، و الساخن نهارا ، عن طريق استغلال تقلص بعض المعادن أو السوائل بفعل البرد ، و تمددها بفعل الحرارة .

" و هذا أيتها الآنسة ، و السادة ما يجعل من منزلنا هذا سكنا فريدا من نوعه . فهو مستقل في احتياجاته ، بحيث لا يكلف المدينة شيئا .

و عقب المهندس أمين الناصر ، موجها الكلام إلى زبيدة التي أسرت عينيه ببريق عينيها السوداوين ، الصافيتين ، المشرفتين على الابتسام ، و قال :

— إذا نجحت التجربة العلمية التي سنقوم بها ببناء نسخ طبق الأصل لهذا التصميم في ضواحي المدن المغربية ، فسوف نشن حملة إعلام عالمية للتعريف بمزاياه و حينئذ سيكون علينا أن نبني مصانع البناء الجاهز في جميع الدول ، لافراغ منزلنا النموذجي في قوالب جاهزة ، بحيث يصبح صنعه كطبع عشرات آلاف النسخ من الكتاب الواحد .

و سكت لحظة مستمرئا مفعول كلماته على وجه زبيدة الشفاف ، ثم أضاف :

— سنقضي على أزمة السكن في العالم بأسره.

فمد ابراهيم يده ، و نقت بقبضته على رأس زبيدة ، و علق مازحا :

— لنلمس الخشب ، حتى لا يسبقنا أحد لتسجيله !

و مدت زبيدة يدها ، هي الأخرى ، وسط ضحكات الجميع ، و نقرت رأس ابراهيم قائلة :

— الخشب المسوس أكثر جلبا للحظ !





لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 16-05-14, 12:13 PM   #26

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي





و ضحك أمين ناصر الذي لم يكن يستطيع إخفاء اعجابه بزبيدة الأنيقة ، والذكية ، و كأنما فوجىء بمرحها و خفة دمها .

و دخل النادل بأواني الطعام ، فقام الجميع للجلوس حول المائدة .

و بعد الغذاء ، ودع اسماعيل الجماعة و عاد إلى داره ليعد حقائب السفر .

و في الطريق ، توقف عند مكتبة ، و اشترى نسخة من كتاب " علم نفس السجن " ، ليقرأه في الطائرات و الفنادق ، أثناء أسفاره عبر أقاليم المملكة في مهمة اختيار بقع البناء ، و الاعداد لمشروعه الكبير .

و في غرفة نومه فتح شاشة التلفزيون الداخلي ، على غرفة زينة فوجدها تذرعها جيئة و ذهابا و كأنها لبؤة في قفص .

و مرة أخرى تصور وجهها ، و هي تصرخ فيه : " أنت مجنون " ثم تبتسم له ابتسامتها البشعة ، و تقول بلهجة من كشف السر الكبير : " إذن أنت تعرف أنك مجنون " !

و غلى الدم في عروقه ، و أطبق شفتيه على أن يجعلها تتوسل إليه و تستجدي رحمته و عفوه !

و في صباح الغد ، سافر صحبة زبيدة و أمين ناصر بطائرة خاصة إلى مراكش . و كان في انتظارهم مقاول محلي و سمسار ، فأخذهم رأسا إلى المكان الذي تتوفر فيه المواصفات التي اشترطها اسماعيل مسبقا .

و اشرفت زبيدة على توقيع عقود الشراء و البناء . و انتقل الجميع إلى قصر البديع لتناول الغذاء في مطعم الخيمة .

و في صباح الغد انتقل الفريق إلى أكادير حيث قاموا بنفس العملية .

و حرص اسماعيل على اخفاء عنوان كتابه عن سيكولوجية السجن عن زبيدة حتى لا يثير فضولها القديم ، و ينشط ذهنها الجهنمي ، فتصل إلى استنتاجات مقلقة لراحته . و عمد إلى تغليف الكتاب بورق سميك ، و عدم تركه لتفتيشها في أي مكان ، فكان يضعه في جيب سترته كلما انتهى من قراءته .

و سأله أمين ناصت مرة بطريقة عابرة ، بعد لحظة صمت أثناء حديتة مع زبيدة التي كانت تجلس دائما بينه و بين اسماعيل في الطائرة .

— طال عمرك ، ماذا تقرأ ، يا اسماعيل ؟

— رواية بوليسية .

— لابد أنها شيقة للغاية .

— فعلا .

و لم تقتنع زبيدة ، لم يسمح لها ذهنها الشكاك بالاقتناع ، و اغتنمت فرصة استغراق اسماعيل في القراءة ، فأخرجت مرآتها الصغيرة من حقيبة يدها ، و أخذت تنظر إلى وجهها ، و تميل برأسها ، متظاهرة بتفادي الأشعة حتى استرقت النظر إلى عنوان أحد الفصول بداخل الكتاب ، هو " الحبس الانفرادي " .

و دامت الرحلة ثلاثة و عشرين يوما ، زار فيها الثلاثي عشر مدن كبيرة و متوسطة على المحيط ، و على البحر الابيض ، و بالداخل . و تركوا التصميم النموذجي للمقاولين في كل من أكادير و مراكش و الجديدة و فاس و مكناس و الرباط و سلا و طنجة و تطوان و الناضور ، على أن يبدأ البناء في الحال .

و كان اسماعيل طوال الرحلة ممتنا للمهندس السعودي الشاب ، أمين ناصر ، على أخذه عبء زبيدة من فوق كاهله ، فكان يتركهما يتحدثان على موائد الكوكتيل بحانات الفنادق المعتمة ، العبقة بدخان السجائر ، و الموسيقى المعلبة ، و يصعد إلى غرفته لقراءة كتابه ، أو يخرج للتجول في المنطقة التي اختار فيها بقعة البناء ، و التي غالبا ما تكون موحشة خطيرة على المتجول المنفرد الغريب ، لكثرة اللصوص و قطاع الطرق ، و المقامرين و السكارى الذين تعج بهم الطرق بين المدينة ، و قرى الصفيح .

و كان دائما يتسلح بأنبوبه الغازي ، و يشعر بنشوة الصياد الذي اكتشف بقعة من البحر عامرة بالاسماك ، و يتخيل اعدادهم الهائلة التي ستقع في شراكه .

و أكد لنفسه انه بهذا التنظيم الجديد ، لابد سيقع في قبضته أحد اأفراد عصابة طنجة .

و رغم بعد هذه المنازل و انتشارها عبر مدن المملكة ، فإن جهازه الجديد لتسجيل اعترافات اللصوص الأسرى ، و ارسالها إليه بالتلفون في منزله بالدار البيضاء ، يسهل عليه مهمة المراقبة ، رغم خلو المنازل من السكان .

