آخر 10 مشاركات
567 - قانون التجاذب - بيني جوردان - قلوب دار نحاس (الكاتـب : Just Faith - )           »          قلبه من رخام (37) للكاتبة الآخاذة: أميرة الحب raja tortorici(مميزة) *كاملة* (الكاتـب : أميرة الحب - )           »          ليلة مع زوجها المنسي (166) للكاتبة : Annie West .. كاملة (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          الوصــــــيِّــــــة * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : البارونة - )           »          الستائر السوداء (الكاتـب : ررمد - )           »          لؤلؤة تحت الرماد-قلوب احلام زائرة-للكاتبة [ام البنات المؤدبات]*كاملة&الروابط* (الكاتـب : ام البنات المؤدبات - )           »          13-ليلة عابرة-مركز دولي قديمة (الكاتـب : Just Faith - )           »          رواية المنتصف المميت (الكاتـب : ضاقت انفاسي - )           »          انّي ابتُلِيت هوَاه (1) .. سلسلة ويشهد قلبي *مميزة ومكتملة* (الكاتـب : زمردة عابد - )           »          أجمل الأسرار (8) للكاتبة: Melanie Milburne..*كاملة+روابط* (الكاتـب : monaaa - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة > روايات اللغة العربية الفصحى المنقولة

Like Tree1Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 25-12-15, 09:05 AM   #11

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




الفصل التاسع: نحو الأفق حيث تميل الشمس


في جانب بعيد من السلسة الجبلية التي تقطع شمال القارة العظمى من أقصاها إلى أقصاها، والتي سميت بجبال الأنهار المائة نسبة لكثرة الأنهار المتدفقة منها.. وفي سفح أحد جبال تلك السلسلة، وقرب ضفة نهر عريض من الأنهار التي تقطع السهول القريبة، هبط التنين براكبيه لينال قسطاً من الراحة بعد يوم طويل قضاه في الطيران دون توقف تقريباً حتى قاربت الشمس مغيبها وصبغت العالم بألوانها الحمراء.. وبينما أخذ التنين يعبّ الماء العذب، قام آرجان بخلع السرج من على ظهره ليمنحه بعض الراحة من ذلك الثقل.. عندها وجد رنيم تقف أمامه قائلة بحزم "هذه المرة لن أتركك تتهرب من إجابتي.. منذ رأيتك للمرة الأولى وأنت تطوّح اسم جايا يميناً ويساراً.. فمن هي حقاً؟.. ولم أنت مصرّ على بذل كل هذا الجهد للحاق بها؟.."
وإزاء نظرات التعجب من آرجان، قالت بشيء من الفضول "أهي خطيبتك؟.. حبيبتك؟.. أم عائلتك؟.."
قال آرجان بكبرياء مصطنع "الهوت لا يتحدثون عن أسرارهم العائلية.."
ضحكت رنيم معلقة "أنت أيضاً؟.. الآن عرفت لمَ رفض توما إخباري باسمه في أول لقاء لي به.."
ابتسم آرجان بدوره وهو مستمر في عمله حتى يئست رنيم من استجابته.. ولما كادت تبتعد وجدته يقول "في الواقع، جايا هي شقيقتي الصغرى.."
نظرت له رنيم باهتمام وهو يضيف "بعد فقداننا لأمنا في سن صغيرة، فإن أبي أوصاني بها قبل موته بسبب جرح أصابه به تنين.. والآن، أنا الوحيد المسؤول عنها، وأشعر أنني خذلتها بعد أن أسرها الملك عبّاد مع بقية الفتيات.. كنت يومها في قرية أخرى من قرى الهوت حاملاً رسالة شفوية من أرنيف خاصة بالحرب التي نشعر بها وشيكة مع الملك، ولم أدرك أن الحرب قد اشتعلت بالفعل وراح ضحيتها العشرات إلا بعد عودتي.. ولم أتخيل بتاتاً أنني سأعود لأجد شقيقتي الوحيدة قد أسرت واختطفت لمدينة بعيدة دون أن أتمكن من منع ذلك.."
تساءلت بفضول "لكن، كيف عرفت أنها في ميناء (مارِج) حقاً؟.. هذا الموقع بعيد جداً عن قرى الهوت وعن (الزهراء) أيضاً.. فكيف....؟"
أجابها "أحد رجالنا ممن كان مرسلاً لقرية أخرى من قرى الهوت، قد التقاه رجل من رجالها وسأله عن فتاة بمواصفات تشبه مواصفات جايا.. وعند سؤاله عن سبب معرفته بجايا والموقع الذي رآها فيه، فإن الرجل حكى له حكاية سببت لي، ولبقية أهل القرية، صدمة شديدة.."
جلست رنيم جانباً تستمع له باهتمام، فقال "هذا الرجل، الذي ينتمي لتلك القرية، كان قد وقع في الأسر في رحلته نحو إحدى المدن لمبادلة بعض البضائع.. وهو حدث غير معتاد بتاتاً بالنسبة للهوت .."
قالت رنيم بدهشة "كيف حدث ذلك وهو يرتحل باستخدام التنين؟.."
هز آرجان رأسه معلقاً "بسبب حمولته، كان يرتحل بعربة تجرها الأحصنة عوضاً عن الطيران على ظهر تنين.. وفي موقع ناءٍ عن القرى القريبة، فوجئ بجماعة من قطاع الطرق يهجمون عليه.. فقاتلهم ظناً منه أنهم يريدون استلاب ما لديه، لكنهم رموا بضاعته أرضاً وقيدوه بإحكام واقتادوه معهم.. لم يحاول أحدهم محادثته أو تفسير الأمر له، حتى وصلوا به لميناء (مارِج)، وهناك حاولوا بيعه لسفينة غريبة الشكل ولرجل يتحدث العربية بصعوبة تامة.."
كانت دهشة رنيم تتزايد مع كل كلمة تسمعها، ثم قالت بانفعال "وأين جايا من هذا كله؟.."
قال آرجان زافراً "بعد أن اقتادوا الرجل الأسير لعمق السفينة، فوجئ برؤية ما لا يقل عن سبع من رجال الهوت أسرى في عمقها، ودهش لرؤية فتاة بينهم.. وبعد أن أقلعت السفينة، وقبل أن تغادر ذلك الخليج بالفعل، تضافر الرجال لفك أسرهم والهرب بالقفز في المياه.. تمكنوا من ذلك بمعجزة، لكنهم تفرقوا في الخليج الثائر بتياراته القوية.. ولم يقلق الرجل لأمر بقية الرجال قدر قلقه على الفتاة التي تبدو في العشرين من عمرها.. لذلك هو يسأل عنها عدداً من قرى الهوت، والوحيد الذي تعرّف عليها هو رجل من قريتنا كما قلتُ سابقاً.."
سألته بدهشة "متى حدث كل ذلك؟"
قال زافراً "منذ عشرة أيام على الأقل.."
غمغمت بقلق "لكن هل ستتمكن من العثور عليها بعد كل هذا الوقت؟"
أجاب آرجان بإصرار "سأفعل.. سأبذل ما بجهدي للوصول إليها.."
ظلت رنيم تفكر فيما سمعته، بينما قال آرجان بغيظ "ربما كان هذا بتصرف من الأمير زياد، وهو آخر من عملت جايا في خدمته.. أيمكن أن يكون قد باعها لشخص ما نكاية بها؟.. حديثهم عن هربها من (الزهراء) كذبة.. والأسوأ أنهم يتهمونها بأنها سرقت كنزاً من كنوز الملك.."
نظرت له رنيم بدهشة، فأسرع يقول بحزم "لكنها لم تفعل.. جايا لا يمكن أن تفعل هذا بتاتاً.. أنا أعرفها أكثر مما أعرف نفسي.."
ونظر لرنيم مضيفاً "لهذا تدركين غضبي من الملك ومن زياد بالذات، وتعرفين ما الذي دفعني لاختطافك لظني أنك مهمة لهما ولن يتخليا عنك.."
قالت رنيم وهي تدير وجهها جانباً "ولكم كان حظك سيئاً بهذا الظن.."
قال آرجان وهو يتأمل ملامحها "أليس حظك أنت أسوأ؟.. لقد انقلبت حياتك رأساً على عقب منذ تلك الليلة ولن تعود كما كانت أبداً.."
فعلقت رنيم بابتسامة واسعة "أتراني تعيسة بهذا؟.. لن تصدق لو علمت كم أنا محظوظة لأنك اخترتني من بين سكان القصر كلهم لتختطفه، وكم أنا كارهة لفكرة عودتي لما كنتُ عليه قبل تلك الليلة.."
رأيا التنين يدور متأهباً للانطلاق، ثم انطلق بسرعة تاركاً إياهما على الأرض دون أن يلتفت للوراء.. فقفزت رنيم واقفة وهي تصيح "إلى أين يذهب ويتركنا؟.. هل هرب؟.."
ضحك آرجان معلقاً "لا.. إنه موعد طعامه، وهو ذاهب لاصطياده بنفسه.."
التفتت إليه بعينين متسعتين متسائلة "وهل يأكل البشر؟.."
قال آرجان بابتسامة جانبية "لو كانت التنانين تأكل البشر لما نجى الهوت منها.. إنها تأكل الحيوانات، وتكتفي بوجبة في الصباح وأخرى في المساء.. وهي ليست شرهة.. لذلك نحرص عند الترحال معها أن نخيّم في مواقع تبتعد عن البشر لئلا تسطو على حيواناتهم.."
وأشار للأفق الغربي قائلاً "لابد أنه سيبحث عما يسدّ جوعه في الغابة القريبة.."
بدا الاهتمام على وجه رنيم بشغف لمعرفة المزيد عن هذه الكائنات المذهلة، لكن آرجان اكتفى بهذا القدر وهو يجلس بدوره قائلاً "ومن حسن الحظ أنني لم أتخلّ عن جراب طعامنا، وإلا بقينا نتضور جوعاً حتى عودته.."
جلست رنيم صامتة في موقع قريب وتناولت حصتها بصمت متأملة الموقع حولهما.. ثم تساءلت "كيف وافقت على رحيلي معك في هذه الرحلة؟.. ألا ترى أنني سأثقل عليك بأي صورة؟"
أجاب آرجان "لا.. لكن لم أتمكن من تجاهلك وأنا أراك وحيدة في تلك البقعة المعزولة.. عندما غادرتِ القرية، ساورني شك بأنك لن تلحقي بالجنود كما قالت كاينا.. فلحقت بك لأعرف ما تنتوين فعله، ولم يخالف ذلك توقعاتي أبداً.."
ثم نظر لها متسائلاً "لكن ما تعجبت له بشدة هو عرضك عليّ الرحيل معي في رحلة غريبة وغير اعتيادية بالنسبة لأميرة مرفهة مثلك.. ما الذي يجعلك تثقين بي؟.. لماذا غامرت بالرحيل معي وأنتِ لا تعرفينني حقاً؟.. بالإضافة لأن بداية علاقتنا كانت سيئة حقاً باختطافي لك.."
فكرت رنيم للحظات، ثم قالت ببساطة "لو كنتَ شخصاً سيئاً لآذيتني وأنا سجينة عندك لا حول لي ولا قوة ولن تجد من يعترض على ذلك بكلمة.. ولما سعيت لحمايتي من أن يمسّني أهل القرية بسوء عند وصولي.."
غمغم آرجان بشيء من عدم الاقتناع "هذا عذرك فقط؟.. أنت ساذجة.."
علقت رنيم "هذا يكفيني.."
قال بتعجب "أتعجب لثقتك الكبيرة هذه بشخص غريب.. أين كنت تعيشين قبل هذا؟"
غمغت رنيم "بين دفتي كتاب.."
نظرلها آرجان بدهشة، ثم وجدته يعتدل فجأة وهو يقول عاقداً حاجبيه "أرجو ألا يصدمك البشر في هذه الرحلة صدمة شديدة حقاً.."
التفتت لتنظر لما يراه، فوجدت بقعة سوداء تقترب من موقعهما بشكل حثيث.. وبعد بعض الوقت تأكد لها أن تلك البقعة هي لبضع رجال يتقدمون منهما بسرعة وحزم، ولكن ما أشعل قلقها هو رؤية الرماح والسيوف التي يحملونها في أيديهم بمغزىً واضح لم يغِب عنها بتاتاً..
نظرت لآرجان قائلة بقلق "ما الذي سنفعله؟"
وقف آرجان قائلاً "وما الذي يمكننا فعله؟.. سننتظر ونرى ما يريدونه منا.."
دهشت لهدوئه في موقف كهذا، ورغم سيفه العريض المتدلي من حزامه، لكن ذلك لم يبعث في نفسها أي راحة.. فما هو إلا شخص واحد يمكنهم التغلب عليه بسهولة مهما كانت قوته وبسالته.. سمعته يقول وهو يضع يده على مقبض سيفه دون أن يسحبه "لا تنطقي بأي كلمة.. سيدركون بسرعة أنني من الهوت، أما لو علموا أنك عربية فسيتهمونني بأنني قد اختطفتك.. ولن يصدقوا أي قول آخر.."
أطبقت رنيم شفتيها دون اعتراض وهي تقف قريبة تتأمل الوجوه العابسة والحواجب المعقودة والشفاه المزمومة.. وعند اقترابهم، بادر الأول منهم قائلاً لآرجان "هيه أنت.. من أنت؟.. وما الذي تفعله في هذه الأرجاء؟"
تساءل آرجان وهو يقلب بصره بينهم "ولمن هذه الأرض؟.. أهي لأمير أم لوزير أم لتاجر من التجار؟"
قال الرجل بضيق "بل هي مُلكٌ لملك مملكة بني فارس.. ما الذي تفعله أنت هنا؟.. ألست من الهوت؟"
أجاب آرجان بشيء من السماجة "ظننت أن قرى الهوت تدخل ضمن نطاق مملكة بني فارس.. فما العجيب في رؤية رجل منها في هذه الأنحاء؟"
قال الرجل بغضب "أنتم لصوص، وتثيرون شغباً دائماً في الجبال القريبة من قراكم.. حتى الملك لم يسلم من المصائب التي أثرتموها لجنوده.. لذلك أنتم غير مرحب بكم في أي مكان.."
صمتت رنيم وهي تستمع للحوار بقلق، بينما قال آرجان بتقطيبة "وكيف علمتم بوجودي هنا؟.. هل تراقبون كل من يعبر هذه الأماكن؟.. أم أن هذا موقع هام يفرض عليكم حمايته بشكل دائم؟.. إن أقرب قرية تبعد عنا بضعة أميال.."
أشار الرجل لما خلفه قائلاً بحنق "نحن نسكن الغابة القريبة، وهذه السهول تحوي حقولنا التي نعيش عليها.. لقد رأيناكما تصلان على ظهر تنين، لكن وجودكما هنا غير مرحّب به، فغادرا حالاً.."
تراجعت رنيم خطوة متأهبة للرحيل مع مرأى الأسلحة التي جلبها الرجال معهم، لكن آرجان قال بسماجة تامة "سنفعل ذلك بعد أن نستريح من عناء السفر.."
توترت رنيم لقوله وهمّت بالاعتراض، لكنها تذكرت نصيحته فالتزمت الصمت، بينما صاح الرجل بحنق "عليك الرحيل الآن.. هل تريد أن نجبرك على ذلك؟"
فوجئ الجمع بهبوط التنين خلف آرجان ورنيم بشيء من العنف وهو يزمجر بتحذير واضح.. وازداد ارتعابهم لرؤية ذلك الغزال الصغير الذي أسقطه التنين من أنيابه التي تقطر دماً.. تعالت بضع شهقات من حلوقهم بينما نظرت رنيم للغزال بصدمة ظاهرة.. أما آرجان، فقد وقف بكل ثقة قائلاً "كما ترون، هذا التنين على وشك تناول وجبته.. ولو لمْ تكن كافية، لا أعلم كيف سأتمكن من ردعه من الهجوم عليكم.. التنانين كما تعلمون تحب أكل البشر.."
صاح رجل وهو يتراجع خطوة "أنت تكذب.. ولماذا لا يتغذى التنين عليك أنت؟"
ابتسم آرجان ابتسامة جانبية معلقاً "وهل يتغذى التنين على سيده بينما هناك بدائل أخرى؟"
قطب بعض الرجال بينما تراجع آخرون بقلق شديد.. ولما زمجر التنين منزعجاً من تجمهر الغرباء أثناء تناوله طعامه، فإن أغلبهم سارع للهرب مبتعدين بينما تراجع الأول صائحاً "إنني أحذرك.. لا تمسّ أحداً من رجالنا.. غادر هذا الموقع قبل أن نطردك منه.."
وتراجع عدة خطوات قبل أن يدير لهم ظهره ويبتعد بسرعة.. فغمغم آرجان "فلنرَ كيف ستفعلون ذلك.."
غمغمت رنيم وهي تبتعد عن كاجا الذي غمس أنيابه في ضحيته باستمتاع كبير "لقد كذبت عليهم بوضوح.. ألم تقل إن التنين لا يأكل البشر؟"
أجاب آرجان وهو يسترخي جانباً "كان عليّ بث الرعب في قلوبهم ليتركونا بسلام.. لا يمكن لكاجا الطيران بمعدة مثقلة.. هو بحاجة لساعة على الأقل قبل أن يتمكن من حملنا على ظهره واستئناف رحلتنا.. كما أننا متعبان وبحاجة للراحة قبل أن نواصل سيرنا.."
نظرت رنيم لفلول الرجال الذين ابتعدوا وغمغمت "يبدو أن الهوت مكروهون فعلاً في هذا العالم.. ما السبب؟"
تمتم آرجان "من يدري؟"
فقالت رنيم وهي تتلفت حولها إلى الحقول القريبة "ربما علينا أن نبتعد عن هذه الحقول لئلا نثير غضبهم.."
قال آرجان وهو يستلقي أرضاً "لا تقلقي، لن يجرؤوا على الاقتراب مع وجود كاجا.."
أبعدت رنيم بصرها عن كاجا وعن منظر الدماء الذي أثار في نفسها شيئاً من الذعر بدورها.. هذه هي المرة الأولى التي ترى فيها كاجا يتناول طعامه.. كان يبدو كائناً جميلاً وهو يتناول تلك التفاحة التي تحملها له كل يوم وتستمتع برؤية لهفته عليها، ولم تدرِ كيف بإمكانه أن يبدو شرساً والدماء تغرق أنيابه التي تمزق لحم الضحية في لحظات معدودة..
شعرت بالتنين يلعق أنيابه من الدماء دون أن تجرؤ على النظر إليه، ولما اقترب منها أدارت وجهها بعيداً متفادية رؤية وجهه أو لمسه وجسدها يقشعر لمنظره.. فسمعت آرجان يعلق بعد أن راقبها بطرف عينه "لا تظهري اشمئزازك من التنين، فهذا يجرحه وقد يغضبه بشدة.. لو كنت تريدين التآلف معه، فعليك تقبله بكل أحواله.."
أدركت خطأها تجاه التنين الذي لم يبتعد عنها، فأجبرت نفسها على النظر إليه وهي تمسح عنقه مغمغة بابتسامة "آسفة لذلك يا صاحبي.."
ابتسم آرجان بدوره دون أن يعلق وهو يستدير جانباً، فوجدت رنيم نفسها مجبرة على النوم بدورها على الأرض الترابية دون تذمر.. ولما شعرت بالصمت يحيط بهما، عاد تفكيرها لهذه الرحلة التي لا تصّدِق حتى الآن أنها تخوضها بالفعل..
لقد قطعا جانباً كبيراً من هذه الجبال في ساعات معدودة.. ولن يطول بهما الوقت قبل أن يصلا لوجهتهما في الجانب القصيّ من القارة.. ربما بعد يوم ونصف يكونان قد وصلا هناك بالفعل.. فما الذي سيجري لهما هناك؟.. هل سيتمكنان من العثور على جايا، أو أي أثر عنها، بالفعل كما يأمل آرجان؟.. وما الذي تنوي رنيم فعله بعد أن يحدث ذلك؟..


*********************
في تلك الليلة، وبعد أن تجاوز الوقت منتصف الليل، شعرت رنيم بحركة قربها مما دفعها لتفتح عينيها وتزيح السترة التي كانت تدفئها مغمغمة "ماذا هناك؟.."
رأت التنين ينتصب قربها وهو يزمجر بخفوت وتوجس محدقاً في الفراغ مما جعلها تنتبه وهي تعتدل جالسة وتنظر حولها.. كان الظلام الحالك يسود المكان بحيث وجدت عسراً في رؤية شيء عدا عيني كاجا اللامعتين..
وبعد أن استمر الصمت وقتاً طويلاً مدت يدها وربتت على ساق كاجا قائلة "اهدأ.. ما الذي أزعجك؟.."
لكنه بدل أن يهدأ، فإنه وقف بتوتر أكبر وهو يتشمم بصوتٍ واضح مما جعلها تلتفت للمكان من جديد قائلة بخفوت "هل رأيت شيئاً ما؟.."
لم تكد تتم قولها حتى رأت وهجاً صغيراً على مبعدة من موقعها.. ضيقت عينيها محاولة معرفة كنه ذلك الوهج، وقبل أن تمضِ لحظات رأته يشتد ويتزايد والهواء يحمل لها رائحته المميزة.. اتسعت عينا رنيم وهي ترى تلك النار التي اتسعت وأضاءت ظلام تلك الليلة بوضوح، فهبت نحو آرجان وهزته قائلة "استيقظ يا آرجان.. هناك حريق في الحقول القريبة.."
نهض آرجان بسرعة وتطلع لذلك الموقع، ثم زفر قائلاً "إنه في الجانب الآخر من النهر.. لقد أفزعتني.."
قالت بإلحاح "أهذا يدعو للارتياح؟.. ألست قلقاً لما سيصيب حقول القرويين مع هذه النار القوية؟.."
حك آرجان شعره قائلاً "هل نسيتِ أن أولئك القرويون قد كادوا يفتكون بنا قبل ساعات قليلة؟.."
هزت رأسها قائلة "مهما يكن ما فعلوه، فإن هذه النار قد تمتد للغابة القريبة وللقرية الغافلة عنها.."
وأضافت بتوسل "لنقمْ بتحذيرهم على الأقل.."
زفر آرجان ونظر لكاجا المتوتر، ثم قال "حسناً أيتها الأميرة اللحوحة.. يبدو أنني لن أحظى بنوم هادئ الليلة بتاتاً.."
وعلى ظهر كاجا، تجاوزا النهر القريب وهبطا على الجانب الآخر منه حيث المساحات الزراعية التي استغلت السهل بين النهر والغابة.. ووسطها، في موقع خالٍ من البشر عادة، كانت النار تلتهم المحاصيل الخضراء بشراهة وسرعة كبيرتين..
غمغمت رنيم بقلق كبير "رباه.. ما الذي يمكننا فعله؟.. ستصبح هذه الحقول صريماً لا حياة فيه خلال وقت قصير.."
نظر آرجان للغابة القريبة، ثم أشار إليها قائلاً لرنيم "ها هي بيوت تلك القرية واضحة من هنا.. اذهبي إليها وأنذري أهلها من هذا الحريق.. سأرى ما يمكنني فعله مع كاجا حتى قدومهم.."
أسرعت رنيم تنفذ أمره وهي تتقدم من الغابة والقرية الواقعة عند طرفها.. وبينما كانت النار تلقي بنورها على البيوت الساكنة، فإن رنيم تعجبت من صمت القرية التام إزاء مثل هذا الحدث.. اقتربت من أقرب البيوت وطرقت بابه بعنف وهي تصيح "أيها الناس.. هناك حريق في الحقول.. أسرعوا لإطفائه.."
وذهبت لآخر فطرقت بابه، ثم لآخر وآخر حتى بدأ أهل القرية بالخروج من منازلهم بدهشة تحولت لصدمة ثم ذعر مع مرأى النيران التي تحصد محاصيلهم.. تقدم رجل ضخم من رنيم فأمسكها من مجمع ملابسها وهو يقول بغلّ "هل أنتما من فعل هذا؟"
قالت بسرعة "لو كنا فعلناه هل كنتُ سآتي لتحذيركم؟.."
ثم نظرت للبقية مضيفة "أسرعوا بإطفاء تلك النيران قبل أن تلتهم حقولكم كلها.."
قال الرجل بغيظ "لابد أن رفيقك قد فعل هذا لأننا طردناكما.. كان حريّاً بنا إبعادكما عن هذا الموقع وعدم السماح لكما بالبقاء هنا وإثارة الشغب.."
سمعت رنيم صوتاً يقول "أهذا وقت الجدال؟"
التفتت لترى عجوزاً طاعنة في السن، ربما تتجاوز الثمانين من العمر، صغيرة الحجم وضئيلة بشكل لا يصدق وهي تقترب منهما وشعرها الأبيض يلتمع بلهب النار.. فقالت مواجهة الرجل "أليس الأفضل لكم إطفاء الحريق بدل هذا الحديث الفارغ؟.."
ثم نظرت لرنيم مضيفة "ثم إن الفتاة ليست من الهوت كما تدّعون.. إن لها ملامح عربية خالصة.. ألم تلحظ هذا؟"
نظر لها الرجال بدهشة، لكن أحدهم لم يعلق وهم يتدافعون لموقع الحريق حاملين بضع دلاء وما يمكنهم إطفاء النار به.. وقفت رنيم تراقبهم بينما قالت المرأة العجوز "ما الذي يدفع فتاة عربية للترحال مع رجل من الهوت؟.. أهناك ما يرغمك على ذلك؟"
تراجعت رنيم خطوة وهي قلقة من كشف هويتها ومن تبعات ذلك على آرجان، فقالت باندفاع "بل أنا من الهوت حقاً.."
ابتسمت العجوز معلقة "لكنك لا تملكين لكنتهم.. ولا ملامحهم رغم ارتدائك لرداء مشابه لهم.."
توترت رنيم أكثر وهي تواجه النظرة الثاقبة لتلك العجوز، لكنها لم تعلق وهي تستدير وتغادر عائدة لموقع آرجان والبقية.. فضّلت مقاومة النار مع البقية عن مواجهة العجوز وما قد يتبع ذلك من كشف نفسها وهويتها.. ولما وصلت للحقول، دارت ببصرها بحثاً عن آرجان والتنين دون أن تعثر لهما على أثر.. بينما حاول الرجال إطفاء النار باستخدام مياه النهر القريب رغم بُعد المسافة وصعوبة نقل المياه ببضع دلاء..
بحثت رنيم عن وسيلة لإطفاء النيران بأسرع ما يمكن، دون أن يسعفها عقلها بأي فكرة.. فتلفتت حولها مغمغمة "أين اختفى آرجان في مثل هذا الوقت؟.."
لم تكد تتمّ قولها حتى لمحت كاجا عائداً لموقعهما وعلى ظهره آرجان.. وبينما رفع الرجال أبصارهم للتنين بمزيج الذعر والبغض، فإن رنيم لاحظت أن التنين يحمل شيئاً بقدميه.. لكنه أكبر من أن يكون مجرد شيء.. وقبل هبوطه، رمى كاجا ما يحمله أرضاً وسط الرجال، ثم هبط في جانب المكان..
حدقت رنيم، والرجال، بدهشة في الشخصين اللذين سقطا أرضاً بعنف.. ورغم أن الرجلين لم يكونا مصابين، إلا أنهما أطلقا صيحات رعب وهما يزحفان بعيداً عن التنين.. فصاح آرجان "قيدوا هذين الرجلين قبل أن يهربا.."
وإزاء نظرات الاستنكار من البقية وضّح الأمر قائلاً "وجدت هذين يتسللان من الجانب الآخر من الحقول حاملين مشعلان.. هما من أشعلا النيران في هذه الحقول.."
وبينما انقض رجلان على المتسلليْن وقاما بتقييدهما، قال آرجان "ألا تملكون حاوية أكبر من هذه الدلاء؟.. يمكن للتنين المعاونة في إطفاء النيران بشكل أسرع.."
أسرع أحد الرجال يدلّه على برميل كبير مصنوع من أخشاب رصّت بشكل محكم ودهنت بنوع من الدهن الحيواني لمنع تسرب المياه منه، وهي تستخدم لنقل الزيوت وغيرها من السوائل تمهيداً لبيعها في القرى الأخرى..
وبتربيتة من آرجان، حمل كاجا البرميل وطار به نحو النهر القريب، فدلّاه في المياه ليعبئه قبل أن يعود به فوق النار المشتعلة ويرشها بالماء.. كان عملاً طويلاً ومرهقاً، وتقارب الحقول وكثافة المزروعات فيها كان يبطئ عملهم ويثير النار بسرعة أكبر.. لكن، مع انبلاج الفجر واتضاح الرؤية شيئاً ما، كانت النيران قد أطفئت بشكل كامل مخلفةً ربع الحقول الممتدة سوداء خرِبة..
وقف رجال ونساء القرية مغمورين بالماء والعرق والرماد وهم يتأملون خسائرهم في تلك المحاصيل التي تساوي أكثر من حياة أبنائهم، ثم دارت الأبصار للرجلين المرتعبين الذين قيّدا لشجرة قريبة وتحت حراسة أحد شباب القرية.. فتقدم رجل منهما قائلاً بغضب "ما الذي دفعكما لفعل ما فعلتماه؟.. أتظنان أن ذلك يمكن أن يمر مرور الكرام؟.."
نظر الرجلان لبعضهما البعض بصمت، ولما تلقى الأول منهما لكمة قوية على وجهه من أحد الشباب، فإن هذا كان كافياً ليدفع الآخر للصياح "لا تنتقموا منا.. نحن لسنا مسؤولان عما جرى هنا.."
فقال الشاب مكوّراً قبضته بشدة "أتمزح يا هذا؟"
أسرع المتسلل يقول "لا.. صدقني لم نأتِ هنا إلا بطلب من يسار التاجر"
نظر القرويون لبعضهم البعض بوجوه مكفهرة، بينما تساءل آرجان "أتعرفون من هو؟"
قال أحد الرجال بجفاء "أجل.. وهذا أمر لا يخصّ دخيلاً عن القرية.."
فقال آرجان بسخرية "أهذه وسيلة لشكرنا على مساعدتكم في إطفاء الحريق؟"
تعالى صوت العجوز من بين الجمع قائلة "نحن بالفعل نشكركما على هذا.. لو لم تحذرانا من هذه النار، وتعاونانا على إطفائها، لربما فقدنا المحاصيل والحقول كلها.."
ونظرت للرجل المقطب بنظرة حادة مضيفة "وهذا كفيل بتدمير القرية نهائياً.."
أدار الرجل وجهه جانباً بضيق، بينما قالت العجوز "عودوا بهذين المتسللين للقرية.. وهناك سنرى ما سنفعله بهما، وبالتاجر يسار.."
أطاعها الرجال بصمت وهم ينسحبون عائدين للقرية بعد ليلة منهكة وطويلة.. فيما تساءلت رنيم بدهشة "من يكون ذلك التاجر الذي يأمر رجاله بإحراق حقولكم؟.. ما السبب الذي يدفعه لفعلٍ بغيضٍ كهذا؟"
قالت العجوز وهي تتأمل الحقول السوداء "هو من أكبر تجار هذه المناطق.. وهو يحاول منذ مدة أن يشتري منا محاصيلنا بثمن بخس ليقوم ببيعها بمبلغ مضاعفٍ عشر مراتٍ على الأقل.. وعندما رفضنا، وقمنا ببيعها في السوق لحسابنا الشخصي، هددنا بأنه لن يسمح لنا بتجاوز حدودنا، وأن رفض طلبه سيكلفنا غالياً.. ولم يدرك أحدنا أنه سيكون بهذه الخسّة حقاً.."
استمعت لها رنيم بإشفاق للقسوة التي يتحلى بها شخص يملك كل شيء مقابل أشخاص لا يعيشون إلا على الكفاف، ويكفيهم ذلك..
التفتت العجوز إلى رنيم الواقفة جانباً بصمت وتساءلت "أنتِ لم تجيبي على سؤالي السابق يا فتاة.. هل تنوين التهرب من هذا السؤال للأبد؟"
توترت رنيم والعجوز تقلب بصرها بينها وبين آرجان متسائلة "ما الذي يجبرك على مصاحبته في رحلته هذه؟.. أهو يغصبك على ذلك؟"
التفتت رنيم لآرجان بقلق، فقال بشيء الصرامة "شأن الفتاة لا يخصّ الغرباء أيضاً.. لنذهب، فقد أضعنا ساعات طويلة في عمل بلا فائدة.."
تراجعت رنيم خطوات بتوتر، ثم استدارت وتعلقت بيد آرجان الذي ساعدها على امتطاء كاجا، فعلقت العجوز "هذا العمل قد أنقذ أرواحاً عديدة أيها الشاب.."
لم يعلق آرجان بينما ارتفع التنين دون إبطاء متجاوزاً المزارع المتفحمة والقرية الصغيرة التي تقع عند أطراف الغابة.. وبينما بدأت الشمس بالشروق من خلفهما، فإن آرجان دمدم بضيق "لقد أضعنا ساعات راحة ثمينة بسبب ذلك الحريق.."
غمغمت رنيم "أنا آسفة.. لقد أجبرتك على معاونة القرية رغم سوء معاملتهم لك.."
قال آرجان "لم تجبريني.. لو لم أكن أريد المعاونة لما فعلت ذلك.. الآن، سنتجاوز هذه الغابة ونهبط في الجانب الآخر منها.. وبينما يحصل كاجا على طعامه، سنحاول اقتناص بعض الراحة لساعة أو اثنتين.."
لم تعلق رنيم وهي تحدق في الغابة من تحتهم والأشجار المتراكضة بكثافة لا تصدق.. من المفيد وجود التنين معهم، فأي مشكلة يمران بها يمكن أن تنتهي فور امتطائهم لظهر كاجا والطيران بعيداً.. هذا حلٌ عملي لأغلب مشاكلهم على الأرض.. تتمنى فقط ألا يعكر صفو رحلتهما أمر آخر حتى يصلا لميناء (مارِج)..


*********************
بعد عدة ساعات من الراحة، عاد الثلاثة لاستئناف رحلتهم دون إبطاء.. كان عليهم قطع أطول مسافة ممكنة قبل مغيب الشمس وقبل أن يحين موعد وجبة كاجا التالية، فهو سيرفض الحراك تماماً حتى يحصل على طعامه.. كانوا في البدء يطيرون بجوار السلسلة الجبلية الممتدة من شرق القارة حتى غربها لتقف عند أطراف السهول الممتدة خلفها والتي سميّت سهول الأكاشي نسبة للقبائل التي تتمركز في ذلك الموقع دوناً عن العالم كله.. ولما وصلوا للجانب الغربي من القارة، كانت الجبال تشكل سدّاً منيعاً أمامهم، لكن أي حاجز مهما كان علوه وضخامته يمكن الطيران فوقه بكل يُسر.. وهكذا وجدت رنيم أنهم قد ارتفعوا متجاوزين الجبال ومتفادين قممها الثلجية التي تنعكس عليها أشعة الشمس وتعشي أعينهم لوهجها..
شعرت رنيم بالبرودة تتزايد من حولها مع وصولهم لذلك الموقع، فقالت لآرجان "ألا يستحسن بنا الوقوف للراحة قليلاً؟.. أمضينا عدة ساعات في الطيران، وربما كان كاجا متعباً.."
علق آرجان "كاجا يمكنه الطيران حتى غروب الشمس، وعندها سيحتم علينا الوقوف مهما كان موقعنا.. يجب أن نجتاز هذه الجبال قبل المغيب لنهبط في موقع منبسط وأكثر أمناً.."
قالت باعتراض "أنت لا تراعي تعب كاجا وتنهكه في طيران طويل دون توقف.. لمَ أنت قاسٍ معه هكذا؟"
ألقى آرجان على كاجا نظرة قائلاً "أترينني قاسياً الآن؟.. كيف تعرفين أن كاجا متعب بشكل بالغ؟"
أجابت مشيرة إليه "يمكنني إدراك ذلك من تذبذبه في الطيران.. لم يعد يطير بالسلاسة ذاتها كما كان في بداية هذا النهار.."
قال آرجان "لا تقلقي.. سيكون بخير حتى نصل السهول خلف هذه الجبال.."
غمغمت رنيم رغماً عنها "أنت متجبر.."
فتنهد آرجان وهو يدير بصره جانباً قائلاً "تباً.. لقد اشتقت لتلك الفتاة الهادئة الصامتة التي كانت حبيسة داري.. وهي لا تقارن بهذه التي تتذمر في كل حين ولحظة.."
احتقن وجه رنيم شيئاً ما، ثم هتفت "أنا لا أتذمر.. لكني أريدك أن تستمع لرأيي.. أنت من شجعني لفعل ذلك منذ البدء، أليس كذلك؟"
قال رافعاً حاجبيه "لم أعنِ أن تضجّي بالشكوى في كل وقت وحين!.."
فقالت بضيق " لمَ أنت متعجرف هكذا؟"
قال بسخرية "هل أنت نادمة على مرافقتي في هذه الرحلة الآن؟"
أدارت وجهها جانباً بصمت لوهلة، ثم قالت بخفوت "لا.. لم أندم على ذلك.."
ضحك آرجان لقولها، فأسرعت تضيف "بعد.... لم أندم على ذلك بعد.. من يدري......."
قطعت قولها مع زمجرة قوية من التنين الذي دار برأسه بتوتر واضح.. فنظرت حولها لتعرف سبب ضيقه بينما غمغم آرجان "يبدو أننا نثير اهتمام بعض سكان هذه الجبال.."
نظرت رنيم للأرض تحتها بشيء من القلق.. بدا التوتر على آرجان بالفعل وهو يرى جمعاً من الرجال يرتدون فراء الذئاب للتورية وهم يحدقون بالتنين الذي يقطع السماء بسرعة كبيرة.. كانوا متناثرين على منطقة واسعة من تلك الجبال ولم يكونوا متجمعين في منطقة واحدة يمكن تجاوزها.. تمتمت رنيم لنفسها وهي تراقبهم يلوّحون بسيوفهم "أتظن أنهم يستطيعون إيذاءنا بأي وسيلة كانت؟.."
غمغم آرجان عاقداً حاجبيه "ربما لا يملكون الوقت الكافي لفعل ذلك.. إن هي إلا لحظات فقط، وسيعبر كاجا هذه السلسلة الجبلية بسرعته الكبيرة.. فلا تقلقي.."
لا تدري كيف يطمئنها والقلق واضح على وجهه، لكنها لم تعلق وهي تراقب الأرض تحتها بصمت وكاجا يميل جانباً متفادياً جانباً مرتفعاً من تلك الجبال.. بعد لحظات، دهشت رنيم لصوت صفير يقطع الصمت بمروره قريباً منها.. فتلفتت حولها متسائلة "ما هذا الصوت؟"
تكرر الصوت من جديد في ناحية أخرى، وانتبهت رنيم لذلك الجسم الدقيق الذي مرق قربها وكاد يصيب ذراعها.. وقبل أن تستوعب ما جرى سمعت آرجان يقول ضاغطاً على أسنانه "اللعنة.. إنهم يطلقون سهامهم نحونا.. تشبثي جيداً.."
دارت رنيم ببصرها حولهم وهي تتمسك بكتفي آرجان بقوة.. ولاحظت عدة سهام أصغر حجماً من المعتاد تتطاير في الموقع وكاجا يزمجر بغيظ شديد وهو يميل بشدة محاولاً تفادي ذلك الهجوم.. بدا أن سكان تلك الجبال عازمون على إيقاع التنين بإصرار، ولا تعلم رنيم سبب ذلك.. لكن آرجان لم يعبأ لذلك الهجوم وهو يميل بكاجا يميناً ويساراً ويحاول الارتفاع به عن مرمى تلك السهام.. ورغم تعبه من الطيران المستمر، فإن كاجا بذل جهده في تفادي السهام وهو يرفرف مرتفعاً في السماء قبل أن يضمّ جناحيه لجانبه ويميل للأسفل مخترقاً الفضاء كرصاصة.. وبحركات بهلوانية، تمكن من تجاوز ذلك الهجوم وابتعد عن السلسلة الجبلية لتنكشف أمامهم سهول شاسعة ومرتفعات ذات انحناءات سلسة بلون أخضر جميل..
تنهدت رنيم وهي تراقب الجبال من خلفهم وتغمغم "الحمدلله.. مضى الأمر على خير.."
ربت آرجان على عنق كاجا قائلاً "أحسنت عملاً يا كاجا.. أنت بارع.."
سمعا كاجا يطلق زمجرة غير راضية وهو يميل في طيرانه، فتساءل آرجان بقلق "ما الأمر؟.. هل أصبت؟"
زمجر كاجا من جديد بصوت لمحت فيه رنيم بعض الألم.. لا تدري لماذا، لكنه بدا لها كمن يتألم بشدة.. هل أصيب بتلك السهام؟.. قبل أن تنقل شكوكها لآرجان، فوجئا بالتنين يتمايل بشكل خطر كاد يوقع رنيم من على ظهره، فتمسكت بوسط آرجان وهي تهتف "لقد أصيب كاجا بتلك السهام.. هل سنسقط؟.."
لكن آرجان انشغل عنها بالتنين وهو يجذب العنان بقوة صائحاً "كاجا.. اهبط بهدوء.."
لكن كاجا دار دورة حول نفسه وهوى بشدة جاعلاً رنيم تصرخ بفزع "نحن نسقط......."
حاول آرجان دفع كاجا للارتفاع والتخفيف من سقوطه السريع، لكن كاجا كان عاجزاً عن فرد جناحيه من جديد والأرض تقترب منه بسرعة شديدة.. صاح آرجان وهو يضرب صفحة عنق التنين لتنبيهه براحة يده "هيا يا كاجا.. عد لوعيك.. إن سقطتَ لن تفيق بعدها أبداً.."
لكن لم يصدر من التنين إلا صوت خافت والأرض تتقارب منهما بشدة حتى أغمضت رنيم عينيها بقوة وقلبها يغوض في صدرها.. وفي لحظة، استعاد كاجا تحكمه بجناحيه وهو يرفرف بقوة فجأة ويرفع نفسه بسرعة قبل أن يهبط على قدميه بشيء من العنف، ولم يلبث أن تهاوى بجسده أرضاً بعدها.. ومع هبوطه العنيف، ارتمت رنيم أرضاً بقوة وتدحرجت حتى تكومت في جانب المكان..
هبط آرجان بقفزة واحدة واندفع نحو رنيم، فعاونها على النهوض متسائلاً "أأنت بخير؟.."
غمغمت بألم وهي تجلس "الحمدلله، لم أكسر عظامي بعد.."
لمحت القلق في عيني آرجان، فقالت بابتسامة "أنا بخير.."
ونظرت خلفه متسائلة بقلق "وكيف هو كاجا؟.. ما الذي حل به؟.."
قال آرجان وهو ينهض "سنرى حالاً.."
واقترب من كاجا الذي تململ في موقعه دون أن يقوى على النهوض، فدار آرجان حوله متفحصاً وهو يربت عليه مهدئاً.. وفي جانبه الأيسر، قرب فخذه، رأى سهمين متباعدين من تلك السهام الدقيقة قد اخترقت جلده الثخين وغاصت في لحمه حتى لم يبقَ منها إلا جزءٌ صغير.. زفر آرجان وهو ينظر للتنين الذي رمى رأسه جانباً وهو يزوم بتعب، ثم غمغم وهو يمسك السهمين بيديه "اهدأ يا رفيقي.. اهدأ واسترخِ وكل شيء سيكون على ما يرام.."
كان يدرك أن عليه أن يسحب السهمين معاً لأن التنين لن يمنحه فرصة ثانية.. وبكل قواه، جذب السهمين في آن واحد رغم سماكة جلد التنين الذي جعل الأمر أكثر صعوبة.. وللألم الذي ثار بقوة، أطلق كاجا صيحة متألمة ممتزجة بالغضب، وطوّح ذيله بقوة ليضرب آرجان في صدره ويرميه عدة أمتار للوراء.. ثم قفز نحوه بسرعة وتوحش حتى جثم على صدره والغضب يبدو من ملامحه المنقبضة وهو يزمجر بوعيد..
شهقت رنيم التي كانت تراقب ما يجري وصاحت وهي تقفز واقفة "كاجا.. توقف.."
واندفعت نحوه قبل أن ينشب أنيابه في جسد آرجان.. لكن الأخير صاح بها "لا تقتربي لئلا تثيري غضبه أكثر من هذا.."
توقفت رنيم على مبعدة وهي تضم قبضتيها بقلق شديد، بينما نظر آرجان لكاجا وهو يقول بصوت هادئ "لا تغضب يا رفيقي.. كان هذا لصالحك.. اهدأ الآن.."
ومد يده بحذر نحو خطم التنين الذي زمجر بغضب، وقبل أن ينجح في تهدئته فوجئ بالتنين يترنح للحظات والزبد يتدفق من فمه.. تراجع خطوتان وهو يتخبط بشدة فيما أسرعت إليه رنيم قائلة بارتعاب "ما الذي يجري لك يا كاجا؟.."
نهض آرجان والتقط السهمين اللذين سقطا منه أرضاً، وبلمحة سريعة تمكن من رؤية تلك الصبغة البرتقالية التي صبغت السهمين الخشبيين.. فقال عاقداً حاجبيه بشدة "هذه السهام تحوي سماً.."
نظرت له رنيم بصدمة، بينما اقترب منهما آرجان مضيفاً "لقد تم غمس هذه السهام الخشبية في مادة سامة قبل استخدامها بوقت طويل حتى تشربت تلك المادة.. ولا نعلم أي نوع من السموم هو.."
تدافعت الدموع من عيني رنيم وهي تصيح متشبثة بالتنين "كاجا... لا.. رباه، ما الذي يمكننا فعله؟.."
لم يتوقف الزبد من التدفق من شفتي التنين وهو يصدر أنيناً بألم وينهض ليتخبط فيسقط من جديد.. فصاحت رنيم وهي تحاول التحكم به "كف عن الحراك لئلا تؤذي نفسك.."
والتفتت إلى آرجان صائحة "افعل شيئاً يا آرجان.. سيموت كاجا بهذه الطريقة.."
قال آرجان بتقطيبة "وهل نملك ما نفعله له في هذا العراء؟.."
نظرت رنيم لكاجا بعينين تدمعان وهي تقول بصوت يرتجف "لكنه سيموت.."
مسحت على وجهه وهي تراقبه بأسى، عندما فوجئت به ينتفض واقفاً ثم يندفع في السماء بحركة سريعة شهقت لها رنيم.. تخبط التنين قليلاً في طيرانه، ثم ابتعد بسرعة فائقة دون تردد ودون أن يلتفت للإثنين اللذين بقيا يراقبانه على الأرض.. التفتت رنيم إلى آرجان المقطب هاتفة "أين سيذهب كاجا وهو مريض بهذه الصورة؟.."
غمغم آرجان "إن التنانين تعرف كيف تتولى أمر نفسها في حالة المرض، وأتمنى أن يكون كاجا يعرف ما يفعله.."
وزفر بشدة ورنيم تغمغم بصوت يرتجف "أتمنى أن يكون بخير.."
لم يعلق آرجان وهو يدور ببصره فيما حولهما من سهول شاسعة قائلاً "لقد تركنا كاجا في أسوأ موقع ممكن.. لا يمكننا عبور هذه الجبال عائدين من حيث أتينا.."
ونظر لها مضيفاً "و(مارِج) بعيدة عنا ولن نستطيع التوجه إليها سيراً على الأقدام.."
مسحت رنيم دموعها وبصرها معلق بالسماء.. غاب كاجا عن بصرها ولم تعد تراه لسرعته الفائقة.. فهل رحل بحثاً عن علاج، لو كانت التنانين تعرف علاجاً لسمّ كهذا؟.. أم أنه رحل ليموت بعيداً ولن تراه مرة أخرى؟..
التفتت إلى آرجان وقد خايلتها دهشة من عدم انفعاله لما جرى، فرأته يحدق في السهول أمامهما بتقطيبة وعبوس وهو صامت بجدية غريبة عليه.. اقتربت منه متسائلة "ما الأمر؟.. ألا يقلقك ما جرى لكاجا؟"
قال آرجان دون أن تزول تقطيبة جبينه "بل أنا أثق به وأدرك أنه سيعود فور أن يصبح أفضل.. لكن ما يقلقني الآن هي هذه السهول التي علينا أن نعبرها سيراً على الأقدام.."
تساءلت رنيم بدهشة "لماذا؟.. أتخشى أن نضيع فيها أم تخشى أن تنفذ مواردنا قبل الوصول لأقرب مدينة أو مخيم؟"
قال بعبوس "بل أخشى الأكاشي.."
قالت رنيم "أهم القبائل التي تعيش في هذه السهول؟"
هز آرجان رأسه إيجاباً، ثم قال بملامح لا تشي بأي راحة "الأكاشي شعب مكون من بدو رحّل، لا يستقرون في موقع ولا يعمرون مدينة.. تسير قوافلهم حيث سارت ماشيتهم وحيث ينمو العشب على تلالهم.. لكنهم، رغم أنهم يتحدثون لغتكم، لا يشبهون شعوبكم في أي شيء آخر.. هم قساة، قتلة، لا يعبؤون بالأرواح ولا يهمهم إلا فرض السيطرة على هذه المناطق الشاسعة.. ورغم أن هذه المناطق تعتبر جزءاً من مملكة بني فارس، إلا أنها لا تملك أي سلطة على أي جزء من أجزائها، ولولا وجود هذه السلسلة الجبلية العالية التي تحجز هذه السهول عن بقية المملكة، لتمددت سلطة الأكاشي لمناطق أكبر منها ولعجز الملك عن صدّهم تماماً.."
شحب وجه رنيم شيئاً ما وهي تغمغم "يا إلهي.. ما الذي جاء بنا لهذه البقاع إذاً؟.."
نظر آرجان لوجهها الشاحب معلقاً "أرى حماسك وشغفك للترحال في أرجاء هذا العالم قد خفت مع ذكر شراسة قبائل الأكاشي.. هل أصبحت تخشين على نفسك الآن؟"
غمغمت وهي تخفض وجهها "التعامل مع تلك القبائل لن يكون سهلاً كما كنا سنفعل لو كنا على ظهر كاجا.. من الطبيعي أن أقلق ونحن وحيدين لو اضطررنا لمواجهة جماعة منهم.."
علق آرجان بزفرة "لن أسمح لأحد بأن يمسّك بأذى.. لكني بالفعل أتمنى ألا نتواجه مع أحدهم أبداً طوال سيرنا هذا.."
ثم مدّ يده وأمسك خصلة من شعرها الطويل قائلاً "علينا التخلص من هذا الشعر.. لا نريد أن يبدو شكلك جذاباً فيغري أحد أولئك الرجال بالتطاول عليك.. وأنا لن أكفي لحمايتك منهم.."
هتفت رنيم باحتجاج "شكلي لا يبدو جـ.. جذاباً بالشعر الطويل كما تقول.. كلامك لا يقنع أحداً.."
جذب آرجان الخصلة بخفة آلمتها وهو يقول بحزم "عليك أن تطيعيني فأنا أكثر خبرة منك.."
وخلال وقت قصير، كانت رنيم تجلس على صخرة محنية الكتفين وآرجان يقص خصلاتها بخنجر حاد صغير يملكه.. وبينما تتهاوى الخصلات المتموجة في حجرها، فإن رنيم قالت دامعة العينين "هذا ظلم.. لماذا عليّ أن أتخلص من شعري بينما تحتفظ أنت بشعرك الطويل هذا؟.."
علق آرجان بسخرية "وهل أبدو لعينيك جذاباً كالنساء بهذا الشعر الطويل؟.."
دمدمت رنيم بضيق "ستطلب مني بعد ذلك التنكر بهيئة رجل.. أليس كذلك؟.."
قال آرجان "أود ذلك.. لكن تنكرك لن يقنع أحداً بملامحك الناعمة هذه.."
خفضت رنيم رأسها وهي تقول بخدين حمراوين "ملامحي ليست ناعمة.. لا تحاول تملقي بكلماتك هذه.."
عبث آرجان بشعرها القصير للحظة دون أن يعلق، ثم أعاد خنجره للجراب الذي يحمله على كتفه عادة قائلاً "لنذهب.. أمامنا طريق طويل.."
نهضت رنيم وتوجهت لجدول قريب يقطع هذه السهول، وتطلعت لهيئتها الجديدة.. لم تكن تبدو بشعة كما كانت تتوقع، ورغم أن قطع الشعر بالخنجر لا يمنحه مظهراً جميلاً، لكن شعور رنيم بالخفة والطلاقة مع هذه الخصلات القصيرة قد خفف من حزنها على ما فقدته.. كما أن الشعر القصير يمحو بعض الكآبة التي كانت تجدها تخيّم على ملامحها في السابق.. وبعد أن غسلت وجهها بالماء، وشربت بعضه تحسباً للطريق الطويل الذي عليهما قطعه، أسرعت خلف آرجان قائلة "كم من الزمن تعتقد يلزمنا حتى نصل لـ(مارِج)؟"
هز آرجان كتفيه مجيباً "من يعلم؟.. لو سرنا على الأقدام، فلن نصل قبل مرور أسبوع أو أكثر.. وأشك أن نفعل ذلك.. لذلك كل أملنا أن نلتقي بقافلة من القوافل التجارية التي تقطع هذه السهول فنرحل معها.."
لم تعلق رنيم وهي تتنفس بعمق.. إنها لم تكن يوماً تمتلك نشاطاً وقوة لقطع مسافات طويلة، وينهكها مجرد السير لمدة قصيرة.. ولم يكن ذلك لاعتيادها على الدعة والراحة، قدر ما كان لاضطرارها البقاء في مواضع محدودة من قصر أبيها.. والآن هي تلاقي تبعات تلك الحياة الخاملة التي عاشتها بين جدران القصر..
وكما كان آرجان يقسو قليلاً على كاجا ليقطع مسافات طويلة دون راحة، فهو قد فعل الشيء ذاته مع رنيم رافضاً منحها أي راحة بين فترة وأخرى.. وإن وافق على ذلك لا تتجاوز راحتها دقائق معدودة، كما أنه كان يرفض منحها بعض الماء لتشربه عندما يراها تلهث بتعب متحججاً بأن ذلك سيضرّها أكثر مما ينفعها.. أهو محق بذلك؟.. وبعد بضع ساعات من السير والإرهاق الشديد، تهاوت رنيم أرضاً وهي تقول لاهثة "يجب أن نتوقف.. أكاد لا أشعر بساقيّ لكثرة ما سرنا دون راحة.."
قال آرجان بانزعاج "ما الذي تقولينه؟.. مازالت الجبال قريبة منا، ومازلنا في أول الطريق.. هل تريدين أن نمضي الشهر كله في السير البطيء هذا؟"
قالت باعتراض "وما الذي يمكنني فعله؟.. أنا لا أملك طاقة لبذل جهد أكثر مما فعلت.."
قطع قولها صيحة عالية اندلعت من موقع ما أمامهما.. فتوتر آرجان وهو يصيخ السمع ورنيم تتحامل لتقف من جديد وقد عاد إليها قلقها.. ومع بعض الإنصات، تمكنا من ملاحظة أصوات بدت خافتة لهما وهي صوت صياح وصراخ يمتزج بصوت صليل المعادن وهي ترتطم ببعضها البعض..
نظرت رنيم لآرجان متسائلة بقلق، بينما نظر آرجان إليها مغمغماً "عسى ألا يكون هذا ما أتوقعه.. فسنكون عندها في مأزق.."
تراجعت رنيم خطوة قائلة بقلق "ما معنى هذا؟.. أهم الأكاشي؟"
قال آرجان "علينا استطلاع الأمر، ومن ثمّ اتخاذ التصرف الملائم.."
وسار بخفة متقدماً من مصدر الصوت متجاوزاً عدداً من التلال، ورنيم تلحق به بأسرع ما تستطيع.. ولما اقتربا من الصوت الذي غدا أكثر وضوحاً وإزعاجاً خلف تلة قريبة منهما، صعد آرجان تلك التلة ليرى ما خلفها دون أن يُظهر نفسه.. وفي الجانب الآخر منها، وعلى مساحة واسعة، كان عدد لا يقل على مائة رجل مكوّنين فريقين يتقاتلان بعنف ووحشية بينما الجثث تكوّمت أرضاً والدماء سالت منها ملونة السهول الخضراء بلونٍ أحمر قانٍ.. كان الفريق الأول لأولئك الرجال ذوي فراء الذئاب، وهم سكان الجبال القريبة منهم.. أما الفريق الثاني، فكان لرجال ضخام شديدي البأس يرتدون ثياباً جلدية مبطنة بالفرو وعلى رؤوسهم خوذات حديدية بقرون عالية تظهر من الجنبين.. سمر البشرة بينما بدا من تحت الخوذات شعر أشقر تفاوت في لونه وفي طوله، بحيث بدا متناقضاً مع البشرة السمراء بشدة.. واكتست الوجوه بشوارب ولحىً فاتحة اللون تماثل شعر الرأس شقرة..
قبعت رنيم قرب آرجان وهي تقول بانتفاضة "ما الذي يجري؟.. من هؤلاء؟"
همس آرجان "هؤلاء هم سكان الجبال.. ويبدو أنهم قد جاؤوا في محاولة لفرض سيطرتهم على هذه المناطق القريبة.. أما أولئك....."
وأشار لذوي القرون الذين يقاتلون بحماس ووحشية قائلاً بتقطيبة "هؤلاء هم الأكاشي.. ذوي القرون.."
ورغماً عنها، غلبتها انتفاضة قوية وهي ترى المعركة الشرسة التي تدور على بعد أقدام منهما، ولا يبدو أن نتيجتها ستكون في صالحهما مهما كان الغالب فيها من هذين الفريقين..


