آخر 10 مشاركات
قلباً خالي الوفاض (116) قلوب أحلام شرقية للكاتبة ايمان عبد الحفيظ *مميزة* ف 17* (الكاتـب : ايمان عبد الحفيظ - )           »          347 - الراقصة و الارستقراطي - عبير الجديدة - م.د ( كتابة / كاملة )** (الكاتـب : lola @ - )           »          ثأر اليمام (1)..*مميزة ومكتملة * سلسلة بتائل مدنسة (الكاتـب : مروة العزاوي - )           »          بعينيكِ وعد*مميزة و مكتملة* (الكاتـب : tamima nabil - )           »          1127 - الرجل الغامض - بيبر ادامس - د.ن (الكاتـب : ^RAYAHEEN^ - )           »          لعنتي جنون عشقك *مميزة و مكتملة* (الكاتـب : tamima nabil - )           »          594- فراشة الليل -روايات عبير دار ميوزيك (الكاتـب : Just Faith - )           »          جنون المطر (الجزء الثاني)،للكاتبة الرااااائعة/ برد المشاعر،ليبية فصحى"مميزة " (الكاتـب : فيتامين سي - )           »          أسيرة الثلاثمائة يوم *مكتملة * (الكاتـب : ملك علي - )           »          ☆باحثاً عن ظلي الذي اختفى في الظلام☆ *مميزة و مكتملة* (الكاتـب : Ceil - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة > روايات اللغة العربية الفصحى المنقولة

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 28-05-15, 11:18 AM   #31

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي





الجزء الثلاثون




اندفعت منال خارجة من الغرفة الزرقاء و قد امتقع وجهها و ظهرت على ملامحها علامات التوتر. ركضت عبر الممر ثم نزلت إلى البهو في خطوات مضطربة و نادت على العم صابر و هي تلهث :
ـ عم صابر... هل رأيت ليلى؟

هز الرجل العجوز رأسه نافيا و في عينيه علامات الاستغراب. كان منشغلا طوال المساء باستقبال القادمين في البهو و توزيع المشروبات على جموع المعزين كما أوصته رجاء. بعد محاولاته المتكررة لحملها على النزول و تقبل التعازي بنفسها، و بعد ما رآه منها من امتناع، انصرف إلى عمله و لم يعد إلى إزعاجها.

ابتعدت منال مجددا في اتجاه المطبخ و أعادت طرح السؤال نفسه على العم هاشم و بقية الخدم و حتى السائق... لكن لم تجد الجواب الشافي. لم تكن قد رأتها منذ وقت الغداء. كانت قد حملت إليها وجبتها إلى غرفتها فهي لم تذق الطعام منذ مساء البارحة بعد سماعها بالخبر المفجع، و لم تكن شهيتها للطعام مفتوحة في الصباح كذلك. لذلك حملته إليها و حاولت أن تتودد إليها و تطعمها بيديها. لكنها لم تنجح إلا في ابتلاع لقيمات صغيرة تسد بها جوعها... ثم انصرفت هي الأخرى إلى استقبال المعزيات من نساء المجتمع الراقي و العائلات المرموقة. فكونها المرأة الوحيدة في العائلة جعلها تتحمل تلك المسؤولية عوضا عن ليلى، و إن كان ذلك لا يغير في الأمر شيئا فلم يكن من بين المعزيات واحدة تعرف ليلى شخصيا أو تعرف والدها المتوفى إلا بالسمعة... و لم يكن بإمكانها أن تنكر أنها أحبت لعب دور المرأة الهامة و الممثلة الرسمية لعائلة القاسمي. و أحست بالفخر و هي تتصدر المجلس و تشد على يد هذه و تتبادل عبارات مجاملة مع تلك، و لعلها لم تلق فرصة مماثلة منذ زواجها من ياسين...

عادت إلى البهو بعد أن قامت بجولة شاملة على جميع غرف القصر، لكن دون أن تجد أثرا لليلى! راودها خاطر فجأة، فركضت إلى الهاتف في ركن الصالة العلوية و كونت رقم المزرعة. تبادلت بضع كلمات مع الخالة مريم قبل أن تضع السماعة من جديد و على وجهها علامات الخيبة... أين اختفت ليلى؟! كان موعد العشاء قد اقترب، و جموع المعزين قد انصرفت منذ أكثر من ساعة... كان السيد نبيل قد أغلق على نفسه غرفة المكتب منذ ذاك الوقت، و هو ما أصبح يفعله كثيرا في الأيام الماضية. أما ياسين فقد ذهب لإحضار رانيا من منزل جدتها بعد أن أخذتها منال بنفسها إلى هناك مساء البارحة، فقد آثرت إبعادها عن أجواء الحزن المخيمة.

لبثت تذرع البهو جيئة و ذهابا في توتر و تنظر في ساعتها باستمرار، تنتظر ظهور أحد ما يخفف عنها قلقها و يحمل إليها خبرا عن ليلى المختفية... فراس هو الآخر لم تره منذ بضع ساعات... أين يكون هو الآخر؟ مر ببالها خاطر غريب، لكنها سرعان ما طردته عن ذهنها... لا، لا غير معقول... لا يمكن أن يكون ذلك. سمعت صوتا قادما من الطابق الأول فالتفتت بكل جوارحها لترقب من القادم. تعرفت بعد لحظات على صوت العكاز البلاستيكي حين يرتكز بقوة على الأرضية المجلزة. و ما لبث أمين أن ظهر عند أعلى الدرج و هو يتوكأ بكلتا ذراعيه على عكازيه. نظر إليها في صمت للحظات قبل أن يقول بصوت هادئ :
ـ ليلى ليست هنا...

لم تعلق منال بل عقدت حاجبيها في حيرة فأضاف موضحا :
ـ ليلى رحلت... و ربما لن تعود...

هتفت منال في استغراب :
ـ ما الذي تقوله؟

ـ رأيتها تذهب... هناك من جاء لأخذها...

تقدمت منال لتقبض على جانب السلم في عصبية و هي تصرخ :
ـ أخذها؟ من؟ إلى أين؟!!

تجاهل أمين سؤالها و هو يقول في برود :
ـ ربما كان ذلك أفضل... ستكون في أحسن حال بعيدا عن هذه العائلة...

ثم أخذ ينزل الدرجات واحدة تلو الأخرى في صعوبة بالغة و ساقه المكسورة تتدلى معيقة حركته. تقدمت منال نحوه و قد انتبهت إلى ألمه و معاناته. مدت ذراعها لتساعده و هي تقول في شفقة :
ـ كان يجب أن تلازم الفراش لبضعة أيام حتى تطيب جراحك...

صدها بذراعه و نظرة صارمة تطل من عينيه، فتراجعت في دهشة و تركته يواصل نزوله بخطوات بطيئة و يتقدم في اتجاه المدخل وصولا إلى الشرفة الأمامية. تابعته بنظرات قلقة. أزعجتها لامبالاته التي لم تتعود عليها... ربما لا يزال متأثرا بحادثته...

جالت من جديد في أرجاء القصر الذي خلا تقريبا من سكانه... تحس بفراغ غريب يخيم على المكان. ستجلس إلى جوار أمين في انتظار عودة زوجها...
راقبتها عيون متيقظة و هي تحث الخطى باتجاه الحديقة بدورها. و حين اطمأن إلى انصرافها، توجه العم صابر إلى الهاتف في طرف البهو و أخرج في حذر شديد ورقة نقل منها رقم هاتف بأنامل مرتجفة. انتظر الرد في صبر نافد، و ما إن وصله صوت مخاطبه حتى هتف بصوت منخفض مبحوح من فرط الانفعال :
ـ أستاذ مأمون... الآنسة ليلى اختفت!

ثم ما لبثت علامات الارتياح أن ارتسمت على محياه و هو يهمهم بكلمات الحمد و الشكر. أعاد السماعة إلى مكانها في هدوء، ثم انصرف إلى عمله من جديد.

و خيم على المكان هدوء عجيب... ربما هو الهدوء الذي يسبق العاصفة...


**********


جلس في قاعة الانتظار و هو يعبث بهاتفه الجوال في توتر... للمرة الألف، أعاد تكوين رقمها و انتظر الإجابة في يأس، و لم يلبث أن جاءه الرد المعتاد الذي حفظه عن ظهر قلب... "شكرا لاستخدامكم شبكتنا... الهاتف المطلوب مغلق في الوقت الحاضر... يرجى الاتصال لاحقا..." أغلق الخط و هو يتنهد في مرارة. لم يعد لديه شك في أنها تتهرب من الحديث معه. هاتفها مغلق طوال الأيام الماضية... نسيت أمر الموعد ثم طلبت من ابن خالها الرد على مكالمته! بل لعلها دبرت لقاءهما يوم العزاء لتفهمه بأنها حسمت أمرها و قررت البقاء مع عائلتها هنا و الارتباط بابن خالها.

لكنه لم يرد أن يستسلم بسهولة. أراد أن يستمع إلى توضيحاتها... ماذا لو كان خالها قد خطط لزواجها من ابنه للحفاظ عليها بعد وفاة والدها؟ لكنها لم تكبد نفسها عناء الاتصال للاعتذار عن الموعد و توضيح الأمر له! كابر طويلا و هو يقنع نفسه بأنه لا ذنب لها فيما حصل، و أنها لم تسخر منه أو تتلاعب بمشاعره... لكنه الآن لا يجد تفسيرا آخر! هاتفها المغلق و انعدام أية وسيلة للاتصال بها يثبت له أن كل شيء قد انتهى... ربما يجب أن ينسى أنه عرفها يوما...

تعالى النداء الأخير في القاعة : الرجاء من المسافرين على متن الرحلة رقم 3372 في اتجاه باريس التوجه إلى قاعة الرحيل...

قام في تثاقل و تناول حقيبة سفره الصغيرة. إقامته طالت هنا بدون طائل، و لم يعد بإمكانه إهمال عمله و مسؤولياته أكثر من ذلك. لم يعد لديه ما يفعله هنا... ألقى نظرة وداع أخيرة على بهو المطار الفسيح. تأمل أفواج المسافرين و المودعين الذين لا تهدأ حركتهم في جميع الاتجاهات. تصفح الوجوه لبرهة. لم يكن في انتظار رفيق سفر أو مودع... لكن أملا ضئيلا راوده في اللحظات الأخيرة... و ما لبث أن استدار في اتجاه بوابة الرحيل...


************


وضعت نظاراتها السوداء العريضة على عينيها و نزلت من السيارة و هي تقاوم الرجفة التي سرت في أوصالها. استوقفها صوت مأمون و هو يقول :
ـ سأنتظرك هنا... من الأفضل أن تذهبي بمفردك تحسبا للظروف... لا تتأخري...

هزت رأسها في تفهم ثم استدارت لتصعد الدرجات القليلة المؤدية إلى بوابة المستشفى. تقدمت في هدوء و ثقة في اتجاه مكتب الاستقبال. تبادلت بضع كلمات مع الموظفة، ثم أخرجت من محفظتها أوراق هويتها... بعد التثبت، طلبت منها الموظفة أن توقع في دفتر المستشفى لاستلامها حاجيات والدها و غابت في الداخل لتحضر الحقيبة...
ـ ليلى!

كانت منحنية على المكتب تهم بالتوقيع في الدفتر، حين سمعت الصوت ينادي باسمها. رفعت رأسها على الفور و التفتت إلى الوراء. امتقع وجهها حين وجدت فراس يقف على قيد خطوات منها و هو يتأملها في هدوء حزين. تسمرت في مكانها و لم تنبس بكلمة. لم تتصور أن تراه هنا، خاصة بعد مضي أكثر من أسبوع على وفاة والدها. اقترب منها حتى أصبح يقف قبالتها مباشرة، و قال و على شفتيه ابتسامة متعبة :
ـ كنت أعلم أنك ستأتين...

