آخر 10 مشاركات
ارقصي عبثاً على أوتاري-قلوب غربية(47)-[حصرياً]للكاتبة::سعيدة أنير*كاملة+رابط*مميزة* (الكاتـب : سعيدة أنير - )           »          ليلة مع زوجها المنسي (166) للكاتبة : Annie West .. كاملة (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          سحر التميمة (3) *مميزة ومكتملة*.. سلسلة قلوب تحكي (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          حصريا .. تحميل رواية الملعونة pdf للكاتبة أميرة المضحي (الكاتـب : مختلف - )           »          بين نبضة قلب و أخرى *مميزة ومكتملة * (الكاتـب : أغاني الشتاء.. - )           »          جنون المطر (الجزء الثاني)،للكاتبة الرااااائعة/ برد المشاعر،ليبية فصحى"مميزة " (الكاتـب : فيتامين سي - )           »          حصريا .. رواية في ديسمبر تنتهي كل الأحلام .. النسخة الكاملة للكاتبة أثير عبدالله (الكاتـب : مختلف - )           »          حصريا .. تحميل رواية رمانة فارس والهيئة للكاتبة السعودية شادية عسكر (الكاتـب : مختلف - )           »          27 - مطار 77 (الكاتـب : MooNy87 - )           »          40 - عن الطيور نحكى (الكاتـب : MooNy87 - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة > روايات اللغة العربية الفصحى المنقولة

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 23-01-15, 01:02 PM   #1

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Rewitysmile25 يا قاتلي، أين المفر...؟ / للكاتبة مرام الحياة ، فصحى مكتملة





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نقدم لكم رواية
يا قاتلي، أين المفر...؟
للكاتبة مرام الحياة



قراءة ممتعة لكم جميعاً



التعديل الأخير تم بواسطة لامارا ; 28-05-15 الساعة 10:37 AM
لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 10:38 AM   #2

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

رابط لتحميل الرواية

https://www.rewity.com/forum/t323321.html#post10322098

السلام عليكم و رحمة الله و بركاته

أنا جديدة على المنتدى
و هذه أول رواية أنشرها على صفحاته
إن وجدت منكم تشجيعا و متابعة فسأواصل بإذن الله نشر بقية رواياتي على صفحاته

الرواية ستكون إن شاء الله مختلفة جدا عن كل ما قرأتموه على المنتديات بصفة عامة
رواية بالعربية الفصحى لسهولة الفهم بالنسبة للجميع
رواية رومانسية، لكنها أيضا ذات طابع بوليسي تشويقي تلمحونه منذ الجزء الأول

الرواية مكتملة عندي، لذلك لن يحصل تأخير في نشر الأجزاء إن شاء الله

نبدأ على بركة الله مع الجزء الأول....






التعديل الأخير تم بواسطة فيتامين سي ; 31-05-15 الساعة 04:45 AM
لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 10:39 AM   #3

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الجــــــــــزء الأول






رفع نبيل القاسمي سماعة الهاتف، و بدا على وجهه الارتياح و هو يستمع إلى صوت مخاطبه :
ـ أهلا نجيب... نعم... نعم... لقد جهزت كل شيء لاستقبال ليلى... اطمئن... فراس؟... أعلم أنه شديد الحساسية... ربما لن يتقبل الأمر بسهولة في البداية، لكنني سأكون إلى جانبها... لا داعي للقلق... دعني أتصرف...

في تلك اللحظة ترامى إلى مسامعه صوت منبه سيارة في الحديقة الخارجية للقصر... فتطلع من النافذة قبل أن يستطرد :
ـ لقد وصلت السيارة... سأحدثك لاحقا...

وضع السماعة و عدل سترته ثم خطا بثقة نحو البهو...

توقفت سيارة رياضية فاخرة أمام الباب الرئيسي للقصر، بعد أن عبرت الممر الطويل الممهد، المؤدي إلى البوابة الخارجية... نزلت الراكبة الوحيدة ليلى كامل في حركة رشيقة... تناولت حقيبة يدها ثم سلمت الخادم الذي تقدم إليها مفاتيح السيارة... ألقت نظرة فاحصة على الحديقة الخلابة فاسترعت انتباهها ورود حمراء آسرة جعلت ابتسامة خفيفة ترتسم على شفتيها، ثم استدارت لتتأمل واجهة المبنى الشامخ المنتصب أمامها، و قد لاحت في عينيها علامات الدهشة و الإعجاب... لكنها ما لبثت أن ابتسمت في ثقة و هي تسوي حجابها و تقدمت بخطى ثابتة لتصعد درجات السلم الحجري المؤدي إلى المدخل... انحنى أمامها الخادم العجوز ثم سبقها إلى الداخل...

كان بهو الاستقبال عبارة عن صالة فخمة ذات أثاث كلاسيكي قديم، وزعت قطعه بذوق و براعة في نظام جذاب... تتوسط القاعة زربية فارسية ذات رسوم و زخارف متناسقة، ألوانها شاحبة تحاكي ألوان الخريف... و في صدر المجلس تربعت أريكة ضخمة من خشب الأبنوس، خمنت على الفور أنها من طراز لويس الرابع عشر، تحيط بها مقاعد من نفس النوع، بنفس الزخرفة الثقيلة... و في المقابل كانت هنالك منضدة زجاجية متوسطة الحجم من الإبداع الصيني، لا تخطئ العين ألوانها المميزة... انجذبت عيناها تجاه مزهرية بلورية تراصت فيها نفس الورود الحمراء التي لمحتها منذ قليل في الحديقة، تضفي على جو القاعة رونقا فريدا... و على مساحة الحائط، امتدت لوحة فنية تمثل غابة كثيفة مظلمة في شتاء قارس... و على قدر ما أعجبت بالمهارة الفنية الواضحة في ثنايا اللوحة، على قدر ما أصابت قلبها بالوحشة و الوحدة و ذكرتها بوضعها... و بالأيام القليلة الماضية من حياتها...

تنهدت في أسى و هي تستدير لتقع نظراتها على الجزء الثاني من البهو الذي كان مناقضا تماما للأول... أثاث عصري بسيط، ذو ألوان زاهية... بساط صغير بديع، و منضدة طويلة نسقت فوقها أعداد من التحف الصغيرة الظريفة، استقرت خلفها مرآة عاجية، طالعت فيها صورتها ثم ابتسمت في رضا و تألقت عيناها الكستنائيتان ببعض الغرور... على عرض الحائط المقابل توزعت لوحات صغيرة متناثرة تمثل مشاهد طبيعية مشرقة...

ابتسمت ليلى و هي تلقي نظرة أخيرة على الجانبين و تلحظ في صمت المفارقات العجيبة التي اجتمعت في فضاء واحد... زوجان مختلفا المزاج؟ ربما... انتبهت إلى السيد نبيل الذي نزل للتو و وقف على بعد بضع خطوات منها يتأملها في صمت و على شفتيه ابتسامة ودودة... تقدمت منه، عانقته في حرارة متكلفة و تبادلا عبارات الترحيب...

و ماهي إلا لحظات حتى سمعت ضوضاء قادمة من الطابق الأول، ثم ظهر شابان ينزلان الدرج في بعض الهرج... انضما إلى السيد نبيل و ليلى التي غضت بصرها في حياء... وقفا غير بعيد عنهما، و بادر السيد نبيل معرفا :
ـ هذه ليلى... ابنة عمتكما نجاة... رحمها الله... و صديقي العزيز نجيب... تعلمان أنها ستقيم بيننا ـ طيلة فترة سفر والدها للإشراف على مشروعه الجديد ـ أرجو أن ترحبا بها جيدا... و تعتبراها مثل شقيقة لكما...

ثم التفت إلى ليلى متابعا :
ـ أرجو يا ابنتي أن تجدي راحتك بيننا...

طالعها الشابان بنظرات متفحصة... كانت فتاة قد تجاوزت العشرين من عمرها بسنتين اثنتين، مليئة بالحيوية و متقدة الذكاء... تلمحه في نظراتها الهادئة، المتحدية، و ابتسامتها الرقيقة التي لا تفارق شفتيها... و لم يكن الجمال ليبخل عليها بقدر وافر منه...

ـ هذا ابني الأكبر... ياسين...

كان ياسين رجلا ضخم الجثة، فارع الطول متين البنيان، تظنه أحد المصارعين المحترفين. و بدا أنه قد تجاوز الثلاثين من عمره ببضع سنوات، تدل هيأته على حياة الرفاهية التي يعيشها دون عناء أو تكلف.

انتبه ياسين، الذي كان يطالع ليلى بنظرات فاحصة، على صوت والده و هو يسأله :
ـ أين زوجتك؟

أجاب في امتعاض :
ـ منال؟... أخذت رانيا و ذهبت في زيارة إلى بيت أهلها...

هز السيد نبيل رأسه متفهما، في حين تقدم ياسين من ليلى و هو يمد يده مصافحا، دون أن تفارق عينيه تلك النظرة الجريئة :
ـ أهلا ليلى... تشرفت بمعرفتك...

لم تكن ليلى ترغب في المصافحة... لكنها بعد تردد قصير مدت يدها لتصافحه في خجل... ابن خالها الذي تراه للمرة الأولى... ليس من اللائق أن تستفزه منذ اللحظات الأولى. هكذا أقنعت نفسها!

ـ و هذا أمين... ابني الأصغر...

قاطعه أمين بحركة مفاجئة و هو يتقدم نحو ليلى و ينحني أمامها انحناءة عريضة، ثم يهم بالتقاط يدها على طريقة الجنتلمان في القرن التاسع عشر! لكن ردة فعل ليلى كانت أسرع من حركته، فسحبت يدها في حدة و ألقت عليه نظرة صارمة... لكن أمين ابتسم في لباقة، رغم الإحراج الذي تعرض إليه للتو، و تابع في غير اهتمام :
ـ أعرفك بنفسي... أنا أمين... الابن الأصغر لعائلة القاسمي... و أنا الأكثر انطلاقا و مرحا في العائلة... يعرفني الجميع بلباقتي مع الجميلات و خبرتي في العلاقات الاجتماعية... طالب هندسة في الصف الثالث... أظن لا يهمك أن تعرفي إن كنت قد رسبت سنتين أو ثلاثا... على أية حال، يسرني وجودك بيننا... لا شك أنك لاحظت المحيط الرجالي الذي يسكن هذا البيت... و أرجو أن تضيفي إلى حياتنا نوعا من التغيير بعد أن أصابنا الروتين و الملل...

كان أمين فتى جذابا بأتم معنى الكلمة، و كان من الواضح أنه يدرك مدى وسامته خاصة حين يقف جنبا إلى جنب مع ياسين الذي كانت ملامحه عادية و خالية مما يثير انتباه الجنس الآخر... كما أن أمين كان لا يزال في بداية شبابه، لا يتجاوز عمره الأربع و العشرين سنة، و في نظراته الكثير من الثقة... و الغرور!

رمقه ياسين بازدراء في حين رماه نبيل بنظرة غاضبة أوقفته... أما ليلى فإنها اكتفت بإشاحة وجهها عنه و في عينيها الكثير من الاستغراب و الامتعاض. أما أمين فابتسم و هو يلوح بيده استهانة :
ـ هل قمت بشيء غريب؟ لقد رحبت بابنة عمتي على طريقتي!

ثم أضاف في صوت خافت، لكنه تناهى إلى مسامع ليلى :
ـ لو كان فراس هنا... لكان الموقف أكثر إثارة...

تسارعت دقات قلب ليلى و هي تسترجع ما ذكره لها والدها من معلومات عن العائلة... و من دون كل أفراد عائلة القاسمي، كانت متشوقة للقاء فراس...

نظر أمين إلى الخادم العجوز بعد أن انصرف والده و قال متسائلا :
ـ هل أخطأت يا عم صابر؟

ابتسم العم صابر و هي يخفض رأسه في ارتباك و لم يجب

قطع نبيل الصمت و هو ينادي الخادم من الغرفة الداخلية، حيث اختفى منذ لحظات :
ـ صابر... احمل حقائب الآنسة إلى الغرفة المعدة لها... و اتركها لتستريح قليلا...

خرج الخادم ليحضر الحقائب التي كانت عند أسفل الدرج الحجري، و ما لبث أن عاد مسرعا و تقدم ليلى إلى السلم المؤدي إلى الطابق الأول، من حيث نزل ياسين و أمين قبل بضعة دقائق... تبعته ليلى في خطوات رزينة، تتبعها النظرات بانطباعاتها المختلفة...


********


تقدمت ليلى في الممر المفروش بالزرابي و المزدان بالثريات متدلية من السقف. كانت الفوانيس الصغيرة و المتلاصقة تضفي على المكان ضوءا خافتا ذا لون أصفر ساحر...
على الجانبين علقت صور لأفراد العائلة و رسومات حائطية...

راحت تتأملها و هي تتبع العم صابر بخطوات هادئة... فجأة توقفت أمام صورة فتاة في مثل سنها تقريبا، أو تصغرها بسنوات قليلة... و بدا لها أنها تطالع صورتها هي، ليلى، منذ بضع سنين مضت! نعم، فالشبه بينهما مما لا يختلف فيه اثنان!

تسارعت دقات قلبها و كست ملامحها تعابير غريبة، لم تدرك هي نفسها كنهها... لكنها سرعان ما تمالكت نفسها و سارعت الخطو لتلحق بالعم صابر الذي توقف أمام غرفة في نفس الممر...

حين خطت إلى داخل الغرفة المعدة لها وجدت نفسها في عالم جديد غاية في الروعة... كان أول ما لفت نظرها هو ورق الجدران الأزرق السماوي المحلى برسوم رقيقة بيضاء. لون هادئ و مريح جعلها تبتسم في رضا و هي تتقدم لتضع حقيبتها على البساط. كان أثاث الغرفة في غاية الأناقة و البساطة... شديدة الاختلاف عن غرفتها السابقة، في منزلها... فراش كبير على الطراز الأمريكي الحديث، منضدة تحمل مختلف أنواع العطور و أدوات الزينة، مرآة عاجية، و مصابيح صغيرة ترسل نورا أزرق سماويا... و في الجهة المقابلة، صوان ملابس مصنوع من خشب الأرز الأبيض و مكتب صغير... و مع كل هذا، شرفة تطل على الحديقة! تأمات غرفتها "الخاصة" في انبهار، ثم ألقت بنفسها على السرير الوثير الناعم و تنفست الصعداء... أغلقت عينيها و غرقت في لجة أفكارها... كم ستبقى هنا يا ترى؟ أملها أن تنتهي رحلة والدها بأسرع ما يمكن و تعود لتسكن معه في بيتهما الصغير في فرنسا...

لم تدرك كم مضى عليها من الوقت و هي مستلقية في تلك الوضعية المريحة و مستسلمة لأفكارها... لكنها انتبهت على صوت طرق خفيف على الباب... فتحت عينيها و استقامت في مجلسها. تناهى إليها صوت رجالي يقول :
ـ ليلى... هل يمكنني الدخول؟

فزعت و قامت لتسوي حجابها أمام المرآة و هي تتساءل : من؟

ـ أنا أمين... هل أنت نائمة؟

توجهت نحو الباب و فتحته ليطالعها وجه أمين المبتسم... كان قد ورث عن والده عينيه السوداوين العميقتين و شعره الأسود الناعم... و عن والدته المتوفاة البشرة البيضاء الصافية و الغمازة في الذقن، مع أنف مستقيم حاد... ملامحه تشي بالحدة و التحفز، لكنه بدا ودودا إلى أبعد الحدود... خطا إلى الداخل دون كلفة، في حين اتسعت عينا ليلى في دهشة و استهجان، لكنها لم تنطق بكلمة...

نظر إلى الحقيبة التي كانت لا تزال في موضعها. جلس ببساطة على المقعد المواجه للمكتب واضعا ساقا على أخرى، و تكلم كمن يخاطب صديقا حميما :
ـ أرى أنك لم تستقري في غرفتك بعد‍! فالحقيبة لم تفرغ... و أنت لم تغيري ثيابك...

وقف برشاقة فارعا طوله ثم أجال بصره في الغرفة مضيفا :
ـ أنت محظوظة لحصولك على هاته الغرفة... فهي كانت غرفة المالكة الأولى للقصر... زوجة أبي الأولى... والدة ياسين... صحيح أنه تم تجديد الأثاث، بالكامل تقريبا... لكن الغرفة تحافظ على طابعها الخاص و الغامض...

كانت تجيل نظراتها في أرجاء الغرفة و هي توافقه في قرارة نفسها على غموض طابعها و رونقها الفريد من نوعه... نظرت إليه فجأة حين أحست بعينيه تستقران على وجهها في إصرار
ـ لا أظنني سأقول شيئا جديدا عنك... لكنك يا ابنة عمتي في غاية الجمال!

تراجعت مبغوتة من هذا الغزل الصريح فاستدرك متابعا :
ـ أرجو أن لا تتضايقي من صراحتي... فقد اعتدت التعبير المباشر عما يجول في خاطري...