*********************




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-12-15, 09:44 AM   #12

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



الفصل العاشر: سهول دموية


كان المنظر الذي شهدته رنيم أمامها يماثل ما قد تراه مرسوماً في لوحات في القصر الملكي أو مطبوعاً في إحدى صفحات الكتب.. الفرسان المقاتلون بسيوفهم اللامعة والجثث التي ارتمت أرضاً والدماء التي لطخت كل شيء.. لكن اللوحات التي كانت تتأملها بشيء من الشغف كانت تختلف تمام الاختلاف عن ذلك الواقع الذي تراه الآن.. فمشهد الجثث بالأطراف المقطوعة والرأس المفصول تبدو أكثر قسوة من رؤيتها مرسومة، وما يزيد الأمر واقعية هو تلك الأصوات العالية والصليل الذي يصمّ الآذان والرائحة الكريهة التي تنبعث من كل شيء أمامها.. ولكل ذلك، فقد قبعت في موقعها تراقب ما يجري ذاهلة ومصدومة بشكل يفوق التصور.. ولم تدرِ أنها كانت تئن بألم لما تراه حتى شعرت بآرجان يخفض رأسها بيده وهو يهمس "كفي عن هذا الانفعال واصمتي.. نحن في وضع حرج جداً.."
سمع صوتاً في تلك اللحظة من خلفه يقول "حسناً.. من هذان الفأران المختبئان هنا؟"
استدار آرجان بسرعة نحو الرجل الذي وقف خلفهما بضحكة ساخرة على وجهه، ومن ملابسه وهيئته بدا لرنيم أنه من الأكاشي بالذات، فطوّح آرجان سيفه نحو الرجل محاولاً التخلص منه والهرب قبل قدوم الآخرين.. تصدى الرجل للضربة بسهولة لكن آرجان عاجله بضربة جانبية ثم أخرى، وفي كل مرة يصد الرجل الضربة بسيفه بشكل سريع.. وفي غفلة من غريمه، استخرج آرجان خنجراً من طيّات ثيابه وطوّح يده اليسرى به في ضربة سريعة للجانب الآخر.. انتبه الرجل للضربة في اللحظة الأخيرة فصدّها بدرعه الخشبي وهو يقول بابتسامة وحشية "رائع.. أنت قادر على الصمود أمامي لدقائق.."
وطوّح درعه بقوة هاتفاً "سنرى كم سيدوم ذلك.."
أصاب الدرع سيف آرجان الذي طار بعيداً بعد أن أفلته لقوة الضربة، بينما أدار سيفه بحركة خاطفة جردت آرجان من خنجره.. عندها اتسعت ابتسامة الرجل وهو يقول بهزء "والآن، أنت عارٍ تماماً.."
تراجع آرجان خطوة مغطياً رنيم بجسده وهو يراقب غريمه، فرآه يرفع السيف عالياً بينما تأهب آرجان لتفادي الضربة والهجوم على الرجل بجسده.. لكن قبل أن يهوي السيف بقوة، فوجئ الإثنان برنيم تقفز أمام آرجان مادة ذراعيها وهي تصيح بصوت مرتجف "لا تفعل هذا.."
تجمدت يد الرجل في الهواء وهو ينظر لرنيم بتعجب لهذه الجرأة المفاجئة، بينما قالت رنيم بإلحاح "لا تقتله أرجوك.. سنعطيك كل ما نملك.. لكن لا تؤذنا.."
هتف آرجان بحنق وهو يزيحها "ما الذي تفعلينه يا حمقاء؟"
لكن رنيم مدت يدها وانتزعت قلادة ذهبية احتفظت بها مما كانت تملكه سابقاً وخبأتها بين طيات ثيابها، فمدت يداً مرتجفة بها للرجل القريب قائلة "هذه قلادة من ذهب خالص.. هي غالية الثمن وستعود عليك بفائدة كبيرة.."
اختطف الرجل القلادة وتأملها بتفحص بينما سمعا صوت رجل آخر يقول من خلفهما "ما الذي يجري هنا يا باكين؟"
لوّح الرجل بيده قائلاً "هذه الفتاة تمتلك بعض الذهب.."
اعترضت رنيم بارتجافة "لا.. هذا كل ما أملك.."
لكن الرجل لم يعبأ بقولها وهو يجذبها خلفه عنوة نحو البقية، بينما دفع سيفه في ظهر آرجان ليجبره على السير أمامه.. وعند تجاوز تلك التلة انتبهت رنيم أن المعركة التي كانت دائرة قد حسمت بشكل سريع وواضح لصالح الأكاشي، بينما تساقطت جثث سكان الجبال أرضاً وبركة من الدماء تسيل من أجسادهم فتشربها الأرض بشراهة.. ووسط جماعة الأكاشي المنتصرة، وقف زعيمهم الضخم بعضلاته الواضحة وشكله الشرس وبالجرح الذي يزين ما ظهر من ذراعه اليمنى.. بلحية شقراء وشعر أشقر يصل لكتفيه وعينين زرقاوين غريبتين في سواد وجهه الواضح..
ولما اقتربا منه قال موجهاً حديثه لآرجان "من أنت يا رجل؟.. لقد صمدت أمام باكين للحظاتٍ معدودة، وهذا يحسب لك بالتأكيد.."
قال آرجان مقطباً وهو يدور ببصره بين البقية "أنا آرجان.. رجل من الهوت.."
رفع الزعيم حاجبيه بدهشة كما تبدّت الدهشة في الرجال القريبين، ثم قال "سمعت أن الهوت لا يجولون في هذه المناطق، ولا يرتحلون إلا على ظهور تنانينهم.. فأين تنينك؟"
قال آرجان بضيق "لست أملك واحداً.."
نظر له الزعيم بصمت لوقت طويل، بينما دارت رنيم ببصرها في الرجال من حولهما بارتباك وقلق شديدين.. لو لم يعجب رد آرجان الزعيم فسيتخلصون منهما في لحظات معدودة.. لا يمكنهما بتاتاً الهرب من بين هؤلاء الرجال الأشداء دون كاجا..
سمعت الزعيم يقول وهو يحدق في وجه آرجان "أنت بارع بما فيه الكفاية لكيلا تستحق القتل.. لكنك لو لم تكن ذكياً كفاية وحاولت الهرب، فلن يختلف مصيرك عن هؤلاء.."
وأشار للجثث المرتمية عند قدميه.. فقال آرجان مقطباً "ما الذي ستفعلونه بنا إذاً؟"
ابتسم الزعيم بجانب فمه قائلاً "سنرى أيها الغريب.."
رأياه يتقدم من جثة قائد سكان الجبال والذي قاتل ببسالة حتى النهاية.. فانحنى عليها واستخرج خنجراً من جراب مربوط حول فخذه، ودون تردد بدأ يقطع جزءاً من ملابس الجثة ليكشف صدرها قبل أن يبدأ بتمزيق الجلد واللحم دون ذرة تردد.. استغرق في عمله لحظات معدودة كانت كافية ليستخرج القلب الدامي من موضعه ويرفعه عالياً.. ودون تردد، وسط صيحات بقية الرجال الحماسية، دفع تلك القطعة الدامية لفمه واقتطع منها قطعة كبيرة بشكل وحشي.. ظل آرجان ينظر لما يجري بصمت ودون انفعال ظاهر رغم صدمته لما يراه.. الكل يعلم أن (الأكاشي) الملقبين (ذوي القرون) بسبب خوذاتهم ذات القرون العالية، هم أكلة لحوم بشر، وإن كان أكلهم لا يتعدى اقتطاع أجزاء من جثث ضحاياهم وأكلها نيئة مؤمنين بأن هذا يمنحهم قوة أكبر ويضمن لهم هزيمة أي عدو يواجههم..
وكأن ما فعله الزعيم كان إشارة البدء، إذ اندفع بقية الرجال نحو الجثث الباقية وبدؤوا يقتطعون أجزاء منها باستمتاع واضح، دون أن يحاول أحدهم انتزاع قلب الجثة تاركين هذه الميزة للزعيم فقط.. ظل آرجان يراقبهم وهو يفكر بالخطوة التالية، ولما حانت منه نظرة إلى رنيم رآها شاحبة شيئاً ما وإن بقي جسدها يرتجف بقوة رغم محاولتها للتماسك.. إنها لم ترَ، ولم تسمع قط، عن قسوة كهذه.. عن وحشية كهذه.. عن متعة يتخذها المرء من تشويه جثة والعبث بأحشائها.. أي حياة تحياها هذه القبائل؟..
انتبه آرجان لجثة شاب لا يكبر رنيم بكثير ترمى عند قدميه، والزعيم يرمي بخنجره عند قدميه بصمت.. نظر آرجان للزعيم الذي وقف بابتسامة جانبية، بينما توقف الرجال عما كانوا يفعلونه وهم يرقبون ما يجري بدهشة ممتزجة بصدمة.. ثم قال الزعيم بوجه تقطر الدماء منه "حسناً.. ألن تشاركنا هذه المتعة؟"
بدت الدهشة على وجه آرجان لهذا الطلب، بينما تقدم أحد رجال الأكاشي قائلاً باعتراض "كيف تفعل ذلك يا كابور؟.. إنه ليس من الأكاشي.. أنت تعلم ما يعنيه فعل ذلك.."
قال كابور بجفاء "أعلم ذلك.. لكن لا شيء يمنعني من ذلك.."
ثم نظر لآرجان قائلاً بابتسامة "هذه فرصة لا يمكن تعويضها بالنسبة لك.. لو نفذت ما أطلبه منك، ستكون منا، وستحظى بحمايتنا طوال بقائك بيننا.. ألن يكون ذلك رائعاً؟"
قال الرجل باستنكار "لماذا تفعل ذلك أيها الزعيم؟"
واجهه كابور قائلاً بصرامة "يحق لي فعل ما أريده.. أم أن لديك اعتراضاً على ذلك يا قالان؟"
ظل المدعو قالان يحدق في وجه كابور باعتراض صريح، لكنه خفض بصره بعدها وتراجع بصمت.. لم يعلق آرجان بكلمة على ما قيل وهو يوازن خياراته.. الرفض معناه إهانة كابور وإعلان رفضه التعاون معهم، وهذا يعني قتله دون هوادة، وقتل رنيم بالتبعية.. فهل يملك إلا القبول؟.. كيف له أن يتنصل من الأمر دون أن يثير غضبهم منه؟..
شعر آرجان بيد رنيم تمسك يده بقوة وكأنها تحاول منعه من ذلك، لكنه جذب يده من يدها وجثا قرب الجثة بهدوء متناولاً الخنجر القريب.. ودون تردد، متجنباً النظر لوجه الفتى، مزق الملابس من العنق حتى السرّة، ثم أحدث شقاً في جسد الفتى قبل أن يستخرج الكبد بحركة سريعة.. شعر بنظرات الرجال من حوله تتركز عليه وهم ينظرون له، ولرنيم الشاحبة، باستمتاع..
سمع آرجان همس رنيم الضعيف وهي تقول برجاء "لا تفعل.."
لكنه تجاهلها للمرة الثانية وهو يدفع الكبد إلى فمه ويقتطع قطعة كبيرة رغم طعم الدماء الصدئ الذي ثار في حلقه.. ثم ابتلع تلك القطعة دون أن يبدو على وجهه أي انفعال، ونظر للزعيم الذي عقد ذراعيه على صدره ينظر له بحدة.. عندها قال كابور بابتسامة جانبية "عليك أن تنهي ما بدأته.. لا تُهِن غريمك برمي بقاياه في التراب.."
نظر آرجان لما بقي من الكبد في يده، والدماء تسيل من بين أصابعه لزجة غزيرة، ثم استمر في قضم قطعٍ منها وبلعها بصمت ودون تذمر.. لا يدري كيف تجمدت مشاعره في تلك اللحظات وهو يرتكب ما لم يفكر يوماً بأنه سيقدم عليه.. لكن عقله الآن لم يكن يعي إلا أمراً واحداً.. عليه مسايرتهم حتى ينجو مع رنيم من هذه الجماعة.. عليه الانتظار بصبر، وألا يستثير غضبهم بأي شكل من الأشكال..
بعد أن انتهى، وقف في موقعه دون أن يمسح الدماء التي تصببت من فكه وغمرت يده وذراعه اليمنى.. لكن بدل أن يغادر كابور أو أحد رجاله، سمعه آرجان يتساءل بلهجة استمتاع واضحة "وماذا عن الفتاة؟.. ألن تنال نصيبها من هذا؟"
ارتجفت رنيم بوضوح دون أن تتحرك من موقعها حيث اختبأت خلف آرجان وكأنها تتمنى أن لا يلاحظ وجودها أحد، فقال آرجان "لكنها فتاة.. فما شأنها بعمل كهذا؟.."
قال كابور مزمجراً "الأكاشي يمارسون الطقوس نفسها، رجالاً ونساءً، دون أن يشذّ أحدهم عن القاعدة.. لا تعاملها بخنوع مادمت ستنضمّ إلينا.."
خفضت رنيم وجهها محاولة تجنب النظر لمن حولها وهي تهمس لنفسها "أريد الرحيل.. أريد الرحيل.."
لكنها أمنية لم تجد حظها من التحقيق، بل وجدت يد آرجان تمتدّ إليها بالخنجر الدامي في دعوة واضحة.. لكنها أبعدت يديها عن الخنجر ودارتهما خلف جسدها وهي تنظر لآرجان بعينين متسعتين.. كان وجهه يحمل الجدية ذاتها التي رأتها عليه في أول يوم التقيا فيه، وأثارت رعبها في ذلك اليوم بلا حدود.. أحقاً يطلب منها القيام بشيء كهذا؟..
ولما طال صمتها، وجدته يسحب الخنجر فيعود للجثة موسّعاً الشق السابق وسط ارتعاب رنيم.. ثم وجدته يستخرج إحدى كليتيه ويمد يده بها نحو فمها.. هزت رنيم رأسها بعنف وهي تتراجع خطوة، لكن مع نظرة كابور غير الراضية، قام آرجان بإمساك رنيم وجذبها نحوه.. ارتعبت رنيم وهي تشعر بقبضة آرجان القاسية على ذراعها وبلزوجة الدماء التي غطت يده تلك وهي تلامس جلدها.. ثم وجدته يمسك فكها بأصابعه القوية ليجبرها على أن تفتح فمها بينما جزّت رنيم أسنانها بقوة محاولة الخلاص من قبضته وهي تغرز أظافرها في ذراعه.. ورغم استماتتها، لم تتمكن رنيم من الخلاص منه وهي مرتعبة لقسوته في التعامل معها.. ولما أفلح بإجبارها على فتح فمها، وضع القطعة الدامية بقوة في فمها وأجبرها على إغلاقه بيده.. لكن الأمر لم يدُم طويلاً ورنيم تقذف ما بفمها وتتقيأ كل ما حوته معدتها أرضاً..
أطلق الرجال من حولهما ضحكات سخرية بينما قال كابور ضاحكاً "كان هذا عرضاً مذهلاً.. يبدو أنكما ثنائي ممتع، ولست نادماً على إبقائي على حياتيكما.."
وابتعد قائلاً لرفاقه "هيا.. سنعود للمخيّم بعد قليل.."
تفرق الرجال في الموقع منهم من يعدّ العدة للرحيل على ظهور الخيول القريبة، ومنهم من يستولي على الأسلحة التي خلفتها الجثث ويقوم بتنظيفها مما لوثها من الدماء..
بقي آرجان جاثياً قرب رنيم التي انتهت من نوبة القيء لتنخرط في نوبة بكاء قوية.. ثم سمع صوت أحد الرجال يقول له من موقع قريب "حسناً فعلت بعدم إثارة غضب كابور.. فهذا سينعكس علينا كلنا بالتأكيد.."
التفت آرجان خلفه ليجد رجلاً من الأكاشي يرمي بقربة ماء إليه، وأضاف "سنذهب بعد قليل للمخيم الذي لا يبعد عنا الكثير.. لكن أشك أن يمنحكما أحد الرجال حصاناً لتركبا عليه.. عليكما أن تسيرا إليه مع البقية على الأقدام.. لكن لا تفكرا للحظة واحدة بالهرب، إذ الرجال مخوّلون بقتلكما في أي لحظة دون إبداء أي سبب مقبول.."
لم يعلق آرجان على هذا، بينما حمل الرجل بضع خناجر وسيوفاً من الأرض مضيفاً بابتسامة "لا أصدق أنك أجبرت الفتاة حقاً على تناول اللحم النيئ.. يبدو أنك عازم على نيل رضى كابور، وهذا يعجبه بكل تأكيد.."
تساءل آرجان مقطباً "ألم يطلب مني ذلك بنفسه؟.. قال إن الأكاشي يفعلون ذلك بالجميع.."
ضحك الرجل معلقاً "بل كان يمزح بطلبه هذا.. رجال الأكاشي لا يجبرون النسوة على فعل هذا، فهن لسن بحاجة للقوة ولا الشجاعة التي نكتسبها بما نفعله.. ربما كان هذا اختباراً لك، وأنت قد نجحت فيه بكل تأكيد.."
ورحل حاملاً غنيمته، بينما قطب آرجان بشدة وهو ينظر لرنيم المنهارة قريباً وهي لا تكاد ترى ما حولها بسبب دموعها الغزيرة.. عندها مسح آرجان على رأسها وهمس "سامحيني يا فتاة.. لكن ثقي أن ذاك الرجل الذي عبث بأعصابك بهذه الصورة هو أول من سأقطع رأسه قبل أن نغادر هذا المكان.."
لكن لم يكن قوله يثير أي هدوء أو سعادة في نفس رنيم التي بكت بحرقة..


*********************
مضت عدة ساعات وآرجان جالس مع رنيم في جانب المخيم وحيدين صامتين دون أن يتبادلا أي حديث.. كان المخيم الذي وصلاه بعد سير طويل ومرهق عبارة عن عشر خيم متفاوتة الأحجام تضمّ تلك الجماعة من الأكاشي لسبب لا يعلمانه.. فهو يخلو من النسوة ومن الأطفال ومن أي ماشية عدا الخيول التي ربطت في جانبه.. وبعد بعض الوقت، أحضر أحد الرجال بعض الطعام والماء لهما قائلاً "كونا شاكرين للزعيم.. لقد أعجب بك حقاً، لذلك قرر أنه لا داعي لأن تقضيا نحبيكما جوعاً.."
لم يعلق آرجان وهو يتناول الطعام، الذي لم يكن يتجاوز بضع أرغفة خبز وقطعة صغيرة من لحم مشوي، وقرّبه من رنيم التي جلست صامتة على صخرة قريبة.. لكنها أشاحت بوجهها وهي تنطوي على نفسها.. بعد وقت قصير قضته باكية، فإنها التزمت الصمت التام وانطوت على نفسها.. لم يكن تصرفها غريباً مع الصدمة بما جرى لها، لكنها كما لاحظها ترفض الحديث معه أو النظر إليه.. بعد أن تجاهلته مرة أخرى، قرّب آرجان الطعام منها قائلاً "أعرف أنك تشعرين بالاشمئزاز، لكن يجب أن تتناولي القليل من الطعام.. أنت لم تذوقي شيئاً يذكر منذ عدة ساعات.."
لم تجبه وهي تدير وجهها بعيداً، فقال بشيء من التقطيب "أتتجاهلينني؟"
ساد الصمت من جديد للحظات بينهما، فوضع آرجان الطعام جانباً وهو يتنهد قبل أن يقول "لا ألومك على ذلك، لكن أريدك أن تتأكدي أنني لم أتعمد القسوة معك.. لم أفعل ما فعلته إلا خوفاً عليك.."
سمعها أخيراً تقول بشيء من الهزء "حقاً؟.."
فقال بحدة "كانوا سيقتلونك بعد أن يقتلوني لو رفضت طلبهم.. أظننتني سعيد بما فعلته؟.. عليك أن تكوني شاكرة لأنك حية حتى هذه اللحظة"
قالت بصوت مرتجف "وما المقابل؟.. لو كان المقابل أن أصبح في مرتبة أقرب للحيوانات، فأنا كنت أفضل الموت.."
علق آرجان مقطباً "هل تتمنين الموت حقاً لسبب كهذا؟"
قالت رنيم بعصبية "لكن ما جرى أكبر من طاقتي على الاحتمال.."
غمغم آرجان وهو يستلقي جانباً "يا لك من جاحدة.. أليس هذا ما سعيتِ إليه بهذه الرحلة؟.."
وبينما حاول الاستغراق في النوم دون أن يمسّ الطعام بدوره، فإن رنيم التزمت الصمت بمرارة.. كان هذا ما سعت إليه بالفعل، لكن لم تكن تهدف للمرور بتجربة قاسية ومؤلمة كهذه.. لم تكن تسعى لرؤية قبح هذه القبائل والمشاركة في أعمالها الوحشية.. من أين لها، وهي حبيسة القصور، أن تدرك أي قسوة يحويه هذا العالم؟..
بعد بعض الصمت، قاطعتهما خطوات اقتربت منهما، ففتح آرجان عينيه ليجد رجلاً يقترب منه قائلاً "الزعيم يريدك حالاً.."
نهض آرجان دون اعتراض، ولما التفت إلى رنيم سمع الرجل يقول "لا داعي لاصطحاب الفتاة، كابور يريدك وحدك.."
قطب آرجان شيئاً ما وهو يغادر بصمت وإن لاحظ نظرات رنيم القلقة التي لاحقته.. رغم أن كابور منحهما أماناً مؤقتاً، لكنه لا يشعر بالراحة لترك رنيم وحيدة وبعيدة عن بصره في هذا المخيم المعادي.. سار آرجان خلف الرجل إلى خيمة كابور التي لا يجهل شخص في المخيم هوية صاحبها.. كانت أكبر خيمة وأكثرها زخرفة، ورجلان من أشد الرجال قوة يحرسان مدخلها.. دخل آرجان الخيمة بدعوة من الرجل، وأزاح الستار الذي غطى المدخل ليهبّ عليه هواء دافئ مقارنة بالبرودة خارجها.. كانت الخيمة واسعة، بنار وسطها تدفئ أصحابها، وفراش في جانبها عبارة عن بضع بطائن من صوف الخراف الوثيرة ووسائد محشوة ومطرزة بأشكال وألوان متزاحمة يغلب عليها اللونان الأحمر والأسود.. ووسط الخيمة وضع كرسي خشبي زانته نقوش عديدة وقرنان ضخمان برزا من جانبي ظهره، وقد تم تبطينه بقماش أحمر زاهي اللون..
ورغم فخامة الخيمة ومحتوياتها، إلا أن الهواء فيها كان قاتماً مثيراً للانقباض ورائحته تثير الغثيان..
رأى آرجان كابور يجلس على الكرسي وفي يده كأس خمر مترعة.. ابتسم كابور فور رؤيته ابتسامة أثارت توجساً في نفس الأخير، ثم قال له "والآن أيها الغريب، ألن تخبرني بالذي جاء بك مع هذه الفتاة لهذه البقاع التي يخشاها الجميع؟"
لم يجب آرجان السؤال إنما علق قائلاً "لماذا تناديني بالغريب بعد أن نفذت كل ما طلبته مني؟.. ألستُ واحداً منكم الآن؟.. اسمي آرجان ولا أحب أن أُنادى بغيره.."
ضحك كابور بسخرية واضحة قبل أن يقول "اعذرني.. فلم أعتد بعد على مناداتك إلا بهذا اللقب.. إذن، يا آرجان، ألن تخبرني بوجهتك الحقيقية؟"
لم يكن آرجان ليخسر شيئاً بإخباره بالحقيقة، فقال "أبحث عن فتاة من الهوت اختفت منذ بضع أسابيع، وعلمت أنها شوهدت في ميناء (مارِج).. لذلك أتيت سعياً للبحث عنها.."
مسّد كابور لحيته الشقراء قائلاً "لكن لمَ ترتحل على الأقدام؟.. ألا تملك تنيناً كما بقية الهوت؟"
بدا شغف واضح في عيني كابور وهو يتحدث عن التنين، فقال آرجان "لقد أصيب بسهم مسموم عند عبورنا الجبال.. وقد مات من فوره بعد أن كاد يسقطنا من علوٍ كبير.."
غمغم كابور "هذه خسارة كبرى.. لطالما تمنيت أن أمتلك حيواناً يتفوق على بقية ما يملكه زعماء القبائل.. لو امتلكت تنيناً، فلا شك أنني أستطيع التغلب على بقية القبائل وأصبح زعيم الأكاشي بلا منازع.."
غمغم آرجان لنفسه (هذا مربط الفرس).. بدا له واضحاً أن كابور مهتم بأمر التنين أكثر من اهتمامه بآرجان أو حتى برنيم.. وربما لهذا السبب حافظ على حياته بعد أن علم هويته.. ولهذا السبب حاول ضمّه للأكاشي رغم اعتراض رجاله، سعياً وراء ولائه حتى لو كان مرغماً..
رآه يميل للأمام قائلاً باهتمام "كيف يمكنكم تطويع تلك التنانين بهذه السهولة؟.. وكيف يمكنني الحصول على أحدها؟.."
لم يكن آرجان يقدر على التنصل من إجابة هذا السؤال، فحاول جعل الأمر يبدو عسيراً وهو يقول "هذا طريق طويل.. عليك في البدء الحصول على بيضة تنين وانتظار أن تفقس ويخرج التنين الصغير منها.. عليك رعايته سنوات حتى يصبح قادراً على الطيران وعلى حملك على ظهره، وعليك تدريبه لكي يصبح مطيعاً لك ووفياً لئلا ينقلب عليك وينتقم منك في يوم من الأيام.. هذا وحده قد يستغرق عدة سنوات.."
لم يكن ما قاله آرجان صحيحاً بشكل كامل، لكنه حاول جهده لتثبيط همّة كابور عن هذا الأمر.. فمط كابور شفتيه وغمغم "لكني لا أملك الصبر الكافي لفعل ذلك.."
شعر آرجان بشيء من الراحة لهذا القول، فلوّح كابور بيده قائلاً "لا بأس.. سنكمل حديثنا في الصباح.. لابد من وسيلة أخرى للحصول على تنين بالغ وتدريبه على طاعتي في أقصر وقت ممكن.."
ونظر لآرجان بحدة قائلاً بابتسامة جانبية "أليس كذلك؟"
لم يكن أمام آرجان مناص من الموافقة على قول كهذا، فأجاب "بالطبع.. سأفعل ما تريده بالطبع.."
اتسعت ابتسامة كابور بينما تبدّت في عينيه نظرة تدلّ على انعدام ثقته بما يسمعه.. لكنه لم يعلق وهو يصرف آرجان الذي خرج بصمت بدوره.. وقد تيقن لحظتها أن بقاءهما مع الأكاشي يتعسر في كل لحظة تمضي..


*********************
ظلت رنيم قلقة وهي تحدق في ظهر آرجان وهو يبتعد خلف ذلك الرجل.. لم يكن وجودهما في العراء في مثل ذلك الوقت بأكثر خطراً من بقائهما في هذا المخيم، حيث الأعين تترصد لهما في كل حين ولحظة، وحيث تخشى اللحظة التي يبتعد فيها آرجان فلا يعود إليها مرة أخرى.. انتفضت لمثل تلك الفكرة وهي تندس في موقعها بحثاً عن بعض الدفء، وتعد اللحظات بانتظار عودة آرجان وعودة الأمان معه.. لقد مرّت بتجربة صادمة بالنسبة لها، ورغم محاولتها التماسك فإنها تشعر بالغثيان من مجرد تذكر طعم الدماء الصدئ ورائحتها على يد آرجان وهو يجبرها على وضع تلك القطعة الدامية في حلقها.. كان شيئاً تودّ لو يمحى من ذاكرتها بكل ما أوتيت من قوة.. وما يسبب لها الألم أكثر تخيّل ما كان عليه الشاب قبل موته ووقوع جسده في يد الأكاشي.. لابد أنه كان مفعماً بالنشاط وبأحلام كثيرة.. لابد أنه كان يتلهف للعودة لعائلته المحبة وربما لزوجة تنتظره بلهفة.. وربما...... أخفت رنيم وجهها بين يديها وهي تشعر بالدموع تتجمع في مآقيها ونفضة عارمة تجتاح جسدها.. إنها تحطم نفسها بهذا التفكير.. وعليها تناسي كل ما شهدته في تلك اللحظات بأي صورة كانت..
انتبهت بعد لحظات لحديث خافت في موقع على شيء من المبعدة، وقد حملته الرياح الخفيفة أبعد مما توقع المتحدثان.. في البدء لم تميّز كلمة من حديثهما الخافت، ثم انتبهت عندما سمعت كلمة (الهوت) تتردد عدة مرات على لسانيهما.. نظرت رنيم من موقعها بحثاً عن المتحدثيْن فلحِظت تلك النار التي اشتعلت في موقع متطرف من المخيم ولم يجلس حولها إلا اثنان، أحدهما هو ذلك الذي قبض عليهما عند لقائهما بالأكاشي في ساحة المعركة تلك..
تلفتت رنيم ملاحظة خلو الموقع من حولها، ثم تقدمت متسللة من ذلك الجزء محاذرة أن يراها الرجلان.. وربضت خلف خيمة قريبة وظلت تستمع لما يقال بصمت.. فسمعت الرجل الذي يدعى باكين يقول "ما الذي سنفعله إذاً؟.."
قال الآخر قالباً كفيه "وما الذي يمكننا فعله حقاً؟.."
اعترض الأول قائلاً "إنه من الهوت.. الهوت يا قالان.. أتفهم معني ذلك؟"
أجاب قالان بضيق "طبعاً أدرك ذلك.. لكن يداي مكتوفتان بوجود كابور.. فهو لن يسمح بحدوث شيء دون أن يكون له نصيب فيه.. وهذا سيجعل موقفنا أضعف بمراحل.."
غمغم باكين "بودّي لو نتمكن من التخلص من كابور.. إنه متجبر وطاغية.. ربما لو كنتَ أنت الزعيم لكانت الأمور أفضل بالنسبة لنا.."
تنهد قالان قائلاً "علينا أن ننتظر ونرى.. من يدري ما سيحدث في الأيام القادمة؟.."
لم تفهم رنيم ما يخططه هؤلاء الإثنان، ولم تفهم ما دخل آرجان بكل هذا.. كل ما لاحظته أن الأكاشي يكنون كراهية لزعيمهم رغم طاعتهم العمياء له، وهذا يختلف تمام الاختلاف عن علاقة الهوت بزعيمهم التي يسودها الاحترام والطاعة المصحوبة برفق المعاملة.. وشتان بين الإثنين..
سمعت في تلك اللحظة صوت آرجان يناديها بقلق، فتراجعت بسرعة قبل أن يفطن الرجلان لموقعها وعادت لآرجان الذي هتف فور أن رآها "أين كنتِ...؟"
وضعت يدها على فمه ليصمت وهي تلتفت للخلف، ثم همست "لا ترفع صوتك.. هناك بضع رجال من الأكاشي وهم....."
قاطعهما صوت من خلفهما يقول "هل كل شيء على ما يرام؟"
التفتا ليريا قالان يتقدم منهما وهو يحدجهما بنظرة مقطبة، فقال آرجان "لم يحدث شيء.. كنت أبحث عن الفتاة بعد أن غابت عن موقعها وأقلقتني.."
خفضت رنيم بصرها وهي تشعر بالارتباك والعرق البارد يسيل على ظهرها، ثم قالت "لقد كنت أبحث عنك.. استبطأت عودتك وذهبت للاطمئنان عليك.."
وضغطت بيدها على ذراع آرجان لكي لا يطيل الحديث في هذا الموضوع، بينما قال قالان "يستحسن أن تخفضا أصواتكما في المخيم.. كابور لا يحب الضجيج في وقت راحته، والرجال كذلك.. لو غضب كابور منكما، فلن يمنع الرجال عنكما أبداً.."
هز آرجان رأسه موافقاً بصمت، فابتعد قالان تاركاً رنيم خافضة البصر وآرجان يراقبه.. ولما أصبحا وحيدين، أمسك كتفي رنيم سائلاً بقلق "ما الذي جرى يا رنيم؟.. هل فعل ذلك الرجل بك شيئاً؟"
هزت رنيم رأسها نفياً وقالت بصوت خافت "لا.. لكني سمعت طرفاً من محادثة بين هذا الرجل ورجل آخر.. كانا يتحدثان عنك، لكني لم أفهم شيئاً مما قالاه.."
زفر آرجان معلقاً "لقد أفزعتني بتصرفاتك تلك.."
وجلس جانباً بتعب بينما جلست رنيم قربه متسائلة "ألا يقلقك ما جرى؟"
لوح بيده قائلاً "كما أخبرتك، الشعوب الأخرى تكره الهوت.. لابد أن هذين الاثنين يكرهان وجودي ويتمنيا الخلاص مني.. لكن لا يقدران على عصيان أوامر زعيمهم.."
صمتت رنيم بغير اقتناع محاولة إيجاد تفسير آخر لتلك المحادثة، ولما عجزت عن ذلك التفتت إلى آرجان قائلة بتوسل "لنهرب هذه الليلة يا آرجان.."
قطب آرجان قائلاً "كيف؟.."
قالت وهي تتلفت حولها "لنأخذ أحد خيولهم ونهرب به لأقرب مدينة.."
غمغم آرجان بغير اقتناع "أتشجعينني على السرقة؟"
اعترضت قائلة "لا.. سنطلق الحصان عند اقترابنا من المدينة، وهو سيعود لصاحبه بعدها بالتأكيد.. لكن لا نضمن سلامتنا في هذا المكان أبداً مهما حاول زعيمهم إقناعنا بذلك.."
هز آرجان رأسه قائلاً "ليس أبغض للأكاشي من هزيمتهم إلا سرقة خيولهم.. سنجد جحافلهم تتبعنا وسيقتلوننا بلا شفقة ولا رحمة، وهم لا يعرفون الرحمة أصلاً.."
قالت بصوت ينتفض "إذن هل نستسلم لوضعنا هذا؟"
زفر قائلاً "لو أنك لم تتسرعي في منح ذلك الرجل قلادتك الذهبية، لتمكنا من شراء أحد الأحصنة بها من الأكاشي.. لكنك ضيّعت فرصتنا الأخيرة.."
خفضت رنيم بصرها وقالت بشيء من المرارة لانتقاده الصريح "كان همّي أن أنقذ حياتك.."
شعر آرجان أنه قسى في انتقاده لها، فاعتدل قائلاً وهو يربت على رأسها "أدرك ذلك.. وأنا مدين لك بحياتي.."
ثم قال متطلعاً للسماء السوداء "كل ما يمكننا فعله الآن هو انتظار عودة كاجا ليخرجنا من هذا الجحيم.."
تساءلت رنيم بدهشة "كيف تثق أنه سيعود؟.. ربما قتله السمّ حقاً.."
هز رأسه قائلاً "لا.. لو كان سيموت لما بذل جهداً للطيران بحثاً عن علاج.. لابد أنه سيعود عندما يصبح قادراً على الطيران من جديد.."
تمتمت رنيم وهي تسند رأسها لذراعيها "أتمنى ذلك.. فلقد اشتقت إليه حقاً.."
لم يعلق آرجان وهو يستلقي بحثاً عن بعض الراحة.. رغم أن قلقه وتوتره من البقاء في معسكر الأكاشي، ووجود رنيم معه بالذات، يجعل النعاس يهرب من عينيه بمثابرة كبيرة.. وزاده حديث كابور عن التنين توتراً وتوجساً كبيراً..


*********************
في اليوم التالي، وقف آرجان في جانب المخيّم يدور ببصره في رجال الأكاشي من حوله.. كان يبحث عن وسيلة لمغادرة المخيّم دون أن يثير غضب البقية ودون أن يدفعهم لملاحقته بلا هوادة.. جال ببصره في المكان وهو يفكر بالوسيلة الأنسب لذلك دون فائدة، حتى رأى قالان يجلس منفرداً في أحد المواقع منشغلاً بشحذ سيفه.. وبعد تردد، تقدم آرجان منه وهو يفكر في وسيلة للاستفادة منه.. ربما شعر أن قالان لا يبغضه حقاً بعد أن وجّه له النصيحة في الليلة السابقة، وربما يمكنه الحصول على معلومات أكثر ببعض الحديث..
اقترب من قالان وقال "هل تريد بعض المساعدة؟"
نظر له قالان قبل أن يقول بسخرية "الأكاشي لا يحتاجون عوناً للعناية بأسلحتهم"
وطوّح سيفه في الهواء مضيفاً "ولا في قتل أعدائهم.."
صمت آرجان دون تعليق وهو يراقب الرجل في عمله.. ثم تساءل "أتعلم ما ينويه زعيمكم لنا؟.. هل ينوي إطلاق سراحنا في وقت ما؟"
حدجه قالان بنظرة صامتة، فأضاف آرجان "لقد أتيت لسهول الأكاشي بحثاً عن أختي التي اختطفت.. وعليّ الرحيل بأسرع ما يمكنني للبحث عنها في (مارِج).. وجودي هنا سيعطلني كثيراً.."
قال قالان بعدم اهتمام "لا يمكنك إجبار الزعيم على إطلاق سراحك.. ولا يمكنك الهرب طبعاً لأن الرجال سيمزقونك.."
زفر آرجان معلقاً "أدرك ذلك.."
ثم تساءل بشيء من الاهتمام "أما من وسيلة للحصول على موافقة الزعيم على رحيلنا؟.. ولشراء حصان من أحد الرجال هنا فالترحال على الأقدام سيكون صعباً؟.."
قال قالان بسرعة "شراء حصان مستحيل تماماً.. فهي أغلى من أرواحنا في سهول الأكاشي.. ولا يمكننا بيعها ولا مقايضتها بأي شكل من الأشكال.. أما الحصول على موافقة الزعيم فهذا أمر آخر، لكنه ليس أقل صعوبة.."
ثم أضاف ضاحكاً "في الواقع، قتل الزعيم والتهام قلبه، وبالتالي الوصول لزعامة هذه الجماعة من الأكاشي سيكون أسهل بالنسبة لك من الحصول على موافقة الزعيم على إطلاقكما دون قيد أو شرط.."
قال آرجان بضيق"أهذا وقت المزاح؟.."
ابتسم قالان وهو يتأمل سيفه معلقاً "لا تتحلّ بالأمل كثيراً هنا يا رجل.. اخضع لما يقوله لك الزعيم بصمت ودون اعتراض.. فهذا خير لك من أن تفقد حياتك بكل وحشية.."
نظر له آرجان بتقطيب، ثم غادر بصمت.. حديثه مع قالان لم يسهّل له الأمور بل جعلها أسوأ بالتأكيد.. وبينما دار آرجان ببصره في السماء ببعض الأمل، فإنه أدرك أن هربهما من جماعة الأكاشي لن تصبح أكثر سهولة ويسراً في أي يوم يمضي..


*********************
مضى يومان منذ تلك المحادثة انشغل فيهما الزعيم بإرسال رجاله لملاحقة بضع فلولٍ من أعدائهم والتخلص منهم، فظن آرجان أن ذلك الحديث عن التنين قد مُحي من ذاكرة كابور، وهذا بعث في نفسه شيئاً من الراحة.. وبينما بقيت رنيم منطوية في جانب المخيم محاولة ألا تلفت الانتباه إليها وهي تشعر بجلدها يقشعرّ من النظرات التي يلقيها عليها الأكاشي كلما عبروا قريباً منها.. فإن بصر آرجان بقي معلقاً في السماء على أمل أن يرى رفيقه الدائم يقترب منهما مرفرفاً بجناحيه العريضين.. لكن السماء الصافية والتي تخلو من أي سحب عابرة قد ظلت كما هي دون تغيير..
لذلك كانت دهشة آرجان عظيمة عندما استدعاه كابور في نهاية اليوم الثاني، قبل مغيب الشمس بقليل.. نظر آرجان لرنيم التي جلست في موقعها تراقبه بقلق، فقال لها "سأعود سريعاً.. فلا تقلقي.."
لكن هذا كان أبعد من أن يسبب لها أي هدوء أو راحة بال.. توجه آرجان لموقع كابور الذي جلس على كرسي وضع وسط الساحة حيث يلتقي برجاله ويعرف آخر أخبار مطارداتهم، وحوله عدد من رجاله لا يتجاوز عشرة رجال.. ولما رأى آرجان قال له بابتسامة "أتمنى أن تكون مستمتعاً ببقائك في مخيمنا هذا.. وأن تكون شاكراً لي حمايتك وتغذيتك طوال اليومين السابقين.."
لم يعلق آرجان على قوله بعد أن قضى اليومين السابقين نائماً في العراء برفقة رنيم دون أن يجرؤ أحدهما على إشعال النار للتدفئة، ومع الوجبات التي يرسلها لهما كابور والتي لا تكاد تكفي إلا شخصاً واحداً.. فأضاف كابور بعد أن لاحظ صمت آرجان "وأتمنى، بعد كل هذا، ألا تكون قد نسيت وعدك لي.."
غمغم آرجان بتقطيبة "أتعني......"
هز كابور رأسه إيجاباً وقال "بلى.. أنت تدرك ما أعنيه.. وهذه هي فرصتك لإثبات حسن نيتك.."
وركل جراباً جلدياً كان عند قدميه مضيفاً "هذا الجراب يحوي قربة ماء وبعض الطعام اللازم لرحلتك هذه.. وسأمنحك فوق كل هذا حصاناً.. سأمنحك عدة أيام للذهاب والعودة بما طلبته، وسيرافقك سيشاك ليتأكد أنك ستعود بالفعل.."
اقترب آرجان من موقع كابور وتناول الجراب وهو يفكر بصمت.. هل يطلقهما الأكاشي حقاً بعد كل ذلك الوقت؟.. هل تغلّب طمع الزعيم على حسن تفكيره بحيث يسمح له بالرحيل برفقة رجل واحد؟.. لن يكون التخلص من ذلك الرجل صعباً حتى لو كان من الأكاشي.. هذه فرصة عليه ألا يفلتها أبداً..
سمع كابور يضيف وهو يستند على الكرسي بذراعه "طبعاً، من الجليّ أن الفتاة ستبقى هنا حتى عودتك.."
نظر له آرجان بدهشة وصدمة، بينما رفع كابور إصبعه في إشارة لأحد رجاله.. ولم يلبث أحدهم أن انطلق نحو جانب المخيّم ليعود بعد قليل برنيم المذعورة وهي تحاول الإفلات صائحة "أطلقني.. ما الذي تبغيه مني؟"
قطب آرجان وهو يقول للزعيم "لا يمكنني ترك الفتاة هنا.. كيف أضمن أنكم لن تمسّوها بأذى؟"
قال كابور بابتسامة "كلمتي هي الضمان الوحيد.. اذهب وعُد بأسرع ما يمكنك إن كنت تخشى عليها حقاً.."
نظر آرجان لرنيم المرتعبة والتي قالت بصوت يرتجف "سترحل؟.. إلى أين؟.. هل ستتركني؟.."
التزم الصمت وهو يفكر في عواقب رفضه ذلك الأمر، بينما فهمت رنيم من صمته أنه عازم على الرحيل حقاً.. فصاحت بانتفاضة "لا تفعل.. لا تتركني يا آرجان.. أرجوك.."
لوى الرجل الذي يمسك بها ذراعها وهو يقول "لا تتعبي نفسك بهذا الصياح.."
فقال آرجان بغضب "أطلق الفتاة يا هذا.."
لم يستجب له الرجل بينما أسقط في يد آرجان في تلك اللحظة.. فأين المخرج من هذه الورطة؟.. حتى لو حاول اختطاف رنيم من بين أيديهم، فهو يعلم، كما يعلم الجميع في هذه السهول، أن الأكاشي هم الأسرع والأمهر في امتطاء الخيول.. كيف يمكنه أن يهرب منهم بحصان يخصهم دون أن يقع في قبضتهم من جديد ودون أن يقع طائلة أفعاله التي تنطوي على إهانة عميقة لزعيمهم؟.. وأي موضع يمكن أن يؤويهم وهذه السهول ملكٌ لهم ولقبائل أخرى مماثلة من الأكاشي والتي ستكون عوناً عليهم فور أن تدرك هويتهم؟..
سمع رنيم تصيح بارتعاب "آرجان.. لا ترحل.."
ضحك كابور وهو يقول "لا داعي لهذا الغضب يا آرجان.. مادام الأمر صادراً مني، فأنت لا تملك إلا التسليم التام.."
ظل آرجان في موقعه وحديث قالان في ذلك اليوم يعود إليه واضحاً بكل تفاصيله، ثم استدار إلى كابور من موقعه القريب مغمغماً "من قال ذلك؟"
وقبل أن يدرك كابور ما يجري، كان آرجان قد استلّ خنجره المخفيّ في ثيابه والذي لا يتخلى عنه بتاتاً.. فهجم على كابور الذي بوغت بما جرى وأغمد الخنجر في صدره، لكن كابور تصرف بسرعة وهو يقبض على عنق آرجان بقوة ويعتصره بيديه.. لكن آرجان دفع الخنجر عميقاً في صدر غريمه وأداره بقوة شهق لها كابور قبل أن يسقط جثة هامدة من على كرسيّه وهو متشبث بآرجان بشدة.. لم يحاول آرجان التنصل من قبضة كابور التي تيبست على ملابسه بل انشغل بجذب خنجره قبل أن يعود به لجسد كابور فيحدث في صدره شقاً بسرعة وسط النظرات الذاهلة لمن انتبه له من الرجال..
وفور أن تمالك بعضهم نفسه، استلّ كل منهم سلاحه متقدمين من آرجان وأحدهم يقول بغضب "أيها الخائن.."
لكن آرجان كان قد رفع يده ليرى الرجال بوضوح قلب زعيمهم المقتول يستقر في راحة يده.. ثم سرعان ما دفع آرجان القطعة إلى فمه وقضم منها قضمة كبيرة تبعها بأخرى حتى انتهى من التهام القلب كاملاً في وقت قصير.. عندها وقف سانداً قدمه على صدر الجثة الهامدة صائحاً بالرجال "حسب تقاليد الأكاشي التي تعرفونها تمام المعرفة، أنا زعيمكم الآن.. ولا يحق لأحدكم الجدال في الأمر.."
تجمد الموقف في المخيم، فصاح آرجان موجهاً حديثه للرجل الممسك برنيم "اترك الفتاة الآن.."
تخلى الرجل عنها بتلقائية، بينما وقفت رنيم بصدمة لمرأى آرجان الذي لطخ الدم وجهه وملابسه وجزءاً كبيراً من ذراعيه.. لكن بإشارة من رأسه، أسرعت إليه متغاضية عن ذلك حتى اختبأت خلفه متشبثة به بقوة..
أما بقية الرجال، فقد تجمدوا وهم يتطلعون لآرجان الذي أمسك خنجره بقوة قائلاً "حسب القوانين، عليكم إطاعتي دون جدال.. أنا الزعيم، وما أقوله هو القانون.."
قال أحد الرجال بسخط "لكنك لست من الأكاشي.."
قال آرجان مقطباً "بل أصبحت منكم قبل وقت قصير.. أم أنكم نسيتم ذلك؟"
علق رجل آخر وهو يمسك سيفه بقوة "لكننا لم نقبلك بيننا قط.. ذلك قرار اتخذه كابور مخالفاً به كل قوانين الأكاشي.. يمكننا أن نقضي عليك في لحظة واحدة فنحن أكثر منك قوة.."
قال آرجان دون أن يطرف لهذا التهديد "إذن ستجلبون لأنفسكم العار لأنكم تخلصتم من زعيمكم بهذه الوسيلة التي لا يستخدمها إلا جبان رعديد.."
تجمد الرجال في مواقعهم متبادلين النظرات، فقد يقبل الأكاشي الموت لكنه لا يقبل الفضيحة ولا العار.. فصاح آرجان بصوت أعلى "إن أردتم إزاحتي، عليكم مبارزتي واحداً لواحد.. الشخص الذي سيتمكن من قتلي على مرأى من الجميع وينتزع قلبي من موضعه، سيكون جديراً بأن يصبح زعيم الأكاشي.. وحتى ذلك الحين، عليكم التسليم لي دون جدال.."
تقدم قالان، وهو اليد اليمنى للزعيم السابق، قائلاً "إن سلمّنا لك بالرئاسة، عليك أن تكون جديراً بها.. لو أدرت ظهرك للقبيلة، فلن يرضى رجالها بأقل من حياتك، ولن يكون قتلك بالسهولة التي قد تتخيلها.. ستتمنى الموت ألف مرة قبل أن تحصل عليه بالفعل.."
قال آرجان بحزم "أدرك ذلك طبعاً.."
نظر الرجال لبعضهم البعض، بينما أغمضت رنيم عينيها بذعر شديد وهي تتنتظر اللحظة التي سيستلّ الرجال فيها أسلحتهم ويغمدونها في صدر آرجان.. فما الذي سيحلّ بها بعد ذلك؟.. لكنها سمعت الرجال يقولون بصوت واحد "الطاعة والولاء لزعيم الأكاشي آرجان ذا القرن، طاعة وولاءً غير مشروطين ولا متذبذبين.. والموت للخائن منا.."
نظرت رنيم بدهشة لترى الرجال من حولهما راكعين أرضاً وخافضي رؤوسهم بتسليم لآرجان الذي وقف باعتداد ينظر لمن حوله.. ولما ألقى الرجال العهد، ومن عادتهم إطلاق لقب (ذو القرن) على أي زعيم جديد، قال آرجان بصوت عالٍ وواضح "أنا زعيم الأكاشي منذ اللحظة.. والويل لمن يحاول خيانتي.."
لم يعلق الرجال بكلمة وهم ينهضون بصمت، فقال آرجان لقالان "احملوا جثة زعيمكم السابق وادفنوها بشكل لائق.."
غمغم قالان وهو يشير للرجال من حوله "لا يوجد دفن لائق لجثة.. إنه سيوضع في حفرة ويهال عليه التراب كما نفعل بجميع الجثث التي ندفنها.. في الموت الكل يصبح سواءً.. هذا هو مذهب الأكاشي.."
لم يعلق آرجان بكلمة والرجال يتفرقون من حوله بصمت وتسليم، وإن رأى في الوجوه عدم رضىً وسخط واضح، لكنه اكتفى بالصمت دون أن يعلق بكلمة.. وبعد أن خلا الموقع من البقية، جذب آرجان رنيم التي ظلت مختبئة خلفه دون أن يخفت ذعرها.. فوضع آرجان يديه على كتفيها وواجه عينيها متسائلاً "أأنت بخير؟"
تدافعت دموعها وهي تنتفض بشدة قائلة "كيف فعلت ذلك؟.. سيقتلونك يا آرجان.. سيقتلونك.."
أحاط آرجان وجهها بيديه وهو يهمس "لا تخافي يا فتاتي.. كل الأمور ستكون على ما يرام.."
لم تتوقف دموعها عن الانحدار ومشاعرها تتداعى بشدة، فجذبها خلفه عبر المخيم نحو خيمة الزعيم بثقة دون أن يجد اعتراضاً ممن مر به من الرجال، ولما دخل الخيمة شعرت رنيم بدفء لم تشعر بمثله منذ وصلا لهذه السهول، بعد أن قضيا الأيام والليالي السابقة في العراء تلفحهما البرودة التي لا تطاق.. وجدت آرجان يجلسها على الفراش الوثير في الخيمة، فانطوت في موقعها مولية ظهرها له بينما جلس هو على طرف الفراش بصمت.. كانت لا تقدر على النظر في عينيه، فمنذ وصولهما لسهول الأكاشي وهو يتصرف بغرابة تامة.. بدا متوحشاً أكثر من الأكاشي أنفسهم، رغم أنه حاول تبرير أفعاله بأنه يسعى لحمايتها وحماية نفسه من الأكاشي.. والآن مع رائحة الدماء الواضحة التي تزكم أنفاسها والمنبعثة منه، فإن رجفة تصيبها في صميم أعماقها.. ولا يهدؤها المنظر الذي رأته سابقاً حيث وقف مسنداً قدمه لصدر جثة كابور حاملاً قلبه بيد وخنجراً دامياً في اليد الأخرى..
شعرت بلمسة أصابعه الحانية على شعرها، وهمس بخفوت "رنيم.."
لكنها عزفت عن إجابته وهي تغمض عينيها بقوة.. مع كل لحظة تمضي وهي في هذه السهول، تتزايد المشاهد والخبرات التي تودّ لو لم ترها قط.. وتودّ لو تتمكن من نسيانها بلمسة ساحر..
سمعت آرجان يقول زافراً "لا تفزعي مما رأيته يا رنيم.. كان عليّ أن أفعل ذلك لأنقذك.. لو حاولت المقاومة، ولو اكتفيت بقتل زعيمهم دون أن أحصل على منصبه، كان جمع الرجال أولئك سينقضّ عليّ وينهش جسدي في لحظات معدودة.. ولو لم أفعل كل هذا، لكانوا أجبروني على الرحيل، وبقيتِ وحيدة في هذا المخيم حتى أعود.. أظننت أنهم سيحفظون وعدهم لي بعدم لمسك؟.."
قالت رنيم بمرارة "لكنهم سيقتلونك.. لقد أعطيتهم سببباً أكبر ليفعلوا ذلك.."
ربت على كتفها قائلاً "لا تقلقي.. لن يصلوا إليّ بسهولة.. ستكونين بأمان معي.. الآن كل ما علينا فعله هو انتهاز الفرصة الملائمة للرحيل.."
لم تجبه رنيم وهي تشعر بذعرها وتوجسها يتزايدان مع كل لحظة تقضيها في هذا المخيم.. وبعد مضي بعض الوقت، ومع الدفء والفراش الوثير ولمسات آرجان الحانية التي تخللت شعرها، غرقت رنيم في نوم عميق بعد أن قضت لياليها السابقة في المخيم مسهدة تراقب ما حولها وترقب آرجان من طرف خفي خشية أن يصيبه مكروه..
وبعد أن استغرقت رنيم في النوم، شعر آرجان بحركة قرب مدخل الخيمة.. فنهض من موقعه واقترب من المدخل بحذر ويده على الخنجر.. لكنه رأى قالان يدخل الخيمة دون إذن فيلقي نظرة على رنيم النائمة قبل أن يقول لآرجان "والآن، بعد أن أصبحت زعيم الأكاشي، ما الذي تنوي فعله؟"
قال آرجان وهو يتوجه نحو الكرسي الفخم وسط الخيمة "وما الذي تتوقع مني فعله؟"
رآه قالان يجلس على الكرسي بكل هدوء وكأن الكرسي، والمنصب، حق طبيعي له.. فقال قالان محذراً "لا تغترّ بالعهد الذي ألقاه الرجال أمامك.. لا يزالون قادرين على انتزاع هذا المنصب المهم منك.. وولاؤهم لزعيمهم السابق لا ينطبق عليك بحال.."
قال آرجان بهدوء "لا يخيفني ذلك.. المحاولات الفردية لا تثير قلقي بتاتاً.. أما خيانة جماعة منهم لي فهذا أمر آخر.."
ثم تفحص قالان معلقاً "وماذا عنك؟.. ألن تنتهز فرصة كهذه؟"
قال قالان مديراً بصره بعيداً "لست بهذا الحمق.. سأكتفي بما أنا عليه الآن.."
صمت آرجان للحظات، فتقدم قالان ليجلس على كرسي قريب وهو يقول "استمع إليّ.. أنا أعرف السبب الذي دعاك لما فعلته، وأعلم أنك تنوي الرحيل في أقرب فرصة.."
ونظر نحو الفتاة النائمة مضيفاً "لا ألومك على ذلك، ولا أدري ما جاء بكما لهذه الأنحاء، لكنك رجل.. عليك أن تتحمل القرارات التي تتخذها مهما كانت.."
فقال آرجان "لستُ بحاجة لنصائح من أحد.. سأفعل ما أفعله دون حاجة لتوجيه من أحد.."
ونظر لقالان مضيفاً بابتسامة "فأنا الزعيم الآن.. أليس كذلك؟"
بدت نظرات قالان جامدة لا تشي بما يعتمل في صدره، لكنه قال بعد لحظة صمت وهو ينهض واقفاً "عليك أن تأخذ نصائحي بجدية.. فأنا أعلم منك بالأكاشي وبقوانينهم.."
وتوجه نحو مدخل الخيمة مضيفاً "الأفضل أن تغتسل وتستبدل ملابسك الغارقة بالدماء.. رائحتك كفيلة بإطاحة الفتاة مغمىً عليها.. وربما كان من حسن حظها أنها نائمة.."
نظر آرجان لملابسه الرثة والتي زادتها الدماء سوءاً، وألقى نظرة على رنيم التي استغرقت في نوم عميق، ثم زفر وهو ينهض ويغادر الخيمة بصمت.. عليه أن يكف عن القلق في الوقت الحالي، فبمنصبه الجديد، لا يجرؤ رجل على إلحاق الأذى برنيم.. أما هو، فأمر آخر بكل تأكيد..
وفي جانب المخيم، حيث يضع الأكاشي مخزون المياه الخاص بهم في بضع جرار تجرها الخيول في إحدى العربات عادة، قام بنزع قميصه الغارق بالدماء محتفظاً ببنطاله.. ورغم البرد الشديد الذي بدأ يتزايد مع بدء تلك الليلة القارسة كعادة كل ليلة في هذه السهول، فإن آرجان مسح وجهه وجسده بالمياه الباردة كالثلج وغسل يديه من الدماء التي صبغت أصابعه بلونٍ أحمر قانٍ.. شرب الكثير من المياه محاولاً أن يغسل طعم الدماء الذي يشعر به يزكم أنفه ويلتصق بجدار حلقه بشكل يسبب له الغثيان..
رغم تفرده في ذلك الموقع وحيداً بوجود بقية الأكاشي حول النار وسط المخيّم، إلا أنه لم يكن يخشى هجوم أي رجل من الأكاشي عليه.. فبدون شهود، لا يمكن لأحدهم انتزاع الزعامة منه فهم لا يتسللون ويقتلون زعيمهم غيلة أبداً، ومن يفعل يُقتل دون هوادة.. لذلك ظل آرجان يغتسل دون حذر حتى سمع تلك الخطوات التي تسللت من خلفه، ولما استدار فوجئ بتلك الضربة التي أصابت رأسه بقوة كانت كافية لتسقطه فاقد الوعي على الفور بينما انبثقت الدماء من رأسه.. بينما غمغم المهاجم بمقت "زعيم؟.. هذه مزحة سخيفة أيها الحقير.."
جاءه صوت رجل من خلفه يقول بقلق "هل مات؟.. لقد نصحتك أن تخفف هجومك وتكتفي بإفقاده توازنه، وبعدها نقيده فلا يقدر على الهرب أبداً.."
قال الأول وهو يرمي وتداً خشبياً ثقيلاً من يده "لا.. لو لم يفقد وعيه، فستكون مقاومته شرسة.. لننتهِ مما نفعله قبل حضور آخرين.."
لم يعترض الثاني وهو يتقدم حاملاً حبلاً غليظاً في يده ويقلب آرجان على وجهه مقيداً يديه خلف ظهره بإحكام شديد..


