آخر 10 مشاركات
ضلع قاصر *مميزة و مكتملة * (الكاتـب : أنشودة الندى - )           »          الرزق على الله .. للكاتبه :هاردلك يا قلب×كامله× (الكاتـب : بحر الندى - )           »          شيءٌ من الرحيل و بعضٌ من الحنين (الكاتـب : ظِل السحاب - )           »          سمراء الغجرى..تكتبها مايا مختار "متميزة" , " مكتملة " (الكاتـب : مايا مختار - )           »          دموع زهرة الأوركيديا للكاتبة raja tortorici(( حصرية لروايتي فقط )) مميزة ... مكتملة (الكاتـب : أميرة الحب - )           »          ندبات الشيطان- قلوب شرقية(102)-للكاتبة::سارة عاصم*مميزة*كاملة&الرابط (الكاتـب : *سارة عاصم* - )           »          وعاد من جديد "الجزء 1 لـ ندوب من الماضي" -رواية زائرة- للكاتبة: shekinia *مكتملة* (الكاتـب : shekinia - )           »          الدخيلة ... "مميزة & مكتملة" (الكاتـب : lossil - )           »          قراءة في مقال حقائق مذهلة عن الكون المدرك (الكاتـب : الحكم لله - )           »          عالقة بشباك الشيطان (105) للكاتبة: Carole Mortimer *كاملة* (الكاتـب : Gege86 - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة > روايات اللغة العربية الفصحى المنقولة

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 28-05-15, 10:45 AM   #11

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي





الجزء التاسع






كانت تتنفس باضطراب و هي تزيح المناديل الورقية البيضاء برفق لتظهر بقايا الكراس المتفحمة... تجمعت الدموع في عينيها من جديد و هي تحاول أن لا تتفتت قطع الورق بين أصابعها قبل أن تطالع ما فيها من كلمات متناثرة يحيطها السواد و قد صار حبرها ضبابيا بمفعول الحرارة... لم تجد أثرا للصفحات الأولى التي رأتها في المرة الماضية. تنهدت في حزن، فقد كان الكراس بين يديها، و كان بإمكانها أن تقرأ كل شيء... كل شيء، دون أن يحس فراس أو يعلم!

عضت على شفتها السفلى في أسى... هل ندمت؟ لا... فهي في نهاية المطاف لم تفعل إلا أن طبقت مبادئها التي رباها عليها والدها و غرسها في نفسها... كم من المواقف أشعرتها بأن مبادئها تلك أكل عليها الدهر و شرب و لم يعد لها مكان في المجتمع الحديث المتحضر! و هذا موقف آخر... هزت رأسها في عنف لتطرد تلك الأفكار السخيفة... لا، لن يزعزع ثقتها...

حارت عيناها بين الكلمات المبعثرة التي ترقص على الورق أمامها... و لا جملة كاملة! استمرت في تقليب الصفحات، و الألم يعتصر قلبها، و الأمل يتراجع في داخلها. لكنها أخيرا عثرت على صفحة نصف محترقة! فلننظر إلى النصف الملآن من الكأس... بقي النصف السليم من الصفحة... التهمت عيناها الكلمات التهاما، كأنها تخاف أن تتبخر هي الأخرى... أنهت الأسطر القليلة و هي تلهث. لبثت تطالعها و الصدمة جلية على ملامحها... عادت لتقرأها بتأن و هدوء... و هي تتمعن في كل كلمة و كل حرف... و هي تحس بأنفاسها توشك على الانقطاع من وقع ما قرأت... و دقات قلبها تضرب صدرها بعنف...

"... لست مضطرا إلى تحمل أخطائي و لا إلى تحمل مسؤولية زلاتي... أفضل مائة مرة أن تعاملني أمام الناس كما تظن أنني أستحق، على أن أتحمل لطفك و دفاعك المزيف أمام خالي و بقية أفراد العائلة... لكن معك حق، فشخص مثلي لا أمل له في الحياة... كان يجب أن أموت معها، ليتها لم ترحل و تتركني وحيدة..."

رفعت عينيها في دهشة... ما الذي فعلته يا حنان حتى يعاقبك فراس... عقابا يخفي حقيقته عن العيون؟ و ماذا عن شبح الموت الذي تناجيه حنان في رسائلها؟ لا شك أنها تتحدث عن وفاة نجاة، والدتهما...
عادت إلى الكراس الصغير، و بأصابع مرتجفة، قلبت الصفحة...

"... أعلم أنك تحتقرني، بل تكرهني... و لا تحتمل حتى النظر في وجهي. لكنني لم أعد أحتمل إهاناتك المستمرة و نظراتك السامة التي تطالعني بها كلما صرنا بمفردنا... ليتك تضربني، على الأقل كنت لأرى علامات على جسدي تثبت لي قسوتك و دناءتك... بل ليتك أنهيت معاناتي في تلك الليلة، ليت قبضتك التي اعتصرت عنقي أخمدت أنفاسي مرة واحدة و إلى الأبد. لماذا أبقيت على حياتي؟ لتقتلني كل يوم ألف مرة؟ الحياة معك بهذا الشكل عذاب لا يطاق، بل لم أتوقع أن مثل هذا العذاب قد يوجد..."

ألا تزال تخاطب فراس في رسالتها؟ هو نفسه... "عزيزي فراس"، و "أنا ممتنة لك"؟ حياتها معه عذاب؟ حياتهما معا التي لم تستمر سوى أشهر قليلة!!! أي نوع من الأزواج كانا؟ إهانات و نظرات سامة... و ماذا بعد؟ رأت ليلى شريط الأحداث يتقدم بسرعة أمام عينيها... عذاب حنان... قسوة فراس... الضحية... و الجلاد... توالت المشاهد أمام عينيها كأنها شهدتها، أو ربما كانت ترى نفسها مكان حنان، تحس ما أحسته، و تطالع فراس بعينين خامدتين، قد ودعتا الحياة... لماذا، يا فراس... لماذا؟ توقف الشريط عند مشهد النهاية... انهيار، يأس، انتحار... أم تراه غير ذلك؟ عادت إليها شكوك سحر... أخذت فرائصها ترتعد، و سالت دموعها على وجنتيها دون وعي منها...

كل تلك الأفكار التي هاجمت عقلها في لحظة واحدة كانت أقوى مما تستطيع احتماله، هي، ليلى القوية... ليلى الصامدة، التي عاشت الطفولة و المراهقة شبه وحيدة و تعلمت أن تحبس دموعها و تبتلعها... راحت تبكي بحرقة، و أخذت أنفاسها تتسارع، و علت شهقاتها لتملأ فراغ الغرفة... التي كانت زرقاء... الغرفة التي شهدت المأساة... مأساة توأمها التي لم تعرفها! لم تكن قد استوعبت بعد أنها قد انتحرت، حتى وجدت نفسها هنا... و هنا فقط، في مسرح الأحداث، تحركت أشياء في داخلها... طفت الصدمة من جديد على السطح، حين تخيلت نفسها مكانها... بل حين استوعب عقلها بشاعة مصيرها... كانت في البداية تعاين الأحداث كأنها لا تعنيها، كقصة غريبة، عن شخص غريب، ترويها شفاه غريبة... لكنها الآن معنية أكثر من أي لحظة مضت... إنها الآن هنا... أصبحت مسؤولة دون أن تدري عن كشف الحقيقة... فأين المفر؟

لكن ما أرعبها و عبث بنسق دقات قلبها، هو شكها، الذي بات يقينا، بأن لفراس يدا فيما حصل لحنان! سواء كان ذلك بصفة مباشرة أو غير مباشرة، فهو الذي دفعها إلى الانهيار... يقتلها في اليوم ألف مرة؟ فراس الذي كانت بالأمس تعطف عليه و ترغب في مواساته... ماذا صارت تحس تجاهه الآن؟ تذكرت نظراته النارية القاسية... تجهمه، عبوسه و غضبه... كان يعاملها بتلك الطريقة طوال الوقت... و هي زوجته؟!

"... حين أفكر بأن حياتنا معا قد تستمر طويلا، يصيبني الغثيان! ليتك فقط تفي بوعدك و تريحني من هذا العناء... لم يعد هناك الكثير، و قريبا... قريبا أخرج من هذا الكابوس..."

أحست بدوار يلم بها، يعصف بدماغها... أراحت رأسها على خلفية السرير... لا تستطيع أن تركز، التفكير يرهقها، يتلف أعصابها... لا تريد أن تصل إلى نتائج مرعبة... كيف غابت تلك الحقائق عن الجميع، و كيف نامت المأساة بين طيات المفكرة المفقودة طول السنين الماضية، لتأتي هي بصدفة...لا، بل بتقدير القادر... لتكشف الستار...

اكتئاب الحمل؟!! أطلقت ضحكة صغيرة ساخرة... من تراه صاحب الكذبة السخيفة؟ هل هو أنت... فراس؟

لكن هناك حلقة مفقودة... كلام حنان لا يزال غامضا... ماهي الأسباب التي أدت إلى تدهور العلاقة بينهما إلى تلك الدرجة؟ بل كيف كانت العلاقة قبل زواجهما؟ و ماهي الظروف إلى أدت بهما إلى الزواج؟ أسئلة كثيرة تحتاج إلى إجابات... و فورا!

عادت لتبحث من جديد بين قطع الرماد... تبحث عن دافع، تفسير، تبرير منطقي لما حصل... فراس كان بلا شك على علم بما ورد في الكراس، لذلك حاول التخلص منه، رماه في المحرقة... طريقة الإعدام في القرون الوسطى! أراد إعدام الدليل... الشاهد الوحيد على قيد الحياة على ماضيه الأسود مع حنان... لم يكن يريدها أن تدخل الغرفة منذ البداية... كان خائفا من الحقيقة، خائفا من أن تعثر على دليل يدينه، خاصة و هو يعلم بوجود هذا الدليل... لكنه لا يعلم أين أخفته يد حنان الصغيرة عن العيون...

كانت الأفكار التي تدور في رأسها كلها سوداء... و المفكرة التي بين يديها سوداء... و أصابعها تلطخت بالفحم الأسود... رفعت رأسها، فاصطدمت بصورتها التي انعكست على المرآة المقابلة... كانت هالات سوداء، ظهرت فجأة، تحيط بعينيها. هالها شكلها... ملامحها غائرة، و العرق يملأ وجهها... تابعت قراءتها في صفحة أخرى، نجا جزء منها من المحرقة :

"لم أحس يوما بالانتماء... إلى عائلة... عائلة تغمرني بحنانها و أشعر بالدفء بين أفرادها... و كان حلمي بالزواج هو حلم كل فتاة مراهقة في سني، الفارس الشهم على فرس أبيض، حب و سعادة و شهر عسل... لكن الحقيقة كانت مختلفة كل الاختلاف... لا عائلة، لا حب... و حتى شهر العسل حرمتني منه! و لكنني لا ألقي باللائمة عليك، فأنا التي وافقت على جميع شروطك، و ظننت أنني الرابحة في الصفقة! ظننت أنني قد..."

وقفت ليلى أمام الجملة المبتورة، التي احترقت نهايتها، في حيرة، تحاول أن تصل إلى ما وراءها... صفقة؟ شروط؟ بينهما عقد... لكن يبدو أنه عقد من نوع آخر!! بدأت الصورة تتضح في ذهنها، نوعا ما... صورة الزواج الغريب الذي جمع أختها بابن خالها... مصالح مشتركة... ثم؟
يبدو أن أحد الطرفين أخل ببند من بنود العقد! ابتسمت في سخرية و في حلقها طعم مرارة... الزواج، العقد... الرباط المقدس... لم يكن سوى مهزلة... ترددت في رأسها نصوص القانون التي درستها وحفظتها عن ظهر قلب طوال السنين الماضية... العقود... "القانون لا يحمي المغفلين!"... هل كانت حنان مغفلة؟

"... أمامك خياران... أن تقتلني، أو أن تتركني أقتل نفسي... لكنني في كلتا الحالتين أحملك المسؤولية... و سأترك كل الأدلة ضدك! لست أطلب إذنك، و لكنني أتمنى أن أرى وجهك بعد رحيلي... بعد أن أكون قد حققت خطتي وحدي، و تمردت على رغباتك... فلست نادمة على شيء بقدر ما أنا نادمة على انصياعي لك..."

لم تعد تحتمل، تشويش طغى على أفكارها... انقطع الإرسال... أراحت رأسها على الوسادة و هي تحس بتعب عقلي و نفسي و جسدي في آن... أرسلت تنهيدة حرى، و ارتخت عضلاتها... متعبة... لم تدر كم مر عليها من الوقت و هي في تلك الوضعية، تصارع الهواجس و الكوابيس...

فجأة، ارتفعت دقات عميقة... لم تكن في رأسها، بل على باب الغرفة. بالكاد استطاعت أن ترفع رأسها قليلا و تهمس بصوت شبه مسموع : من هناك؟

سمعت أصواتا و لغطا في الخارج، ثم فتح الباب و اقتربت منها الأقدام. سارعت إليها منال و هي تهتف في قلق :
ـ ليلى هل أنت بخير؟

هزتها من كتفيها و تلمست وجهها المبلل بالعرق و هتفت من جديد :
ـ أنت محمومة! يجب أن يراك طبيب... سارة أرجوك، استدعي فراس فورا...

ما إن سمعت اسمه حتى فتحت عينيها رغم الضعف الذي سرى في أوصالها و هتفت في رعب :
ـ لا... لا أريد!

توقفت سارة في تردد، فحثتها منال على الذهاب بنظرة من عينيها و إشارة برأسها، ثم التفتت إلى ليلى و هي تهمس في حنان :
ـ لا تكوني طفلة... أنت لا تخافين من الحقن، أليس كذلك؟

كانت تريد أن تصرخ... لا أريد طبيبا، لا أريد فراس! أرجوكم، لا تدعوه يقترب مني... لكن كلماتها بقيت محبوسة في حلقها... تحركت شفتاها ببطء، لكن صوتها لم يكن مسموعا... خارت قواها دفعة واحدة، فأغمضت عينيها و غابت عن العالم للحظات... لم تعد تشعر بشيء مما حولها... لكن الأصوات تتسلل إلى عقلها متداخلة و باهتة... ثم ظهر صوته ضبابيا و هو يهتف : "هل هي بخير؟ ..."
و ماهي إلا لحظات حتى راحت في نوم عميق...



حين استيقظت، كانت بمفردها في الغرفة... رفعت ذراعها في إعياء و تحسست جبينها. كانت لا تزال تحس بالدوار، لكن وجهها لم يعد ملتهبا... تذكرت ما حصل، منال و سارة في الغرفة... ثم...لا!!! فراس كان هنا! نعم كان هنا، إنها متأكدة... أحست بوجوده حولها رغم إغمائها، أنفاسه تبعث التوتر في الجو... استقامت في جلستها فجأة، و تلفتت حولها في ذعر... الكراس! أين هو؟ كان إلى جانبها حين أغمي عليها... دارت حول نفسها، قطعت الغرفة جيئة و ذهابا و هي تلقي بالأشياء حولها في جنون، تفتح الأدراج و تغلقها، تقلب اللحافات و قطع الملابس، تنحني لتلقي نظرة تحت قطع الأثاث... تمسك برأسها في ألم، و تعيد جولتها في الغرفة و أنفاسها تتردد بضعف في صدرها... لا تزال مريضة... تحس بوخزة الحقنة في ذراعها...

لا!!! مستحيل! لم يعد هنا... اختفى! حتى المناديل الورقية التي كانت تلفه اختفت هي الأخرى... بلا أدنى أثر! اختفى الدليل الأخير، ألقى به في محرقة أخرى ذاك... ذاك... ذاك الحقير! لم تكن الكلمة في قاموسها قبل اليوم، لم تجد في نفسها حاجة لاستعمالها. لكن اليوم... اليوم تشعر بالغضب يتطاير من جميع خلايا جسدها... كأن مشاعرها زجت داخل بوتقة تصهرها و تعيد تشكيلها... لم تكن تعرف الغضب و لا الكراهية... لكنها اليوم بركان ثائر... كأن حنان قذفت بحمم كلماتها إلى صدرها... و صارت تغلي في عروقها مشاعرها اليائسة و حقدها الدفين على فراس...

ألقت بنفسها على السرير ثانية و أخفت وجهها بين كفيها... لعل الدموع تطفئ لهيب بركان صدرها...
تناولت الهاتف بيدين مرتجفتين، حين جاءها الرد هتفت بصوت مخنوق من العبرة :
ـ سحر... النجدة!



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 10:45 AM   #12

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




الجزء العاشر




كان صباحا ربيعيا مشرقا... أزاحت الستائر و تركت أشعة الشمس تداعب أركان الغرفة وتزيد اللون الوردي إضاءة. ملأت رئتيها بالهواء النقي الذي حمل إليها عبير الورود. ابتسمت ببراءة... كم هي في حاجة إلى استرجاع شيء من الصفاء، من الفطرة المتفائلة المطمئنة...

أنهت عملها في الغرفة، و تخلصت تماما من بقايا الغرفة الزرقاء... لكنها لم تتخلص بعد من مخلفات الليلة الماضية و تأثيرها على نفسيتها... شغلت نفسها بكل شيء و أي شيء... تريد أن تمنع الهواجس من التسلل إلى عقلها، حتى تفكر باتزان و روية. تحس في نفسها حاجة إلى الراحة... راحة تستجمع فيها قواها و تنظم أوراقها التي بعثرتها الاكتشافات الأخيرة...

قررت أن تخرج من الغرفة... الساعة كانت تشير إلى الحادية عشرة إلا ربع. في مثل هذا الوقت يكون القصر شبه خال... خالها و ياسين يكونان في الشركة... فراس يكون في المستشفى أو في العيادة... و كل ما يهمها في الوقت الحالي هو أن تتجنب رؤيته... بالكاد تخلصت البارحة من فكرة أن يكون قد دس لها سما في الإبرة التي حقنها إياها!

فتحت الباب في هدوء و أطلت برأسها في حذر... تأكدت من أنه لا أحد في الممر، فتقدمت في خطى وئيدة، أغلقت الباب وراءها و هرولت في اتجاه الدرج، لا تريد أن يعترض أمين طريقها... إنها في حاجة إلى جلسة هادئة ومريحة في الحديقة... لتسترخي و تستعيد هدوء أعصابها... ففي ركنها الخاص الذي تعودت الجلوس فيه منذ إقامتها هنا، تجد الطمأنينة و السكينة...

كان تسير مسرعة و تلتفت وراءها باستمرار... لتتأكد من أن أحدا لم يلمحها... و خاصة أمين الفضولي الذي لا يمكنها أن تتحمل ثرثرته اليوم... فجأة، اصطدمت بجدار أمامها في عنف و كادت تفقد توازنها لولا أن استندت بذراعها على حائط الممر. أطلقت صرخة خافتة و هي تسمع صوت ارتطام أشياء سقطت على الأرضية الرخامية. رفعت عينيها لتلتقي بعينين تعرفها جيدا... عينيان تثير نظرتهما فيها مشاعر كثيرة... الخوف و الشك و مؤخرا... الاشمئزاز! فلم يكن الجدار الذي اصطدمت به سوى... فراس!!! لوهلة بدا لها عملاقا، ربما لأنها لم تقف قريبة منه من قبل... أو ربما لكل الأفكار السوداء التي سكنت خيالها عنه و عن ماضيه...

تراجعت في ذعر و مشاهد كثيرة تتدافع في رأسها... لقاؤهما البارحة في حفلة الشواء، الكراس المحترق، المذكرات... الحمى... الحقنة... و الكراس الذي اختفى!

لم يعد هناك ما تخفيه... صارت تعلم الكثير من الحقائق... و هو يعلم بأنها تعلم... و لا مفر من المواجهة! تمالكت نفسها بصعوبة، و أطلت من عينيها نظرات صارمة قاسية... هو الذي يجب أن يخاف منها، لأنها كشفت سره... و ليس هي! و لكن الكراس اختفى و لم يعد بيدها أي دليل... إذن كلمتها ضد كلمته؟!

قاطع أفكارها صوته و هو يسألها :
ـ هل أنت بخير؟

عجزت للحظات عن التفكير... طالعته في شك و ريبة... هل يسخر منها؟ ما هذا الذي في صوته؟ اهتمام؟ عطف؟ أم استجواب طبيب لمريضه؟ لبثت تنظر إليه في حيرة...

بدا عليه الارتباك و هو يقول :
ـ كنت محمومة البارحة... أنت لا تأكلين جيدا، و جسدك يضعف يوما بعد يوم... عليك بالتزام حمية غذائية مناسبة لاسترجاع قواك...

رفعت حاجبيها في دهشة و هو يواصل بصوت خال من التعبير :
ـ لقد أعطيت التعليمات اللازمة لعم هاشم بشأن طعامك...

قاطعته في حدة :
ـ لا علاقة لك بطعامي و لا بصحتي!

حدجها بنظرة غاضبة أوقفتها على الفور و جعلتها تندم على تحديه... تعلم أن غضبه من النوع الفتاك... لكنه تنهد بصوت مسموع و قال بهدوء :
ـ أنا في الوقت الحالي طبيبك... و عليك اتباع تعليماتي للتعافي... ربما لم تجدي الجو المناسب هنا، و غياب والدك أثر على نفسيتك... لكن عليك أن تهتمي بنفسك أكثر، حتى يجدك عمي نجيب في كامل صحتك حين عودته...