و في كل مساء ، بعد انتهاء العمل بالخارج ، كان اسماعيل يعود إلى غرفته بالفندق و يطلب داره بالدار البيضاء . كان تلفونه موصلا بجهاز إجابة آلي يختزن مكالمته و يعيدها عليه باشارة خاصة عبر التلفون ، و كان هو يسمع إلى المكالمات بصبر فارغ ، في انتظار إشارة شفرية معينة تخبره بما إذا كان قد وقع اسير جديد في أنبوب الاستنطاق .

و في الأسبوع الأول بكامله ، كانت الاشارة الشفرية سلبية ، و كان اسماعيل يضع السماعة في خيبة أمل ، و كأنه فتح صندوق بريده فلم يجد خطابا هاما كان ينتظره ، و كان يحس بصداع يتزايد كل يوم لا تأتي فيه الإشارة ، كان يحس بالعين العملاقة تتسع داخل رأسه و تتمدد حدنتها و تنفتح عروقها ، و تتوتر اعصابها ، و تحتقن ، و تجحظ حتى تكاد تنفجر ! و يؤرقه ذلك طوال الليل فيلجأ إلى الحبوب المنومة .

و في اليوم العاشر نادى داره من فندق ( عبر الاطلنطي ) بمكناس ، فسمع في نهاية الرسائل الشفوية نبض الاشارة الشفرية تبشره بوقوع صيدين ، و قبل أن يضع السماعة قبلها و هو يحس أن العين الداخلية أخذت تسمع نشوة و توقعا .

و عاد فرفع السماة و أخبر زبيدة بأنه عائد إلى الدار البيضاء في مهمة مستعجلة و سيعود في الصباح لمتابعة الرحلة . و طلب منها إشعار الطيار في الحال .

و في الطائرة بين مكناس و النواصر ، كان ينظر إلى الأفق المخضب و إلى الشمس ، كرة النار الخالدة ، و قد ثلم حذة أشعتها الغبار الكوني و أبخرة المحيط ، فتحولت إلى برتقالة باردة . كان ينظر إلى مشهد الغروب المترامي أمامه من ذلك الارتفاع ، و يفكر مذا سيفعل لو وقع في يده أحد أفراد العصابة ؟ و تين أنه يعيش من أجل ذلك الأمل ، و ذلك الأمل وحده !

و ماذا لو تحقق ؟

هل ستغمض العين الداخيلة و تنام ؟

أم هل ستختفي من داخله إلى الأبد ؟ أم ستبقى تطالب بدم اللصوص و المجرمين إلى أن تغرقه في بحر من الدم ، أو يكتشف أحد أمره ، و يصبح سره فضيحة القرن ؟

لم يستطع الإجابة على أي من هذه الاسئلة ، فقد كان يحس بأنه مسير بإرادة باردة لا يعرف كنهها و أن عليه أن يقبض على العصابة أولا ليعرف مصيره .






انتهى الجزء .
دمتم في رعاية الله و حفظه .







لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-05-14, 12:12 PM   #27

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


ــــــــــــ

الــجــزء 13 :







و في الطائرة بين مكناس و النواصر ، كان ينظر إلى الأفق المخضب و إلى الشمس ، كرة النار الخالدة ، و قد ثلم حذة أشعتها الغبار الكوني و أبخرة المحيط ، فتحولت إلى برتقالة باردة . كان ينظر إلى مشهد الغروب المترامي أمامه من ذلك الارتفاع ، و يفكر مذا سيفعل لو وقع في يده أحد أفراد العصابة ؟ و تين أنه يعيش من أجل ذلك الأمل ، و ذلك الأمل وحده !

و ماذا لو تحقق ؟

هل ستغمض العين الداخيلة و تنام ؟

أم هل ستختفي من داخله إلى الأبد ؟ أم ستبقى تطالب بدم اللصوص و المجرمين إلى أن تغرقه في بحر من الدم ، أو يكتشف أحد أمره ، و يصبح سره فضيحة القرن ؟

لم يستطع الإجابة على أي من هذه الاسئلة ، فقد كان يحس بأنه مسير بإرادة باردة لا يعرف كنهها و أن عليه أن يقبض على العصابة أولا ليعرف مصيره .


و فكر في أن " المنازل ـ المصايد " ستسهل تلك المهمة .

و في الدار ، نزل إلى القبو الاسفل ، و فتح باب الزنزانة ، و أضاء الحائط الشفاف ، فإذا الاثنان يقفان جنبا إلى جنب ، و بنظرة واحدة إلى شكلهما ، ادرك أنهما من لصوص اسواق البادية ، و انهما هاويان ، و لا يمكن ان يكونا من العصابة .

و فتح أولهما عينيه بصعوبة أمام الإضاءة المفاجئة ، أما الآخر فكان يبدو عليه أنه ميت، كانت الرغوة تملأ فمه المفتوح .

و ضغط اسماعيل على الزر الاحمر ، فسقطت جثة الميت في بئر الحامض ، و اهتز الآخر رعبا و توقعا !

و ضغط اسماعيل على زر الاستنطاق ، فبدأ الاسير يستغيث و يستجدي حالما سمع صوت التسجيل . واصابته نوبة هوس عنيفة ، فلم يجد اسماعيل فائدة من متابعة الاستنطاق على هذا الوحش البشري، فضغط الزر الاحمر ، و ألحقه بجثة صاحبه ليأخذ حمامه الأخير .

و صعد إلى غرفة نومه ، و فتح قناة الاتصال بغرفة زينة فوجدها في ملابسها الداخلية ، تجري حول المائدة بحركة رياضية ، ثم تتناول حبلا تقفز عليه ، و وقد وضعت على المائدة عدة علب للمأكولات ، و زجاجة ماء معدني ، و فتح الصوت فسمعها تصرخ بملء رئتيها لتطرد شبح العزلة و الانفراد .

و أطفأ الجهاز ، و نزل إلى سيارته قاصدا المطار حيث كان ينتظره طياره إلى جانب طائرة ( السيسنا ) الصغيرة .

و في منتصف الليل ، كان داخل فراشه النظيف بأطيل ( عبر الأطلنطي ) بمكناس ، و قد صفا ذهنه ، و نامت العين بداخله قريرة هانئة.

و في الصباح ، اقلعت بهم الطائرة نحو الشمال .

و انتهت الرحلة بعد ثلاثة و عشرين يوما من القفز من مدينة إلى أخرى عبر جبال الريف بالشمال.و عاد اسماعيل ليجد سيارته في انتظاره بموقف المطار .

و بعد أن وضع المهندس أمين ناصر ، بباب فندقه و زبيدة بباب عمارتها ، توجه نحو داره متوقعا أن يرى ثلاثة أضواء خضراء على سطحها.

و نزل إلى القبو الأسفل ، مباشرة ، بعد أن أخبر حليمة بوصوله ، و قصد غرفة الاستنطاق .

