شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء ) (https://www.rewity.com/forum/f118/)
-   -   عمّـــو *مميزة و مكتملة* (https://www.rewity.com/forum/t332313.html)

محمد حمدي غانم 19-10-15 11:14 PM

عمّـــو *مميزة و مكتملة*
 
https://upload.rewity.com/upfiles/1RD84862.gif https://upload.rewity.com/upfiles/KCX84862.gif


https://upload.rewity.com/upfiles/f7B03807.png


https://upload.rewity.com/upfiles/Y2i36354.jpg




( المقدمة )

ابتسم وهو يسألها:
- ألا تبدو لك كلمة (عمو) كبيرة عليّ؟
سألته ببساطة:
- بماذا تريدني أن أناديك؟
فكر لحظة وهو يتأمل ملامحها الصغيرة..
إنه يكبرها بست سنوات.. هذا أكبر من أن تناديه بـ (ماهر) مجردا.. لكنه ما زال طالبا في الجامعة، وهذا أصغر من أن تنعم عليه بالأستاذية!
ابتسم قائلا باستسلام:
- قولي لي يا عمو!
***

https://upload.rewity.com/upfiles/Tb003807.png

تصميم الغلاف الرسمي : كاردينيا73

تصميم قالب الصفحات الداخلية : حلا
تصميم الفواصل ووسام التفاعل المميز : كاردينيا73
تصميم البنر الاعلاني : Omima Hisham



https://upload.rewity.com/upfiles/H0z03807.png



https://upload.rewity.com/upfiles/9Zj03807.png



المقدمة بنفس المشاركة

من الفصل الاول الي الفصل الخامس بنفس الصفحة









https://upload.rewity.com/upfiles/T9403807.png


رابط تحميل الرواية كاملة ككتاب الكتروني


يجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفي

https://upload.rewity.com/upfiles/sJ903807.png

محمد حمدي غانم 19-10-15 11:15 PM

(1)