شدت على أسنانها بقوة... كأنه لا يعلم ما الذي أثر على نفسيتي! أي لعبة تلعبها يا فراس؟ هل تظن بأنني سأغير فكرتي عنك لقناع اللطف الذي تضعه على وجهك لساعات قليلة في اليوم؟ أنت تعلم أنني كشفت عن جوانب شخصيتك الأكثر سوادا، لذلك لا داعي للتحايل...

كان لا يزال يقف أمامها، صامتا... كأنه لم ينته بعد من كلامه... متردد؟ أوراقه و ملفاته مبعثرة على الأرض، و هو لا يهتم بجمعها...تساءلت في ضيق... ما الذي جاء به في هذا الوقت بالذات؟ أليس من المفروض أن يهتم بمرضاه الحقيقيين؟! لا يمكنها أن تتخيل أن شخصا مثله يعمل طبيبا، يخفف عن الناس و يشفي آلامهم!!! ازداد اشمئزازها من الفكرة...

مضت الثواني ثقيلة، لا يمكنها أن تحتمل أكثر... تشجعت، ابتعدت عنه، و مرت من جانبه مندفعة باتجاه السلم، تجاوزته و هي تلهث... داست على ملفاته في شماتة...

استوقفها فجأة :
ـ ليلى...

تسمرت في مكانها على الدرجات الأولى. هل سيعنفها؟ ما الذي دهاها حتى تتحداه بتلك الطريقة؟ تصرخ في وجهه، تتجاهله ثم تدوس أوراقه... كأنها لا تدري ما بمقدوره فعله!

لكنه لم يمهلها لتتدارك موقفها... فاجأتها نبرته، و كلماته :
ـ أنا آسف...

استدارت و هي لا تكاد تصدق أذنيها. إنها المرة الثانية التي يعتذر فيها فراس منها!!! لم تعد تفهم شيئا!

تابع في هدوء دون أن ينظر إليها :
ـ كنت متعبا البارحة... تصرفت بتهور... ما كان يجب أن أصرخ في وجهك...

متعب؟ تهور؟ هل هذا كل ما تملكه من مبررات؟ هل هكذا أيضا ستبرر تصرفاتك مع حنان و معاملتك السيئة لها؟ هل تسخر مني يا هذا؟

لم تعلق بكلمة... استدارت و تابعت نزول السلم... قطعت البهو و هي تنظر بلهفة إلى المخرج، كأنها تفر... تريد أن تفلت من حصاره، أن تبتعد عن محيط تواجده قدر الإمكان. حين وصلت إلى الباب الخارجي حانت منها التفاتة... كان لا يزال مسمرا في أعلى السلم، موليا إياها ظهره... يضع كفه على جبينه، و الأوراق لا تزال مبعثرة على الأرض... يعيد حساباته؟

تجاوزت الباب مسرعة و اختفت في الحديقة... لم تنتبه إلى الشخص الذي كان يراقب المشهد مستندا إلى باب المطبخ، عاقدا ذراعيه أمام صدره. ثم لم يلبث أن عاد إلى الداخل في هدوء...


*********


طرقات على بابها من جديد... كانت قد عادت إلى غرفتها منذ نصف ساعة بعد أن تأكدت من مغادرة فراس للقصر، لمحته و هو يركب سيارته الباسات البيضاء من مجلسها الخفي في الحديقة... لم تكن نتائج خلوتها في أحضان الطبيعة كالمرجو... فقط زادتها تصرفات فراس المتناقضة تشوشا...

وقفت في تثاقل و فتحت الباب و هي تبتهل في سرها... يا إلهي أرجوك، إلا أمين، ليس الآن وقت الثرثرة و الدعابات... و لكن لحسن حظها، طالعها وجه منال المبتسم!

احتضنتها في ود، و أخذت بيدها لتجلسها على الفراش وهي تقول في مرح :
ـ كيف حال صغيرتنا اليوم؟ أرأيت... ليست الحقن مخيفة كما تظنين!

ابتسمت ليلى في تعب و هي تقول في نفسها... لم أخف يوما من الحقن... لكن الطبيب هنا هو الداء عينه!

ـ شكرا لك يا منال... أنا بخير الآن... كانت مجرد وعكة خفيفة...

رفعت منال سبابتها أمام وجهها متوعدة :
ـ الطبيب يقول بأن جسدك ضعيف مما يجعل مناعتك تتهاوى أمام أدنى فيروس... عليك بالاهتمام بأكلك... و أنا من اليوم سأراقبك و أسهر على تطبيق تعليمات الطبيب...

تنهدت ليلى في يأس. إنها لا تفهم، لا أريد شيئا من هذا الطبيب! فقط أن يبقى بعيدا عني...
رمقتها منال بنظرة متفحصة، و بدت الجدية على ملامحها. راقبتها ليلى و هي تقف و تتناول حقيبتها التي وضعتها على المكتب حين دخولها. جلست من جديد و بهدوء تام، أخرجت لفافة بيضاء من حقيبتها... تطلعت إليها ليلى في دهشة و فضول... مدت إليها منال اللفافة... لفافة الورق الأبيض! تسلمتها ليلى و قد تضاعفت حيرتها أضعافا كثيرة... أزاحت غلاف الورق بسرعة تحت عيني منال، لتجد ما توقعته بالضبط... المفكرة المحترقة!

رفعت عينيها إلى منال و هي تنتظر تفسيرا. ابتسمت منال و هي تقول :
ـ كانت إلى جوارك حين دخلت عليك مساء البارحة... و لم يكن من الحكمة أن يراها فراس أو سارة عندك... لذلك أخفيتها عن الأنظار، حتى تستعيدي عافيتك...

ثم أضافت و هي تغمز بعينها في مرح :
ـ كما أنني لم أستطع مقاومة فضولي لمعرفة ما جاء فيها من حكايات!

كانت ليلى في ذهول تام. و لقاؤها مع فراس هذا الصباح؟ كانت تتصرف على أساس أنه يعلم بأن المفكرة كانت عندها! و الآن فإنها ستثير شكوكه بتصرفاتها المتهورة تلك... هزت رأسها في استياء...

انحنت منال إلى الأيام لتضغط على كف ليلى في حنو و هي تواصل :
ـ أعلم أن ما جاء فيها سبب لك آلاما و هواجس و كوابيس... لكن من الجنون أن تصدقي أكاذيب حنان!

عقدت ليلى حاجبيها في دهشة و هتفت محتجة :
ـ ما الذي تقولينه؟ إنها مذكراتها؟!!!

هزت منال رأسها نافية و هي تقول :
ـ أنت لا تعرفين حنان... كانت مولعة بالقصص البوليسية و حس المغامرة لديها مرتفع للغاية! تحب نسج القصص الخيالية و تجعل نفسها بطلتها! مذكراتها هذه ماهي إلا قصص مختلقة لا أساس لها من الصحة!!

هتفت ليلى في انفعال :
ـ على أي أساس تحكمين ببطلان ما كتبته حنان هنا؟

أجابت منال في ثقة :
ـ أنا أعرف فراس جيدا... ليس بقادر على إيذاء نملة! فكيف يعذب زوجته؟ كما أعرف حنان جيدا و أعرف مقالبها السخيفة و ألاعيبها الطفولية! كانت مراهقة شقية...

لم يبد على ليلى الاقتناع :
ـ لكنك لا تعرفين شيئا عن ظروف زواجهما و طبيعة العلاقة بينهما! تصرفات فراس كانت متناقضة... يعاملها بلطف أمام الجميع... و ما إن ينفرد بها، حتى يصبح شخصا آخر تماما... وحشا عديم المشاعر!

تغيرت سحنة منال و رمقت ليلى بنظرة طويلة، ثم قالت فجأة :
ـ إلام تلمحين؟

سكتت ليلى مبغوتة... إلام تلمح؟ إلى أنه السبب في موتها؟ إلى أنه يتحمل مسؤولية ضياع شبابها؟ أليس الأمر واضحا؟ لكنها لا تملك دليل إدانة... حنان تقول بأنها ستجعل الأدلة ضده حتى تورطه... فأين هي تلك الأدلة؟

قاطعت منال أفكارها و هي تقول في حزم :
ـ إذا كنت تظنين بأن فراس يعاني من انفصام في الشخصية، فأنت مخطئة...

فوجئت ليلى بتعليقها، و كادت تنفجر ضاحكة... هل هذا كل ما خطر على بالك يا منال؟ انفصام في الشخصية؟! كم أنت مسالمة و بريئة!
لكن منال تابعت في جدية :
ـ حنان هي التي كانت تعاني من مرض نفسي مزمن...

رفعت ليلى حاجبيها في دهشة و اهتمام :
ـ حنان تعاني من مرض نفسي؟

هزت منال رأسها مؤكدة :
ـ كنت أشك في ذلك طوال الوقت، لكنها رفضت الخضوع لفحص طبيب نفسي... و فراس كان يعاملها بحرص حتى لا يخدش مشاعرها، و لا يشعرها بأنها مريضة... و بعد أن توفيت السيدة نجاة، أصابها اكتئاب شديد، و زاد الحمل من تأزمها... فانتقلت من الجناح الذي خصص لها و فراس بعد الزواج، لتعود إلى الغرفة الزرقاء... إلى هنا... حيث صارت تعتزل الجميع و تنفرد بمفكرتها الصغيرة السوداء، تخط فيها أفكارها الجنونية... تأكدت من ذلك بعد أن قرأت مذكراتها هذه...

هتفت ليلى في عدم تصديق :
ـ هل تقولين بأن حنان كانت مجنونة؟!!

ارتبكت منال و تلعثمت... كانت مترددة، لكنها قالت أخيرا محاولة تدارك موقفها :
ـ لا أقول بأنها مجنونة حقا... لكنها لم تكن طبيعية تماما، و أصبحت تصرفاتها شاذة... خاصة بعد انطوائها و اكتئابها المتواصل في الفترة الأخيرة... كانت على حافة الجنون لا محالة!

عاندت ليلى و هي تقول في حدة :
ـ لكن مرضها لم يثبت بفحص طبيب نفسي!

لوحت منال بكفيها أمام وجهها في استهانة و هي تقول :
ـ حسن، كما تشائين... ربما لم تكن مجنونة، لكن مذكراتها مجنونة قطعا... و ستكونين أكثر جنونا لو صدقت تخاريفها... صدقيني أنا أعرفها و أعرف فراس جيدا...

وقفت و هي تهم بالمغادرة، لكنها استدارت فجأة و اختطفت الكراس الذي كان لا يزال بين يدي ليلى و قالت و هي تتجه إلى الباب أمام دهشة ليلى :
ـ لكنني سأحتفظ بهذا... كي لا تزورك الكوابيس يا عزيزتي...

استوقفتها ليلى و هي تهتف في تحد :
ـ إذن لماذا أحرق فراس المفكرة إن كان متأكدا من براءته مما جاء فيها؟!

واجهتها منال للحظة و في عينيها نظرة ذات معنى... ابتسمت و هي تقول في هدوء :
ـ ليتجنب ردة فعل كهذه!

ثم توارت عن الأنظار... مخلفة وراءها ليلى... في قمة الحيرة...



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 10:46 AM   #13

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




الجزء الحادي عشر




ـ خالة ليلى...

رفعت عينيها عن الرواية الفرنسية التي كانت بين يديها في استغراب. و ما إن وقعت عيناها على الملاك الصغير الذي يقف على ساق و يحرك الأخرى متمايلا في دلال و هو يجمع كفيه خلف ظهره، حتى ملأت الابتسامة وجهها و همست في حنان :
ـ تعالي، رانيا...

اقتربت الصغيرة بخطى مترددة و غمغمت مجددا بصوت رقيق :
ـ خالة ليلى... هل تأتين معنا إلى المزرعة؟

قربتها ليلى منها أكثر، بعد أن وضعت الرواية على المقعد المجاور من الصالة العلوية حيث تجلس، و لم تتمالك نفسها أن قبلتها في حب... ثم سألتها في اهتمام :
ـ مع من ستذهبين إلى المزرعة؟

أخذت الفتاة تعد على أصابع يدها بصوت مرتفع :
ـ مع ماما... و الخالة ليلى... و رانيا...

ثم مدت يدها إلى ليلى مبرزة الإبهام السبابة و الوسطى، و هتفت :
ـ نحن الثلاثة!

ابتسمت ليلى و هي تتأمل عيني الفتاة الشفافتين، و كأن البراءة نفسها تطل من مقلتيها... ثم انحنت إلى الأمام و همست إليها في حذر و هي تلهو بخصلات شعرها الكستنائي السبط بين أصابعها :
ـ و عمك فراس... ألن يذهب معنا؟

بدا على رانيا التفكير للحظات، لكنها سرعان ما أفلتت من ليلى، و ركضت إلى الجانب الآخر من القاعة في اتجاه الممر. تابعتها ليلى في تعجب. لكن ما لبثت أن تناهى إلى مسامعها حفيف و وشوشة آتيان من الممر... و ماهي إلا ثوان حتى عادت رانيا و هي تركض من جديد. وقفت أمام ليلى التي كتمت ضحكتها بصعوبة، و قالت :
ـ عمي أمين سيأخذنا...

ابتسمت ليلى من جديد، في ارتياح... و قالت مداعبة :
ـ و أين بابا إذن؟ ألا يحب بابا المزرعة؟

كان من الواضح أن الصغيرة لا تملك الجواب على هذا السؤال أيضا... همت بالركض مجددا إلى مصدر إلهامها القابع في الممر. لكن ليلى أمسكتها من ذراعها و هي تضحك، و قالت :
ـ تعالي... لا داعي إلى البحث عن جواب هذا السؤال...

ثم رفعت صوتها هاتفة :
ـ منال، يمكن الخروج من مخبئك! كشفتك!

أطلت منال برأسها ضاحكة. ثم نظرت إلى ابنتها متظاهرة بالغضب و هتفت :
ـ رانيا... ألم أوصك بأن لا تخبريها بأنني هنا!

عبست رانيا و صاحت في احتجاج و دموعها على أعتاب مقلتيها :
ـ أنا لم أقل شيئا!

احتضنت ليلى الصغيرة و هي تعاتب منال :
ـ لا تصرخي في وجهها... رانيا لم تقل شيئا... لكنني كشفتك بذكائي!

ضحكتا معا، ثم انصرفت منال لتستدعي أمين و دخلت ليلى غرفتها لتغير ملابسها. بعد قليل عادت منال و على وجهها علامات الاستياء :
ـ أمين ليس في غرفته... و العم صابر يقول بأنه لم يقض ليلته في القصر! أين تراه يكون؟

عقدت ليلى حاجبيها متفكرة. كانت آخر مرة رأته فيها ليلة البارحة في الحفلة، أراد أن يعرفها على الضيوف، لكنها تركته حين رأت فراس... هزت رأسها لتبعد عنها صورة فراس التي تبادرت إلى ذهنها من جديد، بعد كل الجهد الذي بذلته لتبقيها بعيدا... كانت قد قررت أن تنسى الموضوع مؤقتا، ريثما تستقر حالتها الصحية و تتماسك، فالدوار لا يزال يعاودها بين الحين و الآخر، و لم تتحمل الانفعالات... و لكن يا ليتها تستطيع!

ـ ما الحل إذن؟

فكرت منال لبرهة ثم التمعت عيناها و هي تقول :
ـ ليس أمامي إلا أن أفسد على ياسين قيلولته!

أخذت رانيا من يدها و همست إليها :
ـ تعالي حبيبتي... سأرسلك في مهمة...

ابتسمت ليلى و هي تراقبهما مبتعدتين و منال تلقن صغيرتها تفاصيل خطتها الجديدة...


*********


سرحت ببصرها إلى الخارج عبر نافذة السيارة التي أبطأت من سرعتها عند مرورها بمركز المدينة. كانت الشوارع مزدحمة و السيارات تسير متقاربة. تاهت نظراتها في الطريق... و أخذها التفكير. كلما كانت على سفر، أو في رحلة من مكان إلى آخر، تراودها أفكار غريبة، بخصوص رحلتها الطويلة... تلك التي يسمونها الحياة! لكن اعتبارها لحياتها اختلف منذ وصلت إلى هذه البلاد... كانت أول محطة لها في حياتها... هنا استنشقت أول أنفاسها... لكنها غادرتها سريعا، و لم تحمل معها أية ذكرى عنها... و الآن، هاهي قد عادت... فكم سيدوم مكوثها هذه المرة؟ أم تراها عودة نهائية؟ سرت في جسدها قشعريرة... لا تدري لم ساورتها تلك الشكوك، بأنها قد تقيم هنا إلى أمد بعيد...

أخرجها صوت ياسين من تأملاتها و هو يسألها :
ـ ليلى... هل قمت بالتسجيل في الجامعة؟

ابتسمت في استغراب... إنه أول شخص يهتم بدراستها و جامعتها!
ـ ليس بعد... فأنا لا أعلم بعد كم تطول إقامتي هنا...

تذكرت والدها الذي لم يتصل بها منذ سفره، و يكتفي بالاطمئنان عليها عبر خالها... فاكتست ملامحها الحزن و أشاحت بوجهها إلى النافذة حتى لا يلمح أحد عبرتها... إنه اليوم الخامس لغيابه عنها...

ـ أرى أنه من الأفضل أن تسجلي... تحسبا للظروف...

التفتت إليه في اهتمام و دهشة... بدا في صوته شيء ما... شيء يوحي بأنه يعلم أكثر مما يقول!

ـ يمكنني الاهتمام بملفك... إن أردت سأستعلم في الجامعة عن الأوراق اللازمة و آجال الترسيم...

هزت رأسها موافقة و هي تطالع صورته في المرآة العاكسة، و همست بكلمات شكر خجولة. ياسين ليس من النوع الثرثار، و احتكاكها به كان قليلا جدا منذ وصولها. لكن احساسا غريبا راودها و هو يسألها عن التسجيل و الدراسة... كأنها عادت طفلة صغيرة، يحدثونها عن المدرسة الجديدة...

هتفت منال التي كانت تجلس إلى جوار زوجها في المقعد الأمامي :
ـ تتحدث كأنك ستكلف نفسك عناء التنقل إلى الجامعة! كل ما ستفعله هو إرسال أحد الموظفين ليقوم بما يلزم!

ضحك ياسين ضحكة عالية و هو يقول :
ـ و ما فائدتهم إذن!

حولت ليلى بصرها إلى النافذة من جديد... و راحت تتصفح الوجوه... وجوه سائقي السيارات الحانقين و المنفعلين من تعطل حركة المرور المرهقة في مثل هذا الوقت من اليوم... تعالت أصوات المنبهات حين اقتربت سيارة ياسين من المخرج المؤدي إلى الطريق الزراعية... و بصعوبة تمكن من الانسلال عبر الطريق الجانبية... فجأة توقفت نظرات ليلى عند سائق إحدى السيارات. شاب يخفي عينيه خلف نظرات شمسية و يرخي ذراعه عبر النافذة، متقدما في هدوء، كأن كل ما يحصل حوله لا يعنيه... كان الوجه مألوفا، بل أكثر من مألوف...

همست غير مصدقة و هي تتابع السيارة التي انحرفت في اتجاه آخر :
ـ مأمــــــــون!!!

استدارت كلية إلى الخلف و هي تتابع بنظرات قلقة السيارة التي راحت تبتعد حتى ابتلعتها أمواج السيارات المتحركة و اختفت خلف بنايات الشارع.

شدتها رانيا، التي كانت تجلس إلى جوارها، من سترتها و هي تتساءل :
ـ ماذا هناك خالة ليلى؟

استقامت في جلستها مجددا و قالت بصوت ينم عن عكس ما تقول :
ـ لا شيء يا حبيبتي... لا شيء...

لكن نظرة الشك و القلق لم تفارق عينيها...
طالعها ياسين عبر المرآة العاكسة في انتباه... لم يغفل عما حصل منذ قليل، و هو الذي كان يراقب حركاتها منذ البداية. عقد حاجبيه في اهتمام... يبدو أن الأحداث ستتقدم بأسرع مما كان منتظرا...


*********


ـ العشاء جاهز...

ركضت ليلى خلف رانيا التي قفزت إلى الشرفة و هي تطلق صيحات امتزجت بضحكها الطفولي، و سارعت لتختفي خلف الخالة مريم. دست الصغيرة رأسها في ثوب العجوز ظانة أن ليلى لن تراها طالما أنها لا تراها بدورها! اقتربت منها ليلى في حذر و هي تمسك ضحكتها، و بهدوء، وضعت إكليل الزهور التي قطفتاها معا على رأسها. فتحت رانيا عينيها متوجسة و أبعدت وجهها عن حضن المربية ببطء، ثم رفعت كفها لتلمس شعرها، و حين وجدت الإكليل، صرخت من جديد في احتجاج و انطلقت لتطارد ليلى...

وضعت مريم كفيها عند خصرها و هي ترمقهما مبتسمة :
ـ قلت العشاء جاهز يا بنات!

ظلت ليلى تدور حول الأريكة طورا و تختبئ خلف المقاعد طورا آخر في مناورات رشيقة... و رانيا تحاول الوصول إليها عبثا، و قد ملأتا المنزل الريفي الهادئ صخبا و هرجا... و أخيرا، ارتمت ليلى على مقعد وثير و قد أنهكها التعب، كانت تتنفس بسرعة و هي تمسح حبيبات العرق التي تجمعت عند جبينها... لم تستطع أن تتوقف عن الضحك، خاصة حين استغلت رانيا فرصة جلوسها، فرفعت جسدها الصغير على أطراف أصابعها لتضع الإكليل أخيرا على رأس ليلى.