و خرج منها بعد ساعة بادى الارتخاء و الارتياح، كأنه وضع عبئا ثقيلا ، أو تخلص من ألم حاد .

و صعد إلى غرفة نومه ، و قلبه يدق خشية أن يكون حدث شيء ما لزينة أثناء غيابه ، و بمجرد دخوله الغرفة ، ضغط على أحد الأزرار فظهرت غرفة زينة على الشاشة ، و ظهرت هي جالسة القرفصاء على سريرها ، و رأسها على ركبتيها و كأنها ، في وضع من أوضاع ( اليوغا ) الهندية .

و قبل أن يضغط على زر الاتصال ، رفعت رأسها ، و نظرت حواليها بعينين غائرتين ، نظرات جنونية مذعورة ، و كأنها شعرت بأحد يراقبها ، و مدت يدها بحركة لا ارادية فغطت ساقيها العاريتين بأطراف قميصها الحريري الطويل .

و ضغط على زر الاتصال ، و نطق محاولا تقليد الادمغة الاليكترونية الناطقة ليمحو آثار انفعاله الشخصي :

— زينة ، هذا مجرد تسجيل ، لا تحاولي مخاطبتي ، حين تسمعين رنة الجرس تكلمي . اطلبي ما تحتاجين إليه .

و مس اصبعه فضغط زرا آخر ، سمع على إثره رنين جرس دخل غرفة زينة ، و كانت هي قد وقفت ، فانسدل القميص على قدميها ، و توجهت نحو جهاز التلفون تنظر إليه ون تحاول الكلام و لكنه كانت تفتح فمها دون جدوى ، و ارتعشت شفتاها ، و اهتز بدنها بكامله ، و طفرت دموعها بسرعة . و أخيرا استطاعت أن تهمس لنفسها :

— يا الهي ! يا الهي ! اسماعيل ؛ أرجوك ، تعال عندي ، أرجوك ، أريد أن أراك ، أريد أن أرى وجهك ، وجه أي بشر حي ! أريد ان اتحدث إليك ، أرجوك لا تتركني وحدي ، فقد كدت أخرج عن عقلي ! لقد ظننتك ذهبت و لن تعود إلى الابد . ظننت حادثا ما وقع إليك ، و بقيت هنا وحدي و الدار مقفلة علي كالمحارة ، أتذكر ما قلت لي عن انسداد الدار كالمحارة آليا ؟ ذلك ما ظننت . أنا آسفة إذا كنت أسأت إليك ، لقد ندمت ، و تبت على كل ما قلت ، ارجوك ، سامحني ، أرجوك !

و ركعت على ركبتيها ، و انخرطت في نحيب مر و هي تردد :

— سامحني ، أرجوك ، لا أريد الذهاب ، لا أريد الحرية ، كل ما أريده هو الا تتركني وحدي ، إفعل بي ما شئت ، و لكن لا تتركني وحدي ، فأنا أخاف من وحشة الوحدة ، أخاف من أن أكون جننت !

و رن الجرس مرة أخرى ، و وقف اسماعيل يغالب عواطفه ، و يحاول السيطرة على اعصابه ليقول وسط البوق بصوت ميكانيكي محايد :

— ستلبى جميع رغباتك الممكنة .

و رن الجرس منهيا التسجيل .

و بقي اسماعيل مسمرا في موقفه حتى أحس بألم في قدميه ، فاستلقى على سريره يحاول اتخاذ قرار في موضوع زينة ، و حين أرهقه التفكير ، استسلم للنوم.

و وجدت زينة نفسها وحدها ، مرة أخرى ، و نهضت متثاقلة من ركعتها و قد جفت الدموع على خديها ، و تدلى شعرها الأشعث على وجهها ، فقامت تنظر إلى نفسها في مرآة الحمام .

و أفزعها منظر وجهها في المرآة ، فتراجعت إلى الوراء قليلا ، و تذكرت صوت اسماعيل ، فعادت تمسح وجهها ، و تجمع شعرها إلى الوراء ، ثم فتحت ماء الحمام حتى امتلأ الحوض ، فرشت فيه بعض الزيوت المنعمة المعطرة ، و خرجت من قميصها ، و دخلت الحوض ، فاحتضنها ماؤه الساخن المعطر ، فاغمضت عينيها و راحت تحلم بدخول اسماعيل عليها ذلك المساء ، و تحاول تخيل وجهه الحزين المستطيل ، باسما و عينيه الواسعتين في عينيها أثناء لحظات الحب القصيرة التي قضتها بين أحضانه.

و جلست في مكانها فجأة و قد خامرها شك حاد في أن تكون سمعت صوتا ما في غرفتها .

فماذا كان ذلك ؟

هل كان ما سمعته مجرد سراب عابر في رحلتها الموحشة عبر هذه الصحراء التي لا شاطىء لها و لا حدود ؟

أم هل كان مجرد بوق باخرة خيالية مرت على بعد من طوفها التائه في ليل المحيط البهيم ؟

و نظرت من خلال البخار إلى أعلى المرآة ، حيث كانت تسجل الأيام بأحمر شفاهها بخط عمودي لكل يوم ، و كل أربعة خطوط عمودية يقطعها خط مائل لتسهيل عملية الحساب و حسبت المجموعات الخماسية للمرة الألف ، أربعة مجموعات ، و ثلاثة خطوط عمودية .. ثلاثة و عشرون يوما من الوحدة و الشك القاتل في أنها آخر من بقي على الارض مدفونا تحت انقاض زلزال.

و الآن ، لم يبق لها من الأمل في الحياة إلا هذا الصوت الميكانيكي الذي سمعته عبر البوق داخل غرفتها..و أصرت بكل قواها على أنه كان حقيقة لا وهما.. و راحت تدلك أطرافها و تغني حتى تطرد من ذهنها خفافيش الشك الحائمة ..

أفاق اسماعيل من رقدته العميقة و نظر إلى الساعة ؛ فإذا هي السابعة ، و لم يدر هل كانت الساعة السابعة صباحا أو مساء، حتى نظر إلى نفسه، فوجد أنه نائم بمجموع ملابسه ، فنهض يخلع ربطة عنقه ، و دخل الحمام و فتح الماء ليملأ الحوض.

و عاد إلى الغرفة فاتصل بحليمة عن طريق ( الانتركوم ) ، و طلب منها اعداد عشاء جيد لاثنين ، ثم ضغط على زر باصبع مترددة ، و وقف ينصت إلى اعادة تسجيل ما قالته زينة حين اتصل بها قبل أن ينام.

و دخل حوض الماء الساخن و هو ينصت إلى استغاثات زينة و استعطافها الدامع المتوسل، فأحس لوحشتها و ذعرها صدى بعيدا في نفسه ، أحس كأنها تعبر عن مشاعر وحدته الهائلة هو الآخر ، و شعر ، و هو يطل عليها من فم الحب المظلم السحيق ، و هي تستنجد و تستغيث ، أنه يقف إلى جانبها في قعر الجب يردد صرخاتها كصداها .