لم تكن (هالة) مجرد مراهقة تخطو خطواتها الأولى في عالم الأنوثة بأعوامها الأربعة عشر، حينما جلست قبالته يوما منذ سبع سنوات في هذا القطار.
كانت أكبر من سنّها بمراحل، تشعر وأنت تخاطبها بذلك النضج المبكر، مع شجن خاص يفوح من عينيها..
شجن لم يحتج وقتا ليتسلل عبر مسام قلبه فيشعره بإشفاق غامض تجاهها.
ولعها لمحت في عينيه هذا التضارب بين الانبهار والإشفاق، فسألته بغتة بشرود:
- عمو.. لماذا يقول لي الجميع بأن عقلي أكبر من سني؟
ابتسم قائلا:
- ربما لأنك تتكلمين بثقة وتجيدين فهم مقاصد من يحاورك من أول مرة.. نحن نعجب دائما بمن يفهمنا بسرعة، ويصور لنا غرورنا أنهم في غاية الذكاء لفهمهم ما نطرحه عليهم من فلسفاتنا العميقة!.. مع أن سوء التفاهم في الغالب يكون نابعا عن عجز المتكلم عن إيضاح مقصده، وليس بالضرورة عيبا في المتلقي.
تفكّرت في كلماته بشرود، وهو يتأملها مستشفا وقع كلماته هذه عليها.
كان كل ما مضى من حوارهما قد جعله على يقين أنها تفهمه جيدا.. أو على الأقل هي بارعة في إظهار هذا، وهذا في حد ذاته ذكاء اجتماعي تحسد عليه!
قالت فجأة:
- كلامك كبير يا عمو.. ماذا تعمل؟
- لا أعمل بعد.. أنا طالب بالنسة الثالثة في قسم التاريخ بكلية الآداب.
- لهذا تبدو حكيما.. كلامك يشبه كلام جدي!
- (ضاحكا) يا إلهي.. هل صرت كبيرا لهذه الدرجة؟.. عموما يا هالة أنا لست حكيما لهذه الدرجة.. لكن قراءة التاريخ تضيف إلى عمر المرء خبرات الآخرين، وقد تخصصتُ في هذا الفرع بسبب حبّي للتاريخ، ولعل هذه هي الميزة الوحيدة في كلية لم يعد لخريجيها أي وظيفة في هذا المجتمع، ولا يدخلها إلا المحكوم عليهم بالتنسيق مع سبق الدرجات والترصد!
وجدها صامتة تتابعه بانتباه فنظر عبر نافذة القطار إلى الحقول المترامية، وواصل كأنه يحدث نفسه:
- إنني أستمتع بقراءة التاريخ.. يبدو لي كحواديت مثيرة فيها عبر كثيرة.. وأشعر دائما أن التاريخ يعيد نفسه.. الحقيقة أن البشر لا يتعلمون أبدا.. دائما وأبدا يعيدون نفس أخطائهم وأخطاء أسلافهم وأسلاف أسلافهم.. تُحركهم دائما نفس الدوافع: الغرائز والنقائص والمشاعر والأحلام والآمال العريضة.. كثيرا ما أتخيلهم كموج البحر يهدر ويزمجر ويحلم بالوصول إلى الشاطئ في حماس متوحش.. ثم حينما يصل أخيرا تكون الرحلة قد أنهكته، فيتهاوى خائرا متكسرا على رمال الشاطئ ويذوب وينتهي.. أمواج تتلو أمواجا من البشر الذين لا يتعلمون أبدا!
هزت رأسها متفهمة بشجن، فالتفت إليها سألها فجأة:
- أنتِ مثلا بمَ تحلمين؟
باغتها السؤال فقالت بارتباك:
- أنا؟
- نعم.
صمت لحظة ومطت شفتيها قائلة:
- لا أدري.. أحيانا أشعر أنني مختلفة عن الأخريات.. صاحباتي يتكلمن دائما عن الأزياء والعطور والموضات والذهب والجمال وفارس الأحلام وعش الزوجية _ الذي لم يعد عشا في الحقيقة بل قصرا _ والأثاث والأجهزة الحديثة، ومن أحضرت ماذا ومن لديها ماذا.. لكني لا أجد في تكرار هذا الكلام سوى رتابة تصيبني بالملل.. أشعر أن الحياة أكبر من أن أستهلكها في هذه الدائرة المغلقة.
سألها بمكر:
- تعنين أن كل هذه الأشياء التي ذكرتِها لا تعنيك؟
- حتما تعنيني.. ولكن ليس إلى درجة الهوس.. دعني أستخدم أسلوبا من تلك التي يلقنونها لنا في حصة التعبير.. كل هذه الأشياء وسائل لكنها ليست غايات.. أتعرف: هي في نظري ليست أغلى من الهواء الذي لا أستطيع الحياة دونه، ورغم هذا لا أتوقف للتفكير فيه عند كل نفس أتنفسه.