صرخت ليلى متظاهرة بالتكشير :
ـ هذا غش!

في حين أخذت رانيا تقفز و تهتف هتافات الفرح... غير عابئة باحتجاجها...

ـ ماذا تلعبان؟

التفتت ليلى لتلمح منال داخلة و هي تتأبط ذراع ياسين في حركة رومانسية... عادا للتو بعد جولة طويلة في الحقول المحيطة بالمنزل... أملاك عائلة القاسمي...

استوت ليلى في جلستها ما إن انتبهت إلى وجود ياسين و أجابتها ليلى و هي تقاوم نوبة الضحك التي تمكنت منها :
ـ صنعنا إكليلا من الزهور التي قطفناها في الحقل... ثم كل منا تحاول أن تضع الإكليل على رأس الأخرى... كانت مطاردة ممتعة...

هتفت الخالة مريم للمرة الثالثة :
ـ العشاء جاهز... تفضلوا من هنا...

هذه المرة تحرك الجميع و تحلقوا حول المائدة التي تزخر بما لذ وطاب...


رفع ياسين عينيه عن صحنه و نظر عبر الشرفة... كانت الشمس قد مالت إلى المغيب، و اكتسى الأفق لونا أحمر دافئا... قال محدثا منال التي كانت تضع الملعقة في فم رانيا :
ـ تأخر الوقت... بسرعة، يجب أن نعود...

حدجته منال بنظرة احتجاج :
ـ ألا ترى أنني أطعم رانيا!

مسح يديه في حركة عصبية و هو يغمغم :
ـ تعلمين أن والدي يقدس وجبة العشاء العائلية... على الأقل نجلس معه على المائدة... و تنهي رانيا عشاءها هناك...

استسلمت منال على مضض... همت ليلى بالوقوف، لكن الخالة مريم التي كانت تجلس إلى جوارها، أمسكت بذراعها مبتسمة و قالت مخاطبة منال و ياسين :
ـ ليلى ستظل عندي الليلة... كانت الأمسية قصيرة و بودي لو أجلس إليها بعض الوقت...

انشرحت أسارير ليلى للاقتراح، فهي كانت تفكر في العشاء و في لقائها المحتم مع فراس! ابتسمت منال بدورها و هي تهز كتفيها قائلة :
ـ تعلمين، ليلى فتاة راشدة و تتحمل مسؤولية أفعالها كاملة... فإن كانت راضية، فهي لك!

لاح التوتر على ملامح ياسين و التفت إلى ليلى متسائلا :
ـ ليلى... هل تودين البقاء؟

هزت رأسها علامة الموافقة و ابتسامة خجولة على شفتيها. تردد ياسين للحظات، لكنه أخيرا انحنى ليحمل رانيا بين ذراعيه و توجه نحو الباب و هو يقول :
ـ حسن... اهتمي بها جيدا... سأبعث إليها السائق صباح الغد...

ابتسمت ليلى في رضا، و غمرتها المشاعر غريبة عينها التي انتابتها في السيارة اليوم... أحست بالامتنان لياسين لاهتمامه بها... تخيلته أخا أكبر، مسؤولا عنها في غياب والدها... و أشعرها خيالها ذاك بالارتياح... و الأمان... تساءلت في نفسها، لو لم تكن هاته العائلة الصغيرة تسكن القصر، كيف كانت إقامتها فيه ستكون؟!

شيعت السيارة بعينيها و هي تلوح لرانيا التي كانت تطل عليها من زجاج السيارة الخلفي، ثم عادت إلى الداخل و هي تحس ببعض الراحة... فالحقيقة أن الجو كان منعشا، و الأمسية كانت ممتعة و مسلية...
جلست الخالة مريم إلى جوارها و ربتت على كتفها في حنان و قالت :
ـ لم تأكلي جيدا على العشاء... تعالي نكمل طعامنا...

ابتسمت ليلى شاكرة و همست :
ـ جزاك الله خيرا يا خالة... اكتفيت و الحمد لله...

ـ لا يا حبيبتي... أنت لا تأكلين جيدا! لا أصدق أن جسمك قد هزل خلال يومين!

عانقتها ليلى و هي تقول مبتسمة :
ـ أنت تبالغين يا خالتي... صدقيني أنا بخير...

غمزت مريم بعينها و هي ترنو إليها في دهاء :
ـ و لكن هناك من قلق عليك... و طلب مني الاهتمام بإطعامك!

رفعت ليلى حاجبيها في دهشة و لبثت تحدق فيها منتظرة المزيد من التوضيحات. فتابعت مريم و الابتسامة لا تفارق شفتيها :
ـ فراس اتصل بي اليوم، و طلب مني أن أدعوك لقضاء بضعة أيام في المزرعة... قال أن صحتك متدهورة، و نفسيتك متعبة بسبب بعدك عن والدك... لذلك اتصلت بمنال و طلبت منها أن تصحبك إلى هنا...

لبثت ليلى ساهمة، تنظر إلى الفراغ و قد سرحت في أفكارها... فراس... هل تخطط لأمر ما؟ هل قصدت إبعادي عن القصر الليلة؟ أم أن كل الهواجس التي في رأسي ليس لها أساس؟!!!

ـ ما بك يا ابنتي؟

أشعرها صوت المربية الدافئ بالطمأنينة، ألقت برأسها على صدرها و قالت و هي تتنهد بعمق :
ـ أنا متعبة يا خالتي... متعبة...

احتضنتها العجوز في حنان، لم تكن ليلى ترغب في الكلام... تريد أن تطفئ الأصوات التي ترتع في رأسها و تتلاعب بأفكارها... ظلت مريم تمسح على رأسها... إلى أن غلبها النعاس...


*********


استيقظت مرتعبة، جلست على الأريكة العريضة حيث كانت نائمة، و راحت تجيل بصرها في المكان... هدأت و زفرت في ارتياح حين تعرفت على غرفة الجلوس... مسحت وجهها بكفها و هي تستعيذ بالله من الشيطان الرجيم. لم يكن سوى كابوس... حمدت الله و قامت من مجلسها تريد أن تمحو من ذاكرتها الصور التي مرت بها منذ لحظات...

كان الغرفة مظلمة تقريبا، يتسلل إليها ضوء خافت قادم من الغرفة الداخلية، و لم تكن مريم هناك... نظرت إلى ساعتها، كانت الساعة قد تجاوزت الحادية عشرة بقليل. يبدو أنني نمت لوقت طويل! اقتربت من نافذة الشرفة، و وقفت تتأمل الطبيعة الهادئة في ليلة صيفية مقمرة... كانت الليل قد أرخى سدوله، و غرقت الساحة في ظلام دامس... تنهدت بعمق. و سألت الله أن يعيد إليها والدها سالما... رؤيتها لمأمون اليوم زادتها قلقا على قلق... خافت أن يكون كابوسها حقيقة، فدعت الله من كل قلبها أن يكون مجرد وسوسة...

كان القمر شبه مكتمل، ابتسمت و هي تلاحظ صفاءه و وضوحه... لا يبدو بهذا الشكل في السماء الباريسية! فالسماء هناك بالكاد تصفو بضعة أيام في السنة... و خاصة الصيف المنصرم، فقد أمطرت بشكل منقطع النظير طوال أشهره الثلاثة...

فجأة لمحت شبحا يتحرك في الساحة أمامها و يقترب من المنزل الريفي... تسارعت دقات قلبها و هي تدقق النظر... يا إلهي، ليس مجددا! تسمرت في مكانها و هي تفكر في ما يمكنها فعله... إنها بمفردها هنا مع الخالة مريم. امرأتان عاجزتان بلا رجل يحميهما! لم تدرك الوضع قبل الآن... فتلكن متفائلة، ربما كان أحد العمال... و لكن ما الذي جاء به في مثل هذا الوقت؟! ربما يكون الحارس؟ نعم من المؤكد أنه الحارس! راقبت الشبح و هو يتقدم نحو حوض الورود البرية الحمراء... أخفت جسدها وراء الستارة و أخذت تطل باحتراس. رأته يقترب أكثر في اتجاه الشرفة المكشوفة... صار أمامها مباشرة على بعد أمتار قليلة، لا يفصلها عنه سوى زجاج النافذة... و بهدوء تام، جذب كرسيا و جلس عليه موليا إياها ظهره!


كان الظلام مخيما في الخارج فلم تستطع أن تتبين ملامحه... لكن من المؤكد أنه من أهل البيت... قفزت إلى ذهنها صورة وحيدة... فراس!!!

دارت في رأسها الأفكار و الوساوس... ما الذي يخطط له؟ و لماذا جاء بي إلى هنا؟ هل يكون قد علم باكتشافي لما جاء بالمفكرة، فأراد إبعادي حتى يواجهني بالأمر هنا بعيدا عن أنظار أبيه و إخوته؟! عادت إليها كلمات حنان... يمثل اللطف و البراءة أمام العائلة، و يكشف عن وجهه الآخر معها... بالطبع، لا يريد لأحد أن يشهد مشادة بينه و بينها، حتى لا تطفو التساؤلات و الشكوك على السطح من جديد!! ابتسمت في سخرية... و هي التي اعتقدت لبعض الوقت أنها أساءت الظن به... لست هينا يا فراس!

لبثت تراقبه في انتباه... لاحظت أنه أخذ يقفل أزرار سترته الخفيفة، و يلف ذراعيه حول جسمه... الطقس بارد في الخارج! التفت في اتجاه المدخل، كأنه يتردد... لكنه في النهاية عدل عن ذلك و ظل مكانه... إلى متى سيظل ساكنا هناك؟ هل أنبه ضميره في اللحظات الأخيرة؟ لكنني مستعدة للمواجهة!

لم تدر كيف واتتها الشجاعة... ابتعدت عن النافذة في هدوء، لفت على جسدها إزارا للخالة مريم، كان مرميا على أحد المقاعد... و فتحت الباب...
انتبه الشبح الجالس على صوت صرير الباب، و تسلل بعض الضوء إلى الخارج...
رأته يلتفت إليها... لعنت لحظة الجرأة التي دفعتها إلى تلك الفكرة السخيفة... إنه الوقت الخطأ و المكان الخطأ للمواجهة!

وقف و قد بانت على وجهه الدهشة... هتف :
ـ ليلى! ما الذي تفعلينه هنا؟!

لم تكن دهشتها أقل من دهشته و هي تهتف بدورها :
ـ أمين؟! ما الذي جاء بك في مثل هذا الوقت؟!!





لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 10:47 AM   #14

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




الجزء الثاني عشر




نزلت السلم في هدوء و الدرجات الخشبية تصر تحت خطواتها... ابتسمت حين تناهى إليها صوت الخالة مريم و هي تحاور أمين و تجاريه في دعاباته فتترك العنان من حين لآخر لضحكتها الجافة، الناتجة عن حبال صوتية مهترئة، مرت عليها السنون... خطت باتجاه المطبخ، ألقت السلام، ثم اتخذت مجلسا في طرف المائدة. كان أمين قد سبقها في الاستيقاظ و جلس يتناول فطوره. قدم إليها قدحا من القهوة و على شفتيه ابتسامة وديعة... أضافت السكر و أطرقت في انسجام مع حركة الملعقة التي أخذت تدفعها في حركة لولبية بطيئة... كانت العجوز تقف غير بعيد منهما، في الجانب الآخر من المطبخ و قد انهمكت في تحضير العجين...


رفعت ليلى عينيها عن فنجانها، فاصطدمت بنظرات أمين الذي كان يتأملها في صمت. حولت عينيها عنه محاولة التشاغل. التفتت إلى المربية و هتفت :
ـ خالتي... ماذا تعجنين؟

غمست مريم يدها في وعاء الطحين و أخذت منه قدرا يسيرا لتزيد عجينتها تماسكا، و قالت دون أن ترفع رأسها :
ـ كعكة بالفراولة... ستحبينها كثيرا...

رفعت ليلى حاجبيها في دهشة :
ـ فراولة؟ أين تجدينها في مثل هذا الوقت من السنة؟

التفتت العجوز و غمزت ليلى في مرح :
ـ في ثلاجتي! احتفظت بقدر منها في الموسم الماضي... حتى أصنع الكعكة في أي وقت من السنة!

ابتسمت ليلى و هي ترفع فنجانها إلى شفتيها. كان أمين يشيح بوجهه هذه المرة، يتطلع إلى الخارج من خلال الباب الخلفي نصف المفتوح، و قد أخذت ساقه تهتز في توتر...

ـ أمين... هل كل شيء على ما يرام؟

التفت إليها في ارتباك...
ـ هه...

وضعت الفنجان على المائدة و عقدت ذراعيها أمام صدرها.
ـ هل هي مشكلة مع خالي نبيل؟

ارتسمت على شفتيه ابتسامة فاترة و هز رأسه نافيا :
ـ لا... أبدا... ليس الأمر كذلك...

رنت إليه في اهتمام و هي تسأله بصوت خفيض :
ـ لكنك غادرت القصر منذ يومين... دون أن تخبر أحدا عن مكان تواجدك... ثم تظهر فجأة في ظلمة الليل، أمام المنزل الريفي... هل كنت تنوي قضاء الليلة في الخارج؟

استرخى في مقعده و هو يقول في تهكم :
ـ و هل لاحظ والدي العزيز غيابي، أو تساءل إن كنت بخير أم لا!

ـ أمين ما الذي تقوله؟

لوح بيده في استهانة و هو يشيح بوجهه عنها :
ـ على أية حال، لقد تعودت على الوضع... أن أعيش على هامش الحياة... و لا أحد يهتم...

نظرت إليه في حيرة، ثم أردفت :
ـ أمن أجل هذا تركت مسكن العائلة؟

نظر إليها في حدة، كأنها ذكرته بشيء مؤلم بالكاد نسيه أو تناساه، و هتف في غضب يحاول كتمانه :
ـ غادرته لأنني لم أعد أتحمل العيش مع أخي العزيز فراس في مكان واحد!!!

تراجعت ليلى في ذعر من النظرة التي اشتعلت بها عيناه، و لبثت تطالعه في ذهول... غطى أمين وجهه بيديه و تنهد محاولا تمالك نفسه. قالت الخالة مريم، التي وقفت تحضر مواد تزيين كعكتها، بصوت هادئ و حازم :
ـ لم تعد صغيرا يا عزيزي حتى تهرب من المنزل كلما حصل خلاف ما...

كان أمين لا يزال مطرقا... أحست ليلى بأنه يخفي الكثير في صدره، و أحست أيضا بأنه مستعد للكلام، يحتاج إلى الفضفضة، و عليها أن تشجعه حتى تفهم منه بعض ما يحيرها.

ابتسمت ابتسامة هادئة و هي تقول :
ـ من الطبيعي أن تحصل اختلافات بين الإخوة... و مهما كان ما حصل بينك و بين فراس، فأنا أؤكد لك أنك ستنساه بسرعة و تعود المياه إلى مجاريها... صحيح أنني عشت وحيدة، و لم أعرف كيف تكون العلاقة بين الإخوة... لكن لدي صديقات، أتشاجر معهن من وقت إلى آخر، دون أن يفسد ذلك المودة التي بيننا...

هز أمين رأسه في إشفاق و قال هامسا :
ـ أنت لا تفهمين... ما بيني و بين فراس أكبر من المشاكل اليومية التافهة بكثير... و لا أظنني قادرا على التحمل أكثر...

التفتت ليلى في اتجاه الخالة مريم، كانت قد انتهت من تحضير كعكتها و وضعتها في الفرن. تابعتها و هي تسير بخطى بطيئة في اتجاه غرفة تخزين لوازم الطبخ الملاصقة للمطبخ. راقبتها حتى غابت في الداخل، ثم عادت إلى أمين و هتفت في إلحاح :
ـ أخبرني ما الذي حصل، ربما أستطيع إفادتك...

أشاح بوجهه و هو يحاول مقاومة البركان الذي يغلي في صدره و تمتم :
ـ لا فائدة!

ألحت ليلى و هي تنحني إلى الأمام في اهتمام ظاهر :
ـ هل المشكلة كبيرة إلى هذا الحد؟

تنهد تنهيدة عميقة ثم انفجر ساخطا :
ـ منذ صغرنا، كان كل شيء مميز لفراس... الألعاب الجميلة لفراس، الفسحات و الرحلات لفراس... ثم كبرنا، و صارت العبارات التي تتردد على مرأى و مسمع مني كل يوم : فراس متفوق في دراسته... فراس مهذب و لبق... فراس اجتماعي و محبوب... و في المقابل ماذا يقال لي؟ لم تكن توجه إلى إلا كلمات من صنف : أنت فاشل... أنت لا تصلح لشيء... أنت كسول... أنت متهور... تحطيم لمعنوياتي باستمرار... مع أن فراس ليس أفضل مني في شيء! هل كل هذا لأنه يشبه والدتي أكثر مني؟! فوالدي كان يحبها كثيرا، و بعد رحيلها صار يحب كل ما يذكره فيها، و ليس أبلغ من صورة مصغرة منها! أم لأنه ابنهما الأكبر؟! أليس المفروض أن يكون الابن الأصغر هو الابن المدلل؟ لكن أين أنا من هذا الدلال؟!!

ابتسمت ليلى في عطف... أمين يغار من فراس! هل أنت مظلوم حق يا أمين... أم أنك تبالغ في وصف مأساتك؟

قاطع أمين أفكارها، و هو يضيق عينيه في ألم، قائلا :
ـ و لكن ليت الأمر يتوقف عند ذلك الحد...

التفتت إليه في انتباه و في عينيها نظرة تحثه على المتابعة
ـ حتى خطيبتي... أخذها مني!!

عقدت ليلى حاجبيها في عدم استيعاب :
ـ خطيبتك؟!

رفع أمين رأسه و طالعها بنظرة عميقة، كأنه يبحث في وجهها عن شيء ما... و أردف :
ـ نعم خطيبتي... حنان...

تزايدت دهشة ليلى و هتفت في استغراب :
ـ حنان؟ كانت خطيبتك؟!!

ابتسم أمين ابتسامة باهتة و قال بلهجة ساخرة :
ـ كان هذا ما اعتقدته! كنت قد أنهيت دراستي الثانوية حينها... لم أنتظر أن أدخل الجامعة، و قررت أن أخطبها... حنان كانت موافقة... لم يكن هنالك داع حتى إلى أن أسألها، لأننا كنا متفقين منذ زمن... منذ سنوات طويلة... تعاهدنا على الارتباط، و كبرت و أنا أحلم باليوم الذي يجمعنا فيه رباط الزواج... لم تكن أحلامي كبيرة، كنت أريد أن أعتمد على نفسي و أعمل بشهادتي في مجال الهندسة... أعلم أنني لست في مقام فراس، حتى أحصل على عيادة خاصة إبان تخرجي...

كان يبدو على ملامحه الأسى و هو يواصل :
ـ كنت أريدها هي فقط... هل كنت أطلب الكثير؟

كان ينظر إلى وجه ليلى من جديد يبحث عن إجابة في تقاسيمه التي اكتست طابع الحزن و التأثر... سألته و هي تزداد شوقا لمعرفة حقيقة زواج حنان و فراس :
ـ و ما الذي حصل إذن؟

ـ فاتحت عمتي في الموضوع... وافقت... وعدتني بأن تساعدني، لأنها تعلم أن والدي سيعارض لأنني كنت في بداية دراستي الجامعية... طلبت مني أن أنتظر قليلا، و أثبت جديتي بالتركيز على دراستي... كنت سأطير من الفرح... و كذلك كانت حنان... ظننت لوهلة بأنني أوشك على إمساك السعادة بين يدي... و لكن، تجري الرياح بما لا تشتهي السفن...

بدا أن صور من ذاك اليوم قفزت إلى ذاكرته... سرح بنظراته إلى الفراغ و هو يتابع :
ـ فجأة، و بدون سابق إنذار... يتقدم فراس إلى حنان! عدت يومها من الجامعة مثل العادة... لم تكن حنان تنتظرني في الحديقة في مكاننا المعتاد... بحثت عنها في أماكن أخرى، ثم ذهبت إلى غرفتها... حين طرقت، فتحت عمتي... طلبت مني أن أتبعها لتحدثني بأمر ما... جلست في الصالة و أنا واقف أنتظر كلماتها في لهفة... كم كنت غبيا يومها، حيث توقعت أن يكون لحديثها علاقة بارتباطنا أنا و حنان! كان وجهها متغيرا، و قد برزت عيناها و أحاطت بهما هالات سوداء مخيفة... بدأت بمقدمة طويلة حول النصيب و القدر و ما إلى ذلك... أحسست بأن ما في جعبتها أمر جلل... لكنني لم أتخيل لحظة واحدة... لم أتخيل أبدا أن يكون فراس طلب حنان... و هي وافقت!! كان الأمر أكثر من أن أتحمل... الجميع كان يعرف بعلاقتي بحنان... فراس نفسه كان يعلم بمشاعري نحوها... و حنان، حنان نفسها... كيف وافقت؟!!!

كانت ملامحه تزداد تشنجا مع كل كلمة، معمقة الأخاديد التي حفرتها التجاعيد في جبينه الذي تعود التغضن منذ بضع سنوات... لكنه ما لبث أن أطرق زفرة طويلة. لانت قسماته و استرخى في مقعده... مسح وجهه بكفه، ثم قال بصوت متعب :
ـ بالطبع، كيف لها أن ترفض... فراس شاب مميز... ناجح في حياته و في علاقاته... و فوق كل هذا، معظم ممتلكات آل القاسمي ستؤول إليه في نهاية المطاف! لكن هو... أخي... كيف يغدر بي بتلك الطريقة؟ كان بإمكانه اختيار أية فتاة في البلاد... فلماذا خطيبتي بالذات؟!