نظرت إليه في دهشة. هل كان ينتظر قدومها؟ تابع بنفس هدوئه العجيب :
ـ تبدين في حال جيدة... يبدو أنهم يعتنون بك جيدا هناك...

هل يعلم أين كانت و مع من تقيم؟ مستحيل، و إلا لما كان انتظرها طوال الأيام الماضية في المستشفى! لكن ماذا يريد الآن؟ أتاها رده على الفور :
ـ قلقنا عليك كثيرا... ما كان يجب أن ترحلي بهذه الطريقة... أعلم أن الإقامة معنا لم تكن مريحة، و الضغوطات كانت كثيرة... لكننا جميعا تعلقنا بك... أصبحت واحدة منا... نحن عائلتك الآن!

حاولت أن تستوعب كلماته و تفسرها. تعلقت عيناها بوجهه الشاحب و وعينيه الغائرتين. كانت علامات الإعياء جلية على محياه. تعرف جيدا تلك الخطوط العميقة حول العينين و في وسط الجبين التي تصاحب الأرق... و للمرة الأولى تصيب في تأويل نظراته المرتبكة و حركاته المضطربة! للمرة الأولى تنتبه إلى مشاعره التي ترك لها العنان... لكن الموقف لم يكن مناسبا أبدا لمثل هذا الاكتشاف الذي بعثر كل أوراقها. أشاحت بوجهها في أسى و هي تقول :
ـ فراس... أشياء كثيرة حصلت منذ غادرتكم... لم يعد بإمكاني العودة الآن...

أطرق بدوره في ألم و قال في ارتباك، لم يعد لديه ما يخفيه :
ـ أنا آسف... أعلم أنني تصرفت بتهور في ذاك اليوم... لكنني... لكنني لم أرد أن أخسرك بسهولة...

من الواضح أنه لم يفهم قصدها. ربما كانت قد تجاوزت عن تطاوله بالرد على هاتفها، لكن هناك مستجدات أخرى أقوى و أخطر... غاص قلبها بين ضلوعها في حزن و هي ترى انكساره أمام عينيها. لكنها تجاهلت ذلك و وضعت قناعا جادا على وجهها و هي تسأله بصوت بارد، يخفي انفعالاتها و اهتمامها :
ـ ما الذي حصل بينك و بين عمر؟

كان السؤال يراودها بين الفينة و الأخرى، منذ رأتهما يقفان معا في الحديقة الخلفية ساعة هروبها... لكنها لم تبذل جهدا لتحصل على الإجابة بعد أن سيطرت القضية الجديدة على تفكيرها و شغلتها عن كل ما عداها... و لعلها توصيات مأمون الصارمة بقطع كل اتصالاتها بالعالم الخارجي و غلق هاتفها حتى لا يصل إليها خالها و ينتهي هو من تحقيقاته...

ارتسمت على شفتيه ابتسامة واهنة و هو يقول في سخرية خفيفة :
ـ ألم يخبرك الدكتور عمر؟

هزت رأسها نافية و قد تزايد اهتمامها. تجهم وجهه و هو يحدق فيها و قد قرأ الصدق في عينيها. لم يشك لحظة واحدة في أن الحوار الذي دار بينه و بين عمر قد وصل إلى مسامعها. بل أنه تخيل التفاصيل و سمع كلماتها الغاضبة ترن كثيرا في رأسه بشتى الاتهامات بعد أن تكون قد اكتشفت محاولته اليائسة لإبعادها عن حبيبها، فيتزايد ألمه و حسرته... فقد كان تخيل أن أول ما ستفعله بعد فرارها هو الاتصال به و التخطيط للهرب بعيدا و الزواج... و ظن أنه لن يراها بعد ذلك، خاصة بعد أن أصبحت تحتقره و تحقد عليه! لكن إحساسا خفيا كان يؤكد له أنها ستأتي للمستشفى لاستعادة حاجات والدها. لذلك لازم قاعة الانتظار طوال الأيام الماضية، لا يكاد يبرحها. ينتظر قدومها في صبر لا يخلو من يأس. يريد أن يعتذر منها على الأقل بعد أن عود نفسه على أن فقدانها أصبح أمرا واقعا... لكنه لا يحتمل أن يكون كل ما تحمله تجاهه من مشاعر كراهية و احتقارا. يا الله، كل تلك الكوابيس التي عاش معها طيلة الأسبوع المنصرم كانت مجرد وهم! نظر إليها في ذهول و قال :
ـ إذن أنت لا تعلمين؟!

ظهرت الموظفة من الباب الداخلي و هي تحمل الحقيبة...

ـ تفضلي آنستي...

لم تتحرك ليلى من مكانها و هي تقول مخاطبة فراس في إلحاح :
ـ أعلم بماذا؟

مسح وجهه بكفه في حركة عصبية، ثم أخرج هاتفه في اضطراب... ربما لازال بإمكانه أن يتدارك الموقف قبل فوات الأوان. أخذ يبحث في ذاكرة الهاتف عن رقم معين و هو يردد بصوت متعب منهار :
ـ أنا آسف... أنا آسف حقا... أرجوك سامحيني...

أخيرا عثر على الرقم المنشود، فقال مبتسما في مرارة :
ـ سأصلح كل شيء الآن... لا تقلقي...

راقبته في حيرة و وجل و هو ينتظر الإجابة على اتصاله الغريب. لكن انتظارها طال و هي تراه يغلق الخط ثم يعيد محاولة الاتصال مرات عدة و قد علا وجهه الهم... و بعد بضعة محاولات تهاوت ذراعه إلى جانبه و نظر إليها و قد أوشكت عيناه أن تدمع، و تمتم :
ـ هاتفه مغلق... لعله سافر... هل من وسيلة للاتصال به في فرنسا؟

ـ آنستي... الحقيبة! هلا وقعت الدفتر؟

التفتت ليلى إلى الموظفة معتذرة عن شرودها. وقعت الدفتر بسرعة و أخذت الحقيبة. توقفت للحظات أمام فراس الذي كان في غاية الاضطراب، ثم توجهت بهدوء في اتجاه البوابة مغادرة المستشفى. لحق بها في محاولة يائسة و هو يهتف :
ـ ليلى، أرجوك... أعطني فرصة أخيرة...

التفتت إليه و قالت في برود :
ـ لا تشغل بالك... سأنظر في الأمر بنفسي...

ثم أضافت في حزم :
ـ و أرجوك، لا تتبعني... و من الأفضل أن تنسى أنك عرفت يوما فتاة تدعى ليلى كامل...

ثم استدارت لتنطلق بخطوات سريعة إلى الخارج تاركة فراس في أقصى حالات الذهول...


**********


ركبت إلى جانب هالة التي انتظرتها مع مأمون أمام المستشفى، بعد أن وضعت الحقيبة في صندوق السيارة. خيم الصمت على ثلاثتهم فترة طويلة في طريقهم إلى منزل هالة. كانت ليلى مرتبكة. فلقاؤها غير المتوقع مع فراس أحدث في نفسها تأثيرا غريبا. لذلك آثرت الفرار من أمامه بأسرع ما يمكن. أيا كانت الحماقة التي ارتكبها و أيا كان الكلام الذي قاله لعمر، فذاك لم يعد مهما الآن. فالمسافات التي تفصلها عن عمر الآن أكبر بكثير من تلك التي تفصل مدينتها عن باريس! وفاة والدها و المعلومات الجديدة التي ظهرت عن عائلتها و مصائب خالها و أعماله، و جريمة قتل شقيقتها... كل ذلك يجعل حياتها أكثر تعقيدا و خطرا من حياة الفتاة الجامعية الهادئة التي عرفها في باريس! ربما ليس من المنصف أن تورطه في تلك المتاهة التي لم يحسب لها حسابا يوم تقدم لطلب يدها... كما أن الزواج و الاستقرار هو آخر ما يمكنها التفكير فيه في وضعها الراهن...

لكن فراس! ذاك الشخص الذي يثبت لها في كل مرة أنه أكثر غرابة مما توقعت. رأته اليوم مثلما لم تره من قبل. و تلك عادته، أن يفاجئها في كل لقاء بوجه جديد... فيترك في نفسها انطباعات جديدة. للحظة وصلتها مشاعره التي نطقت بها عيناه دون مواربة. فارتعبت و اضطربت و ارتبكت نبضات قلبها. لكنها تظاهرت باللامبالاة و البرود، لأن اكتشافها لن يغير من الأمر شيئا... فإن كانت المسافات بينها و بين عمر كبيرة... فإن المسافة بينها و بين فراس أكبر من أن يقدرها قلبها الصغير...

أيقظها صوت مأمون و هو يقول في هدوء مريب :
ـ هناك أمر آخر حدثني عنه عمي رحمه الله... في لقائنا الأخير...

رفعت عينيها لتنظر إليه في المرآة العاكسة، و هي لا تزال تغطي وجهها بالنظارات الشمسية، فتابع و في صوته بعض الارتباك :
ـ كان قد حدثني عن أستاذك في الجامعة الذي تقدم لخطبتك، و طلب مني أن أتعرف عليه و أستوثق من أمره جيدا... لكن الظروف لم تكن مناسبة في الفترة الماضية... سأحاول الالتقاء به قريبا... إن شئت...

أشاحت ليلى بوجهها في اتجاه النافذة و هي تجيب في برود شديد اكتسبته من تجربتها القاسية حتى أصبح يطغى على معاملاتها :
ـ انس أمره... لم يعد ذلك مهما...

سرحت لبعض الوقت و هي تتأمل الشوارع المزدحمة، و لم تنتبه إلى الابتسامة الخفيفة التي علت شفتي هالة...




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 11:20 AM   #32

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




الجزء الواحد و الثلاثون




دخل إلى الجناح و هو يجر قدميه في إرهاق. أغلق الباب في هدوء و نزع سترته الخفيفة ثم ألقاها على المنضدة المجاورة قبل أن يرتمي على المقعد القريب بكل ثقله. أغمض عينيه للحظات يبحث عن الهدوء و الراحة... لكن من أين له بالراحة. منذ عشرة أيام و هو يعيش حالة من الاضطراب الشديد لا يجد له منها متنفسا. منذ اختفاء ليلى و أشياء كثيرة تشغل باله و تعكر مزاجه. أحس بكف دافئة تحس على كتفه في حنان.
ـ أنت بخير؟

فتح عينيه فألفى منال تطالعه بابتسامة حانية. هز رأسه ببطء دون أن يبادلها ابتسامتها و سألها في تهرب :
ـ أين رانيا؟

ـ نامت منذ قليل... ما الذي أخرك إلى الآن؟ منذ أيام لم تعد تلتزم بموعد العشاء!

وقف على الفور و قد أزعجه الحديث و توجه إلى الحمام و هو يغمغم :
ـ ألا يمكنني أن أجد الراحة في أي مكان؟!!

وضع رأسه تحت الحنفية و ترك الماء البارد يتدفق على شعره و وجهه... ربما أطفأت المياه الغزيرة حرارة الأفكار الملتهبة التي تحرق دماغه ليل نهار. رأسه تكاد تنفجر من التفكير، و مصيبته أنه غير قادر على اتخاذ القرار المناسب! والده كاد يجن بعد اختفاء ليلى و طلب منه أن يشرف بنفسه على عملية البحث عنها في كل مكان... لكنه غير قادر على التركيز. أو ربما كان يفضل اختفاء ليلى خاصة بعد وفاة والدها. كل شيء تغير الآن... وفاة نجيب كامل قلبت الأمور رأسا على عقب. و بقاء ليلى في القصر لن يجلب لها سوى التعاسة و الألم، لذلك فبقاؤها بعيدا خير لها، أينما كانت قد ذهبت! لكن نبيل القاسمي لن يقتنع بأنه فشل في إيجادها... لا شك أنه يرتاب في جدية البحث و لعله سيقصيه قريبا من المهمة و يتولاها بنفسه. خسارته ستكون فادحة بعد اختفائها، خاصة أنه لم يحصل على توقيع والدها على أوراق العقد النهائية... لن يقبل بانهيار المشروع بهذه السهولة.