و لبس فوق منامته جلبابا من الصوف الأبيض الخفيف الموشع بالحرير ، و نزل إلى جناح زينة بالقبو الأول.

و طرق بابها ، فسمع شهقة المفاجأة ، ثم حركات يدها على الباب و هي تحاول فتحه دون جدوى، فقد كان يفتح من الخارج فقط ، أما من الداخل فكان لا ينفتح إلا باشارة خاصة من اسماعيل.

و انفتح الباب ، و وقف اسماعيل ينظر إليها و قد زينت وجهها ، و لبست قفطانا أخضر فاتحا خفيفا ، و تحزمت بمضمة حرير ، و وقفت هي تنظر إليه غير مصدقة ، و قد بدأت عيناها تغرورقان.

و دخل هو و أقفل الباب خلفه، قائلا :

— سمعت نداءك فجئت ، كيف أنت ؟





لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-05-14, 12:14 PM   #28

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي








فطوقته بذراعيها ، و أجهشت باكية :

— شكرا لك ، شكرا على قدومك ! لا تتركني وحدي أبدا بعد الآن ، أرجوك يا اسماعيل ، سأكون أمة طائعة لك ، و جارية ملك بيمينك ، افعل بي ما تشاء ، و لكن لا تتركني وحدي.

فمسح ظهرها بيديه و هو يقاوم غصة في حلقه :

— لا تخافي ، لن تبقي وحيدة بعد اليوم ، إذا احسنت التصرف .

فقالت و هي ما تزال متمسكة به :

— هل ما زلت غاضبا علي ؟

— لننس ما حدث ، و نبدأ من جديد ، فقد ندمت على ما فرط منك و اعتذرت .

فقاطعته :

— و عوقبت عليه بالدفن حية !

و قد أشرفت غير ما مرة على الجنون ، و لا أدري كيف بقيت على قيد الحياة !

همس لها :

— لا خوف عليك بعد الآن ، حين خرجت من هنا لم أكن أفكر في العودة إليك أبدا ، و سافرت في بعض أعمالي ، و لا اكتمك أنني تمنيت في البداية أن اجدك ميتة حين أعود .

فنظرت إليه بعينين حزينتين :

— هكذا. إلى هذا الحد بلغ غضبك علي ؟

و تراجعت فجلست على حافة السرير :

— لقد كادت أمنيتك تتحقق .

— كيف ؟

— مرضت في الاسبوع الثاني لغيابك ، أصبت بنوبات من الدوار و القيء فظننت أنني سأموت ، و حاولت الاتصال بالعالم الخارجي بكل وسيلة ممكنة ، فلم أفلح. هذه الدار ، حقيقة محارة مقفلة ، كما قلت ، داخلها مفقود، و الخارج منها كأنه مولود .

فابتسم اسماعيل ليطرد سحابة الغم المعلقة بجو الغرفة، و قال :

— لعل سبب ما أصابك هو أكل المعلبات ، المهم ، من الآن فصاعدا ، لن تأكلي إلا الطازج من اللحوم و الخضراوات، ابتداء من الآن.

و نظر إلى ساعته ، و ذهب ففتح باب مصعد المطبخ ،و أخرج الصينية التي نزلت ساخنة لتوها ، و وضعها على المائدة.

و لاحظ تغييرا ما على مظهرها ، و هي جالسة أمامه تأكل ، دون أن يعرف نوعه بالضبط ، فسألها :

— تغيرت ، و لكن لا أدري كيف .

فأشارت إلى شعرها :

— لعله شعري .

فتذكر :

— تماما ، كان مبلولا أو مخرصا ، فماذا حدث له ؟

— غسلته فعاد إلى أصله خيوطا مستقيمة متهدلة .

و لم تخفض عينيها عن وجهه طوال العشاء ، كانت تخشى أن ترمش فيختفي كجني قصص الأطفال ، و كانت تستمتع بأنس وجوده معها و كأنها تعب من ينبوع ماء معين بعد ظمإ طويل.

كانت الغرفة ممتلئة به. جاءت معه الموسيقى الحالمة ، و ظهرت الصورة على جهاز التلفزيون بعد أن كان صندوقا ميتا طول غيابه ، رغم محاولاتها المتكررة معه، و جاء العطر ، و الشموع ، و الزهور ، وفوق كل ذلك صوت الرجل ، و رائحة الرجولة ، و هالة الجاذبية المحيطة به .

و كان يعذبها الخوف من وداعه لها ، و صعوده إلى غرفة نومه ، ففكرت في أقصر الطرق لاستبقائه.

و حين انتهيا من العشاء ، قامت فأشعلت له سيجارة ، و أمسكت بيده و جذبته نحو الأريكة ، و جلست إلى جانبه ملتصقة به ، و قالت :

— الآن يمكنني أن اقول بكل قوة : إنني أسعد امرأة في العالم ، على الأقل هذه اللحظة .

— حقا ؟ ألا يمكن أن تكوني أسعد بالخارج ؟

فحركت رأسها بنفي قاطع :

— أبدا ، لم أعد أذكر ما هو الخارج ، و لم يعد يهمني ، ما دمت أنت بجانبي فلن أطلب الذهاب أبدا ، أبدا .

و مالت فطبعت على شفتيه قبلة خفيفة ، فضمها هو إلى صدره ثم ارسلها فقالت :

— حدثني عن نفسك ، أريد أن أعرف كل شيء عنك.

فلم يزد على أن ابتسم لها ، و نفث دخان السيجارة في الهواء ، فأضافت :

— إذا أردت . و سأحكي لك أنا بدوري ، كل شيء عن حياتي ، سأبوح لك بجميع أسراري ، و حتى عقدي و مخاوفي و نقائصي . و أرجو ألا يبعدك ذلك عني .

و ضحكت و دفنت وجهها في صدره ، و قد عاد إليها بعض مرحها و ظرفها السابق . و قالت :

— الإنسان يحتاج إلى الانسان ، و خصوصا المرأة ، تحتاج إلى الكلام ، إلى الاتصال بالناس ، و ليس اعرف مني الآن ، و بعد هذه التجربة ، بهذه الحقيقة .

و مسحت خده بيدها و قالت :

— ألا تشعر أنت كذلك بهذا الشعور أحيانا ؟ ألا تحس بالحاجة إلى تفريغ نفسك مع صديق حميم أو صديقة ؟

فمط اسماعيل شفتيه و قال :

— ليس لدي أصدقاء ..

فأحست بنبرة المرارة مكبوتة في كلماته فوضعت يدها على صدره ، قائلة :

— أنا آسفة .. لم أكن أريد إحراجك.