لم تكن ليلى تملك الإجابة على تساؤله، فالأمر يبدو غريبا بالفعل...

واصل أمين وهو يصارع ذكرياته :
ـ فراس كان يريد إتمام الزواج في أقرب وقت ممكن... كان حفل الزفاف بسيطا و مضيقا... تم كل شيء بسرعة، ثم سافرا إلى الشقة التي يملكها والدي في لندن... بعد أسبوعين، عادا إلى القصر و سكنا الجناح الخاص في الطابق الأول... لم أكن قد تحدثت إليها طوال تلك المدة... منعوني من رؤيتها، و هي كانت تتحاشاني و تتجاهل اتصالاتي... لم أستطع حضور الزفاف... كان ذلك فوق طاقتي... لكن بلغني أنها بدت حزينة يومها... لم تبد السعادة على أحدهما، هي و فراس... كأنهما يؤديان واجبا اجتماعيا! حين رأيتها للمرة الأولى بعد عودتها من شهر العسل، كان جسمها قد نحف، و وجنتاها غائرتان... لم أستطع أن أتحدث إليها، تركتها و أخذت السيارة و تركت القصر... لكنني ندمت بعد ذلك، كانت في عينيها نظرة رجاء، أو اعتذار... أو ندم... لكنها لم تكن سعيدة، أنا واثق!

سمعت ليلى صوت قرقعة الأواني النحاسية في غرفة الخزن... يبدو أن المربية تبحث عن شيء ما و تجد صعوبة في العثور عليه... لازال أمامها بعض الوقت... التفتت من جديد إلى أمين، تريد أن تفهم معه ما الذي حصل... سألته في حذر :
ـ هل كان فراس يعاملها معاملة سيئة؟

بدا على أمين الاستغراب... لكنه أخذ وقته للتفكير قبل أن يقول في ثقة :
ـ لا أعتقد أن الأمر كان كذلك... كانت معاملته لها عادية... لكنه لم يكن يحبها... و أنا أعلم أن المرأة لا تعيش بدون حب!

ابتسمت ليلى لعبارته الأخيرة و تطلعت إليه في شك :
ـ و من أين لك أن تعلم، إن كان يحبها أم لا؟

انفعل أمين فجأة، وقف من مجلسه و صرخ في احتجاج :
ـ لو كان يحبها لكان ضحى من أجل إسعادها! كان ابتعد عن طريقها و تركها ترتبط بمن تحب!

رمقته ليلى في هدوء و قالت :
ـ بعض الحب يكون أنانيا... تملكيا... هل كنت أنت لتضحي إن كنت مكانه؟

نظر إليها في حيرة و لم ينطق. أطلت الخالة من باب الغرفة و هي تهتف :
ـ أمين؟ ما الذي يحصل؟ لم الصراخ؟

ارتمى أمين على مقعده من جديد، في حين أجابت ليلى مبتسمة :
ـ لا تقلقي خالتي... نحن نتحدث... أمين انفعل قليلا... لكن لا بأس... إنه أهدأ الآن...

اقتربت العجوز و على شفتيها ابتسامة باهتة. نظرت إلى أمين الذي كان متهالكا على كرسيه و قالت :
ـ ألا تمل تكرار هذه القصة؟ ألم يئن لها أن تنسى؟

حدقت فيها ليلى في دهشة. كانت تحاول أن تستدرج أمين دون أن تثير انتباه المربية، لكن يبدو أنها قد سمعت كل ما قيل!

جذبت الخالة مريم كرسيا و جلست إلى جانب ليلى و هي تقول :
ـ أمين يا صغيري... تلك تجربة قد مرت... و ربما كانت حكمة من الله، أن تفقدها حينها، بدل أن تفقدها بعد بضعة شهور من الزواج...

تجاهل أمين مواساتها و هتف في حنق :
ـ أوليس زواجها ذاك هو ما أدى بها إلى تلك النهاية؟ أليست معاناتها الصامتة و ندمها؟ حتى عمتي كانت تحس بخطأ القرار... كانت ترى أمام عينيها شقائي و شقاء ابنتها... تدهورت صحتها بشدة ثم لزمت الفراش حتى توفاها الله...

تجهم وجه المربية و قالت بصوت قاس :
ـ أنت تعلم أن عمتك لم يكن يهمها سوى إضافة ملايين جديدة إلى ملايينها... و كانت تعلم أن فراس فرصة لا تعوض... لذلك يدهشني أن تكون قد ندمت على زواج ابنتها منه!

أحست ليلى بوخزة في صدرها و هي تسمع تلك الكلمات عن والدتها... هل كانت مادية إلى تلك الدرجة؟ لكن لا يبدو أن المادة قد أهدتها السعادة التي توقعتها...

واصلت مريم بصوت أهدأ :
ـ حنان لم تكن زوجة مناسبة لا لك و لا لفراس... كانت تربيتها فاسدة... نجاة دللتها كثيرا، و أنشأتها على حب المادة و قسوة القلب و سوء الخلق... ربما كان رحيلهما أفضل للجميع...

اقشعر جسد ليلى و هي تستمع إلى تلك الكلمات التي أقل ما يقال عنها أنها جارحة. لم تتوقع أن أحدا قد يكره أفراد عائلتها بتلك القوة! وقفت في ارتباك و غادرت المطبخ... وقفت في الشرفة الخارجية... تحس بالاختناق، تحتاج إلى جرعة من الهواء... سمعت أمين و هو يعاتب المربية على تسرعها، ثم أحست بخطواته تقترب. ليس الآن وقت البكاء... تماسكي يا ليلى! مازال هناك المزيد لتعرفيه. تذكرت شيئا، فقالت دون أن تلتفت إليه، تخفي العبرات التي تجمعت في مقلتيها :

ـ أمين... ما الذي جعلك تتذكر كل هذا ليلة حفلة الشواء؟ فقد بدا لي أن كل شيء على ما يرام بينك و بين فراس...

لم يجبها أمين مباشرة... لكنه قال بعد برهة :
ـ علاقتي بفراس لم تعد أبدا إلى ما كانت عليه قبل زواجه... تدهورت العلاقة بعد الزواج... و ساءت الأمور بيننا كثيرا بعد وفاتها... أنا... كنت قاسيا معه... حملته المسؤولية كاملة ، بل... بل اتهمته بقتلها!

استدارت ليلى بقوة و قد أصابها الذهول... كان يقف مرتبكا، مطرقا و نظراته إلى الأرض، واصل قائلا :
ـ فراس أصيب بانهيار عصبي بعدها... ربما كانت اتهاماتي أشد عليه من موتها في حد ذاته... و بعد ذلك... بعد ذلك، فراس لم يعد فراس الذي عرفناه من قبل... أصبح منطويا، عصبيا... حاولت مرارا استفزازه، لكنه بقي يتجاهلني... و في إحدى المرات، انفجر في وجهي غاضبا، و حذرني من الاقتراب منه مجددا... و منذ ذلك الحين لم يخاطبني أبدا... إلى يومنا هذا...

تذكرت ليلى يومها الأول في قصر، حين ذكر أمين اسم حنان أمام فراس... تذكرت كيف ترك قاعة الطعام دون أن ينطق بكلمة... كيف لم تلحظ ذلك من قبل؟ فراس لا يحادث أمين أبدا بالفعل... بل بالكاد يتحدث مع أي كان...

عادت إلى أمين و سألته في اهتمام :
ـ لكنني لم أفهم بعد... ما الذي جعلك تنفعل تلك الليلة و تستعيد كل هذه الذكريات؟

أشاح أمين بوجهه في حرج و بدا عليه الارتباك و هو يضع يده على صدغه و يقول :
ـ أنت السبب...

هتفت ليلى في حيرة :
ـ أنا؟!!

واصل دون أن ينظر إليها و صوته آخذ في التهدج :
ـ أنت تركتني... و ركضت إلى فراس... تماما كما فعلت حنان... تجاهلتني و ذهبت إليه!! ظننت أنني استعدت حياتي و ثقتي بنفسي... بعد... بعد أزمة فراس و انزوائه عن العالم... صارت لي حياة اجتماعية لا يقارنني أحد فيها بفراس... لأن فراس لم يعد فراس! و لكنني اكتشفت أنه لا فائدة... لا فائدة، لأنه ينتصر علي دائما، حتى و هو مريض و محطم!!

قاطعته ليلى في انفعال :
ـ ما الذي تقوله؟ الأمر ليس كذلك أبدا!

تذكرت أنها تركته بالفعل وسط الحفلة حين لمحت فراس عن بعد... ربما كانت قاسية عليه ليلتها... بعد الدرس الأخلاقي الذي قدمته إليه، تجاهلته و ركضت لتكلم فراس... لكن الأمر ليسا إطلاقا بالشكل الذي يظنه! كان يجب أن تسلم فراس المفكرة... و يا ليتها لم تفعل!

أخذت نفسا طويلا و قالت في هدوء :
ـ أمين... بالنسبة إلي، لا فرق بينك و بين فراس... كلاكما ابن خالي، و بالكاد أعرفكما...

قاطعها أمين في حدة :
ـ كفى ليلى... أرجوك، كفى...

تابعته و هو يبتعد في اتجاه سيارته التي أوقفها غير بعيد عن المنزل الريفي، و قد تملكتها الدهشة... هل قلت شيئا أغضبه؟


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 10:48 AM   #15

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




الجزء الثالث عشر





قطفت بضعة وردات حمراء قانية، و جلست في الشرفة تتشاغل بتنظيفها و إزالة أشواكها. وخزت شوكة إصبعها، فسالت قطرة من الدم لتستقر على إحدى البتلات. تناولت الوردة و قربتها منها. ابتسمت حين ضاع لون قطرة الدم أمام لون الوردة الدامي... سرحت للحظات و قد أعاد إليها منظر الدم هواجس كثيرة طاردتها في الأيام الماضية. مسحت الدم عن إصبعها بمنديل ورقي و عادت إلى عملها، لكن بذهن مشتت و تركيز قليل...

أحست بخطوات تقترب من مجلسها. لم ترفع رأسها و هي تلمح الظل الذي يمتد أمامها و قد اقترب الوقت من الظهر. تناهى إليها صوت الخالة مريم و هي تتنحنح محاولة شد انتباهها. رفعت رأسها قليلا، بابتسامة شاحبة. جلست العجوز قبالتها و قالت بصوت مبحوح :
ـ أنا آسفة يا صغيرتي إن كان كلامي هذا الصباح قد آلمك...

لم تجب ليلى، لكنها ضغطت بالمنديل على إصبعها من جديد، كأنها تمنع الألم من التسرب إلى الخارج، تحبسه في دمها و في قلبها... فقد تعودت أن تكتم ألمها، إلا عن والدها... لكنها غير واثقة من أن والدها نفسه قد يقدر على التخفيف عنها هذا الألم بالذات!

تكلمت المربية بصوت هادئ و عميق، كأنها تحاول الوصول إلى أعماق ليلى :
ـ ليس ذنبك إن كانت والدتك امرأة قاسية و متعجرفة... و قد كان من لطف الله بك أن عشت بعيدا عنها! فيبدو أن نجيب أحسن تربيتك و علمك الحفاظ على دينك و أخلاقك... و يا ليته أخذ حنان أيضا، ربما كانت نشأت بصورة مختلفة...

تنهدت و هي تسترجع ذكريات قديمة، مرت عليها أربع و عشرون سنة. استطردت و هي تتأمل وجه ليلى، كأنها تقرأ في ثناياه تفاصيل تاريخها :
ـ عرفت والدتك شابة و امرأة... كانت منذ صغرها متكبرة و مغرورة... مغرورة بجمالها و نسبها... و بعد زواج نبيل من هاجر، تمتعت بثروة أخيها و عاشت حياة مرفهة، زادتها غرورا إلى غرورها... والدك كان صديق نبيل، و كان حينها يشغل منصبا هاما في وزارة الخارجية... تعرف عليها في إحدى السهرات التي يحضرها رجال الأعمال و السياسيون، فقد كانت ترافق نبيل و هاجر إلى معظمها... أعجب بها من النظرة الأولى... فهي تبدو رقيقة و هادئة... لم يتردد في خطبتها، و بعد فترة وجيزة تزوجا. نجاة كانت في غاية السعادة و هي ترى أول أحلامها يتحقق : أن ترتبط برجل وسيم و ثري و ذي مركز مرموق... لكن سعادتها لم تدم طويلا، فبعد أشهر قليلة من الزواج بدأت صورتها تتضح أكثر أمام عينيه، و أدرك الخطأ العميق الذي ارتكبه بزواجه منها... و حين عين سفيرا للبلاد، قرر السفر بمفرده، متعللا بعدم استقرار وظيفته بعد... كأني به أراد أن يمنح نفسه فرصة إعادة النظر في زواجه و اتخاذ القرار المناسب... في تلك الفترة كانت نجاة في غاية الاستياء... و صارت تصرفاتها لا تطاق! تصب جام غضبها على موظفي القصر و تعاملهم باحتقار فظيع...

تغيرت ملامح وجهها و هي تذكر معاناتها في تلك الفترة و أردفت :
ـ كانت تسلط قسوتها علي بدون تردد... كلما ما وقعت عينها علي، تسمعني أبذأ الكلمات و أشدها وحشية... ترى نفسها محسودة من الجميع... و تظن أن العالم كله يشمت فيها، بعد تدهور علاقتها بزوجها! لكن حادثة ما ظلت عالقة بذهني... أذكر يومها أنني اشتريت عقدا... كان عقدا رخيصا، لكنه جميل و حباته ذات لمعان جذاب... كنت أحمل إليها الفطور إلى غرفتها، و حين انحنيت لأضع الطبق على المنضدة القريبة، فوجئت بيدها تمتد لتقتلع العقد من عنقي! تناثرت الحبيبات على الأرض و سقط بعضها في وعاء الحساء... و جرح السلك الرقيق عنقي تاركا علامة عميقة...

سكتت للحظات، كأنها تستعيد المشهد بحذافيره أمام عينيها، ثم قالت في مرارة :
ـ نظرت إلي في استهزاء و صرخت : هل تظنين بأن عقدا سخيفا سيغير شيئا من قبحك!! كنت في غاية الذهول و الألم... كانت كلماتها كالخنجر تخترق صدري... و مع ذلك، كان علي أن أجمع ما تناثر على الأرض و أعيد تحضير الفطور، و أنا أكتم عبرتي... و كثيرة هي المواقف التي كانت تحاول فيها إشعاري بتفوقها علي، بجمالها و رشاقتها... لم يكفها أنني أعمل في خدمتها طوال الوقت، مع أن دوري الأساسي كان الاهتمام بالأطفال!

كانت ليلى في غاية التأثر و هي تستمع إلى رواية الخالة مريم المحزنة. حزينة هي على معاناة المربية المسكينة، و حزينة لما كانت عليه أمها... فحقا، لا يملك الإنسان اختيار والديه! و ليس ذنبها أن والدتها كانت بمثل هذه الطباع...

واصلت المربية و هي تمسح دمعة يتيمة سالت على خدها دون رغبة منها :
ـ أمك لم تكن ترغب في الإنجاب... كانت ترى الحمل و الولادة عبأين ثقيلين، خاصة مع الأثر الذي يتركانه في الجسم، و هي كانت مهووسة بجمال جسدها! لكنها فرحت حين عرفت بأنها حامل، ذلك لأنه السبب الوحيد الذي قد يجعل نجيب يقرر الاستمرار معها! و بالفعل، كان ذلك ما حصل... فحين سمع بحملها، عاد إلى هنا و أخذها معه إلى اليونان، حيث كان يشغل وظيفة سفير للبلاد... و مرت سنوات طويلة دون أن أسمع عنها شيئا... سنوات خمس لم تطأ قدماها أرض البلد، و لا أظنها افتقدت شيئا فيها! فهي من النوع الثائر على التقاليد العربية و المجتمعات المحافظة... و أظنها وجدت ضالتها في أوروبا... و لا أظن أن أحدا افتقدها أيضا، فشرها كان يطال القريب و البعيد!

كانت ليلى تتألم في صمت، لكن ملامح وجهها كانت تشي بمعاناتها، فما تسمعه ليس بهين...

واصلت المربية حديثها :
ـ و في يوم ما، و دون سابق إنذار، فوجئت بسيارة أجرة تتوقف عند بوابة القصر، و تنزل منها نجاة و معها فتاة في سن الخامسة... لا أخفي عليك أن كوابيسي القديمة عادت إلي دفعة واحدة في تلك اللحظة... فآخر ما كنت أتمناه هو ظهور نجاة في حياتي من جديد! و لا أظنه شعوري وحدي، بل شعور كل من في القصر!!

قاطعتها ليلى في حيرة :
ـ و خالي نبيل؟ كيف كانت علاقتها به؟

عقدت مريم حاجبيها في تفكير :
ـ نبيل كان يتجاوز عن زلاتها و يتساهل معها كثيرا... فهي شقيقته الوحيدة، كما أنهما عاشا ظروفا صعبة بعد إفلاس والدهما و دخوله السجن بسبب الديون! نبيل كافح كثيرا حتى يستعيد مكانته في المجتمع و يعيد مجد العائلة العريقة... لذا فإنه كان يدلل نجاة كثيرا، كنوع من التعويض المعنوي عن ما عاشته من آلام في طفولتها...

هزت ليلى رأسها في تفهم... و أسف. تابعت مريم روايتها :
ـ كان والدك قد طلق والدتك... فعادت ذليلة لتعيش مع أخيها. و بطبيعة الحال ازدادت نقمتها على كل من حولها، و لم تكن الضحية سوى حنان الصغيرة التي تعلمت الحقد منذ طفولتها. و لأنها لم تهتم بتربيتها، فقد نشأت مثل الأولاد! تماري فراس و أمين في ألعابهما الشقية... و كبرت على ذلك الشكل... تحظى بكامل الحرية، و تتأثر بشخصية نجاة المادية... و بدأت تتعثر في دراستها و كثرت رسائل المدرسة و شكاوى الأساتذة من سلوكها و غيابها المستمر عن الدروس... فقد كانت تخرج صباحا مع السائق إلى مدرستها، لكنها تشرد بعد ذلك و تقضي النهار في التسكع... إلى أن انفصلت عن الدراسة في سن السادسة عشرة!

عقدت ليلى حاجبيها في دهشة و قالت :
ـ كيف تترك المدرسة؟ و هل وافقتها والدتي؟ و خالي نبيل، ألم يتدخل؟

هزت المربية كتفيها في لامبالاة و قالت :
ـ حنان لم تكن ترغب في مواصلة الدراسة، فمنذ ذاك السن، كان كل ما يشغلها صالونات التجميل و عروض الأزياء و السهرات الراقصة و الأمسيات الشبابية... و والدتك هي من علمها هذا النوع من الحياة! لذلك فإنها لم تبال إن تركت المدرسة الحكومية، طالما أنها كانت تجاريها في تعلم فنون الإيتيكيت و العناية بالبشرة و اتباع الحمية المناسبة!! أما خالك، فإنه كان مشغولا طوال الوقت، و الحقيقة أنه في تلك الفترة كان يواجه صعوبات جمة في أعماله مما أبعده عن أجواء العائلة تماما... فكيف له أن يراقب سلوك الفتاة، و أمها نفسها في حاجة إلى مراقبة! إيمان كانت قد رحلت منذ سنوات عديدة و أمين هو الآخر كان شبه خارج عن السيطرة، لولا حزم ياسين معه و متابعة أماني الدائمة لدراسته... قبل رحيلها هي الأخرى...

همت ليلى بأن تستوضح أكثر عن ظروف وفاة أماني، و لكنها عدلت حين رأت مريم تتنهد و تواصل :
ـ كانت الظروف العامة في تلك الفترة مضطربة جدا... خالك ظل غارقا في الأحزان لفترة طويلة، بعد رحيل زوجتيه واحدة إثر الأخرى، و مع حوادث الانتحار التي جعلت سمعة العائلة تلوكها الأفواه... لذلك كانت مشاغل نجاة و ابنتها آخر ما يمكن أن يثير اهتمامه!

أطرقت ليلى في تفكير... تعلم أن السمعة في حياة رجل الأعمال هي أهم ما يملك! و الأزمات التي مرت بها العائلة كانت لها تداعياتها على شركة خالها بالتأكيد... حتى إن لم يختلف الأمر بالنسبة إلى من يتعامل معهم من شركاء و حلفاء، فإن حالته النفسية ستؤثر حتما على قراراته...

أخرجها صوت الخالة مريم من تأملاتها و هي تقول متابعة :
ـ لكن في الأشهر القليلة التي سبقت وفاتها، تغيرت نجاة نوعا ما... أصبحت تحس بتعب لأقل مجهود تبذله، و صارت أكثر هدوءا و لم يعد صوتها يسمع كثيرا و هي تصرخ على الخدم! الحقيقة أن الجميع استغرب ذلك، و سرت الهمهمات حول إصابتها بمرض عضال جعل قواها تخور مرة واحدة...