خرج من الحمام و هو يشعر بتحسن طفيف. حانت منه التفاتة إلى زوجته التي جلست على طرف السرير في استكانة و هي تحتضن كفيها في حجرها. يعلم طيبتها و سلامة طويتها. لكنه لا يريد أن يشغلها و يدخلها في مسائل لا طاقة لها بها... عليه تصفية حساباته القديمة... و الخاصة بنفسه... دون أن يدخلها دوامة الألم. جلس إلى جانبها و وأحاط كتفيها بذراعه، كأنه يطلب الصفح على معاملته الجافة منذ حين، و همس في هدوء :
ـ أنا آسف... لكنني متعب، و كثرة السؤال و العتاب تتعبني أكثر... تحمليني قليلا في هذه الفترة... و إن شاء الله تفرج الأمور خلال أيام قليلة...

سرعان ما استجابت و عادت الابتسامة لتزين شفتيها و هي تقول في اهتمام :
ـ لكنني لا أريد أن أراك مهموما و لا أفعل شيئا حيال ذلك...

ارتسمت ابتسامة باهتة على وجهه و هو يقول :
ـ للأسف لا يمكنك مساعدتي بشيء... دعيني أتولى أموري بنفسي...

ثم وقف دون أن يدع لها مجالا للاعتراض، و تناول سترته التي نزعها للتو و توجه نحو باب الجناح. طاردته منال في دهشة :
ـ إلى أين؟

ـ هناك بعض الأوراق التي علي مراجعتها، سأجلس قليلا في غرفة المكتبة...

قال ذلك دون أن يلتف إليها و حث الخطى مغادرا... وقفت على الباب الجناح تودعه و في عينيها نظرة منكسرة... تمتمت في صوت خفيض لم يصل إلى مسامع ياسين الذي كان قد شرع في نزول الدرج :
ـ لم تعد تحب مراجعة الملفات في السرير... أم أنك تتهرب مني؟

**********


لم يدخل ياسين إلى قاعة المكتبة مثلما ادعى أمام منال، بل قادته خطاه إلى الحديقة. كانت الساعة قد تأخرت، و الهدوء قد سيطر على المكان. أخذ يتمشى في الممر الممهد الذي تحفه المشاتل من الجانبين. سرح بخياله بعيدا... بعيدا جدا. أخذته أفكاره إلى ذكريات قديمة أليمة، ظلت تعيش في عقله و قلبه و لم تغب عنه يوما... ذكريات ظلت تؤرقه يوما بعد يوم و تعكر صفو حياته... بل لعلها انتزعت الصفاء من حياته إلى الأبد، فلم يعرف له طعما منذ زمن... أو لعله لم يعرفه يوما!! لطالما كانت حياته مختلفة عن حياة أخويه. بل لعله لم يحاول أن يقارن بينه و بينهما في يوم من الأيام. لأنه يدرك مسبقا مدى شساعة الفرق!

عادت به الذاكرة إلى الماضي... ثلاثين عاما إلى الوراء. لم يكن قد تجاوز الثامنة من العمر... لكنه كان قد بدأ يدرك طبيعة العلاقة بين والديه. في تلك السن الصغيرة، كان يسترق السمع إلى مشاجرتهما المتكررة في توجس و حذر. و عقله البريء يسجل كميات من البرمجة السلبية. هل عرف الصفاء في تلك السن؟ لعله لم يعش طفولة عادية، كأنه خلق كهلا... يفكر في مصير عائلته باستمرار و يبحث عن الأسباب و الحلول... و سرعان ما اكتشف الأسباب، حين اختارت أمه الحل بنفسها دون أن تمهله... الحل الذي بدا الأنسب، و الأيسر بالنسبة إليها... حل الهروب، بلا رجعة! يذكر ذاك اليوم جيدا، رغم السنوات التي مرت، و رغم غضاضة سنه في تلك الآونة. لكن ما حدث ترك بصمة واضحة في أعماق نفسه لم و لن يمحوها تعاقب السنون... كانت السيدة هاجر تعتكف في الغرفة الزرقاء منذ أيام، إثر خلاف حاد مع زوجها. فقد كانت الخلافات تزداد عمقا مرة بعد مرة، و قد بات كل منهما لا يطيق الآخر. في تلك الليلة سمع ياسين أنينا مكتوما قادما من الغرفة الزرقاء. كان والده قد تأخر في العودة كما صارت عادته في الفترة الأخيرة، و معظم الخدم قد أووا إلى النوم، و ربما صرفتهم والدته في وقت مبكر... فتح الباب في هدوء و فضول شديد يدفعه. رآها تستلقي على السرير و هي تشد على الملاءة في ألم و تصدر أنينا مزعجا. اقترب منها في قلق و اهتمام، فرأى ذراعها اليسرى التي تتمدد إلى جانبها في استسلام. كان الجرح العميق واضحا في معصمها المقطوع. الدماء ملأت المكان! صرخ من الفزع :
ـ مامــــــــا!!!

فتحت عينيها حين تناهى إليها صوته فتمتمت في ضعف :
ـ ياسين... تعال اجلس إلى جانبي...

لم يكن يدرك ما عليه فعله في تلك اللحظات، لكنه هتف في رعب :
ـ ماما... ما كل هذه الدماء؟ هناك جرح في يدك!

نظرت إلى معصمها في غير اكتراث، كأنها تجهل وجود الجرح، ثم قالت و قد خارت قواها تماما :
ـ ماما ستودعك بعد حين... لكنها تعلم أنك رجل و يمكنك أن تهتم بنفسك جيدا... ماما لن تقلق عليك...

ـ لكن لماذا ترحلين؟ لماذا تريدين أن تتركيني؟

كانت دموعه المتحجرة تأبى النزول حتى في تلك اللحظات القاسية, حتى إن تهدج صوته و شحب وجهه الصغير... فالدموع جافته، و ظلت على جفائها منذ تلك اللحظة.

ـ بابا هو السبب يا صغيري... أبوك يقتلني في اليوم مائة مرة... سأريحه مني إلى الأبد...

فجأة، تشنجت ملامحها لوهلة قصيرة، قبل أن يتهاوى رأسها على صدرها و يسري الاستسلام في أوصالها. لم يستطع أن يتحرك من مكانه. لبث يتأمل ملامحها المكفهرة التي تجمدت بلفظها آخر أنفاسها. كانت كلماتها الأخيرة تتردد في رأسه في قسوة "باب هو السبب يا صغيري"... و لم يكن من الممكن بعد تلك اللحظة أن تعود علاقته بوالده إلى سابق عهدها!

انسحب من الغرفة بهدوء و جلس تحت الدرج طوال الليل. لم يزر النعاس جفنيه في تلك الليلة. و كيف له أن ينام أو يرتاح و هو يحس بوحشة و رهبة بعد المشهد القاسي الذي شهده. صحيح أن طفولته لم تكن طبيعية منذ زمن، لكن تلك الحادثة زادت الأمر سوءا... علاقته بوالده أصبح يحكمها الخوف... و الحقد! هو السبب! هو الذي قاد والدته إلى الموت... لكنه لم يستطع على مواجهته بما سمعه منها. كتم ذلك في صدره، و ترك مشاعره الحبيسة تنمو في هدوء و تزداد تمكنا من قلبه...

عادت إليه تلك الصورة بحذافيرها حين قرأ مذكرات حنان للمرة الأولى... كان قد لاحظ تنقلها المستمر صحبة دفترها الصغير الأسود. تجلس لساعات طويلة في الشرفة الخلفية تكتب و تكتب... و في إحدى الأمسيات، خرجت للتسوق و نسيت دفترها على المقعد. عثر عليه بالصدفة و لم يستطع السيطرة على فضوله فتصفح بضعة وريقات. جحظت عيناه و انسحبت الدماء من وجهه و هو يقرأ كلماتها. كان قد مر على وفاة أماني بضع سنوات، و بدأ يعود نفسه على الأمر. لكنه لم يكن قد شهد وفاتها و لا سأل عن كيفية انتحارها. فقد كان الخبر في حد ذاته كافيا ليصيبه بانهيار عصبي دام بضعة أسابيع. لكن و هو يقرأ وصف حنان للحادثة، عاد إليه مشهد السيدة هاجر في لحظاتها الأخيرة. لم يستطع تحمل الألم الذي داهمه، و بكى... بكى والدته للمرة الأولى منذ وفاتها... بكى أماني التي ذهبت و هي في ريعان شبابها... و بكى نفسه من بعدهما. لكن أحاسيس غريبة انتابته... أمر ما كان يقلقه بخصوص انتحار أماني. المشهدان كانا متقاربين جدا... لكن نقطة واحدة ظلت تشغله و تلح عليه... فقد بدا له موتها هادئا، هادئا جدا. بصفة تتعارض مع الأنين الذي كانت تصدره هاجر في لحظاتها الأخيرة... أنين يقطع نياط القلب. ملامحها الهادئة لا تشبه ملامح هاجر المتشنجة و لا تقلصاتها المؤلمة... و جاءه الجواب على سؤاله متأخرا... متأخرا جدا...

منذ فترة كان قد بدأ يهتم بحنان، تلك الفتاة المراهقة التي تذكره كثيرا بنفسه... لكن كلا منهما تعايش مع ظروفه بصفة مختلفة. هو فقد والدته و هو في سن الثامنة و أهمله والده قبل ذلك بوقت طويل... و هي فارقت والدها في سن الخامسة، و والدتها لم تخلق أصلا لتمارس دور الأمومة! كلاهما عاش الوحدة و الفراغ و الضياع... لكن هو اختار أن يكتم آلامه في صدره، و هي اختارت أن تنفجر في وجه العالم... تصرفاتها اللامبالية و حياتها العبثية المنحلة لطالما أوحت إليه بتمردها على حياتها و واقعها... و كان يحس بالمرارة و هو يراها تكبر و تمردها يكبر في داخلها و يزداد ضراوة. لكنه لم يستطع أن يفعل شيئا حيال ذلك... فهو أصلا لم يفعل شيئا لينتشل نفسه من اليأس الذي أحاط به من كل جانب... و لم يكن يزعجه أن يعترف بغرقه في السلبية! حتى حين اختار زوجته التي لم توافق مزاج والده، كان خياره الانسحاب... لأنه لا يزال يخافه، و يزداد حقدا عليه يوما بعد يوم. حقد جبان لا ينفس عنه إلا بينه و بين نفسه... أخواه فراس و أمين كانا يتيمي الأم أيضا، لكن وضعهما لم يكن يحرك فيه المشاعر التي يحركها وضع حنان. فالمربية كانت معهما على الدوام، و والده أيضا أحبهما لحبه لأمهما الراحلة... لذلك لم يكن قلقا على مصيرهما... و لم يكن يسمح لنفسه بالتدخل في شؤونهما من قريب أو من بعيد...