*********************
انتبهت رنيم من نومها فجأة بتوجس شديد.. لم تدرِ كم ساعة مرت عليها وهي نائمة بإنهاك، لكن بدا واضحاً من النور الخافت الذي أضاء جوانب الخيمة أن النهار في بدايته.. تلفتت حولها في الخيمة الخالية ملاحظة غياب آرجان، وبذعر شديد، وتوجس أشد من معنى غيابه هذا، قفزت واقفة وخرجت من الخيمة لا تلوي على شيء.. وخارجها، كان أول ما لفت انتباهها هو تجمع عدد كبير من الرجال في جانب المخيم والعبوس يبدو بوضوح على وجوههم.. تلفتت رنيم حولها بحثاً عن أثر لآرجان، لكنها لم تعثر له على أثر..
ضمّت يديها لصدرها بقوة وهي تهمس لنفسها "أيكون هذا التجمع لسبب يخص آرجان؟.."
ترددت بين اللجوء للخيمة الآمنة، لو صح القول، وبين التقدم للجمع والبحث عن سبب اختفاء آرجان.. ظلت على ترددها عندما رأت قالان يتقدم من جانب المخيّم، فهرع إليه بعض الرجال وأحدهم يقول "لقد اختفى.. بحثنا عنه في كل مكان، ولم نعثر له على أثر.. من المؤكد أنه لم يغادر المخيم سيراً على الأقدام.."
تساءل قالان "والخيول؟.."
أجابه آخر "كاملة العدد.. لم يسرق أحدها ويهرب بها.. لم يختفِ إلا باكين الذي أرسلته أنت لإحدى القبائل القريبة.."
فقال الأول "ثم إن الفتاة لا تزال هنا.. فكيف يهرب ويتركها وحيدة وقد كان أشد الحرص عليها؟.."
غمر الارتياع رنيم وهي تدرك أن الحديث يدور عن آرجان.. أهو مختفٍ من المخيم؟.. متى؟.. كان موجوداً حتى غابت في نوم عميق قبل ساعات معدودة.. فما الذي جرى في غيابها؟..
حاولت أن تتذكر حديثه قبل نومها لعله لمّح لما ينوي فعله.. لكن كل ما دار بينهما لا يوحي بأنه ينوي الهرب وتركها وحيدة في هذا المكان..
لاحظت أن قالان التفت ينظر إليها بعبوس، بينما قال أحد الرجال "بالحديث عن الفتاة.. ألا تظنون أنها قد تعرف شيئاً عن اختفاء ذلك اللعين؟.."
وافقه الرجال بهز رؤوسهم مطالبين باستجوابها، فهربت رنيم عائدة للخيمة وقلقها يتضاعف بشدة.. تمنّت لو أتى قالان ليسألها عن الأمر وحيداً، لكن تجمهر كل هؤلاء الرجال حولها أشد من أن تطيقه..
لكن أمنيتها لم تتحقق كما أملت رنيم، فسرعان ما رأت قالان يدلف الخيمة يتبعه عدد من الرجال لم تتمكن من إحصائهم.. تراجعت رنيم للجانب البعيد من الخيمة وقالان يسألها "أين آرجان؟.. لقد اختفى من المعسكر دون سبب مفهوم.. فهل تعلمين أين ذهب؟.."
هزت رنيم رأسها بذعر وهي تنكمش بشدة.. فقال قالان عابساً "لا يمكن أن يتبخر بهذه الصورة.. ألم يخبرك بأي شيء في آخر ساعة رأيته بها؟.."
هزت رأسها من جديد بقوة، ثم بصوت يرتجف أخبرته بآخر ساعة رأت آرجان فيها وما دار بينهما من حديث.. وأثناء ذلك، كانت تضمّ ذراعيها لجسدها منكمشة وراودتها رغبة شديدة بالاختباء من عشرات الأعين المتطفلة التي تسللت إليها من كل اتجاه.. لكنها تجنبت أن تلاقي تلك الأعين بعينيها وكأنها بذلك تتناسى وجود الرجال من حولها.. ولما أنهت حديثها، صمت قالان مفكراً بجبين مقطب، بينما قال أحد الرجال بشيء من الاعتراض "ألا ترون أنها تكذب؟.. لابد أنها تخفي أمر آرجان عنا.."
قال آخر بسخرية "وربما هرب ذلك الجبان متخلياً عن امرأته بكل خسة.."
لم ترفع رنيم بصرها فيمن حولها وهي تفكر بذعر.. لا يمكن أن يكون آرجان قد هرب.. لا يمكن أن يكون قد ضاق بوجودها وأتعبه عبء رعايتها فقرر التخلص منها للأبد.. آرجان ليس بهذه الخسة، أليس كذلك؟..
سمعت رجلاً آخر يقول بهزء "لو استجوبنا هذه الفتاة، فلابد أن نحصل على بعض الحقائق.. لابد أنها تخفي ما لم تظهره لنا، أليس كذلك؟.."
اتسعت عينا رنيم بذعر وثالث يقول بضحكة خبيثة "أجل.. لمَ لا نفعل ذلك؟.."
سرت رجفة في جسد رنيم وهي ترفع بصرها فيمن حولها.. ولما رأت الشرر ينبع من الأعين الغريبة، ولما بدأت ابتسامة خبيثة ترتسم على الشفاه، أدركت رنيم في أي مأزق وقعت وهي وحيدة في هذه السهول البعيدة عن أي أراضٍ مأهولة بالسكان.. وحيث الكلمة الأخيرة للأكاشي الذين لا تعرف قلوبهم رحمة أو شفقة..


*********************



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-12-15, 09:49 AM   #13

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




الفصل الحادي عشر: طوقا وما خلفها

عندما فتح آرجان عينيه، بعد مدة طويلة قضاها في غيبوبة بعد تلك الضربة التي أصابت رأسه، لاحظ على الفور القيود التي تغلّ يديه وقدميه بإحكام، بينما تم وضعه في عربة خشبية تجرها بعض الأحصنة بالإضافة لأمتعة وصناديق عديدة بحيث لا تمنحه إلا جزءاً ضئيلاً ليجلس فيه.. نظر آرجان لما حوله بشيء من الدهشة، ملاحظاً أن تلك العربة كانت جزءاً من قافلة متوسطة الحجم تسير على طريق من الطرق التجارية التي تقطع سهول الأكاشي.. ظل بصدمة لما يراه وهو يحاول تذكر ما جرى له.. لقد كان على وشك الانتهاء من غسل جسده من الدماء التي غمرته، والآن هو مقيدٌ في عربة خشبية بجذعٍ عارٍ ورأسٍ مضمدٍ بإهمال وصداعٍ شديد.. فما الذي جرى؟.. وأين رنيم؟.. أين رنيم؟..
تململ محاولاً التخلص من قيوده وشيء من التوجس يملأ صدره، عندما سمع صوتاً مرحاً يقول "هل استيقظت أخيراً يا زعيم؟.."
التفت لمصدر الصوت ليرى ذلك المدعو باكين يسير قرب العربة على ظهر حصانه وهو يضيف "جيد أنك قضيت الوقت كله نائماً، فلم أكن أرغب بأي متاعب.. نحن على وشك الوصول لوجهتنا، وعندها سأتخلص منك كما ستتخلص مني بالتأكيد.."
فقال آرجان بحدة "ما معنى هذا؟"
قال باكين بابتسامة ساخرة "معناه أنني اختطفتك من المخيم وأنت الآن على بعد عدة أميال منه.. ولديك موعد هام مع قدرك، وقدري، في ميناء (طوقا).."
صاح آرجان "لماذا؟.. ما هدفك من هذا كله؟.. وأين الفتاة؟"
أجاب باكين ضاحكاً "الفتاة؟.. لا تزال في المخيم مع جماعة الأكاشي اللطيفة تلك.. وبعد اختفائك، فإن طائلة ذلك ستقع عليها هي.. فلا تقلق لشأنها بتاتاً.."
أصاب آرجان غضب شديد لما يسمعه وارتياع لكل ما جرى.. لكن مهما حاول التخلص من قيوده فإن جهوده باءت بالفشل.. فقد تم مدّ ذراعيه متعاكستان على جذعه، وربطهما بحبل قوي يحيط بجسده من الخلف، بينما قيّدت قدماه بإحكام بحيث لا يقدر على تحريكهما أبداً.. فكفّ عن المقاومة التي تنهكه وهو يفكر بوجهتهم.. لمَ فعل هذا الرجل ما فعل؟.. ولمَ يذهب به لذلك الميناء؟.. لو كان يريد قتله لفعل ذلك في المخيم.. فما الداعي لاصطحابه هذه المسافة كلها؟.. سمع باكين يعلق على نظرات القلق التي تبدت في عينيه "لا تتعب نفسك بالتفكير.. ستعرف كل شيء خلال ساعة على الأكثر.."
ولكز حصانه ليتقدم من قائد تلك القافلة ويحثه على الإسراع في سيره.. بينما زفر آرجان وهو يرفع بصره بمرارة شديدة للسماء فوقه، وللسهول التي امتدت حولهم على امتداد البصر.. ترى، ما الذي جرى لرنيم الآن؟.. وأي مصير تواجهه في هذه اللحظات دون أن يتمكن من العودة إليها بأي شكل من الأشكال؟..


*********************
عندما بدأت رنيم رحلاتها هذه، كانت تدرك أن الحياة لن تكون جميلة وسلسة كما كانت في قصر أبيها.. كانت تدرك أن الشقاء والبؤس قد يعكران صفوها، وكانت واثقة أنها ستعاني الكثير لتمضي الأيام دون أن تهزمها المصائب.. لكن ما حملها لاتخاذ هذه الخطوة، هو وجود آرجان كعونٍ لها، ووجود كاجا كوسيلة أكثر أمناً للترحال بعيداً عن المخاطر على الأرض.. لكنها في أيام معدودة فقدت هذين الإثنين، وأصبحت بلا حماية وبلا معين فيما تواجهه.. وما تواجهه الآن قد يكون أقسى من أي شيء تخيلته في حياتها، هذا لو بقيت على قيد الحياة بعدها.. فلا تزال الجثث التي افترشت الأرض في موقع غير بعيد عن هذا المكان حاضرة في ذهنها في تلك اللحظة..
وفي تلك الخيمة التي منحتها الأمان والدفء لليلة واحدة، ووسط جمع من الرجال خبيثي الشكل والرائحة والأفكار، وفي اللحظة التي التقت عينا رنيم بقالان، أدركت أنه لن يكون في عونها أبداً.. العبوس الواضح في ملامحه يخبرهـا بمدى غضبه لاختفاء آرجان، وصمتـه لما قاله الرجـال بدا موافقة ضمنية لهذه الاقتراحات.. لذلك لم تتأخر رنيم ثانية في اتخاذ التصرف الوحيد للنجاة من هذا الموقف، إذ استدارت ورفعت جانب الخيمة خلفها وانسلت منها بأسرع ما تستطيع قبل أن يفطن أي من الرجال لما تفعله.. وبينما أطلقت ساقيها بالركض وسط المخيم، سمعت الصياح الذي اندلع من الخيمة، وأدركت أنهم سيكونون على إثرها في لحظات معدودة..
لكن أين يمكنها الهرب في مخيم مفتوح كهذا؟.. وجّهت نفسها نحو الحل الأمثل، وهو مربط الخيول الواقع في جانب المكان، لكن كيف ستهرب بإحداها وهي لا تملك القدرة على امتطائها؟.. هل يشبه ركوب التنانين ركوب الخيول بأي شكل من الأشكال؟.. لم تملك ترف البحث عن أجوبة لتلك الأسئلة وهي تسمع الصياح يتعالى من خلفها والأقدام تدك الأرض بشدة.. وبعد برهة قصيرة وجدت تلك اليد التي شدتها من ملابسها غير عابئة بصراخها وأسقطتها أرضاً بعنف، وظهر أمامها وجه أحد الرجال وهو يصيح بابتسامة وحشية "لديك الصفاقة الكافية للهرب يا ضئيلة.."
شعرت رنيم بقلبها يقفز عند حلقها لقوة دقاته وهي تنظر للرجل بعينين متسعتين، ثم حاولت أن تركله أو تعضه لتهرب قبل وصول آخرين، لكنه صفعها بقوة وثبتها في موقعها بيد واحدة.. ثم وجدت عدداً آخر من الرجال يحيط بها والأيدي تمتد إليها بلا تمييز.. انكمشت رنيم بذعر مميت وهي تحاول المقاومة وتسمع أحد الرجال يقول ضاحكاً "ليت ذلك الجبان هنا ليشهد ما يحل بامرأته.. ستكون رؤية انفعالاته ممتعة حقاً.."
قال آخر "أيها الأحمق، لو كان مهتماً بها لما هرب وتركها.."
دوّت كلمته في رأس رنيم وهي منكمشة على نفسها وقلبها يكاد يتوقف من الذعر والدموع تطفر من عينيها.. ومن بين صراخها المذعور، ومن بين الضحكات المقيتة، سمعت صرخة ذعر جمّدت الرجال من حولها للحظات ودفعت رنيم لتفتح عينيها بقلب واجف.. فكان كل ما رأته، من بين جمع الرجال من حولها، هو جسد أحد الرجال الذي طار في الهواء ليرتمي جانباً.. وبينما التفت الآخرون لما حولهم بدهشة، فوجئوا بآخر يرتفع عالياً مطلقاً صيحة مرتعبة قبل أن يطير بدوره أمتاراً عدة ويسقط أرضاً بكل عنف..
التفتت رنيم، كما فعل الرجال، لذلك الظل الذي هيمن عليهم، عندها فوجئوا برؤية ذلك التنين أبيض اللون الذي أطلق صيحة مزمجرة في وجوههم وهو يضرب رجلاً بيده ذات المخالب ويلطم آخر بذيله بعيداً..
تصايح الرجال بذعر لمرأى التنين الذي لم يروا مثله في تلك الأنحاء، وسرعان ما انفضّ الجمع من حولها والرجال يتراكضون مبتعدين بحثاً عن أسلحتهم.. عندها لم تكذب رنيم خبراً وهي تقفز واقفة وتندفع نحو التنين الهائج بساقين ترتجفان وقلبها يدق بقوة.. لم تصدق أن النجدة ستأتيها في لحظة يائسة كهذه، ولم تصدق أنها ستكون عبر كاجا الذي ظنت أنها لن تراه مرة أخرى.. أطلق التنين صيحة غاضبة أخرى نحو الأكاشي المتجمدين برعب لم يشهدوه من قبل، ومما زاد ذهولهم رؤية رنيم التي اندفعت نحو التنين غير عابئة بصياحه، فأسرعت تمتطيه بشيء من الجهد قبل أن تربت على عنقه وهي تقول "يكفي هذا يا كاجا.. لنرحل.."
كان الأكاشي قد تمالكوا أنفسهم بعد أن أدركوا نيّة رنيم للهرب، وتقدم بعضهم حاملاً سيفاً وهو يطلق صيحة قتالية.. لكن التنين ارتفع بقفزة واحدة وأثار الغبار في الموقع بجناحيه قبل أن ينطلق بسرعة مرتفعاً في السماء..
أطلقت رنيم زفرة قوية وهي لا تكاد تملك جسدها من الارتجاف.. كيف يمكنها أن تتناسى موقفاً قاسياً كالذي مرت به؟.. كيف تنسى ما شعرت به في اللحظات القصيرة تلك من ذعر ورجفة وخوف؟.. نظرت للمخيّم الذي بدا صغيراً وتافهاً من الأعلى.. لم تكن تعرف كم تبدو المشاكل هينة تافهة من بعيد، وكم تبدو الأرض جميلة سهلة من الأعلى.. لكن الاقتراب منها يظهر قسوتها وعسر تضاريسها وقسوة أهلها وظلمهم لبعضهم البعض..
ندت منها التفاتة لجانب المخيّم فرأت قالان يقف منعزلاً عن البقية الذين تجمهروا في الوسط يراقبون ذلك التنين الطائر بدهشة وتعجب.. فتذكرت رنيم ذلك الحديث الذي سمعته خلسة من مخبئها في جانب المخيّم في أول ليلة لها فيه.. عندها ربّتت رنيم على عنق التنين قائلة "بقدر سروري لعودتك حيّاً يا كاجا، بقدر ما أنا متوجسة من اختفاء رفيقك المفاجئ.. ويبدو أننا يجب أن نتصرف وحدنا للعثور عليه.. لذلك أتمنى أن تطيعني لو كنت تفهمني حقاً يا صديقي.."
وفي المخيم، حيث الرجال يراقبون التنين الطائر، صاح أحدهم وهو يشير إليه "إنه يعود.. حاذروا.."
قال آخر "لابد أن الفتاة ستحاول الانتقام منا لما فعلناه.. لكن، كيف يمكنها أن تتحكم بهذا التنين بهذه الطريقة؟"
هتف آخر وهو يلتفت حوله "ليناولني أحدكم سهماً وقوساً.. سأسقط هذا الشرس بضربة واحدة.."
لكن التنين مرق من فوقهم بسرعة متجهاً لجانب المخيم على ارتفاع منخفض.. وقبل أن يتدارك قالان الأمر، فوجئ بالتنين يمرّ به بسرعة خاطفة، ومخالبه تنغرز في كتفيه ليجد نفسه ينجذب بعنف ويرتفع عالياً والمخيم يتضاءل من تحته بسرعة.. صرخ قالان بألم وذعر لم يملكه وهو يجد ساقيه معلقتان في الهواء بينما المخالب الحادة تثير في كتفيه آلاماً لا تصدق.. وبينما خلّف التنين مخيم الأكاشي خلفه وهو يرتفع شاقاً السماء بكل سلاسة، فإن رنيم صاحت لقالان بصوت عالٍ ليصل صوتها إليه من بين صراخه "استمع إليّ.. أريدك أن تخبرني بما جرى لآرجان.. ما الذي فعلتم به؟"
قال قالان متألماً "لو كنا نعلم ما جرى له لما استجوبناك.. أأنت تفعلين هذا انتقاماً منا؟"
قالت مقطبة "أنا لا أحب الانتقام ولا أسعى إليه.. أريد معرفة ما تعلمه عن آرجان.. والكذب لن يفيدك.. لقد سمعت حوارك مع ذلك المدعو باكين.. لقد كنتما تخططان لفعل حقير، فلا داعي للإنكار الآن.."
صاح قالان وهو يتشبث بقدمي التنين بذراعيه للتخفيف من آلامه "لست أدري عن هذا شيئاً، ولست أفقه ما تتحدثين عنه.."
عندها قالت رنيم بحزم "يمكنني أن أطلب من التنين إفلاتك من هذا الارتفاع.. صدقني لن يكون هذا شعوراً محبباً للنفس.."
نظر قالان للأرض بذعر وهو يتشبث أكثر بالتنين صائحاً "حتى لو أخبرتك بما جرى له، فأنت ستلجئين للانتقام مني بالتأكيد.."
قالت رنيم بسرعة "أخبرتك أنني لا أحب هذه الفكرة.. لك كلمة مني أنك ستهبط على الأرض بسلام بعد أن أعرف ما جرى لآرجان.."
ثم تساءلت بشيء من التردد وكثير من القلق "هل.... هل قتلته؟.."
قال قالان بسرعة "لا.. لم أفعل ذلك.. لن أستفيد شيئاً من قتله بغفلة من الآخرين.."
ثم أضاف وهو ينظر للأرض "أطلبي من التنين الهبوط أرضاً.. يكاد كتفاي ينخلعا بمخالبه القاسية هذه.."
ربتت رنيم على ظهر التنين لتهدئته، ثم جذبت العنان لتقوده للهبوط في موقع بعيد عن المخيم.. وعند اقترابهم من الأرض، أفلت التنين قالان الذي سقط أرضاً والدماء تتصبب من موضع الإصابة في كتفيه، بينما هبط التنين على شيء من المبعدة عنه ورنيم تظل في موقعها على ظهره استعداداً للهرب به في أي لحظة.. لم تكن تأمن قالان حتى وهو جريح وبعيد عنها، فربما كان ينتوي خداعها بهبوطهم أرضاً.. فقالت له وهو يعتدل جالساً بألم واضح "حاذر من خداعي.. هذا التنين قادرٌ على فصل رأسك من جسدك بلحظة خاطفة.. والآن أخبرني أين آرجان.. ما الذي فعلت به؟"
أجاب قالان وهو حائر في كيفية إيقاف الدماء المتصببة من جرحي كتفيه "هل سمعتِ عن الكشميت؟.."
قالت رنيم "ومن لا يعرفهم؟.. هذه مملكة أكبر من أن تكون مجهولة.."
قال وهو يعبس لشدة الألم "لا أعني المملكة هذه، لكني أعني بعض جواسيس الكشميت اللذين انتشروا في هذه السهول وفي أجزاء أخرى من الممالك القريبة.. لقد دأبوا منذ عدد من الشهور على البحث عن الهوت وبذل الكثير من الأموال لمن يقبض على رجل منهم.."
تذكرت رنيم حكاية ذلك الرجل الذي هرب من الأسر في خليج (مارِج)، فتساءلت بدهشة "لمَ الهوت بالذات؟.."
أجابها "لا أحد يعلم الجواب، وهم لا يفصحون عن السبب أبداً.. مطالبهم هي القبض على أي رجل من الهوت ونقله لميناء (طوقا) أو (مارِج) بسرية ودون أن يشعر ملك بني فارس بأي شيء، ومن هناك يرحل بسفينة من سفنهم متخفية كسفينة بضائع ولا نعلم ما يجري له بعدها شيئاً.."
علقت رنيم "لكن قرى الهوت معروفة وليس صعباً الوصول إليها، فلمَ اللجوء لهذه الأساليب؟.. وما هدفها؟.."
قال قالان وهو يحاول الوقوف بعسر "وقوع قرى الهوت في الجانب البعيد من القارة ووسط تضاريس طبيعية عسيرة يجعل من الصعب التسلل إليها دون لفت الانتباه.. كما أن من الصعوبة بمكان اختطاف أحدهم من قريته ومواجهة رجال القرية مجتمعين لما عُرِف عنهم من بأس شديد وبسالة كبيرة.. كما أن الهوت لا يغادرون قراهم ولا يخالطون بقية الشعوب إلا فيما ندر.. لذلك تدركين أي فرصة أتيحت لي بوجود هذا الرجل بعيداً عن قريته ووحيداً.. لذلك لم أتردد في استغلالها عندما تيسّر لي الأمر.."
أنهى جملته وهو يطوّح ذراعه بقوة بخنجر في يده، لكن رنيم التي لاحظت يده المتسللة بين طيات ثيابه سعياً وراء الخنجر كانت قد دفعت التنين للقفز قبلها بلحظة.. فوجد قالان خنجره ينغرس أرضاً بينما انقض التنين عليه وجثم على صدره بعد أن رماه أرضاً.. زمجر التنين بحدة ولعابه يسيل على وجه قالان المرتعب، فقالت رنيم مقطبة "لا تحاول هذا مرة أخرى.. لقد حذرتك.."
عبس قالان وهو يشعر بألم مضاعف في صدره من ثقل التنين ومخالبه التي تخدشه، بينما قالت رنيم بصرامة "هل قمتَ ببيع آرجان؟.. لمَ الآن دوناً عن باقي الأيام؟.. ولمَ لمْ تفعل هذا منذ البدء؟.."
أجاب قالان بعسر شديد في التنفس بسبب ثقل التنين عليه "في البدء خشيت من غضب كابور، والذي سيستلب الأموال لنفسه ولن يمنحنا شيئاً منها، ولم يكن التخلص من الزعيم بشيء يسير عليّ.. أما رجل الهوت هذا، فقد قدّم لي عوناً كبيراً بتخلصه من كابور، وباختفائه، يغدو وصولي لزعامة الأكاشي ميسّراً وسهلاً جداً.."
كانت رنيم تشعر بالضيق مع كل كلمة يقولها قالان، لكنها كتمت غيظها وهو يضيف لاهثاً "لقد أخذته قافلة معها إلى (طوقا).. وخلال بضع ساعات سيبلغ ميناءها ويتم تسليمه لجواسيس الكشميت ومن ثم ترحيله عبر إحدى سفنهم المتخفية، بينما نحصل نحن على الأموال من الكشميت.."
تساءلت بتقطيبة "وأين (طوقا) هذه؟"
أجابها قالان مشيراً بيده "في الجنوب من هذه السهول.."
زفرت رنيم مقطبة، ثم لكزت بطن التنين الذي أطاعها على الفور وهو يرتفع بقفزة كبيرة تاركاً قالان ملقى على الأرض العشبية يلهث بشدة والعرق يغمره ممتزجاً بدمائه..
انطلقت رنيم بالتنين في السماء وقلبها يخفق بقوة وتسارع.. لم يمضِ على نومها هذه الليلة سوى ساعات قليلة، لكنها استيقظت لتجد أن كل شيء قد تغيّر بضربة واحدة.. آرجان اختفى، والأكاشي حاولوا الانتقام منها والتعدّي عليها، ولم ينقذها إلا عودة كاجا بعد أن نجا بمعجزة ما، والآن هي تسعى خلف القافلة التي اختطفت آرجان لمقايضته بما يملكه الكشميت من أموال.. فكيف حدث هذا كله؟..
نظرت للتنين الذي بدا لعينيها منهكاً ولم يتعافَ بعد مما أصابه، فمسحت على جسده قائلة بعطف "حمداً لله على عودتك يا كاجا.. ما الذي فعلته لتنجو من ذلك السم؟.. أم أنه لم يكن كافياً لقتل حيوان ضخم مثلك؟.."
أصدر التنين صوتاً خفيفاً من حلقه تجاوباً معها وهو يرفرف بجناحيه بقوة، بينما تذكرت رنيم ما قرأته في بعض الكتب عن تصرف الحيوانات عند تعرضها للتسمم بواسطة بعض النباتات الطبيعية السامة.. فمنها ما يلجأ لمضغ أعشاب تحمل دواءً واقياً في جذورها أو أوراقها، ومنها ما يكثر من شرب المياه المالحة مثل مياه البحار أو الينابيع التي يتركز فيها الملح بشكل كبير، وتقيؤ ما تناوله من سموم عن طريق الفم.. فهل تفعل التنانين الأمر ذاته؟.. هذا لحسن حظها بالتأكيد..
نظرت رنيم للأفق المظلم بصمت وتنهيدة طويلة.. كان افتراقها عن آرجان متوقعاً منذ بداية الرحلة.. لكن لم تتوقعه بهذه السرعة وقبل أن تحقق الهدف المرجو منها.. وبالأخص قبل أن تتأقلم رنيم على العيش وحيدة ودون حماية ورعاية.. لكن هل يمكن لرنيم أن تصمد وحيدة في هذا العالم دون وجود كاجا لجوارها على الأقل؟.. يبدو هذا عسيراً جداً بالنظر لكونها فتاة.. فحياة الفتاة، دون عون ودون حماية، قاسية جداً.. أقسى مما تخيلته في حياتها كلها..


*********************
لم يمضِ الكثير على استيقاظ آرجان عندما وصلت القافلة لمدينة (طوقا)، والتي اتسعت على مساحة واسعة من جانب السهول التي تنتهي بمنحدر صخري حادٍ نحو الخليج الواسع التي تطلّ عليه.. وفي وسط ذلك المنحدر، انخفضت الأرض لتشكل سهلاً على شيء من الاتساع احتلته المدينة بشكل كامل واستخدمت الموقع الذي يصل السهل بالبحر كميناء حيوي يعدّ من أشهر الموانئ في الجانب الشمالي الغربي للقارة..
وقبل أن تجتاز القافلة طرقات المدينة، اقترب باكين من آرجان قائلاً بانزعاج واضح "ألن تكف عن هذا الصفير المستمر؟.. لقد أصبتني بصداع.."
قال آرجان وهو ينظر للسماء دون أن يلتفت إليه "وهل عليّ أن أهتم حقاً بجعل حياتك سلسةً رائعة؟"
وعاد يطلق صفيراً حاداً طويلاً.. فلطمه باكين بشدة على رأسه قائلاً "ما رأيك بالصداع الذي ينتج عن ضربة على رأسك الجريحة هذه؟.. هذا ما أسميه أمراً ممتعاً.."
لم يتفوه آرجان بحرف وهو يقطب بشدة.. كان قيده المحكم يمنعه من الرد على ذلك الرجل بما يناسب أفعاله، وبحثه عن كاجا الذي استمر لمدة طويلة وهو يناديه بصفير حاد لم يثمر أي نتيجة أبداً.. كان يحاول التشبث بأي أمل أن يكون كاجا قد عاد بحثاً عنه، وعندها لن يفوته سماع ذلك الصفير بأذنيه الحادتين المرهفتين.. لكن ربما كان آرجان يتشبث بأملٍ واهٍ جداً..
بدأت القافلة تتفرق في طرقات المدينة، وبدأت العربة التي تحمل آرجان تسير شاقة طريقاً مستقيماً نحو الميناء في الجانب الآخر منها.. لم يكن منظر آرجان يثير أي تعجب في المدينة التي اعتادت رؤية العبيد والجواري أثناء نقلهم من وإلى السفن ونحو جوانب أخرى من هذه القارة.. لذلك سارت العربة بكل سلاسة حتى وصلت للميناء ووقفت في جانبه القصيّ.. عندها قفز باكين من على ظهر حصانه وتقدم من رجل يقف جانباً فتبادل معه حديثاً والابتسامة تشيع على وجهه.. تقدم الرجل من آرجان وتأمله باهتمام، بينما قال باكين "كما ترى.. هو من الهوت بلا جدال.. ملامحه لا يمكن إنكارها.."
فقال الرجل وهو يرمي بصرّة ثقيلة نحو باكين "حسناً.. هذا يوم سعدك ولا شك.."
تحسس باكين الصرة بشغف وهو يزنها بيده، ثم قال ملوحاً لآرجان "استمتع بوقتك يا زعيم.. كان لي الشرف بخدمتك بإخلاص.."
وأطلق ضحكة على النكتة التي ألقاها وهو يمتطي حصانه من جديد مغادراً الميناء دون إبطاء.. فوجد آرجان أن الرجل القريب يشير لرجلين آخرين لإنزاله وهو يقول له "يحسن بك أن تكون مطيعاً.. لا أريد أن تتلقى ضربة جديدة على رأسك.. قد لا يشتريك أحد عندها.."
قال آرجان بحدة مقطباً "لماذا يريد الكشميت شراء الهوت بالذات؟"
تلفت الرجل على الفور حوله بتوتر، ثم قال لآرجان بحنق وهو يقبض على خنجر في يده "أتريد أن أقطع لسانك يا هذا؟.. كف عن الحديث واستسلم لما نطلبه منك.. لم ندفع تلك الأموال الطائلة فيك لنرميك في عمق البحر بعدها.."
جذب الرجلان آرجان بعد أن فكا قدميه، فحاول آرجان الإفلات منهما وهو يدفع قدمه بركلة لأحدهما في بطنه، ثم ارتطم بكتفه بالآخر وهو يستدير ليركض في الاتجاه المعاكس.. لكن الضربة التي أصابته في رأسه من جديد أسقطته أرضاً بعنف ودوار قوي يغلف وعيه، بينما حمله الرجلان من ذراعيه المقيدتين وسحباه على الرصيف وفوق الجسر الذي يؤدي بهم إلى ظهر تلك السفينة.. وهناك، رأى رجلاً غريب الهيئة في هذه البقاع وقد وقف وسط السفينة وقال بلكنة شديدة السوء "أهذا هو الأخير؟"
أجاب الرجل الذي اشترى آرجان "بلى.. لا أظننا سنعثر على آخر في وقت قريب.."
فقال الرجل الغريب يلقي بصرتين متضخمتين نحو الرجل "هذا نظير خدماتك.. عليك أن تحتفظ بما تعرفه سراً، وسنعود للتعامل معك مرة أخرى.."
أخذ الرجل يلهج بالشكر العميق وهو يختطف الصرتين، ثم أسرع لمغادرة السفينة بينما قال الغريب للبحارة القريبين وهو يعود لغرفته "فلننطلق بالسفينة حالاً.."
وجد آرجان نفسه، دون مقاومة، يُحمل إلى قاع السفينة دون أن يفك أحد قيد يديه.. وهناك، رمي في أسفل السفينة في قفص حديدي بدا مهيأً ليكون محبسه طوال تلك الرحلة التي لا يعلم كم ستطول بالتحديد.. وبعد رحيل الرجلين، اعتدل آرجان زافراً بحدة وهو يلمس مؤخرة رأسه ليجد المزيد من الدماء قد بدأت تسيل من موضع جرحه السابق..
قطع الصمت صوت مفاجئ يقول "أأنت بخير؟"
التفت جانباً بدهشة متعاظمة، بعد أن أدرك أن السؤال قيل بلغة الهوت التي لا يعرفها سواهم.. وعلى الضوء الخافت الذي يتسلل من كوّة علوية في المكان، أمكنه رؤية بضع أقفاص أخرى صفّت بين صناديق البضائع متفاوتة الأحجام.. وفي تلك الأقفاص، رأى عدداً من الرجال لا يتجاوزون الخمس، وهو سادسهم.. ومن ملامحهم التي لا يمكن إغفالها تيقن أنهم ينتمون للهوت، وإن لم يكونوا من قريته بل من قرىً أخرى..
اعتدل آرجان جالساً ببعض الدوار وتساءل بلغة الهوت "كيف قبضوا عليكم؟.. وكم عددكم حقاً؟.."
قال الرجل الأقرب إليه "كل منا له حكاية مختلفة.. أنا قبض عليّ بخديعة من أحد التجار الذين أتعامل معهم لصالح قريتنا.. ماذا عنك أنت؟.."
زفر آرجان بضيق وقصّ عليهم حكايته بكلمات سريعة.. فعلق أحدهم "الفتاة التي تبحث عنها.. جايا.. هل اختفت بالطريقة ذاتها؟.."
هز رأسه إيجاباً، فقال آخر بحنق "لقد دأبوا على نعتنا بأبشع الأوصاف وتوارثوا كرهنا جيلاً بعد جيل.. والآن يعاملونـنا بكل حقارة ويختطفون فتياتنا ويبيعوننا كالعبيد.. فمن هو الأشبه بتلك النعوت والأوصاف؟.."
علق آخر "قولك لن يغيّر من واقعنا شيئاً.."
تساءل الأول "هل تعرف لمَ يسعى الكشميت لشراء الهوت؟.. لا أظنه مجرد هوس ببني جنسنا دوناً عن غيرهم من الممالك.."
قال آرجان "لا أعلم.. هذا لغز لم أجد له معنىً بعد.. ولا أتمنى أن أكمل هذه الرحلة لنهايتها لأعرف المغزى من هذا كله.."
فقال الأول "هناك سرٌ ما.. سر يتجاوز مجرد اختطاف بضع أفراد لا أهمية لهم ولا معنى لاختفائهم.. سرٌ أكاد أجزم أنه يتعلق بتلك الحرب التي لا تكاد تهدأ حتى تشتعل من جديد.."
غمغم آرجان بضيق وهو يستند إلى القفص الحديدي بظهره "أتمنى فقط ألا تكون جايا منغمسة في هذا كله.. أتمنى أن يخيب ظني وأن تكون قد هربت مع بقية الرجال وهي في طريقها للقرية الآن.."
ثم نظر لرفاقه مضيفاً "علينا، قبل كل شيء، أن نسعى للفرار من هذه السفينة قبل أن تخرج من الخليج وتصل للبحر المفتوح.."
قال أحد الرجال بهزء "حاولنا ذلك بالفعل في الأيام الماضية دون نجاح يذكر.."
فقال آرجان بإلحاح "علينا أن نحاول مرة بعد أخر ى.. علينا أن نتضافر لنفعل ذلك.."
لم يعلق أحد الرجال بكلمة وإن وَشَت نظراتهم بعدم اقتناعهم بقوله.. بينما كان آرجان يشعر أن الحياة لن تكون بهذه السلاسة والسهولة بتاتاً.. ولن تتحقق أمانيه فقط لأنه تمناها..


*********************
عندما وصلت رنيم بكاجا إلى ميناء (طوقا)، كانت قد أدركت أنها تأخرت كثيراً.. فطوال الطريق كانت تبحث عن أي أثر لقافلة تسلك الطريق الوحيد الذي يؤدي للمدينة، لكن الموقع كان خالياً تماماً.. مما أكد لرنيم أمراً من اثنان.. إما أنها تأخرت وقد أصبح آرجان في الميناء، وربما على ظهر إحدى السفن بالفعل.. وإما كان قالان يكذب عليها بكل صفاقة.. هل كانت حمقاء لتصديقه دون أي إثبات؟.. كان عليها إحضاره معها لتطمئن أنه لم يكن يخدعها.. لكن لم يعد لهذا الحديث أي فائدة..
دفعت كاجا للهبوط في موقع بعيد من المدينة شيئاً ما لئلا تلفت الأنظار، ووقفت قربه ترمق المكان بصمت.. ثم ربتت على ظهر التنين وقالت له "سأستدعيك متى ما احتجتك يا كاجا.. فكن قريباً لكن حاذر من السقوط في أيدي البشر.."
أخذ كاجا يتشمم ملابسها ويزوم باعتراض، فربتت على خطمه قائلة بابتسامة "لست أملك أي مكافأة لك يا صاحبي.. لكني سأتأكد من الحصول على واحدة في المدينة، رغم أني لا أملك أي مال.."
واستدارت متجهة للمدينة بخطوات سريعة، بينما وقف كاجا يراقبها بتململ، ثم ارتفع دون إبطاء في السماء ودار دورة واسعة قبل أن يبتعد دون أن تتمكن رنيم من رؤيته.. راودها خاطر أنه لن يعود لو حاولت استدعاءه، فكيف ستتمكن من الالتقاء به مجدداً؟.. لكنها، نوعاً ما، كانت تثق به.. فسارت وتفكيرها منحصر بالمدينة الكبيرة أمامها، وبرفيقها الذي اختفى بين ليلة وضحاها..
كانت تلك المرة الأولى التي تسير فيها رنيم في مدينة كبيرة كهذه وحدها على الأقدام، ودون رفقة أي من حرس أبيها.. لذلك كان توترها كبيراً وهي تسير متلفتة حولها وتشعر كأنها مجردة من الثياب لشدة ما لفتت الأنظار في سيرها.. لكن ربما كان ذلك راجعاً للحال البائس الذي بدت فيه، بحيث ظنها سكان المدينة مشردة بلا هوية..
ظلت رنيم تسير في طرقات المدينة وهي تبحث عن الميناء حيث يمكنها الوصول للسفينة التي ستحمل آرجان على ظهرها.. وببعض السؤال، تمكنت من الوصول للميناء العامر بعدد كبير من السفن وحركة دؤوبة وفي جانبه سوق شعبي صغير أقيم في أحد الأزقة لاستقبال الوافدين إلى المدينة عبر البحر.. سارت رنيم بتوتر متلفتة حولها.. لم تتوقع أن الميناء سيكون عامراً بهذه الوفرة، بحيث عجزت عن معرفة الوسيلة الملائمة للبحث عن آرجان.. ظلت تسير في أرجائه ذهاباً وإياباً، وتحدق في جماعات العبيد التي تمرّ بهم والذين وفدوا للمدينة من أنحاء أخرى من العالم، حتى وجدت رجلاً يزجرها لتبتعد عنهم..
زفرت رنيم وهي تشعر بساقيها تؤلمانها بعد كل ذلك السير، وبمعدتها تتضور جوعاً وتطلق اعتراضات متتالية.. لكن دون مال لا يمكنها الحصول حتى على شربة ماء.. فعادت لدورانها في الميناء وهي تتساءل إن كانت قد فقدت فرصتها في اللحاق بآرجان مرة أخرى.. كم ساعة قد مضت على اختفائه؟.. هل رحلت السفينة التي تحمله على ظهرها بالفعل؟.. أم أنه تمكن من الهرب ورحل بعيداً دون أن تعرف عنه شيئاً؟..
غمغمت لنفسها وهي تحدق في البشر من حولها "لن أعرف جواب أي سؤال ما لم أسأل.."
استجمعت شجاعتها وهي تتلفت حولها.. لابد لمن يحاول شراء رجل من الهوت دون علم جنود مملكة بني فارس أن يفعل ذلك متخفياً.. وبعد بعض البحث، استقر أمرها على رجل وجدته يقف في جانب المكان بلا عمل ويبدو من ملامحه الحادة أنه ينتظر أمراً ما.. فتقدمت منه بشيء من التردد، ثم همست عندما رأته يقطب وهو يلاحظها "اسمع.. أتعرف شخصاً يشتري رجال الهوت من الكشميت؟.."
زمجر الرجل وهو يطردها بعيداً، فتراجعت بسرعة وبحثت عن شخص آخر لتسأله.. لابد أن الأمر سيستغرق بعض الوقت قبل أن تصل لمرادها.. فاتجهت لآخر جلس على أحد الصناديق منشغلاً بعدّ ما لديه من نقود، وكررت عليه السؤال ذاته بهمس متلفتة حولها.. فحصلت على رد الفعل ذاته..
لكنها لم تيأس وهي تبحث في جوانب الميناء دون كلل.. لا يمكن أن تكون قد تأخرت أكثر من اللازم.. لا يمكن أن تفقد فرصتها الأخيرة لإنقاذ آرجان..
وبينما زفرت بحدة وهي تجلس على صندوق صغير في جانب الميناء، وقد أعجزها الجوع والدوار عن إكمال بحثها، فإنها فوجئت بيد تمسك ذراعها وتجذبها لزقاق جانبي بعيد عن الأعين.. التفتت رنيم لصاحب اليد بشيء من الذعر لم تملكه، بعد كل ما جرى لها في مخيّم الأكاشي، فرأت أحد الرجال ممن سألتهم سابقاً قد وقف مقطباً وهو يسألها بخفوت وشيء من الحدة "ما الذي تفعلينه؟.. أنت تعلنين للجميع عما نفعله هنا.. أتريدين أن يقبض عليك جنود الملك؟"
قالت بارتباك "لا.. لكني سمعت عمن يشتري رجال الهوت، وأنا أعرف واحداً.. لذلك أتيت للسؤال عن ذلك الشخص للوصول لاتفاق معه.."
فهم الرجل من قولها أنها تنوي بيع رجل من الهوت، فجذبها خلفه قائلاً "اتبعيني بصمت.."
لم تعترض رنيم وهي تراه يقودها لسفينة تقف في جانب الميناء، متوسطة الحجم بحالة جيدة ويبدو من الصناديق المحملة على ظهرها أنها سفينة بضائع.. قادها الرجل في السفينة لغرفة وحيدة على سطحها حيث رأت رجلاً غريب الهيئة بشعر أشقر يقارب البياض وبشرة بيضاء وعينين زرقاوين.. ولما رآهما قال للرجل بلكنة غريبة ولغة سيئة جداً لم تكد رنيم تفقه حرفاً منها إلا بصعوبة "ما الذي أتى بك الآن والسفينة على وشك الرحيل؟"
قال الرجل مشيراً إليها "هذه الفتاة تريد بيع رجل من الهوت.."
نظر لها الرجل الثاني بشيء من الحدة، فأدركت رنيم أنه ينتظر منها إخباره عن الرجل الذي تنوي بيعه، لكنها قالت بحلق جاف "في الواقع، لست هنا لأبيع، بل لأستعيد رجلاً تم بيعه هذا اليوم.."
لم تدرِ رنيم كم أثارت حنق الرجلين إلا عندما وجدت نفسها ملقاة على رصيف الميناء الخشبي والرجل الذي أحضرها يقول بغيظ "لا تستهزئي بنا يا فتاة.. ارحلي خيراً لك.."
نظرت له رنيم وقالت بحدة "سأبلغ الجنود بما تفعلونه لو لم تعيدوا الرجل إليّ.."
تقدم منها الرجل بعين تنطق شراً بينما لاحظت أن الجسر الذي يصل السفينة بالرصيف قد تم رفعه والسفينة بدأت تعدّ عدّتها للرحيل.. عندها قفزت رنيم واقفة وأطلقت صفيراً طويلاً وهي ترفع بصرها للسماء.. بينما اقترب الرجل منها قائلاً بغلّ "أتجرؤين على تهديدي أيتها الحقيرة؟"
عادت رنيم تكرر صفيرها بإلحاح دون أن تجد أي استجابة، وكان هذا يحقق مخاوفها عندما رأت التنين يرحل بعيداً.. لكن لم يكن الوقت مناسباً للإصابة بالذعر، فاستدارت وركضت مبتعدة وهي تشعر بخطوات الرجل تلحق بها بسرعة.. عبرت رنيم عدة أزقة وهي ترفع بصرها للسماء بين لحظة وأخرى وتطلق صفيراً حاداً بشيء من اليأس.. ولما صاح الرجل خلفها بغضب، وجدت رنيم عدداً من الرجال حولها يتدافعون للإمساك بها وقد ظنوها لصّة سرقت شيئاً ثميناً من ذلك الرجل، ولم تكن هيئتها تشفع لها بأي حال..
حاولت رنيم الإفلات منهم وهي تتخذ زقاقاً جانبياً مظلماً محاولة الهرب لطريق آخر.. لمْ تدرِ لمَ يلاحقها ذلك الرجل بهذا الإلحاح.. ألأنها هددته بإبلاغ الجنود؟.. عضّت شفتها السفلى مغمغمة بحنق "حمقاء.. أنا حمقاء لأتصرف بهذه الطريقة.."
لم يكن الوقت وقت ندم، فتجاوزت الزقاق بأسرع ما تقدر رغم ألم ساقيها.. وفي الطريق المقابل الذي كان أصغر من الطرقات الأخرى استدارت رنيم محاولة الهرب عبر زقاق آخر، لكن مع استدارتها فإن تشنج ساقها اليمنى قد جعلها تتعثر وهي تسقط على وجهها سقطة عنيفة.. ولم تكد ترفع رأسها حتى وجدت الرجل يجذبها من ملابسها بغير رفق ويوقفها قائلاً بغضب "سنرى ما الذي ستفعلينه الآن أيتها المتشردة.."
حاولت رنيم الإفلات من قبضته، لكن وجود عدد آخر من الرجال جعل الوضع أكثر عسراً وهي تصيح بحدة "أطلقني.. لمَ تلاحقني؟.. أنا لم أفعل شيئاً.."
جذبها الرجل قائلاً "سنرى ذلك.."
سمعا صيحة عالية في تلك اللحظة، ومَرَق جسد ضخم فوق رؤوسهم ألقى بظلاله على الطريق.. تجمد الرجل للحظة ورنيم ترفع بصرها للسماء بشيء من الأمل.. وعندما سمعت الزمجرة الغاضبة دون أن ترى صاحبها الذي دار فوق الموقع بغضب، أدركت أن كاجا لا يقدر على الهبوط في هذا الطريق الضيق دون أن يؤذي جناحيه.. فاستغلت ذهول الرجل الذي يراقب ذلك الكائن المرعب وأفلتت من قبضته وهي تحاول استغلال بضع صناديق صفّت جانباً للارتفاع عالياً.. انتبه الرجل لمحاولتها الهرب فصاح وهو يلحق بها "عودي أيتها الحقيرة.."
لكنها أسرعت في ارتقاء تلك الصناديق حتى وصلت لأعلاها وأطلقت صفيراً عالياً قبل أن تصيح "أنا هنا يا كاجا.."
اقترب التنين وهو يرفرف بجناحه محاولاً الوصول لموقعها دون الارتطام بالمنازل القريبة، ولما وجدت قدمه المخلبية قربها قفزت وتعلقت بها ليرتفع التنين على الفور مبتعداً عن ذلك الطريق الضيق.. وبشيء من العسر، تسلقت رنيم ظهر كاجا محاذرة من السقوط من ذلك الارتفاع، ولما استقرت على ظهره ربتت على ظهره بسرور قائلة "ظني بك لا يخيب أبداً يا صاحبي.."
ثم شدّت لجامه قائلة بحزم "والآن، لنستعدْ صاحبك قبل أن يتعذر علينا ذلك.."
أطلق كاجا صيحة وهو يندفع في طيرانه بسرعة متجاوزاً المدينة التي توقفت الحركة في طرقاتها مشدوهة من رؤية التنين الطائر، بينما قادت رنيم التنين نحو الميناء الذي لم يهدأ للحظة واحدة والسفن المغادرة والقادمة تملأ الخليج الواسع أمامه.. فتشت رنيم بعينيها بين السفن المغادرة مستثنية الصغيرة منها وهي تحاول معرفة أيها كانت تلك التي التقت فيها بذلك الرجل.. فهو الوحيد الذي استجاب لسؤالها في الميناء، وبدا بوضوح اهتمامه بما قالته ظناً منه أنها تعرف موقع رجل آخر من الهوت بحيث يمكنها مقايضة تلك المعلومات ببعض المال..
انتاب رنيم توتر شديد واللحظات تمر دون أن تتمكن من معرفة السفينة المقصودة، وفيما كانت تدير بصرها بسرعة وقلق، انتبهت لتلك السفينة التي كانت تسير بسرعة أكبر من البقية مبتعدة عن رصيف الميناء وهي تفتح أشرعتها لتسمح للريح بدفعها بشيء من البطء حتى تتجاوز منطقة الصخور فتنطلق بأسرع ما تستطيع بعدها.. ربتت رنيم على رقبة التنين قائلة "يبدو أن هذه هي المقصودة.. لنذهب.."
كان ما تحاول فعله تهوراً.. لكن هل من سبيل آخر؟.. هل تكتفي بملاحقة السفينة حتى تصل لوجهتها وتزداد الحراسة من حولها؟.. لم يكن هذا خياراً متاحاً، فقادت التنين ليقترب من السفينة بسرعة، حتى استطاع أن يهبط بشيء من العسر في المنطقة المفتوحة من سطحها مثيراً بلبلة بين بحارتها ومتسبباً باهتزاز السفينة بعنف مع ثقل التنين الضخم..
تجمع البحارة في جوانب السفينة بعيداً عن التنين الذي زمجر بحدة متلفتاً حوله، بينما صاحت رنيم دون أن تترجل من على ظهره "أريد رجل الهوت الذي قمتم بشرائه اليوم.. أطلقوه حالاً دون مقاومة.."
قطب البحارة بشيء من الحنق وبعضهم يتناول ما يملكه من عصيٍ وخناجر قريبه، لكن كاجا الذي أطلق صيحة مرعبة جمدهم في مواقعهم وهم يتلفتون بذعر.. بينما تقدم رجل من الغرفة التي تقع على سطح السفينة قائلاً بغلظة "ما الذي يجري هنا؟"
كان الرجل يختلف عن الرجل الآخر ذي اللكنة السيئة، فصاحت رنيم "أريد رجل الهوت الذي تخبئونه في السفينة.. أطلقوه حالاً.."
صاح الرجل بحنق "كيف تجرؤين على إحضار هذا الوحش لقلب السفينة؟.. أتريدين تحطيمها؟"
قطبت بحدة صائحة "أريد رجل الـ............"
قاطعها بغلظة "لا أدري ما الذي تتحدثين عنه، ولا نحمل رجالاً معنا سوى البحارة.. هذه سفينة بضائع، وليست سفينة مسافرين أو عبيد.."
تلفتت حولها بتوتر وهي عاجزة عن معرفة الوسيلة المثلى لإجبارهم على إطاعتها.. فصاحت "أين رجل الكشميت الذي يختبئ في تلك الغرفة؟.. أخبره أنني أريده حالاً، وإلا ذهبت لجنود الملك وأبلغتهم بما يجري من تجاوزات في هذا الميناء.."
تبادل البحارة النظرات بينما أشار الرجل للغرفة قائلاً "يمكنك تفتيش الغرفة، والسفينة، كما تشائين.. نحن سفينة بضائع، ولا علاقة لنا بأي شخص من الكشميت كما تدّعين.. غادري فهذا خيرٌ لك.."
قالت رنيم بحيرة "ولكن....."
انتبهت في تلك اللحظة لأمر لم تره من قبل.. كانت هذه السفينة تختلف اختلافاً كبيراً عن السفينة التي رأتها في الميناء.. هذه أكبر حجماً، وتحوي عدداً من الغرف على سطحها بينما لم تملك تلك إلا غرفة وحيدة.. بالإضافة إلى بعض العلامات الأخرى التي تجعلها متيقنة من الخطأ الذي ارتكبته.. شحب وجه رنيم شيئاً ما وهي تتلفت حولها متمتمة "ليست هذه.. ليست هذه.."
زمجر الرجل "حسناً.. ما الذي تنتظرينه؟.."
نظرت إليه وهي تعذره لغضبه، فهي المخطئة فيما فعلته.. فلم تتردد وهي تحني رأسها قليلاً قائلة بصوت يرتجف "سامحني.. لقد أخطأت في السفينة.."
وجذبت اللجام ليرتفع كاجا بسرعة وتعود رنيم للسماء وهي تحدق في السفن التي تقطع الخليج جيئة وذهاباً.. من الأعلى، كانت كل السفن متشابهة، وكلها ذات أشرعة بيضاء ولون واحد.. تختلف الأعلام، لكنها للأسف لم تنتبه للعلم الذي حملته تلك السفينة قبل رحيلها ولم تدرك أن تلك كانت الطريقة الوحيدة لتعرّفها.. والآن هي عاجزة عن العثور على سفينة آرجان، لو كان حقاً في تلك السفينة بالذات.. وعاجزة عن معرفة ما عليها فعله مع ذلك الدوار والتعب الذي تشعر بهما..
بعد أن أصابها اليأس، وجّهت كاجا للهبوط على صخرة مرتفعة ذات رأس مسطح عريض تنتصب وسط الخليج ضمن مجموعة صخور تسبب رعباً وقلقاً دائمين للبحارة عند عبورها.. فهبط التنين على الصخرة، وترجلت رنيم من فوق ظهره والدوار يزداد بشدة مع التعب والجوع اللذين ازدادا حدة بعد ما مرّت به.. ولم تدرك رنيم، وهي تجلس مرغمة على الصخرة جوار التنين، أن وعيها سيغيب عنها لساعات طوال بعدها.. وبعد أن فقدت وعيها حيث جلست، فإن كاجا ظل يزوم وهو يحرك ذراعيها ورأسها محاولاً دفعها للنهوض من جديد.. لكنها لم تشعر به بتاتاً، فاستسلم كاجا وهو يقبع جوارها ويضع رأسه على يديه الممتدتين على الأرض بصمت وسكون..