اتسعت ابتسامته، أمام احمرار وجهها، و همس :
ـ لا تتأخري عن موعد العشاء بعد نصف ساعة... أراك لاحقا!

تقدم نحو الباب بمثل البساطة التي دخل بها... و قبل أن يتوارى عن ناظريها، أطل برأسه من فتحة الباب و همس :
ـ فراس سيكون معنا على العشاء... كوني حذرة!

وقفت للحظات مبهوتة... كانت تحس بالضيق... فمن الواضح أنها ستواجه الكثير من المتاعب حتى توقف أمين عند حده و تفرض عليه احترامها... ثم تاهت أفكارها في ملاحظته الأخيرة... لكنها ما لبثت أن هزت كتفيها في لامبالاة و شرعت في توضيب ملابسها في الصوان بتأن. غيرت ملابسها و غادرت الغرفة... و لم تستطع مقاومة رغبة ملحة في النظر ثانية لصورة الفتاة التي تشبهها المعلقة في الممر...

نزلت درجات السلم في هدوء و هي تنظر إلى البهو من عل... فجأة توقفت حين طرق سمعها صوت نبيل و كان من الواضح أنه يخاطب أحد أبنائه :
ـ أرجوك... انس الموضوع تماما... لا داعي لتعقيد الأمور أكثر من اللازم... فراس... كن واقعيا... كل شيء انتهى منذ 3 سنوات... و الغرفة منذ تلك الآونة شاغرة... فلماذا لا تسكنها ليلى؟

جاء صوت فراس حادا، رغم محاولة صاحبه الجاهدة لتهذيبه :
ـ لكنك تعلم أنني لا أريد ذلك... لا أريد ذلك! و مع هذا سمحت به!!

ـ لقد أنهينا الموضوع سابقا... أليست 3 سنوات بكافية لتنسى تلك الحادثة؟

بدا أن فراس يكاد ينفجر غاضبا... أو باكيا... أو كليهما معا :
ـ أنسى؟؟!! و كيف يمكنني أن أنسى؟!! هل ما حدث شيء ينسى؟؟!! أنت تطلب المستحيل...

تنهد نبيل في ضيق و هو يقول :
ـ فلتعلم إذن بأنني تعمدت أن أفتح الغرفة من جديد لتقيم بها ليلى... لأجبرك على النسيان! آن الأوان لتعود إلى حياتك الطبيعية...

ران صمت ثقيل لبعض لحظات قبل أن يقول فراس :
ـ و لكنها ليست أي شخص... إنها أختها التوأم...

قاطعه نبيل بصوت هادئ حمله شحنة من الحنان الأبوي :
ـ من الأفضل أن تهدأ الآن... قد تصل ليلى في أية لحظة...

أحست ليلى بالحرج حين سمعت اسمها و أدركت أن عليها الظهور فورا، لتضع حدا لهذا الحوار المتشنج... أخذت نفسا عميقا ثم واصلت طريقها محاولة التصرف بصفة طبيعية... و دلفت إلى غرفة الطعام المحاذية للبهو...

توجهت إليها الأنظار حال وصولها. رمقها ياسين بنظرة جانبية، في حين أطلق أمين صفيرا طويلا معلنا عن إعجابه... أما فراس فقد رفع إليها عينيه في بطء، و ما أن توقف بصره على وجهها حتى تراجع في حدة... كأن شحنة كهربائية أصابته... ربت نبيل الذي كان يجلس قريبا منه على كتفه مشجعا، فوقف و توجه نحوها. وقف قبالتها و مد كفا مختلجة لمصافحتها... لكنه تراجع في اللحظة الأخيرة و خبأ كفيه و راء ظهره و هو يهمس بصوت مبحوح جاد به حلقه في عناء شديد : مرحبا!

و بسرعة عاد إلى مجلسه و لبث مطرقا و قد ازداد وجهه شحوبا.
وقف نبيل و دعا ليلى إلى الجلوس قربه... قبالة فراس...

بدت نظرات ياسين إليها بلهاء... أو أن ليلى وجدتها كذلك... فقد ظل يحدق فيها طوال فترة العشاء بصورة فظيعة! فتحاشت قدر الإمكان النظر إليه، و كان من حسن حظها أنه يجلس في طرف المائدة، إلى جانب فراس... في حين لم يتوقف أمين الذي كان يجلس إلى جانبها، قبالة ياسين، عن الثرثرة... فملأ الفراغ بصوته الجهوري :

ـ أوه... ليلى! إنها مناسبة تستحق الاحتفال بالفعل، أليس كذلك؟ لكن ماذا... صحنك لم يلمس بعد! يبدو أن طعام العم هاشم لا يعجبك... كلي أرجوك... فقد لا تتمتعين معنا كثيرا بعشاء هادئ، قبل أن يقرر أخي العزيز ياسين إقامة زوبعة بمشاكله التافهة التي لا تنتهي... تناولي قطعة السجق هذه... تبدو محمرة بصفة جيدة... بالمناسبة، تبدين أنيقة دائمة دون ماكياج... و من ذا الذي يفضل لوحة زيتية تحتوي على كل الألوان و الأصباغ! الطبيعة دائما أفضل من الأقنعة المزيفة، و أنا شخصيا أفضل الفتيات الفخورات بجمالهن الطبيعي دون غش... ألست محقا؟... فراس... فيم كنا نتحدث قبل قدوم ليلى؟ آه... نعم... أبي يعتزم أخذنا في عطلة نهاية الأسبوع لقضاء اليوم بأكمله في المزرعة... المكان رائع هناك و شديد الرومانسية... أراهن على أنك من محبي الطبيعة!

كانت ليلى تحس بالغيظ الشديد من ملاحظاته الوقحة. ابتلعت قطعة أخرى من اللحم في صعوبة، و هي تلحظ الوجوم المخيم على الوجوه، عدا وجه أمين طبعا... الذي واصل قائلا :
ـ ستستمتعين كثيرا... العم صابر أيضا يحب المزرعة... فقد غرس في المرة الماضية حوضا من الورود البرية الحمراء... حنان أيضا كانت تحب الورود الحمراء...

أحست بأن الزمن توقف في تلك اللحظة، فقد توجهت الأنظار كلها إلى أمين الذي بدا عليه الارتباك، بما فيها عيني ليلى... توقفت حركة الأكل و لم يعد صوت الملاعق و الأشواك التي ترتطم بالصحون يسمع لمدة بضع ثوان... و أخيرا نطق أمين :
ـ ألم يحدثك أحد عن حنان؟

كان فراس إلى تلك اللحظة يحاول الحفاظ على هدوئه و نظراته المهذبة، مسيطرا قدر الإمكان على انفعالاته... و لكن ما إن نطق أمين بتلك الجملة حتى سقطت الشوكة من يده محدثة رنينا على الأرضية المجلزة... ثم انتصب واقفا و هو يمسح يديه في عصبية و غادر القاعة بخطى متوترة... نظر أمين حوله كالمتهم الذي يحاول دفع الشكوك عنه، ثم التفت إلى ليلى و استطرد مغيرا الموضوع :

ـ هل تريدين شيئا من البيض؟ سيستاء العم هاشم إن لم تنهي طبقك... لم توقفت عن الأكل؟ خذي كأس العصير هذا... سينعشك...




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 10:40 AM   #4

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



الجــــــــــزء الثاني



إنها ليلتها الأولى في القصر الكبير... مقر إقامة آل القاسمي... هكذا كانت تفكر بينها و بين نفسها و هي تقف في الشرفة المظلمة المطلة على الحديقة المترامية الأطراف... ترى هل ستمر على خير؟

كانت قد أوصدت باب الغرفة و أطفأت الأنوار حتى لا يزعجها أحد... و خاصة أمين الفضولي! أوهمت الجميع بأنها نامت... و ظلت في الشرفة مستندة إلى الحائط في ركن حالك الظلمة... كان الهواء عليلا يلفح وجهها بنسماته الصيفية المنعشة...

عادت بأفكارها إلى الأيام القليلة الماضية، حين فاتحها والدها في موضوع سفره العاجل من أجل مشروعه الجديد و إقامته التي قد تطول في أمريكا... عارضت و تمسكت و أصرت... لكن إصرارها لم يمنع والدها من تنفيذ الخطة التي قد قررها... و أعلن أنها ستسافر للإقامة عند خالها في الفترة المقبلة...

حينها تساءلت في حيرة... خالها؟ أي خال هذا؟ كانت قد نشأت و شبت في هذه الدنيا و هي لا تعرف من أقاربها غير والدها و جدتها التي فارقت الحياة منذ بضع سنوات... و منذ ذاك الوقت و حياتها مرتبطة بوالدها ارتباطا وثيقا، فهو كل عائلتها... و مجرد التفكير في إمكانية العيش بعيدا عنه كانت تشعرها بالألم و الصداع!

أما و هو يقول بأن لها خالا في مكان ما من هذا العالم، فهو ما لم تكن تتوقعه في يوم من الأيام... و كان لا بد حينها أن يحدثها عن والدتها و عائلة والدتها...

لم تستطع النوم في تلك الليلة... تماما كما لم تستطع أن تستسلم للنعاس في هاته الليلة... كانت تعلم أن والدتها توفيت منذ سنين... و اختفت من حياتها و سنها لم يتجاوز السنوات الخمس... و هاهي تكتشف حقيقة ستغير تاريخ حياتها إلى الأبد... حقيقة أن والدتها لم تفترق عنها بسبب الموت، بل بسبب انفصالها عن والدها! ثم توفيت بعيدا عنها بعد سنوات من الانفصال، دون أن يسمح لهما القدر بالالتقاء ثانية، و دون أن تستشعر بقربها حنان الأمومة... و دون تفاصيل أكثر عن ظروف حياتها و أسباب اختفائها ثم وفاتها...

و كانت المفاجأة الأكبر هي شقيقتها... لم تكن تعلم أو تتصور أن تكون لها شقيقة... فضلا على أن يكون لها توأم!! نعم... حنان... أختها التوأم التي افترقت عنها في سن الخامسة... فبعد انفصال الوالدين، اتفقا على أن يحتفظ كل منهما بإحدى البنتين! صفقة عادلة... أن لا يطالب أحد منهما الآخر بالحضانة و لا يطول الخلاف بينهما في المحاكم... فتتشوه سمعة سعادة السفير، و سليلة العائلة العريقة...

عاشت ليلى مع والدها... و حنان مع والدتها... و لم تعلم إحداهما عن الأخرى شيئا...
أقامت والدتها مع أخيها الأكبر، السيد نبيل... و نشأت حنان بين أبناء خالها... ياسين و فراس و أمين... و بعد وفاة والدتها بفترة وجيزة، تزوجت حنان من فراس في سن لم تتجاوز الثامنة عشرة... لكن الموت كان ينتظرها هي الأخرى بعد أقل من سنة من الزواج... حيث توفيت في حادثة، لم يخبرها والدها عن تفاصيلها الشيء الكثير...

و هكذا رحل أفراد عائلتها الصغيرة عن الحياة الواحد تلو الآخر قبل أن تعرفهم، قبل أن تستمتع بكلمة أمي أو كلمة أختي... و جثم على صدرها كابوس الموت... فسألت الله في حرقة أن يعيد إليها والدها من سفره سالما، فهو كان ولا يزال كل عائلتها...

كانت قد سافرت كثيرا في حياتها مع والدها و زارت العديد من البلدان الأوروبية و العربية، فوالدها كان كثير الترحال بحكم عمله كسفير... لكنه استقر مؤخرا في فرنسا، حيث تخلى عن مهامه الدبلوماسية و دخل عالم الأعمال من بابه الواسع فأقام شركة خدمات تدر عليه أرباحا هائلة، حيث استفاد من علاقاته و معارفه السابقة، و بدأت ليلى دراستها الجامعية هناك... أتمت السنوات الأربع في كلية الحقوق... و بينما هي تستعد للتسجيل في الدراسات المعمقة، فاجأها والدها بقرار السفر! و هاهي دون تأخير، تجد نفسها مع عائلة خالها التي كانت تجهل عنها كل شيء تقريبا...

كانت تعلم أن توأمها، حنان، كانت زوجة فراس منذ سنوات ثلاث... و هاهي تكتشف أنها كانت تقيم في هاته الغرفة نفسها قبل زواجها، و التي ظلت مقفلة طوال السنين الماضية استجابة لرغبة فراس، فقد كان يجد صعوبة في نسيان ذكرياته مع زوجته الراحلة التي تركته سريعا...

راودها إحساس بالعطف تجاه فراس، و تساءلت في نفس الوقت... كيف كانت حنان يا ترى؟ يبدو أنها تشبهها في شكلها، فذلك واضح من الصورة المعلقة في الممر، و من ردة فعل فراس العصبية حين وقعت عيناه على وجهها ساعة العشاء... لكن كيف كانت طباعها؟ كيف هي شخصيتها؟ كانت في حاجة إلى معرفة المزيد عن ذاك الشخص القريب البعيد... توأمها التي لم تلتق بها أبدا مذ رحلت مع والدتها... و تأسفت لأنها لم تحمل عنها أية ذكريات... لا تذكر أنها شاركتها اللعب، أو أنها كانت معها في أي مكان من هذا العالم... و ربما كان سفرها المتواصل سببا في عدم وضوح ذكرياتها... إذ أنها لم ترتبط معنويا بأي مكان، عدا منزل جدتها الصغير...

تنهدت في أسى و هي تصل إلى هاته النقطة من التفكير و سرحت في الحديقة شبه المظلمة و خيالات الأشجار المتمايلة... فجأة لفت انتباهها شيء يتحرك في طرف الحديقة. كانت ممرات الحديقة مضاءة، لكن الجوانب المعشوشبة كانت تفتقر إلى الإنارة في تلك الآونة من الليل، حيث من غير المتوقع أن يخرج أحد ما للنزهة... دققت النظر و بدا لها أن شبحا ما يتقدم في خفة و سرعة... شبح إنسان... محدثا حفيفا مكتوما أثناء مشيه على العشب الندي. تابعته في تحفز و قلق... و في لمح البصر كان قد وصل إلى أسفل البناية!

لم يكن بإمكان ليلى أن تتابع حركاته من زاويتها تلك، لكنها كانت واثقة من أنه أخذ يتسلق الجدار!

تسارعت دقات قلبها و تملكها الهلع... تسمرت في مكانها و قطعت أنفاسها محاذرة الإتيان بأية حركة تنبئ عن وجودها هناك في تلك اللحظة... مرت لحظات عصيبة على ليلى، قبل أن تسمع حركة آتية من الشرفة المحاذية... كان من الواضح أن الشبح نجح في القفز داخل الشرفة، و تمكن من فتح الباب المؤدي إليها، و غاب في الداخل في هدوء تام، بعد أن أعاد غلق الباب!!!

لبثت ليلى في موقعها مدة ليست بالقصيرة، و هي لا تعي ما الذي يجب عليها فعله، كأنها جزء من الجدار... لم تكن قادرة على الحركة، فقد تجمدت أوصالها من الرعب... و تجمعت الدموع في مقلتيها... و لكن... أين المفر؟

استولى عليها القلق حين مرت فترة من الزمن دون أن يعاود الشبح الظهور، مع غياب أي مظهر من مظاهر الحياة... كاد الدم أن يتجمد في عروقها من الهلع. إنها ليلتها الأولى هنا... فهل ستمر على خير؟

فجأة دوت صرخة اخترقت سكون الليل و اقتلعتها من مكانها اقتلاعا... هرولت إلى الداخل و ارتدت سترتها على عجل... لم تكن قد نزعت حجابها... ترددت للحظات، و لكنها سمعت حركة في الرواق فهبت لتفتح باب غرفتها، و في ثوان معدودة كانت تقف في الممر... كان باب الغرفة المجاورة مفتوحا و الأنوار مضاءة... لمحت ظلا طويلا في الداخل، أطلت في حذر... إنه أمين! و على الفراش كان فراس ممددا بلا حراك... نائم، أو فاقد للوعي... نظرت ليلى في ذهول و ظلت فاغرة فاها لوهلة... بادرها أمين مهدئا :
ـ لا تقلقي... كان مجرد كابوس...

همست ليلى في غير تصديق :
ـ كابوس؟!

تمتم أمين و قد ظهر على ملامحه التفكير :
ـ ظننت أنه تخلص من تلك الكوابيس التي لازمته بعد وفاة حنان...

همست ليلى من جديد :
ـ هل هو بخير؟

هز أمين رأسه و هو يتبعها إلى خارج الغرفة :
ـ لا داعي للقلق، قلت لك، هو مجرد كابوس... لكنه كان يصرخ فاضطررت إلى إيقاظه... باستعمال بعض العنف... إنه هادئ الآن... سيكون أفضل في الصباح...

في تلك اللحظة تذكرت ليلى الشبح! التفتت إلى أمين الذي أغلق الباب خلفه :
ـ لكنني رأيت شبحا يتسلل إلى الشرفة... و يدخل هاته الغرفة!