تزايد اهتمامه بحنان حين بدأ يلاحظ خروجها المستمر بمفردها. داخل نفسه الارتياب بشأنها، فاستجوب السائق. لكنه لم يعلم الكثير... فهو كان يوصلها إلى منزل صديقتها ثم يعود لاصطحابها إن استدعته، و في أحيان كثيرة يوصلها أهل هذه الصديقة. لذلك قرر أن يتحرى عن الأمر بنفسه. فتبعها و انتظر لبرهة أمام المنزل، و لم يخب ظنه إذ لمحها تخرج بعد حين و تطلب سيارة أجرة. لم يصدق عينيه حين رأى السيارة تدخل ذاك الحي الشعبي و تتوقف أمام حانة قذرة... لكنه لم يفعل شيئا! غادر المكان و هو يحس بالعجز... و لطالما لازمه ذاك الإحساس و هو يرى أشياء كثيرة تحصل أمام عينيه دون أن يكون قادرا على فعل شيء حيالها. لكن المشهد تكرر، و لبث يراقبها بضع مرات في صمت... إلى أن اهتدى إلى حل! نعم، إن كان هو عاجزا عن التصرف، فليترك الأمور بين يدي شخص آخر ربما يقدر على فعل شيء ما... و هكذا قرر أن يقحم فراس في المسألة!! لم يكن اختياره لفراس عبثا، فهو يعرف أخاه جيدا و يعلم أنه سيكون مهتما و متعاونا. كما أنه سيحسن التصرف بالتأكيد، و ما تفوقه في دراسة الطب و حياته الاجتماعية الزاخرة إلا علامة على نجاحه في كل ما يفعل... على كل حال إنه مختلف عن الطالب البليد الذي كان، مما حدا به إلى ترك مقاعد الدراسة قبل نيل الشهادة الثانوية. و لم يكن هناك مفر من التحاقه بالعمل في شركة والده، لتتنامى في نفسه تلك المشاعر البغيضة يوما بعد يوم... المهم، فراس كان شخصا مناسبا للمهمة، و سيكون بذلك قد أزاح الثقل عن كاهله و ارتاح من عناء التفكير!

لكن الأمور بعد ذلك تطورت بشكل لم يتصوره و خرجت تماما عن سيطرته... لم يكن يعتقد أن اتصاله الهاتفي المقنّع بفراس سيجعله يتورط إلى تلك الدرجة، فقد فوجئ مثل الجميع حين أعلن فراس رغبته في الارتباط بحنان! و فوجئ أكثر بترحيب والده الغريب، و علم أن وراء موافقته تلك مخططا ما... و لم يخب ظنه أبدا. لكنه اكتشف كل شيئا متأخرا، كالعادة... بعد أن فات الأوان و رحلت حنان! لم يستطع أن يفعل شيئا حيال ذلك... اتضحت الحقائق أمام عينيه و مع ذلك لم يتحرك. جبان! عذبه إحساسه بالضعف و رد فعله السلبي أمام فظاعة الموقف... لم يستطع أن يفعل شيئا بنفسه... كان أضعف من أن يواجه أحدا أو يوجه أصابع الاتهام إلى أحد. لذلك فضل أن يلقي بالمسؤولية على شخص آخر مجددا! لكن فراس لم يعد الشخص المناسب، لم يعد مناسبا أبدا!! و لم يكن هناك أفضل من السيد نجيب كامل، والد الضحية... لكنه لم يتجاوب مع اتصاله بالقدر الذي توقعه. فأسقط في يده... و استسلم للعجز و الخذلان رغم القلق النفسي الذي لازمه. و مضت السنوات رتيبة خاوية في انتظار أمل جديد يحركه... و ظهر الأمل بعد لأي مع زيارة نجيب كامل المفاجئة! رآه و هو يدخل الشركة فلم يصدق عينيه، و بسرعة عادت إليه الذكريات القديمة و ما تحمله من مشاعر قاسية... لم يتردد و اتصل به مجددا، فوجد منه هذه المرة أذنا صاغية. و لم يدم انتظاره طويلا قبل أن يقدم نجيب على الخطوة الموالية....

لكن ظهور ليلى كان مفاجئة حقيقية... مفاجأة لم تخطر له على بال! خمن أنها ستكون الطرف الذي يكشف الستار عن الحقائق المخفية. لكنها أثارت إعجابه حقا حين وصلت إلى المذكرات التي ظلت تائهة عن الجميع لسنوات... و لم يكن يتصور أنها ستتوصل إلى معرفة تفاصيل الحوادث التي شهدها القصر رغم توصيات والده الصارمة بعدم إثارة الماضي المرير...

تابع تحركاتها و لقاءاتها مع أفراد العائلة و لم يستطع أن يقاوم رغبة ملحة في حمايتها. ربما لم يقم بدوره كما يجب مع شقيقتها و استيقظ بعد فوات الأوان. لذلك بات يخشى أن تتكرر المأساة أمام عينيه و لا يقدر على فعل شيء حيالها. كان يرى في وجودها في القصر في حد ذاته خطرا عليك، ناهيك عن زواجها من فراس! لذلك حاول تحذيرها و إبعادها عنه... سهل على رجاء مهمة الوصول إلى الملفات التي تثبت النوايا الخفية وراء ارتباط حنان و فراس... تركها تصل إلى القلادة و إلى الوريقات المتبقية من مذكرات حنان... الوريقات القليلة التي أنقذها من الحرق لأنها ستكون دليل الإدانة على الجريمة التي صارت تفاصيلها واضحة في رأسه... لكن كل ذلك لم يكن كافيا و الأمور سارت بمنحى مختلف عما رسم له و خطط. نجيب القاسمي توفي قبل الوصول إلى نتيجة! لم يعد هناك من ينهض بالعبء من بعده... و عدنا إلى نقطة الصفر!

كانت هذه الهواجس تؤرقه منذ أيام... ربما كان اختفاء ليلى أفضل من بقائها... فهي ستكون بأمان حيث هي. لكن الحقيقة لم تعد بأمان... الحقيقة التي لم تعد تحتمل الاختفاء أكثر من ذلك... ربما عليه أن يتصرف بنفسه لمرة... ربما عليه أن يتخذ خطوة صارمة ليفك قيود الماضي التي كبلته و قيدت حريته... إلى متى ستظل سلبيا خاضعا مستسلما يا ياسين؟ خبرني إلى متى؟


***********


جلست ليلى في الشرفة و هي تمسك بكوب القهوة بين كفيها و قد سرحت نظراتها تجاه البحر. كان المشهد الذي تطل عليه من أروع المشاهد و أكثرها راحة للأعصاب... وضعت الكوب على المائدة و عادت إلى الجريدة المحلية التي تصفحتها مرات و مرات هذا الصباح. و في كل مرة كانت تتوقف عند العنوان الذي ملأ الصفحة الأولى و صفحات كثيرة بعدها... عنوان الملف الأسبوعي الذي لاكته الجرائد على مدى الأسابيع الماضية (القبض على رجل الأعمال نبيل القاسمي بتهمة الفساد و القتل عمدا) و لم يكن تأثيره على نفسها يقل من مرة إلى أخرى... لم تحضر تفاصيل المحاكمة التي لا تزال تتدارسها المحكمة الجنائية و التي طالت جلساتها و مداولاتها بحضور هيئة من المحامين للدفاع عن رجل الأعمال المعروف...

سمعت الباب يفتح و وقع خطوات موقعة على جليز الفناء... لا شك أن مأمون قد عاد. إنه لا يدخر جهدا في هذه القضية... و رغم أنه فعل كل ما بوسعه لكشف الحقيقة إلا أنه لا يزال يصر على متابعة الجلسات باستمرار و يمدها بتفاصيل المحاكمة أولا بأول... ابتسمت و هي تطوي الجريدة و تلقي بها على المقعد المجاور. لم تعد بحاجة إليها، فمراسلها الصحفي قد وصل! لبثت تعبث بالقلادة التي تتدلى على صدرها و تحرك الملعقة في فنجانها في انتظار وصوله... لكن مأمون تأخر هذه المرة... يعلم أنها تجلس في الشرفة تنتظر منه الأخبار اليومية...

فجأة سمعت حفيفا خلفها، التفتت لتجد فرح الصغيرة، ابنة هالة ذات السنوات الست، تقف عند مدخل الشرفة في تردد. ابتسمت ليلى و هي تمد إليها ذراعها تشجعها على الاقتراب :
ـ تعالي يا فرح... لماذا تقفين هناك؟

تقدمت الفتاة على استحياء حتى جلست في حضن ليلى دون أن تتكلم... فهي كانت قد تعودت على وجودها بينهم بعد الشهور الثلاثة التي قضتها في منزلهم الشاطئي الصغير... و بعد صمت قصير رأسها و هي تقول في حزن :
ـ هل صحيح أنك لست من مستوانا الاجتماعي؟

رفعت ليلى حاجبيها في دهشة و هي تقول في حيرة :
ـ من الذي قال هذا؟!!

ـ خالي مأمون قال أنه لا يمكنه أن يتزوجك لأنك لست من مستوانا الاجتماعي!

تسارعت دقات قلبها في ارتباك و شردت نظراتها للحظات... حتى أنها لم تنتبه حين قفزت الفتاة من على ركبتيها و ركضت مبتعدة... لم تكن قد فكرت أبدا في اختلاف المستويات أو في الفوارق المادية، فوالدها رباها على ترك تلك الاعتبارات جانبا حين يتعلق الأمر بالعلاقات الإنسانية... و وقوف مأمون و هالة معها في محنتها كان أكثر من إنساني... لكنها كانت قد رمت مسألة الزواج هذه وراء ظهرها، و إن كانت تتساءل باستمرار عن مستقبل حياتها. فلم يكن من الملائم أن تستمر إقامتها عند هالة أكثر من ذلك. المنزل صغير، و زوجها أحمد يجد نفسه مضطرا إلى قضاء السهرات خارج المنزل حتى لا يضايقها أو يحرجها... لكن لطفهم معها و تفانيهم في الحفاظ على راحتها يحرجها بالفعل...

ـ كيف حالك اليوم؟

رفعت رأسها حين وصلها صوت مأمون و هو يدلف إلى الشرفة تتبعه هالة في صمت، و على وجهها علامات الاستياء... يبدو أن نقاشا ساخنا جمعهما منذ حين في المطبخ! اجتهدت ليلى حتى ترسم ابتسامة على شفتيها و تداري الأفكار التي كانت تشغلها منذ حين. رنت إليه في اهتمام و هي تسأل : ـ خبرني... ما الجديد؟

تنهد و هو يتخذ مجلسه على مقعد غير بعيد عنها و يضع مظروفا كبيرا على الطاولة المنخفضة أمامه. في حين أسندت هالة جذعها إلى باب الشرفة و عقدت ذراعيها أمام صدرها. قال مأمون و هو يعبث بسلسلة مفاتيحه التي لا تزال بين أصابعه... كان توتره واضحا :
ـ ربما سقطت عنه تهمة القتل... فالأدلة غير كافية، و لا تعدو أن تكون مجرد شكوك... و المرجح أن الحوادث ستظل عمليات انتحار في نظر المحكمة، ما لم تظهر أدلة جديدة... لكن ذلك يبدو مستبعدا نظرا للبعد الزمني... كما أن ياسين يخضع لعلاج نفسي الآن... ترسبات الحوادث التي عاشها أثرت في توازنه... و من المؤسف أنه لم يعالج في وقت مبكر... لا أحد كان يعلم بأنه شهد حادثة انتحار والدته...

هزت ليلى رأسها في أسف، فقد أثرت فيها كثيرا المصائب التي طالت عائلة خالها في الشهور الماضية حتى شغلتها عن التفكير في همومها الشخصية... لا شك أن الجميع الآن في حاجة إلى علاج نفسي!! تابع مأمون موضحا :
ـ لكن تهمة الفساد ثابتة لا محالة... فالوثائق التي قدمها ياسين إلى المحكمة لا تدع مجالا للشك... و هذه القضية وحدها كفيلة بالقضاء على مستقبل السيد نبيل المهني و استنزاف السنوات المتبقية من حياته!

أطرقت مجددا في تفكر... ربما من واجبها أن تزور عائلة خالها و تقف إلى جانبهم في هذه المحنة... من المؤكد أن منال تجد نفسها وحيدة خاصة و زوجها يوجه إصبع الاتهام إلى والده... لا يمكنها أن تتخيل موقف كل من أمين و فراس...