ابتسم وهو يرمقها بإعجاب، فسألته بابتسامة خجلى:
- هل استطعت أن أوصل إليك مقصدي؟
- ببلاغة!
- (تنهدت) خشيت أن تسخر مني كما تسخر مني زميلاتي.
- لا تخشَيْ.. إنك على صغر سنك أذكى من زميلاتي في الجامعة.. يمكنك أن تقولي إنهن من نفس نوعية صاحباتك، تقدمت بهن أعمارهن وتجمدت بهن عقولهن.. ما زلن يتكلمن بحواسهن القاصرة!
- يتكلمن بحواسهن!.. يا له من تعبير!
- نعم.. إنهن أسيرات ما تنقله إليهن حواسهن، فتتشكل طموحاتهن واهتماماتهن حول ما يحقق أكبر متعة لهذه الحواس.. كيف ترى العين الأجمال من الأماكن والأشياء والشباب.. وكيف تسمع الأذن الأعذب من الأصوات والموسيقى وكلمات الحب.. وكيف تنعم جلودهن بالأنعم والأوثر والأفخر من الثياب والأثاث والحليّ.. وكيف تشم أنوفهن الأذكى من العطور، وتتذوق ألسنتهن الألذ من الأطعمة.. وهكذا تتمحور كل أفكارهن واهتماماتهن حول هذه المشاعر والأحاسيس والعواطف والغرائز، فتتقلص عقولهن وتتدنى نفوسهن وتستوحش أرواحهن.
- ولكن.. ألا ينطبق هذا على الرجال أيضا؟
- بنسبة كبيرة نعم!.. لكن عواطف النساء وارتباطهن بالمادة أقوى وأكثر حدة.. ربما ينجذب الرجال أكثر للسلطة والقوة، لكن ما يجعلهم يغرقون في عالم المادة أكثر هو ضعفهم أمام النساء ورغبتهم في تلبية احتياجاتهن.. خذي الذهب مثلا: لو لم تكن النساء مفتونات بالذهب طوال التاريخ، هل كان ليكتسب أي قيمة عند الرجال، ليقتلوا بعضهم تنافسا لامتلاكه؟
ابتسمت قائلة:
- هل نحن شريرات إلى هذا الحد؟.. أتوقع أن تذكر حالا قصة خروج آدم وحواء من الجنة!
ضحك بمرح قائلا:
- لا أقصد هذا.. فالحقيقة المؤكدة أن الله سبحانه قد خلق هذه الغرائز في الرجال والنساء كطاقة دافعة لاستمرار الحياة وإعمار الأرض.. يقول تعالى (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآب).. وكمثال تاريخي: لقد أدى هوس النساء بالذهب واقتتال الرجال عليه سعيا لإغراء قلوبهن وسلب عقولهن به، إلى تطوير علم الكيمياء، فقد أفنى آلاف الباحثين بل والنصابين أعمارهم بحثا عن طريقة لتحويل الحديد أو المعادن الأخرى إلى ذهب، أو على الأقل لخداع الناس بأنهم قد فعلوا هذا باستخدام بعض الحيل الكيميائية لطلاء المعادن الرخيصة بقشرة رقيقة من الذهب.. ورغم أن حلم تحويل الحديد إلى ذهب قد باء بالفشل حتى يومنا هذا، فقد قاد البشر بالمصادفة إلى كشوف كيميائية كبيرة، وطور معرفتهم بالتعدين وخصائص المواد.
- مرحى مرحى.. تفاهة النساء مفيدة إذن!
- (ضاحكا) وهوس الرجال بالنساء أيضا!
تأملت في كلماته لحظات، قبل أن تسأله باهتمام:
- وما البديل إذن يا عمو؟.. أعني أن كل ما ذكرته من مدركات الحواس هو بالنسبة لنا الدنيا.. الحياة.. الواقع.. العالم المحيط بنا.. ومن الطبيعي أن ينشغل الإنسان بهذا العالم ويهتم به ويبحث لنفسه فيه عن الراحة والإشباع والمتعة.. فماذا يكون وراء ذلك؟
أدهشة تجاوبها مع أفكاره بهذه السرعة، حتّى إنه بدأ يتشكك في صحة عمرها الذي أخبرته به.. أربعة عشر عاما تبدو صغيرة جدا بالنسبة لقدرتها على استيعاب تأملات كهذه!
بل إن جسدها يبدو ناضجا كأنها أكبر من هذا بعامين.. ولكنه عاد فذكر نفسه بفتيات كثيرات نضجت أجسادهن سريعا، لكنه لم يعرف قط فتاة نضج عقلها بمثل هذه السرعة!