نظر إليها أمين و الشك يملأ نظراته :
ـ شبح؟! لا شك أنك كنت تحلمين!

هتفت ليلى في إصرار :
ـ لم أنم بعد حتى أحلم! كنت واقفة في الشرفة و رأيت شبحا يعبر الحديقة و يتسلق الجدار و...

قاطعها أمين و هو يقول مبتسما :
ـ مجرد تهيؤات يا عزيزتي... أنت متعبة... و يلزمك قسط من الراحة بعد سفرك الطويل إلى هنا... هيا عودي إلى غرفتك... لقد تأخر الوقت...

قاومت في البداية... لكنها انقادت أخيرا و عادت إلى غرفتها و قد سيطر عليها الذهول...

ما الذي يحصل هنا؟
أي كابوس هذا الذي جعل فراس يصرخ مثل تلك الصرخة؟
و الشبح الذي رأته يتسلل إلى الشرفة... هل يكون مجرد أوهام؟
تملكها الفضول و الحيرة في آن... لم تستطع الخلود إلى النوم... النوم؟! من ذا الذي يستطيع النوم في ظروف كهذه؟

عادت إلى الشرفة و قد قررت أن لا تبرحها... إنها متأكدة من رؤيتها للمتسلل منذ أقل من ساعة...
حين ظهرت خيوط الفجر الأولى، انسحبت إلى الداخل و استلقت على فراشها في إرهاق... لكنها ما لبثت أن قامت في تكاسل لتأدية الصلاة... ثم ارتمت من جديد على الفراش، و نامت حتى الصباح...


حين استيقظت، كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة... كانت لا تزال تحس بالتعب و بحاجة ملحة إلى النوم. تقلبت في مكانها و لفت الملاءة على جسمها من جديد... تذكرت أحداث الليلة الماضية ففر النوم من عينيها مباشرة... قفزت من مكانها و سارعت بتغيير ملابسها... كان يجب أن تتحدث إلى فراس!

وقفت أمام الباب مترددة... هل تراه استيقظ؟ تشجعت أخيرا و رفعت يدها لتطرق الباب في لطف... جاءها الإذن بالدخول... لكنها أدارت المقبض و دفعت دفة الباب دون أن تخطو إلى الداخل... أطلت من الفتحة في حياء... كان فراس يجلس على طرف الفراش و هو لا يزال في ملابس النوم... نظر إليها في دهشة... فمجيئها إلى غرفته لم يكن متوقعا بالمرة! لكنه رسم على شفتيه ابتسامة مغتصبة، بدا فيها التعب و الضيق و وقف لاستقبالها. لم يكونا قد تبادلا غير كلمة واحدة مذ جاءت إلى هنا، و بدا على وجهه الإعياء و هو ينظر إلى وجهها... ذاك الوجه الذي يثير لديه ذكريات بعيدة...

تعثرت كلماتها و هي تتمتم في خفوت :
ـ كنت أود... الاطمئنان على حالتك... الصحية... بعد... حادثة البارحة...

رفع حاجبيه في دهشة :
ـ حالتي الصحية؟ حادثة البارحة؟

لبث متفكرا للحظة ثم هتف و هو يبتسم :
ـ آه... شكرا لمجيئك... و آسف على الازعاج... يبدو أنني تسببت في إيقاظك...

كان يبتسم، ابتسامة هادئة، مختلفة عن ابتسامته الأولى المتكلفة، و إن لم تخل من مرارة... يحاول أن ينسى أو يتناسى أنها شقيقتها... توأمها. ابتسمت بدورها، و همت بأن تسأله عن الشبح... لكن تناهى إلى مسامعهما لغط و وقع أقدام قادمين من طرف الممر... و ما لبث أمين أن ظهر رفقة فتاة شابة، في مثل عمر ليلى تقريبا أو تكبرها ببضع سنوات... ذات جمال و أناقة ملحوظين إضافة إلى زينة متبرجة و شعر طويل مصبوغ منسدل على كتفيها...

فجأة توقفت الفتاة عن السير و تسمرت مكانها و هي تطالع ليلى في ذهول. سحبها أمين من ذراعها على الفور و هو يقول متضاحكا :
ـ إنها ليلى التي كنت أحدثك عنها منذ لحظات... شقيقة حنان...

لكن الفتاة همست في صوت غير مسموع :
ـ لكنك لم تقل أنها نسخة منها!

ضحك أمين من جديد و هو يضيف :
ـ نعم... شقيقتها التوأم...

ثم التفت إلى ليلى و قال و هو يقدم الفتاة التي تصاحبه :
ـ ليلى... هذه رجاء... ابنة خالتي...

مدت ليلى كفها لتصافح رجاء التي تلقت كفها في برود ظاهر ثم تجاوزتها مندفعة نحو فراس الذي كان لا يزال واقفا عند الباب... سارعت إليه و أمسكت بكفه بين يديها و هي تقول في نعومة :
ـ فراس... عزيزي... كيف حالك؟ هل أنت على ما يرام؟... أخبرني أمين أن الكابوس عاودك الليلة الماضية...

سحب فراس يده في هدوء و أخفاها خلف ظهره و هو يقول :
ـ أنا بخير... أنا بخير...

و استدار ليغيب داخل غرفته. لكن رجاء طاردته في إصرار، و همست و هي تقفز أمامه و تتحسس وجهه بأطراف أصابعها :
ـ فراس عزيزي... أعلم أنك متضايق... و كل هذا بسبب شبيهة حنان... أعلم أن وجودها يسبب لك المتاعب...

أبعد يديها عن وجهه في صرامة أكبر و هو يقول في حزم :
ـ رجاء قلت لك أنني بخير... لا داعي إلى مثل هاته التعليقات...

لم يكن الموقف يسمح بوقوف ليلى أكثر مما فعلت فاندفعت في اتجاه الدرج... لحقها أمين في سرعة و هي لا تزال في الممر.
ـ ليلى...

وقفت دون أن تلتفت و هي تقاوم العبرات التي تجمعت في مقلتيها دون سابق إنذار. واجهها أمين و هو يبتسم في ود و قال :
ـ اعذريها... إنها لا تعي ما تقول... فحنان كانت غالية علينا جميعا. و فقدانها كان صدمة كبيرة، و خاصة بالنسبة لفراس... فليس من الهين على المرء أن يفقد زوجته و هي في عمر الزهور...

ابتسمت ليلى في عناء ثم هزت رأسها في تفهم :
ـ نعم... أكيد...



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 10:40 AM   #5

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الجزء الثــــــــــــالث



أمضت بقية الفترة الصباحية في عملية التعرف على أرجاء القصر... فعرفت أن غرفة فراس هي الغرفة الملاصقة لغرفتها في حين كانت قبالتها غرفة أمين. أما ياسين و السيد نبيل فيقيمان في الطابق العلوي. في الأثناء كانت رجاء تلازم فراس. و لم تجازف ليلى بالاقتراب منهما حين لمحتهما يجلسان في الصالة العلوية. أمضت الكثير من الوقت في الحديقة، خاصة بعد أن انصرف كل من ياسين و خالها إلى أعمالهما... و بعد الغداء، جاء سائق رجاء لأخذها، فتنفست ليلى الصعداء!

لكنها في نفس الوقت كانت تشعر بالملل... فليس هنالك فتاة أو امرأة تحادثها... ليس هنالك غير أمين، الذي لم يتوقف عن عرض خدماته! أما فراس، فما إن تخلص من صحبة رجاء حتى عاد إلى غرفته و لم يظهر طيلة فترة ما بعد الظهر. ياسين و السيد نبيل يغيبان طوال اليوم في الشركة... و فراس الذي يستعد للانتقال إلى عيادته الخاصة لم يذهب اليوم إلى المستشفى لإحساسه بالتعب بعد ليلة البارحة المضطربة...

صعدت أخيرا إلى غرفتها و إحساسها بالملل يقتلها... تناولت مصحفها و جلست تقرأ بصوت خافت... شعرت براحة كبيرة... دعت بخشوع من أجل سرعة عودة والدها و نجاحه في صفقته. لم يتصل بها اليوم... كان قلقها يتزايد لأنه ليس من عادته أن يغيب عن ناظريها كل هذه المدة...

أزاحت الستار و هي تتنهد في قوة. فتحت باب الشرفة و استقبلت النسيم و هي تغمض عينيها في انشراح. تقدم بضع خطوات و استندت بمرفقيها على جدار الشرفة و سرحت بعيدا... كم تحتاج إلى الاتصال بالعالم الخارجي. لا أحد يفهمها مثل صديقتها المقربة سحر التي تركتها في فرنسا. لم تحصل على اشتراك هاتفي بعد، كما أنها تفتقد كثيرا الشبكة العنكبوتية منذ وصولها... يجب أن تطلب من خالها إمدادها بكل هاته الاشتراكات... خاصة إن كانت فترة إقامتها ستطول!

كان فراس يجلس في شرفته ذاك العصر و قد احتضن مجلدا ضخما، من كتبه الطبية بالتأكيد! كان يريد أن يتجاهل ذاك الكم الهائل من الذكريات التي هاجمت عقله فجأة... حاول أن يشغل نفسه بالقراءة، لكنه كان يفقد تركيزه بسرعة و تأخذه أفكاره بعيدا... إلى حنان! اجتاحه إحساس بالضيق و الألم... ثلاث سنوات مرت و هو غير قادر على تجاوز الذكرى، غير قادر على استعادة التوازن في حياته... تلك الحادثة غيرت الكثير في نفسه، غيرته بلا رجعة... الكل لاحظ عصبيته الزائدة، بروده و انطواءه...

فجأة، انتبه حين طرق مسامعه تنهيدة عميقة، و ما لبث أن رأى خيالها يظهر في الشرفة المجاورة... تقدمت أمام عينيه و هي تستقبل النسيم البارد دون أن تنتبه إلى وجوده... تعلقت عيناه بجانب وجهها الذي يظهر من زاويته، و تداخلت المشاعر في نفسه... حنان؟ لا... إنها ليلى! تمالك نفسه بصعوبة و سيطر على دمعة أوشكت أن تتسلل إلى طرف عينه... لشد ما تعذبت روحه في كل مرة يقع نظره على صورة لها، لكن أن يراها أمامه بهذا الشكل "الحقيقي" فهو ما لا يقدر على تحمله... لماذا يا حنان؟ لماذا؟ أغمض عينيه في قوة ليطرد طيفها، وضع رأسه بين يديه و تنهد في ألم...

في تلك اللحظة انتبهت ليلى إلى أنفاسه التي تتردد بقوة غير بعيد عنها، التفتت في سرعة و لمحته على تلك الحالة، يضغط على رأسه بكلتا يديه في ألم واضح و قد تغيرت ملامحه :
ـ فراس... هل أنت بخير؟

رفع رأسه في اضطراب... كان قد نسي وجودها للحظات... بدا عليه أنه لم يستوعب الموقف بعد... جاءه صوت ليلى ثانية :
ـ هل أنت بخير؟

إنه متأكد من أن الصوت لم يكن صوتها... النبرة مختلفة! ارتبك، وقف فجأة فسقط الكتاب الذي كان في حضنه... نظر إليها نظرة أخيرة، و همس في ذهول :
ـ أنا آسف...

ثم سارع بالدخول إلى غرفته، تاركا ليلى في حيرة و قلق...


*******

انتبهت ليلى على نقر خفيف على باب غرفتها. كانت قد عادت إلى الداخل بعد اختفاء فراس من الشرفة، و لبثت تقطع الغرفة جيئة و ذهابا في قلق واضح... كان جليا بالنسبة إليها أنه لم يكن على ما يرام... لم يكن الطرق شبيها بطرقات أمين الموقعة. عقدت حاجبيها في تساؤل : من يكون القادم في مثل هاته الساعة؟

اقتربت في خفة من الباب و هتفت بصوت رقيق :
ـ من هناك؟

أجابها صوت أنثوي غريب.
ـ ليلى... هلا فتحت؟

تهللت ليلى فرحا طالما كان الصوت أنثويا و هرعت لتفتح الباب، و قد أدركت من الطارق مسبقا. طالعتها امرأة شابة تقترب من الثلاثين، ترتدي ثوبا محتشما أنيقا و قد ألقت على رأسها غطاء دون اهتمام، يكشف عن مقدمة شعرها. استقبلتها بابتسامة واسعة و احتضنتها في حرارة و هي تقول :
ـ أهلا بك... كيف حالك؟ أنا منال... زوجة ياسين... و هذه رانيا ابنتي...

اتسعت ابتسامة ليلى حين انتبهت إلى الكائن الصغير الذي يمسك بطرف ثوب منال و يتطلع إليها بعينين بريئتين و ابتسامة مترددة. انحنت بسرعة لتقبل الفتاة الصغيرة التي يبلغ عمرها 4 سنوات و حسب و ربتت على رأسها في حنان.

تخلصت رانيا من حضن ليلى في سرعة و اختفت خلف والدتها في خجل... لكنها ما لبثت أن أطلت في فضول، فلم تتمالك ليلى نفسها أن أطلقت ضحكة صغيرة على شكل الفتاة المضحك.
ـ سلمي على الخالة ليلى... هيا رانيا...

عادت الفتاة لتختفي من جديد في ارتباك و غمغمت و هي تدفن وجهها في ثوب والدتها :
ـ مرحبا خالة ليلى...

ضحكت ليلى و منال من جديد ثم قالت منال :
ـ كنت في زيارة لمنزل والدي و لم أعلم بوصولك إلا الآن، من العم صابر... أرجو أن لا يكون الملل قد أصابك في هذا القصر الكبير، حيث الكل منشغل عن غيره!

ابتسمت ليلى و قد وجدت من يشاركها همومها!
ـ نعم، فأنا لم أسجل في الجامعة بعد لإتمام المرحلة الثالثة من دراستي... و حين ينشغل كل بأعماله أجد نفسي وحيدة بلا عمل!

ـ لا تقلقي... فأنا متفرغة لك كليا... انقطعت عن العمل منذ أنجبت رانيا...

سألتها ليلى و هما تتوجهان نحو الصالة العلوية في نفس الطابق :
ـ و ماذا كنت تعملين قبل ذلك؟

ـ كنت موظفة في شركة عمي نبيل... في قسم العلاقات العامة...

ضحكت و هي تواصل قائلة :
ـ ثم التقيت بياسين... و حصل ما حصل!

شاركتها ليلى الضحك و قد أحست بالراحة إلى هاته المرأة التي تبدو عليها الطيبة و التلقائية، و فوق كل هذا فهي أنثى مثلها و تفهمها أكثر من أي شخص آخر في هذا المكان!

استمرت الأحاديث بينهما ساعة من الزمن حول مواضيع شتى، و رغم الفارق العمري فقد وجدتا الكثير من النقاط المشتركة بينهما، و أهمها شغفهما بالمطالعة و حب الطبيعة و المناطق المفتوحة... فقد كانت ليلى قد تعودت على الوحدة، فلم يكن يخفف عنها إلا قراءة الكتب و الجلوس في المناطق الخضراء و التأمل إضافة إلى الإبحار على الإنترنت بطبيعة الحال. أما منال، فإن أصلها الريفي و طموحها إلى تغيير وضعها اشتركا في تشكيل محاور اهتمامها... و لم تنس ليلى أن تصارح منال بحاجتها إلى وسائل الاتصال بالعالم الخارجي فوعدتها منال بأن تفاتح السيد نبيل في أقرب فرصة...

نظرت منال في ساعتها و قالت :
ـ حان وقت العشاء... أراهن على أني عمي ينتظرنا على المائدة!

وقفتا و توجهتا إلى الدرج... و في تلك اللحظة فتح باب غرفة فراس... ظهر فراس و قد بدا أكثر هدوء و تماسكا... ركضت نحوه رانيا في حماس و هي تهتف بصوت مرح :
ـ عمي فرااااس...

استقبلها فراس بذراعيه و رفعها عاليا و هي تطلق ضحكاتها الرنانة في سعادة حقيقية... اقتربت منهما منال مبتسمة :
ـ كيف حالك فراس؟

كان لا يزال يحتضن الصغيرة في حب و قال متظاهرا بالغضب :
ـ لا تسأليني عن حالي و قد حرمتني من حلوتي ثلاثة أيام كاملة!

ضحكت منال، و اكتفت ليلى التي وقفت على بعد أمتار منهم بابتسامة. انتبه فراس إلى وجودها حين تقدم بضع خطوات لينزل إلى قاعة الطعام... ابتسم و هو يمر قريبا منها و قال محدثا رانيا :
ـ حبيبتي... كيف كانت رحلتك؟ ألم تشتاقي إلي؟

عانقته الفتاة بذراعيها الصغيرتين و طبعت قبلة على خده و هي تهتف :
ـ اشتقت إليك كثيرا جدا جدا...

