الفصل الأول
كان شهر كانون الثاني يناير مدلهماً أغبر ، كما أخذت جينا تفكر وهي تنظر من نافذة غرفة الاجتماعات ، تنظر الى الرياح الشمالية تلفح مياه النهر ، كان كانون الثاني ، هذا العام أسوء من العادة ، كان شهراً جاثماً حول المدينة كالذئب بيقظته و مخالبه .
ومن خلفها كانت تسمع صوت هيزل فان ليدين وهي تتحدث برقة الى صوفي ، الفتاة التي جاءت بديلاً عنها للعمل رئيسة قسم سكرتيرية كاسبيان ، وكانت هيزل تقول " يجب أن يكون لديه إبريق ماء مثلج و كوب بجانبه ، ومجموعة أقلام من كل نوع ، ودفتر ملاحظات هنا ... "
تنهدت جينا وقد كرهت فكرة رحيل هيزل خلال أيام فقد اشتغلتا معاً منذُ مدة طويلة و ستفتدقها حتماً ، ولم تكن بداية سعيدة للسنة الجديدة .
لكن كل شيء كان يبدو كئيباً مقبضاً ، فلا أوراق على الشجر لا أزهار ولا لون في أي مكان ، ولا شمس ، .. كل شيء يبعث على الاكتئاب .. هذا الإكتئاب الذي اخذت تشعر به منذ العيد ، ربما بتأثير الجو فهي لم تستطع أن تتذكر شتاء مرّ عليها أكثر برودة من شتاء هذه السنة .
لقد اخذ الشجر يتساقط منذُ أسابيع ، فتجمدت البحيرات وادلهمت السماء ، وتساقطت العصافير ميتة من الاشجار العارية ، وكان المارة يسرعون منحني الرؤوس في الشوارع التي تكنسها الرياح ، وفي مجمع باربي وارف وبالرغم من التدفئة المركزية كانت جينا تجد نفسها على الدوام باردة الاطراف سريعة الغضب و الاستثارة .
كانت هيزل قد لاحظت مزاجها غير العادي هذا ، وحيث إنها صديقة قديمة لها فقد جرؤت على أن تسألها " جينا ، لقد اصبح طبعكِ غريباً في المدة الأخيرة ، مالذي حدث لك ؟ "
فقالت جينا " لقد تعبت من هذا الجو الشتوي . "
منحتها ابتاسمة جانبية جافة " حسناً السنا جميعنا نعاني نفس الشيء ، إن علي ان احاذر في كل خطوة أخطوها ، فالارصفة شراك للموت ، والناس من التهافت على الهرب من ذلك البرد بحيث يتدافعون حول المنعطفات دون أن ينظروا أمامهم ."
على الفور نسيت جينا مشاكلها ، فنظرت الى صديقتها بعينين ملأهما القلق " الحق معكِ ، ربما عليكِ أن تكفي عن العمل حالاً ، فاذا حدث لكِ شيء فلن أصفح عن نفسي على الاطلاق ! "
" لم يبق أمامي سوى أسبوعين أو نحو ذلك ، وانا حذرة جداً ، لاتقلقي "
وكانت هيزل تطمئنها بهذا الكلام ، ذلك انها في هذا الشهر قد برز حلمها كثيراً ، ما اثقل على قوامها الرشيق ، فكانت تتحرك ببطء وتثاقل ، وهي تضع يدها ، غالباً على ظهرها مايشير الى انها في آخر فترة الحمل ..
وأحياناً كانت جينا تنظر اليها فلا تكاد تعرفها ، لقد تغيرت هيزل تماماً ، ليس بجسدها فقط ، ولكن بعقلها أيضاً ، فهي تعمل بجانب جينا مباشرة ، ولكن عقلها كان في هولندا حيث زوجها بييت فان ليدين قد شرع في انشاء شركته الخاصة .
كان تخليه المفاجيء عن نيكولاس كاسبيان بمثابة صدمة لهذا الاخير ، فقد كان بييت يعمل في مؤسسة كاسبيان الدولية للهندسة يصمم المباني ويجدد القديم منها وذلك منذ استلم نيكولاس شركة والده ، وكان نيكولاس يثق في بييت اكثر من أي رجل آخر يعمل معه ، فهو يعلم ان بييت لايمكن ان يفشي سراً أؤتمن عليه ، كما كان يأخذ نصيحته بجد ، فهما يعرفان بعضهما البعض منذ عهد الدراسة معاً ، فقد كانت علاقتهما شخصية اكثر مما هي عملية ، واحست جينا بمبلغ الم نيكولاس عندما اخبره بييت برغبته في ترك المؤسسة
منذ ذلك الحين و الجو حوله تحت الصفر ، وزاد الامر سوءً رفضها الذهاب معه الى سان فرانسيسكو لقضاء فترة العيد معه و مع والدته ، لقد رحل عند ذاك بصمت ولم يعد الا منذُ اسبوع ، وفي نفس المزاج وبعد ذلك غياب طال اكثر مما يتوقعه أحد ، ويبدو انه بعد سان فرانسيسكو ، ذهب لزيارة عدد من صحفه مبتدئاً بميلانو ، ثم برلين حيث كان لديه بعض المشاكل في جهاز التوزيع
غاب حوالي الثلاثة اسابيع ، وكانت هذه اطول مدة امضاها خارج لندن منذ شرائه للصحيفة طوال السنة الماضية اخذت سنتنال مقداراً كبيرا من اهتمامه ، رغم زياراته المتكرره الى الاقسام الاخرى من امبراطوريته الدولية لمدة قصيرة ، اعتاد ان يغادر لندن مساء يوم الاحد ، فيمضي عدة ايام في اي بلد يتطلب اهتمامه ، او يستقل الطائرة الى لكسمبورغ ، مركز مؤسسته ، ثم يعود الى لندن في منتصف الاسبوع .