اقتربت الخالة مريم من ليلى أكثر و قالت هامسة :
ـ مع أنها أخفت ذلك عن الجميع، بدون استثناء... إلا أنه من الواضح أنها أصيبت بداء خطير... داء فقدان المناعة... بسبب علاقاتها المشبوهة...

وضعت ليلى كفها على فمها في صدمة، لتكتم صرخة كادت تصدر عنها، و سالت على خدها دمعة حرى، تبكي ماضي عائلتها المشين. أمها كانت بهذا الشكل؟ أمها ماتت بسبب معاصيها؟ كنت حزينة لأنها لم تعرف والدتها و عاشت بعيدا عنها... و الآن؟ هل تتمنى أنها كانت بقربها؟ هل كانت لتقدر على منعها من الاسترسال في طريقها المنحرفة؟

لم تستطع أن تتحمل أكثر. استمرت تبكي في صمت... لشد ما كانت متشوقة لتعرف عائلتها... لكن ليس بهذا الشكل! ليس بهذا العار! ارتفعت شهقاتها و لم تعد قادرة على السيطرة عليها...

أحضرت المربية كأسا من الماء و مدتها إليها في حنان :
ـ صغيرتي... ليس الذنب ذنبك... و لتحمدي الله لأنك عشت بعيدا عن هذه البيئة الفاسدة... الله حماك و حفظك، و والدك لم يقصر في تربيتك... لكن يا ليته أبعد حنان أيضا!

شربت ليلى جرعة ماء، و مسحت عبراتها بظاهر كفها... ظهرت على شفتيها شبه ابتسامة فيها الكثير من المرارة... نعم، إنها لتحمد الله على سلامتها من الأوبئة التي تنتشر في الأوساط المترفة، حيث يسيطر التفكير المادي على العقول و لا يبقى للقيم و الأخلاق أي أثر... تنهدت في ألم و لوعة... إنها لرحلة شاقة تلك التي تأخذك إلى ماض مر...

جلست مريم على الكرسي المجاور من جديد، تململت و هي لا تدري كيف تخفف عن ليلى... كان من الضروري أن تعلم كل شيء عن أمها و أختها، عاجلا كان ذاك أم آجلا... على الأقل، فلتبك هنا بعيدا عن العيون... ثم تتأقلم مع وضعها الجديد... و الحقيقة القاسية...

قالت مغيرة الموضوع :
ـ زواج فراس و حنان يبقى من النقاط المحيرة بالنسبة إلي! لطالما اعتبرت نفسي فاهمة لطباع ذاك الولد... لكن قراره هذا أغلق علي بالكامل! كان يعتبرها فتاة مدللة و تافهة، و لم تثر إعجابه في يوم من الأيام... بل كان يلوم أمين على تعلقه بها... فكيف وقع هو تلك الوقعة؟ كل هذا لا يبدو منطقيا... إلا إذا...

سكتت المربية و قد سرحت في أفكارها. كان ليلى قد هدأت و شد انتباهها الموضوع الجديد، فاستعجلتها و هي تقول في لهفة :
ـ إلا إذا ماذا؟

ظلت مريم ساهمة و لم تجب، كأنها تدرس الفكرة التي طرأت على ذهنها في الحال... فجأة تناهى إلى مسامعهما صوت منبه سيارة. وقفت الخالة و هي تسوي وشاحها، حين رأت سيارة العائلة تقترب من مدخل المزرعة. حاولت ليلى مرة أخرى :
ـ خالتي... ما الذي خطر ببالك؟

نظرت إليها مريم في تردد، ثم تمتمت :
ـ لا شيء... لا شيء...

تبعتها عينا ليلى في إصرار و خيبة، و هي لا تدري كيف تستخرج منها الكلمات. التفتت إليها العجوز مبتسمة و قالت :
ـ يبدو أن هناك من جاء لأخذك...

نزلت منال من السيارة و هي تهتف من بعيد :
ـ بسرعة ليلى... جهزي نفسك... سنغادر بعد قليل...

قفزت رانيا من السيارة بدورها و ركضت ضاحكة إلى الشرفة و هي تحمل في يدها كرتها الصغيرة، استقبلتها ليلى بذراعيها و حملتها عاليا و الطفلة تطلق صيحات فرح معبرة عن استمتاعها. أنزلتها ليلى، فجذبتها من ثوبها في رجاء :
ـ مرة أخرى... مرة أخرى...

ـ أنت ثقيلة يا حبيبتي، ذراعاي تؤلمانني!

عبست الفتاة و عقدت ذراعيها أمام صدرها و غمغمت في استياء :
ـ عمي فراس يحملني مرات كثيرة و لا يتعب!

أزعجتها المقارنة، و نكاية في فراس فقط... فقط لا غير، انحنت مجددا و حملت الصغيرة في الهواء!



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 10:48 AM   #16

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




الجزء الرابع عشر




توقفت السيارة أمام مدخل القصر، فقفزت رانيا كعادتها و صعدت الدرجات راكضة... تبعتها منال وهي تحمل باقة كبيرة من الورود الحمراء البرية التي قطفتها من المزرعة. أما ليلى فنزلت بخطى متثاقلة... كانت لازالت تتحسر على ضياع الفرصة منها لتسمع أكثر من الخالة مريم، و لولا اشتياقها للاتصال بوالدها، للبثت في المزرعة يوما آخر! كانت قد قررت أن تطلب من خالها الاتصال به الليلة، فهو الوحيد الذي يمكنه التواصل معه مباشرة...

دلفت إلى البهو الذي يثير اهتمامها في كل مرة تمر به في غدوها و رواحها... أجالت بصرها من جديد في قسميه المتناقضين، و في عينيها نظرة حائرة. ابتسمت منال و هي تتقدمها و تشير بذراعها في حركة مسرحية :
ـ من هنا عالم هاجر... و هنا عالم إيمان!

نظرت إليها ليلى في استغراب، فتابعت منال شارحة :
ـ هاجر، سيدة القصر الأولى، كانت تحب الطابع الكلاسيكي، و قد كان أثاث القصر كله، منذ عهد زوجها الأول، من النوع التقليدي، بل التاريخي، حيث اعتنت باقتناء القطع النادرة و النفيسة و جعلت المكان يبدو كمتحف! لكن إيمان، زوجة خالك الثانية، كانت ثائرة على ذلك النمط، و تتميز بذوق عصري و عملي... لذلك قامت بتجديد أثاث القصر بالكامل، تقريبا... لتمسح عنه آثار هاجر و تترك لمستها الخاصة... لكن عمي نبيل لم يتركها تذهب في حملتها تلك إلى أبعد مدى، فأنقذ هذا الجزء من البهو، حتى يحافظ على ذكرى زوجته الراحلة... و كما ترين، صار بهو الاستقبال مكونا من نصفين مختلفين تماما... و كل منهما يعكس شخصية إحدى الزوجتين!

ابتسمت ليلى و قد فهمت أخيرا سر الديكور العجيب. سبقتها منال إلى الداخل لتقوم بتنظيف الورود و إزالة أشواكها قبل وضعها في المزهرية... كانت ليلى لا تزال تقف في البهو حين تناهى إليها صوت رانيا و هي تصرخ! تلفتت باحثة عن مصدر الصوت، فلفت انتباهها باب جانبي في الطرف الآخر من البهو، لم تكن قد لاحظته في السابق.

خطت نحو الباب في حذر. كان الباب الخشبي الثقيل نصف مفتوح. دفعته بهدوء و أطلت إلى الداخل لتكتشف الغرفة المجهولة. زكمت أنفها رائحة غريبة جعلتها تتراجع خطوة، بدت كأنها رائحة التعقيم التي تنتشر في المستشفيات... لكن ما رأته، تحت الإضاءة الخافتة للغرفة المنبعثة من الكوات الضيقة في السقف، جعلها تحجم عن الانسحاب... للحظات تسمرت في مكانها و على وجهها علامات الانبهار... كان من الجلي أنها غرفة المكتبة، لكنها مكتبة من النوع العملاق... فقد تراصت الكتب على الرفوف على امتداد الجدران الأربعة التي ترتفع خمسة أمتار أو تزيد... تقدمت إلى وسط القاعة و هي تتأمل اكتشافها العظيم... لم تعد الرائحة تضايقها... لم تكن قد رأت مكتبة منزلية بهذا الحجم من قبل. و لكنها تنسى على الدوام أن هذه ممتلكات عائلة القاسمي! لذلك من الطبيعي أن تكون مختلفة عن كل ما رأته من قبل...

أتاها صوت الصغيرة مجددا و هي تئن و تصرخ. التفتت لتجد رانيا و قد حشرت نصفها الأعلى تحت خزانة معدنية صغيرة في الركن البعيد من القاعة. و بدا أنها لم تعد قادرة على استخراج جسدها من هناك! انحنت ليلى و هي تهتف بها عابسة :
ـ ما الذي تفعلينه أيتها الشقية؟

سحبت الصغيرة من وسطها، فأخرجت رأسها و هي تبتسم في اعتذار و تمسك كرتها في يدها :
ـ الكرة هربت مني و تدحرجت إلى هنا...

ضحكت ليلى و هي تسوي خصلات شعر الطفلة الذي تشعث و فسدت تسريحته. حين رفعت رأسها، وقعت عيناها على صندوق فضي مزخرف يستقر على أحد رفوف الخزانة، خلف واجهة زجاجية. كان الصندوق ذا شكل مستطيل، و الجزء الأعلى منه مقبب، مع مساحة بلورية في الوسط، تسمح برؤية ما بداخله... اقتربت من الواجهة في فضول، و رفعت نفسها على أطراف أصابعها لتنظر إلى داخل الصندوق...

فوجئت بما رأت... كان الجزء السفلي مفروشا بالمخمل الأحمر و قد ظهرت فيه فجوات متوازية على امتداد المساحة، معظمها فارغ... أما الفجوات القليلة الملأى، فقد كانت كل منها تحتوي على خنجر صغير، مقبضه فضي، مزين بقطع حجرية زرقاء!

فاجأها صوت منال و هي تهتف عند مدخل الغرفة :
ـ ما الذي تفعلانه هنا؟!

تراجعت ليلى في حرج و شرحت بسرعة ما حصل. اقتربت منال في خطوات سريعة. كانت ليلى لا تزال واقفة قرب الخزانة و قد بدا عليها الاهتمام بالصندوق الفضي. قالت منال هامسة :
ـ هيا اخرجا بسرعة... عمي نبيل لا يحب أن يدخل أحد إلى هنا... لا شك أن أحد الخدم نسي الباب مفتوحا!

نظرت إليها ليلى في دهشة فواصلت منال و هي تجذبها من ذراعها :
ـ المكتبة تحتوي عددا من الكتب النادرة و القديمة، لذلك فإن بها نظام تهوئة خاص للحفاظ على الورق... و يجب أن تبقى مغلقة طوال الوقت... كما أن الدخول إلى هنا ليس مسموحا به للجميع!

أضافت بعد صمت قصير، لتشبع فضول ليلى :
ـ ذاك الصندوق الفضي، في الخزانة الصغيرة، يحوي مجموعة من الخناجر النفيسة التي اقتنتها السيدة هاجر في إحدى رحلاتها في مزاد علني للممتلكات إمبراطور الصين الراحل!

رفعت ليلى حاجبيها في تعجب، فواصلت منال و هي تلوح بيدها في لامبالاة :
ـ لست أدري إن كان ذلك صحيحا... و لكنه ما يقال حول تلك الخناجر الغريبة!

ابتسمت ليلى و هي تهز كتفيها في استهانة... لم يعد من الممكن التمييز بين الحقيقة و الخرافة في هذا المكان الغريب! تابعت منال شرحها :
ـ هاجر أرادت أن يحصل كل فرد من أفراد العائلة على أحد هذه الخناجر، و ينقش عليه اسمه... ذلك لأن الأسطورة الصينية تقول بأن الخنجر يحمي صاحبه و يجلب له الحظ!

ضحكت ليلى في مرح... هل مازال هناك من يصدق هذه الخرافات! تابعت منال و هي تضحك بدورها :
ـ و لكن من المفارقات العجيبة، أن هاجر نفسها استعملت خنجرها الخاص في انتحارها... و كذلك فعلت أماني و حنان!!

حدقت ليلى فيها في حيرة، و أحست لوهلة بأنها تقرأ قصة رعب من الخيال الأمريكي السخيف... لكن صوت منال شدها إلى الواقع، فيبدو أن للقصة بقية :
ـ الصندوق يحتوي على أحد عشر خنجرا... و الخناجر التي لا تزال فيه، خمسة... أربعة منها أعيدت إليه بعد وفاة صاحباتها... هاجر، إيمان، أماني و حنان... و خنجر واحد لا يلمس بعد...

وقفت ليلى مصعوقة... إذن أدوات الانتحار كلها يحتفظ بها في ذاك الصندوق! تذكرت كلمات سحر حول أداة الجريمة... هل يعقل ذلك!

انتبهت إلى نقطة ما في كلام منال فالتفتت إليها في استغراب :
ـ و لكن، لماذا حصلت أماني على خنجر؟ فهي لم تكن من أفراد عائلة القاسمي! أم أنك تقصدين نجاة؟

هزت منال رأسها مؤكدة :
ـ لا... لا، نجاة لم تحصل على واحد, فهي أصلا لم تكن تهتم بالعائلة و لا بطقوس هاجر الغريبة... و لكنني واثقة من أن أماني حصلت على خنجرها... كان ذلك قبل زواجي بياسين، لذلك لم أتساءل كثيرا حول الموضوع... لكن الأمر غريب فعلا! هل كان ذلك لأن ياسين خطبها؟

أحست ليلى بأن في الأمر سرا ما و بدأت أفكار كثيرة غريبة تتزاحم في رأسها في تلك اللحظة. تبعت منال التي أخذت تصعد الدرج و هي تقول :
ـ تعالي، سأريك خنجري إن شئت... لكن لا تقتربي من الصندوق مجددا... عمي نبيل سينزعج من ذلك...


********


دخلت الجناح خلف منال التي لم تتوقف عن الثرثرة عن الخرافات المستحيلة التي يتناقلها الخدم حول طباع هاجر الغريبة و ما تحتفظ به من قطع أثرية مسحورة و تحف عجيبة... كانت تدخل جناح ياسين و منال للمرة الأولى، بل إنها زيارتها الأولى للطابق الثاني، بعد الجولة السريعة التي قادها فيها العم صابر، كبير خدم القصر، في أول يوم لها هنا...

توجهت منال نحو منضدة الزينة، و فتحت صندوقا خشبيا صغيرا يحتوي بعض قطع الحلي و الإكسسوارات، تناولت بحذر خنجرا صغيرا حادا، ذا نصل معقوف و مدته إلى ليلى و هي تقول :
ـ هذا الخنجر حصلت عليه ليلة زفافي! هدية غريبة أليس كذلك؟

قالت ذلك متضاحكة، ثم أشارت إلى خزانة زجاجية في الجانب الآخر من الجناح و قالت :
ـ ياسين يحتفظ بخنجره هناك، و رانيا أيضا حصلت على واحد عند ولادتها! كل واحد نقش عليه اسم صاحبه... انظري!

أمسكت ليلى السلاح الأبيض بين يديها و هي بالكاد تسيطر على انفعالاتها... فقد أصابها الذعر و هي تتخيل ما استعمل من أجله مثل هذا الخنجر. كانت منال قد أحضرت الخنجر الخاص بياسين و ناولتها إياه هو الآخر و هي تقول :
ـ انظري، الخناجر متشابهة جدا، و لا سبيل إلى التمييز بينها! صنعت بدقة وبراعة كبيرة... لذا اعتمدت هاجر فكرة النقش، حتى لا يقع التباس...

دخلت رانيا إلى الجناح و هي تطارد كرتها كالعادة، تدحرجها على الأرض ثم تركض خلفها لتعيد دحرجتها... توجهت نحوها منال و هتفت في حزم :
ـ رانيا! يجب أن تستحمي و تغيري ملابسك... انظري إلى حالتك الرثة!
أمسكت الصغيرة من ذراعها، و هي تصرخ في احتجاج، و جذبتها في قوة إلى غرفة الاستحمام الخاصة بالجناح...

كانت ليلى لا تزال تقف و هي تمسك الخنجرين، تقلبهما بين كفيها في اهتمام، و تعاين النقوش المزخرفة التي تظهر على طرف المقبض بحروف لاتينية... ثم ما لبثت أن هزت كتفيها في استسلام، بعد أن يئست من إيجاد فرق بينهما... هتفت بمنال، التي كانت تسمع صوتها قادما من الداخل وهي تصارع رانيا المتمردة على الاستحمام :
ـ سأعيد الخناجر إلى مكانها...

أجابتها منال و قد كاد صوتها يغيب أمام صوت تدفق المياه في الداخل :
ـ حسن... خنجر ياسين ضعيه في الرف الثاني من الخزانة...

أودعت ليلى خنجر منال صندوقها الخشبي، ثم توجهت إلى خزانة ياسين في طرف القاعة. فتحتها و وضعت الخنجر كما طلبت منها منال. همت بإغلاقها، لكنها توقفت فجأة حين لفت انتباهها وريقات ملفوفة بعناية بخيط أحمر، تستقر على الرف السفلي. لم تكن هذه الوريقات لتشد انتباهها في الظروف العادية، خاصة أن الخزانة تخص شخصا غريبا عنها، لكن لون الورق و زخرفته جعلاها تتردد. مدت يدها لتمسك باللفافة. انتبهت حواسها دفعة واحدة... إنه نفس الملمس! لم يكن ورق مفكرة حنان المميز ليتوه عنها! كانت مضطربة، و قد أخذت أوصالها في الارتعاش... إنها متأكدة من أنها أوراق من المفكرة، نجت قبل الحرق!

لكن كيف وصلت إلى خزانة ياسين؟ و لماذا يحتفظ بها؟ كان الفضول يسيطر عليها، بل رغبتها الملحة لكشف سر ما حصل... هل تروي هذه الصفحات سر زواج فراس و حنان يا ترى؟ يبدو أنها ذات أهمية خاصة! ترددت أكثر... لا، لا يمكنها أن تأخذ اللفافة من الخزانة دون إذن صاحبها!

استيقظ ضميرها و أخذ يقرعها بشدة. مدت يدها لتعيد اللفافة إلى مكانها و الألم يعتصر قلبها. لكنها هذه المرة توقفت من جديد و قد سمرتها الدهشة... في نفس الرف من الخزانة، كانت هناك قطعة لامعة، كانت تختفي خلف أوراق المفكرة، لمعانها ذكرها بشيء تعرفه جيدا... كانت لفافة الورق لا تزال في يدها اليمنى، فمدت يدها اليسرى لتلتقط الحلية ذات الشكل الغريب... قربتها منها في ذهول و هي تتأمل النتوءات الحادة التي برزت في وسطها... كانت الحلية تتدلى من خيط ذهبي رفيع مميز... لكن شكل الحلية كان غريبا عليها. لم تكن قد رأت مثلها من قبل، و مع ذلك، فقد أحست أنها تعني لها الشيء الكثير...

فجأة، انقطع صوت تدفق المياه، فأدركت أن منال ستخرج عما قريب. أعادت الحلية مكانها بأصابع مرتعشة، و توقفت عند لفافة الورق و قد بدا عليها التردد الشديد، و لكنها أخيرا، دستها في حقيبتها و هي تسكت الصوت المعترض في داخلها. ألم يكف أنها فقدت المفكرة في المرة السابقة؟ ستقرؤها سريعا ثم تعيدها قبل أن ينتبه ياسين أو منال... لكن لا يمكنها أن تضيع الفرصة ثانية... هكذا أقنعت نفسها...

تنحنحت لتسيطر على انفعالها و هتفت :
ـ منال، سأذهب إلى غرفتي... أراك فيما بعد...

أطلت منال برأسها مبتسمة و هي تقول :
ـ حسن... أراك على الغداء...

رسمت ليلى على شفتيها ابتسامة سريعة، و حثت الخطى لتخرج من الجناح قبل أن تلاحظ منال اضطرابها...



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 10:49 AM   #17

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الجزء الخامس عشر





أغلقت باب غرفتها بإحكام خلفها و سارعت لتخرج اللفافة من حقيبتها. أخذت تفك الشريط الأحمر و هي تلهث من فرط الانفعال. ماذا لو انتبه ياسين إلى غيابها قبل أن ترجعها إلى مكانها؟ تحركت أصابعها في توتر و هي تحاول أن تنتهي مما بين يديها في أسرع ما يمكن... لم تكن قد فكرت بعد في خطة مناسبة لإعادتها، فأكثر ما يشغلها الآن هو أن تكتشف ما ورد فيها... فردت الوريقات أمامها فوق ملاءة السرير، لا تعلم من أين تبدأ، فهي لم تكن مرتبة. تناولت الورقة الأولى و أخذت تقرأ :

"أذكر ذاك اليوم أكثر من أي وقت مضى... أعاد كلام سارة اليوم إلي كل ذكرياته... بكل التفاصيل، كأن ما حدث كان البارحة! لم أحب أماني يوما، و هي لم تكن تطيقني أيضا... كانت تمنع أمين من الخروج معي، و تضطره إلى البقاء في غرفته و الدراسة... و لكن لم يكن بيني و بينها أية علاقة، كل منا تتجاهل الأخرى... لكنني لم أكن أضيع فرصة للنيل منها. صبيحة ذاك اليوم، كنت قد خرجت في جولتي الصباحية في الحديقة. أمسكت بعض الخنافس و حبستها في كيس صغير، ثم صعدت إلى الطابق الأول لأمارس هوايتي المفضلة : إرعاب أماني! جلست القرفصاء أمام باب الغرفة الزرقاء، فتحت الكيس، و دفعت الخنافس لتتسلل إلى الداخل من خلال الفضاء الضيق أسفل الباب. حبست أنفاسي و أنا أنتظر أن أسمع صراخها كالعادة. لبثت أنتظر لدقائق طويلة، لكن لم يبد عليها أنها انتبهت إلى تسلل الخنافس! استندت إلى الباب و أنا أمد أذني لأسترق السمع... ربما يصلني شخيرها! لكنني فوجئت بالباب يفتح تلقائيا و وجدتني أسقط وسط الغرفة!"