*********************
استيقظت رنيم بعد وقت طويل قضته في غيبوبة بسبب الإنهاك والجوع.. اعتدلت جالسة وهي بالكاد ترى ما حولها للضباب الذي عمّ الموقع في الساعات الأخيرة من النهار والبرودة تشتدّ مع الرياح القوية في الموقع.. انكمشت رنيم على نفسها وهي تستدير خلفها، فرأت كاجا يقبع قريباً وهو يلتفت إليها مصدراً صوتاً خافتاً.. اقتربت منه واحتضنته محاولة الحصول على بعض الدفء من جسده مغمغمة "هل كنت بانتظاري يا صديقي؟.. يبدو أنني أصبحت بائسة الحال ومنهكة بشدة.."
وجدته ينتفض فينفضها بعيداً عنه شيئاً ما، ولما نظرت إليه بدهشة، وجدته يقفز من الصخرة ويدفع جناحيه بقوة فيرتفع عن سطح الماء ويصعد للسماء ليغيب بين الضباب الكثيف ورنيم تراقبه بصمت.. ثم قالت "لابد أنه جائع.. المسكين لابد أنه ظل ينتظر استيقاظي.."
انطوت رنيم على نفسها وهي تفكر بهذا التنين الذي أصبح أقرب صديق لها.. تذكرت اللحظة التي رأته فيها في شرفة قصر (الزهراء)، والثورة التي أثارتها لتبتعد عنه في ذلك الوقت.. فتعجبت لحالها كيف انقلب بهذه الصورة الكبيرة خلال أسابيع قليلة.. وكيف تغيّرت معاملتها لما حولها.. للهوت.. ولآرجان.. وللتنين.. وللعالم الغريب الذي وجدت نفسها في قلبه بين ليلة وضحاها بعد أن كانت تراقبه من نافذة برج خيالاتها العاجي في قصر أبيها..
طال الوقت ورنيم تحدق في البحر من حولها وفي السفن العابرة والتي لا تراها بسبب الضباب الذي خيّم على الموقع بكثافة.. ما الذي عليها فعله الآن؟.. لقد وصلت لطريق مسدود.. وأمامها خيارات كثيرة عليها أن تختار الأفضل منها وتتحمل عواقبه مهما كانت..
هل تستسلم وتعود أدراجها بعد أن اختفى كل أثر لآرجان؟.. وهل سيرضى كاجا بذلك؟.. لقد صمت خلال الساعات الماضية ولم يعلن احتجاجه عن اختفاء سيده، ولابد أنه أدرك أنها تبحث عنه.. لكن ماذا لو حاولت دفعه للرحيل بعيداً؟.. وهل يستحق آرجان أن تتخلى عنه بهذه الصورة؟..
إذاً ما الذي يمكنها فعله؟.. هل تعود لقرية الهوت وتبلغ أهلها بما جرى له؟.. ربما ببعض العون وبعدد أكبر من التنانين يستطيعون تكثيف البحث بصورة أفضل.. لكن، كيف تعود للقرية بعد أن طردوها بتلك الصورة؟.. لاشيء يضمن لها أنهم سينصتون لها ناهيك عن مد يد المساعدة في بحثها هذا.. ماذا لو أنهم استلبوا منها كاجا وتركوها ترحل خالية الوفاض؟.. لا يبدو هذا الحل مثمراً..
يمكنها أن تذهب للزهراء وتنذر المملكة مما ينتويه الكشميت في هذه الأنحاء.. (الزهراء)؟.. تذكرت ذلك المكان الذي يبدو في خيالها مظلماً وقد بهتت تفاصيله.. يا له من زمن طويل ذاك الذي مضى منذ رحيلها عن (الزهراء)!.. أحقاً يمكنها العودة لذاك المكان بكل ارتياح؟.. وهل يمكن للأمير.. عفواً.. الملك زياد أن يعبأ حقاً لأمر الهوت مهما دلّ ذلك من خطورة على المملكة ذاتها؟.. لا يمكن للكشميت أن يتحركوا في أمر إلا وله دلالة خطيرة في الحرب التي ما خَفَتَ أوارها إلا في السنوات القليلة الماضية.. هذا خيارٌ غير مطروح إذاً..
نظرت للخليج ومن خلفه البحر الواسع وهي تزفر بقوة.. الوسيلة الوحيدة لها هي في الذهاب خلف تلك السفينة.. أن تسعى خلف آرجان بنفسها وتحاول استعادته بأي سبيل ممكن.. هل يقدر كاجا على عبور بحر السلام الشاسع هذا؟.. عليها أن تحاول على الأقل.. بعد أن يعود من رحلته بالطبع..
بعد مرور بعض الوقت، لمحت التنين عائداً بسرعة لموقعها وهبط فوق الصخرة الضيقة بشيء من الحدة والهواء الناتج عن رفرفة جناحيه يدفعها بقوة.. ولما استكان في موقعه، والدماء تخضّب أنيابه وفمه كالعادة، لاحظت شيئاً في فمه رماه عند قدميها وهو يصدر صوتاً خافتاً ويلعق ما لطخ وجهه من دماء.. نظرت لذلك الشيء، فأدركت على الفور أنها فخذ لجدْيٍ متوسط الحجم غارق في دمائه.. ذكّرتها الدماء بذكرى قبيحة لا تزال تستطعم أثرها في فمها، فغلبها غثيان شديد وهي تشيح بوجهها جانباً..
ولما سمعت اعتراضاً من كاجا على الهدية التي جلبها لها، ربتت على خطمه القريب قائلة "شكراً لك يا كاجا.. لم أتوقع أن تحضر هذا لأجلي.."
عادت تفكر بجوعها الشديد.. لا يمكنها التحرك خطوة دون أن تنتهي من هذا الأمر، وعليهم الاستعداد لرحلتهم الطويلة عبر بحر السلام.. عادت ببصرها لكاجا الذي وقف بصمت، ثم قالت مبتسمة "هل يمكنك الطيران الآن يا كاجا؟.. علينا أن نستفيد من هذه الغنيمة التي أحضرتها لي.."
وبعد لحظات قصيرة، وفي جانب من المدينة بعيد عن الميناء، في حيّ تقل فيه المنازل وتخفت حركة البشر عن بقية المواقع في المدينة، فوجئ سكان ذلك الحيّ بتلك الفتاة التي ظهرت في بداية الطريق الذي يقطع المكان وهي تحمل بين ذراعيها فخذ جدْيٍ بحجم كبير والدماء تقطر منه وتلطخ ذراعيها وملابسها بشكل أثار ذعر بعض الصبية في الطريق.. لكن رنيم سارت في الطريق متوترة حتى عثرت على عربة صغيرة تبيع بعض الخضار والفواكه، فتقدمت من صاحبها الذي حدق بها بدهشة كبيرة، وقالت له بتوتر "هل تشتري مني هذا؟.. سأرضى بمبادلته ببعض الفواكه والخضار.."
قطب الرجل وهو يقول "من أين حصلت على هذا؟.. أنتِ لم تصطاديه بالتأكيد.. هل قمت بسرقته؟"
أجابت بثبات "لا.. لقد اصطاده حيواني الأليف.. فهل ستشتريه؟"
نظر الرجل حولها بشيء من الشك، فقالت بإلحاح "أنا أعرض عليك لحماً سيكون أثمن بمراحل من بضع فواكه تمنحني إياها.. فهل ستبادلني أم لن تفعل؟"
ظل الرجل يقلب بصره بين قطعة اللحم كبيرة الحجم وبين ملامحها الثابتة، ورغم ثقته أنها قد سرقت اللحم من شخص ما، إلا أنه لم يتمكن من مقاومة ذلك العرض وهو يقول بابتسامة جانبية "لا بأس.. سأبادلك بكل تأكيد.."
فقالت بسرعة "وأريد أن تضعها في جراب أو ما شابه، فأنا لا أمتلك واحداً.."
لم يمانع الرجل وهو يغيب في منزله القريب، ثم عاد بجِرابٍ قماشي متوسط الحجم وبدأ يضع عدداً من الخضار والفواكه فيها ورنيم تقول "أريد المزيد من التفاح.."
بعد أن ملأ الرجل الجِراب، ناولته رنيم قطعة الفخذ بصمت، وتناولت الجِراب منه بشيء من اللهفة.. فانحنت له شاكرة واستدارت راكضة من حيث أتت، بينما غمغم الرجل وهو يزِنُ اللحم بيديه "يالك من حمقاء..!"
ركضت رنيم حتى غادرت ذلك الحي وأصبحت خارج المدينة.. وفي جانب بعيد منها رأت التنين ينتظرها متململاً، فأسرعت إليه وامتطت ظهره قائلة بابتسامة "لنذهب يا كاجا.."
مدّ كاجا رأسه نحوها، فقالت بإلحاح "فيما بعد أيها الشره.. لنذهب الآن.."
طاوعها كاجا بصمت وهو يطير من فوق ذلك المنحدر العالي الذي تضرب الأمواج جانبه بقوة وعنف.. دارت رنيم معه محاولة رؤية شيء من الضباب الكثيف، ثم قادت التنين لجانب من تلك المنحدرات تنخفض فيه بعيداً عن المدينة لتتلاقى مع البحر مكونة شاطئاً رملياً ضيقاً..
وبينما قبع كاجا على الشاطئ الرملي يعبث ببضع تفاحات وضعتهن رنيم أمامه، فإن رنيم كانت تقف وسط المياه التي تضرب ساقيها بشيء من القوة.. وبينما كانت تحاول التوازن لئلا تجرفها المياه معها، فإنها خلعت ملابسها محتفظة بقميص داخلي قصير مطمئنة لخلو الموقع الذي هم فيه من أي بشري.. انشغلت بغسل ملابسها التي كانت في حالٍ يرثى لها بعد أيام لم تفارق فيها جسدها.. ثم رمت الملابس على صخرة قريبة وبدأت غسل جسدها بالمياه الباردة الصقيعية.. ورغم الرجفة التي غلبت شفتيها، لكنها لم تتوقف عن ذلك وهي تفرك جسدها بقوة محاولة إزالة آثار كل تلك الدماء التي لطختها..
كانت تستطيع رؤية السفن الضخمة كأشباح سوداء وهي تخوض في ذلك الخليج متجهة نحو البحر خارجه، بينما غطى الضباب الموقع بشكل كامل وخفتت الأصوات الصادرة من الميناء بحيث شعرت رنيم أنها في عزلة تامة في ذلك الموقع.. وكأنها وحيدة في هذا العالم ولا وجود لشخص آخر فيه..
وبعد الأيام التي قضتها مرتعبة في سهول الأكاشي، فإن الراحة التي شعرت بها في هذه اللحظات كانت نعيماً لا يصدّق، ولا يعكر صفوها إلا قلقها على ما جرى لآرجان.. كل ما هي مطمئنة له أنه لا يزال حيّاً.. فلا يمكن أن يكلف شخص نفسه نقله كل هذه المسافة إن كان ينوي قتله في الأساس.. لكن ما الهدف الذي سيجنيه الكشميت من خطفه، وخطف الهوت بالتحديد، بهذه الصورة المريبة؟..
عادت رنيم أدراجها وهي ترتجف، فعلقت ملابسها على فرع شجرة قريبة، ثم قبعت قرب كاجا واحتضنته وهي تغمغم بصوت ينتفض "للأسف، لا أعرف كيف أشعل ناراً البتة، لذلك علينا احتمال هذا البرد حتى يخفت الضباب ونتمكن من مواصلة سيرنا بإذن الله تعالى.."
لم يعترض كاجا هذه المرة، وهو يقبع بصمت ورنيم تستشعر دفء جسده القوي وتستمع للصمت من حولها عدا عن ضربات الأمواج الخافتة من البحر القريب..
منذ الغد، ستبدأ رحلتهم الطويلة عبر البحر.. لا يمكنها أن تتخيل كيف سيكون الأمر، لكن ما تدركه أنه لن يكون أسهل مما مرت به بالفعل.. لكن هل تملك خياراً آخر؟..
صبراً يا آرجان.. لابد أن أعثر عليك مهما كلفني الأمر..


*********************








لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-12-15, 10:01 AM   #14

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



الفصل الثاني عشر: لا تفعل هذا..

كان قرار رنيم بدء تلك الرحلة مع كاجا بعد مغيب الشمس بساعات غريباً، بالنظر للطريق الذي سيسلكانه ولكونهما يجهلان ما سيواجهانه فيه.. فالرحيل فوق الأرض يختلف تمام الاختلاف عن الرحيل فوق البحر الواسع، حتى لو كانا سيحلقان في السماء.. لكن رنيم كانت قد شعرت بالضيق لاضطرارها الانتظار ساعات طويلة وهي وحيدة في العراء، وخشيتها من ابتعاد السفينة بآرجان أكثر فأكثر مع كل ساعة تمضي.. ثم إن السماء صافية والقمر ينير الأفق بشكل يجعلها أكثر اطمئناناً وثقة..
ربتت على كتف كاجا الذي نظر لها بصمت، ثم قالت "فلنرحل بحثاً عن صاحبك الآن يا كاجا.. وأتمنى أن يكلل مسعانا بالنجاح.."
وامتطت ظهره ليبدأ التنين تحليقه على الفور بنشاط.. تجاوزا تلك المنحدرات الصخرية التي تنتهي بها سهول الأكاشي الدموية، وسارا فوق الخليج ونحو البحر الواسع.. نظرت رنيم خلفها لتلك السهول التي بدت قاتمة سوداء في هذه الليلة، ثم زفرت وهي تتذكر كل ما مرت به منذ قدومها إليها.. كم يوماً مضى عليها في هذه السهول؟.. يومان؟.. ثلاثة؟.. لم تعد تذكر.. كل ما بدا لها أن دهراً قد مضى منذ كانت في قرية الهوت وحتى تمكنت من الهرب من الأكاشي على ظهر كاجا.. دهرٌ كامل مضى فيه الكثير، ورأت فيه أكثر من طاقتها على التحمل.. ولولا وجود هدف أمامها الآن لظلت منطوية في موقع منزوٍ وهي سجينة الهواجس التي تراودها والذكريات البشعة التي رأتها..
أما الآن، فاللحاق بآرجان يحتلّ أولوياتها ويطغى على تفكيرها.. ورغم كل التأخير الذي حصل، فإنها واثقة أن التنين يستطيع تجاوز تلك المسافة بأسرع من البرق.. لذلك فإنها وجهته للبحر الذي يبدو أمامها ودفعته للطيران بأسرع ما يستطيع موجّهة نفسها نحو ما قدّرت أنه الجنوب.. كانت رنيم، مع قراءاتها الكثيرة، تستطيع تحديد الاتجاهات بشكل تقريبي فاعتمدت على الموضع الذي غابت منه الشمس لتحدد بقية الاتجاهات.. والآن، فإنها تطير مع كاجا نحو الجنوب الغربي بسرعة متجاوزين الأمواج الفضية التي تعكس نور القمر القوي بينما تمرّ فوقهم الغيوم المتفرقة بسرعة كبيرة..
وبعد ساعة أو يزيد، انتاب رنيم شيء من القلق وهي تتلفت حولها ملاحظة خلو البحر حولها من أي سفينة.. كانت واثقة من مسارها، وواثقة أن السفينة لن تسير في البحر بسرعة تتجاوز سرعة التنين، فأين ذهبت؟.. هل أخطأت؟.. حاولت اتخاذ دورة واسعة في المنطقة بحثاً عن أي أثر لها عند الأفق، ثم عادت لمسارها الأصلي مع كاجا وهي تقول له بقلق "هل أخطأنا في أمر يا كاجا؟.. أين ذهبت تلك السفينة؟.."
بدا لها البحر من هذا الارتفاع أشد اتساعاً وامتداداً مما كان عندما كانت على ظهر تلك السفينة في طريقها للزهراء.. تزايد قلقها مع كل لحظة تمضي وهي تفقد ثقتها السابقة وتراودها الهواجس الكثيرة.. هل أخطأت الطريق؟.. أما أنها تأخرت كثيراً؟.. هل السفينة متجهة لقارة الثنايا، ولمملكة كشميت حقاً؟.. أم أنها اتجهت لموقع آخر؟.. ربما لم يكن آرجان على ظهر تلك السفينة فعلاً.. ربما تمكن من الهرب وعبرت هي مع التنين فوقه أثناء محاولته العودة لمخيّم الأكاشي..
كل تلك الوساوس قد تدافعت في ذهنها وبدأت تصيبها بدوار، بينما استمر التنين في طيرانه نحو الجنوب.. عندها جذبت رنيم لجامه ودفعته للهبوط على سطح المياه وهي تتساءل إن كان التنين قادراً على البقاء فوقها بدون أن يغوص في أعماقها.. لكن التنين هبط بسلاسة مسبباً اختلالاً قوياً في سطح البحر والمياه ترشّه وترش رنيم بغزارة.. ولما استقر على المياه، والأمواج الهادئة ترفع التنين وتهبط به بحركة سلسة، ظلت رنيم تحدق في الأفق المظلم حولها وهي تفكر بالحلّ الأمثل والخطوة الملائمة لهما بعد الآن.. هل تنتظر قدوم إحدى السفن وتتأكد من مسارها؟.. قد يطول انتظارها لأيام فهي ليست متأكدة من مسار السفن المعتاد، وهي لا تملك كل هذا الوقت لتضييعه.. فهل تتقدم نحو مملكة كشميت وهي لا تعلم في أي ميناء سترسو تلك السفينة ولا وجهتها حقاً في قارة كبيرة كتلك؟..
أخيراً، شدّت عزمها على التوجه لقارة الثنايا حيث تحتل مملكة كشميت جانباً كبيراً من الجهة الشرقية فيها.. وخلال الطريق، ستبحث فيما تعثر عليه من السفن عن تلك السفينة التي تذكرها بشكل باهت.. كان موقفها يزداد سوءاً، لكن رنيم لم تتردد لحظة وهي تضغط على بطن التنين وتجذب لجامه لتدفعه للارتفاع.. وبينما غادر كاجا البحر مواجهاً السماء، غمغمت رنيم لنفسها "ما يقلقني الآن هو العثور على جزيرة في الطريق لننال بعض الراحة ونستزيد من المؤن التي نملكها.."
ألقت نظرة على الجِراب الذي علقته على السرج بإحكام، والذي يحوي جزءاً صغيراً من الفاكهة والخضار التي حصلت عليها من ذلك الرجل.. لم تكن تلك تكفي التنين كوجبة كاملة، لكنها لا تزال تأمل في العثور على جزيرة يستريحان فيها ليتمكن كاجا من الحصول على الوجبه التي تسدّ جوعه..
وبعد وقت طويل قضياه يطيران فوق المساحات المائية الشاسعة، عثرا على مجموعة جزر صغيرة الحجم لا تتجاوز حجم قرية من قرى الهوت، صخرية بالكامل ولا ترى فيها أثراً لشجرة ولا أي كائن حيّ.. توقفا على إحدى تلك الجزر ورنيم تتأمل ما حولها بشيء من الإحباط، ثم قالت لكاجا وهي تترجل عن ظهره "سنحاول الحصول على بعض الراحة على الأقل.. مازلنا نملك بعض الطعام.."
بشيء من المشقة، أنزلت السرج عن ظهر كاجا الذي انتفض براحة بعد أن أثقل السرج كاهله لأيام عدة.. ثم ارتفع مغادراً رنيم بحثاً عن طعام في الجزر القريبة.. أما رنيم فقد جلست جانباً وهي تتأمل الجِراب الذي تحمله والذي يحوي على أقل من عشر حبات من الفاكهة.. هذه لن تكفيهما بتاتاً، وكاجا يتضور جوعاً بعد رحلة طويلة كهذه.. فما الذي يمكنها فعله؟.. إنها لم تحسب حساباً لهذا أبداً، وهذا سوء تقدير منها بالتأكيد.. إنها لا تملك أي خبرة في الترحال وما يلزمه من إعداد سواء أكانت وحيدة أم على ظهر تنين.. لكن، كان عليها اتخاذ احتياطاتها فيما يخصّ الطعام على الأقل دون الاعتماد على الحظ..
تنهدت وهي ترى كاجا يعود إليها وهو يصيح بتذمر شديد.. ولما هبط قربها أفرغت الجِراب أمامه ليلتهم ما يحتويه بينما احتفظت لنفسها بحبة فاكهة واحدة فقط.. وماذا عن الماء؟.. لقد فقدا القِربة التي كان يحملها آرجان في مرحلة ما من رحلتهما بعد هبوطهما في سهول الأكاشي.. والآن العطش يستبد بها وبرفيقها رغم المساحات المائية الهائلة المحيطة بهما.. وقد حاولت بالفعل تذوق شيء من مياه البحر رغم معرفتها بملوحته، فهي لم تذُق مياهه من قبل، لكن التجربة لم تكن محببة وتركتها عطشى أكثر من السابق..
وأخيراً، بعد حصولهما على ما يحتاجانه من راحة، أعادت رنيم السرج لظهر كاجا المعترض بشيء من العسر وصعوبة كبيرة.. وبعد جهد شديد، تمكنت أخيراً من تثبيته بإحكام، بعد أن كانت تراقب آرجان في عمله سابقاً في القرية بشغف كبير.. ولما امتطت ظهر كاجا، غمغمت وهي تدقق في أربطة السرج التي تحيط ببطنه "أتمنى ألا ينفك السرج ونحن في عرض السماء.. سيكون هذا مأزقاً مضحكاً.."
وجذبت عنان التنين ليرتفع في السماء مواصلاً رحلته الطويلة نحو الجانب الآخر من بحر السلام..


*********************
بعد عدد من الساعات، والشمس قد ارتفعت في السماء وأصبح وهجها أكثر حدة، فوجئت رنيم بهزيم الرعد والتماعة البرق من الغيوم الكثيفة السوداء التي تغطي الأفق أمامهما.. نظرت رنيم للموقع بقلق بينما شعرت بتوتر كاجا الشديد وهو يدير رأسه جانباً ويصدر أصواتاً معترضة.. كان طيرانهما في هذا الاتجاه مع العاصفة الوشيكة خطراً، فالطيران وسطها مرعب وخطر بينما البقاء على سطح الأمواج التي ستثور مع الرياح القوية والأمطار الغزيرة سيكون أكثر خطراً وصعوبة.. ولا تكاد ترى أي لمحة لجزيرة أو سفينة عابرة حيث يمكنهما الالتجاء ولو مؤقتاً..
كان التعب قد بدأ يحل بكاجا، لكنها قالت وهي تربت على عنقه "عليك أن تحتمل هذا يا كاجا لفترة أطول.. لا أريد أن نواجه هذه العاصفة الآن.."
كانت الغيوم السوداء تمتد لمسافة كبيرة أمامهما، وقد لاحظت أن الأمطار قد بدأت تهطل تحتها بغزارة وبدأت الأمواج ترتفع لمسافات عالية وتغدو أشبه بجبال مصغرة ترتفع ثم ترتطم ببعضها البعض بقوة والرذاذ يتطاير في مساحة كبيرة.. ولاتساع تلك العاصفة، كان الدوران حولها أو تجنبها مستحيلاً، لذلك دفعت رنيم التنين ليرتفع عالياً قبل الولوج في قلب العاصفة قدر استطاعته وهي تحثه على بذل جهده لتجاوز تلك الغيوم والطيران فوقها..
وبشيء من الصعوبة، تمكنت من تجنب العاصفة وارتفعت مع التنين فوقها وإن كان صوت الرعد والتماعة البرق التي تشق الغيوم تصيبها برجفة شديدة وتوتر التنين بقوة.. كانت العاصفة تغطي مساحة واسعة من ذلك البحر، وبدا أنها قد أثارت البحر بشدة وارتفعت أمواجه معها بثورة.. فتساءلت رنيم عن حال السفن في مثل هذه الأوقات، وحمدت الله أنها مع كاجا يتمكنان من تفاديها ولو بصعوبة..
ورغم سرعة كاجا، فإن وقتاً طويلاً قد مر عليهما وهما عاجزان عن تجاوز تلك العاصفة، وعاجزان عن الهبوط على أي جزيرة قد يمران بها.. لاحظت رنيم أن كاجا بعد مرور ذلك الوقت قد بدأ يفقد توازنه، فربتت على عنقه قائلة بإلحاح "قاوم تعبك يا كاجا.. لو اضطررنا للهبوط وسط تلك العاصفة فسنغرق في لحظات.. بقي القليل فقط ونتجاوزها بإذن الله تعالى.."
صاح كاجا بضيق شديد وهو يرفرف بقوة ويدفع نفسه دفعاً للاستمرار بالطيران مدة أطول.. وبعد أن كادت رنيم تيأس من تجاوزهما تلك العاصفة، بدأت الغيوم تخفت وتتفرق، وبدأ البحر الأزرق يبدو من تحتها مشرقاً بنور الشمس القوية.. فتنهدت رنيم وهي تحدق بالغيوم السوداء خلفهما، ثم عادت ببصرها للأفق مغمغمة "الحمدلله أننا تجاوزناها.. الآن لو نتمكن من الوصول لإحدى الجزر التي تنتشر في البحر كله، لكانت الحياة أكثر روعة.."
وبالفعل، بعد وقت قصير، لاحظت وجود جزيرة عند الأفق واللون الأخضر يغطيها وقمة جبل بركاني تنتصب وسطها والمياه حولها تبدو بلونٍ لازورديٍّ جميلٍ وصفاءٍ يخلب الألباب.. وحال الاقتراب من الجزيرة، لاحظت رنيم وجود قرية صغيرة في أحد جوانبها بميناء بسيط وعدد قليل من السفن والقوارب الخاصة بالصيد.. بينما بدت بقية الجزيرة غير مأهولة وتحتل الغابة أغلبها.. فغمغمت رنيم "جيد.. يمكن لك أن تعثر على طريدتك في الغابة بسهولة.. أليس كذلك يا كاجا؟"
فوجئت به ينحدر للأسفل بسرعة وزمجرة حانقة، ووجدته يتجه نحو أقرب موقع من الجزيرة.. عند تلك القرية، وعند شاطئها، وقرب تلك القوارب حيث بعض الصبية ممن هم تحت العاشرة يلعبون بالحجارة ويراقبون التنين بدهشة وذهول..
فوجئت رنيم بهبوط كاجا في ذلك الموقع دون طلب منها، ودهشت لرؤية الإصرار في عينيه وهو ينحدر لذلك الموقع بالذات مزمجراً بغضب أشعرها بتوتر كبير.. فجذبت لجامه بقوة قبل أن يصل للأرض وصاحت "كاجا.. توقف.. ما الذي تفعله؟"
أفلحت جذبتها في لجمه للحظات وهو يهبط على الشاطئ بقوة مثيراً الرمال من حوله، بينما تدافع الصبية مذعورين لذلك المنظر عدا صبيين صغيرين سقطا أرضاً برعب.. وفور هبوطه، اعتدل كاجا بسرعة نافضاً الرمال عنه، ثم تقدم من الصبيين وهو يطلق زمجرة اعتراض بينما جذبت رنيم لجامه بقوة وهي تلكزه محاولة دفعه للرحيل صائحة "ما الذي تفعله يا كاجا؟.. ما الذي تحاول فعله؟.."
لكنها كانت تدرك ذلك بنظرة واحدة لعينيه.. كان الجوع الشديد قد استبدّ بالتنين مع الطيران الطويل ومع العاصفة التي منعتهم من الهبوط لوقت أطول، وتحول جوعه لشراسة لم ترَ مثلها من قبل وتناستها مع الألفة التي شعرت بها تجاهه في الأيام السابقة.. هل ينوي حقاً التهام أحد الصبية لسدّ جوعه الشديد؟.. ولما رفض الانصياع لها وهو يميل برأسه يميناً ويساراً محاولاً التخلص من اللجام الذي يشدّ فمه بعيداً، فإنها سارعت للترجل من على ظهره والوقوف أمام الصبيين عسى أن يسترد إحساسه بما حوله برؤيتها ويعيَ ما يفعله حقاً.. فمدّت ذراعيها وهي تصيح به "كاجا.. استفق لنفسك.. يمكنك أن تتناول ما تشاء من تلك الغابة.. لكن لا تأكل البشر لتسدّ جوعك.."
صاح كاجا في وجهها بغضب شديد بينما بدأ الطفلان بالبكاء وهما يرتجفان.. وفي الآن ذاته تجمهر بعض القرويين في جانب المكان بذعر لمرأى التنين الغاضب وللفتاة الضئيلة التي وقفت أمامه بحزم، وإن لم يجسر أحدهم على التقدم وإنقاذ الصبيين الباكيين.. كانت رنيم واثقة أن كاجا لا يمكن أن يكون بتلك الشراسة، ولا يمكن أن يلجأ للوحشية لسدّ جوعه الشديد.. سيستفيق لنفسه مع صوتها ورؤيتها، وعندها سيطيعها بكل تأكيد.. ورغم ذلك، لم تملك نفضة اعترت جسدها للشراسة التي تراها في ملامحه المنقبضة وعينيه بحيث بدا غريباً عليها..
وعندما مال برأسه مزمجراً محاولاً تجاوزها نحو الصبيين، وقفت في وجهه وهي تمد يدها لتبعده صائحة "استفق يا كاجا.."
لكنها فوجئت به ينقض عليها فيقبض على أعلى ذراعها اليمنى بأسنانه الحادة التي انغرست بقوة مثيرة آلاماً لا تطاق.. لكن رنيم لم تصرخ وهي تعضّ على شفتيها بقوة حتى أدمتها.. خشيت أن يستثير صراخها التنين أكثر، وهي بحاجة لتهدئته الآن أكثر من السابق.. وبينما تراكض الصبيان بعد أن تمالكا نفسيهما، فإن رنيم التي سقطت على ركبتيها لشدة الألم والتنين متشبث بذراعها قد رفعت يدها الأخرى وأحاطت رأسه وهي تضمّه بقوة وتقول بصوت مرتجف "كاجا.. ما الذي جرى لك يا صاحبي؟.. استفق لنفسك وعُدْ كما كنت.. كاجا اللطيف الأليف الذي يعشق التفاح.."
زمجر التنين بغضب للحظات والدماء تسيل من ذراعها وتغرق يدها، ثم وجدته يفتح فمه ويستخرج أسنانه من ذراعها متراجعاً خطوات وهو يزوم بألم.. تململ في وقفته وهو يقلب بصره بينها وبين القرية.. ثم استدار وارتفع بقفزة عالياً ليطير في السماء نحو الغابة القريبة تاركاً رنيم تراقبه بشيء من الألم وكثيٍر من الراحة.. لو التهم كاجا أحد أولئك الصبية، فلن تقدر على رؤيته من جديد ولن تملك الإرادة على نسيان ذلك بتاتاً.. ستضطر للتخلي عن رفيق رحلتها للأبد وهو شيء كانت ستكرهه بشدة..
زفرت بقوة وهي تمسك ذراعها بألم محاولة إيقاف الدماء المتصببة، وسمعت لغطاً بين القرويين بعد أن ابتعد التنين الذي سبب لهم رعباً وأحدهم يقول بحنق لرنيم "من أنت؟.. ولماذا أحضرت هذا الكائن الشرس لجزيرتنا؟"
صاحت إحدى النسوة وهي تضمّ الصبيين الصغيرين "كان سيلتهم الصبيين.. أرأيتموه؟.. لقد انقضّ على صاحبته دون رحمة وكاد يلتهم ذراعها.."
ردد آخر "رحماك يا ربي.. هل سيبقى هذا الكائن في جزيرتنا؟.."
لم تتعجب رنيم للغضب البادي في الوجوه، ولا للكلمات الجارحة التي وصلت لأذنيها.. فهذا ما اعتادته على أي حال.. أليس كذلك؟..
بعد لحظات مرت وهي صامتة تحاول الوقوف على قدميها، شعرت بيد تجذبها لتعينها على الوقوف ورأت رجلاً في الخمسين من عمره بجسد نحيف وطويل، وعينين داكنتين عليهما عوينات بإطار معدني ربطت حول أذنيه بخيط سميك لتثبيتها فوق أنفه، وبشعر أبيض ثائر ولحية صغيرة بيضاء وملابس بسيطة.. نظرت له رنيم بدهشة، فقال لها "تعالي.. سأعالج جرحك.."
تعجبت رنيم من معاونته لها، لكن لم تقوَ على الرفض وهي تتبعه باستسلام ملاحظة النظرات الحانقة من حولها.. بينما قال الرجل للمرأة التي ضمّت الصبيين لها "لقد أنقذت تلك الفتاة الصبيين.. عليكِ أن تكوني شاكرة لها على الأقل.."
قالت المرأة بغضب "هي من جاء بذلك الشرس لجزيرتنا، وعليها تحمّل تبعات عملها ذاك.."
لم تعلق رنيم وهي تتبع الرجل بخطوات سريعة وقطرات من دمها تسيل خلفها على الأرض الرملية البيضاء.. وفي كوخ خشبي قريب من شاطئ البحر، بحجم متوسط وقد ملأته أدوات متنوعة لم تعرف رنيم ماهيتها، فإنها جلست في جانب المكان بصمت تتأمل ما حولها حتى جلب الرجل بضع أربطة قطنية وسائلاً شفافاً.. فمزق كمّ ثوبها الذي أصبح مهلهلاً بالفعل بعد أن عبثت فيه أنياب التنين، وتحته ظهرت آثار الأنياب واضحة في ذراعها التي تشوهت بتلك الجروح العميقة.. فقال الرجل "سيؤلمك هذا.. لكنه ضروري لتنظيف الجرح.."
لم تعلق رنيم والرجل يصبّ على جرحها من ذلك السائل ليعود لها الألم مضاعفاً بشكل جعلها تئن من الألم وتضرب قدمها بالأرض بقوة.. فغمغم الرجل وهو ينظف الدماء من ذراعها بقطعة قماش نظيفة "تحمّلي هذا حتى أنتهي.."
حاولت رنيم التحمل بأقصى ما تستطيع وهي تشعر بصداع عنيف ينبض في رأسها والعرق يحتشد على جبينها.. وبينما انشغل الرجل بربط الجرح بقوة، فإن رنيم عضّت على شفتيها وهي تتمنى أن ينتهي بسرعة لعلّ الألم يخفت بعدها.. وبعد أن انتهى، نظر الرجل لرنيم قائلاً "يمكنك أن ترتاحي قليلاً حتى يزول هذا الألم.. للأسف لا أملك مكاناً مريحاً يمكنك الاستلقاء عليه، لذلك عليكِ الاكتفاء بهذا الكرسي.."
وأشار لكرسي من القصب بلون بنيّ جميل وعليه بعض الوسائد الوثيرة.. فلم تتذمر رنيم وهي تجلس على الكرسي فتنطوي فيه وهي تسند رأسها لذراعها اليسرى.. كان الألم لا يطاق، وشعرت بحاجة كبيرة للنوم وتناسي ذلك الألم خاصة بعد رحلة طويلة قطعتها مع كاجا مستيقظة.. ألقت نظرة على الرجل الذي تركها وانشغل بغسل يديه وتنظيف ما تلطخ من كوخه بدمائها، ثم أغمضت عينيها بشيء من الاستسلام.. هي لا تعرف هذا الرجل، لكنها نوعاً ما شعرت بشيء من الثقة تجاهه وأدركت أنه لن يمسّها بسوء.. تتمنى فقط ألا يخيّب ظنها فيه..


*********************
عندما استيقظت رنيم، بعد ساعة أو يزيد، وجدت الكوخ خالياً من حولها.. حاولت الجلوس على الكرسي باعتدال مستشعرة الألم الذي ينبض بقوة في موضع الجرح المضمّد.. نظرت لذراعها ملاحظة أن الدماء قد لطخت أجزاء منه، لكن لونها المتغير قد أوحى لها أن الجرح لم يعد ينزف الآن..
تنهدت متطلعة حولها للصمت الذي يعمّ المكان، ثم سمعت صوتاً قوياً يصدر من فوقها ناتجٌ عن سقوط شيء ثقيل.. نظرت للأعلى بدهشة، وتلفتت حولها لتنتبه لوجود درجات خشبية تؤدي لموقع علوي في هذا المنزل.. ببعض التردد، اقتربت من الدرجات وتطلعت من الجزء المفتوح في الأعلى بشيء من الفضول، ولما انتبهت لما تراه من ذلك الجزء المفتوح، صعدت الدرجات بخطوات متسارعة لتجد نفسها في عليّة واسعة باتساع الكوخ كله.. وفي كل جوانب العلية، وعلى الجدران، وعلى الأرضية الخشبية اصطفت عشرات وعشرات الكتب مختلفة الأحجام والألوان.. منها القديم الذي حال لونه أو فقد غلافه وغدا مجرّداً، ومنها الحديث الذي لا يزال عنوانه واضحاً وصفحاته بيضاء نظيفة.. ووسط هذا الموقع، عثرت على مضيفها الذي انحنى يتناول بعض الكتب التي سقطت من يده، ولما انتبه لها قال "أأنت أفضل حالاً الآن؟.."
قالت رنيم بانبهار دون أن تجيب على سؤاله "لا أصدق ما أراه.."
تساءل الرجل بابتسامة "أمِنَ العجيب رؤية الكتب في هذه الجزيرة النائية وهذا الكوخ الحقير أم العجيب اهتمامي بها؟"
قالت هاتفة "الاثنان كما أظن.. أأنت من جمع كل هذه الكتب؟"
قال الرجل وهو يجلس على كرسي منخفض من القصب يخلو من أي مسند لليدين أو للظهر "أجل.. جمعتها في رحلاتي أثناء شبابي.. والآن بعد أن أعجزني العمر عن استكمال تلك الرحلات قمت بوضع يدي على كل ما يمكنني الحصول عليه من السفن العابرة.."
دارت رنيم في الموقع منبهرة وهي تغمغم "منظر لم أكن أتخيّل رؤيته في هذا الموقع بالذات.. لقد مضى زمن طويل منذ آخر مرة قرأت فيها كتاباً.."
سألها الرجل بفضول "أأنت تُحسنين القراءة؟.. من علّمك؟"
ترددت للحظات وهي عازفة عن كشف هويتها رغم الطيبة الظاهرة على وجه الرجل، ثم تذكرت معلمها الذي كان يعمل في قصر أبيها معلماً لإخوتها، والذي رضِيَ بتدريسها خلسة دون علم الملك.. فقالت بابتسامة "علّمني إياها رجل طيب.."
غمغم الرجل وهو يتأمل أحد كتبه "قلّة من الرجال من يوصفون بهذا الوصف.."
قالت "أنت أيضاً رجل طيب.. فأنت لم تعبأ لأمر التنين الذي جئت معه وقمت بعلاجي وإيوائي فوق ذلك.."
نظر لها الرجل متسائلاً "ما حكايتك يا فتاة؟.. أنا لم أرَ تنيناً في حياتي ولم أسمع به إلا في متون الكتب.. لذلك من الغريب أن أرى شابة مثلك ترتحل على ظهره بكل سهولة.."
لم تجد رنيم مانعاً من إخباره بحكايتها، وإن اكتفت بالجزء الأخير منها والخاص برحلتها مع آرجان بحثاً عن جايا وما جرى لها بعد ذلك.. فعلق الرجل بدهشة بعد أن فرغت من حكايتها "هذه رحلة غريبة وصعبة جداً.. ما الذي جمع بين رجلٍ من الهوت وفتاة عربية في رحلة كهذه؟.."
قالت ببساطة "الأقدار فعلت ذلك.."
لم يعلق الرجل وهو ينهض تاركاً ما بيده من كتب جانباً وقال "اسمعي يا فتاة..."
أسرعت تقول "اسمي رنيم.."
فقال بابتسامة "اسمك جميل كهيئتك.."
التمعت في ذهن رنيم ذكرى بعيدة، عندما قابلت الملكة في (الزهراء) وعلقت على اسمها بأنه لا يليق بها.. شتان بين هذين التعليقين، وشتان بين هاتين الحياتين..
استخرجها الرجل من ذكرياتها وهو يقول" اسمعيني يا رنيم.. اعتبري هذه الدار هي دارك.. أنا أسكن هنا، ولا أحتاج إلا لجزء صغير من الكوخ أفرش فيه فراشي وأنام فيه.. لذلك لا يمكنني منحك الكثير.. سأزودك بالطعام ومكان ترتاحين فيه حتى تقرري الرحيل.."
قالت بسرعة "أنا شاكرة لك ذلك.. لكني سأرحل فور عودة التنين.. ألم تره أثناء نومي؟"
هز رأسه نفياً وقال "لا.. لكن على الأقل سأحضر بعض الطعام لك، وهو ليس بالكثير.. لابد أنك جائعة.."
ثم استدار هابطاً الدرجات، فسألته قبل أن يبتعد "وبمَ يمكنني أن أناديك أيها الرجل الطيب؟"
أجاب دون أن يلتفت إليها "اسمي مُزاحِم.. يكفيك أن تناديني بهذا الاسم.."
نظرت رنيم لظهره المحنيّ وهو يهبط الدرجات نحو الجزء السفلي من الكوخ، ثم نظرت للكتب من حولها وهي متعجبة من قدرها الذي ساقها لهذه الجزيرة بالذات، ولهذا الكوخ بالذات، لتعثر على هذا الكنز المخفيّ عن الأعين.. ولولا المهمة التي تسعى إليها، لقَبِلَت عرض الرجل دون تردد واستوطنت هذه العليّة لأيام وأيام حتى تشبع من هذه الكتب العزيزة على قلبها..


*********************
قضت رنيم اليومين التاليين تكاد لا تغادر الكوخ الصغير بتاتاً.. فهي لا تكاد تقطع خلوتها بالكتب في العليّة إلا لتقف عند باب الكوخ ترقب السماء بقلق وتطلق صفيراً عالياً على أمل أن يستجيب لها كاجا.. ظلت على أمل عودته عدة ساعات تحولت ليوم ويومان دون أن يبدو لها عند الأفق.. هل أصابه شيء؟.. أم أنه غضب منها وفضّل الرحيل وحيداً؟.. هل قرر البقاء في الغابة وعدم العودة إليها؟..
وعندما تيأس من رؤيته كانت تعود للكوخ فتعاون مزاحم بما تقدر عليه، وهي التي لا تعرف عمل شيء بنفسها بتاتاً.. وعندما يستغني مزاحم عن خدماتها التي لا تفيد أحداً فإنها تنزوي في العليّة الضيقة تتصفح الكتب وتشمّ رائحتها التي اشتاقت لها أمداً طويلاً.. رغم أن هذه المكتبة البسيطة لا تقارن بمكتبة أبيها الضخمة، لكن الراحة التي تشعر بها هنا لا تقارن بالضيق الذي شعرت به هناك.. ولا يؤرقها في تلك الساعات إلا التفكير في كاجا وفي آرجان.. هل حتّم عليها أن تفقد كل شخص، وشيء، تتقرب منه؟.. هل قدّر لها أن تكون وحيدة الآن في رحلتها هذه، كما كانت وحيدة في ذلك القصر الواسع ووسط عائلتها الكبيرة التي لم تفهمها يوماً؟..
وعندما نقلت هواجسها هذه لمزاحم قال لها وهو يبحث بين الكتب "سيعود.. لو كان أليفاً ومطيعاً كما تخبرينني عنه فلابد سيعود مهما طال الوقت.."
تساءلت رنيم بقلق "لكن، كيف سأبقى هنا بانتظاره؟.. أرأيت كيف غَضِب القرويون لقدومي؟.."
ثم دفنت وجهها في الكتاب أمامها مغمغمة "رغم أنني أواجه الغضب ذاته حيثما ذهبت.."
قال مزاحم "لا أظن الغضب كان موجهاً لك أنت شخصياً.. فنظرة إلى وجهك تجعلهم يدركون أي فتاة لطيفة ومسالمة أنت.. غضب أهل القرية منك كان بسبب الذعر الذي عاشوه وارتبط بقدومك.. لك أن تعذريهم على ذلك، فظهورك المفاجئ ارتبط بتجربة قاسية تتمثل في التهام وشيك لصبيين من صِبْية القرية أمام أعين أهلها.. ولولا لطف الله تعالى لحملتِ إثمهما على كاهلك.."
قالت رنيم "لكني لم أهدف للهبوط في هذه القرية بتاتاً.. لقد فقدت السيطرة على كاجا عندما رأى الجزيرة وأفقده الجوع تركيزه.."
ثم تنهدت وهي تنظر للسقف الخشبي الذي علاه الغبار مغمغمة "ربما كان هذا خطئي بالفعل.. أنا لم أخطط لهذه الرحلة بتاتاً.. ظننت أن هذا البحر يحوي العديد من الجزر التي ستوفر لنا مصدراً آمناً من الطعام وموقعاً للراحة طوال الطريق.."
قال مزاحم باهتمام "ليست الحياة بهذا اليسر يا فتاة.. عليك فعلاً أن تخططي لطريقك بشكل أكبر.."
ونهض متجهاً لجانب من العليّة حيث صفّت أوراقٌ قديمة متفاوتة الأحجام، فاستخرج ورقة كبيرة الحجم وتقدم من طاولة جانبية ففردها أمامه.. تقدمت رنيم بفضول فرأت أمامه خارطة للعالم، تم التركيز فيها على بحر السلام بجزره وموانئه ومسارات السفن المعتادة فيه.. فهتفت رنيم "هذا رائع.. ستفيدني هذه حقاً.."
قال مزاحم منذراً إياها "لا تحلمي بأن أعطيك هذه الخارطة.. عليك تدبّرها جيداً واختيار طريقك الأنسب.. ولو رغبتِ يمكنني تعليمك كيفية تحديد اتجاهك في أي مكان وأي وقت.. وهي وسيلة سهلة ولا تعتمد على أي أدوات خاصة.."
قالت رنيم بامتنان "هذا سيعينني حقاً.. لا أعرف كيف أشكرك على كل هذا يا مزاحم.."
تجاهل مزاحم قولها وهو يشير لجزء من الخارطة قائلاً "أنتِ قدمتِ من مدينة (طوقا).. هذا هو موقعها.. وهذه هي جزيرتنا.. بهذا يكون المسار الذي اتخذتِه بهذا الشكل، بينما مسار السفن المعتاد والتي تتجه نحو قارة الثنايا تتخذ طريقاً آخر مغايراً بعض الشيء.."
استمعت رنيم لشرحه باهتمام شديد وهي تحاول حفظ الطريق في ذاكرتها.. بالنظر للخارطة، فهي في إحدى جزر الأرخبيل الأسود المتطرفة، وهي تقع في منتصف المسافة بين القارتين، وعليها قطع المسافة ذاتها التي قطعتها في قدومها لهذه الجزيرة.. هذا لو كانت حسنة الحظ وعاد إليها كاجا مطيعاً وأليفاً كما كان.. فما الذي يمكنها فعله لو لم يَعُدْ؟..
وبعد هذين اليومين، وبينما كانت تقف خارج الكوخ تتأمل السماء الزرقاء الصافية وتسمع حفيف الأشجار المثمرة القريبة من الكوخ، فإنها صفرت بأعلى ما تملك وهي تدير بصرها فيما حولها.. لا تدري متى ستفقد الأمل حقاً.. لكن ليس اليوم.. بالتأكيد يمكنها أن تتحلى ببعض الصبر لعدة أيام بعد..
وبينما كانت تدير بصرها في الأرجاء، سمعت صوت حفيف الأجنحة القوي الذي تعرفه تمام المعرفة.. فاستدارت بلهفة لترى التنين الأبيض يقترب منها وهو يهبط برفق على الأرض الرملية مثيراً عاصفة من الرمل.. كتمت رنيم صيحة فرح وهي ترى كاجا يقف أمامها بهدوئه المعتاد، واقتربت منه قائلة بابتسامة "عوداً حميداً يا كاجا.. يبدو أنك تحب أن تختفي من ناظريّ بين فترة وأخرى.."
وجدت التنين المتململ يقترب منها بشيء من التردد وهو يزوم ويلمس ذراعها الجريحة بأنفه.. فربتت على رأسه مغمغمة "لا تقلق يا صاحبي.. كل شيء على ما يرام.."
وجدته يلعق وجهها فجأة وهي تتراجع بدهشة.. ثم ضحكت وهو يمسح رأسه في ذراعيها، وضمّته قائلة "أهذه قبلة اعتذار؟.. لقد أخجلتني يا كاجا.."
سمعت مزاحم يقول من خلفها "يبدو أن ذلك التنين يحبك بشدة.."
قالت رنيم بابتسامة وهي تربت على خطم التنين المسترخي أمامها وتحك رقبته "ليس تماماً.. نحن مرتحلان بحثاً عن صاحبه الحقيقي.. وأنا بديلٌ عنه حتى نعثر عليه وننقذه.."
قال مزاحم مبتسماً "بل هو يحبك بالفعل.. ومن قد لا يفعل؟.."
أحرجها قوله فلم تعلق وهي تراقب التنين بابتسامة.. لقد شعرت براحة شديدة لرؤية كاجا يعود لنفسه ويستعيد هدوءه السابق ولطفه الذي لا يمكن أن تغفل عنه.. لا تلومه على ما جرى، فهي قد أجبرته على بذل مجهود أكبر من المعتاد واحتمال الجوع لوقت طويل لم يكن معتاداً عليه.. لذلك هي تتحمل نتائج عدم تقديرها ذاك ولا يمكنها لوم التنين المسكين على هذا..
وقفت رنيم، فوقف التنين بدوره بتأهب وهي تسرع لامتطاء السرج.. ثم نظرت لمزاحم قائلة "شكراً لك على كل شيء يا سيدي.. لن أنسى أنك استضفتني في منزلك اليومين الماضيين وتحملت عبئي بكرم.."
قال مزاحم "انتظريني هنا.."
وغادر عائداً لكوخه ورنيم تراقبه بتعجب، ثم عاد إليها بعد لحظات حاملاً جراباً قماشياً وقربة بيده وناولها إياها قائلاً "هذا يحوي ما تحتاجين إليه من طعام وماء لرحلتك هذه.. ولا تنسي أن تتزودي بالمزيد في أي جزيرة تعبرين قربها لئلا تقعي في الخطأ السابق ذاته.."
نظرت رنيم للجراب والقربة مغمغمة بشيء من الذنب "لقد أسديتَ إليّ خدمة كبيرة يا مزاحم.."
وخفضت رجهها بانحناءة خفيفة مضيفة "سأظل مدينة لك بكل ما قدمته لي طوال عمري.."
فقال وهو يعدل عويناته "عودي إليّ في رحلة عودتك للقارة العظمى.. يمكنك عندها أن تطلعي على ما تشائين من كتب قدر ما تشائين.."
قالت رنيم بابتسامة "سأفعل ذلك بالتأكيد.."
وجذبت لجام التنين الذي اندفع نحو السماء دون تردد، بينما غمغم مزاحم وهو يراقبهما "بالتوفيق يا فتاة.."
وبينما وجّهت رنيم التنين نحو وجهتهما كما علّمها مزاحم، فإنها راقبت الأفق الأزرق بصمت.. لقد تأخرت في طريقها أكثر من اللازم.. هي لا تعرف كم يوماً تستغرق السفن للترحال قاطعة بحر السلام الشاسع هذا.. لكن تتمنى أن تتمكن من الوصول لجانبه الآخر قبل وصول السفينة، وقبل أن يغيب آرجان في قلب مملكة كشميت دون أن تعثر له على أثر..