نفض أفكاره وابتلع تساؤلاته وقال:
- هناك ما هو أبعد وأعمق من عالم الحواس.. تماما كما قلت أنت.. كل هذه أشياء ضرورية كالهواء لا نستغني عنها، لكنها مجرد وسائل لا غايات.. المشكلة حينما تعمينا هذه المتطلبات الحسية للعالم المادي عن عوالم أخرى أوسع وأرحب.. فهناك عالم الروح، حيث ستجدين أولئك الزاهدين الباحثين عن الله، الذين تقود ضمائرهم حواسهم، وهم أكثر الناس اتزانا وتحكما بغرائزهم وعواطفهم، وأكثرهم راحة واستقرارا وسعادة.. وهناك عالم العقل والفكرة، حيث يتربع العلماء والمثقفون والباحثون عن الحقيقة، الذين يفتشون عما تلهيهم عنه حواسهم، ويبحثون عمّا يخفيه عنهم قصورها عن إدراكه أو تفسيره.. هناك أيضا عالم الخيال، حيث يهيم الفنانون والشعراء والمبدعون، وهو عالم رحب بلا حدود، ولا غنى لأحدنا عنه.. وبدون هذه العوالم الثلاثة: الروح والعقل والخيال، كانت حياة الناس المادية ستتحول إلى سجن خانق ممل، لا يجدون فيه هدفا لكفاحهم، ولا اختراعات تخفف عناءهم وتعالج أمراضهم، ولا قصصا وأغانيَ تزيل صدأ الملل عن نفوسهم وتشحذ مشاعرهم.. لكن المحبط أن كثيرا من الناس يستمتعون بكل هذا دون أن يقدّروا آلاف البشر الذين انعزلوا عن حياة المادة ليوفروه لهم، بل ستجدين كثيرا منهم يسخرون من تضييعهم لحياتهم بدون أن يستمتعوا بها!
تألقت عيناها واختفى شجنها لأول مرة وهتفت بحماس:
- كلامك جميل يا عمو.. نعم.. هناك عوالم أخرى وأناس آخرون، يتطهرّون لهم ولنا، ويفكّرون لهم ولنا، ويحلمون لهم ولنا، فيخففون وطأة عالم المادة عنا!
زاد اندهاشه منها، وتردد لحظة أن يصعد بها إلى مستوى أعلى من التأمل، لكن شجعته سعادتها بمساعدتها لها في استكشاف عالمها الفكري على أن يقول:
- الأعجب من هذا أن كلّ هذه العوالم تلتقي في النهاية داخل عقولنا.. فنحن نحس وندرك ونفكر ونتأمل ونحلم بعقولنا، حيث كل شيء في النهاية ما هو إلا إشارات كهربية يعالجها المخ، بعضها أصدرته حواسنا كترجمة للعالم المادي، وبعضها الآخر أحسه القلب واستلهمته الروح، وبعضها أنتجه العقل نفسه دون أن يكون له وجود ملموس، بل حتى بلا وعي منّا!
- هلا أوضحت لي هذه النقطة قليلا.
- خذي الأحلام مثلا.. هل يوجد أي مصدر مادي لما تسمعينه أو ترينه أو تشمينه أو تتذوقينه أو تلمسينه في الحلم؟
- لا!
- هي فقط مجرد إشارات كهربية أصدرها عقلك وأنت نائمة فأوهمك بأنها حقيقة!.. لهذا فإن العقل هو موضع العالم بالنسبة لنا.. بعض العقول تبحث عن عالمها في قطعة من الذهب أو سيارة أو امرأة أو أكلة أو رداء.. والبعض يستسهل خلق عالمه الخيالي بالخمور والمخدرات ليهرب إلى عوالم خرافية ممتعة لكن مهلكة.. والبعض يصنع عالما من الجمال يودعه في لوحة أو معزوفة أو قصيدة أو قصة أو اختراع.. والبعض لا يجد معنى لأي عالم إلا في عبادة خالق كل هذه العوالم، بديع السماوات والأرض سبحانه وتعالى.
شردت مع كلماته وهي تنظر عبر نافذة القطار للحقول المترامية، وعلى شفتيها بسمة حالمة جميلة.
ومضت عدة دقائق لم يشأ أن يقطع فيها حبل أفكارها، حتى التفتت إليه قائلة بامتنان:
- شكرا لك يا عمو.
- علامَهْ؟
- لقد أرشدتْني كلماتك إلى إجابة أسئلة كثيرة طالما أقلقتني وأرّقتني وأرهقتني.
- (مبتسما) بل الشكر لك يا هالة.
- علامه؟
- لقد أعدت إليّ الثقة بعقول النساء!
***