فرد بهدوء :

— لم تحرجيني بالمرة .

فعادت إلى مرحها و قالت متطوعة :

— أنا أكون صديقتك .. فحدثني بجميع أسرارك ، و أفكارك ، و حتى عقدك و نقائصك ، إذا كان ذلك سيريحك... و ستجدني بئرا مغلقة .. و لن أخرج من هنا لأحكي لأحد على أي حال.

و باتا تلك الليلة معا في غرفة نومه.

و في الصبح نزلا للفطور في جناح زينة بالقبو العلوي..
نزلت أمامه طائعة ، و قد حملت تحت ذراعها رزمة من المجلات المصورة ، و الروايات ..

و بعد الفطور ، ودعته بقبلة و ترجته ألا يغيب عنها طويلا..


و انشغل اسماعيل بمشاريعه الكبيرة ، المحلية منها والمنتشرة عبر اطراف المملكة ، فكان يعود إلى داره في ساعة متأخرة من المساء فيجد نفسه منساقا إلى جناح زينة ، و كأنه منحدر في أحد أنابيبه دون إرادة .. كان يجدها دائما تنتظره في أبهى زينة و أروق مزاج.. فكانت تصب له كأسا من بيرته المفضلة، و تضعها أمامه ، و تجلس إلى جانبه تؤنسه بحديثها ، و كأنها قضت طول النهار بالخارج.. و حين يسألها من أين كل هذه الأخبار كانت تشير إلى الراديو ، و الجرائد و المجلات..

و مرت الأيام ، و أصبحت زينة عادة ثابتة من عاداته.. ولاحظ أنها تغيرت كثيرا مما كانت عليه منذ دقت جرس بابه.. كانت تميل إلى نضج الأنوثة و وداعتها بدل الاسترجال الذي جاءت به.. و لم تعد تلبس السراويل و ملابس " الجين " الخشنة ، و بدأت تمشط شعرها بطريقة كلاسيكية هادئة.

و لاحظ كذلك نعومة بشرتها و صفاءها ، و هدوء طبعها ، و دعة نفسها التي كانت تصبغ عليها في نظره مسحة خفيفة من الحزن، حين تنهمك في القراءة أو عمل " التريكو " .

و فاجأها مرة تبكي حين دخل مبكرا على غير عادته ، فدخلت الحمام بسرعة ، و لكنه لحق بها قبل أن تغسل عن وجهها آثار الدموع ، فأمسك بكتفيها ، و نظر إلى عينيها في المرآة :

— مالك يا زينة ؟

— لا شيء ..


و أدارها نحوه ، ونظر إلا وجهها فأسبلت جفنيها :

— ما لك ؟

و لم تجب ...

— هل تريدين الخروج ؟

حركت رأسها بالنفي.

— هل هي والدتك ؟ تريدين رؤيتها ؟

— لا ..

— ما لك إذن ؟

و انهمرت دموعها ، فرفع وجهها نحوه، فأغمضت عينيها ..
و رن في رأسه جرس مخدر ، فنبس بكلمة واحدة :

— حبلى !

و أحنت رأسها في استسلام

— متى عرفت ؟

— منذ شهرين ..

— لماذا لم تخبريني ؟

— لم أكن متأكدة .. ليست لي خبرة كبيرة بمثل هذه الأمور..

و أغمض عينيه و راح يسبح في دوامة لم يعرف مثلها من قبل، و جاءه صوتها الباكي :

اسماعيل ، هل أنت غاضب ؟

و لم يجب .. لم يكن يعرف الجواب ..

و لم ينم يلك الليلة . بات يرقب عقربي الساعة الفسفورين المضيئين في الظلام و يفكر ..

و في الخامسة صباحا، أغمض عينيه على قرار ، و راح يفكر في سبات عميق.







انتهى الجزء.
دمتم بخير .



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-05-14, 12:17 PM   #29

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


ــــــــــــــ





الـجــزء14 :




و في الخامسة صباحا، أغمض عينيه على قرار ، و راح يفكر في سبات عميق.


و حين عاد من عمله ذاك المساء ، كان الارهاق باديا عليه ، و نظرت إليه زينة بعينين صامتتين ، فتفادى نظراتها ، و قصد خزانة المطبخ الصغير ، فأخرج زجاجة صب منها في كأس ، و استرخى على الأريكة يرشف من السائل الذهبي الدافىء و ينتظر مفعوله في عروقه .

و التقطت هي زجاجة البيرة المثلجة ، و أخذتها إلى الثلاجة ، و عادت لتجلس على الجانب الآخر من الأريكة.

و لاحظت معطفه المبتل بماء المطر ، فقالت محاولة كسر جليد الصمت :

— ألا تعطيني معطفك لأعلقه ؟

فعب من الكأس ملء فمه ، وحرك رأسه بالنفي .

— ألا تزال غاضبا مني ؟؟

فركز عليها ، و قد أحس بحرارة الكحول تشع من وجهه :

— إذا كنت تعتقدين أن الحمل سيخرجك من هنا ، فأنت مخطئة .

و أحنت رأسها لتنظر إلى يديها :

— لم تعد لي رغبة في الخروج ..

— و لن تخرجي ، على أية حال .. فأنت عرفين اكثر مما هو في مصلحتك ..

— كل ما عرفته في وقت ما.. هو ما قاله لي مجاهد .. و قد نسيت الآن .

و تنهدت :

— لم أعد أذكر شيئا عن حياتي خارج هذا الجناح.. كل شيء أصبح في ذاكرتي سرابا و خيالات مهزوزة.. حتى مجاهد.. و كأن عمرا كاملا يفصلني عنه.. لم أعد أذكر حتى ملامح وجهه..

و سكتت لحظة ثم نظرت إليه :

— و حتى لو أخرجتني فلمن أذهب في حالتي هذه ؟ أمي تعيش في قرية صغيرة بقبيلة " بني كرفط " بالشمال.. و سيسبب لها ظهوري هكذا حرجا كبيرا بين الناس. و حتى مجاهد لن يقبلني هكذا.. فهو مغفل كبير.. و معتز برجولته إلى حد الشراسة ، بحيث لم يأخذ امرأة مسها رجل آخر.. فإلى أين أذهب ؟

و حاولت الابتسام :

— أرأيت ؟ أنت أسيري بقدر ما أنا أسيرتك ..

و حين نهض ليصعد إلى غرفته ، لم تلح عليه البقاء..

و في عطلة نهاية الاسبوع بدا على اسماعيل أنه تماثل من الصدمة و قد ظهر عليه الاسترخاء و حتى بعض علامات الاغتباط .


و قضى ليلة السبت عند ابراهيم و مريم التي دعت المهندس أمين ناصر، و زبيدة ، لعلها تثير غيرة اسماعيل من اعجاب المهندس الشاب بزبيدة و تعجل بالقائها في فراشه..