تنحنح مأمون و هو يدفع الظرف الذي كان يستقر على الطاولة في اتجاهها. رددت نظراتها بين الظرف و بين عينيه في تساؤل. فابتسم و هو يقول في طمأنة :
ـ هذه أوراق ثبوت ملكيتك لكل إرث عمي نجيب رحمه الله... كل العقود أصبحت موثقة باسمك الآن... إضافة إلى أرقام حساباتك الجديدة و كشوفها الدقيقة... أنهيت المعاملات مع المحامي اليوم... كل شيء أصبح قانونيا و منظما...

تناولت الظرف بأنامل مرتجفة. تصفحت بضعة وريقات في عدم تركيز و هي تقاوم إحساسا غريبا انتابها. لكنها تجاسرت أخيرا و سألته و هي تحاول إخفاء اهتمامها :
ـ و أنت؟ ماذا ستفعل الآن؟

ابتسم في ارتباك و هو يقول متظاهرا باللامبالاة :
ـ سأبحث عن عمل جديد...

كان والدها قد صفى جميع أعماله استعدادا للشراكة الجديدة و الاستقرار في البلاد... و مأمون ظل مرافقا له ليواصل معه المشوار. لكن بانتهاء الأعمال و بطلان العقود لم يعد هناك عمل يديره أو يشرف عليه... أردف مأمون في دعابة شابتها مرارة لم تخف عليها :
ـ لكنني ربما أحتاج إلى رسالة تزكية من مستخدمتي السابقة...

لم تستطع أن تبتسم على دعابته الثقيلة على قلبها... فهي لم تعتبره يوما موظفا عند والدها بقدر ما كان فردا من العائلة و قد ساءها أن يستعمل كلمة "مستخدمتي" كأنه يؤكد على العلاقة العمودية التي بينهما و التي تصنع حواجز سخيفة في نظرها... انتبهت إلى حركة هالة العصبية و هي تترك وضعيتها و تنطلق في خطوات سريعة عائدة إلى المطبخ. تابعتها ليلى بنظرات ملؤها الدهشة. لم تكن قد رأت هالة غاضبة من قبل... تذكرت كلمات الصغيرة فرح، هل لذلك علاقة بموضوع الزواج؟
وقف مأمون و قد هم بالانصراف بدوره قبل أن يفتضح اضطرابه، لكنها استوقفته حين وصل إلى المدخل و هي تقول في صوت مختنق من العبرات :
ـ لست أدري كيف أشكركم على كل ما فعلتموه معي في الفترة الماضية... أنا مدينة لكم بالكثير...

لم يلتفت إليها، لكنه همس في تأثر :
ـ كان ذلك واجبنا تجاه عمي نجيب... و عائلته... و إلا لكننا ناكرين للجميل...

أصغت إلى وقع خطواته التي ابتعدت إلى الداخل... احتضنت الظرف و ضمته إلى صدرها... كان آخر ما تبقى لها من حياة والدها. لكن هل ستصنع هذه الأموال و الممتلكات سعادتها؟ ربما كانت في حاجة إلى أكثر من ذلك... إلى عائلة حقيقية...





لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 11:20 AM   #33

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




الحلقة الأخيرة




أبعدت الهاتف عن أذنها حين دوت صرخة ثائرة من سحر و هي ترد على اتصالها :
ـ ليلـــــــى... أين اختفيت كل هذا الوقت!! قلقت عليك جـــــــــــــدا!!!

ابتسمت ليلى في حزن و هي تقول مهدئة :
ـ تلك قصة طويلة جدا... أمهليني حتى أخبرك بكل التفاصيل...

قاطعتها سحر على الفور و هي تهتف :
ـ أخبريني أولا... ماهي قصة زواجك؟!!

ـ زواجي؟ عمّ تتحدثين؟!!

ـ نعم زواجك من ابن خالك... و الدكتور عمر يرسل إليك تهانيه!! لم أصدق أذني حين قال ذلك حين رأيته بعد رجوعه بأيام قليلة... حسبته ذهب خاطبا فوجد نفسه معزيا، و إذا به يعود مهنئا! و الأدهى هو أنه ظن أنني قد أكون على علم بالمستجدات، لكنني صدمت للغاية...أخبريني ما القصة؟

سكتت ليلى و لم تنطق بكلمة... هكذا إذن يا فراس...
لبثت مطرقة في أسى، لقد عاشت الحلم لأسابيع قليلة... حلم كل فتاة في سنها، أن تلتقي فراس أحلامها و يطير بها على ظهر جواد أبيض... لكنها تجد نفسها مضطرة إلى التخلي عن الحلم... ستوليه ظهرها قبل أن تهنأ به. بات من المحتم عليها أن تنسى عمر و تستعد لمواجهة صعوبات حياتها الجديدة. لا يمكنه أن تطلب منه ترك حياته المستقرة الهادئة و خوض الأمواج المتلاطمة من أجلها... صحيح أنها لا تشك في شهامته و أخلاقه، لكن ما يجمعهما لا يعدو أن يكون إعجابا بين طالبة و أستاذها... و ذلك لا يجبره على التضحية بكل شيء لأن ظروفها لم تعد ملائمة!

صرخت فيها سحر مجددا :
ـ أخبريني بكل شيء... و بالتفصيل الممل!!

قصت عليها ليلى الأحداث الأخيرة المفجعة و ما صاحبها من ألم و قلق و معاناة... و ما إن فرغت من روايتها و أطلقت تنهيدة عميقة، حتى هتفت سحر في تأثر :
ـ يا الله! كل هذا يحصل في عائلة خالك! لا حول و لا قوة إلا بالله...

رسمت ليلى على شفتيها ابتسامة ساخرة و هي تقول :
ـ أغرب من الأشرطة العالمية!

صمتت سحر لبرهة قبل أن تستطرد مغيرة الموضوع، كأنها تذكرها بما تحاول تناسيه :
ـ الدكتور عمر تغير كثيرا في الفترة الأخيرة يا ليلى... أصبح أكثر تحفظا مع الطالبات و لم يعد منطلقا و مرحا كما كان... بدا لي متأثرا جدا... رغم أنه يحاول استعادة نسق حياته و الانغماس في العمل... و يحز في نفسي أنه خدع بتلك الطريقة... يجب أن يعلم بكل شيء الآن...

تمتمت ليلى و هي تحس بمرارة في حلقها :
ـ لن يغير ذلك من الأمر شيئا... الظروف لم تعد نفسها... ربما من الأفضل أن ينسى... أنا متأكدة أنه سينسى مع مرور الوقت...

هتفت سحر في اعتراض :
ـ لكن لماذا؟ مازال بالإمكان إصلاح كل شيء!

بلعت ريقها في صعوبة و هي ترد بصوت خافت :
ـ لم يعد من الممكن أن أعود إلى فرنسا يا سحر... أظنني سأستقر هنا... في بلدي...

ظهرت آثار الصدمة في صوت سحر و هي تقول :
ـ كيف تتركين عالمك بهذه السهولة؟ و دراستك؟ و تتركينني وحيدة؟ لقد اشتقت إليك كثيرا...

تنهدت ليلى و هي تداري دموعها التي توشك على التسلل و قالت مهدئة :
ـ لا تقلقي... سنظل على اتصال باستمرار، و سأزورك كلما سنحت الفرصة... كما أنني سجلت في الجامعة هنا، و سأهتم بدراستي جيدا...

ـ لكن لماذا؟ ليس هناك ما يربطك بتلك البلاد!

ردت ليلى في حزم :
ـ بلى يا سحر... بلى... لدي الكثير لأفعله هنا...


************



نزلت من السيارة و ضمت سترتها الخفيفة إلى جسدها بأوصال مرتجفة. ألقت نظرة على البوابة العملاقة الموصدة في توجس و خطت في اتجاهها...

ـ هل تريدين أن أعود لأخذك؟

التفتت إلى مأمون الذي يطل برأسه من نافذة السيارة و قالت بسرعة :
ـ لا تزعج نفسك... سأعود بسيارتي التي تركتها هنا...

ثم ابتسمت و هي تقول في مرح محاولة السيطرة على اضطرابها :
ـ اهتم جيدا بالأطفال في غيابي... هشام أخبرني إن لم يعطك خالك الحلوى التي وعدك بها!

أطل هشام بدوره و هو يهتف :
ـ حاضر خالة ليلى...

ثم ألقى على مأمون نظرة انتصار... فما دامت ليلى في صفه فهو سيحصل على الحلوى بالتأكيد. و سرعان ما ابتعدت السيارة و الطفلان يلوحان لها عبر الزجاج الخلفي... قبل أن تختفي في أحد الشوارع الجانبية. تنهدت ليلى و هي تتقدم في اتجاه مبنى القصر. أجالت بصرها في المكان كأنها تدخله للمرة الأولى. ابتسمت في حزن و هي تتذكر المرة الأولى التي قدمت فيها إلى هنا... كان ذلك منذ شهور أربعة تقريبا! كم كانت قاسية و حامية. هل كانت تتصور ما ينتظرها حين عبرت البوابة للمرة الأولى؟ و لا مثقال ذرة! وصلت إلى الشرفة دون أن يعترضها أحد. بدا كأن القصر مهجور... لم تر الحارس و لا أحدا من الخدم... أين ذهب الجميع؟

صعدت الدرجات المؤدية إلى البهو في بطء و حذر، ثم دفعت باب المدخل في هدوء... لمحت ظل امرأة متشحة بالسواد، تضع على رأسها حجابا و تهتم بتنظيف الأثاث في حركة بطيئة تنم عن الملل و الفتور. تأملتها في استغراب و فضول ثم تنحنحت لتلفت انتباهها. استدارت المرأة في ذعر، و حدقت في ليلى للحظات و على وجهها علامات عدم الاستيعاب، ثم هتفت في فرح حقيقي و هي تهب نحوها مرحبة :
ـ ليلى حبيبتي... أخيرا عدت!

عانقتها ليلى في دفء و مودة و التمعت الدموع في عينيها و هي ترى آثار الهموم على وجهها :
ـ منال كيف حالك... و كيف حال رانيا؟

مسحت منال دموعها بظاهر كفها و هي تهز رأسها و تبتسم :
ـ الحمد لله... الحمد لله على كل حال...

عادت ليلى لتعانقها بقوة أكبر و هي تهمس في أذنها :
ـ مبارك...

ضمتها منال بدورها و هي تجيب في صوت مختنق :
ـ كان يجب أن أفعلها منذ زمن... الحمد لله الذي هدانا إلى هذا... و ما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله...

ابتعدت ليلى عنها قليلا و نظرت إلى الخرقة التي بين يديها و قالت في تساؤل :
ـ أين الجميع؟ أين الخدم و الحارس و السائق؟ لماذا تنظفين بنفسك؟

تنهدت و هي تدعوها إلى الجلوس و قالت في مرارة :
ـ لقد تغير الحال يا عزيزتي... صرفنا الخدم و الحشم... و عن قريب سنضطر إلى مغادرة هذا المكان أيضا و نبحث عن شقة صغيرة تناسب الوضع الجديد...

حدقت فيها ليلى في دهشة، فتابعت منال موضحة :
ـ ستتم مصادرة جميع ممتلكات عمي نبيل... لتسديد الغرامة المالية الضخمة التي حكمت بها المحكمة... تم طلب الاستئناف، لكن الأمل ضئيل... إنها مسألة وقت فحسب قبل أن تهجم علينا القوى العامة و تطالبنا بإخلاء القصر و المزرعة... فضلا عن تسليم الشركة... حتى تعرض كلها في مزاد علني!