*********************
مضت ثلاثة أسابيع على آرجان وهو حبيس في قلب تلك السفينة لا يُسمح له بالخروج من القفص الذي بالكاد يتسع له بالقدر الكافي.. ورغم كل محاولاته مع رفاقه في السجن، كان هربهم مستحيلاً إذ شدّد البحارة الحراسة حولهم بعد هرب المجموعة السابقة من الهوت بوسيلة ما.. ولذلك، رغم عدم استسلامه للأمر، لم يملك آرجان إلا الصمت على ما يُساق إليه.. ورغم كل تساؤلاته، لم يجبه أي رجل من البحارة أو رئيسهم من الكشميت عن سبب اختطافهم للهوت وجلبهم لمملكة كشميت.. ظل هذا لغزٌ يؤرقه ويحيره بشدة.. ما الفائدة التي سيجنيها الكشميت من أسر الهوت دوناً عن العالم كله؟..
وبعد ذلك الوقت، وقد بدأت السفينة بالتباطؤ في إبحارها مما جعل آرجان يشك أنها تسير وسط خليج ضيق أو تقترب من ميناء يقع وسط تضاريس صعبة.. بعدها، وجد السفينة ترسو قرب الميناء الذي كانت أصوات الحركة فيه تعلو بوضوح يدلّ على هويته.. وخلال بضع ساعات، بعد أن أتمت السفينة إفراغ صناديقها، جاء عدد من الرجال لإخراج السجناء واصطحابهم للخارج..
تبادل آرجان مع رفاقه النظرات الصامتة.. ولما رأى البحارة وقف باستعداد ليدفعهم لإخراجه هو في البدء.. كانوا خمسة، وكل واحد منهم مكلفٌ برجل من الهوت، ولما فتح البحار القفص وطلب من آرجان التقدم ليوثق رباط يديه، فإن آرجان قفز نحوه وأسقطه أرضاً وهو يلكمه بقوة.. وأثناء ذلك استلب سلسلة المفاتيح الخاصة بالأقفاص ورماها لأحد رفاقه في الأقفاص الأخرى والذي كان بانتظار تلك اللحظة.. وبينما انشغل رفاقه بإخراج أنفسهم من سجونهم، فإن آرجان قد وقف أمام بقية البحارة بعد أن سلب خنجراً من الأول.. ورغم أن البحارة الأربعة قد تدافعوا نحوه بغضب شديد، لكن آرجان لم يتردد وهو يقفز وسطهم ويحاول تعطيلهم بشتى الطرق لئلا يحاولوا القبض على رفاقه قبل نجاحهم في الخروج.. فطوّح خنجره نحو أحد البحارة بضربة أصابت وجهه بجرح عميق بينما دفع ذراعه الأخرى بضربة حمّلها كل قوته نحو صدر آخر شهق لها بقوة وهو يجد عسراً مفاجئاً في التنفس.. تكالب الآخران عليه بينما نهض الأول وهو يصيح برفاقه بغضب ليمنعوا رجال الهوت من الهرب.. وبينما قبض أحد البحارة على آرجان من الخلف محيطاً كتفيه بذراعيه القويتين، فإن الآخر قفز نحوه بضربة قوية موجهة نحو بطنه.. فما كان من آرجان إلا أن يضع ثقله على الرجل خلفه ويرفع قدميه بقوة ليحيط بهما عنق المهاجم ثم يجذبه للأسفل بقوة حتى فقد توازنه وارتطم رأسه بالأرض بعنف.. عندها انثنى آرجان ورمى الرجل الذي يقيّده من فوق ظهره فوق البحار الذي سقط أرضاً.. كان يدرك أن معركته خاسرة بمفرده، لكن لم يكد ينتهي من هذين الرجلين حتى وجد رفاقه يقفون قربه ويهجمون على من بقي من البحارة ببسالة.. وخلال وقت قصير، كان البحارة مكوّمين أرضاً بينما انطلق آرجان يتبعه البقية عبر سلالم السفينة نحو سطحها وهو يقول لهم "سنجد مقاومة كبيرة من بقية البحارة.. علينا أن نحاول اختراقهم بأسرع ما نستطيع.. ولنتجه لحافة السفينة المعاكسة للميناء، فهم لن يسمحوا لنا بالفرار إليه قط.. بعد أن نصل لحافة السفينة، سنقفز في المياه ونشق طريقنا مبتعدين بأسرع ما نستطيع.."
لم يعترض أحد الرجال بكلمة على قوله وهم يتجاوزون عدداً من السلالم حتى وصلوا لسطح السفينة.. وعندما سمعوا تصايح البحارة ممن انتبهوا للأمر وشكلوا سدّاً بينهم وبين مخرج السفينة الوحيد، فإن آرجان ورفاقه استداروا على الفور نحو الجانب الآخر المؤدي بهم للبحر المكشوف.. لكن ما رأوه أمامهم كان عدداً من الرجال برداء جنود الكشميت وهم يقفون صفاً واحداً، وتلقّتهم البنادق الثقيلة في وجوههم بضربات قوية أسقطتهم أرضاً دون حراك.. ومن لم يفقد وعيه منهم، مثلما حدث لآرجان، شعر بالقيود تقيّد يديه خلف ظهره وبجنديين يحملانه من ذراعيه ساحبينه نحو الميناء دون أي شفقة..
وخلال وقت قصير، في بناء واسع قرب الميناء استخدم كمستودع للبضائع، تم وضع الرجال في سجن جانبي وتقييد أيديهم وأرجلهم للحائط خلفهم.. ثم تُركوا هناك وحدهم دون حراسة بثقة كبيرة، وتجمع الجنود في جهة أخرى من ذلك المستودع بانتظار من ينقل هؤلاء السجناء من هذا الميناء، ونحو هدفهم ومصيرهم الأخير..


*********************




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-12-15, 10:28 AM   #15

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



الفصل الثالث عشر: نهاية الطريق


قطعت رنيم برفقة كاجا الجزء الثاني من الرحلة بشكل أسهل وأكثر أماناً من السابق.. فرغم طول المسافة، لكنها حرصت على اتباع الطريق الذي دلّها عليه مزاحم واللجوء لأي جزيرة تمر بها لبعض الراحة والحصول على طعام لكاجا تحسباً لما بقي من الطريق.. وهكذا، فإنها لم تواجه أي مشاكل تذكر حتى وصولها لميناء (سربيل)، وهو الميناء الأشهر في مملكة كشميت..
كانت تعتزم البقاء في هذا الميناء وتراقب السفن لبضع أيام حتى تتأكد أن السفن التي تحمل الهوت تصل لهذا الميناء بالذات.. ولو لم يكن الأمر كذلك، فعليها أن ترحل بحثاً عنه في موانئ أخرى وقد يطول بها الوقت أكثر من اللازم.. لكن ما دفعها للقدوم لهذا الميناء بالذات أن مزاحم ذكر لها أنه الوجهة الرئيسية لسفن الكشميت الهامة نسبة لقربه من العاصمة (كاشتار)..
لم يكن ميناء (سربيل) كما الموانئ التي رأتها سابقاً، بل كان أقرب لثكنة عسكرية مدججة بالجنود الذين لا يخلو منهم طريق ولا زقاق.. وليس ذلك غريباً، فهذه المدينة هي على رأس الخليج الذي يقود إلى عاصمة مملكة كشميت (كاشتار).. لذلك، تم اعتبارها كحصن يحرس العاصمة ويمنع أي هجوم يمكن أن يتخذ من هذا الخليج طريقاً له.. ورغم قلق رنيم من ذلك، فإنها مضت قدماً في خطتها للوصول لذلك الميناء ومراقبة السفن القادمة إليه..
كان يحيط بالمدينة سورٌ حصين يمنع عنها أي هجوم، لذلك جعلت رنيم التنين يتسلل بها إلى المدينة في إحدى الليالي المظلمة، وهبطت على سطح أحد المنازل محاذرة إصدار أي صوت أو لفت انتباه الجنود.. وبينما دفعت التنين للرحيل بعيداً، فإنها وجدت نفسها وحيدة في قلب مدينة معادية تجهل عنها كل شيء.. كل ما تمنته في تلك اللحظات أن تسعفها بديهتها للتعامل مع سكان المدينة دون أن تكشف هويتها، وأن لا تتأخر سفينة الكشميت عن الوصول إلى الميناء..
تلفتت حولها بحثاً عن أي عين قد تلحظها، ثم باستخدام بضع صناديق صفّت في أحد الأزقة، هبطت من سطح ذلك المنزل الذي لا يعلو إلا طابقاً واحداً، ووجدت نفسها وسط الزقاق المظلم وحيدة إلا من بعض القطط الهاربة.. كان الجو أكثر دفئاً مما عهدته في سهول الأكاشي وفي طوقا، لذلك لم تقلق من هذا الأمر إنما قلقها كان منصباً على هيئتها التي لن يغفل عنها أحد مع شروق شمس الغد..
تسللت عبر المكان متلفتة حولها مغمغمة "لن يكون الأمر بالسهولة ذاتها كما في طوقا.. الكشميت لا يتحدثون اللغة العربية بتاتاً، وأنا لا أفقه حرفاً من لغتهم هذه.. فما الذي سأفعله؟"
لاحظت في ذلك الوقت في حديقة أحد المنازل القريبة حبلاً للغسيل وعليه عدد من الملابس تخصّ أصحاب ذلك المنزل.. قبعت في موقعها تراقب المكان للحظات، وتتطلع للملابس بتردد كبير.. لم تكن تملك ترف الاختيار، ولم يكن من السهل عليها الحصول على ملابس مشابهة لأهل المدينة وهي غريبة عنها.. واكتفائها بارتداء ثيابها هذه سيكشف أمرها بسهولة..
أخيراً، حسمت أمرها وتقدمت منحنية من ذلك الجانب من المنزل الذي لا يحيطه أي أسوار، فاختطفت بعض الملابس وعادت أدراجها نحو زقاق مظلم وقلبها يدق بقوة.. ولما تأملت الملابس في يديها، شعرت بسوء بالغ وهي تفكر فيما سيشعر به أصحابها في الغد عندما يكتشفون اختفاءها.. زفرت لتتناسى ذلك وهي تستبدل ملابسها بسرعة مستغلة الظلام في الموقع، وعدم وجود أي مصابيح إنارة قريبة قد تكشفها.. كانت تلك الثياب عبارة عن بنطال واسع مضموم عند القدمين، بلون أصفر باهت، وقميص بلا أكمام.. وفوقها رداء قماشي واسع يصل لقدميها بكمين واسعين ومفتوحٌ من الأمام، وله غطاء للرأس يساعد على إخفاء ملامحها أكثر من السابق.. ولحسن حظها لم تكن فضفاضة عليها بل ملائمة شيئاً ما.. تقوقعت في مكانها زافرة وتوترها يعجزها عن الحصول على بعض النوم قبل شروق الشمس الذي لن يبدأ إلا بعد بضع ساعات..
لكن، مع شروق الشمس وبدء نهار المدينة الصاخب عادة، فإنها نهضت من موقعها دون أن تذوق طعم النوم.. فخرجت من موقعها بتردد كبير وهي ترخي الغطاء على رأسها محاولة إخفاء ملامحها قدر استطاعتها.. لكنها مع رؤية عدد كبير من الأشخاص يعبرون الطريق القريب وملامحهم تدل على أصولهم المختلفة، أدركت أن هذا الميناء، كما كل الموانئ الأخرى، يضمّ خليطاً كبيراً من البشر.. لذلك غمرتها راحة كبيرة وهي تسير في الطريق محاولة معرفة أقربها للميناء الكبير الذي تتمحور المدينة حوله..
ظلت تسير في الطريق بخطوات مترددة وهي تحاول ألا تكثر من التلفت حولها لئلا تثير الانتباه.. لكنها رغماً عنها تغيّر طريقها وتسلك أقرب زقاق حالما ترى إحدى فرق الجنود التي تجوب شوارع المدينة عادة.. وفي كل مرة تتسارع دقات قلبها أكثر مع رؤية أحدهم خشية انكشاف أمرها، وهي تشعر أن كلمة (متسللة) مكتوبة على جبينها بخط واضح..
وبعد اجتيازها عدداً من الأحياء والأزقة، لاحظت تلك النوارس التي تحلق عند رأسها ورأت من بين المنازل القريبة صواري بعض السفن العالية.. تنهدت وهي تسرّع خطواتها نحو الميناء وتتجه إلى الطريق العريض المؤدي إليه.. وفور تجاوزها ذلك الزقاق، ارتطمت بأحد الأشخاص بقوة وهي تتراجع خطوة.. ولما رفعت بصرها شحبت بشدة لرؤية أحد جنود الكشميت يرمقها بامتعاض وهو يصيح بوجهها بحنق.. لم تعرف ما عليها فعله، فأحنت له رأسها باعتذار صامت وهي تتراجع خطوات.. لكنه قبض على ثوبها قبل أن تهرب وهو يتحدث بعبوس شديد.. بدا لها ينظر لها بشك، وربما هيأ لها ارتباكها هذا، لكنها حاولت تفادي شكوكه وهي تلوح بيديها وتشير لأذنيها مصدرة أصواتاً متقطعة بحلقها.. حاولت أن تفهمه أنها بكماء صمّاء لكي تتفادى هذا الموقف وتعللّ به عدم فهمها لما يقول.. فلو حاولت التحدث بأي كلمة، فهذا سيجعل شك الجندي يقيناً وسيلقي بها في قبضة الكشميت حتى لو لم تذنب ذنباً معروفاً..
وبينما حدجها الجندي بنظرات يمتزج فيها الشك والحنق، فإن رفيقاً له جذبه متحدثاً بشيء من الضيق.. رمقها الجندي بحدة، ثم دفعها بعيداً وغادر وهو يدمدم بحنق بكلمات لم تفهمها.. تراجعت رنيم وهي تختبئ في ذلك الزقاق لاهثة، فربضت أرضاً وهي تحاول تمالك أنفاسها المتسارعة وتهمس لنفسها بارتباك "رباه.. ما الذي سأفعله في الأيام القادمة؟.. لست أدري متى ستصل سفينة آرجان، هذا لو كانت ستصل لهذا الميناء بالفعل.. فما الذي سأفعله حتى ذلك الوقت؟.."
بعد أن قضت نحو ساعة مختبئة في موقعها وهي متعجبة لأن الجندي لم يقبض عليها رغم ملامحها العربية الواضحة، لكنها أدركت أن هذه المدينة تغصّ بأنواع كثيرة من البشر بحيث لا يغدو وجودها مثيراً للشكوك.. ورغم ذلك، قررت أن تستمر بادعاء البكم والصمم لكي تتفادى أي أسئلة.. ومع هذه الخواطر، تمالكت نفسها وهي تخرج بهدوء من الزقاق وتسير بخطوات مترددة نحو الميناء القريب.. وبعد أن انفرجت المنازل القريبة سامحة لها برؤية الميناء بشكل واضح، فإن ارتياح رنيم خالطه شيء من القلق لرؤية عدد كبير من الجنود يتفرقون في الموقع الواسع.. لم يكن ذلك مستغرباً، لكن ذلك زاد من سوء موقف رنيم وهي تختبئ خلف أحد المنازل تراقب الطريق الذي يقطع الميناء والحركة الدؤوبة فيه.. وأخيراً، قامت بتشجيع نفسها وسارت بتردد نحو الميناء مخترقة عدداً من البشر الذين تجمعوا على رصيف الميناء منشغلين بالسفن القريبة منه..
لم تكن تذكر كيف كانت تلك السفينة التي حملت آرجان في قلبها بعد مرور كل تلك الأيام، لكنها عوّلت على ذاكرتها شيئاً ما وهي تدقق النظر في السفن القريبة محاولة معرفة إن كانت السفينة المقصودة بينها.. لابد أن تتعرف على السفينة المقصودة لو رأتها عيناً، لكن لو لم ترها فستضطر للتردد والمرابطة في هذا الميناء أوقاتاً طويلة حتى تتأكد من شكوكها.. لكن بعد عدة جولات في الميناء ووسط البشر المتزاحمين، أدركت أن ما تبحث عنها غير موجودة في هذا الميناء، فزفرت وهي تنطوي جانباً على أحد الصناديق بانتظار قدوم سفن أخرى.. كم يوماً مضى منذ اختفى آرجان في سهول الأكاشي؟.. لم تعد تعرف الجواب.. وكم يوماً سيمضي قبل أن تلتقيه مجدداً؟.. لا تعرف جواب هذا السؤال أيضاً.. ولا يسعها إلا الانتظار..


*********************
في تلك الليلة غادرت رنيم يائسة بعد أن عجزت عن تحقيق أي شيء.. فابتعدت عن الميناء الذي يضجّ بالحركة أغلب أوقات اليوم لتتفادى أن يراها شخص ما وهي تحاول الالتقاء بكاجا.. وبعد بعض الوقت، وبعض البحث الدؤوب، عثرت رنيم على منزل بدا لها مهجوراً من نوافذه المظلمة رغم توغل الليل ومن الحديقة الملحقة به والتي أصابها بعض الدمار وبدت أشجارها بحالٍ بائس.. دارت حول المنزل متفحصة، لتجد أنه يحوي بضع سلالم حجرية تقودها لسطحه ملحقة بالمنزل خارجه كما كانت أغلب منازل هذه المدينة.. وهذا نوعاً ما سهّل لها الوصول لسطحه بدون أن تقوم بأي ألعابٍ بهلوانية كما توقعت.. وعلى السطح، تلفتت حولها بحثاً عمن يمكن أن يلاحظ وجودها.. ولما تأكدت أن سكان المدينة قد أخلدوا للراحة في منازلهم، رفعت رأسها وأطلقت صفيراً حاداً مستدعية كاجا الذي غادر المدينة منذ الليلة الماضية..
استمرت رنيم تطلق صفيرها لوقت غير قصير وهي تقلب بصرها في الأفق المظلم، ولما لم تجد استجابة منه زفرت وهي تغمغم "أين ذهبت يا كاجا؟.. أرجو أن تكون بخير.."
سمعت صوتاً من خلفها يقول "ومن هو كاجا؟.."
استدارت بهلع وشيء من الاستنكار لترى الشخص الذي استرق السمع إليها وخاطبها بالعربية وسط ليل المدينة المظلم.. وعلى سطح منزل قريب لا يبعد إلا القليل عن المنزل الذي هي عليه، رأت شابة تقارب الثلاثين من عمرها، ويبدو من ملامحها أنها ليست من الكشميت الذين يمتازون ببشرة بيضاء شاحبة وعينان ملونتان وقامة طويلة نحيفة.. بل كانت الشابة على شيء من السمرة بشعر أسود طويل ضمّته في ضفيرة على صدرها وعينان سوداوان وملامح تحمل جذوراً شبه عربية..
التزمت رنيم الصمت وهي لا تدري ما عليها أن تفعله في هذه الحالة، فعادت الشابة تسألها بابتسامة "كاجا.. اسم غريب وغير معتاد هنا.. هل أنت غريبة عن هذه المدينة؟.."
أشارت رنيم لأذنيها بحركة معتادة لتوحي للشابة بأنها صمّاء لا تسمع، لكن الشابة قالت بضحكة "لقد استدرتِ للتو عندما سمعتِ صوتي.. هل ستنكرين ذلك الآن؟"
تراجعت رنيم بحركة حادة وهي تقطب بشدة لهذا الخطأ.. كانت لا تزال تفتقر للخبرة الكافية للتخفي بشكل آمن في هذه المدينة، وها هو أمرها قد كشف قبل أن يمر يوم واحد على وجودها في هذه المدينة.. تراجعت رنيم خطوات وهي تتلفت حولها وقد راودتها رغبة شديدة بالفرار، فسارعت الشابة تقول بشيء من الخيبة "لا تهربي.. لم أصدق أذناي عندما سمعتك تتحدثين بالعربية، وشعرت أنني محظوظة للقائك هنا في هذه المدينة الغريبة.."
توقفت رنيم في موقعها للحظات، ثم قالت بهمس "من أنتِ؟.."
ابتسمت الشابة قائلة "هذا أفضل بالتأكيد.. أنا لؤلؤة، هذا اسمي الذي لا يعترف به أحد في هذه المدينة.. لكن لا تقلقي، لن أفشي سرّك لأحد بتاتاً.."
قطبت رنيم مغمغمة "سرّي؟!.."
أسرعت لؤلؤة تقول "أعني تسللك لسطح هذا المنزل في غياب أصحابه.. ألهذا حاولتِ الفرار عندما رأيتني؟"
لم تعلق رنيم وهي تقترب منها خطوات، وتقلب بصرها في السماء بحثاً عن كاجا الذي لم يظهر بعد.. عندها قالت لؤلؤة باهتمام "من أنتِ؟.. وما الذي يضطرك للاختباء هنا؟.. هل سرقتِ شيئاً ما؟.. هل يلاحقك الجنود؟"
هزت رنيم رأسها بشدة، وقالت بشيء من التوتر "لا.. أنا غريبة عن هذه المدينة، ولا مكان آوي إليه إلا سطح هذا المنزل الذي بدا لي مهجوراً.. ولا آمن على نفسي لو بقيت في أحد الأزقة.."
قالت لؤلؤة "هذا حق.. هذا المنزل مهجور بالفعل.. فقد رحل أصحابه إلى (كاشتار) منذ مدة قريبة.. لكنه مغلق ولن يمكنك دخوله بتاتاً.."
نظرت رنيم للشابة متسائلة "من أنت؟.. وما الذي جاء بك إلى هذه المدينة؟.. أأنت عربية حقاً؟"
تنهدت لؤلؤة مجيبة "يفترض بي أن أكون كذلك.. لكن للحقيقة لقد قضيت في هذه المدينة أضعاف ما عشته في موطني الأصلي.. لذلك لا أدري من أكون حقاً.."
تساءلت رنيم بدهشة "أين موطنك الأصلي؟.. وما الذي يدعوك للبقاء هنا؟.."
أجابت لؤلؤة "أنا ولدت في إحدى جزر الأرخبيل الأسود، وعشت هناك السنوات العشر الأولى من عمري.. لكن في آخر معركة خاضها الكشميت مع بني فارس، والتي كان موقعها في جزيرتنا بالذات، تم أسري ضمن بضع نساء وفتيات من الجزيرة وعاد بنا الكشميت إلى سربيل لبيعنا كجواري وأسرى حرب.."
تساءلت رنيم بدهشة "ألم تنتهي الحرب الأخيرة بمعاهدة للسلام؟"
ابتسمت لؤلؤة بجانب فمها معلقة "معاهدة السلام لا تشملنا نحن، ولسنا نقع ضمن اهتمامات ملك مملكة بني فارس.. لذلك لم يطالب بنا أحد ولم يحاول استعادتنا أي شخص.. وهكذا ترين أنني قضيت ما يقارب العشرين سنة في هذه المدينة، وأصبحت أتقن لغة أهلها إتقاناً تاماً.. لكني رغم ذلك مجرد جارية لا أهمية لها ولا تملك أي حقوق.."
تساءلت رنيم بضيق "وما الذي يدعوك للاستسلام بهذه الطريقة؟"
هزت لؤلؤة كتفيه "وما الذي سأفعله بهروبي؟.. هل سأعود لتلك الجزيرة وأجد أحداً يستقبلني بترحابٍ بعد كل هذه السنوات؟"
نظرت لها رنيم بغير اقتناع، بينما قالت لؤلؤة باهتمام "الأهم من ذلك.. من أنت حقاً؟.. وما الذي جاء بك لهذه المدينة الغريبة.."
جلست رنيم مستندة للحائط خلفها، ثم غمغمت مطرقة "أتيت بحثاً عن شخص ما.. هو أيضاً تم اختطافه ويبدو أنهم يسوقونه لمملكة كشميت بالذات.. وأنا أبحث عنه في هذا الميناء عسى أن أعثر عليه قريباً.."
قالت لؤلؤة باهتمام أكبر "ومن يكون هو؟.. أهو أحد أفراد عائلتك؟"
قالت رنيم زافرة "لا.. إنه شخص غريب عني، لكني مدينة له بالكثير.. ولذلك أبحث عنه.."
غمغمت لؤلؤة بشيء من الإحباط "فقط؟.. ظننت أنك تحملين حكاية مثيرة قد أستمتع بسماعها.."
سمعت صوت معدة رنيم التي أطلق صوتاً عالياً بوضوح، وبينما ضغطت رنيم على معدتها بحرج وقد احمرت أذناها بشدة، فإن لؤلؤة قالت بضحكة "ألا تملكين ما تسدّين به جوعك؟.. كيف أتيت لهذه المدينة حقاً؟"
لم تعلق رنيم وهي مرتاحة نوعاً ما لغياب كاجا، فلا تريد أن ترى رد فعل لؤلؤة لرؤيته ولا تضمن ألا تشيع خبره لسكان ذلك المنزل ولأهل المدينة.. فقالت لؤلؤة بعد لحظة صمت "سأحضر لك بعض الطعام لو انتظرتني قليلاً.. لقد تهربت من أعبائي ولن أستطيع البقاء أكثر من هذا.. لكن أعدك بالعودة قبل منتصف هذه الليلة عندما يخلد أهل المنزل للنوم.."
غمغمت رنيم بابتسامة "شكراً لك يا لؤلؤة.. سأكون مدينة لك بذلك.."
قالت ملوحة بإصبعها "أنت مدينة للعديد من الأشخاص كما يبدو.. كيف ستعيشين حياتك دون الاعتماد على الآخرين.."
لم تعلق رنيم وهي ترقب السماء المظلمة بصمت.. بالفعل، هي مدينة للكثيرين بكل ما هي فيه الآن.. ولا تعرف كيف ستتمكن من العيش وحيدة دون آرجان ودون كاجا.. تنهدت وهي تغمغم "أتمنى أن تصل سريعاً يا آرجان قبل أن ينفذ صبري فعلاً.."
وبعد غياب لؤلؤة، عادت رنيم تطلق صفيرها الحاد وهي تقلب بصرها في السماء.. لم تعُد تخشى غياب كاجا، فهي قد وثقت به تماماً بعد عدد من المرات أثبت لها أنه يعود إليها مهما طال غيابه.. هي فقط تريد الاطمئنان عليه والتأكد أنه بخير في هذه الأرض الغريبة المعادية.. وبعد وقت قصير، رأته بالفعل هابطاً وقد بدا لها بالكاد عند هبوطه على سطح ذلك المنزل بسبب ظلام تلك الليلة..
اقتربت منه رنيم مربتتة على خطمه وماسحة رقبته وهي تهمس "أأنت بخير يا كاجا؟.. انتبه لنفسك يا صديقي، فلا أريد أن أخسرك أنت أيضاً.."
وجدته يمسح رأسه بذراعها بألفة، فابتسمت وغمغمت "غداً سأحضر لك مكافأة بالتأكيد.. فكن بخيرٍ حتى نلتقي.."
ودفعته للابتعاد قبل أن يلحظه أحد وقبل أن تعود لؤلؤة فتراه معها.. وبعد بعض الممانعة، ارتفع كاجا بصمت كما جاء وغادر المدينة معتلياً أسوارها دون أن يلحظه أحد الجنود للظلام المخيّم على السماء تلك الليلة..
أمضت رنيم أياماً طويلة في المدينة وهي متخفية عن أعين جنود الكشميت المتواجدين في كل موقع منها.. تمضي أيامها واقفة في جانب من جوانب الميناء محاولة عدم لفت الأنظار، وهي تتفحص السفن القادمة واحدة تلو الأخرى ببصرها بحثاً عن هدفها، بينما تنزوي في الليالي فوق سطح ذلك المنزل تلتقي بلؤلؤة أحياناً وتتبادل معها بعض الأحاديث.. ورغم أن لؤلؤة كانت تعينها ببعض الطعام والماء، لكن رنيم شعرت بالسوء لاعتمادها عليها فهذا الطعام تقتطعه من نصيبها كل يوم لتمنحه لرنيم.. ورغم تآلفهما، فإن رنيم لم تفصح لها عن هويتها أو هوية آرجان قط.. فهي لا تريد أن تفشل قبل أن تنجح في تحرير آرجان، ولا تريد أن تزجّ تلك الشابة الطيبة في مشاكل لو أدرك الجنود أنها كانت تتستر على وجودها في المدينة.. كما تفادت أن ترى كاجا قدر استطاعتها وهي تستدعيه قبل الفجر أحياناً لتطمئن عليه..
طالت الأيام برنيم وبدأ اليأس يستعمر قلبها دون أن تجد أثراً من آرجان، ولولا أنها رأت في أحد تلك الأيام سفينة تقف في رصيف الميناء ويهبط منها ثلاثة من الهوت مقيدي الأيدي والأقدام، لشكّت بأنها أخطأت بالقدوم لهذه المدينة.. ما أثار إحباطها في تلك اللحظات، أن آرجان لم يكن مع أولئك الرجال..
لذلك، بعد أن فقدت إحساسها بالأيام وأصابها إنهاك شديد من بقائها في العراء وتجوالها المستمر في الميناء، فإنها صدمت بشدة لما رأت الجنود يسحبون بعض رجال الهوت فاقدي الوعي من إحدى السفن وعبر الجسر المؤدي للرصيف ومنه لموقع آخر من الميناء.. ولما لمحت بوضوح آرجان بين أولئك الرجال وجنديين يسحبانه معهما بغلظة، فإنها كتمت شهقة كادت تصدر منها بصعوبة وهي تضمّ قبضتيها أمام وجهها وعيناها تغرورقان بالدموع.. لم تصدّق أنها ستراه مرة أخرى، ولم تصدق الانفعال الذي شعرت به عند عثورها عليه.. لقد افتقدت وجوده بشدة، وخشيت أنها لن تعثر عليه مهما طال بحثها..
وبينما كانت تتمتم حامدة الله على عثورها عليه بعد صبرها ذاك، زجرها أحد الجنود القريبين بغلظة، فابتعدت وتجاوزت صف البيوت القريبة من الميناء وهي تتبع الهوت متخفية لتعرف أين سيضعونهم.. عليها التفكير في وسيلة فعالة لتخليص آرجان دون كشف نفسها ودون السقوط في أيدي جنود الكشميت بدورها.. وعليها أن تفعل ذلك بأسرع وقت ممكن قبل أن يختفي من ناظريها مرة أخرى..


*********************
بعد أن اطمأنت رنيم للموقع الذي أخفى فيه الكشميت رجال الهوت، هرعت من فورها عائدة للبيت الذي اعتادت البقاء فيه في الأيام الماضية.. وفور وصولها لذلك السطح، رأت لؤلؤة التي جلست على حافة السطح المقابل كما تفعل كلما تهربت من أعبائها وهي تتأمل السماء الغائمة التي التهبت بأنوار الغروب الدانية.. فأسرعت إليها رنيم وقالت بلهفة "لؤلؤة.. لقد عثرت عليه أخيراً.. إنه هنا، في هذه المدينة.."
نظرت لؤلؤة باهتمام لرنيم متسائلة "ذاك الرجل الذي تبحثين عنه؟.. هل وصل على ظهر إحدى السفن؟"
قالت رنيم بانفعال وصوت مرتجف "أجل.. رأيته يصل قبل قليل، لكنه كان في حالٍ يرثى لها.. رباه.. ما الذي فعلوه به في الأيام الماضية؟"
ودارت في موقعها وهي تضمّ قبضتيها وتقول بتوتر "عليّ أن أفعل شيئاً قبل أن يغيب مرة أخرى.. يجب أن أنقذه مما هو فيه ومن الجنود الذين يحيطون به.. لكن كيف سأفعل ذلك؟.."
سألت لؤلؤة بدهشة "ما الذي ستفعلينه وأنت وحيدة؟.. أليس محاطاً بالجنود كما تقولين؟"
هتفت رنيم بانفعال "لكنني يجب أن أفعل شيئاً.. سأفعل أي شيء لإخراجه.."
ابتسمت لؤلؤة لرؤية انفعالها، ثم تساءلت "أتحبينه؟"
نظرت لها رنيم بدهشة للحظات، ثم قالت بارتباك "أحبه؟.. لا.. ليس هذا ما هنالك.. ما الذي أوحى لك بذلك؟"
قالت لؤلؤة ضاحكة "آثار الدموع في عينيك، والانفعال في ملامحك لرؤيته من جديد.. مما عرفته منك أنه شخص غريب لا تربطه بك أي علاقة، فلم هذا الانفعال للقائه مجدداً؟"
قالت رنيم منفعلة "أخبرتك أنني أبحث عنه منذ وقت طويل.. أنا أدين له بالكثير، ولم أتمكن من التخلي عنه بهذه البساطة.."
علقت لؤلؤة بابتسامة "وتتوقعين مني تصديق ذلك؟.."
فقالت رنيم بإصرار "ليس الأمر كما يخيّل إليك.. هذا مؤكد.."
وجلست جانباً بصمت وشيء من الانفعال، بينما مالت لؤلؤة ببصرها إليها متسائلة "أهو وسيم؟.."
نظرت لها رنيم بشيء من الضيق، ولؤلؤة مستمرة في تساؤلاتها "لابد أن يكون كذلك.. أهو رقيقٌ معك؟.. وهل يحبك؟"
قالت رنيم بانفعال "أخبرتك أن الأمر ليس هكذا.."
ضحكت لؤلؤة معلقة "لا بأس يا صغيرتي.. لا داعي لكل هذا الانفعال.."
سادهما الصمت وهي تتأمل السماء الغائمة من جديد، ثم علقت "هل سترحلين بعد أن تلتقي به؟"
نظرت لها رنيم بقلق، ثم غمغمت "هذا لو تمكنت من إخراجه من السجن الذي هو فيه.."
فقالت لؤلؤة بقلق "لا تخاطري بنفسك يا فتاة.. هو رجل، ويمكنه تدبر أموره جيداً.. أما أنتِ، فلو قبضوا عليك فسيسجنونك أو يبيعونك كجارية.. ولن تطيقي ذلك بتاتاً، صدقيني.."
نظرت لها رنيم بشيء من الإشفاق، ثم قالت لها "لمَ لا تهربين معنا يا لؤلؤة؟"
نظرت لها لؤلؤة بدهشة، ثم قالت ضاحكة "وهل أثق بأنك ستتمكنين من الهرب مع ذلك الرجل كي أنضمّ إليك أنا أيضاً؟"
قالت رنيم بلهفة "لكنني أملك وسيلة مضمونة.. تعالي معي، وسأعيدك لموطنك بالتأكيد.."
هزت لؤلؤة رأسها بابتسامة مريرة وقالت "لا أظن ذلك ممكناً.. لم يعد لي مكان هناك، ولا أرغب بتجربة حظي بعد كل تلك السنين.."
ثم اتسعت ابتسامتها شيئاً ما مضيفة "ثم إن لي ابنة في هذا المنزل لا يتجاوز عمرها تسع سنوات.. ولا أريدها أن تخوض تجربة كالتي خضتها مع انتقالي من موطني لوطنٍ غريبٍ عني.. هنا هي مواطنة من الكشميت ولها حقوق ويحترمها الجميع.. لكن هناك، ستظل غريبة مكروهة ومنبوذة من الجميع.."
نظرت لها رنيم بأسىً، ثم مدت يدها عبر المسافة القصيرة التي تفصل الجدارين وقبضت على يدي لؤلؤة بشدة قائلة "سأظل شاكرة لك يا صديقتي لكل ما قدمته لي.. بودّي لو أعدتك لموطنك، لكن لا يمكنني فعل ذلك رغماً عنك.. لكني سأذكرك على الدوام يا لؤلؤة.."
شدّت لؤلؤة على يدها بدورها قائلة "كوني بخير يا صغيرتي.. ولا تخاطري بحياتك فيما لا تقدرين عليه.."
لم تعلق رنيم على ذلك وهي تبتسم لها ابتسامة صادقة، ثم استدارت مغادرة من حيث أتت.. هي مغامرة غير محسوبة العواقب حقاً، ولكن مع كاجا فإن الكثير من الصعاب يتم تذليلها بكل سهولة..


*********************
مضت عدة ساعات وآرجان جالس في ذلك السجن بقيد يقيّد يديه متباعدتين في الحائط بحيث لا يمكنه تحريكهما ولا شدهما بعيداً، ولا يقدر حتى على الوقوف.. لا يدري ما يُراد لهم ولا يدري لأي مكان يُساقون.. الحسنة الوحيدة لوصوله لهذا المكان أنه سيعرف، عندما يصل لنهاية الطريق، السبب الذي لأجله اختُطف هو وبقية الهوت.. السبب الذي لأجله لم تعُد جايا لقريتها ولشقيقها بعد هربها من (الزهراء)..
كان الجنود، بعد أن سجنوهم في هذا المكان، قد اختفوا في جانب آخر منه مطمئنين أن السجناء لن يقدروا على المقاومة والهرب.. ولم يعبأ أحد بحالهم ولا بالذين فقدوا وعيهم بسبب الضربة القوية التي تلقوها على رؤوسهم في السفينة.. وبينما كان آرجان يقاوم لئلا يفقد وعيه لشدة تعبه، بعد أن أوغل الليل وساد الصمت خارجاً، سمع صوتاً خافتاً يأتي من بعيد.. لم يعبأ للأمر في البدء وهو يشعر بغشاوة سوداء تغطي عينيه بشكل شبه تام.. عاد الصوت يتردد بهمس وانتبه بعد لحظة أنه ينادي باسمه.. فزالت الغشاوة على الفور وحواسه تعود له بقوة وهو يرفع رأسه متطلعاً لمصدر الصوت بدهشة.. كان الصوت خافتاً، لكن أن يسمع نداءً باسمه بصوت أنثوي في هذ المكان المحاط بالجنود، فلابد أن يثير ذلك في نفسه تعجباً كبيراً..
رأى عند مدخل المكان جسداً يغلفه الظلام وهو يتقدم متلفتاً حوله.. ثم لم يلبث أن رآه بشيء من الوضوح عندما اقترب منه، عندها تمكن من رؤية ملامحه رغم الظلام السائد وصدم لدى تعرفه على رنيم التي تسارعت خطواتها نحوه وهي تنادي اسمه بلهفة.. اتسعت عيناه بدهشة يغلب عليها الاستنكار وهو واثقٌ أنه يهذي.. أكانت الضربة التي أصابت رأسه بهذا السوء حتى هيأت له تلك الهلاوس البصرية السمعية العجيبة؟.. ظل على استنكاره حتى وجدها تهبّ إليه فتركع قربه وهي تحيط عنقه بذراعيها وجسدها يرتجف.. لقد فوجئت عند رؤيته بالتغيير الذي أصابه حتى أصبح شخصاً آخر لا يشبه آرجان إلا في الصوت فقط.. لقد نَحِل جسمه وبدت ضلوعه بارزة شيئاً ما.. واختفى البريق من عينيه بينما شحب وجهه وأصبح في حالٍ يرثى لها..
كان قيد يدي آرجان يمنعه من تحريكهما نحو رنيم، فاكتفى بأن أدار وجهه نحوها وهو يقول برفق "هذه عاطفة لم أتوقعها منك بتاتاً.. يبدو أنني فعلاً أرى هلاوس لا يصدقها العقل.."
تراجعت رنيم وهي تهمس بعينين دامعتين وصوت متهدج "أنا آسفة يا آرجان.. لم أصدق أنني سأعثر عليك حقاً بعد كل هذا الوقت، لذلك غلبني انفعالي.."
ابتسم آرجان وهو يتأمل ملامحها التي تغيّرت عن آخر مرة رآها فيها، وقال "ليس عليك الأسف لهذا.. فلا أسعد مني اليوم برؤيتك يا رنيم.."
تخضّب وجهها بشيء من الحمرة وهي تتذكر تساؤلات لؤلؤة لدى رؤية انفعالاتها.. هل سيظن بها آرجان الظنون ذاتها مع تصرفها هذا؟.. نفضت تلك الأفكار وتشاغلت بالنظر لقيد يديه قائلة "علينا إخراجك قبل عودة أحدهم.."
واتجهت إلى إحدى يديه محاولة نزع القيد عنها، بينما قال آرجان "كيف تمكنت من الوصول إليّ بعد كل هذا الوقت؟.. بل كيف قطعتِ كل هذه المسافة وحيدة؟"
قالت بسرعة "لم أكن وحيدة.. كاجا معي حتى الآن.."
غمغم وهو يراقبها "يبدو أن ولاء ذلك الشقي قد أصبح لك أكثر مما هو لي.. فهو لم يأتِ إليّ رغم أنني ناديته مراراً في سهول الأكاشي.."
قالت وقد راودها شعور بالذنب "ربما لأنه كان ينقذني من الأكاشي في ذلك الوقت.. لذلك لم يتمكن من اللحاق بك قبل رحيلك على ظهر السفينة.."
تساءل بتعجب "كيف تمكنت من التسلل لهذا المكان دون أن يراك الجنود؟"
قالت بتوتر وهي تحاول التخلص من أحد قيوده دون فائدة "لقد هبط بي كاجا على سطح هذا المبنى.. وعثرت على سلالم جانبية تؤدي لنافذة علوية تسللت منها لهذا المكان دون أن يقابلني أي جندي.. فهم متجمعون في جانب من هذا المبنى بكل إهمال وهم واثقون من عدم قدرتكم على الفرار وعدم وجود من يمكن أن يفكر بتهريبكم.."
ثم نظرت لوجهه المتعب مضيفة "لقد تحايلت كثيراً لأقدر على البقاء في الميناء ومراقبة السفن دون أن أثير الشبهات طوال الأيام الطويلة الماضية.. الحمدلله أن جهودي وانتظاري قد أثمرا في النهاية.."
فقال آرجان بابتسامة متعبة "يبدو أنك قضيت أوقاتاً صعبة في هذه المدينة بانتظاري.. وأنا آسف لذلك بالتأكيد.."
قالت بتوتر "ليس هذا هو المهم الآن.. خلال وقت قصير سيعود الجنود ويكتشفوا وجودي هنا.. علينا الرحيل بك قبل ذلك.. كاجا ينتظرني في موقع قريب وسأناديه فور أن نخرج من هذا المكان.."
قال آرجان بحزم "مهلاً.. لديّ اقتراحٌ أفضل من هذا.."
نظرت له بحيرة، فقال "فلتهربي أنتِ.. عودي إلى كاجا وغادري هذا المكان قبل أن يراك أحد.."
تساءلت رنيم بحيرة مستنكرة "لماذا؟.. هل تريد مني التخلّي عنك؟"
قال بإصرار "لا.. أريدك أن تعاونيني عندما أحتاجك.. ولستُ أحتاجك الآن.. استمعي لما أقوله ونفذيه بسرعة فلا نملك المزيد من الوقت.."
استمعت رنيم له بتوتر لا محدود وهو يستطرد "أريدك أن تتبعيني حيث يقتادني الجنود دون أن تلفتي أنظارهم.. وبعد أن نصل لوجهتنا الأخيرة، ويسمع كاجا إشارتي، سيتدخل ويعينني على الفرار من ذلك المكان مع بقية الهوت الذين تمّ أسرهم من قِبَل الكشميت.."
قالت باعتراض "لماذا؟.. تريد منهم أخذك للموقع الذي يسجنون فيه الهوت؟.. هذه خطوة خطيرة جداً.. قد لا أتمكن من معرفة موقعك وإنقاذك بها.."
قال آرجان بإلحاح "هذا هو السبيل الوحيد لمعرفة سبب كل ما يجري.. أنتِ لديك ميزة تفوّق عليهم بامتلاكك لكاجا.. يمكنك الطيران فوقنا وملاحقة القافلة التي ستحملنا حتى نصل لنهاية الطريق.. ليس هدفهم إبقاؤنا في هذه المدينة وإلا لاصطحبونا إلى موقع أكثر أمناً من هذا الميناء.. إنهم ينتظرون من ينقلنا لموقع آخر، وأغلب ظني أنه في مدينة أخرى.."
دمدمت بغير اقتناع وهي تحاول تحريره "هذه خطة غير موثوق بها.. سأحررك، وبعدها يمكننا أن نلحق بأي قافلة أخرى حتى نصل لموقع الهوت السجناء ونحررهم.."
قال آرجان "أرجوك يا رنيم.. افعلي ما أطلبه منك.. اهربي قبل قدوم الجنود وقبل أن يتم القبض عليك.."
نظرت لوجهه بتوتر وقلق، فقال مشجعاً "ثقي بي.."
اعترى الضيق وجهها لكنها لم تعترض وهي تنهض وتتلفت حولها، ثم قالت له "سأثق بك بكل تأكيد.."
وغادرت بخطوات خافتة وآرجان يراقبها حتى غابت عبر الباب.. عندها سمع صوت أحد الرجال من الهوت ممن كان مستيقظاً يقول له "أأنت أحمق؟.. كيف تضيّع فرصة نادرة للهرب؟.. لن تحصل على فرصة غيرها أبداً.."
قال آرجان زافراً "لم أكن أريدها أن تخاطر ببقائها هنا لوقت أطول، وما من وسيلة لفك قيودنا بالفعل دون مواجهة الجنود.. كما أنني راغب بشدة في معرفة ما يخطط له الكشميت بعد كل هذا.."
نظر له الرجل مقطباً باعتراض صريح، فأضاف آرجان "بعدها، يمكننا أن نهرب بمعاونة كاجا.. هذا شيء لن يكون عسيراً على تنين مثله.."
أطلق الرجل ضحكة هازئة، بينما لم يعلق آرجان على هذا.. هي بالفعل خطة تحفها المخاطر، لكن هل يمكنه أن يتخذ طريقاً آخر؟..
بعد خروجها من ذلك الموقع، تلفتت رنيم حولها في الممر المؤدي لموقع آخر من ذلك المستودع الواسع، ثم عادت أدراجها من حيث أتت نحو الجانب المعاكس للمخرج.. وعبر ذلك الممر، ومنه خرجت من نافذة جانبية لتجد أمامها عدداً من السلالم التي تؤدي لسقف ذلك المستودع.. فركضت عبرها وهي تتلفت حولها بحذر.. وفي الأعلى، استدعت كاجا بصفير من فمها ليسرع إليها ويهبط على السطح قربها.. زفرت رنيم وهي تنظر للمستودع، والميناء الساكن في ذلك الوقت المتأخر من تلك الليلة، ثم امتطت ظهر كاجا وغادرت بهدوء وصمت مستترة بالظلام السائد كما جاءت.. يبدو أن رحلتها الشاقة لن تنتهي بالسهولة والسرعة التي تمنتها..


*********************
في فجر اليوم التالي، وقبل أن تشرق الشمس وتنير السماء، وبينما رنيم قابعة فوق سطح منزل قريب من الميناء دون أن يلاحظها سكان المدينة، رأت الجنود يخرجون السجناء ويقتادونهم لعربات وقفت في جانب ذلك الطريق.. كانت عربتان خشبيتان تقودهما الأحصنة وعليها غطاء قماشي يحجب نور الشمس والأعين الفضولية عنها.. وبعد صعودهم إلى العربة، قام جنديان بالصعود خلفهم مجهزين ببنادقهم، وقام آخران بالصعود في مقدمة كل عربة ليقوداها في تلك الرحلة..
أسرعت رنيم تمتطي ظهر التنين الذي قبع قربها على السطح بسكون، ولما بدأت المركبات بالتحرك وابتعدت في طريقها الذي يقطع المدينة نحو أحد بواباتها، دفعت رنيم التنين للطيران والارتفاع بعيداً عن الأعين مستغلة الظلام السائد قبل شروق الشمس وهي تلاحق القافلة الصغيرة.. وسرعان ما رأتها تنضمّ لعربات أخرى حتى تجاوز عددها التسعة، وإن كان بعضها مكشوفاً ومحملاً بصناديق عدة..
خرجت القافلة من بوابة القلعة الجنوبية دون أن تجد أي عسر في تجاوز الجنود، وبدأت سيرها في تلك السهول المحيطة بالقلعة وعلى طول ذلك اللسان الذي اخترق البحر مكوناً خليجاً ضيقاً استعمرت العاصمة (كاشتار) نهايته.. وبعد سير بطيء والشمس قد ارتفعت وسط السماء، بدأت السهول الخضراء بالانحسار وحلّت محلها مساحات صخرية ورملية عظيمة.. بدت تلك المساحات الصفراء لعيني رنيم أشبه ببحر شاسع من الرمال امتد حتى الأفق.. ولولا حرارة الشمس التي أشعرتها بتعب كبير خلال وقت قصير، لكانت رنيم مستمتعة بما تراه للمرة الأولى في حياتها.. هذه خبرة جديدة تراها في رحلتها العجيبة هذه.. بحر من الرمال.. وقمم ثلجية.. أنهارٌ تخترق جبالاً عصيّة.. ومساحات لا نهائية من المياه المالحة.. لقد رأت تنوعاً كبيراً في الطبيعة من حولها بحيث أنها كلما رأت شيئاً جديداً، عاشت الانبهار ذاته وشعرت أنها لن ترى ما يفوقه روعة..
انتبهت رنيم من تأملاتها على صوت كاجا وتململه بشدة.. بدا يعاني عسراً في الطيران في هذه الحرارة التي تزايدت مع كل ساعة تمضي من هذا النهار.. فهو يعيش في جو أشد برودة من هذا، وقد لا يتحمل جلده الثخين هذه الحرارة القاسية.. كما أن اضطرارهما للحاق بالقافلة دون توقف، على مبعدة لئلا يلفتا الأنظار إليهما، جعل حصولهما على بعض الراحة أمراً صعباً..
أخيراً، عقدت رنيم عزمها فجذبت لجام كاجا ودفعته للتحليق بدورة واسعة بعيداً عن القافلة حتى تجاوزاها بمسافة كبيرة.. عندها سمحت للتنين بالهبوط قرب تشكيلٍ صخري ينتصب وسط الرمال ويلقي بظلٍ في مساحة محدودة قربه.. فور هبوطهم، لجأت رنيم للظل وهي تزفر بشدة، بينما دار كاجا بضيق شديد وهو يزمجر.. ولما اقترب منها صبّت بعض الماء في حلقه من القربة التي تحملها مغمغمة "تحمّل قليلاً يا صاحبي.. ستلتقي بصاحبك بعد قليل بإذن الله تعالى.."
لجأ التنين للظل الذي لا يغطي إلا مساحة صغيرة نسبة لارتفاع الشمس في السماء بشكل عمودي، بينما جلست رنيم قربه مستشعرة حرارة الرمال وانعكاس نور الشمس عليها بشكل قوي.. وبعد راحة ساعة أو يزيد قليلاً، عادت مع كاجا للارتفاع والبحث عن القافلة التي لم تتجاوزهم بمسافة كبيرة..
سارت القافلة دون توقف إلا لأوقات قصيرة في كل مرة، متخذة طريقاً بدا واضحاً لعيني رنيم وهو يقطع جانباً من الأرض الصخرية تلك، بينما ارتفعت التلال الرملية في جزء آخر من الصحراء على شكل جبال صغيرة الحجم وهي تبدو من الأعلى كأمواجٍ ثابتة لا تتحرك..
عند نهاية ذلك النهار، انتبهت رنيم في تحليقها لتلك القلعة السوداء التي انتصبت وسط الصحراء وفي جانب صخري منها بحيث تبدو بارزة بشدة مع لونها المعاكس للون الأرض تحتها.. كانت قلعة متوسطة الحجم، من حجارة سوداء وبوابة واحدة هي عبارة عن جسر خشبي مدعم بالحديد يرتفع ليغلق البوابة ويمنع أي هجوم عليها.. ويحيط بالقلعة من الخارج خندق عميق يحوي تشكيلات من الصخور مدببة الأطراف لمنع أي كان من محاولة الوصول لسورها من الخارج.. ورغم ذلك، كان سورها عالياً يتجاوز عشرة أمتار على الأقل، ويحوي خمسة أبراج للمراقبة ترفرف عليها أعلام كشميت الضخمة..
نظرت رنيم للقعلة من بعيد دون أن تجرؤ على الاقتراب مغمغمة "ما بال هذه القلعة الحصينة؟.. إنها غريبة المنظر بشكل يثير في نفسي توجساً كبيراً.."
لاحظت أن القافلة قد اقتربت من القلعة وبدأ الجسر الخشبي بالنزول استعداداً لاستقبالها في قلب القلعة.. فدارت رنيم بكاجا على مبعدة ودفعته للنزول على تشكيل صخري يمكنه أن يسمح لها بمراقبة المكان دون أن يكشف وجودها.. ومع الشمس الغاربة التي تلقي بنورها الأحمر على القلعة، ومع الظلال التي تطاولت وهي تمتد لمسافة طويلة، فإن توجس رنيم ازداد أكثر فأكثر وهي صامتة تراقب المكان الذي غرق في صمته بعد أن أغلق الجسر الخشبي بدويٍ هز المكان..
ربتت رنيم على كتف كاجا قائلة "لنسترح يا كاجا.. سننتظر إشارة من آرجان أو سنحاول التسلل بأنفسنا للقلعة هذه الليلة.."
ناولته جزءاً من الطعام الذي أحضرته معها تحسباً لأي طارئ، لئلا تقع في نفس الخطأ السابق.. لكن كاجا زمجر باعتراض ثم أقلع بحثاً عن طريدته بنفسه رغم الصحراء القاحلة التي تحيط بهما.. أما رنيم، فقد وقفت بتوتر وهي تراقب القلعة الصامتة دون كلل لوقت طويل.. خشيت أن يحاول آرجان استدعاء كاجا في هذا الوقت، فلا يسمعه كاجا لو ابتعد أكثر من هذا.. عندها، ستضطر للتدخل بنفسها محاولة التسلل وإنقاذ آرجان مع بقية الهوت.. وهي مخاطرة كبيرة لتقوم بها وحدها دون أن تملك خبرة كافية..


