سماه – أبى - يزيد ، وهبته من الحب والعطف المزيد .. أطعمته لحم كتفى ، سقيته ماء عينى ، فردت عليه جناحى حتى شب .. أصبح قادرا على التحليق. وفى ليلة لم تكتحل سماؤها بضوء القمر نظرت فى عينيه فإذا ذئب جائع يقعى و يعوى ، تمتد مخالبه لتنهش مضغة فى صدرى .. يده تدير جسدى يتخلص من علامة استفهام ترتسم على وجهى .. تدفعنى من خلفى .. تخرجنى من بيت أب لم يعش إلا سنوات فى كنفه ، اوصانى لحظة احتضاره به .
حفظته صغيرا .. ركلنى طريدا عندما استغنى عن مساعدتى .. جفت فى حلقى الكلمات ، سكبت عينى العبرات ، مادت من تحتى الأرض ، خر من فوقى سقف الوفاء ، شل قدرتى على التفكير .. عن التعبير .. عن العودة إليه لمعاتبته .
لم تكن فى عينى إلا صورة الطفل الصغير .. يرقص .. يجرى .. يقفز حول جسد أبينا المسجى و الدموع تزرفها العيون حزنا على مصير يتيم لا يدرى بحقيقة حاله .
بذلت جهدى ، وقتى لأجعله لا يشعر بإحساس فقد الأمان أضع كفه النحيل فى يدى .. أسير منشرحا معه فى الشوارع اشترى –له - ما تقع عليه عينيه .. تشتاق له نفسه .. علمته القراءة ، الكتابة والحساب .. حفظته قصار السور حكيت له قصص الغابرين والناجحين كى افتح خلايا مخه .. كشفت له أسرار الشطرنج ، خططه وضعته على درب المنافسة . صار بطلا للمحافظة . لاعب مشهور بنقلاته القاتلة على مستوى القطر .
كنت أغيب أياما فى الشهر لالتقاط رزقى فى مدن بعيدة ، ارجع مشتاقا بلهفة طائر علي أفراخه أشعل روحى سراجا لتضئ حياته .. أثلج صدرى وهو ينمو يفوق أقرانه ، يطول العود ويستقيم القد .. يعلو قدره واصغر فى عينيه .
يطول بيننا الفراق .. انتظر منه رد الجواب.. رنه على الهاتف.. دعوة لشات . التمس له ألف عذر تارة بأنه مشغول فى امتحانات الجامعة ، يفكر فى الارتباط وثالثة بخطبة لم ينتظر قدومى لإعلانها .أحكى لاطفالى عن عمهم يأخذوه قدوة حياتهم .. يسألونى بخبث الطفولة : هل يعترف أنك حقا أخوه ؟
صدقت نبؤتهم بعد سنة من السعى لجمع الدولارات بالحفر فى سبخة كربلاء .. سرت على جمر الشوق –عائدا - ليكون أول وجه أقابله .. أغلى يد أصافحها .. أجذبه لاحضانى ، امرر كفى على ظهر من ربيته فى حجري صغيرا.. أوقفنى – كسائل - على الباب .. بالداخل أصهاره .. ضربت كف إنسان آلى على يدى , كأنه سيدا يؤنب خادما تعدى قدره . تجاهلت برودة الاستقبال.. مددت قدمى اليمنى للترحيب بضيوفنا.. تجهم ، حطت على وجهه غمامة سوداء .. ضغط بأنيابه على شفته السفلى ،بدا كمن يكظم غيظا ..وجه حد لسانه .. سلخ جلد وجهى : من فضلك لا تدخل الغرفة ؟
رأيتنى مذبوحا .. الدم يتدفق من فتحتا أنفى .. من شدقى . استندت لجدار وعصا .. تحاملت على زند ولدى .. صك بابه خلفنا لم أدر والروح فى الحلقوم . هل مت أنا؟ أم مات فى قلبى الصغير ؟