قبل أن تعلق ليلى، فتح الباب المطبخ و ظهرت الخالة مريم و هي تردي منديل الطبخ... و ما إن وقعت عيناها على ليلى حتى اتسعت عيناها دهشة و اندفعت نحوها مرحبة هي الأخرى... و بعد العناق و تبادل عبارات المواساة، كانت النساء الثلاثة يجلسن في البهو و قد خيم عليهن صمت ثقيل... لم يخف على ليلى جو التوتر السائد بين منال و المربية... ربما كان المصاب واحدا، لكن ياسين وشى بوالده و اتهمه في العلن، و لا شك أن الخلافات بين الولد و أبيه ستطول زوجة الولد و بقية أفراد العائلة...

تكلمت ليلى أخيرا لتسأل في حذر :
ـ كيف حال أمين... و فراس؟

ابتسمت منال في حزن و هي تقول و في عينيها نظرة ساهمة :
ـ رجال... رجال يعتمد عليهم حقا... أمين في العمل. قرر أن يعمل بالتوازي مع دراسته... و لعل ما حصل سيجعله يجتهد أكثر كي يحصل على شهادته هذه السنة. لم يعد هناك مجال للتكاسل و الدلال...

نظرت إليها دهشة في مزيج من الدهشة و الإعجاب :
ـ أمين يعمل؟!

الفكرة التي أخذتها عنه هي أنه شاب مدلل و محاط بجميع أسباب الرفاهية. لا يفكر. لا يعمل. و يحصل على كل ما يريد بأيسر السبل. و لم تكن تتوقع أنه سيتغير و يقف على قدميه بمثل هذه السرعة. بل لعلها كانت قلقة عليه أكثر من بقية أفراد الأسرة... فمنال امرأة مكافحة، من أصل ريفي. اجتهدت حتى تنجح في عملها و تصل إلى ما وصلت إليه قبل زواجها من ياسين... و فراس فتح عيادته الشخصية و يملك مورد رزق، لذلك لم تكن لتقلق على أحدهما. أما أمين الطفل الكبير، فإنها كانت تراه الأكثر قابلية للانهيار في ظروف مماثلة.

واصلت منال مؤكدة و هي تبتسم في مرح يتنافى مع الحزن الذي كان يكسو وجهها منذ لحظات :
ـ حصل على وظيفة في مكتب تسويق... و لا أظنه يجد صعوبة في البيع و الشراء و هو الذي تعود على اللقاءات الاجتماعية و يجيد فن التودد و الإقناع! كلها شهور قليلة قبل أن يحصل على شهادة الهندسة و يشتغل في المنصب الذي يناسب طموحاته...

هزت ليلى رأسها و هي تبتسم بدورها. كانت سعيدة للغاية من أجله...

في تلك اللحظة، فتح باب المدخل، و ظهر فراس و هو يحمل بعض المشتريات. التفت إلى الخالة مريم و بدا أنه لم يلاحظ وجود ليلى، و قال و هو يهم بالتوجه إلى المطبخ :
ـ سأضع هذه الحاجيات في المطبخ... هل الغداء جاهز؟

لكنه توقف فجأة و عاد ليدقق النظر في الجالسات في البهو، بعد أن التقط دماغه صورة غير مألوفة... أو لعلها لم تعد مألوفة بعد كل الأحداث الرهيبة التي توالت بعد لقائهما الأخير. حدق فيها في دهشة و كادت الأكياس تقع من بين يديه، لولا أن منال وقفت على الفور لتأخذها عنه. وقفت ليلى بدورها و اقتربت منه في هدوء و على شفتيها ابتسامة خفيفة :
ـ كيف حالك فراس؟

تمهل بعض ثوان قبل أن يرد بصوت هادئ خال من التعابير :
ـ الحمد لله...

لم تكن تشك في أن الشهور الماضية التي تلت وفاة والدها تركت آثارا في عيون الجميع. لكن الانكسار الذي رأته في عيني فراس في تلك اللحظة جعلها تدرك أنها كانت مخطئة في تقديرها... إنها تدرك الآن أن فراس كان أكثر المتأثرين بالأحداث الأخيرة. فقد وجد نفسه في وضع يحتم عليه تحمل مسؤولية العائلة كاملة... لم يكن بإمكانه التهاون في متابعة قضية والده و الاتصال المستمر بالمحامين، فهو يبقى والده رغم كل شيء... و كان في نفس الوقت يشرف على علاج أخيه الأكبر مع مجموعة من أصدقائه المتخصصين، لتجاوز الصدمة بأخف الأضرار. كما أن منال و ابنتها و الخالة مريم و أمين... كلهم يعقدون الأمل عليه، لأنه رجل البيت الآن! بدا كأن الوقت و الجهد الذين يقدمهما لعائلته بكل سخاء يقتطعان الشيء الكثير من صحته... فظهرت علامات الذبول في ثنايا وجهه، و ازداد جسمه نحافة بشكل ملحوظ في أشهر معدودة...

طالعته ليلى في أسف و هي تقاوم الدموع التي تجمعت في عينيها. إنه لا يزال صامدا رغم كل شيء، و يتقبل قدره برحابة صدر يحسد عليها. رجل يا فراس... رجل أنت! تكلم أخيرا ليقول في شيء من المرارة :
ـ أرجو أن حياتك تسير بحال أفضل مما هي عليه هنا...

أطرقت برأسها و قالت في ضيق :
ـ أنت تعلم أنني لا يمكن أن أشمت في خالي و عائلته مهما حصل... حتى و إن كنت أعلم أنه كان يطمع في ثروة والدي! إنما جئت لأزوركم و أطمئن إلى حالكم... فإن كان وجودي غير مرغوب فيه، فإنني سأغادر على الفور...

استوقفها بسرعة و هو يحاول تدارك موقفه، و قال في ارتباك :
ـ ليس ذلك ما قصدته... أنت فرد من العائلة، و ستظلين كذلك... لكن ما حصل لم يترك لي ذرة تركيز... الظروف تغيرت يا ليلى, تغيرت كثيرا...

ابتسمت و هي ترفع عينيها و تقول في دفء :
ـ أنتم عائلتي التي لن أتخلى عنها بعد إذ وجدتها... اعتبرني أختك الصغيرة، و ستجدني دائما إلى جانبك...


***********



أوقفت السيارة في حدة و قفزت منها على عجل... لبثت تفكر طوال رحلة العودة إلى الضاحية الجنوبية، و وجدت نفسها في غاية الحماس للفكرة الجديدة التي راودتها. لم تستطع الانتظار أكثر قبل البدء في تنفيذ الخطوات التي قررتها... دخلت إلى المنزل و هي تلهث من فرط الانفعال و الركض. حين دلفت إلى غرفة الجلوس ألفت هالة و طفليها جالسين أمام التلفاز، تلفتت حولها كأنها تبحث عن شيء مفقود ثم هتفت :
ـ أين مأمون؟

فتح باب الحمام و خرج مأمون على الفور ،بعد أن سمع هتاف ليلى و وقع خطواتها المستعجلة، و هو لا يزال يمسح يديه في المنشفة و اقترب منها في قلق :
ـ أنا هنا... ما الأمر؟

ألقت حقيبتها الصغيرة على الأريكة و جلست و هي تأخذ نفسا عميقا، ثم قالت و نظراتها تشع حماسا و تفاؤلا :
ـ أين وصلت في بحثك عن عمل؟

بدا عليه الارتباك و هو يجيب :
ـ أجريت بعض مقابلات... هناك بعض العروض المغرية... لكنني لم أحسم أمري بعد...

انحنت إلى الأمام و هي تقول و على شفتيها ابتسامة واثقة :
ـ لدي عرض أكثر إغراءا من كل العروض الموجودة في السوق!

حدق فيها في دهشة و تساؤل فواصلت موضحة :
ـ تعلم أن شركة خالي و جميع ممتلكاته ستعرض قريبا للبيع في مزاد علني... أريدك أن تلتقي بالمحامين و المشرفين القانونيين عن عملية البيع، و تحاول بأي ثمن أن تحصل على الصفقة!

التمعت في عينيه نظرة انتصار و هو يقول مؤيدا :
ـ لا شك أنك ستحصلين عليها بثمن زهيد لا يقارن بقيمتها الحقيقية! و أشك في وجود الكثيرين ممن يهتمون بالشراء و يملكون السيولة الكافية للدفع الفوري... إنها صفقة ممتازة بالفعل! كما أنه أصبح من الصعب في أيامنا إيجاد قصر في مثل فخامة قصر آل القاسمي و جمال موقعه...

ابتسمت ليلى في عتاب و هي تقول :
ـ لا يا مأمون... أنا لست في حاجة إلى القصر لأسكن فيه... لم أتعود حياة القصور و لا أريد أن أتعودها... لكنني أريد لأهله أن يظلوا فيه... يكفيهم ما رأوه من المصائب، و لا أريد لهم أن يتشردوا بعد عيشة العز و الرفاهية...

أطرق مأمون في خجل من نفسه... و إكبارا لموقفها الكريم، لكنه ما لبث أن قال في تساؤل :
ـ لكن هذه المهمة ستشغلني لأسابيع معدودة... و يمكنني الاهتمام بها في نفس الوقت مع عملي الجديد...

لوحت ليلى بسبابتها نافية و هي تبتسم في سرور :
ـ ليست هذه إلا مرحلة الاستعداد للعمل الحقيقي... يا حضرة المدير!

عقد حاجبيه في عدم استيعاب، فأردفت موضحة :
ـ الشركة التي سنشتريها، ليس هناك من هو في مثل كفاءتك و خبرتك ممن يمكنني أن أثق فيهم لتولي إدارتها... و أنا كما تعلم، يجب أن أهتم بتعليمي و شهادة الدكتوراه... لذلك ستكون لك السلطة الكاملة على الشركة...

عقدت الدهشة لسان مأمون الذي لبث يحدق في الفراغ لوهلة و هو يحبس بصعوبة دمعة تأثر استقرت عند طرف عينه... أما هالة التي كانت تستمع إلى حديثهما في صمت لم تتمالك نفسها أن أطلقت زغرودة تردد صداها في البناية. و لم يضيع هشام و فرح الفرصة، فأخذا في الهتاف و القفز على الأرائك في مرح و حبور...



**********


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 11:21 AM   #34

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


جلس مأمون أمام مقود سيارته المتوقفة قبالة سكن الطالبات و أخذ ينقر بأصابعه على عجلة القيادة في توتر و قلق... ليس يدري كيف طاوع هالة و جاء إلى هنا في هذا اليوم رغم أنه كان يعارض الموضوع بشدة في البداية... لكن أمورا كثيرة تغيرت و جعلته يغير رأيه، حتى أنه لم يقاوم كثيرا حين فاتحته هالة في الأمر من جديد...

مضت أكثر من سنة على توليه إدارة شركة عائلة القاسمي، التي أصبحت ملكا للوريثة الوحيدة لعائلة كامل... صحيح أنه لاقى بعض الصعوبات في البداية حتى يعيد الشركة إلى الطريق القويم. فقد كانت هناك تصفية كبيرة في صفوف الموظفين ليتخلص من الفساد الإداري و المالي، و كان ياسين خير عون له في تلك المهمة، بعد أن تماثل للشفاء و استعاد بعض توازنه، نظرا لمعرفته الوثيقة بتفاصيل العمل في العهد السابق و صلته بجميع طبقات العاملين تحت لواء والده. ثم كانت رحلة طويلة لتوظيف مسؤولين جدد و عدد كبير من المقابلات و الاختبارات... كأن الشركة تفتح أبوابها للمرة الأولى! لكن الحظ حالفه حقا و نجح في انتقاء المساعدين المناسبين في فترة وجيزة. و الآن و قد مرت سنة كاملة على إعادة الأمور إلى نصابها فإنه ينظر بعين الرضا إلى مردود الشركة و حساباتها التي تمضي في تحسن مستمر...