ثم همست في أذنه :
ـ أين الحلوى التي وعدتني بها؟

ضحك فراس على دهاء الفتاة الصغيرة و قال و هو ينزل الدرجات في هدوء واحدة واحدة :
ـ الآن وقت العشاء... الحلوى نتناولها فيما بعد... اتفقنا؟

هزت الفتاة رأسها موافقة...
كانت ليلى و منال تمشيان خلفهما. و كانت المرة الأولى التي ترى فيها ليلى فراس يضحك... كان يبدو مختلفا حين يضحك. تلين ملامحه التي تصلبت من شدة التجهم و تلتمع عيناه ببريق الحياة، البريق الذي تحل مكانه ظلال قاتمة حين يتملكه الغضب و العصبية... و هو الطبع الذي سيطر عليه في السنوات القليلة الماضية. و لم يعد هنالك أحد قادر على إضحاكه إلا رانيا الصغيرة، التي ينسى العالم بأسره حين يدخل دنيا براءتها...




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 10:41 AM   #6

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




الجــــــــــــزء الرابع



ارتفعت دقات عميقة تضرب دماغها في وقع رتيب، لم تستطع مقاومة إحساس بالخدر يلف جميع أوصالها و يشدها إلى عالم الأحلام في إصرار... فتحت ليلى عينيها بصعوبة و هي تقاوم الطنين الذي لف عقلها بغلاف ضبابي... حط نظرها على سقف الغرفة السماوي المزركش... عقدت حاجبيها في انزعاج و هي تحاول تذكر المكان... ارتفعت الدقات من جديد على نفس الوتيرة، لكن بوضوح أكبر هذه المرة، على باب غرفتها... نعم، إنها في قصر خالها... نبيل القاسمي...

عادت إليها ذكريات مساء البارحة. كانت قد أمضت سهرة ممتعة رفقة منال في الحديقة الخلفية، أما الجو العام في العشاء فقد كان أكثر هدوء... لكن لم يخف عنها انزواء فراس المستمر و صمته الطويل على المائدة. يشغل نفسه بإطعام رانيا وملاعبتها، كأنه لا يرى في الدنيا أحدا سواها...

انتزعتها نفس الدقات التي أخذت تعلو في إصرار، من أفكارها، فقامت على الفور و هي تهتف :
ـ لحظة واحدة... أنا قادمة...

ارتفع صوت أمين خارج الغرفة و هو ينقر بتوقيع خاص على الباب :
ـ ليلى... ألم تستيقظي بعد؟ سنتأخر...

نظرت إلى ساعتها في ارتباك، إنها الساعة التاسعة و النصف... أوه، نعم... لقد اقترح خالها أن يذهبوا في رحلة عائلية إلى مزرعة العائلة اليوم. لا يمكن أن تكون قد نسيت ذلك، لكن يبدو أن هواء الليل البارد قد أصابها بصداع فثقلت رأسها...

غيرت ملابسها بسرعة، لملمت شعرها بصفة عشوائية و عدلت وشاح رأسها قبل أن تفتح لأمين الذي كان لا يزال مرابطا أمام الباب... كان يقف أمامها في سروال جينز و قميص، مع حذاء رياضي. كان يبدو في غاية الأناقة و قد فاحت منه رائحة عطر رجالي جذاب. ابتسم و هو يبادرها :
ـ صباح الخير... ألم تستكملي استعداداتك بعد؟

تمتمت ليلى في خجل :
ـ الحقيقة أنني اسيقظت للتو...

نظر إلى ساعته كالمتذمر :
ـ هيا أرجوك... سنتأخر... أنت تعلمين أن جمال الطبيعة لا يضاهى في الصباح... سيفوتنا المشهد... هيا، أرجوك أسرعي...

ابتسمت في شبه اعتذار و همست :
ـ سأكون جاهزة خلال خمس دقائق... إن شاء الله

عادت إلى الداخل، فتحت صوان الملابس و انتقت فستانا صيفيا مناسبا ذي لون زهري باهت. نزلت مسرعة فلاقت أمين عند أسفل الدرج. رمقها بإعجاب لم يحاول إخفاءه و همس حين مرت بقربه :
ـ اختيار موفق...

تجاهلته و هي تتأفف في سرها من أسلوبه المتمادي في الوقاحة و انضمت إلى منال و رانيا في قاعة الاستقبال. سأجد الوقت لأعيد تربيتك من جديد يا أمين. انتظر فقط أن أعتاد على أجواء القصر و طباع أهله، ثم سأريك من تكون ليلى. قبلت رانيا على وجنتيها ثم أجلستها على ركبتيها و هي تلهو بخصلات شعرها الكستنائية. لم تنتبه إلى فراس الذي كان يقف في الطرف الآخر من البهو و في عينيه نظرة متجهمة.

اقترب منها نبيل القاسمي، فوضعت رانيا على الأريكة القريبة و وقفت لاستقبال خالها. ربت على كتفيها في ود و قال مبتسما :
ـ هل حظيت ابنة أختي العزيزة بليلة هانئة و نوم مريح؟

ردت الابتسامة في امتنان و هي تقول :
ـ شكرا لك يا خالي...

سبقها بخطوات قبل أن يلتفت إليها ثانية كأنه تذكر شيئا هاما :
ـ اشتراك الهاتف الجوال سيكون عندك هذا المساء، و سيتم توصيل خط شبكة الانترنت إلى غرفتك أيضا... كل شيء سيكون جاهزا حين نعود من المزرعة...

ثم واصل سيره نحو الباب المؤدي إلى الحديقة. همهمت ليلى بكلمات شكر، ثم التفتت إلى منال في امتنان.
بينما كانت في طريقها إلى المدخل، اقترب منها أمين من جديد و هو يقول :
ـ هل تسمحين لي بمرافقتك إلى السيارة؟

نظرت إلى منال كأنها تستنجد بها فتدخلت منال بسرعة :
ـ ليلى ستكون معي و رانيا...

فأردف أمين على الفور :
ـ إذن اسمحا لي بأن أكون السائق...

هزت منال كتفيها في تسليم و هي تبتسم إلى ليلى التي تبعتهما في إذعان.
سبقهما أمين إلى سيارته الرياضية الزرقاء و فتح الباب لاستقبال الفتيات، لكنه فوجئ بياسين يحشر نفسه في المقعد الخلفي و ابتسامة عريضة تملأ وجهه، فصرخ فيه أمين في احتجاج :
ـ ما الذي تفعله هنا؟ أليست لديك سيارة؟

اتسعت ابتسامة ياسين و هو يقول في استعطاف :
ـ سيارتي تعطلت البارحة في طريق العودة من الشركة فتركتها عند الميكانيكي...

ـ إذن سيارة زوجتك!

ـ أرجوك أمين، أنا متعب... لم أنم جيدا ليلة البارحة... ليس لدي التركيز الكافي للقيادة، لذلك سأستلقي في الخلف و آخذ قسطا من النوم... أرجوك، كن متفهما...

ضحكت منال التي حفظت حيل زوجها عن ظهر قلب و قالت لأمين :
ـ لا بأس، سآخذ سيارتي و ستذهب ليلى معي

بدت علامات الإحباط على أمين، في حين ابتعدت الفتيات في اتجاه المرآب حيث تقف بقية السيارات. ما إن رأت رانيا فراس حتى ركضت إليه. أخذها بين ذراعيه ثم أجلسها على مقدمة سيارته و أخرج من محفظته علبة الشكولاطة التي يحتفظ بها من أجلها. وصلت منال فساعدت ابنتها على النزول :
ـ هيا يا رانيا... سنتأخر... قولي شكرا لعمو فراس و هيا لنركب سيارتنا...

أفلتت الفتاة من بين يديها و التصقت بساق فراس و هي تهتف بشفتين ملطختين بالشكولاطة التي لم تنته من التهامها بعد :
ـ سأركب مع عمي فراس...

عقدت منال ذراعيها أمام صدرها و هي تقول في صرامة :
ـ كفاك دلالا... عمك فراس لن يتحملك طوال الطريق...

ربت فراس على رأس الصغيرة و هو يقول مهدئا منال :
ـ بالعكس، يسعدني أن ترافقني حبيبتي رانيا... وما رأيك لو تنضمين إلينا أنت و... ليلى

قال ذلك و هو يلقي نظرة عابرة على ليلى التي شعرت بتوتر غريب حين نطق باسمها. تطلعت منال بدورها إلى ليلى و قد راقت لها الفكرة. و ماهي إلا لحظات حتى كانت سيارات ثلاث تغادر القصر في اتجاه الطريق الزراعية : السيد نبيل مع خادمه العم صابر الذي يرافقه كظله في المرسيدس السوداء، أمين المغتاظ مع ياسين الذي تمدد على المقاعد الخلفية و غط في نوم عميق في الغولف 4 الزرقاء، و أخيرا فراس و رانيا في السيارة الباسات البيضاء ترافقهما منال و ليلى في المقاعد الخلفية...

سرحت ليلى بنظراتها إلى شوارع المدينة عبر زجاج النافذة... هذه هي المدينة التي ولدت فيها، ثم سافرت عنها لتجوب الدنيا... و هاهي تعود إليها بعد أن فقدت كل رابط معنوي يربطها بها، أمها و أختها... شخصان لا تذكر عنهما شيئا... حرمت من معنى العائلة بسبب خلاف بين والديها... هل تراه خلافا يستحق كل هاته التضحيات؟ هل استحق إبعاد الأختين عن بعضهما البعض، و حرمان واحدة من حنان الأم و الأخرى من عطف الأب؟

كان المشهد في الخارج قد تغير بعد أن غادرت السيارات شوارع المدينة المكتظة و أخذت تطوي الطريق الزراعية طيا في اتجاه المزرعة التي تمتلكها عائلة القاسمي في الضاحية الغربية للمدينة. انشغلت ليلى بالمشهد الطبيعي الذي كان مختلفا عن الريف الأوروبي الذي عرفته معظم الوقت... و لم تستطع أن تتجاهل الاصفرار الذي يصبغ الطبيعة من حولها! فمقارنة بالريف الفرنسي، الذي يتميز بمقدار هام من التساقطات، كان اللون الأخضر هنا باهتا و خاليا من الروح للجفاف الغالب على المناخ... أصابتها هاته الملاحظة باكتئاب مفاجئ، فقد كانت تمني نفسها بنزهة مريحة بين أحضان الطبيعة، و لأنها تعشق الألوان النقية فإن مشهدا طبيعيا بدونها لا يساوي شيئا في نظرها...

تناهى إلى مسامعها صوت رانيا الطفولي و هي تهتف في ملل :
ـ متى نصل؟

كان صوت فراس دافئا و حانيا و هو يجيبها :
ـ لم يعد هناك الكثير... أرأيت المنعطف هناك؟ إنه يؤدي إلى الوادي الذي يسبق المزرعة...

التفتت ليلى لتنظر إلى حيث يشير، و حين اعتدلت في جلستها من جديد، التقت عيناها بعيني فراس في المرآة الأمامية العاكسة... أرخت بصرها بسرعة و قد شعرت بالتوتر. كانت نفس النظرة القاسية في عينيه. تساءلت عما دعاه إلى أخذها في سيارته... شحوب وجهه حين رأته في الشرفة تلك المرة يوحي بأن رؤيتها تعيد إليه ذكريات أليمة عن حنان. بم تراه يشعر حين يذكرها؟ حنان كانت شبه مراهقة حين تزوجا، لم يتجاوز عمرها الثامنة عشرة... فهل كان بينهما حب ما، حب مراهقين؟ عشرات علامات الاستفهام كانت ترتسم في رأسها، عن أختها، توأمها التي كانت نسخة منها في الشكل... فما هو مدى التقارب بينهما في الجوهر؟ تريد أن تعرف عنها كل شيء... لكن لا يبدو أن فراس هو الشخص المناسب لتطرح عليه أسئلتها...

وصلت السيارات الثلاث إلى المزرعة. توقفت المرسيدس و الغولف أمام المنزل الريفي، في حين أوقف فراس سيارته الباسات بعيدا، تحت ظل شجرة صنوبر ضخمة. نزلت رانيا و ركضت في حماس في اتجاه المنزل، أما منال و ليلى فقد ترجلتا على مهل و هما تمتعان بصرهما بالمشهد الخلاب الذي فاق جميع توقعات ليلى... فيبدو أن ممتلكات آل القاسمي لا تشبه في شيء ما يحيط بها من حقول و مزارع! الأشجار و السهول كانت تكتسي خضرة مشرقة تسحر الألباب و تدخل على النفس انشراحا عجيبا... ابتسمت في سرها و هي تتيقن أكثر و أكثر من الثراء الفاحش الذي تنعم به عائلة خالها... فمع أنها ابنة سفير سابق و رجل أعمال متمرس و قد عاشت حياة مرفهة، إلا أنها لم تعرف هذا النوع من الرفاهية، حياة القصور و الممتلكات الشاسعة... فوالدها كان من محبي البساطة و شقتهما الفاخرة في باريس لا تساوي جناحا واحدا من أجنحة قصر آل القاسمي!

انتزعها أمين من تخيلاتها حين اقترب منها قائلا، بصوته الجهوري :
ـ كيف كانت رحلتك إلى هنا؟ ... الكثير من الاهتزازات؟ لا أظنك تعودت على الطريق الريفية غير الممهدة! تعالي، سأعرفك على الخالة مريم... مربيتنا. إنها تقيم في الضيعة منذ زمن... مذ تخلى القصر عن خدماتها لتقدمها في السن... لكننا لا ننكر فضلها علينا... و لذلك منحها والدي راتبا شهريا، مع الإقامة في المزرعة... فهي امرأة وحيدة و ليس لها أبناء...

ثم أضاف مبتسما :
ـ عدانا نحن الثلاثة طبعا! فهي ربتنا جميعا... أنت تعلمين أنه ليس من السهل أن تهتم عجوز بمفردها بمزرعة مترامية الأطراف كالتي يملكها والدي، لكن منذ استقرارها هنا، تحسنت الأوضاع بشكل ملحوظ! فقد أبدت حنكة و مهارة تضاهي تلك التي أبدتها من قبل في تدبير شؤون القصر و الاهتمام بالأطفال... فهي هنا تقدم الكثير من المقترحات، لولعها بالزراعة و الطبيعة، و تنافس المشرفين أحيانا! انظري... هذا حوض الورود البرية الذي حدثتك عنه...

سبقها بخطوات و توقف أمام حوض ورود حمراء، كتلك التي رأتها في الحديقة الأمامية للقصر، و انحنى ليقطف وردة حمراء قانية ثم تقدم نحو ليلى بخطوات هادئة. رمقته ليلى في شك، فأمين من النوع الذي لا يمكن توقع تصرفاته! لكنه هذه المرة كان أقل شاعرية مما كان عليه إبان استقبالها، فمد إليها الوردة دون رسميات، و على شفتيه ابتسامة حالمة... و لوهلة، بدا لليلى أنه شرد بعيدا، إلى حيث لا تدري، ثم بهتت الابتسامة على شفتيه و بقيت يده ممدودة بالوردة... ترددت ليلى، لكن حين لاحظت أن يده أخذت ترتخي و الوردة تكاد تفلت من بين أصابعه، مدت يدها و تناولتها و هي تهتف :
ـ أمين... هل أنت بخير؟

بقيت عيناه مركزتين على الوردة بين أصابعها للحظات، كأنه يحدق في الفراغ، ثم ما لبث أن انتبه إليها، فتراجع في ارتباك و نظر إلى الوردة التي كانت في يدها الآن، ثم همس في هدوء :
ـ تقبلي مني هذه الوردة... عربون صداقة!

و بمرح غير متوقع هتف :
ـ تعالي... لقد سبقنا الآخرون!

ثم سبقها من جديد و أخذ يرتقي الدرجات المؤدية إلى المنزل الريفي و هو يثرثر حول الطقس و طعام الغداء و عصافير الكناري التي تربيها الخالة مريم...

ابتسمت ليلى في حيرة و هي تتبعه في صمت... لقد عاد أمين إلى طبيعته!





لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 10:42 AM   #7

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




الجـــــــــزء الخامس



تناهى إليهما صوت الخالة العجوز و هي تتبادل الأحاديث مع أفراد العائلة. كان السيد نبيل و فراس و ياسين و منال قد دخلوا إلى الردهة منذ حين... و كان ضحك الصغيرة رانيا يتعالى و هي تجلس بين أحضان الخالة مريم و تلهو بطرف ثوبها المطرز.

دخل أمين فاتحا ذراعيه و هتف :
ـ مريومتي... كيف حالك أيتها العجوز الحبيبة؟

وقفت في تثاقل بعد أن أزاحت رانيا من حضنها و هي تتظاهر بالغضب :
ـ قلت لك لا تنادني بالعجوز مادامت في الصحة بقية!

ثم قالت في حنان :
ـ مضى وقت طويل يا صغيري... تبدو نحيلا! هل تناولت فطورك؟

ضحك الجميع على أمين الذي أخذ يستعرض عضلاته محتجا :
ـ تلك يسمونها رشاقة يا مريم العزيزة... رشـــــــاقة!