محمد حمدي غانم 19-10-15 11:17 PM

(2)

أيقظ (ماهر) من ذكرياته صرير عجلات القطار وهو يتوقف في إحدى المحطات.
سبع سنوات مرت على ذلك اللقاء، و(هالة) الآن في الحادية والعشرين من عمرها.. لا ريب أنها في ذروة جمالها وتألق أنوثتها الآن.
ولكن هل حافظت على تألق شخصيتها وصقلت ذكاءها؟
تنهد وهو يرمق لافتة المحطة.. نفس المحطة التي صعدت إلى القطار منها منذ سبع سنوات.
سبع سنوات وهو يمر عليها يوميا في رحلته من وإلى كليته، ثم من وإلى عمله.. دون أن يلمحها ولو مرة واحدة!
لماذا لم يعرف اسمها بالكامل، أو يأخذ رقم هاتفها أو بريدها الالكتروني؟
لماذا لم يعرف أين تسكن؟
لماذا استغرقته لذة الحوار معها حتّى فوجئ بها تودعه في إحدى المحطات وتختفي للأبد؟!
كانت هذه الأسئلة تراوده كلما عاودته ذكراها.. والحقيقة أنها كانت تعاوده كثيرا، كلما نفر عقله من الإقتناع بأي فتاة يقابلها في الحياة.. لكنه كان يقول لنفسه دائما إنها كانت مجرد فتاة تعبر الخط الفاصل بين الطفولة والمراهقة، ولم يكن يومها ليفكر فيها بأكثر من هذا.
تنهد محبطا وتمتم لنفسه:
- فلماذا إذن لم أصادفها بعدها ولو مرة واحدة في القطار أو ألمحها على رصيف المحطة بعد أن تكون نضجت ثلاثة أعوام أو أربعة واتضحت معالم أنوثتها وخطوط فكرها؟!
تنهد مرة أخرى في حسرة.
لعلها استخدمت القطار يومها كتجربة ولم يَصِر ركوبها له عادة.
أو لعلها سافرت مع أسرتها إلى الخارج.
أو لعلها.. ماتت!
آلمه هذا الخاطر، فسارع ينفضه عن ذهنه.. الحياة قاسية حقا، لكن لا يظنها تصل في قسوتها إلى هذه الدرجة!
أستغفر الله العظيم.. ما الموت إلا قدر، وهو لا يفرق بين شخص وآخر، ولا يأبه بذكاء هذه وتفاهة تلك!
زفر وتمتم في نفسه:
- ما الذي فعلته بي هذه الصبية بالضبط؟.. وهل كانت موجودة حقيقة، أم أني صنعتها في خيالي في أحد أحلام يقظتي؟
أيام تمر وراء أيام، وهي لا تبرح ذهنه، بملامحها البريئة وشجن عينيها.
ليالي وراء ليال وهو يحاورها في ذهنه ويناقش معها في خياله ما يعجز عن مناقشته مع أترابه وزميلاته في الدراسة والعمل، حتّى صارت نموذج فتاة أحلامه التي ظل يبحث عن شبيه لها بلا جدوى، بعد أن تبخرت هي كالسراب!
حتّى إنه واظب على ركوب نفس عربة القطار التي التقيا بها كل يوم، على أمل أن تعود إليها يوما!
وحتى بعد أن أنهى دراسته وانتفت الحاجة لركوب القطار.. ظل يستقل القطار من بلدته إلى المدينة التي يعمل بها، رغم أن ركوب سيارات الأجرة أسرع وأسهل.
لكنه ذلك الأمل المراوغ، لم يترك نفسه يوما، فظل يحلم بلقائها.
آه يا هالة.. أين أنت؟.. أين أنت؟
***

محمد حمدي غانم 19-10-15 11:18 PM

(3)