*********************
عند وصول القافلة لقلب القلعة السوداء، توقفت وسط الساحة الحجرية الواسعة التي تتوسطها.. كانت تلك القلعة الغريبة تتكون من السور العالي الذي يحيط بالمكان كله، ووسط السور ساحة حجرية واسعة استقرت عربات القافلة فيها، بالإضافة لبئر في جانب المكان يوفر للجنود مصدراً دائماً للمياه العذبة.. وفي بضع جوانب منها رأى آرجان عدداً من المباني متوسطة الارتفاع بعضها لا يتجاوز الطابق وبعضها طابقين أو ثلاثة، وفي جانب آخر عدة أكواخ حجرية بدا أنها تستخدم كمستودعات للقلعة..
هبط الجنود الذين صاحبوهم في هذه الرحلة، واقتادوا الهوت المقيدين عبر الساحة إلى مبنىً جانبي يبدو أكبر من البقية وأكثر اتساعاً.. ظل آرجان يتلفت حوله محاولاً تقدير الوقت الملائم لاستدعاء كاجا حتى يتمكن من الهرب وتهريب بقية الهوت من هذه القلعة.. ما الذي يهدف له الكشميت حقاً من حمل الهوت كل هذه المسافة لموقعٍ ناءٍ مثل هذا؟.. ربما عليه الانتظار حتى يعرف السبب، ربما يمكنهم تفادي مثل هذه الحوادث مستقبلاً لو تمكنوا من معرفة سببها..
وصل بهم الجنود لباب ذلك المبنى الخشبي الذي كان يرتفع ارتفاعاً يتجاوز الأبواب العادية.. كان ذلك المبنى من الداخل عبارة عن مستودع كبير عالي السقف، فارغ من أي أدوات أو معدات أو حتى صناديق وأوعية.. وفي وسط المبنى، رأى آرجان ما صدمه بشدة وجعل حاجبيه يرتفعان بدهشة غامرة.. وكما ندّت أصواتٌ مستنكرة من بقية الهوت، فإن آرجان غمغم بانفعال "ما هذا؟.."
ففي وسط ذلك المبنى، رأى الهوت تنيناً بلون أسود والحراشف تغطيه، فمه مدبب ولسانه المشقوق يتدلى منه، بينما جناحاه اللذان يشبهان جناحا الخفاش قد أصيبا بعدد من السجحات والجراح العميقة بسبب محاولاته المتكررة للطيران والإفلات من سجنه على مدى وقت بدا طويلاً لآرجان.. لكن السلاسل الحديدية التي تحيط بعنقه وجسده بشكل محكم لا تمنحه الفرصة لذلك..
أما عينا التنين، فقد كانتا باهتتان وهو مستلقٍ جانباً يصدر صيحاتٍ بصوت ضعيف ويبدو مريضاً بشدة.. مما زاد استنكار آرجان الذي صاح بالجنود القريبين "ما الذي تريدونه من هذا التنين؟.. أنتم ستقتلونه.."
سمع صوتاً من خلفه يجيب "أتظن أننا تكبدّنا مشقة إحضاركم لهذا المكان لكي نقوم بقتل هذا التنين؟"
التفت آرجان بعد أن سمع تلك الجملة بعربية سيئة جداً، فرأى رجلاً أثار توجسه أكثر من بقية الجنود جميعهم.. كان الرجل، كما هم الكشميت ذوي الدماء الأصيلة، ببشرة بيضاء شاحبة وشعر أشقر يميل للبياض بطول يصل للكتفين وقد سرّحه للوراء بإحكام، وحاجبين شقراوين.. بينما عيناه رماديتان باردتان وفمه رفيعٌ قاسٍ وذقنه مدببة.. ملابسه على النقيض منه سوداء منسدلة كعباءة واسعة تغطي جسده كله، ولا يظهر إلا ذراعاه بقميص أبيض وتزين أصابعه العديد من الخواتم الفضية بالأحجار الكريمة..
اقترب الرجل الذي وقف بقية الجنود باحترام لدى وصوله، فوقف أمام الهوت قائلاً وهو يفرد ذراعيه "أرحب بكم في قلعة (جمجات).. هذه القلعة ستكون موطناً لكم لوقت طويل، وحتى تنتفي حاجتنا إليكم.. وأنا أميركم هنا، لذلك أنتم تدينون لي بالطاعة ما حييتم.."
قال أحد رجال الهوت بغلظة "موطننا نعرفه تمام المعرفة، ولا وطن آخر لنا.."
قال الأمير بابتسامة "لم يعُد هذا صحيحاً منذ هذه اللحظة.."
تساءل آرجان مقطباً "ما هي حاجتكم لنا؟.. وما الذي ستفعلونه بنا بعد حصولكم على ما تريدونه؟"
قال الأمير بهدوء "هذا يعتمد على مزاجي عندما يحدث ذلك.. لو كنت أملك مزاجاً رائقاً، فقد أفكر بالإبقاء عليكم.. أما لو كنت بحالٍ أخرى، فلا أحد يدري عندها ما سيجري لكم.."
ثم تقدم خطوة منهم قائلاً "والهدف من وجودكم بسيط جداً.. ولا أظنه يستعسر عليكم أبداً.."
وأشار خلفه مضيفاً "الهدف الوحيد من وجودكم في هذا المكان هو تطويع هذا التنين.. كل ما نريده من الهوت هو معرفة الطريقة الأفضل لتسخير تلك الكائنات وكسب ولائها غير المشروط.."
تزايد استنكار الرجال لهذا الطلب، ثم صاح أحدهم "هذا سُخف.. من قال إننا ننوي إعانتكم على هذا؟"
قال الأمير بهدوء "أنا لم أدفع فيكم مالاً لأحصل على هذه الإجابة.."
فصاح الرجل بحنق أكبر "ونحن لسنا عبيداً لأحد.."
ضحك الأمير وقال "هذا ما قاله من سبقوك إلى هذا المكان.. وها هي أجسادهم تجففها الصحراء في مقابرهم خارج القلعة.."
قطب آرجان بشدة وهو يستمع لما قيل.. هذا يفسد الأمور كلها، ويهدم خطته من الأساس.. لو حاول استدعاء كاجا الآن، فهذا سيمنح جنود هذه القلعة وأميرها فرصة ذهبية للحصول على تنين آخر، وسيفقد آرجان تنينه وصاحبه الذي عرفه منذ سنواتٍ طوال.. لذلك فخطته بأن يعتمد على كاجا في الهرب أصبحت مستحيلة التنفيذ.. عليه أن يبحث عن وسيلة أخرى، وأن يهرب هو والبقية دون الاعتماد على التنين.. لكن من قال إن الهرب من هذه القلعة الحصينة وسط الصحراء وفي قلب مملكة كشميت هو أمر سهلٌ ويسير؟..
سمع أحد الرجال يقول بسخرية "هل عجزت مملكة كشميت بكامل علومها أن تسخّر تنيناً واحداً؟.."
قال الأمير ببرود وهو يتطلع للتنين المريض "لم يكن تنيناً واحداً.. بل ثلاثة.."
نظر له الرجال بصدمة وهو يضيف بابتسامة جانبية "لقد فقدنا اثنان.. وهذا هو الثالث.. ولو لم نحصل على تعاونكم، فلا أظن التنين سيصمد لوقت طويل.. فهو يضعف مع كل يومٍ يمضي عليه هنا.."
نظر الهوت للتنين بشيء من الارتياع والأمير يقول "ولا أظن الهوت يحبون رؤية هذه التنانين تقضي نحبها حبيسة القيود.. أليس كذلك؟.. لو تعاونتم معنا، فسيستعيد هذا التنين حريته.. سيبقى في خدمتنا طبعاً، لكن لن تظل القيود تقيّد جناحيه بهذه الصورة.. هذا سيكون أفضل بالنسبة له.. أليس كذلك؟"
قال آرجان بحنق "أتظن ذلك حقاً؟.. لن يرضى التنين بخدمتكم، وسيموت بكل حال.. فما الذي ستجنونه من هذه الجريمة التي ترتكبونها بحق الجميع؟"
قال الأمير بحزم "لن يحدث ذلك.. قطعاً لن أسمح لهذا المشروع بأن يخسر بسبب عناد تنين أو بضع رجال هم أقرب للرعاع غير المتحضر.. أنتم ستتجاوبون معنا، بإرادتكم أم رغماً عنكم.."
وبإشارة من يده، وجد الهوت الجنود يسحبونهم بعيداً عن المبنى وهم يتبعونهم مصدومون لما رأوه.. وفي الساحة، تطلع آرجان للسماء بمزيج الصدمة والقلق.. لقد أصبح الوضع أعقد مما ظنه عليه.. لم يعد الأمر يتضمن تهريب الهوت من قبضة الكشميت، بل تقويض هذه القاعدة التي سخّرها الكشميت لأسر التنانين وتطويعها رغم إرادتها.. وهو أمر لا يرضى الهوت به أبداً ولا يستسلمون له.. لذلك كان عليهم فعل شيء لإيقاف مثل هذا المشروع وصرف نظر الكشميت عن هذه الفكرة.. فكيف يمكنهم ذلك؟..


*********************
مضت ساعات طويلة على رنيم وهي قابعة في موقعها مع كاجا بانتظار أي إشارة من آرجان.. وكلما تحرك التنين فإن رنيم تنظر له بشيء من اللهفة لترى إن كان نداء آرجان قد وصل لأذنيه الحساستين.. لكنه كان يدور في موقعه بتململ في كل مرة ويبحث في القربة المرمية أرضاً عن مياه يطفئ بها عطشه.. ورغم قلقها من نفاذ مخزونهما من المياه، إلا أنها لا تلبث أن تستسلم لطلباته وتسقيه ما تقدر منها محاولة منعه من القضاء على كل ما يملكانه..
وبعد أن قارب الوقت منتصف الليل، دون أن يتحرك كاجا ملبياً أي نداء ودون أن تبدو أي حركة غريبة في القلعة التي غرقت في هدوئها وسط ظلام تلك الليلة، فإن رنيم أخيراً شدّت عزمها على التدخل والاقتراب من القلعة بحثاً عن آرجان بنفسها.. دارت رنيم بالتنين فوق القلعة مستغلة غياب القمر هذه الليلة وإعتامها بشكل شبه تام.. ورغم المشاعل التي أشعلت في جوانب عديدة من المكان، إلا أن تحليقها في موقع مرتفع يمنع الجنود من رؤيتها في الوقت الحالي.. ظلت رنيم تدقق البصر في تفاصيل القلعة من الأعلى مهتدية بضوء المشاعل بحثاً عن وسيلة لاختراقها وإنقاذ آرجان منها.. لكن مع وجود الأبراج في جميع الجهات على السور، يكون من الصعب على رنيم الهبوط وسط الساحة دون أن تلفت الأنظار.. فكيف يمكنها أن تهتدي لموقع آرجان وتسعى لإنقاذه الآن؟.. تمنّت لو يرسل الإشارة المتفق عليها، وهو الصفير الذي يستدعي به كاجا عادة، لكي تعرف موقعه على الأقل.. بعدها يمكنها بكثير من الحظ أن تصل إليه وتخرجه دون خسائر..
فوجئت في تلك اللحظة بكاجا يطلق صيحة عالية، فنظرت إليه وقالت بتوتر "اصمت يا كاجا.. ستكشفنا بسهولة في سكون هذه الليلة.."
لكن كاجا الذي دار حول القلعة بسرعة أطلق صيحة مزمجرة أخرى بدا لرنيم أنها أعلى من السابق.. وبينما تلفتت في الأسفل بقلق، لاحظت أن الجنود يبحثون عن مصدر الصوت بدهشة وتحفز.. فقالت "اهدأ يا صاحبي.. ما الذي يقلقك هكذا؟"
فوجئت بأن التنين بدأ هبوطه نحو القلعة بسرعة كبيرة، فحاولت جذب لجامه وهي تصيح "ليس الآن يا كاجا.. سيكونون في انتظارنا بعد أن جذبت انتباههم بصياحك.."
لكنه لم يعبأ لاعتراضها وهو يهبط بقوة وسرعة، ثم رفرف بجناحيه قبل وصوله للأرض بلحظات حتى خفف سرعته واستقر وسط الساحة بينما تعالى الصياح من حول القلعة.. تسارعت دقات قلب رنيم وهي تشد لجام كاجا وتتلفت حولها بشيء من الذعر.. بينما بدأ الجنود يتجمعون حول الساحة وهم حاملين أسلحتهم بتحفز ومحاصرين التنين.. لقد فوجئت رنيم بعصيان كاجا لأوامرها، ولا تعلم حتى اللحظة ما الذي وتره وجعله يسارع في اقتحام القلعة.. أهذا راجع لاستدعاء آرجان له؟..
حاولت أن تجبره على الطيران من جديد وقلقها يزداد للبنادق التي يحملها الجنود في أيديهم بتحفز وخشيتها من إصابة كاجا.. لكن كما أن كاجا رفض الانصياع لها من جديد، فإن الجنود رغم تحفزهم لم يحاولوا إطلاق النار عليه، كما لم يظهر عليهم رعب مشابه للذي تراه عادة على وجوه البشر لرؤية التنين، بل بدوا بتحفز كامل وكأن وجود التنين أمر طبيعي لا يثير فيهم أي ذرة خوف أو قلق..
غابت دهشة رنيم مع توترها للصياح الذي تعالى بين بعض الجنود وبعضهم يشير بيده، وكأنهم يبحثون عن وسيلة للإطاحة بهذا الدخيل مما أقلقها أكثر.. حاولت دفع التنين للرحيل وهي تصيح به "كاجا.. اهرب قبل أن يصيبوك ببنادقهم.."
ومع عصيانه مرة ثالثة، وجدته يضرب الأرض بقدمه ثم يتقدم بخطوات سريعة نحو جانب الساحة حيث بناءٌ أكبر من البقية يحتل جانباً من القلعة.. تدافع الجنود من أمام التنين بينما أطلق كاجا صيحة أخرى هزت جوانب القلعة.. وفي سجنه، كان آرجان يستطيع سماع صوت كاجا بوضوح، فاعتدل متلفتاً حوله رغم قيوده التي تمنعه من الوقوف، بينما قال رجل من الهوت ممن كان سجيناً معه "أهذا صوت تنين؟.."
قال آرجان بانفعال "ما الذي أتى بكاجا في هذا الوقت؟.. أنا لم أستدعِه بعد.."
تساءل الرجل بدهشة "أهو تنينك؟.. هذا خطير جداً.. إنه في مأزق الآن.."
قال آرجان بعصبية "هذا حق.. بعد كل ما رأيته هنا، أدركت الخطورة التي قد تحيق بكاجا لو حاول الاقتراب من هذه القلعة.. لذلك لم ألجأ لاستدعائه حتى الآن.."
وجذب قيوده بشدة مدمدماً بحنق "تباً.. وهذه القيود لا يمكن التخلص منها أبداً.."
قال الرجل بقلق "ما الذي ستفعله الآن؟.."
قال آرجان بتوتر "وما الذي يمكنني فعله؟.. ما الذي سيمنع هذه الكارثة الوشيكة؟.."
ورفع بصره للسقف المظلم وهو يدمدم بقلق شديد "لماذا عصيتِ أمري يا رنيم؟.. لماذا؟.."
في تلك الأثناء، كانت رنيم تجذب لجام كاجا بشدة وهو يتقدم من ذلك المبنى بإصرار.. ولما أطلق زمجرة حادة تبعتها صيحة شديدة، انتبهت رنيم لصوتٍ آخر يتجاوب مع صياحه.. بدا لها في البدء أنه صدىً لصوت كاجا، ثم أدركت أن الصوت أضعف وأقل حدة، وأنه يصدر من ذلك المبنى بالذات..
اقترب التنين من المبنى غير عابئٍ بالجنود وتحايل لتجاوز جدرانه الخشبية دون فائدة.. ثم استدار جانباً ولطم المبنى بقوة بجسده لطمة كادت تسقط رنيم من على ظهره.. فصاحت وهي تتشبث بالسرج جيداً "ما الذي تفعله أيها الأحمق؟.."
لم تعرف السبب الذي لأجله ثار كاجا بهذه الصورة، لكنها أدركت أن آرجان ليس في هذا المبنى.. الصوت الذي سمعته لم يكن يدل على وجوده، بل كان صوتاً مغايراً، صوتاً حيوانياً غريباً..
تراجع كاجا خطوتين ثم عاد يضرب الجدار بجسده بقوة، وفي هذه المرة وجدت رنيم نفسها تطير في الهواء لتسقط على الأرض الحجرية بعنف وجسدها يزحف لمسافة قصيرة قبل أن يسكن تماماً.. أنّت رنيم بألم محاولة الاعتدال وصوت الضربات يدوي من جديد، ثم سمعت خطوات الجنود تركض قربها وتتجاوزها، فاعتدلت رنيم جالسة تتطلع لما يجري.. رأت عدداً لا يقل عن خمس جنود يركضون نحو التنين ليتوزعوا حوله، وكل واحد منهم يحمل بندقية غريبة الشكل بفوهة عريضة.. اتسعت عينا رنيم بذعر بينما لم يلتفت التنين للجنود المحيطين به، وبعدما ضرب الجدار القريب من جديد بعنف، أطلق كل من الجنود طلقة من بندقيته نحو موقع يعلو موقعه لتنطلق قذائف كبيرة الحجم بشكل غريب فتنفجر بشكل محدود.. ومنها، ظهرت شباك رفيعة تلتمع خيوطها على ضوء المشاعل مما أوحى لرنيم أنها مصنوعة من معدنٍ خالص.. ولما فوجئ التنين بالشباك الخمس تسقط على رأسه وتقيد جناحيه، فإنه زمجر بغضب وهو يدور في مكانه ويطوّح يديه ويلف رأسه بقوة محاولاً الخلاص منها، لكن الأمر لم يكن هيّناً كما تصوّر..
وقفت رنيم وقد أدركت هدف الجنود من إلقاء الشباك، واندفعت نحو كاجا محاولة مساعدته للهرب قبل أن ينجحوا في القبض عليه.. لكن أقرب جندي إليها قبض على ذراعيها وأوقف اندفاعها وهو يصيح في وجهها بما لم تفهمه.. حاولت الإفلات وهي تصيح "اتركني.. ما الذي تنوونه لكاجا المسكين؟"
لكن الجندي لوى ذراعيها خلف ظهرها بقوة آلمتها وجعلتها تسقط على ركبتيها مرغمة.. ولما رفعت بصرها للتنين الذي صاح بغضب شديد وهياج أشد، فوجئت بأحد الجنود يحمل محقناً كبير الحجم غريب الشكل ويحقن السائل الذي فيه في فخذ كاجا بغفلة منه.. اهتاج كاجا بشدة لما جرى له، وبعد لحظات من الهياج والمقاومة، فإن قدما كاجا قد بدأتا تتعثران وتخبط في وقوفه وهو يطوّح رأسه يميناً ويساراً قبل أن يسقط بدويٍ مرتفع على الأرض الحجرية ويسكن تماماً إلا من أنين خافت يصدر من حلقه..
صاحت رنيم وهي تقاوم الجندي "ما الذي تنوون فعله بالتنين؟.. أطلقوا سراحي.."
لكن الجندي الذي لم يفهم قولها قد أنهضها بقوة وجذبها بعيداً نحو مبنىً آخر في الجانب المعاكس من القلعة، وبينما سارت رنيم معه مرغمة فإنها تلفتت خلفها نحو التنين الذي خفتت حركته بشكل تام.. عندها بدأ الجنود بربطه بسلاسل حديدية وسحبه نحو موقع آخر من القلعة لسبب لا تعلمه رنيم ولم تفهم مغزاه أبداً.. وبينما كان الجندي يشدّها خلفه بقوة، فإن رنيم شعرت بقلبها يغوص في صدرها لشدة قلقها على ما سيجري لكاجا، ولشعورها أنها قادت التنين للأسر بيديها الاثنتين وبقلة خبرتها المريعة..


*********************




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-12-15, 11:18 AM   #16

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



الفصل الرابع عشر: مقبرة جمجات


بعد أن اقتيدت رنيم نحو ذلك المبنى في جانب القلعة، أدخلها الجندي إلى غرفة في طابق علوي في المبنى ذات نافذة عريضة تطلّ على الساحة وما حولها.. كان المبنى من الداخل أكثر تطوراً وتحضراً مما بدا عليه من الخارج.. فللمرة الأولى ترى رنيم مصابيح غاز بهذا الشكل المتطور وترى بنادق الجنود الغريبة التي تختلف تمام الاختلاف عن البنادق المعتادة في بقية أرجاء العالم.. لاحظت بضع أشياء دلّتها أن حبّ الكشميت للعلوم والتطوير لم يكونا مجرد ادعاءٍ لا معنى له..
ولما دلفت الغرفة مع الجندي، رأت رجلاً يقف في الجهة التي تحتل النافذة العريضة أغلب ذلك الحائط، وقد أدار لها ظهره مراقباً ما يجري في الساحة بصمت.. وبعد أن تبادل الجندي معه بضع كلمات، فإنه أجبر رنيم على الجلوس على أحد الكراسي وقام بتقييد يديها بقيد حديدي وهي تتلفت حولها بقلق ممتزج بشيء من الفزع.. كيف ستتفاهم مع هؤلاء الكشميت؟.. بل الأسوأ من ذلك، كيف ستتخلص منهم وهم على ما هم فيه من كره للعرب ولمملكة بني فارس بالتحديد؟..
رأت ذلك الرجل يلتفت إليها بصمت ويتأملها بملامح جامدة.. فتأملته رنيم بشيء من التوجس، ثم قالت بحيرة "هل.. هل يعرف شخص هنا العربية؟"
ثم دمدمت وهي تتلفت حولها "يا إلهي.. كيف سأتفاهم مع هؤلاء؟.."
أتاها صوته يقول ببرود "هؤلاء.. يعرفون من لغتك ما يكفي لطرح هذا السؤال عليك.. ما الذي تفعله عربية في وسط مملكة كشميت وفي قلب قلعة (جمجات) المرهوبة من الجميع؟"
نظرت له بدهشة وقد فهمت ما يقوله رغم لغته السيئة، فقالت بتردد "أنا.. أنا لست عربية.. أنا من الهوت.."
نظر لها الرجل باشمئزاز قائلاً "وتظنين أنك تستطيعين خداعي؟.. ملامحك البلهاء تدلّ على هويتك بوضوح..كفي عن الكذب وأجيبيني.. ما الذي تفعله فتاة عربية وسط هذه القلعة؟.."
ومال تجاهها قائلاً بصرامة "والأهم من ذلك.. ما الذي تفعله فتاة عربية على ظهر تنين؟"
تذكرت ما فعله الجنود بالتنين، فقالت بتوسل "ما الذي تنوون فعله بالتنين يا سيد..؟.. أطلقوا سراحه رجاءً.."
قال الرجل بأنَفَة "نادني بمولاي الأمير.."
ترددت للحظات، ثم قالت "أنتَ لست مولاي ولن تكون.. أيها الأمير.."
نظر لها بنظرة جامدة لا تظهر الغضب الذي يشعر به، ثم دار حولها معلقاً "التنانين، كما أعرف، لا تطاوع أي شخص سوى الهوت.. لذلك، كانت صدمتي كبيرة عندما عرفت أنك عربية رغم اختراقك لأسوار القلعة على ظهر ذلك التنين.. فكيف تمكنت من تطويعه؟.. ما الذي فعلته لجعله يغضّ البصر عن هويتك الحقيقية؟.."
بدا لها مهتماً لأمر التنين أكثر من اهتمامه بسبب وجودها هنا.. فقالت بتوتر "لن أجيب على سؤال كهذا.. أطلق التنين ودعني أرحل.."
قال الأمير بابتسامة ساخرة "المفترض أن تكفّي عن طلبٍ سخيفٍ كهذا.. أظننت أننا سنعتذر لك بكل تحضر ونطلقكما مع تمنياتنا لكما برحلة موفقة؟.."
لم تتوقع رنيم هذا، لكنها لم تتردد وهي تقول "رغم ذلك.. لن تحصل مني على أي إجابة.. لذلك إطلاقي خيرٌ من سجني بدون أي فائدة.."
نظر لها الأمير ببرود شديد وهي تبادله النظرات متحدية، ثم قال "إن لم أحصل على إجابات لأسئلتي فسأسلمك لرجالي لتقومي بتسليتهم قليلاً.. هذا المعسكر يحوي سبعون جندياً على الأقل.. ستكون أوقاتاً طويلة وممتعة حقاً بالنسبة لك.."
صاحت رنيم بحدة "أهذا كل ما يفلح الرجال بفعله؟.. هل تهديدي والتعدّي علي سيريحكم ويمنحكم نوماً هانئاً هذه الليلة؟.."
قال الأمير بهدوء "لكي تعرفي أنني لن أتوانى عن فعل أي شيء للحصول على إجابات.. ولا يهمني ما سيجري لك قيد شعرة.."
تراجعت رنيم خطوة مقدرة ما ستخسره، فقال لها "ما الذي جاء بك لهذه القلعة بالذات في مثل هذا الوقت؟.. أهو أمرٌ يخصّ الهوت؟.. أم التنين؟.."
نظرت له بدهشة واضحة، ثم اندفعت تقول "أنتم تحتجزون تنيناً لديكم.. أليس كذلك؟"
ظل على صمته وهو يستمع لها، فقالت بجرأة أكبر "لهذا السبب ثار كاجا وبدأ يضرب جدران ذلك المبنى.. لقد سمعت صوت تنينٍ آخر من ذلك المبنى رغم ضعف صوته.. فكيف وضعتم يدكم عليه؟.. وما السبب الذي لأجله تحتجزونه هنا؟"
ثم أضافت باهتمام أكبر "ولهذا السبب أنتم تختطفون الهوت.. أليس كذلك؟"
وجدتـه يقـبض على مجمع ملابسها ويرفعها قائلاً بلهجة باردة حملت شيئاً من الاستنكار "هل تستجوبينني؟"
نظرت له بتوتر لا محدود، فأطلقها بقوة وهو يقول بصرامة "ما الذي جاء بك للقلعة؟.. أأنت جاسوسة لملك بني فارس؟"
قالت بسرعة "لا.. لست كذلك.."
ثم بشيء من التردد قالت "لقد أتيت هنا بحثاً عن رجل.."
نظر لها الأمير رافعاً حاجباً، فأضافت "اسمه آرجان.. لقد تم اختطافه وبيعه لكم في سهول الأكاشي، وأنا أريد إنقاذه بأي صورة كانت.."
مالت شفتا الأمير بابتسامة هازئة وعلق "حقاً؟.. لم أكن أعلم أن من تقف أمامي جندي بأعلى مستوى من مملكة بني فارس.."
قالت رنيم بحزم "لست أنتمي لمملكة بني فارس.."
قال الأمير بشيء من السخرية "إذن لمن؟.. الهوت؟.."
قالت هازة رأسها "لا.. لست أنتمي لأي مملكة.."
ورفعت رأسها مضيفة "السماء هي موطني.. ولا وطن آخر لي.."
طوّح الأمير رأسه بضحكة فاجأتها متخليّاً عن هدوئه المعتاد، وقال من بين ضحكاته "أتحاولين إقناعي بأنك ملاك؟.. وهل الملاك يقع في الأسر بهذه السهولة؟.."
قالت رنيم مقطبة "لست ملاكاً.. إنما أنا فتاة عادية.."
قال الأمير بابتسامة ساخرة "فتاة عادية؟.. أنت تذكرينني بفتاة أخرى تصرّ أنها عادية لا تستحق اهتمامنا، ولم تكن نهايتها تسرّ الأنظار.."
نظرت له رنيم بفضول وشيء من الدهشة، أهو يعني فتاة من الهوت؟.. إنها لم تعرف إلا فتاة واحدة قبض عليها الكشميت، والتي لأجلها بدأت رنيم رحلتها الغريبة والطويلة هذه.. فتساءلت بشيء من الحذر "هل تعرف فتاة اسمها جايا؟.."
رمقها الأمير بنظرة صامتة تخلو من أي انفعال، ثم قال "جايا.. أظنني سمعت اسماً كهذا من قبل.."
ظلت رنيم تنظر له بدهشة.. بدا واضحاً أنه يعرف الاسم، ويعرف صاحبته.. فصاحت "هل تعرفها؟.. أين رأيتها؟.. أهي هنا في القلعة؟.."
تساءل الأمير بسخرية "هل تبحثين عنها هي أيضاً؟"
لم تعلق رنيم وهي تفكر بالأمر مبهوتة.. ربما كان القبض على آرجان واقتياده عبر رحلة طويلة لهذا المكان ليس سيئاً في النهاية.. فهو قاده للموقع الذي سجنت فيه جايا بالذات، وحقق هدفه من هذه الرحلة التي قام بها برفقة رنيم..
علق الأمير بعد صمتها "هذه الفتاة قد قدمت لي خدمة جليلة لن أنساها لها أبداً.."
نظرت له رنيم بدهشة، فقال ضاحكاً "لقد سرقت تنيناً كان الملك عبّاد يحتفظ به في سجن خاص في (الزهراء).."
تساءلت رنيم بدهشة "(الزهراء)؟.. كيف وصل التنين هناك؟"
قال الأمير بسخرية "يبدو أنني لم أكن الوحيد الذي يحاول معرفة طريقة تسخير هذا الحيوانات، بل فكّر الملك عبّاد بالأمر ذاته.. لكن لحماقته فإنه اكتفى بسجن ذلك التنين دون أن يعرف طريقة ملائمة للحصول على ولائه.."
ومال تجاه رنيم مضيفاً بشغف "لكني لست أحمقاً مثله.. باستخدام الهوت، يمكنني أن أحكم سيطرتي على هذا التنين وغيره من التنانين ما إن أضع يدي عليها.."
قالت رنيم بحدة "لماذا تفعل هذا؟.. لمَ تسعى خلف هذه الكائنات بالذات؟"
ضحك الأمير معلقاً "أنت حمقاء أيضاً.. هذا ليس غريباً على عربية.."
ثم أضاف ملوحاً بإصبعه "أتعلمين ما الذي يمكن لتنين أن يفعله في هذه الحرب التي لا يستخدم فيها الطرفان إلا قواتهم البرية والبحرية؟.. عندما يمتلك أحد الطرفان قوة جوية، فإنه يملك نقطة تفوق وفرقاً شاسعاً في القدرات، ويعني حسم الحرب هذه بأسرع الطرق وأسهلها.."
وقال بابتسامة ظافرة "عندها، تخيّلي ما سيجري لمملكة بني فارس عندما يفاجؤون بسربٍ طائر من التنانين التي تحمل جنود الكشميت بكل عتادهم المتطور.. ستسقط (الزهراء) خلال ساعات معدودة بعد أن صمدت أمامنا لمئات السنوات.. وستصبح مملكة كشميت هي الأقوى في هذا العالم.."
شحبت رنيم وهي تفكر فيما يسعى إليه ذلك الأمير المجنون.. رغم اتفاقية السلام الظاهرية بين المملكتين، لا يزال الطرفان يسعيان خلف التفوق واستكمال تلك الحرب رغم كل الخسائر التي حاقت بهم في السابق.. أي متعة يجدها هؤلاء في قتل جنودهم وقتل الأبرياء للحصول على بضعة أميال جديدة تضاف لمملكتهم؟.. أي هناء يشعر به هؤلاء القوم وهم يشعلون محرقة تحرق العدو والحليف في آن واحد؟.. هذا شيء لم تفهمه قط..
أخيراً، بحلق جاف لشدة توترها، تساءلت "ما الذي فعلته بالهوت؟.. ما الذي فعلته بجايا؟"
قطب الأمير شيئاً ما قائلاً "الأحرى بك القلق لما سيجري لك بدل القلق لأمر فتاة أخرى.."
تساءلت بشيء من التوجس "ما الذي تنوي فعله بي؟.."
لم يجبها الأمير وهو يقول "سأمنحك بعض الوقت للتفكير فيما طلبته.. وسأعود لك لأعرف أجوبة أسئلتي.. عليك أن تتوقعي أمراً لا يسرّك لو فكرت بالإصرار على عنادك هذا.."
واستدار مغادراً، فزفرت رنيم بحدة وهي تفكر بكل ما جرى.. الآن تدرك أن وجود جايا هنا ليس مستغرباً أو مستنكراً.. فما دام الكشميت يسعون خلف الهوت، لن يكون مستغرباً أن يكون لهم يد فيما جرى لجايا بعد اختفائها من قصر (الزهراء) ومن السفينة التي انطلقت من ميناء (مارِج).. فهل تمكنوا من القبض عليها قبل أن تتمكن من الفرار فعلاً؟..
عليها أن تصل إلى آرجان بأي طريقة، وعليها أن تبلغه بما اكتشفته.. هل سيكون سعيداً بعثوره على جايا في هذا الموقع بالذات؟..
في تلك الأثناء، كان الأمير يهبط درجات القلعة تاركاً سطح الأرض خلفه ومتعمقاً في طابق أرضي من المكان يمتدّ بحجم القلعة ذاتها ولا تنيره إلا بضع مصابيع تعمل بالغاز.. بالإضافة إلى مراوح ضخمة في جانب المكان تؤمن التهوية الملائمة له عبر بضع أنابيب لها فتحات تؤدي للهواء الطلق.. وقد تم حجز جانب من المكان بأبواب معدنية مصمتة وتقسيمها كسجون ضيقة تقطعها ممرات أكثر ضيقاً..
سار الأمير عبر الممر الضيق محاذراً أن تتسخ ملابسه من الجدران الرطبة المكونة لذلك القبو، حتى وقف أمام باب معدني سارع أحد الجنود بفتحه له بصمت ودون سؤال.. فدلف الأمير عبر الغرفة الضيقة حتى وقف أمام فتاة أجبرت على الوقوف بربط ذراعيها بسلسلة مثبتة في جوانب الغرفة بوضعية الطائر، ورأسها متدلٍ على صدرها بصمت في غيبوبة عميقة.. ولما دخل الأمير ووقف أمامها، سارع الجندي للطمها بقوة ليعود لها وعيها.. ولما انتبهت من غيبوبتها ورأت الواقف أمامها، ابتسمت بجانب فمها قائلة "هل عدنا لهذا من جديد؟.. مرحى.."
قال الأمير بهدوئه الشهير "وسنعود لهذا كل مرة حتى تخضعين لما نطلبه منك.."
غمغمت الفتاة بتعب ورأسها يهوي من جديد دون أن ترفع بصرها "لمَ؟.. لمَ أنا بالذات؟"
قال الأمير بابتسامة جانبية "لأنك صاحبة ذلك التنين.. هذا هو السبب الوحيد.."
ثم مال تجاهها قائلاً بتشفٍ "هذا هو قدرك.. فهل تملكين الاعتراض عليه؟"
لم تجب الفتاة بكلمة ورأسها يهوي على صدرها بصمت.. هل يمكن لأحد تغيير قدره بيديه؟..


*********************
في صباح اليوم التالي، وبعد شروق الشمس بقليل، وجد آرجان من يفك القيد الذي يقيده للحائط ويستعيض عنه بقيد حديدي حول رسغيه.. ثم وجد جندياً من الجنديين اللذين وقفا في زنزانته يجرّه معه خارجاً منها وعبر الدرجات التي تعود بهم لسطح الأرض.. ولما خرج من ذلك المبنى وواجهه نور الشمس القوي، شعر آرجان بألم حارق في عينيه وهو يجد الجندي يجذبه قسراً نحو ذلك المبنى الكبير في جانب الساحة..
وبعد دخوله من باب المبنى، لاحظ وجود ذلك الأمير الذي رآه في اليوم السابق عند قدومه للقلعة.. ورأى التنين ذاته الذي كان حبيساً بالأمس، وهو لم يزددْ إلا ضعفاً ومرضاً في الساعات القليلة الماضية..
الإضافة التي رآها آرجان في هذا الموقع هو كاجا الذي وقف في جانب آخر مقيّدٍ بقيود حديدية أخرى وهو يستعيد وعيه بعد غيبوبة عدة ساعات.. فزفر آرجان بضيق وهو يرى أسوأ توقعاته قد تحقق.. لهذا السبب لم يحاول استدعاء رنيم وكاجا فور دخوله للقلعة.. فلدى رؤيته هذا التنين في سجنه، ومعرفته بمَ يهدف إليه الكشميت من اختطاف الهوت، فإنه أدرك الخطورة التي تحيق بكاجا لو دخل بنفسه لهذه القلعة التي لن يضيّع جنودها فرصة ذهبية كهذه للحصول على تنين آخر..
ولما واجهه الأمير، قال آرجان بحدة "أين الفتاة؟"
ابتسم الأمير بجانب فمه معلقاً "إذن أنت هو بالفعل.. أنت من تبحث عنه الفتاة.."
واستدار إلى كاجا مضيفاً "وأنت صاحب هذا التنين.."
لم يجب آرجان وهو عاقد حاجبيه، بينما أطلق كاجا صيحة متألمة وهو يحاول الإفلات من قيوده التي تتغلغل في جسده بقوة كلما حاول المقاومة أكثر.. فقال الأمير "ألا تتمنى إطلاق سراحك وسراح هذا التنين؟.. سأطلق سراح الهوت جميعاً، لو أنك قد أبلغتني بكل ما أريد معرفته عن هذه التنانين.."
قال آرجان بجفاء "لن أتحدث حتى أرى الفتاة.. أين هي؟"
مال الأمير نحوه قائلاً "أتظن أنك تستطيع إجبارنا على الانصياع لك؟.."
كرر آرجان بتأكيد "لن أتحدث ما لم أرَ الفتاة.."
قال الأمير بهزة من رأسه "لا بأس.. هذا مطلبٌ عادل.."
وجده آرجان يتقدم منه فيمد يده ويقبض على رأسه بقوة، وضغط بأصابعه أسفل جفنيه بشكل مؤلم قائلاً بصرامة "سأحضر الفتاة، لكن في البدء سأخلصك من عينيك حتى لا تراها البتة.."
قال آرجان بحزم "إذاً لن تحصل مني على كلمة.."
قال الأمير وهو يتراجع خطوة "إذن أنت لن تخضع للتهديد.."
واستدار فارداً ذراعيه قائلاً "حقاً.. ما الذي سيجبرك، أو يجبر بني قومك، على الاستجابة لطلباتي؟.. لم يتحلّى شعبك، مع التنانين، بهذا العناد الذي لم أرَ مثله من قبل؟.."
ونظر لآرجان مضيفاً "أنتم شعبٌ أناني.. لمَ يجب على التنانين أن تطيع الهوت فقط ولا تطيع أحداً غيرهم؟.. ما الجريمة التي سنرتكبها باستخدام هذه الكائنات المذهلة؟.."
قال آرجان مقطباً "نحن لم نختر التنانين، بل هي من اختارنا.."
التمعت عينا الأمير وهو يقول "حقاً؟.. وكيف فعلت ذلك؟.. أهناك وسيلة أو خطوات معينة لحدوث ذلك؟"
قال آرجان بسخرية "تظن أنني سأجيبك بكل بساطة؟.."
أجاب الأمير بابتسامة "قطعاً لا.. لكن ماذا عن الفتاة؟"
وبنظرة للخلف، فإن آرجان استدار بدوره ينظر خلفه ليجد جندياً يتقدم منه دافعاً رنيم أمامه مقيدة اليدين.. تقدم آرجان خطوة نحوها وهي تنظر له بعينين متسعتين، لكن الجندي القريب أوقف آرجان رغماً عنه والأمير يقول "وجود هذه الفتاة سيصبّ في صالحي حتماً.. فهي لم تكتفِ بإحضار تنين جديد لي، لكنها منحتني فرصة للضغط عليك بصورة أفضل من أي وسيلة للتعذيب.."
هتف آرجان بحنق "الفتاة لا تعرف أي شيء عما تريد معرفته.."
قال الأمير بابتسامة متسعة "لكن أنت تعرف.. أليس كذلك؟"
قاد الجندي رنيم للموقع الذي ربط فيه كاجا والذي استمر بمحاولته للتخلص من قيوده.. عندها، قام بربط يدي رنيم خلفها في أحد الأعمدة الخشبية التي تنتصب وسط المبنى.. بينما قال الأمير "هذا التنين لم يحضَ بأي طعام منذ الليلة الماضية.. فحتى متى يمكنه الصمود على جوعه ذاك؟.. ولو طغت عليه حاسته الحيوانية، هل سيلتهم الفتاة التي كانت يطيعها بالأمس، أم أنه سيصبر على جوعه لأمدٍ غير مسمّى؟.."
نظرت رنيم بشيء من القلق لوجه كاجا الثائر والغضب العارم في عينيه.. كان، في تلك اللحظة، يبدو لها مخيفاً كما كان في المرات القليلة التي رأته يفقد التحكم بنفسه فيها.. لكنها نوعاً ما تشبثت بأملٍ صغير بأنه لن يفعل ذلك.. هل لها أن تثق بعلاقتها بالتنين بحيث تسلّمه حياتها وهي آمنة؟..
سمعت آرجان يقول للأمير بغضب "أخبرتك أن الفتاة لا ذنب لها.. ضعني مكانها لو كنت تريد اختبار فكرتك هذه.."
نظر الأمير للموقف بابتسامة جانبية معلقاً "هل تقول هذا لأنك غير واثقٍ أن التنين سيقاوم جوعه ذاك؟.. إذن يمكننا أن نصبر قليلاً ونرى ما سيحدث لحيوانك الأليف هذا.."
استدارت رنيم إلى آرجان صائحة بانفعال وهي تحاول تخليص نفسها من قيودها "آرجان.. جايا.. جايا هنا.."
اتسعت عينا آرجان بصدمة ورنيم تصيح "جايا حبيسة في هذه القلعة.."
بهت آرجان لوقت طويل وكلماتها لا تكاد تصل لعقله، بينما ضحك الأمير معلقاً "أهذا الرجل يبحث عن الفتاة أيضاً؟.. هذا ممتع.. ربما سأضعها في مواجهة هذا التنين هي الأخرى.. ولنرَ من منكما سيختار لتكون وجبته الأولى.."
فوجئ بآرجان يغافل الجندي القريب ويقفز عليه فيسقطه أرضاً وهو يجثم على صدره.. فأمسك عنقه بشدة رغم قيود يديه وهو يقول بغضب "أين جايا؟.. ما الذي فعلتموه بها؟.."
ابتسم الأمير بجانب فمه بصمت، بينما تلقى آرجان ضربة على جانب رأسه بقوة رمته أرضاً وسط شهقات رنيم المذعورة.. وبينما صمّ كاجا آذانهم بصياحه المهتاج، فإن الجندي لم يتوقف عن ضرب وركل آرجان الذي لم يتمكن من مقاومته بسبب الدوار الذي ألمّ به.. ثم سحبه الجندي بخشونة نحو جانب المكان فقيّد يديه بدوره في أحد العوارض الخشبية والأمير ينفض ملابسه قائلاً "تعجبني هذه الجرأة التي تتحلّون بها عند قدومكم لهذه القلعة.."
رفع آرجان بصره بتعب للأمير الذي أضاف وهو يحدق فيه "ويعجبني أكثر رؤية تلك الجرأة وذلك العناد يتهاويان على يديّ.."
غمغم آرجان "تباً لك من حقير.."
ابتسم الأمير بجانب فمه، بينما لم يتردد الجندي في ركل آرجان على وجهه ركلة مؤلمة.. ولمدة ساعة تقريباً، جلس الأمير في جانب المكان يتأمل بشغف واضح الضربات واللكمات التي تصيب آرجان من الجندي حتى أصيب الجندي بتعبٍ بالغ، بينم ظل آرجان على صمته وهو يلهث بشدة.. فصاحت رنيم المرتعبة التي أجبرت على رؤية كل ما جرى "أهذه وسيلة لاستجواب سجنائك؟.. هل تنوي قتلهم قبل الحصول على أي كلمة منهم؟"
قال الأمير وهو يسترخي في موقعه "لم يكن هذا استجواباً.. بل عقاباً له على تجرؤه لمسي.. وليشكرني لأنني لم آمر بقطع يديه هاتين لما اقترفتاه بحقي.."
ظلت رنيم تستمع له بارتياع وهي تنقل بصرها بين آرجان الصامت وبين كاجا الذي كان لا يفتأ يحاول تحرير نفسه.. بينما قال الجندي للأمير "يبدو أنه فقد وعيه لشدة الضرب.. هل أوقظه ببعض الماء البارد؟"
قال الأمير باشمئزاز "لا.. لن أضيّع وقتي معه.. سأرى إن كان سيتحدث بعد أن يشاهد حيوانه الأليف يلتهم رفيقته.. عندها أشك أن يكون أكثر عناداً مما هو الآن.."
ونهض نافضاً ملابسه، ثم استدار مغادراً المكان وهو يقول للجندي "ليبقَ جندي حراسة خارج هذا المكان طوال الوقت.. ولتخبرني فور هجوم التنين على الفتاة بلا إبطاء.."
سارع الجندي ليفتح للأمير باب المستودع، ثم يغلقه بعد أن يغادره تاركاً المكان يغرق في ظلام جزئيٍ إلا من بعض النور الذي تسمح نوافذه العلوية بمروره..
تلفتت رنيم حولها بيأس وهي تحاول التخلص من قيودها، ثم صاحت "آرجان.. هل أنت بخير؟.. تحدث إليّ أرجوك.."
سمعته يزفر قبل أن يقول بصوت خافت "لا تقلقي.. أنا بخير.."
قالت وعيناها مغرورقتان بالدموع "كيف يمكنك أن تقول هذا بعد كل ما جرى؟.."
عاد آرجان يزفر للحظات، ثم رفع وجهه بالكدمات التي ظهرت واضحة عليه وسألها "كيف علمتِ بأمر جايا؟.."
أجابت "لقد أخبرني الأمير أنها سرقت هذا التنين من (الزهراء)، ثم تمكن الكشميت من القبض عليها وعلى التنين وإحضارها إلى هنا.."
نظر آرجان للتنين بدهشة وغمغم "أهذا هو الكنز الذي تحدثت عنه تلك الملكة؟.. ذاك الملك وهذا الأمير.. ما الممتع في تعذيب هذه الحيوانات البائسة؟.. تباً لهم.."
تساءلت رنيم وهي ترمق التنين "ما سبب تشبثهم بهذا التنين رغم مرضه؟"
قال آرجان زافراً "لا أظنه مريضاً إلا بسبب هذه القيود.. التنانين تبغض الأسر والقيود، ولو لم تتمكن من الإفلات من سجنها فإنها تمرض وتضعف مع امتناعها عن تناول الطعام والشراب حتى تموت.. حريتها أهم بالنسبة لها من حياتها ذاتها.."
نظرت رنيم للتنين المريض بإشفاق وهي تدرك شعوره تمام الإدراك.. ألم تكن تشعر بالأمر ذاته وهي في سجنها المزخرف ذاك؟.. ثم سمعت آرجان يتسائل بشيء من اللهفة "هل رأيتها؟.. كيف هي؟"
فهمت أنه يعني جايا، فهزت رأسها قائلة "لم أرها.. فقد احتفظ بي الأمير في مبنىً آخر ولم أرَ أحداً من الهوت.."
خفض آرجان رأسه بشيء من اليأس، وقال "لو كانت موجودة حقاً، فكيف سيكون حالها مع هذا الرجل المجنون؟.. كيف سأراها؟.. بل كيف سأنقذها؟.. نحن في أسوأ حالٍ ممكن في هذه القلعة.."
صمتت رنيم دون أن تخبره بما قاله الأمير في نهاية جملته.. لقد قال إن مصير الفتاة لم يكن أمراً يسرّ الأبصار.. فهل يعني ذلك أنها قد قضت نحبها؟.. تفزعها هذه الفكرة، وما قد يشعر به آرجان لو علم ذلك حقاً.. لذلك فضّلت الاحتفاظ بهذه المعلومة لنفسها حالياً وهي تجاهد بإصرار للتخلص من قيودها بأي شكل كان.. بينما التزم آرجان الصمت بتعبٍ شديدٍ وهو يفكر في أمر جايا.. وبينما سكن التنين الضعيف أسود اللون بشكل شبه تام، فإن كاجا قد استسلم لتعبه بدوره وهو يسقط جانباً ويلهث بقوة وقد بدأت بعض السجحات تظهر على جناحيه مع شدة جذبه لهما للتخلص من قيوده المعدنية..
قالت رنيم وهي تراقب تعب التنين "اهدأ يا كاجا.. هيجانك هذا سيزيد من تعبك وألمك وجوعك.. عليك أن تحتفظ بطاقتك حتى نتمكن من إخراجك من هذه القلعة.."
سمعت آرجان يعلق دون أن يرفع بصره "كاجا لن يلتهمك.. فلا تخشي شيئاً.."
لم تكن خائفة من هذا الأمر، لكنها علقت رغماً عنها بتوتر "لقد حاول كاجا التهام صبي على إحدى الجزر التي مررنا بها لما عجز عن تجاوز جوعه.."
قال آرجان بإصرار "كاجا لن يفعل.. أنا أثق به.. وعليك أن تثقي به أنت أيضاً.."
ظلت رنيم تنظر للتنين الذي أخذ يلهث بشدة.. ودّت لو كانت طليقة لتربت على عنقه وتمسح على رأسه.. لو كانت قادرة على إطلاقه من سجنه الذي يبغضه بشدة كما بدا من هيجانه.. لكنهم بحاجة لمعجزة كبيرة ليطلقوا أنفسهم من هذا الأسر.. ولا يمكنها أبداً أن تعوّل على المعجزات في المحنة التي هي فيها الآن..


*********************
مع قرب ذلك المساء، ومع تطاول الساعات على رنيم وآرجان اللذين أنهكهما التعب والقيود التي تغلّ أيديهما، ومع الجوع والعطش الذي استبدّ بهما، فإن الصمت كان يخيّم عليهما بشكل كامل.. ومع اقتراب الشمس من مغيبها، رأت رنيم كاجا ينهض بعسر وغضب وهو يطلق صيحة حانقة ويشدّ السلسلة التي تقيد عنقه للعارضة الخشبية خلفه بقوة دون فائدة..
ظلت رنيم تراقب الهياج الذي كان فيه وهو يطوّح ذيله يميناً ويساراً بحنق شديد، وهي مدركة أن الجوع قد استبد به فوق طاقته.. ولما التفت إليها، ورأت الغضب الشديد في عينيه، فإن رجفة أصابت جسدها رغماً عنها.. من قال إن التنين لا يأكل البشر عندما يستبدّ به الجوع الشديد؟.. لم تكن ترى في عيني كاجا أي تعقل أو لطف مما عهدته سابقاً، بل كانت عيناه الخضراوان تلتمعان بجوعٍ حيواني وهو يزمجر بقوة تهزّ أرجاء المكان ولعابه يسيل من شدقيه.. اتسعت عينا رنيم وهي تنظر لثورته غير المتعقلة، وهمست بارتجافة "كاجا........"
لم تكن عينا كاجا طبيعيتان.. كانتا أقرب لطبيعته الحيوانية مما عهدته طوال حياتها.. لذلك، لم يكن صعباً عليها تخيّل ما قد يفعله التنين الهائج الذي تضوّر جوعاً لساعات طوال بها وهي وسيلته الوحيدة لسدّ ذلك الجوع..
رأته ينقضّ عليها بسرعة مما أفزعها وهي تغمض عينيها بشدة، بينما هتف آرجان بقوة "لا تفعل يا كاجا.."
تردد صدى صوته في المكان الخالي، بينما غاص قلب رنيم في ضلوعها لشدة الفزع.. لكنها شعرت بهزة قوية تهز العمود الذي قيّدت إليه وترجّها بقوة، ولما فتحت عينيها متوجسة رأت كاجا ينشب أنيابه في العمود الخشبي ويشدّه بقوة.. كرر ما يفعله عدة مرات وهو يقضم العمود بكل ما أوتي من قوة ويجذبه بيده ورنيم تراقبه مذهولة.. وبينما زفر آرجان بشيء من الراحة لما رأى ما يفعله كاجا، فإن الأخير لم يتوقف عما يفعله حتى بدأ العمود يتهشم تحت أنيابه الحادة، ولم يطُل به الوقت حتى انفصل عن جزئه العلوي ورنيم تجد نفسها تسقط أرضاً مع الجزء المهشم من العمود وهي تطلق صيحة متألمة.. وبسرعة، حاولت تمالك نفسها وهي تنهض وجذبت قيودها عبر العمود الخشبي حتى أخرجت القيد من الجزء المهشم وغَدَت حرة بشكل جزئي، وإن لم تتمكن من الخلاص من القيود التي تقيّد يديها بشكل كامل..
سمعت التنين يزوم بألم ورأت الدماء تسيل من شدقيه ممتزجة بلعابه، لكنه لم يلمسها وهو يمسح رأسه بذراعيها.. فقالت رنيم متنهدة وهي تمسح الدماء عن فكيه "شكراً لك يا كاجا.. وعذراً لما سببناه لك من شقاء.."
سمعت آرجان يصيح بها وهو يتلفت خلفه "يبدو أن بعض الجنود قادمين بسبب هذه الأصوات العالية.. عليكِ استغلال هذه الفرصة.."
لم تدرِ رنيم ما عليها فعله، لكن كل ما دار بذهنها أنها لن تسمح للجنود بأن يعيدوها للقيود من جديد.. تناولت أقرب أداة معدنية يمكنها استخدامها كسلاح مرتجل، وركضت نحو الباب وهي تسأل آرجان بقلق "هل يمكننا إغلاق هذا الباب حتى نخلّص كاجا من أسره؟"
أجاب آرجان "أظن ذلك.. عليك أن........"
وجدا الباب يفتح وأحد الجنود يدخل المبنى متفحصاً ما جرى فيه، ويبدو أنه لم يتوقع رؤية الفتاة طليقة إذ بقي واقفاً مشدوهاً للحظة كانت كافية لرنيم القريبة لترفع الأداة في يدها وتعاجله بضربة قوية على رأسه بكل ما تملك.. سقط الجندي متألماً بينما صاح آرجان "اجذبيه نحوي.. عليكِ بإغلاق الباب قبل قدوم المزيد منهم.."
استغلت رنيم سقوط الجندي فسحبته من مجمع ثيابه بأقوى ما تستطيع نحو آرجان القريب دون أن تدري من أين واتتها القوة لفعل ذلك.. وقبل أن تصل إليه فوجئت بالجندي يقبض على يديها بقوة وهو يدمدم بغضب شديد.. وحاول الاعتدال ورنيم تجذب يدها لتحاول ضربه من جديد، لكنه لم يكد يعتدل حتى فوجئ بركلة قوية من آرجان الذي كان خلفه أسقطته أرضاً ليفقد وعيه هذه المرة..
ظلت رنيم واقفة ودقات قلبها متسارعة، بينما صاح بها آرجان "الباب يا رنيم.."
استدارت على الفور وعادت للباب فأغلقته، وبنظرة إليه أدركت أنه يغلق باستخدام عارضة خشبية توضع على رأسين حديديين ثبتا في جانبي الباب فيمنع من كان خارجه من فتح الباب مهما حاول.. فحملت العارضة بشيء من المشقة ودفعتها لتسقط في موقعها وهي تلهث بشدة.. ولم تكد تفعل حتى وجدت الباب يهتز بقوة وطرقات تضربه من الخارج من بقية الجنود.. تلفتت رنيم حولها، ثم تقدمت من الجندي فاقد الوعي وفتشت جيوبه بسرعة.. لقد خمّنت أنه المسؤول عن مراقبتهما لأنه كان الأسرع في الوصول إليهما من البقية، لذلك لابد أنه يحتفظ بمفاتيح تلك الأقفال معه.. وبالفعل حصلت على سلسلة بها بضع مفاتيح، فهرعت لآرجان وبحثت عن المفتاح الملائم حتى استطاعت أن تفك قيوده التي سقطت أرضاً مصدرةً صوتاً عالياً..
قال آرجان وهو يفرك يديه "علينا أن نحرر كاجا والتنين الآخر.. ثم نبحث عن جايا بأسرع ما نستطيع.."
تساءلت رنيم وهو يفك قيد يديها بدوره "أين سجنك الجنود مع بقية الرجال؟.."
أجابها بسرعة "هناك سجون كاملة تحت سطح الأرض، في قبوٍ كبير بدا أنه يحتل مساحة تقارب مساحة هذه القلعة.. لذلك لا أشك أن جايا ستكون هناك، لو كانت هنا فعلاً.."
هرع إلى كاجا الذي وقف متململاً بضيق شديد، ولما حاول إطلاق سراحه اكتشف أن القيود التي تقيّده لا يمكن فتحها بالمفاتيح، بل يجب أن يتم خلعها من العارضة الخشبية ذاتها.. ظل الطرق على الباب يتزايد بينما تلفت آرجان حوله بحثاً عن وسيلة لتحرير كاجا، ولما عثر على فأسٍ خشبية مرماة في جانب المبنى مع بضع أدواتٍ أخرى، أسرع يحملها ويعود للعارضة قائلاً "سيستغرق هذا بعض الوقت.. أتمنى أن يعيق الباب المغلق بقية الجنود عن اقتحام المكان.."
نظرت رنيم للباب بقلق، بينما حاول آرجان خلع القيد الذي يقيد كاجا بضربات من الفأس في يده.. ورغم الألم الذي ينتشر في جسده كله بسبب ذلك الجندي، لكن آرجان حاول ما بوسعه إحكام ضرباته واستنفار عضلاته للتخلص من القيود بأسرع ما يمكنه.. بينما تعالت الضربات القوية من الباب والجنود يحاولون الدخول للمبنى دون نجاح كبير..
نظرت رنيم للتنين الآخر الذي ظل ساكناً مدة طويلة رغم أن عيناه مفتوحتان وهو يلهث بخفوت شديد.. فتساءلت رنيم بإشفاق "ما الذي سنفعله بالتنين الآخر؟"
قال آرجان عابساً وهو يكمل عمله "سنفعل ما يجب فعله.."
كان جوابه مبهماً بشدة، فتقدمت رنيم من التنين الذي التزم بالصمت وهو يراقبها بعينيه اللتين خبتت لمعتهما كثيراً وبدا بأسوأ حالٍ ممكن.. وقفت رنيم على بعد مترٍ واحد وهي تتأمله بإشفاق، ثم اقتربت بخفوت لئلا تثير غضبه وهي تهمس "أيها التنين الجميل.. أأنت بخير؟"
مدّت يدها وربتت على خطمه، فبدا أضعف من أن يعترض على ذلك.. وسرعان ما لمس العطف الذي تحمله لمساتها الحانية وهي تقول بخفوت "علينا أن نرحل من هنا.. هل تقدر على النهوض أيها الكائن الرائع؟"
سمعته يئن بألم شديد ويغمض عينيه بصمت، فقالت رنيم لآرجان بارتباك "ما الذي حلّ به؟.. إنه لا يفتح عينيه.."
لم يجبها آرجان وهو مستمر بعمله حتى تمكن من إحداث شقٍ على شيء من الاتساع في العارضة مرقت منها السلسلة التي تقيّد كاجا، فسحبها بسرعة وقام بتحرير التنين بشكل تام ليجده ينتفض بقوة وهو يرفرف بجناحيه في المكان الضيق.. عندها هرع آرجان عائداً للجندي واستلّ خنجراً كان موجوداً في جرابٍ في حزامه، ثم عاد إلى رنيم التي قالت بقلق شديد "كيف سنتمكن من تحرير هذا التنين وهو بهذه الحالة؟.. هل يستطيع كاجا نقله بعيداً؟"
غمغم آرجان مقطباً وهو يتأمل التنين "محال.."
سمعا الباب خلفهما يتهشم بقوة للضربات التي تلقاها، وبدأ الجنود يتدافعون في المبنى بغضب شديد.. لكن كاجا الذي قاسى من حبسه طوال الساعات الماضية بالإضافة لتجويعه، لم يتأنّ في الانتقام من الجنود وهو يصيح فيهم غاضباً ويتقدم منهم بسرعة ليلتقط أحد الجنود بفكيه ويرميه عالياً خارج المبنى.. وبينما تلقى بعض الجنود ضربات بيده وأخرى بذيله الطويل، فإن رنيم قالت بانفعال "كيف سنهرب الآن؟"
لم يجبها آرجان وهو يمسح على رأس التنين الذي يعلو صدره ويهبط بأنفاس ضعيفة.. ثم غمغم بلغة الهوت "سامحني يا صاحبي.. من العسير إنقاذك بعد كل هذا.."
ولما التفتت رنيم إليه، وجدته يقترب من صدر التنين فيرفع خنجره عالياً، وبضربة قوية أخمد الخنجر في صدر التنين حتى نصله بينما انتفض التنين بعنف دون أن يملك القوة للدفاع عن نفسه.. شهقت رنيم بذعر لذلك المنظر وهي ترى الدماء التي انبثقت من الجرح فلطخت التنين وآرجان بقوة قبل أن يسكن جسد التنين الذي لم يطلق أنيناً واحداً طوال تلك اللحظات..
غطت رنيم فمها بكفيها وهي تنظر للتنين القتيل بارتعاب، بينما مسح آرجان الدم عن وجهه ويديه وهو يستعيد خنجره ويغمغم "لنرحل.."
همست رنيم بعينين دامعتين "كيف أمكنك فعل ذلك؟"
نظر لها بصمت للحظات ثم قال "كان هذا خيراً له مما هو فيه.."
رغم رده الجامد، إلا أنها تمكنت من رؤية الأسى واضحاً في عينيه.. فلم تعلق وهي تعرف ما يعنيه التنين بالنسبة للهوت.. أسرع آرجان نحو الباب حيث كاجا يشق طريقه بين الجنود الذين حاولوا عدم إصابته ببنادقهم لئلا يطالهم غضب الأمير، ولما رأى البنادق ذات الفوهة العريضة بأيدي الجنود، صاح بكاجا "ارتفع عالياً يا كاجا.."
قام التنين الذكي بما طلبه منه صاحبه وهو يرفرف بقوة ويرتفع بسرعة خاطفة ليتجاوز المبنى وأسوار القلعة بينما حاول الجنود إسقاطه بشباكهم دون أن يفلحوا بذلك.. ولم يلبث أن عاد لهم بعد أن اتخذ دورة سريعة في الهواء ليضرب مجموعة منهم جانباً بينما قام آخرون بتعبئة بنادقهم بقذائف جديدة تمهيداً لإسقاطه بها..
تلفت آرجان حوله بتوتر مستغلاً انشغال الجنود بكاجا وخوفهم من غضب الأمير لو تمكن من الفرار بالفعل.. كان وجود الجنود قرب الباب يمنعهما من الخروج منه دون أن يسقطا في أيديهم، ثم وجدته رنيم يتناول مشعلاً معلقاً قرب الباب ويعود به إلى مجموعة صناديق وبعض القش الذي وضع جانباً.. فألقى المشعل فيه وتراجع خطوات والنار تلتهم القش وتتعاظم بسرعة لا تصدق..
نظرت له رنيم بدهشة وتساءلت بقلق "لمَ تفعل هذا؟.. كيف سنهرب الآن؟"
أجابها وهو يتراجع خطوات "لنترك الجنود ينشغلون بأمر هذه النار.. ونحن سنهرب من طريق آخر.."
جذبها خلفه وهو يعود لقلب المبنى، وهناك لاحظت رنيم تلك النوافذ التي تقع في موقعٍ مرتفع من حائط المبنى الخشبي.. لم تكن النوافذ مغلقة بل كانت عليها قطعتان خشبيتان متقاطعتان يمكن تهشيمهما بسهولة.. رأت آرجان يقترب من الحائط بحثاً عن طريقه للصعود للنافذة، فقالت بقلق "أنا لن أستطيع صعود هذا الحائط يا آرجان.."
تلفت حوله معلقاً "لا تقلقي.."
راقبت رنيم النار التي اشتدّت بقوة، وصياح الجنود المتعالي خارجاً بعد أن التهمت النيران جانباً كبيراً من هذا المبنى المصنوع من الأخشاب الجافة سريعة الاشتعال.. ثم لاحظت أن آرجان حمل أحد القيود المعدنية ذات السلسلة الطويلة والتي كانت تقيّد كاجا، ثم لفّها حول ذراعه وبدأ صعود المبنى معتمداً على العوارض الخشبية وكل جزء يسهّل عليه تثبيت قدميه أثناء الصعود..
ظلت رنيم تقلب بصرها بينه وبين النار والجنود بقلق، ثم وجدته بعد مشقة يصل للنافذة فيدفع قبضته بضربة قوية تلتها أخرى حتى استطاع تهشيم الخشب الذي يسدّ النافذة، عندها تطلع للخارج محاولاً معرفة الوسيلة الأمثل للنزول دون أن يخاطرا بنفسيهما..
سمع رنيم تقول بقلق "أسرع يا آرجان.."
عندها، دلّى السلسلة المعدنية بالقيد في نهايتها نحو رنيم قائلاً "تشبثي بهذه وسأرفعك.."
قالت بعينين متسعتين "هذا مستحيل.. سأكون ثقيلة جداً عليك.. ألن تسقط مع مجهود كهذا؟"
قال وهو يجلس على النافذة ويلفّ الجانب الآخر من السلسلة حول ساعده "لا تقلقي.. سأبذل جهدي لئلا أفعل.."
بعد شيء من التردد، تقدمت رنيم من السلسلة وتشبثت بها جيداً بيديها، عندها قام آرجان برفعها وهو يسحب السلسلة بذراعيه شيئاً فشيئاً ورنيم تراقبه بقلق كبير.. لكن آرجان استمر بعمله وهو يرفعها بكل ما يملك عندما فوجئ بذلك الجندي الذي ركض إلى رنيم وشدّها من ساقها بقوة.. أفلتت رنيم السلسلة بسبب المفاجأة وسقطت أرضاً بعنف، فصاحت بألم وهي تحاول ركل الجندي بقوة، لكنه جذبها معه وهو يصيح بآرجان بعصبية بلغته.. نظر آرجان للموقف بتوتر، بينما هتفت رنيم به "ارحل يا آرجان.. ارحل واستعد جايا قبل أن يقبضوا عليك مجدداً.."
نظر آرجان للنافذة القريبة، ونظر لرنيم بصمت.. بالفعل هذه هي فرصته الوحيدة لاستعادة جايا قبل أن يمنعه الجنود.. فهل يمكنه أن يفعل؟.. هل يترك رنيم وهو لا يعلم إن كان سيقدر على الوصول إليها من جديد؟.. سمعها تصيح بإلحاح "ارحل يا آرجان.."
ظل الجندي يسحبها مبتعداً وهو يلوّح لآرجان بتهديدٍ واضح، لكن آرجان شدّ عزمه وانسلّ من النافذة بصمت ليهرب من المبنى، بينما رنيم تراقبه بمزيج الراحة وشيء قليل من الإحباط.. ربما كانت في دخيلة نفسها تتمنى لو عاد لها.. تتمنى لو تعرف أنه يهتم بها بقدرٍ كافٍ لئلا يتركها في أيدي الجنود، بعد أن قطعت نصف العالم بحثاً عنه دون يأس..