كانت الكلمات تقف عند هذا الحد. بحثت في لهفة عن الورقة التي تحمل تتمة النص، وما لبثت أن تعرفت عليها، فواصلت القراءة :

"وقفت في ارتباك و أنا أحاول استنباط تبرير لما يحصل، لكن الهدوء كان مخيما على المكان. نظرت في اتجاه السرير... كانت أماني تستلقي على ظهرها في استرخاء، ولم يبد أنها قد أحست بوجودي. اقتربت أكثر و قد تملكني فضول غريب. كان وجهها شاحبا تشوبه زرقة. و فجأة، وقعت عيناي على ذراعها اليسرى... كان جرح عميق يقطعها معصمها، و قد تكونت بركة دماء فوق الملاءة و على الأرض. و كان خنجرها الصغير ملقى على الأرض و قد تلطخ بالدماء... لبثت أنظر إليها في ذهول. درت حول السرير مرات عدة، و أنا أتأمل تفاصيل وضعها. ثم بحثت عن خنافسي، جمعتها في سرعة و خرجت من الغرفة في هدوء. لم أتحدث عن ذلك مع أحد. جلست في الحديقة الخلفية، وضعت رأسي بين كفي، و سرحت... هل هذا ما يسمونه الموت؟ كانت أماني تبدو وديعة في موتها، ملامحها مطمئنة، لكن لون الدم المتخثر كان مخيفا! لا أظنني أريد أن أموت مثلها!"

تنهدت ليلى في أسى... لم تكن تريد أن تموت مثلها! لكن لا يبدو أن طريقة موتها كانت مختلفة جدا، طالما أن للخنجر دورا فيها... أمسكت ورقة أخرى و تابعت :

"كنت أعلم أن ياسين يحب أماني منذ فترة طويلة، و إن لم يكن يبدي ذلك أمام الجميع. كانا صديقين منذ الطفولة، و قد كبرا معا، منذ زواج خالي بإيمان... لكنه قبل بضعة أيام من تاريخ الحادثة فاتح خالي برغبته في الزواج منها. كنت في المطبخ أبحث عن الكعكة التي حضرتها مريم في ذاك الصباح، حين لمحت خالي و ياسين يدخلان غرفة المكتب و يغلقان وراءهما الباب. تسللت من المطبخ و اقتربت من باب المكتب في حذر. كان خالي قد عاد من عمله مبكرا على غير عادته، خاصة أنه منذ وفاة إيمان يقضي معظم وقته في الشركة، و لم يعد يطيق أجواء البيت! سمعت صراخا قادما من الداخل. كان خالي يقول بأنه لن يسمح له بالزواج من أماني أبدا. و ياسين كان مغتاظا و فقد أعصابه أمام والده... ابتعدت بسرعة عن الباب حين سمعت وقع خطوات تقترب، و عدت للاختباء في المطبخ. خرج ياسين و الشرر يتطاير من عينيه و غادر القصر بخطوات متوترة. ثم علمت في المساء، أنه سافر إلى منزل العائلة الشاطئي... ربما يريد أن يريح أعصابه"

السيد نبيل كان معارضا لزواج ياسين من أماني؟! كيف و هي شقيقة زوجته التي يحبها؟ كما أنه استقبلها في بيته و ائتمنها على فراس و أمين، تتابع دراستهما و تهتم بمراجعتهما... فما الذي يجعله يرفضها و بكل هذا العنف؟ كانت الدهشة قد تملكت ليلى... هل... هل يكون لذلك علاقة بانتحارها؟ تحولت إلى الورقة الموالية، علها تجد فيها ردا على تساؤلاتها.

"لكن ما حصل في الغد زاد من ريبتي بخصوص نوايا خالي. كنت أجلس في الحديقة مع أمين، حين رأيت أماني تتجه نحو مكتب خالي. دخلت و أغلقت الباب خلفها. لم أتمكن من التصنت على ما يقال في الداخل لأن أمين يلازمني كظلي. لكنني ظللت أراقب الباب في انتباه. بعد دقائق قليلة، خرجت أماني و وجهها شديد الامتقاع. و بدا أنها تجاهد الدموع حتى لا تنفجر باكية. رأيتها تركض إلى الطابق الأول دون أن تنتبه إلى نظراتي. ثم ما لبث خالي أن غادر المكتب بدوره و هو يبدو مهموما أيضا! فهمت أن للأمر علاقة بزواجها من ياسين... و بما أن ياسين لم يكن في المدينة يومها، فربما يحاول خالي أن يقنعها بالابتعاد عنه! في صباح الغد، اختارت أماني أن تضع حدا لحياتها... لم يكن ياسين قد عاد من سفره بعد..."

وصلت ليلى إلى الورقة الأخيرة. تناولتها و هي تتنهد. يبدو أن خالها كان يحاول بشتى السبل إبعادهما عن بعضهما البعض. لا بد أن لديه دافعا قويا! و أماني، كيف استسلمت بتلك السهولة و انتحرت على الفور؟ ما الذي قاله لها نبيل حتى تختار الموت؟!

"كنت قد نسيت حادثة انتحار أماني التي مرت عليها سبع سنوات كاملة. لكن مشهد موتها ظل محفورا في ذاكرة الطفلة التي كنت، و لم أعلم أنني سأتذكره بتلك الدقة حين أثارت سارة الموضوع البارحة. قالت أنها سمعت أمها تتحدث مع خالي منذ فترة طويلة، و قد فهمت من حديثهما أن أماني لم تكن خالتها، بل طفلة يتيمة، أحضرتها جدتها من ملجأ للأيتام بعد أن كبرت بناتها، لتشغل بها نفسها و تؤنس وحدتها! و بعد وفاة الجدة، جاءت أماني لتعيش مع إيمان التي كانت تعتبرها شقيقتها. الآن فقط فهمت سبب رفض خالي لأماني. ففتاة مجهولة النسب، لا يمكن أن تكون أهلا للزواج من أحد أفراد عائلة القاسمي! ربما كان خالي محقا في قراره، لكن حين أفكر في أن ذلك قد قادها إلى الانتحار..."

إلى هنا انتهت المذكرات التي بين يدي ليلى. لملمت الأوراق من جديد و ربطتها بالشريط الأحمر. لم تجد فيها ما يشفي غليلها و يجيب على تساؤلاتها بخصوص زواج حنان و فراس، لكنها سلطت الضوء على قضية أخرى، ربما لا تقل تعقيدا وغموضا... لم تكن تتصور أن خالها قد يكون بهذه القسوة. من المؤكد أنه أهانها و عيرها بنسبها المجهول، و طلب منها أن تبتعد عن سليل العائلة العريقة!! مسكين ياسين. يحتفظ بهذه الأوراق التي تذكره بحبه القديم. كيف تراه تصرف حين اكتشف أن لوالده يدا في انتحارها؟ و كم مضى من الوقت على اكتشافه الحقيقة؟

هنا، عاد بها شريط الذكريات إلى ليلة حفلة الشواء... رأت نفسها تقف مع فراس في ممر الحديقة، ثم فراس ينطلق في اتجاه المبنى، و هي تعود أدراجها إلى المسبح. ثم، تكتشف المذكرة المحترقة... لكن... هناك حلقة مفقودة! لماذا قد يعود فراس أدراجه إلى الحديقة لرمي الكراس في النار، في حين أنه يمكنه أن يتخلص منها بألف طريقة أخرى دون أن يثير انتباه أحد؟ إلا إذا... إلا إذا لم يكن فراس الذي رمى بالمفكرة في النار! انتبهت من أفكارها على وقع طرقات على بابها. سارعت بدس الأوراق تحت وسادتها. فتحت الباب لتجد العم صابر يقف في احترام في انتظارها. نظرت إليه في استغراب فقال :
ـ آنستي... السيد نبيل يدعوك إلى مكتبه على الفور، أرجو أن تتبعيني...

مرت بذهنها صورة ياسين و هو يدخل المكتب، ثم صورة أماني و هي تخرج منه، كما صورتها حنان في مذكراتها، فسرت في جسدها قشعريرة باردة. يبدو أن المكتب يخص المواضيع الهامة و السرية! تبعته في صمت دون أن تجرؤ على سؤاله عن سبب الدعوة. ثم ما الذي جاء بخالها في مثل هذا الوقت؟ ليس من عادته أن يرجع في وقت الغداء! وصلت إلى المكتب، فتركها الخادم و انصرف. ترددت للحظات، ثم رفعت يدها لتدق الباب في لطف. جاءها الإذن بالدخول على الفور. أخذت نفسا عميقا قبل أن تفتح الباب و تدلف إلى الداخل. تقدمت في خطوات متوترة. رأت خالها يجلس خلف مكتبه و يمسك سماعة الهاتف و قد على وجهه ابتسامة هادئة. وقفت غير بعيد عنه، تنتظر أن يفرغ من مكالمته. لكنه نظر إليها، ثم قال مخاطبا محدثه :
ـ ها قد وصلت الأميرة!

ثم مد إليها السماعة و هو يقول :
ـ تفضلي... والدك يريد التحدث إليك!

بدت الدهشة و اللهفة على وجهها في آن. سارعت بأخذ السماعة بأنامل مرتجفة. احتضنتها في شغف و هي تهتف في شوق :
ـ أبـــــــــــــــــي! كيف حالك؟

و لم تتمالك نفسها، فتهدج صوتها و سالت الدموع على وجنتيها و هي تهمس :
ـ لماذا تركتني...؟ و لم تسأل عني طوال هذا الوقت...؟ أنا وحيدة بدونك...

وقف نبيل و غادر المكتب في صمت احتراما لخصوصية المكالمة. جاءها صوت والدها في حنان :
ـ أنا بخير يا صغيرتي... و خالك نبيل يطمئنني عن حالك... ثم لماذا الوحدة؟ أنت بين أفراد عائلتك... خبريني هل أزعجك أحد؟

ردت ليلى على الفور :
ـ كلهم طيبون و يعاملونني بلطف... و لكنني لم أتعود أن تبتعد عني هكذا... اشتقت إليك كثيرا...

لبث يهدئ من روعها و يخفف عنها حتى توقفت دموعها. مسحت آثار العبرات عن وجنتيها بظاهر كفها و قالت و هي تستعيد رباطة جأشها :
ـ كيف حال صفقتك؟ هل تسير الأمور كما ترجو؟

بدا على نجيب بعض الارتباك، لكنه أجاب بسرعة :
ـ لا تقلقي على مشاريعي، فأنت المشروع الأهم في حياتي... و صدقيني، لو لم يكن ذلك في مصلحتك، لما تركتك لحظة واحدة...

انقبض قلبها في صدرها، وقد أحست شيئا غريبا في صوت والدها، ثم تذكرت ما حصل في طريقها إلى الضيعة يوم أمس، فهمست في قلق :
ـ أبي، لماذا لم يصحبك مأمون في رحلتك هذه؟ ظننت أنك تعتمد عليه في كل شيء...

كان صوته متوترا أكثر هذه المرة و هو يجيب في تردد :
ـ مأمون؟ نعم، لقد طلب إجازة لمدة أسبوع... لأن شقيقته مريضة... و قد قام بكل ما يلزم قبل ذلك، لا تقلقي... لكن كيف عرفت أنه لم يصحبني؟

أجابت و قد تضاعف قلقها :
ـ رأيته في المدينة حين كنا في طريقنا إلى الضيعة... هل هالة بخير؟ ربما يجب أن أزورها...

قاطعها على الفور مهدئا :
ـ لا لا تقلقي... مجرد زكام... لكن... زوجها مسافر و... هي بحاجة إلى... اممم... من يهتم معها بالطفلين... !!!

لم يبد عليها الاقتناع بكلامه المتداخل فقالت في اصرار :
ـ لكنك لا تبدو على ما يرام، خبرني...هل هناك ما يقلقك؟ أنا ابنتك الوحيدة، لمن تفضي بهمومك إن لم يكن إلي؟

حينئذ تنهد نجيب بعمق، ثم قال بعد صمت قصير :
ـ صغيرتي... ربما أعود إلى الديار بأسرع مما اعتقدت...

هتفت ليلى في فرح :
ـ أحقا ما تقول؟ متى ستعود؟ وهل سنظل هنا لبعض الوقت أم نعود إلى فرنسا؟

أطلق ضحكة قصيرة، قاطعتها نوبة سعال مفاجئة. هتفت ليلى في قلق :
ـ أبي، هل أنت بخير؟

هدأت النوبة، فقال نجيب متضاحكا، مخفيا اضطرابه :
ـ سامحك الله... هاجمتني بكل هذه الأسئلة، حتى فقدت توازني! نعم يا حبيبتي، سأعود قريبا، بل قريبا جدا... أنا أيضا اشتقت إليك... لم أحجز بعد تذكرة الطائرة... لكن...

لبثت ليلى ساكتة، تنتظر بقية الجملة. تابع نجيب بصوت جاد :
ـ لكن لا أظننا نعود إلى فرنسا... أفكر في الاستقرار في البلاد بصورة نهائية...

غاص قلبها بين ضلوعها، و أحست بألم خفي يسري في أوصالها. هل كانت تتوقع ذلك؟ ربما... لكن إحساسا مريبا لازمها في الأيام الماضية، و هاهو كلام والدها يجيء ليؤكد شكوكها... تنهد من جديد و هو يقول متفهما صمتها :
ـ أعلم أنه لا يهون عليك ترك صديقاتك و زميلات الدراسة اللاتي عرفتهن في السنين الماضية. لكنني أريد لك استقرارا حقيقيا مع أفراد عائلتك التي حرمتك منها منذ طفولتك...

كادت تهتف مستنكرة بأن هذه العائلة لاتهمها، و ما عرفته عنها لم يزدها إلا نفورا... ثم هي تركت قلبها و أحلامها هناك... فما معنى الاستقرار مع أشخاص لا تحس إلى جانبهم بالأمان! أخرجها صوته من أفكارها و هو يقول بلهجة غريبة لم تفهم كنهها :
ـ ليلى... هناك موضوع هام يجب أن أتحدث فيه معك عند عودتي...

ـ خيرا إن شاء الله؟

ـ لا ينفع أن أتحدث فيه على الهاتف. لكن لا تقلقي... خالك نبيل سيخبرك قريبا بموعد عودتي...

وضعت السماعة و تنهدت بقوة. ليست تنهيدة ارتياح... بل تنهيدة قلب متعب أثقلته الهموم، و زادتها مكالمة اليوم حيرة و ألما...





لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 10:50 AM   #18

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




الجزء السادس عشر




خرجت ليلى من المكتب تجر قدميها بصعوبة و الألم يعتصر قلبها، لا تدري أي مفاجأة جديدة يخبئها لها والدها، بعد الخبر القاسي الذي تلقته منذ لحظات...

في تلك الآونة، كانت رجاء التي وصلت للتو، تقطع البهو بخطوات رشيقة محدثة طقطقة متواترة بكعبها العالي و تهز شعرها الذي انسدل على ظهرها في شكل ذيل حصان، متمايلة في مشيتها... توقفت فجأة حين لمحت ليلى تتقدم في اتجاه الدرج و هي لا تكاد تنتبه إلى وجودها من شدة انغماسها في أفكارها... بسرعة، قطعت المسافة التي تفصلهما في خفة، و اعترضت طريقها قبل أن تصل إلى الدرج.

وقفت ليلى على قيد خطوات منها و رفعت عينيها لتطالعها في دهشة و استغراب. ارتسمت على شفتي رجاء ابتسامة صفراء و هي تقول في دلال :
ـ أهلا... ليلى! كيف حالك؟

تمالكت ليلى نفسها بصعوبة، فهي لم تنس الكلمات التي سمعتها منها في لقائهما الأول، و لم تكن لتحتمل جرعة أخرى من سهامها في حالتها تلك... تمتمت في صوت شبه مسموع :
ـ بخير...

و همت بمواصلة طريقها. لكن رجاء اقتربت منها أكثر و قالت و قد تغيرت النظرة في عينيها :
ـ اسمعي يا عزيزتي... لا تحاولي أن تلعبي دور الفتاة البريئة و الطيبة! لأنني أعرف طينتك جيدا، أنت و شقيقتك و كل عائلتك! لا تظني بأن قطعة القماش التي تضعينها على رأسك ستقنعني بأنك ملاك السلام والطهر... و إنني لأحذرك، لا تحاولي أن تلعبي نفس اللعبة التي لعبتها حنان من قبلك!

تابعت و هي تشير بسبابتها إلى ليلى في حركة مهينة :
ـ ما أنت إلا ضيفة هنا، و لفترة محدودة... لذلك لا تحاولي أن تكوني سيدة القصر! فليس معنى أنك حصلت على الغرفة الزرقاء، أنك ستحصلين على كل شيء معها!

لم تكن ليلى قد استفاقت من صدمتها الأولى... تراجعت في ذهول و قد هزتها كلمات رجاء :
ـ ما الذي تقصدينه؟

وضعت رجاء كفها على خدها في حركة مسرحية و قالت بصوت رقيق و هي تمثل التأثر :
ـ ياي! تمثيلك مؤثر حقا! هل تظنين أنني أجهل الهدف الذي اتفقت أنت و والدك من أجله على القدوم إلى هنا؟ أرجوك يا عزيزتي، ليس الجميع مغفلين هنا! و اعلمي أنني لن أسمح لك بتنفيذ المخططات التي في رأسك الصغير!

تمالكت ليلى نفسها بصعوبة و هتفت في عدم تصديق :
ـ أنت... أنت... أنت إنسانة مريضة!!!

شهقت رجاء في حدة و ضربت على صدرها بكفها في ارتياع، ثم صرخت في غضب :
ـ احترمي نفسك يا هذه! و تذكري جيدا من تكلمين!

ثم انحنت لتقترب برأسها من ليلى و همست في صوت كالفحيح :
ـ أنا من ستكون السيدة هنا... أعدك بذلك!

ابتسمت ليلى في سخرية و قالت :
ـ و كأننا نتنافس على شيء ذي بال! الغرفة لك من اليوم إن شئت! و القصر أمامك، ارتعي فيه على راحتك!

تحركت رجاء في اتجاه الدرج و هي تلوح بكفها في استهانة و قالت :
ـ لست مستعجلة... أترك لك الغرفة لبضعة أيام... لكنها ستكون لي عاجلا أم آجلا...

أطلقت ليلى ضحكة قصيرة، فيها شيء من السخرية... و المرارة، و أردفت :
ـ آسفة يا عزيزتي... لكن يبدو أنني سأطيل المكوث هنا، أكثر مما تصورت... و مما تتصورين!

كانت رجاء قد صعدت درجتين، فتوقفت و استدارت إليها في حدة و هتفت في شك :
ـ ماذا تقصدين؟

هزت ليلى كتفيها في تسليم و هي تقول :
ـ يبدو أن والدي ينوي الاستقرار النهائي في الوطن... و قد نقيم جميعا هنا إلى أجل غير مسمى!

ذعرت ليلى من نظرة الحقد التي أطلت من عيني رجاء في تلك اللحظة، و لم تشعر بها إلا و قد وثبت ناحيتها و هي تصرخ في هيجان، و أخذت تشد حجابها في قسوة، كأنها تريد جرها من شعرها، ثم أنشبت أظافرها، التي يمكن تصنيفها ضمن المخالب، في وجهها في شراسة. صرخت ليلى من الألم و القهر، و هي تحاول التخلص من هجمة رجاء الوحشية. لكن رجاء لم تتوقف عن الهتاف و العراك :

ـ أيتها القذرة، الوضيعة... أعلم أنك تطمعين في الثروة... كما كانت نجاة و حنان من قبل... لكنني لن أسمح لك... لن أسمح لك أن تأخذيه مني من جديد... هل تفهمين!

كانت ليلى تصارعها في إعياء و هي لا تفهم شيئا من كلامها... كانت تحس بالتعب، بتعب شديد بعد مكالمتها مع والدها... و كانت كلمات رجاء الجارحة و المجانية هو ما ينقصها حتى تنهار مقاومتها و تخور قواها...

فجأة، أتاهما صوت يصرخ في غضب :
ـ رجــــــــــــــاء!

توقفت رجاء و التفتت إلى المدخل حيث مصدر الصوت. كان فراس قد عاد للتو من عيادته، و ما إن أوقف سيارته قرب المدخل حتى تناهت إلى مسامعه صرخة ليلى، نزل من السيارة بسرعة و ركض إلى الداخل. و ما إن خطا داخل البهو، حتى وصلته هتافات رجاء و شتائمها...

ركضت رجاء نحوه، و قد وضعت على وجهها قناع البراءة، في سرعة خرافية، و هتفت متصنعة الوداعة :
ـ فراس... أرأيت كيف تعاملني ابنة عمتك؟ إنها متوحشة!

