08-06-14, 07:27 AM | #41 | ||||
مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام
| ـــــــــــــــــــــــ الـــجــــزء 20 ( الأخـــير ) : و وضع السماعة و خرج يعدو و قلبه يدق بعنف، و وقف وسط الطريق لسيارة خاصة يستوقف صاحبها و يستركبه غير عابىء بالخطر المحتمل .. و وقف السائق ثائر الأعصاب فانحنى اسماعيل على نافذته : — سامحني .. أرجوك .. طفلتي الوحيدة في خطر .. خذني إلى المطار .. أرجوك .. و هدأت ثورة الرجل في الحال فمد يده و فتح الباب : — أدخل يا سيدي . إنطلق نحو المنارة .. و حطت طائرته الصغيرة بمطار " أنفا " و نقلته سيارة المطار إلى بيته ، و هو يغالب الرغبة في الصراخ للتنفيس عن توتر أعصابه ، و يداعب الأمل في أن تكون زينة وجدت الصبية .. و لكن شكا قاتلا كان يلح عليه في أن تكون طفلته وقعت في أحد الفخاخ .. خرجت تحبو من فجوة ما في السور الزجاجي ، و ابتلعتها البالوعة الكبرى ، و إذا صح ما توقعه .. يا ويلتاه ! و أغمض عينيه ليجد صورة حبيبته الصغيرة على شاشة خياله الهائلة و هي تتعرض للاستنطاق الآلي ، و التعذيب الذي يتجاوز الاحتمال البشري .. و عذبه ازدحام المرور . و لم يصل إلى داره حتى كاد يفقد عقله. و فتح الباب بيد مرتعشة ، و صعد يعدو إلى السطح ، و فتح الباب فهرعت إليه زينة مشيرة إلى ثقب في السور : — لابد أنها خرجت تحبو من هنا ووقعت لا أدري أين . و انقلب هو راجعا فتبعته المرأة الهالعة ، و قد شحب وجهها و تحول إلى وجه امرأة ميتة تتحرك . و في القبو الأسفل فتح باب غرفة الاستنطاق ، و ضغط على أزرار النور فظهرت الطفلة لحسن حظهما جالسة تبكي ، و قد بدأت أضواء الاستنطاق تعلن نهاية الجلسة .. و ضغط اسماعيل على أحد الأزرار ، فانفتح الباب الزجاجي ، و اختطف الطفلة بثوان قبل أن تنفتح الأرض الجهنمية تحتها .. و ضمها إليه .. و اخرجها لأمها التي أخذتها منه هي الأخرى ، و ضمتها إليه و وقفت ترتجف و تنتحب .. و فجأة .. و دون توقع . أحس اسماعيل بالبلل على خذيه .. و مد يده فمسح عينيه و انتظر لحظة معتقدا أنها دموع الطفلة على وجهه .. و لكنه شعر بأنابيب الدمع التي كانت مقفلة مصمتة منذ صدمته الأولى في " كارين " و الطفلة ، و قد بدأت تنفتح و بالدمع ساخنا يتدفق بغزارة فيغرق عينيه و وجهه . و زغردت بلابل السعادة في أعماقه بأصوات لم يسمع مثلها منذ قابل " كارين " .. و ود لو اختلى بنفسه ليستمتع بدموعه مع صورة كارين و كريمته في غرفة نومه ليبكيهما .. ليودعهما و ليطفىء الحريق الهائل الذي اشتعل بداخله منذ عودته من تلك الرحلة المشؤومة .. و تحرك ليصعد ، فأمسكت زينة بتلابيبه ، و شرر الجريمة يومض في عينيها و خاطبته بصوت فولاذي بارد : — أريد أن أخرج أنا و ابنتي من هنا الآن .. لن أمكث في هذه الدار دقيقة أخرى .. هل سمعت ؟ و دفعته نحو الحائط صارخة : — أنت مجنون .. هذه المصيدة الكبرى لا يبنيها إلا مجنون .. و دفعته بعنف ضد الحائط مرة أخرى : — أسمعت ؟ مجنون .. أقتلني إذا أردت .. فأمسك إسماعيل بيدها برفق : — سنخرج .. سنخرج جميعا يا زينة .. الآن إذا شئت .. و تستطيعين أن تناديني بالمجنون متى أردت .. فقد كنت مجنونا . و تركت زينة صدره و مسحت عينيها بكفها ، و نظرت إليه غير مصدقة : — أنت تبكي . و مدت يدها فلمست بأصابعها خده ، و ارتعشت شفتاها ، و هي تهمس لنفسها : — و لكن المجانين لا يبكون .. فمسح اسماعيل عينيه بمنديله و اعاد : — نعم ، المجانين لا يبكون .. و مدت أسماء يدها الصغيرة إليه تريده أن يحملها ، فابعدتها زينة عنه ، و قد زاغت عيناها ، و أحاطت بهما زرقة الإرهاق و الرعب .. و نطق اسماعيل مشيرا إلى الباب : — جميع الأبواب مفتوحة .. فنظرت خلفها إلى الباب ثم إليه غير مصدقة ، و تحركت تصعد الدرج إلى القبو الأعلى ثم إلى وسط الدار .. و وقفت تنظر حواليها حتى وقعت عيناها على الباب المشبك بالحديد و الزجاج الملون .. فأسرعت نحوه ، و وضعت يدا وجلة على المقبض ، و جذبته فانفتح الباب .. ونزلت الدرجات الرخامية الأربع بسرعة ، و خرجت من البوابة الخارجية التي كانت ما تزال مفتوحة على مصراعيها ، و أطلقت ساقيها للريح قاصدة طريق السيارات العام .. و توسطت الغابة و أخذت تنظر حواليها في توجس .. و أخذت الطفلة تبكي فلمست الأم مقعدها فإذا به بلل .. و تذكرت أن الطفلة جائعة و تحتاج إلى تبديل الخرق و الأكل ، و النوم .. و قصدت شجرة فجلست تحتها ، و أزاحت الخرق الوسخة عن الطفلة لترتاح ، و لتفكر هي فيما ستفعله بنفسها .. و هنا ظهرت سيارة إسماعيل تدرج على مهل ، فتوقف إلى جانبها ، و خرج إسماعيل بسلة فيها جميع أمتعة الطفلة و طعامها .. فوضعها أمامها قائلا : — فكرت في أنك ستحتاجين إلى هذه .. فمدت يدها نحو السلة مسبلة جفنيها : — شكرا .. و ناولت الطفلة قطعة بسكويت أخذتها هذه إلى فمها بشراهة ، بينما هي تغير خرقها ، و إسماعيل ينظر إليهما من فوق ..و في النهاية نطق : — زينة .. فلم ترفع رأسها ، و لم تجب .. — زينة .. أنت حرة الآن ... و أريد أن أسألك سؤالا كامرأة حرة .. و ظلت صامتة .. فقعد إلى جانبها ، و سأل بصعوبة : — هل تتزوجينني ؟ و أجابت بجفاف دون أن ترفع صوتها : — كلا .. فسرت في بدنه قشعريرة : — لماذا ؟ و لم تجب .. — و أسماء ؟ — أسماء بنتي أنا .. — هل ستعيش بلا أب ؟ — ليس شغلك .. و لعق شفتيه بلسانه مستعدا لرد فعل عنيف منها ، و قال : — إذا كنت تعتمدين على مجاهد .. فقد ذهب .. أعني إلى حيث لا يعود . فقالت دون تأثر : — أعرف ذلك .. فتنهد مرتاحا ، و أضاف : — زينة .. اطلبي مني ما تشائين ، و لكن لا تتركيني .. أسمعت ؟ ما تشائين .. فتوقفت عما كانت تفعله ، و رفعت رأسها نحوه : — ما أشاء ؟ — نعم ، كل ما تريدين .. و اقترب منها و أمسك بيدها : — أنا آسف على كل ما حدث مني .. و أريد أن أعوضك على سجنك الطويل و معاملتي القاسية لك .. فسحبت يدها من بين كفيه : — حسنا . إذا قبلت شروطي ، فلا مانع عندي .. أريدك أن تقفل هذه الدار و جميع الديار التي بنيتها على هذا الطراز . فأجاب متحمسا : — سأفعل .. ثم ماذا ؟ — أن ننتقل من هذه البيئة الموبوءة إلى مدينة أو قرية بعيدة عن ذكرياتنا أنا و أنت ، حتى يسهل علينا النسيان ، و البدء من جديد . فأمسك بيدها و قبلها .. و قد اغرورقت عيناه ، و هو يردد : — أحبك .. أحبك جدا يا زينة .. و التقطت هي الطفلة من فوق العشب ، و ناولتها إياه : — خذ ابنتك .. و نظر إلى الطفلة ، و دموع السعادة تتلألأ في عينيه ، و قبلها ، و قال لزينة : — أريد أن أريها لأمي . — و أنا كذلك ، لماذا لا نسافر هذا المساء ؟ نبيت الليلة في دوارنا بالسبت قرب العرائش ، و في الصباح نكمل الطريق إلى طنجة ؟ — أليس الأفضل أن نخبرهم أولا ، حتى نعدهم للمفاجأة ؟ — هذه مفاجأة سارة . ثم أضافت : — و في قريتنا لا يوجد بريد و لا تلفون ، إلى جانب أنني لا أريد أن أعود إلى تلك الدار ( مشيرة إلى دار اسماعيل ) . و انطلقت بهم السيارة نحو وسط مدينة الدار البيضاء ، و توقف إسماعيل على باب عمارة تجارية ، و دخل ليخرج ، بعد ساعة ، و خلفه حمال يحمل حقيبتين مثقلتين بالهدايا وضعهما في صندوق السيارة ، و انطلق نحو الطريق المزدوج المتوجه نحو الشمال . و حين ترك ازدحام المدينة وراءه ضغط على أحد أزرار الراديو فامتلأت السيارة بموجة حالمة من الموسيقى الكلاسيكية من إذاعة البرتغال القريبة . و ساد الصمت ، فسرح اسماعيل يفكر و يخطط لحياته الجديدة ، فكر في العودة إلى طنجة و لكنه رفض الفكرة في الحال . يستحيل أن يتعايش مع ذكرى حبيبتيه الراحلتين . و فكر في مراكش . مراكش جميلة و دافئة ، و لكن لا بحر لها ، و هو ابن طنجة ، ابن بحرين ، المحيط و الابيض . و قفز ذهنه بسرعة جنوبا إلى أكادير ، المدينة الشابة التي انبعثت من جديد ، من تحت انقاضها بعد زلزال 1960 ، وقامت من رمادها كطائر الفينق الأسطوري العجيب ! و همس لنفسه : " أڭادير إذن ! " | ||||
08-06-14, 07:29 AM | #42 | ||||
مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام
| و نامت الطفلة في حجر زينة فسرحت هي الأخرى تسترجع صور ماضيها القديم و الحديث . و في غابة الصفصاف و الفلين الكثيفة بين مدينتي القصر الكبير و العرائش ، عاودها حنين قوي إلى مرابع صباها ، كانت تقترب بسرعة من قريتها النائمة بين الصخور . و تتابعت الصور في مخيلتها حتى توقفت عند الحاج عبد القادر الغمبوري ، فلم تتمالك من إطلاق ضحكة مكتومة . و التفت اسماعيل مبتسما لسرورها و متسائلا عن سببه ، فقالت : — تذكرت الحاج الغمبروري . — و من يكون صاحب هذا السم العجيب ؟ فقالت بمرح : — أول غرام في حياتي ! — لم تقولي لي عنه شيئا من قبل . — لأن هذه أول مرة أتذكره ، حين اقتربنا من " السبت " . — أي غرام أول هذا الذي لا تتذكرينه إلا حين تقتربين من قريته ؟ فضحكت : — لأنه كان غراما من طرف واحد . ثم أضافت : — حين أفكر فيه الآن أجد أنني مدينة له بلقائنا . — كيف ؟ — لأنه كان السبب في هروبي من القرية صحبة مجاهد . و تنهدت تنهدا مكتوما ، و أضافت : — الغمبوري رجل في سن أبي أو جدي ، عشقني منذ صباي ، و كان يخصني بعطف خاص ، و خصوصا بعد وفاة والدي ، كان يأتينا بالهدايا كلما نزل إلى المدينة ، إلى العرائش أو أصيلا ، و حين بلغت الرابعة عشرة جاء يخطبني من والدتي ، فرفضت أولا بحجة أنه رجل متزوج ، فعرض أن يطلق زوجته . فحرك إسماعيل رأسه : — إلى هذه الدرجة ! —— بل أكثر! لم تستطع أمي و هي الأرملة الفقيرة مواجهته بالرفض القاطع ، لكبر سنه ، و صغري ، لعلو مقامه في القرية ، و غناه العريض ، فالتجأت إلى الحيلة معه ، و فكرت في انها إذا اشترطت عليه مهرا غاليا فإنه سيتراجع . و توقفت لتسأل : — أتعرف كم طلبت أمي مهرا لي ؟ نصف ثروة الرجل ! و صدقني إنها ثروة واسعة . — و ماذا كان جوابه ؟ — قبل دون أن يرمش ! بدون تردد يذكر ! و تنهدت : — مسكين ! — و ماذا فعلت والدتك ؟ — والدتي بهتت ، ولم تكن تتوقع أن يقبل ، و وجدت نفسها فجأة تملك ثروة لم تكن تحلم بها ، وقبلت هي الأخرى ، و وعدته بإقناعي . و أغمضت عينيها : — مسكينة ! — وكيف انتهت الحكاية ؟ — حين أدركت أنا أن أمي مصرة على تزويجي منه ، تظاهرت أنا الأخرى بالاقتناع و بكيت طوال الليل ، و باتت أمي الحبيبة تسليني بأحلامها بأنني سأعيش حياة الترف و الهناء ، و أن الحاج الغمبوري رجل كبير السن ،و سيموت قريبا ، و أرث أنا ثروته ، و اتزوج بعد ذلك من أشاء . " و لكن صورة الغمبوري بضخامة جثته ، و بشاعة وجهه ، و رثاثة هندامه ، و عفونة جوفه كانت تطاردني كشبح مخيف . " و جاء يوم السبت ، يوم يعمر السوق ، و خرجت الوالدة لقضاء بعض حاجاتها و بقيت وحدي ، و بينما أنا أفكر في مصيبتي إذ دخل علي " مجاهد " لا أدري كيف سمع بما حدث ، فجاء من العرائش ، حيث كان يزاول بطالته و حيث كنا ندرس معا ، قبل وفاة والدي ، و قبل سقوطه و طرده . اختلط بالمتسولين حتى لا يراه الحاج الغمبوري الذي كان يعرف علاقته بي ، علاقتنا كصبيان ، و لكنه كان شديد الغيرة من كل من ينظر إلي من جنس الذكور . " دخل على مجاهد متخفيا في جلباب صوفي قديم . في المدينة كان يلبس ملابس العمال ، و بدون مقدمات قال لي آمرا " إجمعي ملابسك " ! " و لم أتوقف ، أنا الأخرى ، لحظة لأسأل . جمعت ملابسي القليلة في صرة ، و لبست جلبابي و وقفت أنتظر أوامره . و نظر إلي و قال : " الأحسن أن تتلحفي ، جلبابك معروف في القرية . " . " و التحفت و تلثمت ، و خرجنا رأسا إلى موقف السيارات حيث كانت سيارة أجرة تنتظرنا ، و ركبنا نحن الاثنين فقط فانطلقت بنا نحو العرائش . " و منذ ذلك العهد ، لم أعد حى الآن . " كتبت لوالدتي طبعا حتى أطمئنها على سلامتي ، و أشرح لها سبب هروبي ، و لكن لم أبعث لها بعنواني ، و لم أستقر منذئذ بمكان حتى أبعث لها بعنوانه " فحرك إسماعيل رأسه غير مصدق : — يا لها من مغامرة ! يا ترى ماذا فعل الله بالغمبوري ؟ — ذلك ما أود معرفته ، لابد بأن ذكراي تلاشت في ضباب شيخوخته ! و مع الغروب وقفت السيارة الفخمة بساحة المسجد بقرية السبت ، و تجمعت حولها جوقة من الصغار الحفاة الحليقي الرؤوس ، يشع الفضول الصبياني من عيونهم المتطلعة . و قصدت ثلة من الفتيات الأكبر سنا دار زينة ليخبرن أمها بوصولها : — جاءت زينة .. صحبة رجل وسيم ، و طفلة جميلة في سيارة من فضة خالصة . و أتزرت الأم بمنديل صوفي مخطط بالأحمر و الأبيض ، و غطت رأسها بفوطة حمام كبيرة ، و خرجت من الغرفة المبنية بالطوب ، و المسقوفة بالقصدير ، و المبيضة بالجير و النيلة لتقف على باب الحوش الشوكي الذي تقف فيه أغنامها . و ظهرت زينة و خلفها إسماعيل يحمل أسماء ووراءها ما تبقى من سكان القرية الصغار . و عانقت زينة أمها ، و بكت من التأثر ، و عاجلتها ابنتها بطريقتها الخفيفة الآسرة التي حببتها إلى اسماعيل في أول لحظة رآها : — للا أمي ، هذا زوجي ، إسماعيل ، و هذه طفلتنا اسماء . و صافحت الأم اسماعيل و قبل يدها ، و نظرت زينة حواليها الى الوجوه الصغيرة من خلال بلل عينيها ، ثم تبعت أمها إلى داخل الغرفة مشجعة إسماعيل على الدخول هو الآخر . و في منزل آخر من منازل قرية السبت وقف الحاج الغمبوري في غرفته . حين سمع بخبر عودة زينة أحس بموجة حرارية تغلف جسده و بقلبه يدق لسماع ذلك الاسم الذي طالما هيج مشاعره ، و اقترن في ذهنه بقمة السعادة أولا ، حين كان يراقبها و هي برعم يتفتح ، و ينضج ، و يمني بها نفسه حالما تصل السن المطلوب ! ثم بتحضيض الشقاء و الاهانة حين رفضت الزواج منه رغم تنازله لأمها عن نصف ثروته ، و عرضه تطليق زوجته أم أولاده ، من أجلها ! و عاودته جميع مشاعر الحسرة و الألم القديمة يوم علم بفرارها في جوف الليل خشية ضغط أمها عليها للزواج به . و نظر إليه راعيه الذي جاء بالخبر : — ماذا تنوي أن تفعل ؟ و لمس الحاج الغمبوري نبرة تحد في سؤال الراعي ، فصرفه بحركة من يده ، و أخذ بذرع الغرفة الطويلة جيئة و ذهابا . و فجأة توقف ، و نادى باسم الراعي الذي كان يتعشى على السكة خارج الغرفة : — إسمع ، إذهب إلى منصورة ، و قل لها تدور على جميع بيوت القرية تخبرهم بعودة زينة متزوجة ، و تطلب منهم الذهاب لتهنئة أمها . — نعم ، آ سيدي ! و هم بالذهاب ، فاسترجعه الحاج : — تعال ، و انزل حالا إلى النادر وعد بالجرار و المحراث الكبير ، وانتظرني في الغابة الصغيرة على الطريق ، اسمع . و توقف الراعي .. — لا تقل لأحد إنني أمرتك بهذا ، سمعت ؟ لا تتكلم مع أحد . — كن هاني آسي الحاج . و انطلق يعدو إلى دار القابلة منصورة . و في ظرف نصف ساعة امتلأت غرفة أم زينة الوحيدة بالمهنئات من سيدات القرية ملفوفات في الحفهن الصوفية ، مما اضطر إسماعيل إلى الخروج إلى وسط الدار ، و تبعته زينة محرجة ، فاقترح عليها بأن يذهب إلى العرائش لقضاء الليلة بأحد فنادقها ، فرحبت بالفكرة . وودعته على باب السيارة على أن يعود في صباح الغد . و تدحرجت السيارة من فوق هضبة ( السبت ) على طريق منحدر ضيق مترب نحو سهل نهر ( لوكوس ) ينعرج بين الصخور الضخمة ، و أشجار التشت المتناثرة تحت ستار كثيف من الظلام . و توسط الغابة الصغيرة التي كانت أغصان أشجارها تمتد إليه ، حين يمسها نور سيارته ، كأيدي حيوانات أسطورية غريبة ، فأحس بالوحشة و أخذ يستعجل الوصول إلى الطريق العام . و لمح فجأة بطرف عينه اليسرى شيئا يتحرك بجانب الطريق ، فالتفت فإذا محراث من النوع الثقيل يدخل عليه السيارة من النافذة ، و يمزق راكبها و يعجنه مع جلد الكراسي ، و حديد الباب ! و نزل الحاج الغمبوري من فوق الجرار ، و تبعه راعيه ، ليتأكدا من موت غريمه ، و ما كادا يقتربان من السيارة حتى انفجر خزانها و قذف بهما فألصقهما أشلاء دامية مع عجلات الجرار ، و جذوع الأشجار . و سمع سكان قرية السبت دوي الانفجار ، فخرجوا من بيوتهم ليقفوا على حافة الهضبة ، و ينظروا إلى النار تلتهم الحديد و الأشجار . و سمعت زينة الانفجار فأحست بمغص حاد في بطنها ، و بفراغ في صدرها و ركبتيها . ———— و في طنجة ، وقفت تنظر مخدرة إلى بقايا اسماعيل توضع في قبره داخل تابوت بمقبرة المجاهدين. و حين تفرق الناس ، اقتربت من القبر ، و انحنت تغرس على رأسه باقة من العطرشة ، ثم جلست على حافة القبر المجاور و غرقت في التأمل . و أيقظها من سهوها ظل طويل على القبر فرفعت عينيها ، فإذا بوالد اسماعيل تماما كما عرفته في الصورة التي رأتها في داره . — ماذا تفعلين هنا يا بنتي ؟ و وقفت تنظر إليه ثم إلى الأرض محرجة و أجابت : — لا شيء .. لا شيء بالمرة .. فسأل الرجل الحزين : — أنت زينة ؟ أليس كذلك ؟ فبلعت غصتها و حركت رأسها بنعم ، فمد الرجل المهيب يدا في رقة و رشاقة يدي اسماعيل ، و وضعها على كتفها : — تعالي يا بنتي ، تعالي .. ****** و انتهى اسماعيل . و لكن عهد اسماعيل لم ينته ، فقد بقيت منازله المستقبلية قائمة في جميع أطراف المملكة تنبض بالحياة ، تشع بالإغراء ، و تجذب اللصوص و القتلة و قطاع الطريق ، كما تجتذب بعض نباتات الأمازون الجارحة الحيوانات و الحشرات ، فتنسد عليها و تعتصرها ، وتمتص دماءها و تفترس لحومها ، بينما الشركات المساهمة في بنائها تتجادل حول نصيبها من ملكيتها ، و تتنازع في حل الشبكة القانونية المعقدة التي ذهب بعض المحامين إلى القول خفية بأن اسماعيل تركها كذلك عمدا . انتهت. | ||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|