و أصرت على مناوراتها ، حتى و هي تودع ضيوفها على الباب .. فقد طلبت من زبيدة أن تأخذ ناصر إلى فندقه ، بدلا من أن تطلب ذلك من اسماعيل .. و زمت شفتيها و هي تنظر إلى اسماعيل يركب سيارته ، غير عابىء بما تحكيه حوله...

و اقترب اسماعيل من الغابة القريبة من منزله.. في داخله شعور غريب بالخوف، أحس كأن عيونا تراقبه، فأطفأ الراديو، و أخذ ينظر حواليه ، و قد بدأ جلده يتشوك..

و فجأة ظهرت أمامه صخرتان على حافة الطريق، فداس على الفرامل ، و مال بسرعة ليتفاداهما ، فخرج له من وراء شجرة شبح يحمل صخرة على رأسه رمى بها عليه من خلال واجهة السيارة ، فاخترقت الزجاج و مسحت جانب وجهه الأيمن، و سقطت على المقعد بجانبه تاركة فجوة كبيرة في الزجاجة الأمامية..

و بجهد كبير استطاع أن يسيطر على السيارة الخارجة على الطريق.. و كانت الحجارة تتساقط على ظهر السيارة ، و تخترق زجاجها من كل جانب، و أصوات الأشباح تترامى إليه من بعيد صائحة :

— أيها القتال ! أيها السفاح ! اقتلوه .. لا تتركوه يفلت ..

و اختفى خلف زوبعة الغبار التي أثارها خروجه على الطريق المعبد، و سمع اصطداما على مقدمة السيارة.. و ثقلا في حركتها .. و من خلال الغبار و الظلام استطاع أن يميز وجه رجل منبطح على غطاء المحرك يحاول الاحتفاظ بتوازنه، و ينظر إلى يساره فإذا شخص آخر يمسك بمقبض الباب يحاول فتحها و استقحامها عليه، فمد يده ، و ضغط زر الأمان فانقفلت الأبواب الأربعة آليا.. و نظر حواليه فإذا أشخاص آخرون ممسكون بمقابض الأبواب الثلاثة الأخرى، و بسرعة مد يده فضغط على زر تحت لوح المؤشرات، فالتصقت الأيدي المبتلة بالعرق بالمعدن البارد المكهرب بتيار عال، و راح هو يدور بالسيارة في كل اتجاه دورات عنيفة حتى رمى بالشخص المنبطح أمامه، و تأكد من أن صرخات المكهربين قد توقفت ، فعزل الكهرباء و انصت إلى الجثث الأربعة تضرب الأرض ، و أحس بالسيارة يخف وزنها مرة أخرى.

و انطلق نحو منزله مستعدا لأية مفاجأة، و واجه باب الدار، و ضغط زر العين الكهربائية فانفتح الباب الحديدي و دخل بسرعة حتى وقف بداخل المرأب ، وأسكت المحرك، و أطفأ النور، و جلس يلهث لحظة محاولا تصور ما حدث.

و أحس بقطرات الدم تنزل ساخنة على صدره من ذقنه، فوضع كفه على خده ، فأحس بألم الجرح، و تناول رزمة مناديل الورق من صندوقها إلى جانبه، و وضعها على خده، و فتح خزنة الأوراق، فأخرج منها مسدسا و خرج متوجها نحو الباب الخاجرجي.

و كان الحارس العجوز ، قد أفاق منزعجا من زعيق العجلات مع الأرض، فخرج ليرى ما يجري ، و فوجىء باسماعيل شاهرا مسدسه يحاول اختراق ستار الظلام بعينيه النمريتين.

و في حمام غرفة نومه، نظر إلى الجرح في المرآة، و رش عليه مطهرا من زجاجة رشاشة و غطاه بضمادة، و راح يخلع ملابسه شاعرا بخفة و نشوة شاذتين، لأول مرة كانت العين الكبيرة داخل دماغه تبتسم؛بل ربما كانت تضحك بالدموع تشفيا من فشل القتلة. لابد أنهم سيحاولون اقتحام الدار عليه، و سيستقبل هو كل واحد منهم بقوله: " هيت لك ! " و سوف يعتصرهم واحدا واحدا من كل ما يعرفون، قبل أن يلقي بهم للسائل الجائع ليمص لحومهم، و يمش عظامهم.

و فكر هل ينادي الشرطة و يخبرهم بما حدث. و قد يؤدي ذلك إلى تسليط الأضواء عليه، و بالتالي على داره و مشاريعه الأخرى، و ربما تسرب ذلك إلى الصحافة.

و من جهة أخرى ، إذ لم يخبر الشرطة فربما عثرت بنفسها على أثر يشير إلى ما حدث الليلة ، و لن يجد شرحا شافيا لصمته.

و في النهاية قرر أن يعزف أوتاره بالسمع، فرفع السماعة، و نادى مركز الشرطة ، و سأل عن البعيد، فقيل له إنه في بيته، و حين سأله ضابط الحراسة عن سبب المكالمة، أخبره بأنه كان يود أخبار العميد بحادث اعتداء تعرض له الليلة، و سأل الضابط :

— هل أصبت بشيء ؟

— جرح خفيف.

— هل تعرفت على المهاجمين أو احدهم ؟

— كان الظلام كثيفا .

فانهى الضابط المكالمة بوله :

— إذا لم يكن هناك ما يدعو للاستعجال من طرفك، فسنبعث بضابط تحقيق غدا إلى عين المكان، و يمكن أن تدلي له بالمعلومات.

و وضع السماعة.

و لم يأت أحد في اليوم التالي، و لا الأسبوع أو الشهر الذي بعده.

كان اسماعيل يعرف " خروب بلاده " ، فخاطب ضابط الشرطة بلهجة مؤدبة هامسة حتى لا يوقظه من سبات تخلفه الثقيل.

و لحسن حظه ، لم يترك المهاجمون وراءهم أثرا يذكر ، و لم يتوقعهم أن يفعلوا فالكوماندو لا يترك جثث صرعاه على أرض المعركة.

و مع خيوط الفجر الأولى، ايقظته ساعة الراديو بموجة من الموسيقى ، فتدثر بمعطف صوفي و صعد إلى السطح ، فكشف الغطاء عن منظار مقرب في حجم مدفع صغير يستعمله لمراقبة الكواكب، و وجهه نحو ميدان معركة أمس، و أخذ يمسح الأرض الندية حبة حبة، حتى أثر العجلات، و مساحب الأقدام، و شظايا الزجاج ، مسحوها قبل أن ينسحبوا..

و تساءل : " لصالح من يعملون ؟ "

و ترك الجواب للأيام .

و نزل إلى الحديقة ، فقطف بعض الزهور، و قد أحس بخفة غير عادية و بفيض من الأريحية نحو زينة، فأخذ الزهور إلى جناحها.