تعال رنين الهاتف في قاعة الاجتماع ما جعل جينا تجفل ، فقالت هيزل لصوفي " هل لك أن تجيبي الهاتف ؟ "
ثم نظرت الى جينا عابسة " هذا أول واحد منهم ، فهو لابد السيد هنري هارينغتون .. فهو عادة أول من يصل الى الاجتماعات "
وكانت صوفي تتكلم بصوتها الهاديء الحذر " نعم ، أرسلي السيد هارينغتون إل اعلى ، من فضلك ! "
فخفضت هيزل من صوتها الى مايشبه الهمس " انها سكرتيرة مثالية ، وهي افضل مني كثيراً "
فقالت جينا " لاتكوني حمقاء ، ولاتستجلبي بهذا القول المديح لنفسك ، إن صوفي ستكون فتاة قديرة جداً ، وطيبة أيضاً ولكنني سأبقى افتقدكِ ، وانتِ تعلمين جيداً إنكِ لايمكن تعويضك بالنسبة إليّ "
فأبتسمت هيزل بشيء من الغموض وهي تقول " أشكرك لرفعكِ معنوياتي " ونظرت الى ساعة يدها " أظن علينا أن نخبر نيكولاس بأنهم إبتدأوا يتوافدون "
قالت جينا وهي تسرع نحو باب نيكولاس " سأخبره بنفسي "
و وجدت نيكولاس خلف مكتبه بالقميص دون سترة ، رجلاً قوي البنية ذا شعر اسود ووجه قوي الملامح ..
كان متكئاً إلى خلف في مقعده الدوار ، رافعاً ساقيه على المكتب وهو يتصفح الملفات التي ستناقش في اجتماع مجلس الإدارة .
قالت جينا لاهثة " لقد وصل هنري "
فرفع اهدابه السوداء ينظر اليها بعينيه الباردتين كرياح الشمال و الرماديتين كسماء يناير "
كانت تكره نظرته اليها بهذا الشكل ، وكانا قد امضيا طوال السنة في حالة مواجهة وخصام ! ولكنها لم تصل الى مثل هذا العداء . هل مايزال نيكولاس غاضباً لأنها رفضت الذهاب معه الى سان فرانسيسكو ؟
قال بإيجاز " قدمي إليه شراباً ! إذن واجعليه سعيداً الى حين حضوري "
كان يقول ذلك آمراً وكأنها مستخدمة جديدة عنده !
فقالت و قد إمتلأت نفسها إستياء " إن هيزل ستقوم بذلك ، ولكنني ظننتك ربما تريد أن تعلم .... "
" حسناً ، ها إنني أعلم الآن ! ولكنني مشغول ، عودي اليه وكوني ظريفة معه فأنتِ تصلحين لذلك ! "
وعاد ينظر الى الملف الذي بين يديه ، وكأنه بهذا يطردها دون كلام فسحبت نفساً عميقاً وقد أوشكت على الانفجار غاضبة ! ولكنها ما لبثت أن تسلحت بالحكمة !
ودون أن تنطق بحرف ، استدارت وخرجت صافقة الباب خلفها بعنف بحيث تجاوب صدى ذلك من أنحاء الطابق بأكمله ، كان بإمكانها أن تتصور النظرات التي تبادلها كل من كان يعمل في حدود السمع ! فقد كانت تعرف اقاويل الموظفين في مجمع باربي وارف ، لقد كانت الشائعات هي الهواء الذي يتنفسونه ! وخصوصاً إذا كان يتعلق اللذين كانا يملكان معظم الأسهم في سنتنال !
والآن بعد أن سمعوا صفق الباب ذاك ، ستنتشر الشائعات !!
عندما عادت الى غرفة الاجتماع كادت تصطدم بمحررة بارزة في الصحيفة ، كوليت تسي والتي كانت خارجة من المصعد ! ابتسمت لها كوليت وإذ رأت الضيق البالغ المرتسم على ملامحها رفعت حاجبيها تسألها " مشاكل ؟ "
" إنه دوماً كذلك " قالت جينا ذلك دون لباقة فارتسمت على شفتي كوليت إحدى ابتساماتها الصغيرة الماكرة " نيكولاس ؟ نعم ، لقد اصبح مؤخراً لايطاق ، ولكن الرجال يكرهون دوماً تغيير نظامهم ، وقد حدث هذا حالياً بالنسبة إلى ترك بييت و هيزل الشركة في نفس الوقت ، أتريدين نصيحتي خففي عنه عندما يتغير مزاجه ... ولا تناقشيه "
توهج وجه جينا غضباً ، مالذي تعرفه كوليت عن مزاج نيكولاس ؟ إنها تعلم إن نصيحتها لا تؤدي الى شيء !
لم تزعج نفسها بالجواب ، وإنما نظرت الى ساعتها " عليّ أن أسرع الى غرفة الاجتماع والا تأخرت ! "