في تلك اللحظة تفطنت إلى وجود ليلى فتسمرت مكانها في دهشة و تراجعت خطوتين لتبحث عن نظاراتها الطبية الموضوعة على المنضدة. وضعتها على عينيها بأصابع مرتعشة ثم هتفت مصدومة :
ـ خبروني... هل ترون ما أرى... أما أنها تهيؤات و تخاريف عجائز؟

إذاك تقدم السيد نبيل و أمسكها من ذراعها و قد أخذت مفاصلها في الارتعاد من الصدمة. أجلسها على الأريكة و ساقاها لا تكادان تحملانها. قال مهدئا :
ـ استريحي و تنفسي جيدا... إنها ليست حنان... بل شقيقتها التوأم...

رددت العجوز مبهوتة :
ـ شقيقتها التوأم؟!

هز نبيل رأسه مؤكدا :
ـ نعم توأمها التي كانت تعيش مع والدها في فرنسا... تعلمين أن نجاة و نجيب انفصلا مبكرا...
ـ نعم، لكن لم أعلم أن لهما أبناء آخرين غير حنان!

ـ نجاة رحمها الله أخفت الأمر عن الجميع، لم ترد أن يذكرها أحد بابنتها التي تخلت عنها و أخرجتها من حياتها كما أخرجت والدها... لكنني كنت أعلم، و بقيت على اتصال بنجيب طيلة السنين الماضية... و أظن أن الوقت قد حان كي تتعرف ليلى على بقية عائلتها...

ثم تنهد و هو يضيف :
ـ و إن كان القرار قد تأخر كثيرا... تأخر بثلاث سنوات...

تجمعت العبرات في مقلتي ليلى. لم تكن تتصور أن تكون حساسة تجاه هذا الموضوع، فهي لم تعرف أمها و لا أحست بحاجتها إليها... والدها علمها أن تكون قوية، أن تعتمد على نفسها... لذلك نشأت وصلتها قوية بوالدها، و ثقتها عميقة بالله... لم تكن في حاجة إلى دافع معنوي ثالث، أو هكذا ظنت... إلى أن جاءت إلى هنا، و تعرفت على كل هؤلاء الأشخاص الذين عرفوا والدتها و شقيقتها التوأم... شيء ما تحرك في داخلها... و هاهي على وشك البكاء...

ـ تعالي يا ليلى... تعالي و سلمي على الخالة مريم...

أيقظها صوت خالها من أفكارها. تقدمت بخطى متعثرة إلى حيث جلست العجوز. رسمت ابتسامة حانية على شفتيها و انحنت لتقبل رأسها. رفعت العجوز عينيها إليها في بطء... توترت دقات قلب ليلى حين التقت عيناها بعيني الخالة مريم. رأت فيهما معاني غريبة... شيء من الحذر... و الشك! لكن ما لبثت ملامحها أن لانت و أخذت بكف ليلى بين كفيها و هي تقول :
ـ تعالي يا صغيرتي... كم كانت والدتك قاسية حين حرمتك من حنانها...







انشغلت الخالة مريم بإعداد فطور دسم على شرف ضيوفها... أبنائها الأحباء الذين رزقها الله إياهم بعد أن يئست من الإنجاب، في حين جلست ليلى و منال في الشرفة تتأملان الطبيعة الغناء و تتجاذبان أطراف الحديث. تعالى صوت أمين من الأسفل و هو يهتف :
ـ ليلى، منال... هل تريدان الخروج في جولة؟

نظرت منال إلى ليلى متسائلة فهزت ليلى رأسها علامة للرفض بسرعة. كتمت منال ضحكتها ثم أطلت من الشرفة و هي تقول :
ـ أنا متعبة قليلا يا أمين... سأصحب ليلى في نزهة بعد الغداء... هل يمكنك الاهتمام برانيا؟ تركتها تلهو في الأسفل...

هز أمين رأسه متفهما و إن بدت عليه خيبة الأمل. أما منال فالتفتت إلى ليلى مداعبة :
ـ يبدو أنك تروقين لأمين... هل تراه ينوي الخروج من حياة العزوبية؟!

احمرت وجنتا ليلى و هي تهز حاجبيها في دهشة... أمين؟ غير معقول... مستحيل!
ضحكت منال و هي ترى وجهها قد تغير و قالت في ود :
ـ صدقيني أمين طيب جدا... قد يبدو لك جريئا، و طفوليا أحيانا... لكنه شخص رائع...

أطرقت ليلى في انزعاج... و دعت الله أن لا تكون نوايا أمين تجاهها من ذاك النوع... سرحت في تفكيرها للحظات، في ذكريات قريبة، لم يمض عليها سوى بضعة أسابيع، غيرت الكثير في حياتها...
انتبهت على صوت منال و هي تميل عليها غامزة :
ـ لقد رأيته منذ قليل حين أعطاك الوردة الحمراء!

تجاهلت ليلى ملاحظتها، فقد كان بالها مشغولا بفكرة أخرى خطرت لها في تلك الآونة، فبادرت منال في اهتمام :
ـ منال... أخبريني، كيف كانت علاقة أمين بحنان؟

ترددت منال للحظات و قد بوغتت بالسؤال، ثم قالت بعد تفكير قصير، كأنها تنتبه إلى أمر ما للمرة الأولى :
ـ قد يكون ما أقوله مفاجئا لك... فأمين و حنان كانا صديقين مقربين... مقربين جدا... حتى أنني استغربت حين تزوجت حنان من فراس... لم يكن هناك شيء يوحي بإمكانية ارتباطهما قبل أن يحصل... أو هذا ما بدا لي على الأقل...

لكن ليلى لم تفاجأ، لم تفاجأ أبدا... كان كلام منال منطقيا جدا، و منسجما مع الانطباعات التي خلفتها لديها تصرفات كل من أمين و فراس... اهتمام أمين و تقربه منها... و نفور فراس و انزعاجه من وجودها... أي نوع من الأزواج كانا... فراس و حنان؟ لكن سؤالا آخر أكثر أهمية كان يتردد في ذهنها... لكن لم يحن الأوان بعد. يجب أن تكشف كل شيء بنفسها... ركنت تساؤلاتها جانبا و أردفت مستفسرة :
ـ و كيف كانت ردة فعل أمين تجاه زواجهما؟

كانت منال على وشك الإجابة، حين فاجأها صوت الخالة مريم و هي تقترب من مجلسهما قائلة :
ـ أين وصلت بكما الأحاديث؟

التفتت منال و ليلى إلى العجوز التي جذبت مقعدا آخر و جلست بينهما و هي تتنهد :
ـ و أخيرا انتهيت من تقطيع الخضر و وضعت القدر على النار... سأجلس معكما قليلا إلى أن تنضج الأكلة...

كانت ليلى متوترة، لسبب تجهله، فقد أخذت أصابع يدها التي استقرت في حجرها تتقلص منكمشة على ثوبها. هل هي نظرات الخالة مريم التي أخذت تتفحصها، كأنها تحاول سبر أغوارها... أم لهفتها لمعرفة حقيقة ما حصل مع أختها و مواصلة حديثها مع منال الذي قاطعته الخالة للتو؟

رفعت عينيها لتواجه العجوز في تحد و كأنها تقول : لست خائفة منك... حدقي بي مثلما تشائين!
لكنها دهشت حين وجدتها ترنو إليها بعينين دامعتين، فبادرتها في اهتمام :
ـ خالتي... هل أنت على ما يرام؟

ابتسمت مريم و هي تهز رأسها و تمسح العبرات من عينيها و قالت بصوت مخنوق :
ـ تذكرت أختك المسكينة... و نهايتها التعيسة...

قاطعتها منال في سرعة و حزم :
ـ أرجوك يا خالتي... لا داعي لإثارة هذا الموضوع!

رددت ليلى بصرها بينهما في حيرة و قلق :
ـ نهايتها التعيسة؟ أخبراني... كيف ماتت حنان؟

كان الصمت المطبق هو الجواب الوحيد على تساؤلها... لكنها ألحت بشدة :
ـ أرجوكما... لا تخفيا عني شيئا... أريد أن أعرف!

حدجت منال الخالة مريم بنظرة تأنيب للورطة التي وضعتها فيها... في حين هزت الخالة مريم كتفيها في استهانة، و لسان حالها يقول : يجب أن تعلم، كان ذلك عاجلا أم آجلا... تنحنحت منال و هي تقول أخيرا :
ـ عمي نبيل لم يكن يريدك أن تعلمي بما حصل، لأن الحادث كان مأساويا و أثر فينا جميعا لوقت طويل... حنان... اختارت أن تضع حدا لحياتها... حنان... انتحرت...

تجمدت نظرات ليلى و لم يبد على ملامحها أي انفعال بعد أن نطقت منال بكلمتها الأخيرة. هل كانت تتوقع ذلك؟ ليس بالضبط... لكن حديث والدها الغامض عن حادثة وفاتها... و تأثر فراس الشديد بالحادثة... كل ذلك يشير إلى أن وفاتها لم تكن طبيعية، لم تكن طبيعية أبدا...

واصلت منال :
ـ لم تكن حنان من النوع الذي يبدو عليه اليأس من الحياة إلى درجة التفكير في الانتحار... لكنها مرت بفترة اكتئاب في بداية حملها... كانت فتاة مرحة و منطلقة، حتى أنني كنت أحسدها على السعادة التي هي فيها... غفر الله لي... فهي كانت زوجة فراس، أحب أبناء عمي نبيل إلى قلبه، و ابنة أخته الوحيدة... أو هذا ما كنت أظنه في تلك الفترة... لذلك فهي كانت مدللة من الجميع... كانت كل الهدايا لها... و حتى قبل زواجها، فقد كانت الغرفة الزرقاء لها...

قاطعتها ليلى في استغراب :
ـ الغرفة الزرقاء؟

هزت منال رأسها في تأكيد :
ـ نعم، الغرفة التي تقيمين فيها حاليا... إنها تسمى الغرفة الزرقاء... الغرفة الخاصة لمالكة القصر الأولى...

وافقتها ليلى و هي تتذكر ما قاله أمين عن الطابع الغامض للغرفة. و تابعت منال :
ـ كانت غرفة مميزة... و كانت هناك حكايا غريبة يتناقلها الخدم حول أسرار أخفتها السيدة هاجر هناك... والدة ياسين، زوجي... لأنها كانت غرفة مغلقة معظم الوقت، منذ وفاة السيدة هاجر فيها... لكن بالنسبة للجميع فإن تميزها أتى من تمييز صاحبة القصر لها و اهتمامها بتنظيفها باستمرار و الحفاظ على اللون الأزرق فيها... الذي كان اللون المفضل لديها...

تدخلت الخالة مريم بصوت هادئ عميق و قد سرحت نظراتها إلى خارج الشرفة، بعيدا إلى الذكريات :
ـ رحمها الله... كانت امرأة قوية... و كان كل ما يحيط بها مميزا... عرفتها في بداية شبابها، حين جاءت إلى القصر للمرة الأولى، بعد زواجها من صاحبه، السيد محمود عبد الرحمان... كل الأملاك التي ترينها هنا، القصر الكبير و الشركة، كلها ورثتها هاجر عن محمود...

اقتربت العجوز من ليلى و همست في أذنها :
ـ نبيل كان سليل عائلة عريقة، لكن من دون ثروة... هاجر كانت تملك الثروة التي يطمح إليها، لكنها كانت قد تجاوزت سن الشباب حين عرفها، توفي عنها زوجها و لم يكن لديها أطفال منه... و نبيل كان شابا طموحا، فتزوجها أرملة... كان يعمل في شركة زوجها، رآها للمرة الأولى بعد وفاته، حيث اضطرت إلى النزول إلى ساحة العمل لمتابعة أعمال زوجها الراحل... و تم كل شيء بسرعة... تبادل مصالح، هي كانت بحاجة إلى رجل، رجل يدير الشركة و الأملاك و يسد الفراغ الذي خلفه رحيل محمود في حياتها... و هو كان في حاجة إلى المال... و زوجة ذكية...

توقفت العجوز كأنها تذكرت شيئا ثم أضافت :
ـ إيمان كانت تطمع في الحصول على الغرفة الزرقاء... لكن نبيل لم يرض!

سألت ليلى في اهتمام :
ـ من هي إيمان؟

أجابتها منال بصوت خافت، إذ أن مريم بدت مركزة مع ذكرياتها فلم تنتبه إلى ليلى :
ـ إيمان هي زوجة عمي نبيل الثانية... والدة فراس و أمين...

واصلت خالة مريم بنفس الصوت العميق :
ـ إيمان كانت تغار من هاجر... تغار من خيالها الذي كان يسكن كل بقعة من القصر، و خاصة الغرفة الزرقاء... نبيل كان وفيا لهاجر رغم زواجه الثاني... أغلق الغرفة الزرقاء حفاظا على ذكراها، مما أثار غيظ إيمان و سخطها... كان يدخل إليها بين الفينة و الأخرى و يظل وحيدا... نوع من الاعتكاف... و حين يخرج منها يكون وجهه متغيرا، كمن رأى شبحا... بل كأنه كان يناجي طيفها!

همست منال ليلى من جديد :
ـ لا تصدقي كل الخرافات التي تقصها العجائز... عمي كان يحب الاختلاء بنفسه بين الحين و الآخر، و الغرفة الزرقاء كانت مناسبة لأنه لا أحد يدخلها غيره... كان يحتفظ هنالك بملفات و أوراق كثيرة، بعيدا عن الأعين... ملفات أعمال... تعلمين...

هزت ليلى رأسها متفهمة، و فوجئت منال بالخالة مريم تقرص أذنها بغتة و هي تهتف :
ـ أعلم أنك تشككين في روايتي... أيتها الشقية!

تخلصت منال من قبضة الخالة و هي تتأوه في ألم و هتفت بدورها :
ـ كنت أظنك مركزة في الحكاية!

ثم وقفت لتغادر الشرفة و هي تقول :
ـ سأذهب لأتفقد رانيا... أراكما فيما بعد!

لوحت منال لليلى بيدها و غادرت المكان مهرولة لتنجو بجلدها من تعليقات العجوز اللاذعة
ابتسمت ليلى و هي تخاطب الخالة مريم في اهتمام :
ـ و ماذا عن أمي... حدثيني عنها!

تجهم وجه العجوز و بدا عليها التردد، لكنها قالت أخيرا و هي تحد من نظراتها :
ـ نجاة كانت شخصية عنيدة و عصبية... رحمها الله!

ابتسمت ليلى في حزن... لم يكن كلامها غريبا عنها، فوالدها أيضا وصفها بهاته الطباع، محاولا تبرير انفصالهما... من الواضح أنها لم تكن محبوبة، حتى من الخدم و المربية!
قطع حديثهما صوت ياسين القادم من الداخل :
ـ ألم يجهز الطعام بعد؟ إني أتضور جوعا!

استأذنت الخالة و قامت لتقدم لياسين بعض المقبلات في انتظار طعام الغداء...
أما ليلى، فقد وضعت رأسها بين كفيها و سرحت بعيدا... تفكر في كل الأسرار التي تريد اكتشافها، و كل الغموض الذي يلف ماضي عائلتها... فهل من معين؟



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 10:42 AM   #8

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الجزء السادس



دخلت ليلى إلى غرفتها و ارتمت على السرير الوثير في إنهاك. انقضت الأمسية ثقيلة على قلبها... كان الجميع في مرح و لهو، حتى فراس استسلم لدعابات مريم و حكاياتها... الجميع، إلا هي... فإن ذهنها كان مشغولا... لماذا يا حنان، لماذا؟ لم تستطع أن تمنع نفسها من التفكير في مأساة أختها، و لم تتمكن من الانفراد مجددا بالخالة مريم حتى تحدثها أكثر عنها و عن أمها و ماضي العائلة، إذ أن أفراد العائلة ظلوا مجتمعين إلى المساء...

تأملت الديكور الأزرق للغرفة، فعادت إليها أحاديث العجوز عن سرها الدفين... هل شبح السيدة هاجر لا يزال يحوم في الغرفة؟ أين أنت أيها الشبح... إن كنت هنا اخرج و واجهني، لست خائفة منك! قالت ذلك في نفسها و ابتسمت في استهزاء...

فجأة سمعت طرطقة عنيفة لارتطام جسم صلب ما بالأرض. هبت من مكانها فزعة و انكمشت في ذعر و أخذت تتلفت حولها في تحفز... لكنها انتبهت إلى أن حذاءها الذي كان متعلقا بطرف قدمها قد سقط على الأرضية الخشبية المفروشة، حيث أنها كانت تهز ساقها هزات متواترة، مأرجحة الحذاء مرة إلى الأمام و مرة إلى الخلف فانفلت في إحداها! ارتمت من جديد على السرير و هي ترسل زفيرا عميقا ثم ما لبثت أن انفجرت ضاحكة على نفسها... يا للسخرية! هل خفت حقا يا ليلى من الشبح، و لو لوهلة قصيرة؟!