أزعجه عن خواطره رنين هاتفه المحمول، فنظر في شاشته.
كانت خطيبته (سلوى)!
شعر بانقباض وتثاقل عن الرد لحظات، ثم حسم أمره وفتح الخط ليجيب:
- مرحبا يا سلوى.. أنا في الطريق.. نعم أستقل القطار كالعادة.. لا لن أغير هذه العادة، وكفّي قليلا عن تأنيبي.. حسن حسن.. لن أتأخر.
وأغلق الخط وهو يزفر في حدة.
سلوى فتاة طيبة وتحبه.. وهي جميلة فعلا ويحسده أصدقاؤه عليها.
لكنه ليس سعيدا معها.. لقد ارتبط بها منذ أربعة أشهر، لأنه كان يجب أن يرتبط بفتاة مناسبة، بعد أن تقدم به العمر ويئس من الانتظار.
وهي كانت الفتاة المناسبة في محيطه.. مدرّسة اللغة الإنجليزية في المدرسة الخاصة التي يعمل بها مدرسا للتاريخ منذ عامين، بعد أن حصل على دبلومة تربوية بعد تخرجه من كلية الآداب.
كانت (سلوى) مولعة به بجلاء لم يَخْفَ إلا عنه، فقد كان قلبه وعقله مع صبية مجهولة في مكان مجهول!
صبية ذكية تذكّره بكنز مخبوء بداخله، تراكم عليه تراب السنين ورتابة المناهج الدراسية السقيمة، وغباء التلاميذ الذين لا يفهمون لماذا يتعلمون أصلا ولا يريدون، وملل الدروس الخصوصية التي اضطر إلى اللجوء إليها ليوفر لسلوى ثمن حلقة من معدن تسمى إسورة ذهبية، كانت تمثل لها أمنية عزيززة لم يشأ أن يحرمها منها، رغم أنها لا تمثل له أي قيمة على الإطلاق!
وهكذا وجد نفسه في النهاية عاجزا عن إيجاد وقت حتى لقراءة التاريخ الذي يهواه ويستخرج منه وقود أفكاره وتأملاته، إلا في الساعة التي يستقل فيها القطار في ذهابه وعودته يوميا!
لم تكن سلوى تافهة.. لكنها لم تكن بنفس ثقافته، ولا تشغلها تأملاته كثيرا، خاصة أنها كانت مثله مستهلكة في المدرسة والدروس الخصوصية.. أي أن أيّ محاولة للنقاش معها في أي شيء غير توفير نفقات زفافهما كانت مجرد صداع إضافي!
فهل يلومها؟!
***

محمد حمدي غانم 23-10-15 06:08 PM

( 4 )

ارتجّ القطار وأطلق صافرته، آخذا في التحرك..
وتنهد (ماهر) في حرارة وتمتم:
- لم تظهر أيضا!
كانت (سلوى) تنتظره على أحرّ من الجمر، فقد اتفقا على الخروج لانتقاء الأثاث، تمهيدا لزفافهما الوشيك.
إنها مزدانة بالمزايا، لكنها رغم كلّ شيء لا تفهمه!
لا يعني هذا أنهما دائما الشجار أو الخلاف.. على العكس: هي مطيعة ومريحة في معظم الأمور.
لكنه يظل عاجزا عن أن يبوح لها بكل أفكاره وآرائه وشحطاته وخبايا نفسه.. فمحاولاته الأولى لفعل هذا أظهرت ردود فعل محبطة منها.. إمّا السخرية أو اللا مبالاة!
لم يجرؤ حتّى أن يخبرها برأيه في كل تقاليد وتقاليع الزواج، التي وجد نفسه غارقا فيها.. مئات الأشياء التي لا يرى لها جدوى، يجب أن يشترياها ليكدساها في (عش) الزوجية الضيق، لمجرد أن الناس تفعل هذا!
أشياء كثيرة تبهجها لم يكن يفهمها، فهو لا يفهم الدنيا بحواسه المجردة، لتنحصر بهجته في زجاجة عطر أو باقة ورد أو ذكرى ميلاد!.. وهي الأشياء التي كان نسيانه لها يغضبها أو على الأقل يحزنها!
وفي كلّ مرة كان يتنهد ويغمغم لنفسه بأسى:
- أين أنت يا هالة.. أين؟
***
- هل يمكنني الجلوس هنا؟
انتزعه هذا الصوت الرقيق من شروده، فأجاب صاحبته دون أن يرفع عينيه إليها:
- تفضلي.
وواصل شروده، دون أن يأبه بتلك التي جلست في المقعد المواجه له.. فالوحيدة التي ينتظرها منذ سنوات لم تأت كعادتها!
حتّى حينما سقط بصره على وجهها، كانت مجرد حركة آلية شاردة.
ولكنّ عينيها انتزعتاه من شروده، كما ينتزع الإعصار البحر من هدوئه!
وقفزت ضربات قلب ماهر لذروتها، وهو يتمتم بخفوت:
- (هالة).. مستحيل!
ابتسمت ففاحت من عينيها فرحة معبقة بنفس الشجن القديم، وهي تسأله:
- هل ما زلت تذكرني يا عمو؟
***
لدقائق ظلّ ينظر لها مشدوها وعيناه تلتهمانها التهاما، حتّى إن خديها احمرا في خجل!
لقد اكتملت أنوثتها لا شك في هذا..
ربما ليست أجمل من سلوى، لكنها جذابة بشكل آسر، وخمارها يمنحها هالة إضافية من الجمال حول وجهها الخمري، لينافس وضاءة عينيها الصافيتين.
تلعثمت وقالت بدهشة تحاول أن تخفي بها خجلها:
- ملامحك لم تتغير كثيرا.. لكني أظن أن ملامحي تغيرت.. فكيف عرفتني يا عمو؟
استمر يحدق فيها وقد ألجمه ذهوله عن النطق، وقلبه يعدو في صدره كجواد برّي انطلق أخيرا من محبسه.
آلاف الكلمات كانت تتواثب في ذهنه، فيعجز عن الإمساك بأي منها ليقوله!
ولما رآها تهرب منه ببصرها في ارتباك، تنحنح أخيرا وأجابها:
- لم تختلف ملامحك كثيرا.. فقط صرت أكثر جمالا!
ابتسمت بسعادة مشوبة بالحياء، فتابع وهو ينظر في عينيها:
- ثم إن العينين لا تتغيران أبدا، مهما تغيرت ملامح الإنسان!.. وأنا لا يمكن أن أنسى عينين بهذا الجمال، وهذا الذكاء وها الشجن.
التهب خداها أكثر وأكثر، وقالت بعتاب لا يخلو من الدلال:
- كفى أرجوك.. أنت تخجلني بكلماتك هذه يا عمو!
سألها مبتسما لينقذها من حرجها:
- ألا تبدو لك كلمة (عمو) كبيرة عليّ؟
ابتسمت وقد فهمت مقصده، فقالت بنفس أسلوبها يوم لقائهما:
- بماذا تريدني أن أناديك؟!
صمت لحظة وهو يلتهمها بعيبنيه، قبل أن يقول باشتياق جارف:
- قولي لي يا عمو!
***