*********************



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-12-15, 11:45 AM   #17

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



الفصل الخامس عشر: حلم جايا


عندما وصل الأمير بعد الضجة التي أثيرت في القلعة ومنبعها المبنى الذي يحتفظ الجنود فيه بالتنين، فإنه وقف قرب المبنى المحترق يراقب التنين الميت والذي بدأ يتفحم وهو عابسٌ بشدة ويقول بغضب "كنت أظن أن سبعون جندياً يكفون لإيقاف رجلٍ وفتاة عن ارتكاب مثل هذه الجريمة.. رجل وفتاة تمكنوا من تخليص التنين الثاني وقتلوا الأول وأنتم تتفرجون على ما يجري بصمت؟"
ثم التفت إلى جنوده صائحاً بغضب "اقبضوا عليهما وأحضروهما إليّ.. واقبضوا على هذا التنين قبل أن يفلت، وإلا رؤؤسكم هي ما سيفلت من أجسادكم.."
تراكض الجنود القريبون لتنفيذ أوامره، بينما استدار الأمير رافعاً بصره للسماء قائلاً بغلٍّ "تباً للهوت.. شرذمة منهم تفسد خطتي بهذا الشكل؟.. أم أنها تلك الفتاة العربية؟.."
قبل ذلك بوقت قصير، كانت رنيم تجد نفسها تجرّ جراً عبر المبنى والجندي يغادره بسرعة هرباً من النار التي أوشكت على التهام ما بقي من الباب المهشّم مما يعني سجنهم في هذا المكان حتى يحترقوا أحياء.. وفي الخارج، كان كاجا مستمراً في إثارة معمعمة في صفوف الجنود والهرب من شباكهم في الآن ذاته..
صاحت رنيم بشيء من الأمل "إليّ يا كاجا.."
لكنه لم يسمعها مع صياح الجنود الذي شتّت انتباهه، بينما وقف بها الجندي خلفهم وهو يصيح برفاقه بعصبية شديدة..
تلفتت رنيم حولها بحثاً عن وسيلة للفرار، عندما فوجئت بآرجان يهبط أرضاً خلفها ويعاجل الجندي بضربة قوية على رأسه قبل أن ينتبه له.. ثم بضربة أخرى سقط الجندي أرضاً فاقد الوعي بينما صفّر آرجان للتنين بقوة..
قالت له رنيم بانفعال "لمَ لمْ ترحل؟.."
أجابها وهو يتناول بندقية الجندي الذي سقط وينظر للجنود أمامهما "وهل ظننتِ أنني سأتخلى عنك بسهولة؟.."
غمغمت وهي تدير بصرها فيمن حولها "ظننت ذلك لوهلة.."
كان بعض الجنود قد استداروا وتقدموا رافعين بنادقهم نحو آرجان ورنيم بتهديد.. لكن كاجا استدار في الهواء بسرعة وتقدم منهما لاطماً كل من يقف في طريقه من الجنود.. وفور وقوفه قرب آرجان بحدة، فإن الأخير قفز على ظهره بسرعة رغم عدم وجود سرج وجذب رنيم في اللحظة ذاتها التي ارتفع فيها كاجا متفادياً بقية الجنود..
تشبثت رنيم بآرجان بقوة وهتفت "ما الذي سنفعله بالبقية؟.."
لم يجبها وهو يراقب تحركات الجنود، ثم مال بكاجا قائلاً "إنهم يتوقعون أن نهرب.. لذلك تركوا المدخل الذي يؤدي للسجون تحت الأرض خالياً من أي حراسة.."
لم يكن تسيير التنين دون لجام سهلاً، لكن التفاهم بين آرجان وكاجا كان سريعاً والأخير يميل نحو جانب الساحة بينما قال آرجان لرنيم "سأهبط وأحاول تحرير البقية.. حاولي شغل الجنود باستخدام كاجا وحاذري أن يصيبوكما برصاص بنادقهم.."
هتفت رنيم "سأبقى معك لأساعدك.."
قال بسرعة "محال.."
فقالت بعناد "لا يمكنني التراجع الآن، وكاجا سيقوم بتشتيتهم بنفسه.. سأذهب معك.."
زفر آرجان وهو يدفع كاجا للهبوط دون اعتراض.. لم تكن رنيم تخشى على نفسها قدر قلقها على ما سيجري لآرجان.. ولم تكن تملك الصبر الكافي لتنتظره وهي شبه آمنة على ظهر كاجا دون أن يعصف بها ذعرها عليه..
فور هبوط كاجا الحاد الذي كاد يسقط رنيم من على ظهره، فإن آرجان ترجل بقفزة واحدة ورنيم تتبعه، ثم ضرب كاجا على فخذه صائحاً "اشغلهم يا كاجا.."
ارتفع كاجا على الفور بينما ركض الاثنان للمدخل القريب لذلك المبنى واختبآ داخله بعد أن وجداه بالفعل خالياً..
تعالى صياح عدد من الجنود مقتربين من المبنى، فحاول آرجان إغلاق الباب بينه وبينهم، لكن عدة طلقات من بنادق الجنود أجبرته على التراجع خطوات وهو يحتمي مع رنيم خلف طاولة معدنية.. نظر آرجان للجنود قابضاً على بندقيته الوحيدة بشدة، وقال لرنيم بتوتر "يبدو أنني لن أتمكن من التحرك من موقعي، وإلا لحقنا الجنود وقبضوا علينا.. حاولي إخراج السجناء بأسرع ما يمكن قبل قدومهم.. سأحاول تعطيلهم بكل ما أملك.."
قالت رنيم بقلق "هل تعرف استخدام هذه البنادق؟"
أجاب آرجان مقطباً "بالطبع.. لست جاهلاً لهذه الدرجة..’
لم تعلق وهي تتراجع قائلة "حاذر أن يصيبوك.."
غمغم وهو يراقب الجماعة التي تقدمت منه "لا تقلقي وأنجزي ما يمكنك إنجازه بأقل وقت ممكن.."
هزت رأسها موافقة واستدارت مبتعدة بتوتر كبير.. رغم أن كاجا قد أصبح طليقاً، ولم يبقَ الكثير على إطلاق بقية سجناء الهوت، لكن ما الذي سيفعلونه بعدها؟.. كيف يمكنهم تجاوز كل أولئك الجنود والهرب من هذه القلعة الحصينة؟.. القفز من أسوارها ليس خياراً متاحاً مع ارتفاعها ووجود تلك الصخور الحادة في الخندق أسفلها.. وكاجا لن يقدر على حمل أكثر من شخصين.. فما الحل لذلك؟.. لا يمكنهم العودة للسجن والسقوط في يد ذلك الأمير المجنون من جديد..
بعد عدة خطوات وجدت رنيم باباً معدنياً يحجز ذلك الجانب من المبنى بدرجاتٍ حجرية تقود للأسفل، فركضت عبر الدرجات دون تردد.. ومع كل خطوة تخطوها، كانت تسمع ثورة السجناء الذين بدؤوا يطرقون الأبواب بحدة مع رائحة الحريق التي تسللت إليهم من المراوح التي تقوم بتهوية المكان.. لقد ثارت ثائرتهم مع تلك الرائحة والخوف يتسلل إليهم من أن يتم إهمالهم حتى تطالهم النيران ويحترقوا أحياءً في سجونهم.. ولما وصلت لآخر الدرجات، تراجعت خطوة وهي تختبئ لاهثة بعد أن رأت أحد الجنود ممن يحرس المكان وهو يحمل عصاً بيده ويضرب الأبواب ليدفع السجناء للصمت والتزام الهدوء..
كانت رنيم لا تملك أي أسلحة تهدد بها الجندي، ولم يكن من السهل عليها مغافلته وهو يتحرك بتوتر شديد في ذلك الممر الضيق بين السجون بينما دخان الحريق يفعم المكان بقوة.. ظلت رنيم تراقبه من موقع خفيّ للحظات وهي تشعر بدقات قلبها تتسارع.. كل لحظة تمضي تجبر آرجان على الصمود أمام الجنود وتقلل فرصهم للنجاح.. لكن ما الذي يمكنها فعله؟..
راقبت الجندي المنشغل بضجيج السجناء وهو يذرع الممر جيئة وذهابًا، ولما أولاها ظهره وهو يضرب على أحد الأبواب بعصاه، عندها أسرعت رنيم تحمل الكرسي الخشبي الصغير الذي يجلس عليه عادة واندفعت إلى الجندي فضربته بالكرسي على رأسه بكل ما تملك..
لم تتوقع أن تكون ضربتها بهذه القوة وساق الكرسي تتهشم على رأس الجندي فيسقط أرضاً دون حراك.. وقفت رنيم تلهث للحظة لفرط انفعالها، ثم استولت على سلسلة المفاتيح التي عثرت عليها معلقة في حزامه، وركضت نحو الأبواب الحديدية التي تحجز الهوت في سجونهم فبدأت بفتح الأبواب وهي تهتف بهم "سارعوا بالهرب.. سيعود الجنود بعد وقت قصير ولن يترددوا في منعكم من الهرب بأي وسيلة كانت.."
سألها أحدهم بدهشة وهو يغادر زنزانته "من أنت؟.."
لاحظت رنيم آثار الاستجواب والتعذيب على أكثر من شخص منهم، لكنها لم تعلق وهي تقول بسرعة "ليس هذا وقت التفسير.. اخرجوا عبر الدرجات المؤدية للأعلى، وهناك ستجدون رجلاً آخر من الهوت وهو سيساعدكم على الهرب.."
لم يتباطأ الرجال الذين استعادوا حريتهم بعد وقت طويل وعسير من انتهاز الفرصة وهم يركضون نحو المخرج ويعينون من لا يقدر على السير منهم.. بينما فتحت رنيم الباب الأخير في الممر واندفعت داخله لتقف فجأة بصدمة تتأمل ما بقلب الزنزانة.. ثم وضعت يدها على فمها وهي تتأمل الفتاة الماثلة أمامها.. كانت تلك الفتاة الوحيدة في المكان، لذلك تيقّنت رنيم أنها جايا، خاصة مع الشبه الواضح بينها وبين آرجان..
كانت الفتاة معلقة في الحائط بسلسلة حديدية بينما تهاوت على ركبتيها دون أن تكون قادرة على الوقوف.. لاحظت رنيم الدماء التي سالت من فمها وأنفها، والكدمات المتفرقة في جسدها تشي بمقدار التعذيب الذي خاضته.. وبينما تجمدت الدماء التي سالت من إحدى عينيها رغم تضميدها، بما يوحي بأنها فقدت تلك العين تماماً، فإن دماءً أخرى قد سالت من جراح أخرى متفرقة في ذراعيها وبدا من تحت الضماد الذي يغطي يديها أنها فقدت إصبعين من أصابعها..
وقفت رنيم تنظر لها مرتعبة دون أن تجرؤ على التقدم.. رباه.. ما الذي سيقوله آرجان عندما يرى منظراً كهذا؟..


*********************
في تلك الأثناء، كان آرجان يطلق رصاصاته بغزارة على الجنود ليبعدهم عن هذا المبنى وهو يختبئ خلف طاولة قريبة قَلَبَها أمامه.. وبينما أطاحت رصاصاته بعض الجنود، فإن كاجا الثائر قد أسقط عدداً آخر منهم وهو يندفع أمامهم في طيرانه وذيله يصيبهم ويلقيهم أمتاراً عدة للوراء..
تلفت آرجان حوله بحثاً عن وسيلة للفرار من هذا المبنى بعد قدوم بقية السجناء، عندما لاحظ الأقدام التي اقتربت منه راكضة.. ولما التفت خلفه، رأى السجناء من الهوت الذين تخلصوا من سجنهم وهم يقتربون منه ويختبئون في جوانب المكان بتحفز وقلق كبيرين.. بينما اقترب الرجل الذي شارك آرجان سجنه واختبأ خلف الطاولة قائلاً "ما الذي سنفعله الآن؟.. ما نزال وسط القلعة وما يزال الجنود محاصريننا.. فكيف الهرب؟"
قال آرجان بحزم "علينا أن نشق طريقنا بينهم.."
علق الرجل بتوتر "سهلٌ عليك ذلك.."
تلفت آرجان خلفه وتساءل "أين الفتاة العربية؟"
أجاب الرجل وهو يراقب تحركات الجنود "ما تزال في الأسفل تساعد بقية السجناء.."
شعر آرجان بتوتر كبير وهو بلهفة للبحث عن جايا بنفسه، فرمى سلاحه للرجل القريب وهو يقول "حاولوا استغلال ارتباك الجنود بهجوم التنين لتهربوا نحو بوابة القلعة.. عليكم أن تشقوا طريقكم بالقوة وإلا أعادوكم لسجونكم تلك لما بقي لكم من العمر.."
واستدار راكضاً والرجل يصيح خلفه "ماذا عنك أنت؟"
لم يجبه آرجان وهو يتجاوز الدرجات الحجرية راكضاً بقلق شديد.. لو طال الوقت برنيم وجايا قبل عودتهما، فهل ستتمكنان من الهرب مع البقية؟.. ما الذي أخرهما حتى الآن؟..
وفي الزنزانة الأخيرة، فتحت الفتاة السجينة عينها الوحيدة عندما انتبهت لوجود رنيم في المكان، فتساءلت بصوت مبحوح بالعربية "من أنتِ؟"
اقتربت رنيم منها متسائلة "أأنت جايا؟"
اتسعت عين الفتاة وقالت "هل تعرفينني؟"
كان جوابها صريحاً على ذلك السؤال.. فأغمضت رنيم عينيها بقوة وهي تشعر بالأسى لما تراه وبالألم لما سيشعر به آرجان عندما يرى أخته على هذه الصورة.. ثم تقدمت من جايا متجاوزة انفعالاتها وهي تقول بتوتر "علينا الخروج من هنا.."
سألتها جايا بإلحاح "كيف تعرفين من أكون؟.. وما الذي تنوينه بإخراجي؟"
قالت رنيم وهي تنظر في وجهها "لقد جئت مع آرجان.."
بدت ملامح الذعر على وجه جايا أكثر من اللهفة لرؤية شقيقها الوحيد، فلم تسألها رنيم عن ذلك وهي تفك قيود يديها وقدميها بمفاتيح عثرت عليها ضمن سلسلة المفاتيح التي استلبتها سابقاً.. وقبل أن تتمكن من تخليصها من القيود بشكل كامل، سمعت آرجان يناديها بإلحاح من الخارج..
تعلق بصر جايا بالباب بينما أكملت رنيم عملها بصمت.. ولما اندفع آرجان من باب الزنزانة، توقف بعد خطوة مصدوماً وهو يحدق بالفتاة التي بادلته النظرات بصمت.. ثم قالت له بصوت ضعيف "ما الذي تفعله هنا يا آرجان؟"
لم يجب تساؤلها وهو يقترب منها قائلاً بصوت لم يملك ارتجافته "ما الذي فعلوه بك؟.. تباً.. من الشقي الذي فعل بك هذا؟"
لم تجبه جايا وهي تخفض بصرها، ولما فكّت رنيم قيد يدها الثانية، تهاوت جايا بتعب فأمسكها آرجان بذراعيه وهو يتمتم بارتعاب "رباه.. ما الذي جرى لك يا فتاتي؟"
قالت رنيم بقلق "علينا الرحيل مع البقية بسرعة قبل قدوم الجنود.."
لم يكذب آرجان خبراً وهو يحمل جايا على ظهره محاذراً إيلامها، لكن رغم أنها لم تصدر أي صوت فإن ملامح الألم بدت صارخة على وجهها.. وبعد أن نهض حاملاً جسد شقيقته الضعيف، حمل خنجره بيده الأخرى لمواجهة أي جندي قد يعترض طريقه وقال لرنيم بتوتر "لنغادر.."
تبعته رنيم بصمت وقلب واجف، بينما همست جايا "ما الذي جاء بك إلى هذا المكان القصيّ؟"
أجاب بسرعة "بحثاً عنك بالطبع.. أظننتِ أنني سأيأس من ذلك؟"
ابتسمت جايا وهي تسند رأسها على كتف آرجان مغمغمة "الآن يمكنني أن أغمض عيني بارتياح.."
فقال آرجان متوتراً "ليس الآن يا جايا.. ليس قبل أن نغادر هذه القلعة الخبيثة ونصل بك لموقع آمن.."
لم تعلق جايا وهي تبتسم بصمت بينما راقبتها رنيم بقلق، لكنها لم تعلق على ما قيل وهي تتبع آرجان عبر الدرجات المؤدية للأعلى.. ولما وصلا للطابق الأرضي، قال آرجان بتوتر "علينا الخروج حتى يتمكن كاجا من الوصول إلينا ونقلنا بعيداً.."
تساءلت رنيم بقلق "ماذا عن بقية السجناء؟.. وماذا عن الجنود؟.. لابد أن الساحة تعجّ بهم الآن.."
قالت جايا دون أن ترفع رأسها "اصعد هذه الدرجات.. ستؤدي بك لسطح هذا المبنى، وهو قريب من سور القلعة.."
نظر لها آرجان بدهشة متسائلاً "كيف تعرفين ذلك؟"
ابتسمت ابتسامة شاحبة وهي تجيب "لقد عبرت هذا المكان من قبل، في محاولتي الوحيدة للفرار والتي فشلت كما لكما أن تتخيلا.."
لم يعلق آرجان وهو يفعل ما طلبته منه ورنيم تتبعه بسرعة، لكن بعد عدة درجات سمعا صوت تصايح الجنود خارج المبنى وأصواتهم تقترب بسرعة مما دلّ على محاولتهم دخول المبنى بحثاً عن بقية السجناء.. تذكرت رنيم تفاصيل المبنى عندما دخلته في وقت سابق، فلم تتردد وهي تستدير عائدة أدراجها بينما هتف فيها آرجان "عودي يا رنيم.. ما الذي ستفعلينه؟"
صاحت به أسفل تلك الدرجات "هناك بوابة حديدية يمكننا غلقها وتفصل بيننا وبين الجنود.. يمكنني غلقها ومنع الجنود من الوصول إلينا.."
صاح آرجان بعصبية "عودي حالاً.. ستقعين في أيديهم دون شك.."
فقالت رنيم بإصرار "ارحل مع جايا يا آرجان.. أنا لا يمكنني مساعدتها، ولا يمكنني ترككما تقعان في أيدي الجنود من جديد.. سأغلق البوابة وألحق بكما بعدها بقليل.."
لم يكن أمام آرجان بدٌ من إكمال طريقه، فصاح بها "لن نرحل بدونك يا رنيم.. أتفهمين؟"
لم تعلق وهي تتجاوز ما بقي من الدرجات قفزاً ثم تعتدل وتركض نحو البوابة المعدنية التي تحجز السجون والسجناء عن باقي المبنى والقلعة من خلفها.. وهناك، رأت بضع جنود يتقدمون من باب المبنى الرئيسي حاملين بنادقهم.. فأسرعت تغلق البوابة المعدنية في وجوههم بينما تدافع الجنود محاولين منعها من ذلك.. ثم اقفلتها بالقفل المعدني المثبت فيها وهي تزفر بتوتر شديد والطرقات القوية تضرب البوابة من الجانب الآخر.. لم تتوانَ رنيم عندها من التراجع بسرعة عائدة لتلك الدرجات التي ستؤدي بها لسطح المبنى آملة ألا يتمكن الجنود من تجاوز هذه البوابة قبل تمكنهم من الهرب..
في الأعلى، وقف آرجان على سطح هذا المبنى يتلفت حوله حتى رأى كاجا الذي تشاغل بمقاتلة بعض الجنود المتجمعين في الساحة.. فصفّر له آرجان بقوة ليستدير التنين على الفور ويرتفع فوق السور قبل أن يهبط على السطح.. ولما وقف أمامهما مثيراً الهواء بقوة، غمغمت جايا بابتسامة "كاجا.. لقد اشتقت لك يا فتى.."
قال آرجان وهو يندفع إلى التنين "أتمنى أن تعود رنيم بسرعة.. أود الرحيل من هنا بأي ثمن.."
رفع جايا بذراعيه فتحاملت على نفسها لتجلس على ظهر التنين وتتشبث به رغم آلامها، بينما تلفت آرجان خلفه بتوتر مغمغماً "أين تلك الفتاة الآن.....؟"
رآها في تلك اللحظة تغادر المبنى راكضة، ثم تتوقف فجأة وتصيح "خلفك يا آرجان.."
نظر بسرعة خلفه ليرى على السور المحيط بالقلعة، والذي لا يبعد عن سطح المبنى الذي هم عليه إلا متراً واحداً ويوازيه في الارتفاع، رأى عدداً من الجنود يقتربون راكضين وأحدهم يطلق طلقة من بندقيته نحو كاجا.. وقبل أن يتفادى كاجا ذلك الفخ، وجد أن الشباك المعدنية قد سقطت على ظهره وقيدت حركته، فزمجر بغضب وهو يهز رأسه ويطوّح ذيله جانباً..
هتف آرجان وهو يحاول إيقاف التنين "مهلاً يا كاجا.. ستسقط جايا.."
تشبثت جايا بالتنين بكل ما تملك رغم صعوبة ذلك دون سرج، بينما التفت آرجان فرأى الجنود يقفزون نحو سطح المبنى متجاوزين المسافة القصيرة، فركض آرجان نحو أقربهم ودفعه بكتفه بقوة ليسقطه من فوق السطح، ثم ركل آخر على ساقه ليتعثر محاولاً إسقاطه بدوره.. وبينما تكالب الجنود الأربعة الباقون على آرجان، فإن رنيم هرعت إلى كاجا وحاولت تخليصه من تلك الشباك بسرعة رغم صعوبة ذلك بسبب حركته المتوترة..
وبعد جهد، استطاعت تخليص جناح واحد من تلك الشباك بينما كاجا يطوّح رأسه بقوة ويزمجر بغضب.. لكن جندياً من الجنود قد اقترب منها وجذبها وهو يلوي ذراعها خلف ظهرها بقوة.. وسمعا صوتاً يقول بغضب "من حسن حظي أنني لحقت بكم قبل هربكم.. كنت سأموت كمداً لو نجحت شرذمة مثلكم بالهرب من قلعة (جمجات) ذاتها.."
التفتا إلى مدخل المبنى ليجدا الأمير يقف مع خمسة من جنوده، مما جعل موقف آرجان ورنيم وجايا أكثر عسراً وصعوبة.. لكن كاجا تحرك في تلك اللحظة بعد أن تمكن من تخليص رأسه من تلك الشباك، فطوّح ذيله تجاه الجنود الذين يحيطون بآرجان بضربة قوية تسببت في سقوط ثلاثة منهم من سطح المبنى بينما هرب الرابع ليقف مع جنود الأمير.. فصاح الأمير وهو يرى آرجان يتقدم من كاجا "إياك أن تتحرك.."
لكن آرجان جذب الشباك بقوة ليخلّص جناح كاجا الثاني ويتخلص من الشباك تماماً، ثم ضربه على فخذه صائحاً "طِرْ يا كاجا.."
لم يتوانَ كاجا عن استغلال هذه الفرصة وهو يقفز عالياً ويرفرف بجناحيه ليدفع جسده للارتفاع بسرعة خاطفة.. فتجاوز سور القلعة بسرعة بينما هتفت رنيم وهي تحاول التخلص من الجندي "لمَ لمْ ترحل معها يا آرجان؟.."
قال آرجان وهو يرى ثلاث جنود يتقدمون منه "أما زلتِ تسألين هذا السؤال؟!.."
شدّ قبضته وهو يلكم أقرب جندي منه بينما تعالى صوت الأمير يقول بغضب شديد "اقبضوا عليه قبل أن يهرب.. لا تدعوا ذلك التنين يفلت من يدي.."
رغم أنه ألقى أمره بلغة الكشميت، لكن ما قاله بدا واضحاً لآرجان ورنيم.. تلفتت رنيم بقلق لتجد جنديين ممن يحملان البنادق ذات الفوهة العريضة يتقدما من السور وهما يصوّبان سلاحيهما نحو التنين الطائر.. ولما أطلق أولهما طلقة من بندقيته، انفجرت القذيفة لتسقط منها شباك أخرى محاولة إسقاط التنين الذي تفاداها وهو يميل جانباً حتى خشيت رنيم من سقوط جايا من على ظهره..
وبسرعة، دار آرجان حول الجندي الذي يواجهه وألقى خنجره بأقوى ما يملك نحو الجنديين اللذين يحاولان إسقاط كاجا.. وبينما أصاب الخنجر أحدهما في ظهره وهو يسقط جانباً بألم، فإن الثاني ارتبك للحظة كانت كافية ليبتعد كاجا عن مرمى قذائفه ويحلق نحو الأفق بأسرع ما يملك..
التفت الجنود إلى أميرهم بقلق، فوجدوه يتميّز غيظاً وهو يراقب ما يجري، ثم صاح برجاله "اتبعوا ذلك التنين واستعيدوه بأي ثمن.. بأي ثمن.."
ركض الجنود منفذين أمره، بينما انشغل اثنان منهم بقتال آرجان الذي لم يستسلم بسهولة وهو يتراجع خطوة ثم خطوتان.. ولما همّ الجندي بضربه بمؤخرة سلاحه، عاجله آرجان بركلة في بطنه بقوة، ثم لكمة أخرى في وجهه وهو يدمدم "بقي واحد.."
لكن ضربة قوية أصابت وجهه بعنف من الجندي الثاني وهو يتراجع خطوة، ثم عاجله الجندي بضربة أخرى بسلاحه فإذا بآرجان يجد نفسه يتعثر ويسقط من فوق سطح المبنى نحو الأرض من ارتفاع عشرة أمتار دون أن يجد ما يشبث به.. صاحت رنيم باسمه بارتياع، بينما قال الأمير للجندي الممسك بها وهو يتقدم منها "نفذ ما طلبته منك.. ولا تهتم بأمر هذه الحقيرة.."
وجدت رنيم الجندي يتركها ويهرع خلف رفاقه مع الجنديين الآخرين بعد أن فرغا من أمر آرجان، فاستدارت رنيم وانحنت من فوق السطح بقلبٍ واجف لترى ما حصل له.. لكنها أطلقت تنهيدة بعد أن وجدته قد أفلح في إيقاف سقوطه العنيف بالتشبث بجزءٍ بارزٍ لإحدى النوافذ في المبنى وهو يحاول الارتفاع والدخول من النافذة.. تلفتت رنيم حولها بحثاً عن وسيلة لمساعدته، عندما سمعت صوت الأمير يقول ببرود "أمازلت حياً أيها القط؟.."
نظرت إليه فوجدته قربها وهو يتناول بندقية قريبة من بنادق الجنود الذين سقطوا ويوجه فوهتها نحو آرجان.. فصاحت رنيم وهي تقفز نحوه "توقف.."
لم يجد آرجان، وهو يرى البندقية مصوبة نحوه، مفراً من السقوط أرضاً للهرب من طلقة مميتة.. وبعد نظرة سريعة للأرض، فإنه ألقى نفسه متجاوزاً الأمتار الباقية بينما طاشت الرصاصة بعد أن قفزت رنيم ودفعت يد الأمير بعيداً..
تمكن آرجان من تخفيف سقوطه عندما هبط على بضع صناديق فارغة رغم ما سببته له من ألم، لكنه نهض بعدها بدون أن يكسر ضلعاً أو يصاب بشجٍ في رأسه.. رفع بصره للأعلى بقلق وهو يسمع صياح الأمير الحانق، فصاح "رنيم.. أأنت بخير؟.."
لم يكن يستطيع رؤيتها، لكن صراخ الأمير بغضب دلّه على عسر موقفها.. تلفت حوله بحثاً عن وسيلة سريعة للوصول إليها، عندما استوقفته صيحة تعالت من السماء.. ولما رأى كاجا الذي اقترب من سور القلعة وهو يزمجر بغضب متوجهاً لرنيم، غمغم آرجان "أتمنى أن تكون قد عاملت جايا برفق يا صاحبي.."
وتلفت حوله مضيفاً "لا أظن رنيم بحاجتي مع وجود كاجا.. بقي الآن أمر بقية رجال الهوت المسجونين في هذه القلعة.."
انحنى متناولاً خنجره الذي سقط من يده، ثم ركض متجاوزاً ذلك المبنى ونحو ساحة القلعة حيث تجمع بقية رجال الهوت والنيران تلقي عليهم بضوئها الأحمر البشع..


*********************
في تلك الأثناء، وبعد أن نجحت رنيم في ضرب يد الأمير لتطيش الطلقة وتسقط البندقية من يده بعيداً، التفت الأمير إليها وقال بملامح مكفهرة "كيف تجرؤين على ذلك؟.. كيف يمكنك تحدّي مملكة كشميت أيتها العربية الحقيرة؟"
قالت مقطبة "أنا لم أتحدى أحداً.. جئت بحثاً عن الهوت الذين لم يجنِ أحدهم ذنباً ليعاقب بهذه الصورة.."
صرخ الأمير في وجهها وهو يستخرج خنجراً من ملابسه "لا يحق لك ذلك.. أتعرفين ما أفسدته بتدخلك في أمور القلعة؟.. كنا على وشك الوصول لكشفٍ هام فيما يخص التنانين.. وكانت مملكتنا ستستفيد من ذلك بشكل كبير.. والآن، ضاع كل ما بذلناه من جهد بسبب فتاة عربية تافهة.."
تراجعت رنيم خطوة وهي تقول بحدة "كشفٌ هام؟.. وهل الكشوف تأتي بتعذيب أبرياء لا ذنب لهم؟.. أهذا هو العلم الذي تسعون لتحصيله؟"
صرخ بقوة "علم؟.. ليس العلم هو المهم.. بل القوة.. السيطرة.. أن نكون الأفضل والأقوى.. أن نكسر خصومنا ونصبح السادة بلا نزاع.."
قالت رنيم بتقطيبة "لا يحق لكم ذلك.."
فوجئت به يصفعها بقوة بيده التي تحمل الخنجر حتى أسقطها أرضاً، فسقطت بعنف على ظهرها على سطح المبنى لقوة الضربة التي أصابت وجهها بينما شعرت بألم حارق في جبينها.. ولم تلبث أن شعرت بالدماء التي سالت من موضع الجرح الذي سببه لها الخنجر مع تلك الصفعة.. وقبل أن تنهض بالفعل، وجدت الأمير يركع فوقها واضعاً ركبتيه على ذراعيها لئلا تقاومه، وأمسك وجهها بيده بقوة بينما لوّح بالخنجر باليد الأخرى نحوها صائحاً بغضب شديد "ستندمين على ذلك.. ستندمين أيتها الحمقاء على تحدي مملكة عظيمة كمملكة كشميت.. نحن سنسود العالم.. سنصبح أسيادكم وسترين ذلك.."
غمغمت رنيم بدون انفعال ودون أن تعبأ بالأمير الذي ثبّتها أرضاً ووضع خنجره في موضع قلبها "كل الممالك تدّعي عظمتها على البقية.. لكن البشر كلهم سواء.. إن كانوا عرباً أم من الهوت أو الكشميت أو غيرهم.. لا أحد أفضل أو أكثر أحقية بسيادة هذا العالم عن الآخر......"
صاح الأمير بانفعال "اصمتي.. أنا لم أسمح لك بالتعليق على ما أقوله.."
سمعا زمجرة قوية تبعتها صيحة غاضبة من فوقهما، ولما رفعا بصريهما رأيا كاجا الذي اقترب بسرعة حتى هبط في موقع قريب والهواء القوي يندفع في المكان.. كان ظهره خالياً، وتساءلت رنيم عن الموقع الذي اختبأت فيه جايا عن أعين الجنود الذين سيلحقون بها.. هل هي بأمان حقاً؟..
نظر الأمير للتنين مقطباً، بينما أطلق كاجا صيحة غاضبة أخرى في وجه الأمير وهو يضرب الأرض بقدمه.. بدا أنه قد عاد باحثاً عن رنيم بعد أن أتمّ مهمته.. لكن الأمير لم يعبأ به وهو يدفع خنجره المنقوش نحو رنيم قائلاً بحنق "أتحاولين إخافتي بهذا الحيوان؟.. أتظنين أنه يقدر على فعل شيء وأنا أضع يدي عليك؟.. سيندم لو فكر بالتقدم خطوة.. وستندمين أنت على كل ما فعلته بحماقة شديدة.."
لكن رنيم كانت مدركة أن كاجا يقدر على أكثر من ذلك.. نظرت للتنين بصمت دون تعليق.. كانت تستطيع إيقاف غضبة كاجا بكلمة منها، لكنها لم تلجأ لذلك وهي تتذكر منظر جايا وهي مقيدة في محبسها.. تتخيّل عذابها في الليالي والأيام السابقة دون بصيص أمل، ويؤلمها مجرد تخيّل ذلك.. وبينما استمر الأمير بالصياح بغضب وانفعال شديدين، فإن رنيم خفضت بصرها بصمت وهي تسمع زمجرة كاجا تتحول لصيحة غاضبة.. وبحركة خاطفة، بعد أن رفض الأمير الانصياع لتحذيرات كاجا، فإنه قفز نحوهما والتقط رأس الأمير بفكيه وجذبه للأعلى بشدة.. وجدت رنيم نفسها ملقاة أرضاً والخنجر اللامع يقع قربها، بينما وقف كاجا قريباً رافعاً الأمير من رأسه والدماء تتصبب بغزارة وتسيل فوق ملابسه النظيفة فتغرقها وتسيل من قدميه المنتفضتين نحو الأرض.. لم ترفع رنيم عينيها ولم تنظر للمنظر الذي يبدو عليه كاجا ويشعرها بالارتعاب عادة، بل اعتدلت جالسة بصمت وهي تضع يدها على جبينها الذي سالت الدماء منه.. ولم يلبث كاجا أن ألقى الجثة جانباً بزمجرة محذرة، ثم مدّ رأسه نحو رنيم وكأنه يطمئن عليها.. مسحت رنيم على خطمه غير عابئة بالدماء التي تغطيه، ثم مدت يدها وتناولت الخنجر تتأمله للحظة متمتمة "سواء أكنت من الكشميت أم من العرب أم من أي جنس آخر.. الكل في الموت سواء.. هذه هي الحقيقة الوحيدة.."
ووضعت الخنجر في حزامها وهي تنهض وترى ما حولها.. كانت القلعة التي اشتعلت بنار لا تهدأ تضيء تلك الليلة بوضوح.. بينما تراكض الجنود في الساحة بين ملاحقة السجناء وبين إنقاذ ما يمكن إنقاذه من القلعة.. ومن موقعها العلوي فوق سور القلعة، فإن رنيم وقفت واضعة يدها على التنين وهي تراقب ما يجري بصمت.. إنها مدهوشة كيف يمكن لجبروت الإنسان أن يتحطم بهذه السرعة والبساطة، وكيف لكبريائه أن يُمرّغ في التراب مع الجثة التي تفقد روحها وتسقط بلا حول ولا قوة..
رأت في تلك اللحظة جمعاً من الجنود ببنادقهم وهم يحيطون ببقية السجناء الذين لم يتمكنوا من عبور بوابة القلعة المغلقة، وآرجان يقف معهم حاملاً خنجره الذي لن يفيده في شيء أمام البنادق.. كان جنود الكشميت يصيحون في السجناء بعصبية آمرينهم بالاستسلام، وهذا لم يكن بحاجة لمترجم لترجمته بأي لغة، لكن بدا أنهم لم يتلقوا أوامر بإطلاق النيران على الهاربين من أميرهم.. فربتت رنيم على ظهر كاجا قائلة "هيا يا صديقي.. بقي القليل فقط لننقذ صاحبك وبقية الهوت.."
وامتطت ظهر التنين ولكزت بطنه، وفي الوقت ذاته كان رجال الهوت يتراجعون وهم يحملون أي شيء يمكن أن يفيدهم في الدفاع عن أنفسهم.. فؤوس، أخشاب، وبضع أدوات معدنية.. لكن الجنود المسلّحين ببنادقهم كانوا يشكلون طوقاً حولهم وهم يتقدمون بثبات من السجناء الذين منعتهم البوابة المغلقة خلفهم من التراجع أكثر.. فقال أحد رجال الهوت بعصبية "ما الذي استفدناه من الهروب ما لم نتمكن من تجاوز هذه البوابة؟.. سنعاقب على ما فعلناه، هذا لو لم يقرروا قتلنا بأمرٍ من أميرهم.."
قال آرجان بصرامة "قتلنا ونحن نحاول استعادة حريتنا خير من قتلنا ونحن في مخابئنا كالفئران.."
غمغم الأول بحنق "وما الفائدة لو كانت النتيجة موتاً في كل الأحوال؟"
قطعوا حديثهم مع رؤية جسد يسقط أمامهم وأمام الجنود.. تجمد الوضع للحظات بينما هبطت رنيم مع التنين أمام الهوت، ولما دقق الفريقان البصر في ذلك الجسد الهامد، أدركوا أنه جسد الأمير وعنقه يكاد يكون مفصولاً عن جسده.. وبينما غمر الارتياع الجنود لذلك المنظر، ولفقدانهم قائدهم، فإن صيحة غاضبة من التنين بالدماء التي غمرت شدقيه قد أثارت بلبلة قوية في صفوفهم وهم يتراجعون ومنهم من يفرّ لجانب آخر من القلعة رغم وجود البنادق في أيديهم..
تدارك آرجان الأمر فصاح ببعض الرجال من حوله "فليذهب بعضكم ليفتح البوابة.. كاجا سيطمئن أن الجنود لن يحاولوا منعكم من ذلك.."
أسرع ثلاثة من الرجال نحو جانب البوابة حيث الرافعة اليدوية التي تهبط بالبوابة كجسر فوق الخندق الذي أقيم حول القلعة وملأته الصخور المدببة.. بينما قال رجل لرنيم بحيرة "ها أنا أسألك من جديد.. من أنت حقاً؟.. ولمَ تقوم فتاة عربية بإنقاذ الهوت؟"
قالت رنيم بابتسامة محدودة "ليس المهم من أنا.. بل المهم ما أفعله.. أليس كذلك؟"
نظر لها الرجل بحيرة أشد، بينما بدأت البوابة تفتح بصوتٍ قوي حتى هبطت على الجانب الآخر من الخندق.. عندها أسرع الرجال لتجاوزها نحو الجانب الآخر دون تردد بينما وقفت رنيم في موقعها على ظهر كاجا وآرجان قريب وهما يتأملان القلعة المحترقة.. ولما نظر آرجان لرنيم ورأى جرح جبينها، سألها بقلق "أهذا الجرح سببه ذاك الوغد؟"
قالت رنيم بابتسامة "إنه مجرد جرح سطحي.."
وبعد أن اطمأنّا أن السجناء قد ابتعدوا عن قبضة الجنود الذين لم يحاولوا اللحاق بهم بعد موت أميرهم، فإن آرجان امتطى ظهر كاجا قائلاً "لنرحل.. جايا تنتظرنا.."
لم تعلق رنيم وهي تدور ببصرها في المكان، بينما دفع آرجان كاجا ليرتفع متجاوزاً سور القلعة ثم يتّجه حيث ترك جايا في المرتفعات الصخرية التي تنتصب عند الأفق..


*********************
لم يكن الموقع الذي اختبأت فيه جايا بعيداً عن القلعة، لكنه كان وسط مرتفع صخري ينتصب في الصحراء وفيه من المغاور ما يسمح لها بالاختباء عن الأعين.. لم يستغرق منهم الوصول إليها إلا بضع دقائق، وفور هبوط كاجا على موقع مرتفع قرب إحدى المغارات فيه، فإن آرجان قفز من على ظهره وركض حيث كانت جايا مستلقية في جانب من تلك المغارة تراقبهم بصمت.. وعندما ترجلت رنيم بدورها، وجدت كاجا ينطلق طائراً على الفور بحثاً عما يسدّ جوعه الذي اشتدّ بعد كل تلك الأحداث في القلعة.. لم تشعر رنيم بأي قلق لذلك، بل تقدمت من آرجان وجايا بصمت، ولما رأتها أدركت أن حال جايا كان سيئاً بالفعل، بينما ركع آرجان أرضاً قربها وهو يضمّ جسدها إليه بحنوٍ ممزوج بأسىً واضح..
لم تنبس رنيم بكلمة وهي تجلس جانباً بصمت بينما آرجان منشغل كليّة بجايا ولا يكاد يرى غيرها.. فسمعته رنيم وهو يقول بحنق "تباً لهؤلاء الكشميت.. كيف يفعلون هذا بك؟.. كيف يمكنهم أن يستخدموا الهوت للحصول على نقطة تفوق لهم في هذه الحرب؟.. أليس للأبرياء أي حق باختيار مصيرهم؟.."
غمغمت جايا بتعب "لا تحزن لهذا يا أخي.. فلم يعد هذا مهماً.."
نظر لها بأسى، وقال "لمَ فعلت هذا يا جايا؟.. لمَ استسلمتِ لذلك التعذيب ولم تتصرفي لتجنّبه؟.. لو أنك استجبت لهم وأخبرتهم بما يريدون معرفته، لربما كان حالك أفضل مما أنت عليه الآن.."
هزت جايا رأسها رفضاً وقالت "لم أقدر على ذلك.. إنهم لا يملكون إلا تنيناً واحداً.. أتعلم ما يعنيه ذلك؟.. عندما يدركون أن التعامل مع التنين ليس بالصعوبة التي تخيّلوها، فسيسعون لوضع أيديهم على كل من يطالونه من التنانين.. والهوت، الذين لن يصمتوا على ذلك، سيدخلون في حرب مع الكشميت بكل ما أوتوا من قوة.."
ونظرت لآرجان مضيفة "كلما تخيّلت ما قد يجري للهوت على يديّ لو تكلمت، يهون لعيني عذابي وتصبح آلامي أقل حدة وعنفاً.. لا يمكنني أن أحمل ذنب الهوت على كاهلي، ولا أطيق أن أراك تتأذى بسببي يا أخي.."
قال آرجان بصوت مرير "هل صمدتِ أمام كل ذلك التعذيب لأجلي ولأجل الهوت؟.. ألا تظنين أن ذلك سيسبب لي الألم على ما جرى لك؟.."
ابتسمت وقالت "قد أكون أنانية، لكني لا أريد أن أتألم أنا عندما أراك تتأذى على أيدي الكشميت.. وتمنيت حقاً ألا تصل إليّ لترى ما أنا عليه.."
ثم أطلقت ضحكة بشيء من العسر وهمست "الكشميت، رغم كل علومهم وعقولهم، حمقى حقاً.. ألم يدركوا طوال تلك الشهور التي دأبوا فيها على اختطاف الهوت والتنانين ألا وجود لوسيلة خاصة للتعامل مع التنانين؟.. أنها بحاجة لبعض العطف والرعاية، وفوق ذلك بحاجة للحرية؟.. لم يدركوا مع كل ذلك التعذيب الذي طالني وطال بقية الرفاق أن التنين يعاملك كصديق أولاً قبل أن تكون سيداً عليه.. ورغم ذلك، كل ما حاولوا فعله هو إجبارها على إطاعتهم بكل قسوة وعنف.. وهذا ما أثمر نتائج عكسية.."
لم يحوّل آرجان بصره عنها وهو يقول بقلق "جايا.. هل يمكنك تحمل رحلة كهذه؟.. سأعود بك للقرية بأسرع ما أستطيع.. ستكونين بخير ببعض العلاج.."
ابتسمت جايا مغمغمة "وما الذي ستفعله بتلك الفتاة؟.. هل ستتخلى عنها؟"
نظر آرجان لرنيم التي جلست جانباً بقلق وتوتر واضحين وهي تستمع لهما دون أن تفهم شيئاً، بينما أضافت جايا "لا تفعل ذلك.. إنها لا تستحق ذلك.."
قال آرجان بتوتر "لم أنتوِ فعل ذلك إطلاقاً.. لكن لا يمكنني التخلي عنك.. لا يمكنني تركك على ما أنت فيه.."
غمغمت جايا "هذا حالٌ ميؤوس منه.."
نظر آرجان لرنيم قائلاً "رنيم.. هل تستطيعين اصطحاب جايا معك عائدة للقرية؟.. يجب أن تفعلي هذا بأسرع ما يمكنك ومع أقل ما يمكن من الراحة.."
همست جايا "لا تفعل هذا.."
علقت رنيم وهي تقف بتوتر "ماذا عنك؟.. ما الذي ستفعله أنت؟"
قال متلفتاً حوله "سأرحل مع البقية نحو أقرب ميناء ومن هناك سنحاول العودة للقارة العظمى.. لا تقلقي لشأني.. المهم أن تصل جايا للقرية لتتمكن الحكيمة من علاجها وإعادة صحتها لها.."
ضحكت جايا بشيء من السخرية المريرة لقوله وعلقت "أي شيء ستعيده لي الحكيمة بأعشابها وأدويتها؟.. ألا ترى ما حلّ بي؟.."
قال آرجان لرنيم متجاهلاً تعليق جايا "عليك الرحيل حالاً يا رنيم.. حتى لو كان كاجا متعباً، فببعض التشجيع يمكنه أن يقطع مسافات طويلة دون راحة...."
مدت جايا يدها وأمسكت ذراع آرجان بقوة قائلة بحزم رغم صوتها الضعيف "آرجان.. ألا تراني حقاً يا أخي؟"
نظر لها آرجان بتوتر، وهو يشعر بيدها التي فقدت بعض أصابعها تضغط على ذراعه بشيء من القوة، فابتسمت مضيفة "ألم ترني حقاً؟.. هل ترى أي حياة في عيني هذه؟"
قال آرجان بحدة "هذا حديث لا معنى له.. أنت متعبة، وببعض الراحة والعناية ستعودين بأفضل مما كنت؟"
نظرت له بثبات وحزم، فأضاف آرجان بلهجة متوسلة "ستكونين بخير يا جايا.. لا تستسلمي.."
زفرت جايا بتعب وهمست "لا تتعبني أكثر مما أنا فيه بالفعل يا أخي.."
ظل ينظر لها بمرارة وأسى وهي تتنفس بشيء من العسر مغمضة عينها، ثم همست "يبدو أن هذا أقصى ما يمكنني الوصول إليه في حياتي هذه.. ولستُ آسفة على شيء قدر أسفي على تركك وحيداً يا أخي الحبيب.."
ثم ضحكت ضحكة صغيرة وهمست "ما يؤلمني أنني لم أسأله عن اسمه قط.. يا للسخرية.."
سألها آرجان "من تعنين؟"
قالت بابتسامة "منقذي الأسطوري.. هو صاحب المحاولة الوحيدة التي قمتُ بها للهرب، وفشلت فشلاً ذريعاً.. والآن، ما عاد لهروبي أي أهمية.."
اعترض آرجان بصوت مرير "لا تستسلمي بهذه الصورة يا جايا.. لقد صمدتِ لأيام وأسابيع طوال.. لن يضيرك الصبر ليوم أو يومان حتى نصل القرية.."
هزت جايا رأسها نفياً، ثم قالت بابتسامة "آرجان.. أريد رؤية السماء.."
كتم آرجان انفعاله بصعوبة وهو يرى ابتسامتها المتعبة، ثم حمل جسدها الضعيف بخفة وسار نحو كاجا الذي عاد قبل وقت قصير وأقعى جانباً بصمت.. فعاونها على الجلوس على ظهره وامتطى ظهر التنين خلفها ثم ارتفع به بسرعة ليحلق في السماء تاركاً رنيم تنظر له بانفعال.. رغم أنها لم تفهم شيئاً من حديثهما، إلا بضع كلمات هنا وهناك، ورغم أن آرجان رحل دون تفسير ودون أن يطمئنها بكلمة، لكنها نوعاً ما أدركت أنه لن يغادر ويتخلى عنها.. لذلك لم تشعر بالقلق لغيابه قدر شعورها بالألم للحال التي عليها جايا وللأسى الذي بدا في عيني آرجان..
وعلى ظهر كاجا، أحاط آرجان جسد جايا الضئيل بذراعه متمسكاً بالتنين بيد واحدة وارتفع به لأقصى موقع يمكنه الوصول إليه.. سمع جايا تتنفس بعسر وشيء من الألم، ثم رفعت بصرها ونظرت حولها بعد أن استقر كاجا في طيرانه، وتنفست بعمق قبل أن تقول بصوت ضعيف "لو كنتُ سأشتاق لأمر، لاشتقت لهذه الحرية.. أعشق هذا الاتساع، وأعشق الشعور بأن السماء تضمّني بقوة ورفق.. كيف لإنسان أن يحتجز إنساناً آخر ويحرمه من أن يرى السماء ويستنشق رائحة الطبيعة التي لا تقاوم؟.."
لم يعلق آرجان وهو يضمها لجسده بقوة، فهمست "اعذرني يا آرجان.. ستمنحك هذه اللحظات ذكرى قاسية ومؤلمة ستبقى معك لوقت طويل.. اعذرني، فلم أتمنّ يوماً أن تأتي لإنقاذي ورؤية ما أصبحت عليه"
غمغم آرجان بصوت متغيّر "لم أكن لأهدأ وأنا لا أعرف في أي أرض أنت ولا ما حلّ بك.. أنت شقيقتي الوحيدة التي لا غنى لي عنها.."
رفعت جايا بصرها إليه، ثم ابتسمت بمرارة قائلة "أرأيت؟.. حزنك وألمك يبدوان بوضوح على وجهك يا آرجان.. هذا ما جنيتُ به عليك، وهو ما لم أكن أود أن أراه أبداً.."
ولمست وجهه بيدها بحنو هامسة "هل ستبكي لأجلي يا أخي؟.. لا تفعل هذا أرجوك.. لا تفعل هذا.."
أمسك آرجان يدها بقوة، ورغماً عنه أفلتت دمعة من عينه سالت على خده، بينما أغمضت جايا عينها باستسلام هامسة "لا تحزن يا أخي.........."
احتضن آرجان جسدها بقوة أكبر وهو ينظر للأفق بصمت.. انحدرت دموعه على خديه دون ممانعة منه وهو يزمّ شفتيه بقوة ومرارة.. سكن جسد جايا بهدوء وصمت، بينما الرياح تعبث بخصلاتها التي تدلّت على جبينها.. رحلت جايا، تاركة قلب آرجان مفعماً بمشاعر لم يشعر بقوتها وبإيلامها له من قبل.. رحلت، والمرارة التي خلفتها في صدر أخيها لم تكن لتهدأ لما بقي له من العمر..