تذكرت والدها الذي لم يتصل بها منذ سفره فاستقامت في جلستها و قد عاد إليها القلق. خالها قال بأن اشتراك الهاتف سيكون عندها حين العودة من المزرعة. هل تراه نسي؟ سأذكره بالأمر! وقفت و هي تعدل وشاحها و قد همت بالخروج... لكنها انتبهت حينها إلى العدة التي كانت فوق المكتب. هرولت إليها في لهفة. ابتسمت و هي تتناول منها ما يهمها... نعم لقد وفى خالها بوعده و أحضر لها هاتفا جوالا جديدا مع كل ما يلزم! سارعت بتكوين رقم والدها الخاص الذي تحفظه عن ظهر قلب و لبثت تترقب للحظات... لكن و لخيبة أملها، كانت آلة الهاتف الأوتوماتيكية من أجابها معلنة أن الهاتف المطلوب مغلق! ما الذي يحصل؟ هل استغنى والدها عن هاتفه الدولي الخاص الذي يستعمله في كل مكان؟! ليس الأمر مطمئنا البتة!

جلست من جديد و قد أصابها الإحباط و سيطر عليها القلق... لم تكن مطمئنة منذ البداية لرحلة والدها هذه... و لم تفهم سبب إصراره العجيب على تركها هنا! فهي رافقته طيلة حياتها في كل سفراته طالت أم قصرت... و كان يدبر أمره في كل مرة حتى يكون الانتقال مزامنا لبداية السنة الدراسية الجديدة... تنهدت في أسى، كان ذلك حين كان يزاول عمله كسفير... أما الأعمال الحرة فهي الفوضى الكلية! لكن حتى بعد تخليه عن وظيفته في السفارة، فإنه كان يأخذها معه في رحلاته، أو يتركها بمفردها لأيام قليلة إن كان لديها ما يشغلها في دراستها... فلم رماها عند خالها هذه المرة بالذات؟

تنهدت من جديد و هي تفكر فيما يمكنها فعله... تناولت الهاتف من جديد و كونت رقما آخر. انتظرت للحظات قبل أن يصلها الصوت المألوف من الجانب الآخر. هتفت في شوق :
ـ السلام عليكم و رحمة الله... كيف حالك من دوني أيتها الشقية؟

أبعدت الهاتف عن أذنها حين أطلقت محادثتها صيحة فرح و هي تهتف :
ـ ليلــــــــــــــــــــى! أين أنت؟ كيف حالك؟ أنت بخير؟ و كيف حال عمي نجيب؟

أعادت كلماتها إليها القلق فهمهمت :
ـ أنا بخير الحمد لله... لكن أبي لا أعلم عنه شيئا منذ سافر... تصوري لم يتصل حتى ليطمئنني على وصوله سالما إلى أمريكا!

قالت مخاطبتها بلهجة حانية مطمئنة :
ـ لا داعي للقلق و لا تتركي الوساوس تتغلب عليك... من المؤكد أن الأعمال شغلته... أنت تعلمين، رجال الأعمال بالكاد يجدون الوقت للتنفس!
لم تقتنع ليلى :
ـ و لكن يا سحر، أنا ابنته الوحيدة! أنا كل عائلته! كيف ينسى الاتصال بي، على الأقل كان بإمكانه تكليف مأمون بمهمة طمأنتي على وصوله سالما!

هتفت سحر مغيرة الموضوع بسرعة :
ـ لا تتصورين كم بقي مكانك شاغرا بيننا! الجميع يسألون عنك و يبلغونك تحياتهم... سرور و حبيبة و جمال و مروان و حتى صوفي و سيسيليا و جون...

سكتت سحر، و بقيت ليلى مترقبة. بقي اسم، اسم آخر لم تذكره سحر... أم تراه لم يسأل عنها؟
استطردت سحر و قد أدركت أنها وترت أعصاب صاحبتها بما فيه الكفاية :
ـ و لكن هل تعلمين من عذبني بالسؤال عنك ليل نهار؟ الدكتور عمر... كيف حال الآنسة ليلى... هل اتصلت الآنسة ليلى... بلغي سلامي للآنسة ليلى... جنني!

تسارعت دقات ليلى في سمفونية أفلتت منها نوتاتها... عمر... سرحت بنظراتها الحالمة إلى ذاك اليوم... اليوم الذي تغيرت فيه حياتها، بكل المقاييس...

كانت خارجة من المكتبة حين استوقفها و هو يناديها بصوت هادئ :
ـ آنسة ليلى... هل يمكنني أن آخذ من وقتك بضع دقائق؟

التفتت إليه في توتر. نظراته توترها، صوته، ابتسامته، خاصة و هو قريب منها... لكنه بدا متوترا هو الآخر، يسوي نظاراته الطبية على عينيه باستمرار و يهرش ذقنه في حركة عصبية :
ـ هل من الممكن أن أحصل على موعد مع والدك في أقرب وقت ممكن؟

نظرت إليه في شك و قد فاجأها طلبه و توتره في آن :
ـ نعم، بالطبع... هل لي أن أعلمه بسبب الزيارة؟

بدا عليه التردد لكنه قال :
ـ لا أريد التحدث في الموضوع في الجامعة... لأنه موضوع... شخصي!

ظلت صامتة كأنها تنتظر توضيحا أكبر، ثم هتفت في قلق لخاطر طرأ على بالها :
ـ دكتور... هل هناك مشكلة بشأن امتحاناتي أو برنامج المرحلة الثالثة؟

أطلق ضحكة خفيفة و قد أدهشه قلقها و أردف :
ـ بالعكس... أنت يا ليلى من أكثر الطلبة عندنا اجتهادا و تميزا و لا غبار على ملفك الدراسي، لذلك لا تقلقي بشأن المرحلة الثالثة... كما أنني سأعزز الملف بتوصية مني حتى تجهز أوراقك في أقرب الآجال!

ثم أضاف مبتسما :
ـ إضافة إلى أننا لا نطلب لقاء ولي أمر الطالب إذا حصلت معه مشكلة ما... فطلبتنا ما شاء الله كلهم راشدون!

ابتسمت في امتنان، و هي تضحك في سرها على فكرتها السخيفة و قالت :
ـ شكرا لك يا دكتور... لست أدري كيف أشكرك!

ابتسم بدوره و هو يجيب :
ـ تشكرينني بأن تطلبي لي موعدا مع والدك!

هزت رأسها موافقة و همت بالانصراف، من المؤكد أن الموضوع يخص أعمال والدها فهو يتعامل مع الكثير من الاستشاريين القانونيين و قد صادف في السابق أن كان أحدهم أستاذا لها في الجامعة، فلم لا يتكرر الأمر مع الدكتور عمر. ابتعدت بضع خطوات، لكنه استوقفها من جديد :
ـ ليلى... ربما يكون من الأنسب أن أطلب رأيك... قبل أن أقابل والدك!

توقفت مبهوتة... رأيي أنا؟ و ما دخلي أنا في أعمال والدي؟ لكن إحساسا ما خامرها و جعل وجيب قلبها يتسارع... هل من المعقول... هل من الممكن...؟ أفيقي يا ليلى... لا تدعي الأحلام تأخذك بعيدا و ركزي مع الدكتور. التفتت إليه و همست بصوت خافت مبحوح :
ـ تطلب رأيي في ماذا يا دكتور؟

جاءها صوته عميقا، واضحا و قويا ملأ إحساسها :
ـ ليلى... أريد لقاء والدك لأطلب منه يدك... فما رأيك؟

احمرت وجنتاها بشدة و أطرقت في حياء... تجمعت الدموع في عينيها من التأثر و لبثت لثوان طويلة صامتة، و قلبها يرقص في صدرها بجنون... رأيي؟ إنه يطلب رأيي فيه؟ إن كنت في حلم، فلا أريد أن أفيق منه! لكن صوته جاءها من جديد و فيه شيء من الارتياح، ارتياح لصمتها :
ـ إذن تطلبين لي موعدا مع والدك؟

هزت رأسها ببطء علامة الإيجاب، دون أن تنظر إليه، ثم فرت من أمامه فرارا و الدنيا لا تكاد تسعها من الفرح...
استيقظت من أحلام اليقظة على صوت سحر و هي تهتف بها :
ـ ليلى... هل تسمعينني؟

ـ هه...

ـ إلى أين ذهبت؟

استندت ليلى إلى خلفية السرير و قد عادت إلى واقعها و همست في إرهاق :
ـ أنا متعبة يا سحر... متعبة...

أصرت سحر في قلق على صديقتها :
ـ ليلى... هل أنت بخير؟

تنهدت ليلى بعمق و قالت بصوت باك و قد فاض الحزن من قلبها :
ـ كيف أكون بخير يا سحر... كيف أكون بخير و أبي غائب عني منذ ثلاثة أيام و لم أسمع صوته طوالها... كيف أكون بخير و أنا أكتشف للتو أن شقيقتي التوأم ماتت منتحرة و هي تحمل جنينا في بطنها... و زوجها... زوجها لا يزال يعاني عقدة نفسية حادة من بعد الحادثة... كيف أكون بخير و أنا أرى في العيون الحقد على أمي التي لم أرها... و التي لا يذكرها بالخير أحد... و ها أنا أجد نفسي وحيدة في هذا القصر الكبير... وحيدة في الغرفة الزرقاء التي تحاك حولها الأقاويل... كيف أكون بخير بالله عليك؟
قالت ذلك و أجهشت بالبكاء... كانت طوال اليوم تكابر و ترسم على شفتيها الابتسامة... لكنها لم تعد قادرة على التماسك و كتم ألمها في صدرها، خاصة و أنها تمكنت من الاتصال بسحر، أعز صديقاتها و كاتمة أسرارها... فآن الأوان لتنفس عن مكنونات صدرها...

بذلت سحر جهدها لتهدئتها و تهوين الأمر عليها، ثم تركتها بعد أن وعدتها ليلى بالخلود إلى النوم و أخذ قسط من الراحة بعد يومها المرهق. وضعت الهاتف جانبا و ارتمت على السرير بملابسها. أغمضت عينيها آملة أن يأخذها النعاس، لكن طيفا مر بخيالها و أسهدها...

كانت تراه مثل كل الطلبة، مثالا للدكتور الجاد و المتميز في عمله... لكنه إضافة إلى مزاياه العلمية و الأكاديمية فهو من الدكاترة المسلمين القلائل في علم القضاء، في الجامعات الفرنسية، الذين يعدون على أصابع اليد الواحدة. كان شابا وسيما، وسامته عربية و أخلاقه عربية مسلمة كذلك... و هذا لم يمنع عددا كبيرا من طالبات الكلية من الوقوع في غرامه! لم تكن ليلى مثلهن، لم تراقبه و لم تتطفل على مكالماته الهاتفية و لا على جدول مواعيده كما تفعل الكثير من الطالبات. هي كانت تحترمه، و تعجب بشخصيته القوية، بحزمه و أخلاقه العالية... و لا تنسى له مواقفه الجادة معها و مع غيرها من الطلبة الأجانب، و خاصة الفتيات المحجبات، في كل مرة تعرضن فيها إلى مضايقات على أساس عنصري أو انحيازي. لم يكن يتردد في الإشادة بأعمالهن أمام بقية الطلبة و توجيه كلمات التشجيع إليهن... و هي كانت تسعد بكلماته هو بالذات، دون بقية الدكاترة...

أصبح بالنسبة إليها نموذج الرجل المسلم المثقف في الغرب، و أصبحت كلما تقدم لخطبتها شاب ما وجدت نفسها تقارنه به... لأنه كان المثال الحي لفارس أحلامها... لكن، عدا الأحلام، فإنها لم تكن تطمع في الشيء الكثير... و أقنعت نفسها بأنها معجبة بشخصيته كأستاذ تتتلمذ على يديه و تتعلم منه و من طريقة تعامله مع الآخرين... دون أن تطمع في أي شيء آخر...

هكذا أقنعت نفسها... و هكذا ظنت... إلى أن جاء ذاك اليوم الذي وجدت نفسها فيه تحلق في عالم الفراشات من السعادة... حينها فقط أيقنت بأنها معجبة به... و تتمناه زوجا...
و لكن كل شيء انقلب رأسا على عقب في حياتها منذ ذاك اليوم!
عادت إلى الشقة الباريسية و هي في لهفة لتخبر أباها و تطلب موعدا لعمر... نعم، أصبح يلذ لها أن تقول عمر بدون دكتور... فهو سيصبح خطيبها عما قريب! لكن الحالة التي وجدت عليها والدها منعتها من أن تنطق بكلمة. كان يجلس في انتظارها و قد أعد لها مفاجأة كبيرة... المفاجأة التي رمت بها إلى هذا القصر الموحش و أهله الغرباء...
كتمت فرحتها في صدرها... و لبث عمر ينتظر... و ينتظر... فإلى متى سينتظر؟




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 10:43 AM   #9

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




الجزء السابع




تسللت خيوط الشمس الرقيقة لتداعب وجهها و تدفئ بشرتها... تململت في مكانها ثم فتحت عينيها في انزعاج. لم تغلق الستائر جيدا مما سمح للضوء بدخول الغرفة! على أية حال، يجب أن تستيقظ، فقد نامت بما فيه الكفاية. البارحة أوت إلى غرفتها مبكرة، بعد عودتها من المزرعة مباشرة. استوت في جلستها و أجالت بصرها في الغرفة كأنها تكتشفها للمرة الأولى... كانت الجدران مغلفة بورق أزرق سماوي تزينه زهور دقيقة بيضاء، الستائر كانت متموجة بمختلف درجات الأزرق... السقف بدوره يكتسي نقوشا و زخارف دهنت بنفس لون الجدران. الحمد لله... الأثاث على الأقل كان من الخشب الأبيض! ضحكت في سخرية و هي تتخيل أثاثا أزرق بالكامل. حتى الأرضية الخشبية فقد كانت مغطاة بزربية زرقاء مزركشة! تنهدت و هي تدفع عنها اللحاف الأزرق و تهب واقفة. لم يكن اللون الأزرق مزعجا مثلما بدا لها اليوم! فقد أحبت رونق الغرفة في اليوم الأول لتواجدها في هذا القصر... لكن أعصابها الآن لم تعد تتحمل المزيد من الأزرق...

فتحت خزانة الملابس فطالعتها سترتها المفضلة، ذات اللون الأزرق... ألقتها بعيدا في عصبية و اختارت ثوبا ورديا أعاد الانشراح إلى نفسها... تعجبت من عصبيتها المفاجئة. ليس الخطأ في اللون الأزرق، فلطالما كان من ألوانها المفضلة، لكن الغرفة الزرقاء و ما يحيط بها من حكايات و أسرار تثير سخطها!
فتحت باب الغرفة، ألقت نظرة أخيرة على الغرفة الزرقاء، نظرة تحد و توعد... ثم ابتعدت و قد اتخذت قرارا...

كانت الحديقة مساحتها المفضلة في القصر بدون منازع. حديقة غناء مترامية الأطراف، معتنى بها بشكل جيد... تمشت قليلا بين شجيرات الورد و قد شغلها التفكير في وضعها من جديد. انتبهت إلى خالها الذي كان يجلس في الحديقة الخلفية و قد انشغل بقراءة جريدته الصباحية. تذكرت أنها لا تزال في عطلة نهاية الأسبوع، و بالتالي فإن خالها و ياسين لا يذهبان إلى الشركة اليوم أيضا. توجهت نحوه و قد قررت أن تفاتحه في الموضوع. انتبه السيد نبيل إلى وقع خطواتها و هي تقترب من مجلسه فرفع عينيه إليها و ابتسم :
ـ صباح الخير ليلى... تعالي و اجلسي إلى جانبي...

ألقت التحية و اتخذت مجلسا على أريكة عريضة غير بعيدة عنه. ضحك و هو يقول :
ـ تعجبت حين سمعت صوت خطواتك، فليس من عادة أولادي الاستيقاظ باكرا في نهاية الأسبوع... فأجلس كما ترين وحيدا أحتسي قهوة الصباح و أطالع الجرائد، حتى تعود الحياة إلى القصر حوالي الساعة الحادية عشرة!

ابتسمت ليلى في حرج. رغم سكنها عند خالها منذ ثلاثة أيام إلا أنها لم تجلس إليه بمفردهما من قبل، حتى أنها كانت تطلب وساطة منال لديه كلما احتاجت إلى شيء. تشجعت و بادرته بصوت واضح :
ـ خالي...

نظر إليها مبتسما و على وجهه علامات الانتباه. احمرت وجنتاها و بدا عليها التردد. فقال مشجعا :
ـ تفضلي يا ليلى... لا تخجلي مني...

ابتسمت بدورها و هي تلهو بطرف ثوبها و قالت بعد صمت قصير :
ـ كنت أريد أن أطلب منك شيئا...

هز رأسه كأنه يحثها على التابعة، فأردفت :
ـ بما أن إقامتي عندكم قد تطول... و بما أن الغرفة التي أسكنها كانت خالية منذ بضع سنوات... فإنني فكرت... إن لم يكن في الأمر إزعاج لكم... و بعد موافقتك طبعا... فكرت في تغيير ديكور الغرفة... حتى أحس بأنها غرفتي... أقصد غرفتي المؤقتة طبعا... فكرت في تغيير ورق الجدران و الستائر...