تمسكت بذراع فراس الذي كان ينظر إلى ليلى و قد بدا عليه التردد و الحيرة... كانت ليلى تقف في ذهول، و قد فسد هندامها و ارتخى وشاحها على رأسها... و على خدها جرح طويل... رفعت كفها للتحسس موضع الألم فاصطبغت أناملها بقطرات الدم التي أخذت تطل من الجرح. لم تعد تستطيع مقاومة ألمها، النفسي الذي فاق الجسدي بكثير... فسالت العبرات من عينيها أنهارا. راحت تبكي في صمت، و هي تطالع رجاء التي التصقت بفراس، تحاول إخفاء فعلتها :
ـ هي استفزتني... و...

أبعدها فراس عنه في صرامة و أشار إليها بيده كي تصمت. تقدم نحو ليلى و قال في اهتمام :
ـ دعيني أنظف الجرح...

كان يحمل في يده حقيبته الطبية. وضعها على الأرض و بدأ في تجهيز القطن و المعقم... تراجعت ليلى في نفور و هتفت :
ـ لا أريد منك شيئا! فقط اتركني و شأني... اتركوني و شـ... ـأنـ...ـي...

تقطعت كلماتها و قد أخذ جسدها الصغير يهتز في انفعال و هي تضم ذراعيها إلى جسدها، كأنها تحمي نفسها من خطر قادم. و تعالت شهقاتها في ألم يقطع نياط القلب... كطفلة صغيرة، تفتقد الحنان و الأمان... أصبحت مهزوزة فجأة، بكت كثيرا في الأيام الأخيرة... لم تعد تتعرف إلى نفسها... كيف صارت ضعيفة هكذا؟!

احتقن وجه رجاء و هي ترى علامات التعاطف على وجه فراس، فهتفت :
ـ هل تظنين بأنك ستخدعيننا بدموع التماسيح هذه؟! لقد فهمت خطتك منذ اللحظة الأولى... و قد ثبت لي كل شيء بعد أن علمت أنك تخططين للبقاء هنا بصفة دائمة!!

التفت فراس إلى ليلى و هو يعقد حاجبيه في اهتمام :
ـ هل حقا ستقيمين معنا بصفة دائمة؟

التفتت إليه في حدة، و قد أخذ صدرها يهتز من انفعالها... و في فورة ألمها، ترجمت كل مشاعرها الغاضبة الحانقة، في نظرة ملتهبة، رمته بها، قبل أن تهتف في عنف :
ـ ليس ذلك باختياري!

ثم اندفعت إلى الدرج، و قد ملأت الدموع عينيها و جعلت رؤيتها ضبابية. تريد الفرار من هذا المكان برمتّه، لكنها لا تملك سوى الابتعاد لبضعة أمتار فقط، إلى غرفتها! فجأة توقفت، و التفتت ثانية إلى فراس الذي كان يتابع حركاتها في حيرة. نظرت إليه في انهيار و هتفت :
ـ أخبرني... لماذا تزوجت حنان؟

امتقع وجه فراس بشدة، و لبث ينظر إليها بلا حراك، كأنه يبحث في وجهها عن حنان أخرى... لم يكن السؤال مناسبا للموقف أبدا، و لم يكن يتوقع أن يطرح عليه السؤال بتلك الطريقة يوما... لكن رجاء رفعت صوتها و هي تجيب عنه في سخرية لاذعة :
ـ كان ذلك خطأ يا عزيزتي... خطأ لن يتكرر إن شاء الله!

كانت ليلى تنتظر تعليقا من فراس... لكنه لم ينبس بكلمة، بل أشاح بوجهه في صمت ليتجنب نظراتها، أو ربما ليبعد عنه ذكريات قديمة أثارها سؤالها في نفسه... لم تستطع ليلى أن تنتظر أكثر، بل انبرت ترتقي الدرجات بأوصال مرتجفة... تعثرت في سيرها، و التوى كاحلها... لكنها عضت على شفتيها من الألم و هرولت بخطى مرتبكة إلى غرفتها، لا تلوي على شيء...

أغلقت الباب خلفها، تريد اعتزال العالم، و الاختلاء بآلامها... استندت على الجدار في تعب، لكن ما لبثت أن عادت إليها الرجفة، فارتمت على السرير، تبحث في ثناياه عن بعض الدفء...


********


أخذت نفسا عميقا و هي لاتزال مستلقية على ظهرها، تمسك بمنديل ورقي تضغطه على مكان الجرح من خدها. كانت قد هدأت، و استجمعت شتات نفسها. تفكر في مستقبل أيامها... و كل الكلام القاسي الذي رمته رجاء اليوم بوجهها. لم تفهم سر هجومها الشرس، و كلماتها المسمومة... هل كانت تكره حنان و والدتها إلى هذه الدرجة، حتى تعاقبها على انتمائها إليهما؟ أم لأنها تحمل نفس الوجه الذي يذكرها بماض تمقته؟

تنهدت في ألم... هي الأخرى تعتقد بطمع والدتها في ثروة أخيها و أنها سعت إلى تزويج حنان من فراس لهذا السبب... و لأنه المفضل عند والده! لم تستطع أن تمنع نفسها من التفكير في فراس. لا تفهم تعاطفه و اهتمامه... تقابل تصرفاته اللطيفة بردود قاسية... لا تزال كلمات حنان تعود إليها كلما وقع نظرها عليه... لكنها تشعر بالضياع، و تفقد توازنها، أمام التباين الواضح بين الصورة التي رسمتها له حنان في مذكراتها... و الصورة التي تراه عليها في الواقع. رغم تجهمه و صرامته، و جفاف طباعه... إلا أنها ترى فيه لمسة من الإنسانية... و تشعر بالحزن الذي يسكن في أعماقه. لكن ذلك لا يكفي، لا يكفي أبدا لتحكم عليه و تبرئه من مسؤوليته فيما حصل لحنان!

نفضت تلك الأفكار عن رأسها، و تقلبت على جانبها الأيمن... تسلل طرف ورقة بيضاء من أسفل الوسادة. اشتعل ناقوس الخطر في رأسها فجأة. استوت في جلستها و هي تمسك باللفافة الورقية بين يديها. لم تكن قد فكرت في وسيلة إرجاعها من حيث أخذتها. و لكنها يجب أن تتصرف على الفور قبل أن يلاحظ أحد غيابها.

قفزت من السرير و قد نسيت أو تناست ما كان يشغل تفكيرها، و في لحظات كانت قد قطعت المسافة إلى جناح ياسين و منال. وقفت مترددة... أي ذريعة تفسر زيارتها؟ رفعت يدها و طرقت الباب في لطف، و لبثت تنتظر. مرت ثوان، و لم يصلها رد من الداخل. وضعت يدها على المقبض، و أدارته... و بسهولة تامة، انفتح الباب. أطلت برأسها في هدوء و نادت بصوت مرتبك :
ـ منال... منال، أنت هنا؟

لم يأتها أي جواب. دفعت الباب فأحدث صريرا خافتا... خطت إلى الداخل في حذر و هي تقاوم صوتا داخليا يؤنبها في قسوة. كيف تدخل إلى الجناح في غياب أصحابه؟ و لكنها سبق أن أخذت ورقا بدون علم أصحابه... و هاهي تصلح خطأها بخطأ جديد! بدا الجناح هادئا، و لا أحد بالداخل. أغلقت الباب خلفها في رفق، حتى لا يجلب الباب المفتوح انتباه الخدم.

سارت بسرعة إلى ركن الخزانة، فتحتها و أخرجت الأوراق من حقيبتها و هي تتلفت حولها في ارتباك. مدت يدها إلى الرف السفلي، من حيث أخذتها، فشدت انتباهها مجددا القلادة الغريبة. وضعت الأوراق، و رفعت القلادة بين كفيها في رفق، و راحت تتأملها بعمق... سرحت مع أفكارها... تعلم أن القلادة لا تنتمي إلى هذا المكان! لكن كيف وصلت إلى هذه الخزانة؟ تنهدت بصوت مسموع... لشد ما تريد الاحتفاظ بها، قطعة من ماضي عائلتها...

فجأة، سمعت صرير الباب من جديد. التفتت في ذعر إلى باب الجناح، فرأت ما جعل وجهها يفقد ألوانه... كان ياسين يقف عند الباب و يطالعها في هدوء غريب... هل هو الهدوء الذي يسبق العاصفة؟ تمنت لو أنها تملك وسيلة للاختفاء من هناك على الفور، لكنها لم تكن تملك الخيار... ما الذي سيقوله عنها الآن؟ بم تراه يفكر؟ اقترب منها و على وجهه علامات الاهتمام. راقبت حركاته و هي تحاول السيطرة على ارتجافها... و أخيرا، تحركت شفتا ياسين ليتكلم بكلمة لم تتوقعها أبدا في تلك اللحظة :
ـ ما هذا الجرح؟

كان الجرح الذي تسببت فيه أظافر رجاء بارزا على وجنتها، و يشوه وجهها. ظنت لوهلة أنه يسخر منها... أو أنها لم تسمع جيدا، من فرط انفعالها... لكنه أضاف :
ـ هل رآك فراس؟ دعيه يعقمه حتى لا يزداد الأمر سوءا... ما الذي حصل؟

أطرقت في خجل من اهتمامه، و هي التي اقتحمت جناحه و عبثت بمحتويات خزانته. همهمت في خفوت :
ـ مجرد حادث بسيط... سأهتم بالجرح بنفسي...

انتظرت أن يسألها عما تفعله هناك، و أخذت تبحث في رأسها الفارغة عن حجة، و إن كانت تافهة. لكنه فاجأها بسؤال جديد :
ـ أعجبتك؟

نظرت إليه في دهشة، و هي لا تستوعب سؤاله. انتبهت إلى أنه كان ينظر إلى القلادة التي لا تزال بين يديها! ارتبكت، و لم تدر بما تجيب... فقد أمسكها متلبسة في غرفته و بيدها المسروق!

لكنه واصل قائلا :
ـ لا شك أن صاحبتها افتقدتها... لكن من الغريب أنها لم تبحث عنها! وجدتها منذ 4 سنوات أو أكثر، في حديقة القصر... و لم يصرح أحد بفقدانها...

استدار و ابتعد عنها بضع خطوات. توجه إلى الجانب الآخر ليلقي بمفاتيحه على منضدة قريبة، و قال في لامبالاة، دون أن ينظر إليها :
ـ إنها لك، إن شئت...

راقبته في عدم تصديق. ابتعد عنها، في اتجاه الحمام، و قبل أن يختفي داخله قال بصوت هادئ :
ـ إن احتجت إلى أي شيء... فلا تترددي في طلبه...

بقيت ليلى مسمرة في مكانها للحظات، و هي لا تستوعب ما حصل للتو... لكنها ما لبثت أن حثت الخطى إلى الخارج، و هي تقبض على القلادة بقوة، قبل أن يتراجع ياسين في كلامه...



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 10:50 AM   #19

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




الجزء السابع عشر





أغلقت باب الغرفة في حرص، و خطت في هدوء في اتجاه منضدة الزينة. أخرجت صندوقها الخشبي الصغير... صندوقها الذي تحتفظ فيه بقطع قليلة من الحلي، و بالكثير من الذكريات... تناولته بيسراها و هي لا تزال تقبض على القلادة بيمناها.

جلست على السرير، فتحت الصندوق بيد مرتعشة و أخرجت قلادتها ذات الشكل الغريب. وضعت الحليتين جنبا إلى جنب و راحت تتأملهما في حيرة... إنها متأكدة من أن هذه القلادة لحنان، مذ رأتها و هي تحس بذلك... قلبت الحليتين في جميع الاتجاهات... كانت كلتاهما ذات شكل غريب... قلادتها تشبه الهلال في شكلها، لكن الاستدارة لم تكن مكتملة... أما القلادة الثانية، فقد كانت بيضوية، مع نتوءات غريبة مثل أسنان المنشار تغطي أحد جوانبها... لا شك أنهما من صنع صائغ واحد، نفس الزخرفة و نفس الماسات الصغيرة المصفوفة بعناية...


فجأة، خطرت ببالها فكرة، بدا لها شكل الحلية الثانية، مشابها لشكل الفراغ داخل الهلال. قربت الجزأين من بعضهما البعض، و دفعت أحدهما إلى داخل الآخر... و بسهولة شديدة، التحمت القطعتان، و سمعت تكتكة خفيفة مع تعانق النتوءات التي غطت الجانب الداخلي لكلا الحليتين لتلتصقا و تكونا شكلا واحدا بيضويا! رفعت القطعة المتحدة أمام عينيها و ارتسمت على شفتيها ابتسامة... و أخيرا اجتمع النصفان بعد زمن طويل من الفراق!

كانت الماسات الصغيرة التي رصعت وجه الحلية تتألق بلمعان جذاب، ظلت تقلبها تحت ضوء الشمس الباهت في ذاك الوقت من المساء. قلبتها على الوجه الآخر و مررت أصابعها على النقوش الخلفية... كان اسمها و اسم حنان منقوشين على كل من القطعتين، لكن اسمح حنان كان قد غطي بطبقة رقيقة من الرواسب. دعكتها بإبهامها في حذر محاولة إزالة ما علق بها، و لدهشتها، انزلق الوجه العلوي للحلية من مكانه تحت ضغط أصابعها لتجد بين يديها طبقتين رقيقتين منفصلتين تقريبا، لا تلتقيان إلا في نقطة واحدة في طرف الشكل البيضوي، و تنزلق كل منهما على الأخرى في سهولة في اتجاه دائري...

تأملت في اهتمام الوجه الداخلي لكل طبقة و هي تعقد حاجبيها في استغراب... كان أحد الوجهين يحمل صورة رجل و امرأة... بدا أنهما في ثوب الزفاف! الصورة نقشت على الذهب بخطوط رقيقة و غاية في الدقة و الإتقان... أما على الجانب الآخر، فقد نقشت أرقام غريبة، لم تفهم معناها للوهلة الأولى... دققت النظر في حيرة متزايدة، لكن ما لبثت ابتسامتها أن اتسعت لتملأ وجهها...

كانت الأرقام الغريبة عبارة عن تواريخ! التاريخ الأول كان منذ ستين عاما تقريبا... خمنت على الفور أنه تاريخ زواج جدتها و جدها لأبيها... أما التاريخ الثاني، فكان من الواضح أنه تاريخ زواج والديها! يبدو أن القلادة موروث عائلي! ضحكت بصوت خافت و هي تتأمل اكتشافها في إعجاب. لكن ضحكتها لم تلبث أن تلاشت و حل مكانها الوجوم... هناك تاريخ آخر يجب أن ينقش على هذه القلادة... تاريخ زواج فراس و حنان! ذاك اللغز الغريب الذي يزيدها حيرة يوما بعد يوم.

أعادت الطبقتين إلى وضعهما الأول و فكت جزأي القلادة و قد فتر السرور الذي انتابها لبضع لحظات... تشاغلت بتقليب الحليتين بين أصابعها في توتر... كان من المستحيل تحريك الطبقتين بعد فصل القطعتين! أي نظام عجيب في الداخل! أعادت تركيبهما، و ارتمت على السرير في إعياء... و سرعان ما سرحت مع خيالها و هي تتأمل صورة العروسين. ارتسمت على شفتيها ابتسامة هادئة و هي تتساءل... متى سينقش تاريخ جديد داخل القلادة؟


*********


استيقظت ليلى باكرا هذا الصباح... جهزت نفسها في سرعة و حماس على غير العادة... نظرت إلى هندامها في المرآة، و حاولت رسم ابتسامة على وجهها... تحاول أن تكون بشوشة و منطلقة في أول زيارة لها لجامعتها الجديدة! لعل اندماجها في الحياة الاجتماعية و تركيزها على دراستها يشغلانها عن التفكير في المسائل التي تحيرها و تؤرقها... كان ياسين قد اهتم بتسجيلها كما وعدها، فلم تفوت لحظة واحدة...

عبرت الممر مهرولة و نزلت السّلم في وثبات سريعة... لا تريد أن تتأخر عن موعدها مع مدير مركز البحوث في الجامعة! كانت في طريقها إلى الخارج مباشرة حين سمعت صوتا ينادي باسمها. التفتت مبغوتة إلى الخلف. لم تكن قد انتبهت إلى ياسين و فراس الذين وقفا أمام غرفة الطعام و قد بدا أنهما يستعدان للمغادرة كل إلى عمله. ابتسم ياسين و هو يبادرها :
ـ إلى أين في مثل هذه الساعة المبكرة؟

عادت خطوتين إلى الوراء و قد احمرت وجنتاها خجلا من تصرفاتها الطفولية. من المؤكد أنهما رأياها تقفز و تركض كالصبيان! تلعثمت و هي تهمس في حرج :
ـ إلى الجامعة... لدي موعد مع أحد مسؤولي مركز البحوث...

ـ هل تناولت إفطارك؟

لوحت بيدها في لامبالاة و هي تقول :
ـ لا بأس، سأتناول لمجة خفيفة من مطعم الجامعة... لا أريد أن أتأخر عن الموعد...

ـ انتظري إذن سأوصلك!

ابتسمت في امتنان و قالت :
ـ لا تزعج نفسك... سأذهب مع السائق اليوم لأتعود على الطريق، ثم يمكنني الذهاب بسيارتي في الأيام القادمة...

تكلم فراس، الذي كان يتابع حوارهما في صمت، بصوت هادئ، دون أن تتغير ملامح وجهه الجامدة :
ـ السائق لم يعد بعد... أبي غادر منذ قليل إلى الشركة، لذلك فإنه لن يكون هنا قبل ساعة أخرى...

وقفت ليلى في حيرة و تردد. لا تدري لم أحست بأن فراس يشمت فيها و يستمتع بوضعها في مواقف سخيفة... أو ربما هيأت لها هواجسها ذلك! لا تستطيع الاطمئنان إلى ذاك الشخص أبدا...

قاطع ياسين أفكارها و هو يقول :
ـ إذن أوصلك...

لم تكن تريد ركوب السيارة معه بمفردها... ربما كان الأمر سيان مع السائق، لكنه أشبه بسيارة الأجرة... ذاك هو عمله! أما ياسين فهو ابن خالها، و لن يرضى بأن تجلس في المقعد الخلفي في سيارته... موقف محرج حقا! و كأنه فهم ما يدور في خلدها، فأضاف :
ـ سأوصل رانيا أيضا إلى منزل جدتها...

ابتسمت ليلى أخيرا و قد وجدت طوق النجاة. أما فراس، فإنه نظر إلى ساعته في توتر و قال في تجهم كأنه مستاء مما حصل للتو :
ـ يجب أن أذهب الآن... سأتأخر على المرضى... نواصل حديثنا لاحقا...

هز ياسين رأسه موافقا، في حين غادر فراس المكان في خطوات واسعة. مر من جانبها و هو يتجنب النظر إليها... تصرفاته المتعالية تثير غيظها!

نزلت رانيا و هي تقفز في مرح، عانقت ليلى بسرعة، ثم جرت نحو والدها و أخذت تجذب كفه في استعجال و هي تهتف :
ـ هيا، بابا... هيا... سنتأخر!

ابتسم و هو يمسح على رأسها قائلا :
ـ حسن، حسن... اسبقيني إلى السيارة، و خذي معك خالتك ليلى...

قفزت رانيا بسرعة و ركضت نحو ليلى و أخذت تجرها من كفها إلى الخارج. بعد دقائق قليلة كانت السيارة تتحرك في اتجاه الجامعة...


لم تكن المقابلة مع مدير مركز البحوث سريعة كما توقعت. فرغم أن ليلى كانت قد جهزت ملفاتها مسبقا من أجل دراستها العليا في فرنسا، فإن المدير دخل في مقارنات مطولة بين نظام الدراسة المحلي و نظام الجامعات الفرنسية و استغل الفرصة ليطرح عليها أسئلة كثيرة بخصوص المناهج المعتمدة هناك و اختبار مدى تمكنها من المواد المقررة... و في نهاية اللقاء قدمت فكرة مشروعها و اتفقا على مواعيد الدروس و المحاضرات... و بعد أكثر من ساعتين، كانت تغادر الجامعة.

وقفت عند الباب في تفكير... لم يسبق لها أن خرجت إلى المدينة بمفردها، و لم تكن تعلم أين تجد محطة سيارات الأجرة، و لا كيف تتصل بالشركة المختصة حتى ترسل إليها بواحدة. و بينما هي في تفكيرها، ارتفع صوت منبه سيارة غير بعيد عنها. التفتت تلقائيا، فرأت سيارة ياسين! سارت نحوها في استغراب. ابتسم ياسين و هو يراها تقترب :

ـ أخذت رانيا لشراء بعض الهدايا لجدتها... و فكرت في أنك قد تكونين انتهيت من موعدك... لذلك انتظرناك... أليس كذلك رانيا؟

هزت رانيا، التي تجلس في المقعد الأمامي، رأسها في ملل و هي تحتضن أكياس المشتريات... من الواضح أنها تعبت من الانتظار! صعدت ليلى في حرج، و شعرت مجددا بالامتنان لاهتمام ابن خالها الأكبر بكل ما يخصها. هتفت رانيا :
ـ هل سنذهب إلى منزل جدتي الآن؟

التفت إليها ياسين مهدئا :
ـ سنوصل الخالة ليلى إلى القصر أولا... في الأثناء تكون جدتك قد استيقظت و أعدت فطور الصباح... تعلمين أن الجدات يستيقظن متأخرات!