ليلى اختارت أن تهتم بدراستها و تركت له كافة مسؤوليات الشركة، حتى أنها لم تكن تهتم بالمراجعة المستمرة للحسابات. و مع ذلك فإنه كان يلح عليها في كل مرة حتى تحضر اجتماعات مجلس الإدارة الشهرية و تتابع بنفسها التقدم الذي تحرزه الأعمال... فهي تظل المالكة الفعلية و إن لم تباشر العمل بنفسها. و عدا تلك اللقاءات المتعلقة بالعمل، لم يعد يراها كثيرا، خاصة منذ مغادرتها منزل هالة و انتقالها إلى سكن الطالبات. كان ذلك الخيار الأفضل بالنسبة إليها، حتى لا تحس بالضيق في وجود أحمد زوج هالة و لا تشعر أنها تشكل عبءا على العائلة، و في نفس الوقت تتجنب السكن بمفردها في شقة مستقلة نظرا لإصرارها على عدم العودة للسكن مع عائلة خالها... على الأقل يمكنها أن تشعر ببعض الأمان وسط فتيات في مثل سنها، و في سكن محمي و مراقب من قبل الوزارة...

رفع بصره للمرة المائة في نصف الساعة التي مرت على انتظاره أمام المبنى، لينظر إلى نافذة الغرفة التي يعلم أنها تسكنها، فقد اهتم مع هالة بتهيئة جميع الظروف المناسبة لإقامتها... من المؤكد أنها لم تكن في حاجة إلى المال حتى تقتني لنفسها ما يلزمها لمسكنها الجديد، لكنها كانت تفتقد حب الحياة. فبعد وفاة والدها أصبحت تحس بفراغ كبير و ثقيل... لم تعد تجد في نفسها الرغبة في الاهتمام بنفسها و النظر في شؤون حياتها. إحساسها بالوحدة و الضياع لازماها لبضعة شهور... لكن الحمد لله، قرارها بمواصلة الدراسة نفسه يعد خطوة جيدة إلى الأمام... و لا شك أنها ستتعود رويدا رويدا على نسق حياتها الجديدة... على حياة بدون أب، الأب الذي كان كل عائلتها...

حين حادثته هالة في الموضوع للمرة الأولى، رفض بشدة و لم يرغب في مناقشة الأمر أصلا... كان يحس أنه مسؤول عن ليلى بعد رحيل والدها، و واجبه يملي عليه أن يكون إلى جانبها وفاءا لذكرى الوالد المحب الذي كانه نجيب... لكنه لم يقبل أن يعرض عليها عرضا كهذا و هو يعلم مقدار حاجتها إلى رجل في حياتها و مدى إحساسها بالوحشة. و لم يكن ليرضى بأي حال من الأحوال أن يبني زواجه على استغلال حاجتها تلك. يعلم أنها لم تكن لترفض... فلم تكن أمامها خيارات كثيرة! فهي كانت تقيم عند أخته، و هو كان يهتم بإدارة مصالحها. و بدون وجوده هو و هالة إلى جانبها لكانت وجدت نفسها وحيدة، أو ربما كان خالها تمكن من الاستيلاء على أموالها دون أن تملك فعل شيء يذكر... لذلك فهي كانت في موقف ضعف، و ضعفها ذاك كان ليجعلها تقدم تنازلات كثيرة. ربما كانت تثق فيه، و ربما كانت تتقبل شخصه... لكن كبرياءه لم تسمح له بالإقدام على تلك الخطوة. فهي ربما تقبل به في تلك الظروف الخاصة، و لكن بعض الشك سيبقى في نفسه بأن إجابتها قد تكون مغايرة، في ظروف مغايرة...

لا ينكر أن اقتراح هالة وافق هواه، و يكذب على نفسه و على العالم إن قال أنه لم يرمقها بنظرات إعجاب خفي منذ أن بدأ يلاحظ نضجها و دخولها مرحلة الشباب... لكنه لم يجرؤ على فعل شيء في حياة والدها. كان يخشى من عواقب تلك الخطوة المتهورة. السيد نجيب كان يحبه مثل ولده، و يهتم لأمره كثيرا... قربه من و من عائلته رغم الفوارق الاجتماعية، و خصه بمركز هام في شركته حتى خيل إليه في مرات عدة أنه يعده لخلافته في أعماله! لكنه لم يشأ أن يستسلم لتلك الأحلام. أو ربما استكثر على نفسه كل تلك النعم التي لم يحسب لها حسابا! إدارة شركة كبرى و زوجة شابة، ملتزمة و لامعة... كان يفيق من أحلامه في كل مرة فيصطدم بواقع عائلته و حياته. صحيح أنه كان يعمل باجتهاد و يثبت جدارته و كفاءته باستمرار، لكنه يبقى موظفا عند والدها... و تبقى هي ابنة السفير السابق و رجل الأعمال المعروف! فيكتشف في مرارة أنه لا يوجد سبب وجيه يجعله يحضى بتلك العطية دونا عن أبناء السفراء و رجال الأعمال الذين سيكونون دون شك أقرب إلى مواصفات رجل الأحلام الذي تحلم به فتاة في مثل مركزها! و لم يجد بدا من التسليم و العودة إلى رشده، خشية أن يقع في عواقب وخيمة لتهوره. فلم يكن يتخيل للحظة أن يهد تلك الصداقة العميقة و الأخوة الصادقة التي تربط العائلتين بطلب أرعن يتجاوز به الحدود المسموح بها... و كانت ثقة السيد نجيب، والده الثاني، أغلى عنده من أن يهدرها بتلك السهولة لهثا وراء السراب...

و بقي على تلك الحال سنوات عديدة، لا يكاد يفكر في الزواج رغم ملاحقة أمه و أخته له مذكرتين إياه بقرب إتمامه العقد الثالث من عمره. لكنه لم يكن يهتم... أو لعل حلمه الوردي لم يشأ أن يتخلى عنه تماما، طالما كان هناك بصيص من الأمل... يظهر حينا و يختفي حينا آخر... و هاهو اليوم، و بعد طول لأي يقف ذلك الموقف العصيب الذي تخيل نفسه يقفه مرات و مرات... ينتظر الحكم الذي قد يكون إعداما! ماذا لو رفضته؟ كيف يمكنه أن ينظر في وجهها أو يخاطبها في المستقبل؟ يعلم أنها تعتبره أخا. و قد كان لها كذلك لزمن طويل. فكيف يسمح لنفسه بتشويه تلك العلاقة البريئة الطاهرة؟ لن تعود علاقتهما مثل السابق أبدا... فقد اكتشفت أن نياته تجاهها تشوبها شائبة! غطى وجهه بكفيه في ألم. لا يمكنه أن يتخيل النتائج...

لكن إقدامه على هذه الخطوة جاء بعد تفكير طويل... فهو إن لم يعرض عليها الزواج، فلن يصله جواب أبدا! و ربما يندم فيما بعد إن تقدم إليها أحد الطامعين في ثروتها و استغل وحدتها و حاجتها و هو لا يستحقها... حينئذ لن ينفعه الندم بعد فوات الأوان. كما أنه الآن أصبح مديرا لشركة، و دخله ممتاز... صحيح أنه يتقاضى راتبه من أموالها، لكنه على الأقل لن يضطر إلى لمس مليم واحد من ثروتها حتى يضمن لها ظروف عيش قريبة من ظروف حياتها السابقة. لا يشك لحظة واحدة في أنها ستجرحه يوما لكونه من مستوى أدنى من مستواها، فهي لم تفعلها مرة واحدة منذ عرفها طفلة، و لا يظنها تفكر مطلقا بتلك الطريقة. لكن كبرياءه تأبى عليه ذلك...

تنهد مجددا و هو يطالع ساعته التي كانت xxxxبها تتلكأ و تتباطأ كأنها تسخر من انتظاره البليد... مضت ساعة كاملة على غياب هالة داخل المبنى. فيم تراهما تتحدثان كل هذا الوقت؟ ألم يكن بوسعها أن تدخل في الموضوع مباشرة و تعود بالجواب؟ ألا تدري أنه يحترق في الخارج من حرارة الطقس و حرارة الانتظار!!

أخيرا، لمحها تخرج و تسير بخطوات وئيدة في اتجاه السيارة. تعلقت عيناه بوجهها يبحث فيه عن إجابة شافية. لكن ملامحها كانت خالية من أي تعبير. رمت بنفسها على الكرسي المجاور له دون أن تنطق. و حين أحست بجموده التفتت إليه في هدوء و هي تقول متسائلة :
ـ ألن تنطلق؟

كان آخر قطرات الصبر التي حافظ عليها إلى تلك اللحظة قد نفدت، فهتف في لهفة مخلوطة بغضب خفيف لبرودها و لامبالاتها :
ـ أخبريني... ماذا قالت؟

رمقته هالة بطرف عينها في دهاء و هي تقول في لهجة ساخرة :
ـ كنت أظنك غير راغب في الموضوع... و ما جئت اليوم إلا استجابة لإلحاحي!

زفر مأمون في غيظ و هتف في توسل :
ـ انطقي أرجوك و كفاك لعبا بأعصابي!

عندئذ ارتسمت ابتسامة على وجهها و هي تقول في طمأنة :
ـ طلبت وقتا للتفكير... فليس من المعقول أن تقرر في لحظات... إنه زواج و مستقبل كما تعلم...

تنهد في ضيق و هو يدير محرك السيارة استعدادا للانطلاق... يجب أن ينتظر بضعة أيام أخرى قبل أن يصدر الحكم. صبر جميل و الله المستعان. رنت إليه هالة من جديد و هي تقول هامسة :
ـ لا تقلق... بدت لي أقرب إلى الموافقة منها إلى الرفض...


***********



جلس على حافة البحر، الصديق الوفي الذي تعود إلى الشكوى إليه دون غيره... فهو يحمل كل أسراره و لا يفشيها أبدا... و استند بمرفقه إلى ركبته و هو يضع كفه على خده في استسلام. لم يعد أمامه سوى الاستسلام... بل لعل هذا الطبع لازمه منذ زمن بعيد، حتى ألف البكاء على الأطلال و التحسر بعد فوات الأوان...

اليوم زفافها! اليوم تصبح حليلة رجل غيره...

لماذا يؤلمه ذلك؟ ألم يعود نفسه على نسيانها منذ شهور طويلة؟ كان يعلم أن أمله قد اندثر منذ غادرت القصر هاربة و اختارت اللجوء إلى رجل آخر ليحميها. و هو بالفعل كان قادرا على حمايتها... على حمايتها من نفسه قبل كل شيء! في حين أنه هو لم يقدر على المحافظة على ثقتها التي وضعتها فيه. و تصرف بقلبه قبل أن يحكم عقله. و ذاك عيبه الدائم الذي كان و لا يزال يكلفه الكثير...

تنهد بعمق و هو يبعثر بأصابعه ذرات الرمال المبللة على الشاطئ... ترك أصابعه تغوص في الأرض و التقط حفنة من الرمال و تركها تتناثر ببطء حتى أضحت راحته يده فارغة. هكذا تفر منه دقائق حياته في رتابة و هدوء و هو غير قادر على اللحاق بها قبل أن تضيع. إلى متى ستعيش هكذا يا فراس؟ إلى متى تترك الظروف تتغلب عليك، فتضحي بأحلامك و آمالك في كل مرة لتضحي من أجل غيرك؟ من أجل العائلة... من أجل الشركة... من أجل الإنسانية!! و أنت، متى تعيش حياتك و تصنع مستقبلك؟ إلى متى ستتحكم فيك حساسيتك المفرطة و عاطفيتك الزائدة عن الحاجة؟ ربما آن الأوان لتبدأ بداية جديدة. بداية حقيقية يكون فيها نصيب لنفسك... على أسس سليمة لا تسيطر عليها المشاعر...

التقط حصاة صغيرة و رمى بها في اتجاه البحر لتبتلعها الأمواج في شراهة، كأنه يتخلص من بقايا التخاذل التي في نفسه. ثم هب واقفا على قدميه و قد امتلأ قلبه غضبا و ثورة... أنت قادر على بناء حياتك من جديد، و لن يثنيك شيء عن عزمك...