عقد نبيل حاجبيه و بدا عليه التفكير، فأضافت ليلى على الفور :
ـ كل ذلك على نفقتي طبعا... و لكن، إن كان في الأمر إزعاج و تطاول مني فلا بأس! لا بأس إطلاقا... الغرفة في حالة جيدة و أنا لا أشتكي من شيء... لكن...

ضحك نبيل و هو يقول :
ـ اهدئي يا ليلى... لا داعي للتبرير, إنها غرفتك بالفعل و لك الحق في تغيير ديكورها مثلما تشائين، و على نفقتي طبعا، فأنت في بيتي و ضيافتي... كنت أفكر في المحل المناسب لاقتناء كل ما يلزم و قد وجدت المحل المناسب و أضمن أنه سيفتح اليوم من أجلك... سأرسل صابر بعد قليل لإحضار عينات من المواد المعروضة و يمكنك اختيار الألوان التي تناسبك...

نظرت إليه ليلى في ذهول :
ـ هل تقصد بأنه لا يزعجك أن تصبح الغرفة الزرقاء... غير زرقاء؟

ضحك من جديد، ثم ابتسم و كأنه يسترجع ذكريات بعيدة :
ـ كانت هاجر زوجتي الأولى مولعة باللون الأزرق، و قد خصصت لنفسها تلك الغرفة و كستها بلونها المفضل، حتى أطلق عليها اسم الغرفة الزرقاء... و قد حافظت على طابعها الخاص من بعدها، احتراما لذكراها...

ثم نظر إليها في أسى و هو يتابع :
ـ لكن الغرفة أصبحت تحمل ذكريات كثيرة... لا تخصني وحدي... و من المفيد أن نضفي عليها بعض التغيير... لتجديد الحياة...

لبثت ليلى ترمقه في صمت و قد أحست بالألم في صوته. كم من الأسرار تخفين أيتها الغرفة الزرقاء؟!
انتبهت من شرودها على صوت خالها و قد غير الموضوع :
ـ من عادتنا أن نقيم حفلة شواء كل نهاية أسبوع... لذلك سيكون لدينا عدد من المدعوين اليوم من عائلة زوجتي الراحلة و من أصدقاء العائلة... لذلك استعدي...

ثم غمزها و هو يقول في خبث :
ـ أريد أن تكون ابنة أختي أجمل الفتيات الحاضرات... لا تخيبي ظني!

خجلت ليلى من أسلوب خالها الجريء و ابتسمت و قد فهمت ممن ورث أمين طباعه!
وقفت و همت بالمغادرة، لكن خالها استوقفها و كأنه تذكر شيئا هاما :
ـ ليلى... نسيت أن أخبرك...

التفتت ليلى في اهتمام فقال :
ـ والدك اتصل البارحة...

قاطعته و هي تهتف في لهفة :
ـ أبي اتصل؟ لماذا لم يتحدث إلي؟ كنت قلقة عليه جدا...

أردف نبيل مهدئا :
ـ حين اتصل كنت نائمة، كان ذلك في وقت متأخر من الليل... نظرا لفروق التوقيت، كما تعلمين... لكنني مررت على غرفتك و طرقت الباب، و يبدو أنك كنت في نوم عميق فلم أرد إزعاجك... كما أنه لا شيء يدعو إلى القلق... فنجيب أراد أن يطمئن إلى حسن تأقلمك مع الوضع هنا و إلى حصولك على وسائل الراحة الكافية...

تنهدت ليلى في حزن و همست :
ـ لكنني أريد التحدث إليه! ألم يترك لك رقما يمكنني الاتصال به عليه؟ فهاتفه الدولي معطل...

هرش نبيل رأسه في إحراج و قال :
ـ الحقيقة، قال بأنه سيتصل بنفسه بين الفينة و الأخرى... لأنه مشغول جدا... لكن لا داعي للقلق، سيكون مشغولا في فترة البداية... لكن ما أن تستقر الأعمال و تتضح الأمور فإنه سيتصل بك دائما و يطمئن عليك بنفسه...

لم تقتنع ليلى بل ازدادت شكوكها بأن خالها و والدها يخفيان عليها أمرا ما... تنهدت و لم تصر أكثر و وقفت من جديد لتعود إلى غرفتها. جاءها صوت خالها مطمئنا و كأنه يحاول الاعتذار :
ـ لا تقلقي يا ليلى... و بالنسبة إلى طلبك، سأرسل صابر ليحضر العينات اللازمة... كل شيء سيكون عندك بعد ساعة من الآن...

هزت رأسها و شكرته في اقتضاب... و جرت قدميها عبر الحديقة و قد سيطر عليها الحزن من جديد...

*********

اختارت الألوان المناسبة لورق الجدران و الستائر و لحافات السرير و الزربية الجديدة... اختارتها كلها في اللون الوردي و درجاته... لون مشرق يغير إحساسها بالعالم من حولها... انضمت إليها منال و الصغيرة رانيا بعد أن أصرت على تغيير الورق بنفسها...
انهمكت منال و ليلى في نزع الورق الأزرق القديم الذي غطى الجدران بالكامل، في حين افترشت رانيا الأرض و أخذت تقص الورق المنزوع و تصنع منه أشكالا مضحكة تسارع في كل مرة لتريها إلى ليلى و والدتها...

ابتسمت منال و هي ترى ليلى مركزة في عملها و على وجهها علامات السرور :
ـ كانت فكرة جيدة أن تغيري ديكور الغرفة... فرغم أنها جددت مرات عدة و تم تغيير أثاثها إلا أن أحدا لم يفكر في التخلص من اللون الأزرق!

هزت ليلى رأسها موافقة، فواصلت منال هامسة :
ـ كما أنها فرصة للتخلص من اللعنة التي تلازم الغرفة و تصيب ساكنيها...

التفتت إليها ليلى في شك، فانفجرت منال ضاحكة و هي تلوح بكفها في استهانة :
ـ أنا لا أؤمن باللعنة و لا بالأرواح الضائعة التي تبحث عن الانتقام... لكن ما حصل في هذه الغرفة من أحداث أليمة يجعل الأقاويل تكثر و الخرافات لا تتوقف!

عادت ليلى إلى عملها و قد فهمت بأنها تتحدث عن انتحار حنان في الغرفة... لكن منال استرسلت في الحديث و كأنها تخاطب نفسها :
ـ أريد أن أفهم... هل للون الأزرق علاقة بحوادث الانتحار؟ لقد قرأت مقالة ما في إحدى المجلات تقول بأن الألوان لها تأثير عميق في الحالة النفسية و قد تؤدي إلى الاكتئاب و التأزم... لكنني لا أظن أن اللون الأزرق من الألوان الكئيبة!

سكتت للحظات ثم واصلت :
ـ السيدة هاجر شربت علبة دواء مهدئ كاملة في هذه الغرفة... و وضعت بذلك حدا لحياتها...

استدارت ليلى في ذهول و هتفت :
ـ السيدة هاجر انتحرت هي الأخرى؟!

هزت منال رأسها في أسف :
ـ نعم... و هناك حادثة انتحار أخرى حصلت في الغرفة أيضا... أماني، شقيقة السيدة إيمان...

تركت ليلى ما بين يديها و اقتربت من منال في اهتمام :
ـ خبريني ما قصتها...

جذبت منال كرسيا و جلست مستعدة لحديث طويل :
ـ بعد وفاة السيدة هاجر ببضع سنوات، تزوج عمي نبيل السيدة إيمان... كان ياسين قد بلغ العاشرة من عمره آنذاك... و قد كانت لدى السيدة إيمان أخت في مثل عمر ياسين تقريبا تأتي لزيارتها كثيرا للعب مع ياسين، و لأنها كانت متعلقة بأختها أيضا... ثم أنجبت إيمان فراس و أمين، و بعد أن كبرا و دخلا المدرسة الابتدائية كانت أماني تأتي لتدريسهما و مساعدتهما على المراجعة... و استمرت على تلك الوتيرة إلى أن دخلت الجامعة... ثم مرضت إيمان مرضا مزمنا... فقد كانت تعاني منذ زواجها من ضعف في القلب، فسافر معها عمي نبيل إلى عدد من البلدان الأوروبية للعلاج و طلب من أماني أن تأتي للإقامة في القصر في فترة غيابهما... لمساعدة الخالة مريم على الاهتمام بفراس و أمين و تعويض غياب والدتهما... لكن إيمان لم تصمد أمام المرض و توفيت في رحلة علاجها تلك التي استغرقت أسابيع طويلة... و بعد بضعة أشهر من وفاتها، انتحرت أماني في الغرفة الزرقاء حيث ظلت تقيم...

ظلت ليلى مشدوهة و هي تستمع إلى الحكاية، لكن منال ضحكت مداعبة و هي تقول :
ـ لو أنها عاشت، لما كنت أمامك اليوم! فياسين كان يفكر في الزواج منها... لكن الله عوضه خيرا منها... زوجة أخرى، جميلة و رقيقة و مميزة...

قالت ذلك و هي تلهو بخصلات شعرها في دلال...
ابتسمت ليلى و سارت لتواصل عملها بعد الفاصل التاريخي الكئيب... فتحت صوان الملابس، و أخذت في تفريغ محتوياته... فالصوان كان مغلفا بالورق الأزرق من الداخل... أخذت في نزع الورق بهدوء دون تركيز... فقد أخذتها أفكارها إلى الماضي البعيد و كل ما خلفه من أحزان في هذا القصر... لا شك أن مثل هذه الحوادث الفظيعة تترك أثرا عميقا في النفس حتى إن حاول صاحبه إخفاءه... ياسين الصغير، الذي رأى أمه تموت و هو لا يزال في الطفولة المبكرة... ثم ياسين الشاب الذي يفاجأ بخطيبته تنهي حياتها بصفة مأساوية... لا عجب أنه تزوج في سن متأخرة نوعا ما. من المؤكد أنه لا يشكو من المصاعب المادية التي تدفع الشباب إلى تأخير الزواج حتى الثلاثين أو ما بعدها، لكن يبدو أن عقدة نفسية تشكلت لديه بعد تلك الأحداث المؤلمة...

فجأة انتبهت حين لامست أصابعها نتوءا في الجدار الجانبي الذي لا يصل إليه الضوء... تلمست الجدار باهتمام... يبدو أن شيئا ما وضع بين الجدار الخشبي للصوان و ورق التغليف... شيء صلب، في حجم كراس صغير... مزقت ما بقي من الورق بسرعة و فضول كبير يدفعها... أخرجت الجسم أخيرا و تأملته بين يديها في دهشة... كان بالفعل كراسا صغيرا، أو مفكرة شخصية، ذات لون أسود. نفضت عنها الغبار و جلست على الفراش. انتبهت إليها منال فاقتربت منها في فضول و جلست إلى جانبها متسائلة :
ـ ما هذا؟

لم تجب ليلى و فتحت الكراس على الصفحة الأولى و قرأت :
"كلمات كثيرة لم يستطع لساني أن ينطق بها... أخفيتها في صدري طويلا... و لم تجد لها مسكنا سوى صفحات كراسي... لكنني آمل يوما أن أجد الشجاعة لأواجه بها العالم... و أطلب الصفح على كل ما فعلت، و ما لم أفعل... الإهداء (إلى زوجي العزيز فراس)"

كانت منال تطل برأسها لتقرأ ما كتب، فهتفت في حماس :
ـ يبدو أنها مذكرات حنان!!!

قلبت ليلى الصفحة دون أن تنطق و واصلت القراءة :
"عزيزي فراس،
ليس في قاموسي كلمات توفيك حقك و تبلغك مدى امتناني لك... و أتمنى أن أرد إليك جميلك يوما ما..."

قلبت ليلى الصفحة من جديد دون أن تنتهي من الرسالة، فهتفت منال في احتجاج :
ـ انتظري... لم أنته من القراءة بعد!

كانت الصفحة الموالية تبدأ بنفس العبارة أيضا "عزيزي فراس"... و الصفحات التي تليها كذلك.
أغلقت ليلى الكراس و التفتت إلى منال و هي تقول :
ـ يبدو أن الكراس عبارة عن مجموعة رسائل موجهة إلى فراس... أظن أنه ليس من حقنا أن نطلع على ما جاء فيه، فهو يخص فراس وحده!

ترجتها منال و قد سيطر عليها الفضول :
ـ يمكننا أن نقرأه ثم نسلمه إلى فراس... و هل لن يلاحظ الفرق... أرجوك!

هزت ليلى رأسها رافضة في إصرار فألحت منال :
ـ إن كنت لا تريدين القراءة فدعيني أقرأ و لن أخبرك بما جاء فيه!

وقفت ليلى و وضعت الكراس في درج المكتب و أغلقته بالمفتاح و منال لا تتوقف عن الاحتجاج. نظرت إليها ليلى و قالت :
ـ أنا آسفة يا منال، و لكنني من وجد المفكرة... لذلك من واجبي أن أسلمها إلى فراس و لا أحد غيره، فإن وافق على أن نطلع عليها فلا بأس... و الآن هيا إلى العمل...

تنهدت منال في يأس... و أخذت تجهز الورق الجديد...




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-05-15, 10:44 AM   #10

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




الجزء الثامن





ـ واو ليلى! الحكاية أقرب إلى الخيال!

ـ أرجوك سحر... إنها أقرب إلى الكوابيس!

هتفت سحر في حماس :
ـ ألا يبدو لك أن الانتحارات المتتالية هذه مثيرة للشكوك؟

عقدت ليلى حاجبيها و قالت في اهتمام :
ـ ماذا تقصدين؟

تنحنحت سحر ثم استطردت و هي تقول بلهجة جادة :
ـ سيدي الرئيس... أعضاء اللجنة المحترمين... إن رؤيتي للأحداث و تحليلي الدقيق للحقائق يقودني إلى الاعتقاد بأن يدا ما تتلاعب بالضحايا و تقودهم إلى المصير المحتوم، في مسرح الجريمة المشترك...

قاطعتها ليلى ضاحكة :
ـ أرجوك سحر... احتفظي بمرافعتك لقضيتك الأولى... نحن نتحدث عن انتحار و ليس عن جريمة قتل!

أردفت سحر في ثقة :
ـ ذاك هو بيت القصيد... في حالات كثيرة يعتقد بأن القضية هي عملية انتحار في حين أن القاتل قد قام بتلفيق الأدلة حتى تبدو كذلك!

هزت ليلى رأسها في عدم اقتناع :
ـ و لكن السيدة هاجر شربت الدواء... و كانت بمفردها في الغرفة!

ـ نعم... و هذا ما أريد الوصول إليه... لو فرضنا، أقول لوفرضنا... بأن هاجر انتحرت بالفعل، و هو مجرد افتراض يا عزيزتي... ثم انطلقت الشائعات حول الغرفة الزرقاء و غموضها... و أثريت القصة بطيف السيدة هاجر الشريد... ثم تتطور الأحداث و تظهر شخصيات جديدة، تنشأ عداوات تصل إلى التفكير في القتل... فيجد القاتل الأرضية الملائمة و يستغل حكاية الغرفة الزرقاء، حيث يتخلص من ضحاياه و يجعل الأمر يبدو انتحارا... باعتبار أن الغرفة تجلب الاكتئاب مثلا، أو أن الضحايا كانوا متأثرين بقصة الشبح، لست أدري... شيء من هذا القبيل، شيء على علاقة بقصة الانتحار الأولى... قولي، كيف انتحرت أماني؟

لبثت ليلى ذاهلة أمام فرضية سحر :
ـ لا أدري... لم أطلب التفاصيل...

هتفت سحر :
ـ يجب أن تسألي و تستفسري عن كل شيء... عن تفاصيل الجرائم التي حصلت... أداة الجريمة مثلا، و أماكن تواجد المشتبه بهم...

ـ انتظري أرجوك... أي مشتبه بهم؟
ـ جميع سكان القصر بدون استثناء! و يمكن حصر العدد فيما بعد... بعد دراسة الدوافع!

أطلقت ليلى ضحكة قصيرة و هتفت :
ـ سحر، أرجوك... المسألة معقدة بما فيه الكفاية... و لا تحتمل المزيد من الشكوك و التحقيقات!

تنهدت سحر و هي تقول :
ـ لو كنت مكانك لما تمكنت من النوم ليلة واحدة هانئة البال و أنا أعلم بأن القاتل لا يزال يجوب حرا طليقا!

ـ حسن... سأنظر في الأمر...

ـ لا تبدين مقتنعة!

هتفت ليلى في نفاد صبر :
ـ سحر، اتصلت بك لتخففي عني و ليس لتزيدي من مخاوفي!

ـ و لكن ماذا تريدين مني أن أفعل؟ أنا أحاول مساعدتك...

ـ طيب...

....