و حين رأت الضمادة على جانب وجهه، شهقت، و وضعت يدها على فمها :

— ماذا جرى ؟

فناولها الزهور، و قبل خدها :

— لا شيء. حادث سيارة بسيط.

— ماذا تعني ، حادث بسيط ؟ لقد كاد يذهب بنصف وجهك.

— تأكدي أنها مجرد خدوش سطحية لن تترك أثرا يذكر . هل أعجبتك الزهور ؟

فنظرت إليها و كأنها تراها لأول مرة :

— هل هي لي ؟

— هي لكما معا.

و أشار إلى بطنها ، فابتسمت من تحت سحابة من الكآبة.

و عز عليه أن يراها كذلك فقال :

— تعالي نصعد إلى السطح ، اليوم الأحد ، و ليس لي التزام ، إلى جانب أن الأم و صغيرها يحتاجان إلى الهواء الطلق، و أشعة الشمس.

و على السطح وجدت نفسها تحت قبة زجاجية دافئة تغطي المسبح و المقصف و تحجب برد فبراير القارس.

و وقفت هي تنظر بشوق إلى الأفق الغربي ، و قد تراكضت الغيوم المثقلة السوداء آتية من المحيط نحو المدينة، و وقف هو خلفها ينظر إلى سياط البرق تشق بطون الغمام على مرمى البصر، و يصيخ إلى هزيم الرعد الذي يأتي خافتا من بعيد.

و أمسك بكتفيها ، و الصق صدره بظهرها و قال :

— قريبا ستمطر ، تعالي نعد الفطور.










لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-05-14, 12:18 PM   #30

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي









و على المائدة جلست هي تحتسي قهوتها صامتة مطرقة ، فسألها :

— فيم تفكرين ؟

و بقيت مطرقة ، فأعاد السؤال :

— شيء ما يشغل بالك ؟

فرفعت رأسها :

— إذا قلت لا شيء، سأكون كاذبة. و من جهة أخرى ، لا أريد تعكير صفوك هذا الصباح ، فلم أرك بهذه السعادة و المرح من قبل.

فقال باسما :

— لذلك ينبغي أن تستغلي الفرصة و تطلبي ما تشائين. فأنا في حالة أريحية قد لا تتكرر.

و ابتسمت زينة و قالت :

— لا مطالب لي بالمرة. مبدئيا حياتي مكفولة، و ليس لي مسؤولية على شيء.

— فماذا يقلقك ؟

— ما قلته لي مرة من أن هذه الدار محارة تسد آليا، و لا يستطيع أحد النفاذ إليها !

— هذا صحيح ، فماذا يقلقك منه.

— هذا الحادث الذي تعرضت له خارج الدار ؛ ماذا كان سيجري لي لو قدر الله أن أصبت بسوء ؟

— لا تقلقي، يا عزيزتي بالمرة من هذه الناحية . في حالة غيابي النهائي هناك وصيتي بالبنك، و معها جميع أسرار هذه الدار، و مفاتيح أرصادها الاليكترونية.

و توقف ثم سأل :

— هل هذا كل ما يقلقك ؟

فتنهدت ، و قالت :

— ما يقلقني بطريقة أعمق هو هذا .

ووضعت يدها على بطنها و أضافت :

— هل سيولد سجينا، و يعيش سجينا ؟

— اطمئني من هذه الناحية كذلك. فقد اعطيت الموضوع تفكيرا طويلا. الوضعية التي نعيشها الآن مؤقتة و عابرة، و سوف تنتهي بمجرد انتهاء أسبابها و سأخبرك بكل شيء في حينه ، إتفقنا ؟

و قام فمد يده لها.

— تعالي نلعب مع بعض تنس الطوالة، فأنت في حاجة إلى تمارين رياضية.

و بعد بضع دقائق من اللعب المجهد، اظلمت السماء حين اطبقت الغيوم الكالحة على المدينة، و سطع البرق باهرا خاطفا، فتوقف الاثنان عن اللعب، و خافت زينة فالتجأت إلى اسماعيل الذي ضمها إليه، و وقفا يتوقعان انفجار الرعد الهائل الذي لم يلبث أن هز المبنى من تحتهما.

و انفتحت أبواب السماء بوابل من المطر الطوفاني، خشيت معه زينة أن يخترق القبة الشفافة. و لكن اسماعيل كان أكثر ثقة بسقفه منها فأخذ يحثها على النظر إلى البحر الهادر فوقهما دون أن يصيبهما ببلل.

و نظرت إلى وجهه، و هو منشغل عنها بالنظر إلى الماء الهابط، فرأت في ملامحه براءة الأطفال، و شقاوة الغلمان، و تمنت لو بقي كذلك مقطوع الصلة بماضيه و أحداثه التي شوهت نفسه.

و حين خف انصباب المطر، و لم يبق منه إلا رذاذ خفيف أحس الاثنان براحة داخلية عميقة، و تنهدت زينة بصوت مسموع، فقال اسماعيل :

— هل اشتقت إلى المطر أنت كذلك ؟

فحركت رأسها بنعم :

— في صباي كنت أقف تحته حتى يصل الماء إلى عظامي.

و رن جرس التلفون فأسرع اسماعيل يلتقط السماعة :

— السيد العميد، كيف حالك ؟ نعم. حادث اعتداء مؤكد. لابد أنها عصابة. لا. جروح خفيفة لا أدري. ربما كانوا يريدون السرقة . لا، لم أميز أحدا. كان الظلام حالكا. شكرا، مع السلامة.

— قلت لي كان حادثا ، و ليس اعتداء عصابة.

— ما الفرق ؟ النتيجة واحدة .

فسألت بخشينة و ارتياب :

— هل كان من بينهم مجاهد ؟

فارتفع صوته قليلا :

— أكيدا ، لا.

— ولكن لم تميز منهم أحدا .

— و لكني متأكد من أن مجاهد لم يكن معهم، فقد ذهب و لن يعود .

و أضاف مصححا :

— و عدني ألا يعود.

فقالت بشفتين مرتجفتين :

— هذا عمل شبيه بأعماله . مجاهد عنيف الطبع، و يرفض الهزيمة.

— قلت لك ليس هو. فاطمئني على مجاهدك.

و أحست هي بنبرة الغيرة في صوته، فأسرعت نحوه :

— لم أقصد. لم أقصد ما تظن. أرجوك ألا تفهم ذلك .

و وضعت يدها على صدره و نظرت إليه من تحت :

— أنا أخاف عليك أنت .

فنظر إلى عينيها الخائفتين من غضبه ، و قال :

— إذا كنت صادقة ، فلا تذكري لي اسمه بالمرة .

فوضعت وجهها على صدره :

— لن تسمعه مني أبدا .