rontii 24-10-15 11:44 PM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


اهلا بك في وحي الاعضاء
اتمنى ان تجد المتابعة القيمة والنجاح الذي تتمنينه

ارجو منك المرور على هذا الموضوع فيه قوانين القسم ومواضيع اخرى تفيد
https://www.rewity.com/forum/t285382.html


rontii 24-10-15 11:48 PM


مسا الخير
فعلا هالة تفكيرها و كلامها امبر من سنها
و اعجاب ماهر بيها مكنش اعجاب وقتي و الدليل انه بيفكر بيها علي مجار 7 سنين برغم عمرها الصغير
ارتباطه بسلوي كان خطاء كبير لانه واضح انه مش من الشخصيات اللي ممكن يتجوز عشان يعمل اسرة و يكون مجرد تعود و العشرة بينه وةبين مراته و تمشي الحياة
ماهر شخص عاكفي حتي لو مكنش قابل هاله كان هيفضل يدور علي الحب و المشاعر بكده ظلم نفسة و ظلم سلوي
ﻻنه ببساطة عمره ما هيكون راضي معاها ﻻنه عمره ما حبها
الفصول جميلة و ماشاء الله الاسلوب رائع و ممتع و سلس للغاية
متبعاك و بانتظارك بالفصول القادمة ان شاء الله

محمد حمدي غانم 26-10-15 07:24 PM

رونتي:
شكرا لمتابعتك وتحليلك للعمل
تحياتي

(5)
يجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفي

rontii 26-10-15 10:56 PM

������:
null

مسا الخير
فصل جميل كباقي الفصول السابقة
شئ رائع انك تلاقي شخص يفهمك و يفهم كلامك و تلميحاتك برغم فرق السن و الشخصية
و دي بتسمي بالكميا
هالة و ماهر بينهم كميا عاليه
حوارهم ممتع جداااا و عشقهم للتاريخ من اكتر الحاجات الجميلة في حوارهم
بانتظارك بالفصل الجديد و بالتوفيق ان شاء الله

rontii 26-10-15 11:13 PM

استاذ محمد بعد اذنك انا اعتبرت اول مشاركة مقدمة لانها صعيرة اوي كفصل
و اعدت ترقيم الفصول علي هذا الاساس


الساعة الآن 07:45 PM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.