تخلصت ليلى من وساوس سحر بصعوبة. وضعت السماعة و هي تكتم ضحكتها على خيال سحر الواسع.
ألقت نظرة على الغرفة... كانت الفوضى تعمها، لكنها لم تعد زرقاء على أية حال. تخلصت من ورق الجدران الأزرق و كل الديكور التابع، لكنها لم تنته بعد من وضع ورق التغليف الجديد. تنهدت في إعياء... خالها اقترح عليها أن يقوم الخدم بتغيير الورق، لكنها أصرت... منال تخلت عنها لتهتم برانيا التي ملت الجلوس و تقطيع الورق! لكنها لم تندم على ذلك أبدا... فقد عثرت على كنز ثمين : مذكرات حنان!

حسن... ستنهي العمل في الغد... أما الآن فعليها الاستعداد لحفلة الليلة! تذكرت ملاحظة خالها فابتسمت.
أخذت حماما سريعا، ثم جلست أمام المرآة تتأمل وجهها. و للحظة، تخيلت حنان تجلس في مكانها، تطالعها بنفس العينين العسليتين، تبتسم شبه ابتسامة... تنهدت و هي تفكر... ما الذي يدفع فتاة دون العشرين من عمرها إلى الانتحار؟ اكتئاب في فترة الحمل؟!! مستحيل! هناك سر ما... سر لا تعلمه إلا حنان... و حنان وحدها قادرة على إخبارها بالحقيقة كاملة... تحولت نظراتها دون وعي منها إلى الدرج المغلق في مكتبها...

تناولت المفتاح من حقيبتها و أخرجت الكراس و قد استبدت بها رغبة ملحة في اكتشاف الحقيقة... تحس أن الحقيقة بين يديها... ماذا لو ألقت نظرة؟ لن يضر ذلك أحدا... لكنها ستعرف الكثير عن شقيقتها... كان الصراع قائما بين مبادئها و حاجتها إلى معرفة عائلتها... لكن يبدو أن الشكوك التي أثارتها سحر في نفسها رجحت الكفة الثانية! تناولت المفكرة السوداء بين يديها، قلبتها في حذر، ثم أخذت نفسا عميقا و فتحتها على الصفحة الثانية...

فجأة تعالت طرقات قوية على باب غرفتها. قفزت في مكانها و سقط الكراس من يدها. أفزعتها الطرقات و تسارعت دقات قلبها... انحنت لتأخذ الكراس من جديد و هتفت بصوت مختلج من الذعر :
ـ من هناك؟

جاءها صوت أمين من وراء الباب :
ـ ليلى... هل أنت جاهزة؟ لقد بدأ الضيوف في التوافد...

ـ حسن لن أتأخر...

ـ سأنتظرك في الأسفل...

ابتعدت خطوات أمين، فأخذت ليلى نفسا عميقا... نظرت إلى الكراس من جديد ثم سارعت بإخفائها في حقيبتها... ستسلمها اليوم إلى فراس، إذا لقيته في الحفلة...

همت بالخروج بعد أن ارتدت ثوبا مناسبا للحفلة الصغيرة. لكنها توقفت فجأة و قد تذكرت شيئا ما... عادت إلى طاولة الزينة و فتحت الدرج الذي أودعته صندوقها الصغير. صندوق خاص تضع فيه أشياءها الصغيرة الخاصة. فتحته في حرص، و تناولت قلادة رفيعة من الذهب الأبيض تدلت منه حلية رقيقة ذات شكل غريب... لطالما بدت لها الحلية منقوصة أو مشوهة... فهي ذات شكل مقوس، يشبه الهلال... لكن الجزء الداخلي فيه نتوءات مدببة... و قد رصعت الحلية بماسات صغيرة متألقة.

تنهدت و هي تضع القلادة حول جيدها. لم تكن تحب المجوهرات كثيرا، بل تحتفظ بقدر قليل جدا منها... و منها هذه القلادة التي تعني لها الكثير. فمع أنها ليست ذات جمال أخاذ، بل أنها قد لا تفكر في اقتنائها مطلقا إذا ما رأتها معروضة، فإنها تعتبرها أغلى ما لديها... لأنها ذكرى غالية من والدها، كانت هديته إليها في عيد ميلادها العشرين، و قد أوصاها بالحفاظ عليها لأن لها قيمة معنوية لديه. و الآن فإنها أحست بحاجتها إلى وضعها... لأنها تحسسها بقربها منه و هو بعيد. تعلم أن أفكارها تلك سخيفة، و أن القلادة لن تعيد إليها والدها... لكن يكفي أنها منه، و أنها عزيزة عليه...

نزلت السلم بخطوات بطيئة و هي تتطلع إلى البهو في حذر، فهي تتوقع أن ترى أناسا كثيرين غرباء بالنسبة إليها. لكنها فوجئت حين ألفت المكان خاليا... تقريبا... فقد طالعها وجه أمين المبتسم الذي كان بانتظارها أسفل الدرج. نظرت إليه في شك و سألت :
ـ أين الضيوف؟

ابتسم و هو يقدم إليها ذراعه للتأبطها و قال :
ـ الجميع في الحديقة... ينتظرون الشواء... تعالي، سأقدمك إليهم...

تجاهلت ذراعه و مرت من أمامه و في عينيها نظرة صارمة. ثم استدارت لتواجهه. يبدو أن وقت المصارحة قد حان! أخذت نفسا عميقا كمن يستعد لإلقاء خطاب ثم قالت بصوت هادئ و حازم في آن :
ـ أمين... يجب أن تستوعب شيئا ما... أولا، أنا لست حنان...

انفرجت شفتاه و أطلق همهمة و هو يهم بالاعتراض، لكنها قاطعته و هي ترفع صوتها :
ـ و ثــــــــــانيا...

انتبهت إلى أن صوتها بدا حادا، نظرت حولها في حذر لتتأكد من أنه لا أحد في الجوار، في حين ظل أمين مسمرا في مكانه دون أن يجرؤ على النطق، ثم أردفت و قد استعادت هدوءها :
ـ و ثانيا، عليك أن تحترم حدود العلاقة بيننا... أنت ابن خالي بالطبع، لكن من الجانب الديني أنت رجل أجنبي عني... هل تفهم معنى رجل أجنبي؟ يعني لا يحق لك أن تلمسني، أو تمسك بيدي و لا حتى تصافحني... و خاصة، خــــــــــــــاصة... لا يحق لك أن تدخل إلى غرفتي! فأصلا وقوفنا هنا، بمفردنا، خطأ في حد ذاته! هل تفهمني؟

هز أمين رأسه في حركة بطيئة و لاتزال علامات الصدمة واضحة على تقاسيم وجهه. تنهدت ليلى بصوت مسموع، ثم نظرت إليه من جديد و هي تقول :
ـ و الآن تفضل، سأتبعك إلى الحديقة...

سبقها أمين و قد سيطر عليه الذهول فلم يتفوه بكلمة واحدة، أما هي فقد ابتسمت في رضا، و سارت خلفه و هي تأمل في سرها أن يكون قد استوعب الدرس!

كان الضيوف قد تجمعوا قرب المسبح، حيث نصبت الموائد بمختلف أنواع المقبلات و فاحت رائحة الشواء الذي يعده العم هاشم غير بعيد عن المسبح. كان الحاضرون قد تفرقوا في مجموعات صغيرة يتجاذبون أطراف الحديث... رأت خالها يقف مع مجموعة من السادة المتأنقين، يبدو أنهم من رجال الأعمال و ذوي المراكز المرموقة... تذكرت السهرات الخاصة بالسفارة التي كانت تحضرها صحبة والدها... ابتسمت ابتسامة جانبية... يبدو أن الحفلات ضرورة من ضرورات الحياة المترفة، للمحافظة على العلاقات، و عقد الصفقات و توثيق الصلات...

توقف أمين و اقترب منها و هو يشير إلى مجموعة غير بعيدة عنهما :
ـ هذه السيدة نهال مراد... زوجة وزير الاقتصاد صالح مراد، كانت صديقة مقربة لوالدتي، و قد استمرت علاقتها مع العائلة إلى الآن... انظري إلى وجهها... لا تزال تحافظ على جمالها و شبابها رغم تقدمها في السن... بواسطة عمليات التجميل و شد الجلد بطبيعة الحال! السيدة التي تقف قبالتها، صديقة لوالدتي كذلك، كانت زميلتها في كلية الطب و هي الآن دكتورة معروفة في أمراض القلب و الشرايين... بالمناسبة، فراس أصر على دخول كلية الطب، حتى يحقق حلمها... فهي قد تزوجت قبل أن تتحصل على شهادة الدكتوراه... و انقطعت عن الدراسة فور حملها بفراس... و الحقيقة أنها كانت تواجه صعوبات كبيرة و تصاب بأنواع الاكتئاب و الانهيارات العصبية بضع مرات في السنة الواحدة... معاناة حقيقية!

كانت ليلى تتابع كلامه بهزات من رأسها بين الفينة و الأخرى، لكن عيناها كانت تجوبان في أنحاء الحديقة، تبحثان عن شخص محدد بين الحاضرين، و ما إن لمحته على بعد بضعة أمتار حتى اندفعت إليه في حماس. استوقفها أمين محتجا :
ـ ليلى، إلى أين؟

كانت لوهلة قد نسيت وجوده، فالتفتت إليه في حرج و هي تهمس :
ـ سأعود فورا...

هز أمين كتفيه في تسليم، في حين ثم حثت هي الخطى لتلحق بفراس قبل أن يختفي عن ناظريها. و فيما كانت تقطع طريقها بين الضيوف، لم تنتبه إلى عينين يقظتين كانتا تراقبانها في حذر... عينان شدتهما قلادتها ذات الشكل الغريب التي تتأرجح على صدرها في هرولتها فتلتمع الماسات الصغيرة تحت ضوء الفوانيس الخافت في الحديقة...

كان فراس يقف إلى مجموعة من الشبان و الشابات، لم يكن يبدو مهتما فهو يقف مكتوف اليدين و على وجهه علامات الملل، يرمي بكلمات قليلة بين الفينة و الأخرى، ثم يحول بصره إلى الجانب الآخر من الحديقة، كأنه ينتظر شخصا ما... و ما إن لمح ليلى مقبلة في اتجاهه حتى اعتذر من مجموعته و ابتعد في خطى سريعة.
تعجبت ليلى من حركته... هل هو هروب؟ تبعته في إصرار، و حين رأت أن المسافة بينهما آخذة في الاتساع، كما أنهما ابتعدا عن المسبح و صارت الأضواء خافتة، رفعت صوتها :
ـ فراس...

التفت في حدة، و بدت عليه المفاجأة. لم يتوقع أن تلحق به. نظر إليها مستفسرا دون أن ينطق ببنت شفة.
ـ فراس، هل لي أن آخذ من وقتك لحظات قصيرة؟

عقد حاجبيه كأنه يقول : هات ما عندك!
أخرجت المفكرة من حقيبتها الصغيرة و مدتها إليه :
ـ هل تعني لك شــــ...

لم يمهلها إلى أن تنهي جملتها، بل امتدت يده بسرعة لتخطف منها الكراس في عنف. نظر إليها في حذر و هتف :
ـ أين وجدتها؟

بدا من الواضح أنها تعني له الكثير، بدليل أنه تعرف إليها منذ النظرة الأولى، رغم قلة الإضاءة! لم يحتج حتى إلى فتحها و مطالعة ما فيها ليتأكد! همهمت ليلى في ذهول :
ـ وجدتها في الغرفة... حين كنت أغير ورق التغليف...

عاجلها بسؤاله الثاني و هو يقترب منها أكثر لتلمح الشدة في عينيه :
ـ و هل قرأت شيئا منها؟

تراجعت خطوة إلى الوراء و هي تتجنب نظراته الحارقة و تهمس في خوف :
ـ أبدا... اطلعت على الصفحة الأولى... و حين رأيت أنها تخصك احتفظت بها لأسلمها إليك...

اعتدل في وقفته و هو يتمالك نفسه، و لمحت نظرة غريبة في عينيه...مزيج من الحزن و الغضب... و الارتياح... تنهد بقوة، ثم همس بصوت متهدج من الانفعال :
ـ طيب...

ثم استدار ليواصل طريقه مبتعدا!
لبثت ليلى في مكانها حائرة... لم تتوقع أن تكون ردة فعله هكذا! لم يكلف نفسه حتى عناء شكري لعثوري على هذه الذكرى من زوجته! هزت كتفيها استهانة ثم عادت أدراجه إلى حيث تجمع الضيوف.
لمحت منال و قد انهمكت في الحديث مع فتاتين أخريين، فاقتربت منهن مبتسمة. بدا لها أنها سبق و تعرفت على إحدى الفتاتين، لكنها لا تذكر أين... و فجأة استدارت الفتاة فتوقفت ليلى مصدومة... أوه، لا... فات الأوان! فقد لمحتها منال و استدارت نحوها مرحبة. لم تكن الفتاة سوى رجاء، بنت خالة أبناء خالها، التي كان لها شرف الالتقاء بها منذ يومين! حاولت أن ترسم على شفتيها ابتسامة ودودة، لكن رجاء نظرت إليها شزرا كأنها تؤكد على موقفها العدائي تجاهها.

بادرتها منال :
ـ أهلا ليلى... أعرفك... سارة و رجاء... بنات السيدة إلهام، شقيقة المرحومة إيمان، زوجة عمي نبيل...

ثم التفتت إلى الفتاتين و هي تواصل عملية التعارف :
ـ ليلى... ابنة المرحومة نجاة... شقيقة عمي نبيل... و شقيقة حنان التوأم!

رحبت بها سارة بعد أن أبدت دهشتها للشبه الذي بينها و بين حنان...
استمرت الأحاديث بينهن لوهلة حول مواضيع شتى، لكن عيني سارة ظلتا معلقتين بقلادة ليلى و لم تتمالك نفسها أن سألت في فضول :
ـ قلادة جميلة... لكن، شكلها غريب... ماذا يقصد به؟

ابتسمت ليلى في حرج، و هي تتأمل الحلية بين أصابعها :
ـ لست أدري... والدي يقول بأنها ذات دلالة تاريخية... و لكنني لا أفهم الكثير فيما يخص الرموز!

ضحكت الفتيات و غيرن الموضوع بسرعة...
كانت سارة، الأخت الكبرى لرجاء، تتحرك بعفوية، و الابتسامة لا تفارق وجهها، بدت جد مختلفة عن شقيقتها، أكثر نضجا بالتأكيد، لكن أقل غرورا و ألين طبعا، و بسرعة انسجمتا في حديث ودي حول السفر و البلدان التي زارتها كل منهما... في حين بدا على رجاء الغيظ و هي تطالعهما في امتعاض واضح! هتفت منال مقترحة :
ـ يبدو أن اللحم قد نضج... ما رأيكن، لو نأخذ نصيبنا!

نالت الفكرة استحسانا من الجميع و تقدمن نحو ركن الشواء و هن لا يتوقفن عن الثرثرة. ملأت كل منهن صحنها و عادت أدراجها... لكن حين جاء دور ليلى، تسمرت أمام المشواة في شك... لمحت شيئا يحترق بين الجمرات المشتعلة، شيء في حجم حافظة الأوراق أو أكبر بقليل... لا يظهر منه سوى الجزء العلوي... و كانت وريقات مسودة تتطاير مع الرماد في الموقد... اقتربت و هي لا تصدق عينيها... و لكن لا سبيل إلى شك... فهو الغلاف الأسود عينه! فإن كان فراس قد ميزه بعد ثلاث سنوات من وفاة صاحبته، فكيف لا تميزه هي و قد كان بين يديها منذ دقائق قليلة! تسارعت دقات قلبها و هي تقترب من العم هاشم هاتفة :
ـ عم هاشم... هل لك أن تلتقط تلك الكراس الصغيرة هناك؟

نظر إليها في استغراب و كأنه لا يستوعب طلبها، فهتفت من جديد و هي ترى النار تلتهم الوريقات بشراهة محولة الكلمات إلى ذرات متناثرة :
ـ أرجوك بسرعة... إنها تحترق! لقد سقطت مني حين اقتربت من الموقد!

بدت لها كذبة سخيفة، لأن المفكرة كانت مغطاة بشكل جيد بقطع الفحم مما ينفي إمكانية سقوطها سهوا، بل يعني أن يدا ما دستها هناك مع سابق الإصرار و الترصد!

أخرج العم هاشم الكراس أخيرا و هي في حالة يرثى لها. أطفأ النار المشتعلة في أطرافها، و ليلى تتابعه بعينين تتلألأ فيهما الدموع. أخذتها منه، أو ما تبقى منها، و لفتها بإحكام بمناديل ورقية، ثم أخفتها في حقيبتها من جديد ثم ابتعدت باتجاه غرفتها، و هي تحبس عبرتها بصعوبة، بعد أن تأكدت بأن أحدا لم ينتبه إلى ما كانت بصدده...

لماذا فعلت ذلك يا فراس... لماذا؟


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:03 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.