و في صباح اليوم التالي ، الاثنين ، مر على مكتبة فاشترى عدة كتب و مجلات مصورة من بينها كتاب بعنوان : " الحمل و الوضع بدون ألم " ، ثم مر على بائعة أصواف واشترى بضع كبات من عدد من الألوان ، و أدوات عمل التريكو ، و خرج نحو سيارته ، و على بعد رأى زبيدة جالسة في سيارتها بمحاذاة الرصيف، و شخصا يمسك ببابها و يتكلم معها، و هي تريد اقفال الباب .

و خاف أن يكون محتالا أو ثقيلا يضايقها، فذهب إليها، و بمجرد ما رآه الشخص، رفع يده لها ابالتحية، و ساعدها على اقفال الباب و ذهب.

و ابتسمت زبيدة في وجهه ، حين سألها :

— من كان ذلك ؟ عاشق متيم يريد احتلال قلبك بالقوة ؟

— لا، ليس لي مثل ذلك الحظ ، إنه زبون. من النوع الذي يعطي القضية للمحامي، و لا يثق في كفاءته، فيطارده بالنصائح و الفتاوي .

و لاحظت الضمادة على وجهه :

— ماذا حدث لك ؟

— حادث سيارة بسيط . سأقول لك عنه حين نلتقي.

ودعها ، ومر على الخزانة العامة، فاستعار جزأ من دائرة المعارف الطبية يحتوي على قسم الحمل ، و الوضع ، و التوليد ، فأخذه ، و عاد بهداياه إلى زينة التي استقبلتها بسرور الطفلة يوم عيد ميلادها .

و بعد يومين أخبرت الصحافة بمقتل أربعة اشخاص صعقا بالكهرباء، لسقوط أحد أسلاك التيار العالي عليهم في إحدى ضواحي المدينة .

و ابتسم اسماعيل و هو يقرأ الخبر ، و تعليق الصحيفة اللاذع على إهمال عمال الكهرباء الاجرامي.

و أقفل الصحيفة مفكرا في أن محاولة اختطافه أو اغتياله هذه ، لن تكون هي الأخيرة و أن عليه أن يسبقهم بالاحتياط و الحذر .

و مرت الأيام .

و ثقلت زينة ، و أشرفت على الوضع، و سمح لها اسماعيل بالصعود وحدها إلى المطبخ لاستعمال أدوات الرياضة ، و الحركة في الهواء الطلق، و كانت تشعر في حالتها تلك القناعة و الرضى بالواقع ، فلم يلمس منها ثورة أو تمردا .

و جاءها المخاض ، فنادت إسماعيل الذي كان في مكتبه يشتغل بعد العشاء ، فأعدها للولادة ، و لبس حلة معقمة كان يحتفظ بها لهذه المناسبة.

و سارت الأمور كما تدربا عليها عدة مرات ، و من أجل طمأنتها و تهدئة أعصابها ، وضع جهاز التلفزيون بجانبه، و رقم أحد أصدقائه الأطباء جنب الجهاز ، و راح يشجعها على التنفس العميق و الدفع ثم الاسترخاء .

و في أقل من ساعتين ، رن في الغرفة صوت صبية وردية اللون، كاملة الخلقة ، فرفعها من قدميها ، كما يفعل الأطباء لتراها أمها ، و ضرب على ردفيها في ثقة بمعارفه الطبية.

و نام تلك الليلة على الأريكة في جناح زينة ، و بات يحاول تحليل مصدر الخفة التي كان يجدها في قلبه، و يتساءل هل ستكون لهذه التجربة نتائج ما على مجرى حياته .

و قضى الأسبوع كله مع زينة، يساعدها على العناية بالمولودة التي كانت تقضي أغلب وقتها نائمة.

و في اليوم السادس طلب من زينة أن تحمل الطفلة و تصعد بها إلى السطح . و من هناك قادها إلى حيث أطلت على كبش أبيض ذي وجه أسود و سألها :

— ماذا تريدين تسمية الطفلة ؟

و اغرورقت عيناها تأثرا و هي تنظر إلى الكبش الفاره ، و اقتربت حتى لامست بكتفيها كتف اسماعيل ، و قالت :

— فكرت في تسميتها بأسماء . اتعرف لماذا ؟

— لماذا ؟

— لأن " أسماء " هو نصف اسمك ، إسماعيل .

و في صباح الغد ، اشرفت في نفس المكان على الحارس و هو يذبح الكبش و إسماعيل و حليمة يساعدانه.

و خرجت زينة من تجربتها رزينة هادئة، و استرجعت قوتها على الحركة بسرعة، و كان باديا أنها وجدت الهدف من حياتها ، و أن سفينتها رست على بر الأمان .

على العكس من حالته هو ، فقد كان يشعر بأن فترات الراحة و الاسترخاء التي كان يجدها بين استنطاق و آخر أخذات تقصر ، و بأنه أصبح معتمدا في صحته النفسية و توازنه العاطفي ، على لحظات القسوة السادية التي كان يقضيها مع أسراه .

و اقلقه شعور غامض بأن اللصوص بدأوا يحسون بما كان يحدث لزملائهم داخل الدار ، رغم أن أحدا لم ينج ليحدثهم بما رأى ، فبدأوا يتجنبون الدار، و لم يعد يقع منهم في فخه إلا العابرون ، و الأفاقون و الرحل من غير أبناء الدار البيضاء ، فكان أحيانا يمر أسبوع كامل دون أن يرى الضوء الأخضر من سطح فندقه اللمفضل.

و قضى عدة ليالي يفكر في الخروج من هذا الركود. و ايقظه الحل في منتصف ليلة ، و كان عقله الباطني كان يبحث عنه حتى وجده.

الحل يكمن في تحطيم الأسطورة ، أسطورة الدار المسكونة أو الملعونة ، الدار القبر التي ما دخلها أحد و خرج منها حيا أو ميتا !

و في تلك اللحظة أشعل النور ، و مد يده إلى جهاز المراقبة الاليكتروني .

و في صباح اليوم الثاني تعمد إخراج حقيبته ، على غير عادته ، ليضعها في صندوق السيارة أمام الباب الخارجي تحت أعين جميع المارة ، ليشيع أنه مسافر .

و فعلا ذهب في رحلة تفتيش أخذته إلى أكادير ، و مراكش ، و مكناس ، و فاس ، ليشرف على سير الأعمال .

و في غرفة فندقه بمكناس ، آخر مراحل تفتيشه ، رن جرس التلفون من عميد الشرطة بالبيضاء ليخبره بحادث مؤسف وقع في منزله ، و انقبض قلبه خشية أن يكون أمر زينة انكشف أو أصابها و الطفلة مكروه .

و لكن قلبه انشرح بعد بأن أخبره العميد بأن داره تعرضت لسرقة كبيرة ، و حريق مهول .





انتهى الجزء .
دمتم في أمآن الله .











لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:49 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.