ارتفع رنين هاتفه بلحن مزعج ليقطع عليه حبل أفكاره. نظر إلى الرقم المتصل ثم عقد حاجبيه في استياء. رد على الاتصال، فجاءه صوتها متكسرا مائعا كالعادة و هي تسأله أين يكون. أجاب في حزم قاطع لم يعهد في نفسه :
ـ رجاء... أرجوك، حاولي أن تفهميني هذه المرة... لا أمل في مستقبل يجمعنا... إن كنت تريدين أن نحافظ على علاقة عائلية محترمة، فانسي هذا الرقم!

كانت علاقته بها إلى تلك الآونة يشوبها الكثير من التردد. يخشى أن يجرح مشاعرها أو يصدها بطريقة عنيفة تؤلمها... و ذاك ما جعلها تتمادى طوال السنين الماضية. ربما كانت تلك خطوة أولى في بناء شخصيته الجديدة. وداعا لفراس العاطفي المستسلم!

تلعثمت رجاء و قد صدمتها لهجته، حاولت أن تقول شيئا، لكنه عاجلها بقوله :
ـ إن لم يكن لديك أمر يسحق، فإنني مضطر إلى قطع الاتصال!

أنهى المكالمة... ثم تنهد في ارتياح. أنت على الطريق الصحيح...


**********



وقفت أمام قبر والدها و أخذت تملأ الإناء الذي يعلو سطح القبر بالماء... راقبت العصافير و هي تقترب لترتوي من الإناء و تلتقط حبات القمح التي نثرتها على الحجارة، و علت شفتيها ابتسامة هادئة... لعل أجر سقاية الماء يخفف عن والدها و يرزقه الرحمة... مضت سنتان كاملتان على رحيله عن هذه الدنيا. كانت تظن أن حياتها من بعده ستكون بلا معنى... لكنها توقن الآن أن الحياة لا تتوقف برحيل الأحبة، و أن الله عوضها عن والدها خير تعويض... زوج عطوف، يحنو عليها و يحسن رعايتها، تحس بالسعادة بقربه كل يوم أكثر من اليوم السابق.

رنت بعينيها إلى القبر، كأنها تحاول اختراق الحدود المادية لتصل إلى روح الراقد تحت الثرى، و خاطبته بقلبها... أبي، أعلم أنك سعيد من أجلي الآن. و أعلم أنك لو كنت على قيد الحياة لكنت باركت اختياري و أقررتني عليه. مأمون شخص ممتاز يا أبي. ليس في العمل و الإدارة و حسب، بل في كل صفاته و طباعه. هل تعلم... كنت في حيرة من أمري حين تقدم إلي. ليس لعيب أجد فيه، فأنا لم أر إلا الخير سواء منه أو من عائلته... لكنني لم أكن مستعدة لتلك النقلة في حياتي، و كنت أرفض فكرة الزواج... لكنني استخرت الله كما علمتني، و سألته أن يهديني الخيار الصواب... فوجدت في نفسي ارتياحا و انشراحا عجيبين و سارت الأمور بسهولة لم أتصورها...

أبي... أنا اخترت أن أظل في وطني و أستثمر أموالك في مشاريع محلية، تعود بالفائدة على البلاد و أهلها. أعلم أنها كانت رغبتك منذ زمن... لكن ظروف الحياة أخذتك و شغلتك. و ها أنا أحقق رغبتك و لو بعد رحيلك. مؤسف أن تضيع جهود أبنائنا و خيرة شبابنا و أموال مستثمرينا و رجال أعمالنا لخدمة بلاد غير بلادنا... لكنني لم أفهم ذلك إلا بعد أن عدت إلى هنا. بعد أن عرفت معنى العائلة... و معنى الوطن. أنا التي عاشت طوال حياتها دون وطن... لست ألومك الآن. فقد علمتني الدين و سقيتني المبادئ منذ نعومة أظفاري... لكن فاقد الشيء لا يعطيه. و أنت كنت تفتقد العائلة، و الوطن...

تحسست بطنها الذي كان آخذا في التكور و الانتفاخ... لن أحرم طفلي من هذه المعاني. و أملي أن يعرف حنان الوالدين و الاستقرار الذين لم أعرفهما... أسأل الله أن يوفقني... دعواتي لك بالرحمة...

ـ ليلى... يجب أن نذهب الآن... هالة اتصلت تستعجلنا...

التفتت إلى مأمون الذي كان يقف غير بعيد عنها ليمنحها خلوة قصيرة مع نفسها، تناجي روح والدها و تدعو له... طالعها بابتسامة عذبة و هو يقول هامسا :
ـ هيا بنا يا حبيبتي...

التقط كفها الصغيرة و دفأها بين كفيه و هما يسيران نحو السيارة، كأي زوجين محبين ينتظران طفلهما الأول، و قد علت وجهيهما علامات التفاؤل و الانسجام...


**********



أدار العم صابر باب المخزن و دفع بالعربة التي تحمل كميات من أوراق الملفات و الجرائد إلى الداخل. كان في الغرفة السفلية رفوف طويلة كدست عليها أكوام هائلة من الورق القديم الذي لا قيمة له، لكن جرت العادة منذ أيام السيد نبيل بالاحتفاظ بها فترة من الزمن، ربما تطول لبضعة سنوات، قبل أن يرسل الكمية إلى معامل رسكلة الورق... ربما لم يكن الربح المادي الناتج عن تلك المبادلة هاما، لكنها عادة سار عليها و لم يجد داعيا للتخلي عنها!

أخذ يحمل أكداس الورق و يرتبها على أحد الرفوف الخالية و هو يتأفف من الغبار الذي يتناثر حوله من ألواح الخشب المتسخة. فجأة سقطت كومة من الورق كانت على الرف العلوي بسبب ارتجاج الخزانة. فانحنى ليجمعها في صبر و أناة. كان قد حافظ على عمله في القصر بعد أن اشترته السيدة ليلى. أقنعت ياسين بأن القصر ماهو إلا تعويض عن الخسائر التي طالت العائلة كلها دون أن يكون لها ذنب في ما اقترفه السيد نبيل... و بما أنها اشترت القصر و الشركة و المزرعة بما يعادل ثمن الشركة وحدها في الظروف العادية، فإنها تركت للعائلة حرية التصرف في القصر و المزرعة، طالما أنها لم تكن تحتاجها. و رغم عدم اقتناع فراس و أمين، إلا أن منال ضغطت على ياسين حتى يقتنع بالعرض... و سارت الأمور كما أرادت! تنهد و هو يتذكر تلك الأيام العصيبة... السيدة ليلى و السيد مأمون كانا في غاية اللطف و الكرم و كانا يسعده أن حسده لم يخب في تقديره لأخلاق السيد مأمون حين لقيه للمرة الأولى. كانت ليلى قد قدمت حديثا للسكن في القصر، و مأمون كان يشرف على بعض المعاملات الخاصة بالسيد نجيب في الشركة. و بحكم تنقله المتكرر من الشركة و إليها ليحمل بعض الحاجيات التي يوصيه عليها السيد نبيل من القصر، فإنه كان يصادفه مرارا... و شيئا فشيئا نشأ بينهما حوار لطيف. و لم يكن مأمون يطلبه منه شيئا سوى أن يطمئنه على أحوال ليلى و ظروف إقامتها عند خالها... فهو كان يعرفها منذ زمن طويل، و علاقته بوالدها وطيدة للغاية... و لم يقصر العم صابر في نقل أخبارها إليه و كل ما أمكنه ملاحظته عن حياتها الجديدة... و سره أن يتضح إليه فيما بعد أنه كان ذا نفع في حماية ليلى من بطش خالها و طمعه...

فجأة انتبه حين وقعت عيناه على جريدة قديمة، تتصدر صفحتها الأولى صورة كل من السيد نبيل و ياسين إبان المحاكمة الشهيرة التي واجه فيها الولد أباه. ابتسم العم صابر في مرارة و هي يتخذ مجلسه على كرسي قديم يستخدمه لتنظيم الورق على الرفوف العلوية و أخذ يقرأ المقال كأنه يسترجع الماضي المر الذي بالكاد تجاوزته العائلة... توقفت عيناه عند المقطع الذي يصف التهم التي وجهها ياسين إلى والده، و من بينها تهمة القتل... قرأ الفقرة و علامات الدهشة ترتسم على وجهه بقوة متزايدة... لم يكن قد تابع تفاصيل المحاكمة في تلك الفترة، فكل ما شغله هو ضياع العمل و تشرد عائلته التي كان عائلها الوحيد. لذلك فإنه لم يركز على دقائق الأمور و الأدلة، بقدر ما همه الحكم النهائي و مصير القصر و سكانه... تمهل و هو يعيد القراءة في تمعن. كان ياسين يستند في اتهامه على دليلين... الدليل الأول هو مذكرات حنان التي تصف فيها هيئة أماني ساعة وفاتها. فقد بدت هادئة و مرتاحة مقارنة بالوضع المؤلم الذي كانت عليه. و الدليل الثاني هي علبة حبوب مخدرة، فارغة، عثر عليها بعد وفاة حنان نفسها... و ذلك ما جعله يستنتج أن "القتيلتين" وقع تخديرهما بالحبوب ثم وقع قتلهما بخنجريهما بطريقة تشبه طريقة انتحار السيدة هاجر!! لكن أقوال ياسين المتداخلة و غياب أدلة قاطعة تورط السيد نبيل في الجريمتين جعلا المحكمة تسقط التهمة، و تكتفي بالنظر في التهم الباقية التي كانت تستند إلى أدلة حقيقية...

سقطت الجريدة من بين يدي العم صابر و أخذ يحدق في الفراغ في ذهول... إنه يذكر الآن جيدا، أن السيد نبيل كان قد طلب منه في مناسبتين يذكرهما جيدا أن يشتري له علبة حبوب مخدرة! كان يدعي أن أرقا يصيبه بين الفترة و الأخرى، فيحتاج إلى تلك الحبوب لتهدئة أعصابه. و رغم صعوبة الحصول عليها بدون وصفة طبية، إلا أنه كان يتدبر أمره في كل مرة. و السيد نبيل لم يكن يتوانى في دفع المبالغ اللازمة... لكن و لعجيب الصدف، فإن المناسبتين كانتا تسبقان انتحار كل من أماني و حنان بأيام قليلة!! لم يكن في تلك الآونة ليربط الأحداث ببعضها بأي شكل من الأشكال. لكن الآن، و هو يقرأ اتهامات ياسين، بدأت أمور كثيرة تتضح في رأسه...

لبث للحظات ساهما لا يكاد يأتي بحركة. لكنه في النهاية وقف و هو يمسح وجهه بكفه في توتر. لم يعد ينفع الآن أن يتوجه إلى المحكمة و يطلب الشهادة. و على أية حال، فإن شهادته لن تغير من الأمر شيئا... فالحكم الصادر بشأن السيد نبيل يكفي ليقضي بقية أيام حياته وراء القضبان...
عاد إلى عمله في شيء من الفتور... و مسحة من الحزن تغطي وجهه...



*** تمت بحمد الله ***




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 31-12-15, 09:56 AM   #35

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 24-05-16, 02:45 PM   #36

محبة القراءة

? العضوٌ??? » 356037
?  التسِجيلٌ » Oct 2015
? مشَارَ?اتْي » 664
?  نُقآطِيْ » محبة القراءة is on a distinguished road
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .

محبة القراءة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 18-11-19, 01:17 AM   #37

tia azar

? العضوٌ??? » 354006
?  التسِجيلٌ » Sep 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,794
?  نُقآطِيْ » tia azar is on a distinguished road
افتراضي

رواية رائعة جدا شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .

tia azar غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:16 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.