غمغمت رانيا في احتجاج :
ـ جدتي تستيقظ دائما مبكرة!

أطلق ياسين ضحكة قصيرة، و انطلق في طريق العودة...


فجأة تعالى رنين هاتف ياسين الجوال. بدا عليه الاهتمام و هو يرد على الاتصال بكلمات سريعة مقتضبة. ثم ما لبث أن نظر إلى ليلى عبر المرآة العاكسة و هو يقول معتذرا :
ـ هناك أمر عاجل يستدعي وجودي في الشركة على الفور... الطريق إلى الشركة قصيرة من هنا... لذلك سأمر إلى هناك مباشرة... لن أتأخر... خلال دقائق قليلة سأنتهي من الأمر...

هزت ليلى رأسها في تفهم، في حين راحت رانيا تتأفف من التأخير و ياسين يحاول تهدئتها بشتى الوعود و المغريات دون فائدة...


توقفت السيارة أمام المبنى الضخم... نزل ياسين مسرعا و قال قبل أن يختفي في الداخل :
ـ انتظراني في السيارة... سأعود فورا!

كانت ليلى ترى شركة خالها للمرة الأولى. رفعت رأسها لتتأمل العلو الشاهق لطوابق المبنى العشرة و ابتسمت... لم يعد يدهشها شيء في ممتلكات عائلة خالها... و لا عجب أن تطمع حنان و نجاة و رجاء أيضا، في نصيب من هذه الممتلكات! تنهدت في حسرة و هي ترسل بصرها إلى الخارج عبر النافذة...

فجأة، لمحت شخصا يخرج من المبنى في خطى سريعة و يتوجه نحو الموقف و هو يضع نظارته الشمسية على عينيه... تسمرت مكانها في دهشة، لم تكن تتخيل أن تراه ثانية بهذه السرعة... و في شركة خالها بالذات! و دون تفكير أو تردد، فتحت باب السيارة و نزلت... هتفت رانيا في دهشة و هي تراها تبتعد :
ـ خالة ليلى...

أشارت ليلى إليها كي تبقى في السيارة، و أخذت تبحث عنه بعينيها مجددا... رأته يقف عند سيارة غير بعيدة عنها... قطعت الأمتار القليلة في شبه ركض و هتفت و هي تراه يستعد للانطلاق :
ـ مأمون!

التفت في استغراب عند سماع اسمه، و ما لبثت حيرته أن تحولت إلى مزيد من الدهشة و السرور بعد أن تعرف عليها. نزل من السيارة على الفور و تقدم نحوها مبتسما :
ـ آنسة ليلى... كيف حالك؟

ابتسمت في توتر و هي تجيب :
ـ بخير، شكرا لك... سمعت أن شقيقتك مريضة، أرجو أن تكون بخير الآن...

بدت عليه الدهشة للوهلة الأولى، ثم قال بعد تردد قصير :
ـ هالة؟ امممم... نعم، نعم... وعكة بسيطة... إنها بخير الآن، لا داعي للقلق... لكن أخبريني، ما الذي تفعلينه هنا؟

نظرت إليه في حيرة و قالت محاولة أن تحافظ على هدوئها :
ـ كنت سأسألك نفس السؤال! فهذه شركة خالي، إن كنت لا تعلم...

هرش رأسه في حرج و هو يقول في ارتباك :
ـ نعم بالطبع... السيد نبيل القاسمي خالك... كيف غاب عني هذا...

عقدت حاجبيها و هي تقول في شك :
ـ إذن ماذا كنت تفعل في شركة خالي؟

لوح بكفيه و هو يبتسم :
ـ لا شيء مهم... كانت لدي بعض الأعمال التي أوكلني بها والدك... و قد انتهيت منها...

عقدت ليلى ذراعيها أمام صدرها و قالت في حزم :
ـ مأمون... أرجوك، أخبرني ما الذي يحصل هنا؟ ما علاقة شركة خالي بأعمالك مع والدي؟

سكت مأمون في تردد واضح و بدا عليه التفكير... نظرت إليه ليلى في استعطاف و هتفت :
ـ مأمون! أنت تخفي عني أمرا ما! أرجوك... أريد أن أفهم!

زفر أخيرا في استسلام و هو يقول :
ـ حسن... والدك كان يريد أن يترك الخبر مفاجأة لك، لكن ماذا أفعل... أمري إلى الله... والدك قرر أن يصفي حساباته في فرنسا، و يستثمر قسما كبيرا من مدخراته في فرع شركة نبيل القاسمي الجديد... لذلك أرسلني حتى أهتم بكل الأمور القانونية إلى حين عودته...

نظرت إليه ليلى في ذهول... لم تكن تتوقع ذلك أبدا! لماذا يشارك والدها خالها بعد كل هذه السنين؟ و لماذا أخفى عنها ذلك، و اختلق عذرا لتواجد مأمون في المدينة؟ عادت إليها اتهامات رجاء و كلماتها المسمومة... اتهمتها بالطمع في الثروة و التخطيط إلى الحصول عليها... و هاهي تطرح على نفسها تلك الأسئلة مجددا... لماذا أرسلها والدها إلى هنا، و في نفس الوقت، أرسل مساعده للتجهيز لتعاقده مع خالها... ماذا يعني كل هذا؟

نظرت إلى مأمون في ريبة :
ـ مأمون... اصدقني القول... هل أفلست شركة أبي و اضطر إلى البيع؟

أطلق مأمون ضحكة قصيرة ثم قال مطمئنا :
ـ ليس الأمر كذلك أبدا... لم نصل إلى الإفلاس على أية حال!

ثم قال بصوت هادئ :
ـ لا داعي للقلق... كل شيء سيكون على ما يرام... لا تشغلي نفسك بهاته المسائل...

عادت مجددا إلى سيارة ياسين بعد أن شيعت بنظراتها سيارة مأمون و هي تبتعد... لكن القلق لم يشأ أن يفارقها... إلام تخطط يا نجيب كامل؟


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 10:52 AM   #20

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




الجزء التاسع عشر






وقفت ليلى في المطبخ إلى جانب العم هاشم و هو يعد الوجبة التي طلبتها منها، و أخذت تهز قدمها في عصبية... قالت و هي تستعجله :
ـ هل انتهيت من الحساء؟

ابتسم الرجل و قال و يداه لا تتوقفان عن العمل :
ـ لم يبق سوى تزيين الحلويات، ثم أضع كل ما يلزم في سلة الطعام...

تحركت ليلى و بسرعة لتحضر السلة و هي تقول :
ـ هات عنك... سأنظمها بنفسي هنا... أرجو أن تجهز الحلويات بسرعة... لا أريد أن أتأخر أكثر!

أطل أمين من الباب. لم تنتبه إليه ليلى التي كانت منهمكة في عملها. عقد ذراعيه أمام صدره و استند إلى دفة الباب و راح يتأملها و على شفتيه ابتسامة خفيفة... كم تبدو بريئة و عفوية و هي تتنقل هنا و هناك في حيوية، تضع لمساتها المميزة على كل ما حولها... كل ما يخص والدها يدخل على قلبها السرور... كم تغيرت منذ عودته، رغم الألم و الخوف إلا أن وجوده قريبا منها هو كل ما يهمها...

رفعت رأسها فرأته، ابتسمت على الفور، في حين بادرها هو :
ـ تحتاجين إلى بعض المساعدة؟

ـ انتهيت تقريبا... أنتظر الحلويات التي يهتم عم هاشم بتزيينها...

استدار ليغادر و هو يلوح بالمفاتيح :
ـ أنتظرك في السيارة... منال سبقتك...

هزت رأسها علامة لموافقة ثم التفتت من جديد إلى العم هاشم تراقب عمله...


لم يسمح لها ليلة البارحة بالبقاء إلى جانب والدها في المستشفى. غادرته و في قلبها غصة... لم تستطع النوم و هي تفكر في مرض والدها، و حياتها القادمة... لا يجب أن تستسلم، هكذا حدثت نفسها... يجب أن تكون قوية من أجله. إن كل ما يؤرقه في مرضه هو خوفه عليها... لذلك يجب أن تطمئنه عليها و أن تستعيد توازنها حتى تقف إلى جانبه كما يجب...

وصلت السيارة إلى المستشفى. ترجل أمين و بادر بحمل سلة الطعام في حين سبقته ليلى و منال إلى الداخل... كان نجيب مستلقيا في سريره يطالع جريدة محلية. لم يعد يتحمل القيام بأي مجهود عضلي، و رحلة الأمس أرهقته كثيرا... لذلك فإن الطبيب أمر بملازمته للفراش لبعض الوقت... يحس بخدر في عضلات ساقيه، و تنفسه غير منتظم... لم يبق في العمر الكثير يا نجيب... هكذا كان يحدث نفسه حين دخلت عليه ليلى... سالت على خده دمعة يتيمة لم يستطع كبح جماحها في اللحظة المناسبة. هرعت إليه ليلى و احتضنته في حب. همست في أذنه و هي تبتسم :
ـ اشتقت إليك يا أغلى الآباء...

ابتسم بدوره و هو يربت على رأسها :
ـ و أنا أكثر يا أغلى البنات...

تقدمت منال التي لم يرها بعد و عرفت بنفسها بعد أن سلمت عليه بدورها. بادرها على الفور :
ـ أين زوجك؟

ـ لديه بعض الأعمال في الصباح... لكنه وعد بزيارتك حالما ينتهي منها...

نظر نجيب إلى ليلى و سألها :
ـ و أين الدكتور فراس؟ لمَ لم يأت معكم؟

هزت ليلى كتفيها كأنها تقول : لا علاقة لي به! في حين تبادل أمين و منال نظرات حائرة. كان من المفترض أن يصل إلى هنا قبلهم، فقد أعلن البارحة أنه سيمر على المستشفى قبل ذهابه إلى العيادة. تكلم أمين موضحا :
ـ لا شك أن أمرا ما شغله... فقد حسبت أنه زارك باكرا هذا الصباح!

فجأة، رن هاتف ليلى الجوال... كانت سحر المتصلة. لا شك أنها تلقت رسالتها القصيرة و تريد التهنئة. لكن كل شيء تغير بين الأمس و اليوم! خبر الأمس المفرح، لم تتبق منه سوى ظلال قاتمة تخيم على قلبها الصغير الذي اشتاق إلى النور... اعتذرت و خرجت إلى الممر لترد على الاتصال.

ـ ليـــــــــــلى، مبارك! الحمد لله على عودة والدك سالما! سعدت كثيرا من أجلك...

قاومت ليلى حتى لا تتمرد دموعها على إرادتها مجددا
ـ شكرا لك يا عزيزتي...

ـ ليلى؟ لماذا لا تبدو السعادة في صوتك؟ هل حصل أمر ما؟

تنهدت بعمق، قبل أن تسمح لعبراتها الحبيسة بالتسلل من نوافذ عينيها
ـ أبي مريض يا سحر... مريض جدا! لم يسافر للعمل... بل للعلاج!

سكتت سحر و قد ألجمتها المفاجأة، لا تدري كيف تواسي صديقتها... تذكرت شيئا ما
ـ ليلى... هناك أمر آخر...

أبعدت ليلى السماعة عن أذنها حين وصلها اتصال ثان على الخط الموازي... لم تتعرف على الرقم

ـ سحر، لحظة... وصلني اتصال آخر... ثوان و أعود إليك...

مسحت دموعها و أخذت نفسا عميقا قبل أن ترد على الاتصال
ـ السلام عليكم

ـ و عليكم السلام و رحمة الله

اهتزت أوصالها بقوة حين وصلها الصوت... و تدفقت الدماء بشدة إلى وجنتيها
ـ ليلى... كيف حالك؟

تسارعت دقات قلبها أكثر فأكثر... بالكاد تمالكت نفسها لتسأل باضطراب :
ـ من المتصل؟

لم يكن الصوت العميق و النبرة الدافئة التي تبعثر كيانها لتخفى عليها... لكنها أرادت التأكد، قبل أن تستسلم للحلم... فقد باتت الأحلام صعبة المنال في الأيام القليلة الماضية...

ـ أنا عمر... آسف لأنني اتصلت دون إذنك... لكنني علمت أن والدك قد عاد من السفر... و ظننت أن الفرصة قد تكون مناسبة لــ... أتحدث إليه...

سالت دموعها مجددا، من التأثر هذه المرة... لم ينسها رغم أنها سافرت دون أن تعلمه أو تطمئنه إلى موافقتها... لم يتخل عنها رغم بعد المسافات و رغم عدم وفائها بوعدها بطلب موعد له مع والدها... أحست بالنور يتسلل إلى قلبها من جديد... و تمنت أن تكون سعادتها حقيقية هذه المرة، و ليست مجرد أوهام سرعان ما تتبخر...

ـ سأكون في مدينتكم بعد يومين... لدي بعض الندوات و المحاضرات... و أود أن أستغل الفرصة للقاء والدك إن أمكن...

لبثت صامتة و هي لا تدري بما تجيب... هل تخبره بمرض والدها؟ هل الوقت مناسب للقائهما؟ ربما كانت خائفة على صحة والدها، لكن خبرا كهذا سيسعده بالتأكيد... يهمه أن يطمئن على مستقبلها...

ـ ليلى... هل كل شيء على ما يرام؟

تكلمت أخيرا، بصوت مبحوح :
ـ لا... لا بأس... سأكلم والدي في الموضوع...

بدا الارتياح في صوته و هو يقول :
ـ حسن إذن، موعدنا بعد يومين إن شاء الله... سأتصل بك حال وصولي لتأكيد الموعد...

ـ حسن...

همت بإنهاء المكالمة، لكنه استوقفها :
ـ ليلى...

ـ نعم؟

ـ اهتمي بنفسك جيدا...

تنهدت في ارتياح و هي تغلق الخط و ظلت الابتسامة معلقة على شفتيها... تذكرت فجأة أنها تركت سحر تنتظر على الخط الآخر! عادت إليها بروح مختلفة.
ـ آسفة تأخرت عليك...

ثم هتفت متظاهرة بالغضب :
ـ من سمح لك بإعطاء رقمي لعمر؟ و لماذا لم تخبريني كي أستعد؟!

انفجرت سحر ضاحكة و قالت في مرح :
ـ إذن اتصل بهذه السرعة! كنت سأخبرك بذلك... لكنك لم تمهليني... أو بالأحرى هو لم ينتظر حتى أضعك في الصورة...

ابتسمت ليلى و هي تقول في سرور واضح :
ـ تصوري... سيكون هنا بعد يومين ليقابل أبي...

شهقت سحر و راحت تصرخ :
ـ هذا غش! يعتذر عن محاضراته متذرعا بـ"ظروف خاصة" و هو ذاهب ليلتقي حبيبة القلب! سأفضحه في الجامعة... سترين إن لم تصبحا حديث الساعة بين الطلبة، فلست أنا سحر التي تعرفينها!

ضحكت ليلى بصوت خافت، و هي تحس بوخزة في صدرها... لم يرد أن يشعرها بالحرج لأنه سيسافر من أجلها فقط! في حين تنهدت سحر و هي تقول في سعادة :
ـ نعم، اضحكي... الحمد لله أنك سأطمئن عليك قريبا... و أخلي مسؤوليتي منك!

ضحكت ليلى من جديد، ثم اعتذرت لأنها تأخرت على والدها و ضيوفه. أنهت المكالمة و قد أحدثت في نفسها تغييرا عميقا... ربما كان الغد أكثر إشراقا مما تتصور... فقط لو يمن الله بشفاء والدها...

استندت على حائط الممر و هي تحتضن الهاتف الذي حمل إليها المكالمة الغالية... و ارتسمت على شفتيها ابتسامة حالمة...


كان فراس قد عبر مدخل المستشفى للتو، و راح يجيل بصره باحثا عن الغرفة المقصودة و هو يستعيد في ذهنه الحوار الذي دار بينه و بين والده هذا الصباح. كان يستعد للخروج لزيارة السيد نجيب، حين استوقفه والده و دعاه إلى المكتب... لم يستوعب بعد كل ما قيل، لكن ما سمعه جعله ينفعل و يتشاجر مع والده... عقله يرفض الفكرة بشدة... لكن هناك أمور كثيرة يجب أن يحسمها بينه و بين نفسه قبل أن يصل إلى قرار مناسب... لكن هل سيعني قراره شيئا أمام تصميم والده؟

تنهد بعمق و هو يدلف إلى الممر المقصود... فجأة رآها... كانت تقف وحيدة على بعد بضعة أمتار، نظراتها تائهة في الفراغ و كفها تضم هاتفها إلى صدرها... لم يبد أنها انتبهت إلى وجوده. لمح الابتسامة الرقيقة على شفتيها فأحس بشيء غريب في صدره... نظر إليها في شك... تلك الابتسامة حيّرته. هل... هل تكون عاشقة؟!! هيأتها و وقفتها و ابتسامتها و الهاتف في يدها... كل ذلك جعلها تبدو كمراهقة تلقت مكالمة من حبيبها جعلتها تحلق إلى عالم آخر... لا يدري لمَ أزعجه الخاطر، مع أنه قد يريحه من مشاكل كثيرة و تختفي ليلى من حياته إلى الأبد...

توقف في ارتباك و عاد بضع خطوات إلى الوراء... وقف للحظات في المنعطف، مسح وجهه بكفه في حركة عصبية. ما بك يا فراس؟ اهدأ... ليس هناك ما يستحق الانفعال! كان منزعجا من نفسه، و من المشاعر الغريبة التي انتابته فجأة... تقول فجأة؟ لم يعد واثقا من الأمر... لطالما أثرت فيه ابتسامتها، و نظراتها الخجلة... حركاتها العفوية المحتشمة، و دموعها... آه من دموعها... لطالما قاوم اجتياحها لحياته بالتكشير و العبوس، ظن أن ذلك سيكفي لإبعاد خيالها عنه... ضغط على رأسه بين كفيه ليطرد الصور و الهواجس التي عادت إليه... مجرد أوهام يا فراس... مجرد أوهام، لا تستسلم إليها...

أخذ نفسا عميقا و استرجع رباطة جأشه، ثم عاد أدراجه إلى الغرفة... حين أطل من الممر لم يرها... تنهد في ارتياح، و تقدم بخطى ثابتة و ثقة عالية بالنفس...


كانت ليلى قد انصرفت إلى الحمام حتى تتخلص من آثار الدموع... لا تريد أن لا يلاحظها أحد، حتى إن كانت دموع فرح... كان في طريق عودتها إلى غرفة والدها حين لمحت مأمون قادما من الطرف الآخر للممر يحمل باقة ورود بيضاء، غاية في البساطة و الجمال. ابتسمت ليلى و هي تتأمل الباقة في إعجاب :
ـ كم هي جميلة!

سألها مأمون و هو ينظر في ساعته :
ـ جيد أنني رأيتك هنا... هل هناك زوار غيرك؟

هزت رأسها علامة الإيجاب و هي تقول :
ـ نعم، هناك أمين، و زوجة ابن خالي الأكبر...

تذكر أمين لقاءه السابق مع أمين فقال بسرعة :
ـ حسن إذن، لا أريد أن أفسد عليكم الجلسة العائلية... كما أنني مستعجل بعض الشيء... أرجو أن تسلميه هذه الباقة مع تمنياتي بالشفاء...

أخذت ليلى منه الباقة، و قد عادت إليها مشاعر الحزن التي تناستها لبضع دقائق. نظرت إليه في عتاب و قالت :
ـ كنت تعلم... و أخفيت عني! كلكم أخفيتم عني! حتى خالي كان يعلم...

تنهد مأمون في ألم و هو يقول معتذرا :
ـ كنا نأمل أن يجدوا علاجا له في الولايات المتحدة، و لا نضطر إلى إخبارك... أنت ابنته الوحيدة، و أقرب الناس إليه... لم نرد أن نؤلمك...

هزت رأسها في تفهم و هي تقاوم دموعها...

ـ إن احتجت إلى أي شيء، لا تترددي في الاتصال بي... أنت أختي الصغرى كما اتفقنا... أليس كذلك؟

ابتسمت في امتنان و قالت :
ـ شكرا جزيلا لك... وقوفك إلى جانب والدي في هذه اللحظات الحرجة لن أنساه ما حييت...

في تلك اللحظة، خرج فراس من الغرفة بعد زيارته القصيرة للمريض... رأى ليلى أمامه مع شاب لا يعرفه، يتهامسان في الممر... و باقة ورود بين ذراعيها... لم يكن الموقف يحتاج إلى المزيد من التساؤل... هاهو الجواب أمام عينيه!! التفتت ليلى حين انفتح الباب، و رأته يقف في صمت... تقدم بخطوات سريعة و عصبية، رماها بنظرة قاسية و ابتعد دون أن ينطق بكلمة واحدة... تابعته في حيرة و استنكار... لطالما كان فظا و باردا معها، لكن أن يعاملها بقلة احترام أمام شخص غريب فهو ما لم تتوقعه منه أبدا! طفح الكيل يا فراس!

تنحنح مأمون و هو يهم بالانصراف :
ـ آسف ليلى... يجب أن أذهب... سأتأخر عن موعد هام...

انتبهت إلى أنها كانت تضغط على الباقة بين يديها تكاد تهشمها...
ـ حسن... شكرا لك مجددا...

انصرف مأمون، و لبثت ليلى واقفة في الممر و الحيرة تملؤها... متى وصل فراس؟ و ما الذي حصل في الداخل حتى يغادر بهذه السرعة، و بمثل هذا الشكل؟!!





لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:09 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.