*********************
عندما عاد آرجان للأرض على ظهر كاجا، محيطاً الجسد الضئيل أمامه بذراعه بإحكام وحنو، رأى رنيم تهبّ واقفة وهي تتطلع إليه وفي عينيها أثر للدموع التي ذرفتها وحيدة.. ولما رأت ملامحه القاتمة، ورأت فمه الملتوي بمرارة، سالت دموعها من جديد دون أن تقترب منهما وكأنها تخشى أن تكسر الحاجز اللامرئي الذي أقامه آرجان حوله وحول شقيقته الوحيدة..
هبط آرجان عن ظهر كاجا الذي أخذ يزوم بحزن واضح، ودفع خطمه نحو جسد جايا يتشممه ويدفع ذراعيها اللتين تدلتا دون حراك.. وضع آرجان جسد جايا الساكن أرضاً وسقط على ركبتيه قربها.. ظل خافض الرأس بصمت ويدين معقودتين بشدة، بينما ظلت رنيم بعيدة تراقبه مانحة إياه الفرصة ليخلو بنفسه وحيداً..
أي مشاعر تعتمل في صدر آرجان بعد أن سعى خلف شقيقته عابراً الممالك والبحار لإنقاذها، فقط ليحظى برؤيتها للحظات معدودة قبل أن تسلم روحها ويسكن جسدها الضئيل المثقل بآثار تعذيب قاسية؟..
أي أسىً، وأي مرارة يمكن أن تفيض من روحه في مثل هذه اللحظات؟..
ظلت رنيم تراقبه دون أن تتمكن من إيقاف دموعها المنهمرة.. حزناً على جايا الشجاعة التي لم يكتب لها الفرار من سجنها إلا لتقع أسيرة جسدها المريض.. وحزناً على آرجان الذي جاب العالم بحثاً عن شقيقته ليحميها، ليجد أنها ما عادت تحتاج لحمايته..
حزناً لهذه الحكاية التي كُتب عليها الشقاء حتى النهاية..


*********************
مرّ يومان، قضتهما رنيم في ذلك الموقع الذي يطلّ على قلعة (جمجات) والمقابر القريبة منها، وهي تراقب آرجان الذي التزم الصمت التام وانزوى بعيداً في موقع قرب المقابر تلك.. في هذين اليومين، انشغل كاجا في نقل رجال الهوت على دفعاتٍ نحو أقرب موقع من الساحل ليحاولوا الهرب عبر البحر عائدين للقارة العظمى، بعد أن استعاد الرجال سرجه المخلوع من القلعة.. بينما بقيت رنيم ملتزمة الصمت التام وهي تحدق في الأفق محاولة عدم التفكير فيما يشعر به آرجان في تلك اللحظة..
ورغم كرهه لتلك القلعة التي أصبحت خراباً وهجرها جنودها بعد موت أميرهم، لكن آرجان لم يجد بداً من دفن جايا جوار رجال الهوت الذين قضوا نحبهم قبلها، في المدافن التي تقع خارج أسوار القلعة.. فأن تكون جوارهم خير لها من أن تبقى وحيدة في هذه الأرض الغريبة.. ونقلها للمقابر قرب قرى الهوت صعب جداً لبُعد المسافة ولإشفاقه عليها بعد كل هذا..
حرصت رنيم على أن تبقى بعيدة وقريبة في الآن ذاته من آرجان.. قريبة كي يشعر أنه ليس وحيداً، ويشعر بتعاطفها معه علّ ذلك يخفف حزنه عليها.. وبعيدة كي تمنحه بعض الفسحة ليتمكن من ذرف حزنه وألمه الشديد مع دموعه لكيلا تبقى حبيسة صدره.. كانت تدرك أنه يبكي حينما لا تراه، وحينما يعلم أن أحداً من البشر لن يراه.. تسيل دموعه على خديه، ولا يبقى منها إلا احمرار عينيه عندما تقترب منه لتطمئن عليه..
ورغم هزاله وضعفه، فإنه بالكاد يتناول أي نوع من الطعام أو يشرب أي ماء مما يعود به الرجال من البئر الوحيد في القلعة القريبة.. فبعد أن هجر الجنود القلعة بعد موت أميرهم ولم يحاولوا تتبع أثر الهوت، فإن رجال الهوت قد استولوا على ما بقي من طعام في مخازن القلعة واستفادوا من المياه التي يزخر بها البئر وسط ساحتها..
وبعد هذين اليومين، بعد أن أتمّ كاجا نقل رجال الهوت بعيداً، بقي قريباً يراقب آرجان ورنيم بصمت ولا يغادر إلا للحصول على بعض الطعام من الحيوانات النادرة التي تعيش في هذه الصحراء.. وبعد أن قضى آرجان هذين اليومين يحدق في تراب الأرض بصمت، وجدته رنيم في تلك المرة يحدق في السماء بصمت أيضاً.. فأدركت أن شيئاً ما قد تغيّر.. ربما قد نجح في تجاوز حزنه شيئاً ما واشتاق للسماء من جديد.. هذه بادرة جيدة لم تتمكن رنيم من تجاهلها وقررت استغلالها.. فجلست قربه تتأمل الأفق حيث الشمس مالت لمغيبها، وقالت برفق "كيف أنت الآن؟"
لم يجبها كعادته في الأوقات السابقة، لكنها لم تيأس هذه المرة وهي تقول "ألا تنوي المضيّ قدماً بعد الآن؟.. هل تنوي قضاء ما بقي من حياتك عند قبرها يا آرجان؟"
قال آرجان متنهداً "لا.. لكن قلبي لا يطاوعني على تركها هنا وحيدة في هذه الأرض القاسية الغريبة وأنا أعلم أنني لن أتمكن من العودة إليها أبداً.."
علقت رنيم بابتسامة "لم أتوقعك رقيق القلب هكذا يا آرجان.. أنت تدهشني.."
غمغم آرجان "لو عرفتِها، لأدركتِ أي شيء خسرته بموتها.."
خفضت رنيم بصرها قائلة "بل أدرك خسارتك بالفعل.. رغم أنني لم أرها إلا لوقت قصير، لكنني تمكنت من رؤية أي شخصٍ هي، وما تتميز به ويجعلها تبدو لعينيّ كأشجع وأجمل من أي أسطورة قرأتها.."
لم يعلق آرجان وهو يزفر من جديد بمرارة واضحة.. فصمتت رنيم بدورها وهي تجلس قريبة تتأمل السماء بصمت وسكون تاركة آرجان يغرق في أفكاره دون مقاطعة.. وبعد مرور بعض الوقت وهما على هذا الحال، تساءل آرجان أخيراً وهو يتطلع إليها "ما الذي تنوين فعله بعد الآن؟.. إن كنت ترغبين أن أعيدك لمملكة أبيك فأنا لن أتردد في ذلك.."
هزت رأسها نفياً بشدة، فقال مقطباً "إذن أين تنوين الذهاب؟.. هل تنوين العودة لقرية الهوت؟.. أنت تدركين أنك غير مرحب بك هناك أبداً.."
قالت خافضة وجهها "لا.. لا يمكنني أن أسبب المزيد من الضرر لأهل تلك القرية.. لذلك لن أعود لها أيضاً.."
فقال آرجان بحيرة "وأين تنوين الذهاب إذاً؟.."
نقلت السؤال إليه قائلة "ماذا عنك؟.. هل ستعود للقرية الآن؟"
زفر آرجان وهو يدير بصره جانباً مجيباً "لا.. ليس الآن على الأقل.. لا أريد أن أواجه أي أسئلة، ولا أريد من يذكرني بجايا ليل نهار.. لا أريد بتاتاً رؤية الشفقة في أعينهم عندما أعود وحيداً كما غادرتهم وحيداً.."
فقالت رنيم برجاء "إذن، ألن تأخذني معك؟.. كما اصطحبتني لأول مرة عندما غادرنا قرية الهوت، فأنا أود الذهاب معك هذه المرة أيضاً.. وكما قلت سابقاً، سأحاول ألا أكون عبئاً عليك بتاتاً.."
نظر لها آرجان بغير اقتناع وقال "أبعد كل ما مررتِ به بسببي تريدين الاستمرار في هذه الرحلة؟.. محال.."
قالت بشيء من التوسل "لمَ لا؟.. ما الذي يمنعك من ذلك حقاً؟.. أنا مسؤولة عن نفسي وما سيجري لي سأتحمله بمفردي.."
غمغم آرجان وهو يتطلع للموقع حولهما "وأين تأملين أن نذهب؟.. هذا العالم الواسع لن يسعنا أنت وأنا بالذات.. أنا من الهوت، وغير مرحّب بي في أي مكان كما تعلمين.. وأنت، بما كنتِ عليه قبل كل هذه الأحداث، ستظلين بخوف من أن يعثر عليك أحد من مملكة أبيك ويستعيدك.. والأسوأ من ذلك أن يعاقبوك على كل ما فعلتِه منذ فارقت قصر (الزهراء).."
فقالت رنيم "وما الذي فعلته؟.. هل هي جريمة أن أبحث عن حريتي؟.. أهي جريمة أن أرفض القيود؟.. أهي جريمة أن أعيش حياتي كما أريد أنا لا كما يريد لي الناس؟.."
غمغم آرجان "هي جريمة في أعين بعض البشر حقاً.."
قالت وهي تتطلع للسماء "ولمَ علي أن أعبأ بذلك؟.. لمَ عليك وعلي أن نسير كما يريد لنا الآخرون؟.. هذه حياتنا ولنا الحق في اتخاذ القرار الذي نراه يوافقنا.."
سمعا صيحة أطلقها التنين من موقع قريب وهو عائد من رحلة صيده.. وعوضاً عن الهبوط قربهما فإنه اتخذ دورة واسعة وهو يطير بكل حرية مطلقاً صيحات يتردد صداها في الصحراء الخالية هذه.. نظرت رنيم للتنين بابتسامة وهي تذكر ذكرى بدت لها بعيدة.. ذكرى تلك الليلة التي نامت فيها باكية بؤساً على حالها، واستيقظت مرتعبة لذلك الشبح الذي وقف وسط جناحها يلوّح بسيفه في وجهها.. ولم تدرِ وقتها أي حظ سيسوقها إليه ذلك الشبح الغريب..
غمغمت وهي تتطلع للتنين "أتذكر تلك الليلة التي جررتني فيها من سريري واختطفتني عنوة؟"
زفر آرجان وقال "أذكر ذلك.. ولم أندم على شيء في الأوقات الماضية قدر ندمي لما جررتك إليه.."
نظرت إليه قائلة بعتاب "ألم أقل لك أنك قد غيّرت حياتي؟.. كان ذلك للأفضل، وحقق لي أمنيات كانت محض خيال في ذلك الوقت.."
غمغم آرجان "رغم كل ما مررتِ به؟"
أجابته بخفوت "رغم كل ما مررت به...."
وعادت ببصرها للتنين مضيفة "عندما رأيت كاجا، أصبت برعب لم أشعر بمثله بتاتاً في حياتي.. كان يبدو لعينيّ شرساً، شديداً، لا أكاد أطيق النظر لعينيه ولملامحه التي بدت بغيضة منفرة.."
علق آرجان على قولها "لو سمعك كاجا لأصيب بصدمة كبيرة.."
ابتسمت مكملة "أما الآن، فأنا أراه لطيفاً وأليفاً بشدة.. أصبحت أشتاق إليه كلما غاب عن عينيّ، وأصبح بالنسبة لي أكثر من صديق.."
نظر آرجان لكاجا قائلاً "التنانين لا تقترب ولا تتجاوب مع أي شخص كان ما لم يكن من الهوت.. هذا سرٌّ لم نعرف حتى نحن تفسيره.. وهذا ما حاول الكشميت معرفته وتفسيره دون فائدة.. ربما يعود الأمر لبدء استيطان الهوت تلك البقاع وتعاملها مع التنانين التي تعيش في تلك السلاسل الجبلية دوناً عن باقي العالم.."
ثم نظر لها بابتسامة جانبية مضيفاً "إلا أنت.. حتى الآن لا يمكنني معرفة كيفية تسخيرك لكاجا بكل سهولة وفي زمن قصير جداً.."
قالت رنيم مبررة "لأنك أنت سهّلت هذا الأمر عندما كنت تجرّني قبل الفجر لمعاونتك في العناية به.. ربما وثق بي كاجا بعد الثقة التي أوليتني إياها.."
غمغم آرجان "لا.. هذا ليس عذراً كافياً.."
فابتسمت رنيم وهي ترقب كاجا في طيرانه بكل حرية في السماء قائلة "ربما.. وربما لأن كاجا تنين مميز جداً.."
أمسك آرجان بخصلاتها القصيرة بصمت للحظات، ثم قال "وربما كنتِ أنت شخصية مميزة وغير عادية.. فما رأيته فيك في الشهور الماضية لم أره في أي فتاة قط في حياتي.."
نظرت له رنيم بدهشة لهذه الكلمات، فأضاف وهو يلمس خدها بظاهر إصبعه بخفة "لهذا وجدت نفسي غارقاً في هواك دون أي مقاومة مني.."
اشتعل خدا رنيم وهي تنظر له مبهوتة، وهي التي لم تتوقع تصريحاً منه بذلك ناهيك عن أن يحمل لها مشاعر حقاً.. ثم قالت بصوت مرتبك "ما هذا الذي تقوله.. أهذا وقت مزاح الآن؟.."
قال آرجان بابتسامة صافية "أتظنين أنني أمزح حقاً؟.."
رغم أنها تمنّت في اليومين الماضيين أن ترى ابتسامته هذه، لكنها لم تقدر على النظر إليها في هذه اللحظة فنهضت واقفة بارتباك وقالت "لا أصدق هذا.. من قد يعجب بفتاة سلبية عديمة الشخصية مثلي؟.. أنت تهذي.."
قال آرجان وهو يمسك يدها قبل أن تهرب منه "هذا ما ترينه أنت في نفسك، لا ما يراه الآخرون فيك.. ولولا روحك المتوهجة هذه، لما وافقت على اصطحابك معي في هذه الرحلة.."
ظلت رنيم واقفة بوجه غزاه الاحمرار حتى الأذنين بينما ارتجفـت يدها في يد آرجان بشكل ملحوظ.. ثم جذبت يدها مغالبة انفعالها وهي تتمتم "أنت تهذي.."
وصفّرت لكاجا الذي رفرف بجناحيه قبل أن يهبط بكل سرعته، بينما قال آرجان بشيء من القلق "هل سبب لكِ ما سمعته الضيق؟"
ابتسمت رنيم وهي ترى كاجا يهبط أمامها ويمسح رقبته بذراعها الممدودة، ثم التفتت إلى آرجان وابتسامتها تتسع وتزداد إشراقاً قائلة "أتظن ذلك حقاً؟"
وامتطت ظهر التنين بكل سهولة لينطلق بعدها على الفور شاقاً السماء نحو الغيوم التي بدت بعيدة.. لكنها لم تكن بعيدة بتاتاً عن كائن قوي كالتنين.. وبينما اتسعت ابتسامة آرجان وهو يراقبها، وقد وصله جوابها بليغاً مع ابتسامتها الجميلة تلك، فإن رنيم تشبثت بكاجا بقوة في طيرانه حتى وجدته يخترق الغيوم الأدنى من الأرض ليدور حول نفسه بمهارة ويبدأ بالتحليق بكل سلاسة نحو الأفق الزاهي.. استنشقت رنيم تلك الرائحة التي أصبحت تعشقها، ومسحت على عنق كاجا بحبٍ متمتمة "أنت كائن رائع يا كاجا.. كم أحسدك على جناحيك هذين.."
رغم كل ما واجهته رنيم في رحلة كهذه من أحداث لم تتوقعها، عندما خطت الخطوة الأولى نحو كاجا لتلتقط يد آرجان الممتدة لها بعرض لم تتمكن من تجاهله، فإن رنيم سعيدة وروحها تكاد تطفو في السماء.. مع كل ما يجري، ومع كل ما تواجهه، فإن كل ذلك يُمحى فور أن تشعر بالريح تضرب خديها وجسدها يعلو ويعلو بسرعة لا تصدق لتتجاوز الغيوم وترتفع أعلى من أي قمة على الأرض.. مهما كان ما تمر به قاسياً، فإن ذلك لا يقارن بسعادة تحصل عليها من رحلة خيالية كهذه يحملها كاجا على ظهره طواعيه..
ومهما جرى لها على الأرض.. تظل رنيم مرفوعة الرأس وبصرها معلق بالسماء دون كلل..


*********************






لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-12-15, 11:49 AM   #18

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الخاتمة: أسطورة بين دفتي كتاب

فوق هضبة عالية تطل على بحر أزرق لامع، وقرب ذلك المنزل البسيط بجدرانه الخشبية التي طليت باللون الأبيض وسقفه القرميدي الأحمر والنوافذ التي وضعت أمامها أصص لزهور زاهية اللون.. وفي جانب منه، حيث يلقي المنزل ظلاً بارداً بينما يلتمع جانبه الآخر بأشعة الشمس الدافئة التي أنارت جزءاً كبيراً من تلك الهضبة العالية، استندت فتاة لا تكاد تتجاوز الثالثة عشر من عمرها بشعر بني متماوج وعينين خضراوين بدتا متناقضتين مع بشرتها الذهبية اللامعة.. وبيديها الصغيرتين، كانت تمسك كتاباً سميكاً ذا غلاف مهترئ لكثرة الاستخدام وهي تقرأ حروفه بلهفة وانغماس شديدين.. ولم تنتبه لذلك النداء الذي تعالى باسمها وهي سارحة بخيالها مع سطور ذلك الكتاب المثير..
لم تنتبه من استغراقها في القراءة إلا عندما وجدت يداً تجذب الكتاب من بين يديها وترفعه عالياً وصوتٌ يقول بشيء من التأنيب "نادين.. ألم تسمعي ندائي المتكرر لك؟.. هل نسيتِ ما عليك من مهام؟"
قالت نادين وهي تنهض محاولة استعادة الكتاب "كنت ذاهبة لإنجاز ما عليّ الآن.. بعد لحظات فقط.."
قالت المرأة التي لا يتجاوز عمرها الأربعين بابتسامة جانبية "حقاً؟.. سمعت هذا القول منذ ساعات.."
ونظرت للكتاب مضيفة "ألا تشبعين من قراءة هذا الكتاب؟.. لقد أتممتِه عشر مرات على الأقل.."
قالت نادين وهي تتطاول لتناول الكتاب "لأنني أحب قراءته.."
واستعادت الكتاب بشيء من العسر فضمّته لصدرها قائلة بتقطيبة "كيف تريدينني أن أملّ حكاية مثيرة كهذه يا أمي؟.."
اتسعت ابتسامة الأم بينما نظرت نادين لغلاف الكتاب حيث بدت كلمات بحروف مذهبة تتوسطه وفوقها رسم جميل لفتاة لا تكاد تتجاوز العشرين بكثير، بشعر بني متموج طويل وعينين خضراوين، ترتدي أحد أردية الهوت البسيطة، وتقف جوار تنين أبيض اللون ينفث اللهب من فمه.. مسحت نادين بيدها على العنوان معلقة "حتى الآن لا يمكنني تصديق الحكايات التي يحكيها هذا الكتاب.."
ونظرت لأمها متسائلة باهتمام شديد "أأنت متأكدة أن هذه الحكايات تخص جدتي الكبرى؟"
أجابت الأم وهي تتأمل الغلاف بدورها "أجل.. أتظنين أنني أجهل ذلك؟.. لقد رأيتها عدة مرات في صغري، ولطالما حدثتني عن مغامراتها بتفصيل، لكني للأسف نسيت أغلبها فقد كنت صغيرة جداً.."
ثم أضافت ضاربة الكتاب بأصابعها "لكني دعيني أؤكد لك، بعض تلك الحكايات مبالغ فيه كعادة الكتّاب.. فجدتي لم تكن تطير، والتنين لم يكن ينفث النار.. كانت امرأة بسيطة بريئة يصعب التصديق بأنها خاضت تلك المغامرات بكل جرأة وشجاعة.."
ثم قرصت خد نادين بلطف قائلة "أنت تشبهينها كثيراً.. لديك الشعر والعينان ذاتهما، ولديك حب القراءة والفضول الشديد ذاته.."
ضمّت نادين الكتاب لصدرها قائلة بلهفة "أتظنين أنني قد أصبح شخصية خرافية كجدتي حقاً؟"
ضحكت الأم معلقة "خرافية؟.. ربما.. هذا يعتمد على شجاعتك وإرادتك.."
ومسحت على شعرها بلطف بينما قالت نادين وهي تحدق في عنوان الكتاب المذهب "أتمنى ذلك حقاً.. أتمنى أن أكون قوية وشجاعة وذات شخصية تخلب الألباب.. تماماً كما كانت جدتي الكبرى رنيم.."
ابتسمت الأم مغمغمة "ستكونين كذلك يا طفلتي.. حتماً ستكونين مثلها تماماً.."
وجذبت نادين معها وهي تسير هابطة من ذلك المرتفع مضيفة "سيكون كتاباً ضخماً ذلك الذي سيحكي عنك.. عنوانه (حكايات نادين.. حفيدة رنيم ابنة قصي الرابع.. أميرة مملكة بني غياث وصاحبة التنين الخرافي كاجا).."
قالت نادين باحتجاج "هذا عنوان طويل جداً.. ثم إنه يتحدث في أغلبه عن جدتي لا عني أنا.."
قالت الأم "ربما.. لكن جدتك شخصية لا يمكن نسيانها.. كانت امرأة مذهلة يصعب تصديق أنها لم تتجاوز التاسعة عشر من عمرها عندما بدأت رحلتها هذه.."
وأضافت مغمغمة وهي تتأمل الأفق الذي يزهو بنور الشمس الدافئة "رحلة مذهلة حول العالم.. على جناح تنين....."


*********************
.: تـمـت :.





لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-12-15, 11:51 AM   #19

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



فصل إضافي 1: حكاية جايا والمنقذ الأسطوري


"ألا زلتِ في وعيك؟.."
رفعت جايا بصرها حيث كانت حبيسة الجدران المصمتة والقيود تغلّ يديها بقسوة.. لقد مضت عدة أيام منذ قدومها لهذا المكان، وأمير هذه القلعة يهددها باستجواب قاسٍ لو لم تتعاون معه.. ومن بين هواجسها بهذا الشأن، فإنها فوجئت بهذه الجملة التي ألقيت عليها ودفعتها لترفع بصرها نحو المتحدث.. فرأت ذلك الوجه الذي يتكرر أمامها كل يوم بصمت حتى اعتادت وجوده.. كان ذلك أحد الجنود الذين يحرسون المكان في مناوبات متتالية، ولكن عوضاً عن الصخب والعربدة التي يثيرها أولئك الجنود في غفلة من رؤسائهم، فإن هذا الحارس كان يؤدي مهامه بصمت ولا يتعمد إثارة أعصاب السجناء بصخبه أو يتطاول عليهم بالضرب..
أخيراً نطقت جايا بحلق جاف وبالعربية "ما الذي تبغيه مني؟.."
قال وهو يحمل كرسياً ويضعه وسط زنزانتها "لاشيء.. مجرد تبادل الأحاديث.."
غمغمت "لن تعرف مني ما يريده رؤساؤك بهذا الأسلوب.."
ابتسم معلقاً "لست هنا لاستجوابك.. إنما لتبادل حديث عادي كما يحدث بين أي شخصين.."
قالت بضيق "ولمَ لا تتجه للسجناء الآخرين؟.."
هز كتفيه مجيباً "لا أحصل من بقية السجناء إلا الشتائم واللعنات، وهذا لا يُعدّ حواراً ناجحاً برأيي.."
زفرت وهي تدير بصرها جانباً، فقال وهو يسترخي على كرسيه "لا داعي لكل هذا الجفاء، لن يكون الأمر سيئاً صدقيني.."
فقالت بضيق "ما الذي تبغيه مني بالضبط؟.. محاولة استدراجي للحديث فاشلة بالتأكيد.."
قال باعتراض "كما قلت لك، لا أحاول استدراجك.. أنا لا أكاد أغادر القلعة، ولا أجد من أتحدث معه عادة.. وهذا سيصيبني بالجنون.."
فقالت بهزء "ورفاقك؟.. هل يبادلونك الشتائم واللعنات أيضاً؟.."
أجاب بابتسامة "أجل.. هذا ما يحدث عادة.."
نظرت له بشيء من الحيرة، فقال "ألم تلاحظي أنني الوحيد بين الجنود الذي يتقن العربية؟.."
لم يكن لهذا أي معنىً لديها فظلت تنظر له بالحيرة ذاتها، فقال وهو يستند بظهره على كرسيه "أنا لي بعض الجذور العربية.. جدي لأمي كان عربياً، وقد حرص هو وأمي على أن أكتسب اللغة رغم كوني من كشميت.. لذلك يمكنك تخيّل الكره الذي أواجهه من بقية بني قومي وهم يرون الملامح العربية واضحة في وجهي.. ولهذا السبب لم أحصل على عمل يتجاوز عمل جندي حراسة عادي مهما كنت متفانياً.. فلا أحد يقدّر عملي حتى لو كان ربعي عربياً فقط.."
تساءلت "وما الذي يجبرك على البقاء هنا مادمت تجد معاملة الآخرين ظالمة لك؟.. لمَ لا تذهب للعيش مع أجدادك العرب؟.."
قال بابتسامة "أتظنين أن حالي سيكون أفضل في الممالك العربية؟.. لا تنسي أنني أحمل دماء الكشميت، وهذا سيجلب عليّ نقمة العرب أيضاً.."
لم تستنكر قوله، بالنظر للكره الذي يواجه الهوت في الممالك العربية.. فقالت بعد لحظة صمت "أتتوقع مني تعاطفاً وأنا على هذا الحال؟.."
قال ضاحكاً "لست بائساً لهذه الدرجة.."
زفرت جايا بضيق وهي تنتظر اللحظة التي سيتركها فيه هذا الجندي لتخلو لنفسها ولهواجسها.. لتغرق في قلقها على حال آرجان، وقلقٌ أكبر على حالها هي.. لكن الجندي قاطع أفكارها من جديد قائلاً "الهوت أيضاً منبوذون في مملكة فارس.. أليس كذلك؟.. ما الذي يجبركم على البقاء في الموقع واحتمال ذلك الكره والتطاول من ملك المملكة؟.."
قالت بجفاء "أتتوقع منا أن ننهزم ونولّي الأدبار دون سبب مفهوم؟.. أجدادنا كانوا رحّلاً، لكننا استقررنا في تلك الأرض منذ عشرات العقود.. فلمَ علينا أن نتخلى عن هذه الأرض لأهواء ملك يملك آلاف الأميال من القارة العظمى؟"
غمغم معلقاً "معك حق.."
ثم تلفت خلفه قائلاً "يبدو أن موعد رحيلي قد جاء.."
ونهض حاملاً الكرسي مضيفاً "حسناً.. هذا كان حواراً ممتعاً.. أتمنى أن نكرره مرة أخرى.."
استوقفته جايا قائلة بصوت خفيض "ماء.."
نظر لها بتساؤل، فتجاوزت جفاف حلقها لتقول "على الأقل، اسقني بعض الماء لكي أتمكن من مواصلة الحديث معك.."
لم يجبها الجندي وهو يتلفت حوله، ثم خرج وأغلق الباب خلفه بصمت.. عندها ابتسمت جايا ابتسامة ساخرة وغمغمت "بالطبع لن يعبأ جندي من الكشميت لطلبٍ كهذا.."
وزفرت بحدة وهي تسمع الخطوات التي اعتادت سماعها كل يوم، وتنبئ بأن جلسة استجواب قاسية ستبدأ بعد قليل..


*********************
لا تعلم جايا، وهي حبيسة هذا السجن وسط الصحراء، كيف وصلت لهذا المكان.. ولا يمكنها تحديد كيف بدأ هذا كله، وكيف انهارت حياتها المسالمة في أحضان تلك القرية الجبلية برفقة أخيها الذي تحبه وتفخر به كثيراً..
هل يمكنها أن تحدد البداية بذلك الهجوم الغادر الذي قام به الملك عبّاد على قريتها وقتل عدداً من رجالها لتسقط هي وبقية الفتيات في الأسر؟.. هل بدأ هذا كله عندما تم نقلهن لقصر الملك في (الزهراء) ليعملن في خدمة الملك وحاشيته كأي جواري يمتلكهن؟.. أم عندما فكر الأمير زياد، وهو واقع تحت تأثير الشراب، أن يتفاخر أمامها بما يملكه الملك ويحط من قدر الهوت؟.. عندما أخبرها بلسانٍ مثقلٍ أن الملك قد وضع يده على أحد التنانين، وأنه قد قام بأسره في جانب من قصره بعيداً عن الأعين وينوي ترويضه لإضفاء المزيد من الهيبة والقوة لنفسه، فإنها لم تتمكن من الصبر على كل ما تسمعه.. علاقة الهوت بالتنانين علاقة مقدسة بالنسبة لهم، وتتجاوز علاقة شخص بحيوانه المروّض، بل هي أقرب لأخوّة غير مكتوبة وعلاقة وثيقة لم تتمكن معها من الصمت وترك التنين حبيس سجنه.. فالتنين الذي يطول حبسه يسقط مريضاً ويؤدي به ذلك للموت.. التنانين، كما الهوت، كائنات طليقة، تعشق الحرية وتعشق السماء.. تعشق الانطلاق وتكره القيود بأشكالها..
لذلك، كانت فرصة جايا الوحيدة هي في استجواب الأمير زياد.. فدأبت على مجالسته كل ليلة وصبّ الشراب في كأسه حتى يثقله السُّكر وينطلق لسانه بكل ما تريد معرفته عن ذلك التنين.. وأخيراً، بعد أيام طويلة، تمكنت من التسلل لذلك المبنى الذي سجن فيه التنين حاملة ورقة ممهورة بتوقيع الأمير زياد.. فأطلقت التنين السجين وهربت معه عائدة لقرى الهوت..
لكن، إن لم تكن تلك هي البداية، فهل كانت عندما غافلها بعض قطاع الطرق وأسروها مع التنين الذي كان واهناً بعد سجنه لوقت طويل في (الزهراء)؟.. لا تدري لمَ تم نقلها لميناء (مارِج)، ولمَ تم بيعها لرجل أدركت من النظرة الأولى أنه من الكشميت.. ولا تدري لمَ سيقت لمملكة كشميت ولقلعة (جمجات) بالذات رغم محاولاتها المتكررة للهرب..
لكن هنا، في هذه القلعة المحصّنة، وجدت القيود تطوّق يديها وعنقها، وبدأ أمير القلعة استجوابها بكل صرامة محاولاً الوصول لسرّ الهوت مع التنانين.. لمَ يعشق الجميع أسرَ تلك الكائنات الرائعة بهذه القسوة والعنف؟.. لماذا لا يؤمنون أن التنين لا يتخلّى عن حريته إلا بالموت؟.. لشد ما تجهل سبب ذلك..
واليوم، لم يتوانى الأمير عن استجوابها مستخدماً بعض العنف لإجبارها على إطاعته.. تباً له.. وتباً للكشميت.. وتباً للملك عبّاد وللعالم كله.. متى ستتمكن من الراحة من كل هذا الهمّ؟..
في تلك الليلة، وبعد أن أظلم المكان بشدة وجايا جالسة في موقعها بتعب وإنهاك بعد أن حرمها الأمير من الماء ومن الطعام إلا ما يمنعها من السقوط جثة هامدة، انتبهت لخطوات خافتة تقترب من بابها.. ولما فتح الباب، ورأت وجه الجندي الذي حادثها في ذلك الصباح، قالت بضجر وتعب "ارحل الآن.. لست في مزاج، ولا حالة، تسمح لي بالاستماع لتفاهاتك.."
لكنه لم يغادر وهو يتلفت حوله بحذر، ثم يقترب منها هامساً "عليك أن تقدّري المخاطرة التي أقوم بها بعصيان أوامر الأمير الصارمة.."
رأته يقدم لها كوباً فخارياً بائس المنظر يحوي بعض الماء، فلم تتردد جايا من تناوله وشرب الماء سيئ الطعم حتى الارتواء.. ولما أعادت الكوب إليه، قال بابتسامة جانبية "عليك أن تصبري كل يوم حتى الليل.. لا يمكنني منحك أي شيء في وضح النهار.."
تساءلت "ما هدفك من هذا كله؟"
نهض واقفاً وقال بابتسامة متسعة "كما قلت لك.. مجرد تبادل الأحاديث.."
ذهب ليخفي الكوب عن الأنظار، ثم عاد وجلس جانباً متسائلاً "أخبريني عن قرى الهوت.. كيف هي؟.."
قالت بسرعة "لن أتحدث عن أي شيء يخص الهوت أو التنانين.. اسأل عن أي شيء عدا ذلك.."
زفر مفكراً للحظة ثم قال "إذن ماذا عن (الزهراء)؟.. سمعت أنك كنت أسيرة لدى ملك بني فارس.. فكيف هي؟.. هل تختلف كثيراً عن (كاشتار)؟.."
قالت "لم أرَ (كاشتار) هذه في حياتي.."
فقال الجندي "إنها مدينة كبيرة ومنظمة كثيراً.. لكن ما يعيبها هو كثرة الأسوار حولها.. هناك ثلاث أسوار عالية تحيط بها.. الأول يحيط بقلعة الملك وحاشيته، ويضمّ أيضاً العلماء وأي شخص يمكن أن يساهم في تقدم المملكة وتطورها.. الثاني يحيط بالعامة من الشعب.. والثالث يحيط بالبشر الأكثر فقراً والمهاجرين من المناطق الأخرى.. في الواقع بدأ الكشميت في استيطان المناطق خارج السور أيضاً بحيث تمددت المدينة أكثر مما رُسم لها.."
تساءلت جايا "وفي أي جزء عشت أنت؟"
هز كتفيه قائلاً "أنا لم أكن هناك.. لقد جئت إليها فقط عندما حاولت الانضمام للجيش.."
فسألته جايا بشيء من الفضول "كيف قبلوا بضمّك للجيش رغم كرههم لك وللدماء العربية في عروقك؟.. هذا لا يمكن الاقتناع به.."
ابتسم الجندي مجيباً "لحسن حظي، أو لسوئه، كان أمير هذه القلعة موجوداً عندما تقدمت للانضمام للجيش.. كان في بداية تخطيطه لهذه العملية، وبحاجة لأي معاونة كانت للقبض على التنانين والهوت معهم.. لذلك عندما رآني، ولمح ملامحي العربية الواضحة، طرأت له فكرة ضمّي للجيش واستخدامي كجاسوس له في مملكة بني فارس.. بهذه الصورة، وبإتقاني للعربية، لن يشك أحد في أمري لو جُبتُ أرجاء المملكة بحثاً عن التنانين.."
غمغمت بغير اقتناع "لكنك مجرد جندي حراسة الآن.."
فقال دون أن تخفت ابتسامته "لأنني فشلت في مهمتي من اللحظة الأولى.. أتعرفين السبب؟"
وإزاء نظراتها المتسائلة، ضحك الجندي بقوة قائلاً "لأن العرب قد شكوا بكوني جاسوساً وقبضوا عليّ منذ البدء، وحجتهم بذلك أن ملامح الكشميت واضحة فيّ بشدة.. أرأيت شيئاً أكثر سخرية من هذا؟"
قالت جايا بتعجب "كيف يمكنك أن تهزأ من أمر كهذا؟.. ألا تشعر بالضيق للتناقض الذي تعيش فيه.."
هز كتفيه مجيباً "لا.. بل أراه يدعو للسخرية.. فبعد كل هذه الأعوام، لم تعد هذه الأمور تثير مرارتي وغضبي بتاتاً.."
ثم تلفت خلفه معلقاً "يبدو أنني أنا من قام بكل الحديث هذه الليلة.."
ثم لوّح بإصبعه نحوها مضيفاً "دورك في المرة القادمة أن تحدثيني عن الزهراء.. اتفقنا؟"
وغادر دون أن يحصل على إجابة منها وهي تغمغم "من الذي وافق على ذلك أيها الأبله؟"


*********************
كانت الأمور تزداد سوءاً لجايا يوماً بعد يوم، وبدأ الأمير يستخدم قسوة واضحة لإجبارها على التعاون معه، وكلف جندياً من الجنود للتفنن في تعذيبها لعلّها تتخلى عن عنادها.. ورغم ذلك، دأب الجندي على الجلوس معها بضع ساعات كل مرة والحديث في مواضيع شتى متفادياً التحدث عما لا تحبه.. كانت لا تزال تحتفظ بشكّها فيه، لكن ذلك لم يمنعها من استغلال وجوده لتناسي الحال التي هي فيها والمخاوف التي لا تتناساها لحظة واحدة..
ولما فقدت جايا عينها اليسرى، فقدت الوعي أيضاً لشدة الإنهاك والضعف في جسدها.. ولما استيقظت، وجدت أنهم تركوها حيث هي والجرح في وجهها ينزف دون أن يعبأ شخص لما قد يحدث لها..
أصدرت أنيناً متألماً ويداها المقيدتان متباعدتان عاجزتان عن الوصول للجرح وإيقاف الدماء بأي شكل كان.. لم تدرِ كم من الوقت مرّ عليها، ولما رأت الباب يفتح، أصابها شيء من الارتعاب خشية أن يعود الأمير لاستجوابها وهي في حالة يرثى لها.. لكنه كان ذلك الجندي الذي يصرّ على التحدث معها أثناء مناوبته.. رأته يقترب منها متعجلاً، وبقطعة قماشية وبعض الأدوية قام بتنظيف موضع الجرح وهو يتمتم "اصبري قليلاً.. سيزول الألم بعد أن ننتهي.."
نظرت له مغمغمة "ما الذي تفعله؟.. سيعاقبونك.."
قال بسرعة "لن يفعلوا بالتأكيد.."
نظرت له بحيرة، فقال بتوتر "لقد حملت شكواي إلى الأمير قبل قليل.. أخبرته أن الجندي المكلف باستجوابك سيتسبب بقتلك بسبب سوء تقديره، وأنك مهمة لنجاح التجربة التي يقوم بها، لذلك وافق على أن أقوم بعلاجك متجاوزاً أمره السابق لمرة واحدة.."
قالت بصوت خافت "لمَ تفعل ذلك؟.."
نظر لملامحها المنقبضة بألم مجيباً "الشفقة.. ربما؟.."
ضحكت بهزء معلقة "تشفق عليّ وأنت سجّاني؟.."
قال بتوتر "أنا أطيع الأوامر فقط.. لم أسعَ لما أنتِ فيه ولا يعجبني.. ولا أشارك فيه لو لم تلاحظي ذلك.."
غمغمت "لكنك من الكشميت.."
ربط رباطاً على عينها وحول رأسها قائلاً "كما أخبرتك.. أنا لست من الكشميت.. ولست عربياً كذلك.. في الواقع أنا لا انتماء لي.."
تساءلت "ولمَ لا ترحل؟.."
أجاب وهو يتفحص رباط عينها "إلى أين؟.. لا مكان لي في أي أرض أخرى.. ولا يبقيني في هذا المكان إلا لأنه أفضل من أرض لا أعرفها وبشر لم أرهم قط.."
أمسكت يده بيدها بقوة وقالت "ارحل.."
نظر لعينها التي تبدّى فيها بعض الأمل وهي تقول بشيء من اللهفة "ارحل.. وخذني معك.."
نظر لها بشيء من الاستنكار، فقالت محاولة إقناعه "سآخذك لقريتي.. الهوت لا يكرهون أحداً بسبب هويته.. صحيح أننا منغلقون على أنفسنا في قرانا، لكنهم سيرحبون بك بشدة لو علموا أنك قد أنقذتني.."
قال باعتراض "لا يمكنني خرق الأوامر بهذه الطريقة.."
نظرت له بسخرية قائلة "أوامر من؟.. أتعبأ حقاً بهذه الأوامر وأنت سجين هنا؟.."
نظر لها بدهشة، فقالت بإصرار "بلى.. أنت سجين كما أنا سجينة بالضبط.. وظنُّك أنك تستطيع الرحيل متى شئت هو خدعة بالتأكيد.. قيودك هي الأوامر والتعليمات التي تقيد روحك لهذا المكان ولمدة لا يعلمها أحد.."
ظل يستمع لها بصمت وبعض التفكير، لكن سرعان ما نفض هذا كله وهو يلملم أغراضه ويقف قائلاً بإصرار "مستحيل.. لا يمكنني فعل ذلك.."
وغادر تاركاً جايا تراقبه بضيق، ثم أسندت رأسها للجدار خلفها وهي عاجزة عن الاستلقاء بسبب قيودها القصيرة التي تثبت ذراعيها للجدار.. لوهلة، تناست الألم القوي الذي تشعر به عندما راودها بصيص أمل بأن تتمكن من الخروج من هنا.. لكن ذلك الجندي المستسلم لحياته الشقية قد أزال كل أمل راودها ولو للحظة.. فغمغمت لنفسها زافرة "هذا الجندي يحتاج لدفعة صغيرة، وبعدها سيدرك واقعه بشكل أفضل ويسعى للحرية كما أسعى لها أنا.."


*********************
في الليلة التالية، استدعت جايا سجانها من موقعها الذي لا تكاد تغادره، ولما رأته ينظر لها من كوّة في الباب الحديدي، قالت "أتخشى من دخول زنزانتي هذه المرة؟"
تلفت حوله للحظات، ثم فتح باب الزنزانة متسائلاً "ما الأمر؟.. هل عاد الألم من جديد؟"
قالت بابتسامة شاحبة "لا.. لقد سئمت من بقائي وحيدة هنا وأريد تبادل الحديث معك.. أليس هذا ما طلبته مني سابقاً؟"
نظر لها بتعجب، لكنها لم تعبأ لدهشته وبدأت تحدثه عن كل ما عرفته ورأته في سنواتها الأربع والعشرين.. حدثته عن الجبال العالية التي تحتضن تلك القرية الصغيرة في قلبها.. حدثته عن القرية ومنازلها الجميلة وطرقاتها الحجرية.. حدثته عن شعب الهوت الذي يمتاز باللطف، ما لم يعتدِ عليه أحد، عندها ينقلب الكلب الأليف إلى ذئب شرس لا يتردد في الانتقام ممن تسبب في إيذاء رفاقه.. حدثته عن تاريخ الهوت في ذلك المكان.. حدثته عن كل بقعة رأتها في رحلاتها مع أخيها على ظهور التنانين.. تحدثت غير عابئة بجفاف حلقها وبتعبها وألمها على أمل أن تبث بعض العزيمة في ذلك الجندي.. ولما رأت عيناه تتسعان وهو يستمع لها باهتمام، أدركت أنها كسبت هذه الجولة.. بقي فقط أن تحصل على النتائج التي تمنتها..
ولما ختمت حديثها، مع طلائع الفجر التي لاحت من النافذة الصغيرة في أعلى الجدار خلفها، غمغم الجندي سارحاً "يبدو أنك عشت حياة جميلة وهانئة في أحضان تلك الأرض.."
ظلت تنظر له بشيء من الأمل وهو يفكر بحيرة بكل ما سمعه، ثم رأته ينهض بصمت ويغادر المكان دون أن تبدر منه إشارة لعزمه على الرحيل.. فزفرت جايا بشيء من الضيق، وحاولت الاستسلام للنوم علّ ذلك يهدئ آلام جسدها العديدة.. لكن هيهات أن تحصل على بعض النوم في هذا المكان البائس..
وبعد نهار طويل واستجواب عسير صمدت فيه جايا وكل ما تفكر فيه هي قريتها المسالمة ووجوه أهلها الباسمة، فإنها مع غروب شمس ذلك اليوم استسلمت لضعفها وذرفت الدموع ببؤس وهي مطرقة في سجنها المظلم الكئيب.. سالت دموعها وهي بلا حول ولا قوة، لا تقدر حتى على مسح ما بلّل خديها.. حتى متى عليها أن تصبر على كل هذ؟.. حتى متى عليها أن تقاوم؟.. حتى متى؟..
وبعد بضع ساعات غرقت فيها جايا في البؤس والعذاب، سمعت الباب يفتح وصوت الجندي يسألها بهمس "أأنت بخير؟"
لم تجبه وهي تودّ لو تسخر من هذا السؤال، لكنها لم تكن تملك أي طاقة لذلك، فتقدم منها متسائلاً بقلق "ما الأمر؟.. سمعتك تبكين لبعض الوقت، وأقلقني هذا بشدة، لكني لم أستطع التدخل قبل الآن.."
قالت بمرارة وصوت يرتجف "ألا ترى في حالي ما يبكي؟.. أترى أنني يجب أن أقضي أيام السجن والعذاب هذه ضاحكة؟.."
زفر وهو يتطلع لدموعها التي عادت تنهمر من عينيها، ثم قال لها "هيا بنا.."
رفعت بصرها إليه بدهشة، ففوجئت به يفتح أقفال يديها وقدميها بمفاتيحه، ثم ساعدها على النهوض وهي تسأله بدهشة "ما الذي تنوي فعله؟"
قال بتوتر "ما تطلبينه مني كل يوم.. أن نهرب من هذا المكان.."
نظرت له باستغراب، فقال "لقد فكرت في حديثك طويلاً منذ البارحة.. ولا أجد ما يجبرني على احتمال هذه الصحراء واحتمال قسوة سكانها.. سنرحل، ولنأمل أن تكون الحياة هناك جميلة كما تصورينها.."
وجدت جايا نفسها عاجزة عن الوقوف بتعب بعد أن هزلت ساقاها لقلة الطعام الذي يُمنح لها ولجلوسها دون حراك ساعات طويلة، فوجدته يحملها على ظهره بخفة وهو يقول "لنذهب.. علينا استغلال هذه الفرصة قبل أن تفلت من أيدينا.."
قالت بخفوت وقلق "ماذا عن بقية الجنود؟"
أجاب الجندي "لقد اجتمعوا للاحتفال في جانب القلعة ولم يبقَ، أو يتطوع، غيري لحراسة السجناء.. فاليوم هو يوم توحيد المملكة، والأمير يسمح لهم ببعض التسيّب لبضع ساعات فقط.."
رفعت جايا حاجبيها بدهشة لهذه المصادفة التي ستصبّ في صالحهما بالتأكيد.. بينما سار بها الجندي بقلق وهو يتلفت حوله حتى عبر الممر الضيق بين السجون ووصل للدرجات التي تؤدي للأعلى.. فهمست جايا "ألن ننقذ البقية؟"
قال بسرعة "هل تريدين الإعلان عن هربنا في هذه اللحظة؟.. علينا أن نهرب بأسرع ما نستطيع لنبتعد عن القلعة قبل أن يفطن أحد لغيابنا.. وبعدها، يمكنك أن تبلغي عشيرتك بكل ما يجري هنا وتطلبي منهم إنقاذ هؤلاء البؤساء.."
لم تعترض جايا وهي أضعف من أن تجادل.. لقد كانت قد قررت القرار ذاته عندما هربت بالتنين من قصر الملك عبّاد عازمة على استدعاء بقية الهوت لإنقاذ الفتيات الأسيرات.. ولم تعتبر ما فعلته أنانية أو خسّة منها تجاه الباقيات.. والآن تفعل الأمر ذاته مرغمة مع هؤلاء السجناء..
سار بها الجندي عبر الدرجات الصاعدة، لكنه لم يتوقف عند الطابق الأرضي ويغادر هذا المبنى، بل أكمل سعيه للمواقع العليا منه بخطوات حثيثة.. وفي أعلى موقع تصل بهما هذه الدرجات، رأت جايا أن الباب المفتوح أمامهما يؤدي بهما لسطح المبنى ولموقعٍ قريبٍ من السور المحيط بالقلعة ولا يفصلهما عنه إلا متر واحد يمكنهما تجاوزه قفزاً.. لم يتردد الجندي وهو يطلب منها التشبث به، وركض ليتجاوز بقفزة محدودة تلك المسافة الصغيرة ويصل بها إلى السور الذي يحيط بالقلعة كلها ويطل على مساحات شاسعة من رمال الصحراء.. كتمت جايا تنهيدة وهي تنظر للسماء بشوق واضح، بينما تلفت الجندي حوله قائلاً بقلق "أرجو أن يكونوا مستمرين في عربدتهم لوقت أطول.. وقوفنا هنا سيفضحنا على الفور لو مرّ جندي في ساحة القلعة.."
وتقدم من موقع معين في السور وجايا تسأله "كيف سنهبط الآن؟.. وما الذي سنفعله بعد أن نصبح في الجانب الآخر من القلعة؟"
قال بسرعة "لقد تدبرت الأمر.. جهزت حبلاً أخفيته في جانب السور في موقع غير مرئيّ.. سنهبط بواسطته حتى نصل لموقع هيأته ليعاوننا على تجاوز الخنادق المحيطة بالقلعة.. وهناك سنمتطي حصاناً ينتظرنا في ذلك الجانب سينقلنا لأقرب مدينة يمكننا الاختباء فيها حتى نرحل بواسطة سفينة من السفن.."
فتحت جايا فمها لتعلق على ذلك، عندما تعالى صوت من خلفهما يقول ببرود "ما هذه الخطة الساذجة؟"
استدار الجندي بسرعة وشيء من الارتعاب ليرى الأمير يقف خلفه مع أربعة من جنوده دون أن تبدو على ملامحه الهادئة أي غضب.. فأضاف الأمير "لو كنتَ تفكر بخيانتي، فعليك أن تستخدم خططاً مبتكرة.. بهذا، على الأقل، أشعر بشيء من الإعجاب لجرأتك.. لكن بخطة هزيلة كهذه، ما الذي تأمل بفعله حقاً؟"
تلعثم الجندي وهو يتراجع خطوات متسائلاً "كيف؟.. أنت......"
ابتسم الأمير ابتسامة قاسية وهو يقول "أنا ماذا؟.. أظننت أنني غافل عن أمرك بهذه الصورة؟.. لقد كانت لي شكوكي، وأنت أكدتها عندما توسلت لعلاج الفتاة من ذلك الجرح.. عندها، أدركت أنك ستقوم بتهريبها في أقرب فرصة ممكنة.. ولا يمكن لشخص عاقل أن يقوم بتفويت فرصة كهذه الليلة.."
وبإشارة من يده، قام أحد المرافقين للأمير بالتقدم من الجندي فجذب الفتاة منه بقوة والتي انهارت على الفور أرضاً دون أن تتمكن من الوقوف.. وبينما تقدم الأمير من الجندي الذي تراجع خطوات أخرى، فإن جايا صاحت بصوت مبحوح "كيف يمكنك أن تكون بهذه القسوة؟.. هل ما تتمنى تحقيقه يستحق كل هذا العذاب الذي نمر به؟.. هل يمكنك أن تنام كل ليلة بعد كل الألم الذي تسقيه لسجنائك؟"
نظر إليها ببرود مغمغماً "أمن المفترض أن يحرك هذا القول مشاعري؟"
نظرت جايا له بمرارة وقد أدركت أن هذه قد تكون فرصتها الأخيرة للفرار، ولو كانت تملك بعض القوة في جسدها لنهضت وقفزت من فوق السور نحو الجانب الآخر من القلعة حتى لو عنى ذلك موتها.. ثم رأت الأمير يتقدم من الجندي ويمسك مجمع ملابسه دون أن يقاومه الجندي المرتعب، بينما قال الأمير بقسوة "كنت أدرك أن دماءك القذرة لن تسمح لك بإطاعة الأوامر بشكل كامل.. أنت لست من الكشميت، ولم تكن منهم أبداً.. كان عليك أن ترحل من هذه المملكة التي لا تنتمي إليها.. لكنك فضلت البقاء وفضلت طعني في ظهري بكل صفاقة، أليس كذلك أيها العربي؟.."
فتح الجندي فمه بتلعثم، لكن الأمير لم يتمهل للحظة وهو يدفعه بقوة، ليجد الجندي نفسه يتجاوز السور ويهوي من ذلك الارتفاع الذي يتجاوز عشرة أمتار ليسقط بصمت وسط الحجارة المدببة التي حرص الأمير على أن تحيط سور القلعة من كل الاتجاهات..
صاحت جايا بارتعاب وهي تشهد ما جرى "ما الذي فعلته؟.. أليس هذا جندياً من جنودكم؟"
قال الأمير وهو يتقدم منها فيجذبها بقسوة من ذراعها "لا.. لم يكن كذلك منذ البدء.."
قرّبها من حافة السور وأجبرها على النظر من فوقه قائلاً "انظري.. هذه هي حريتك.. لقد صارت أشلاء لا رجاء منها.. لذلك، عليك أن تستسلمي وتتعاوني معي.."
صمتت جايا بشفتين ترتجفان وهي تحدق رغماً عنها في ذلك المنظر الذي لن تنساه ما بقي لها من العمر.. حاولت أن تتذكره وهو يحدثها مبتسماً في زنزانتها، حاولت تذكر بعض ما كان يقوله لها في تلك الليالي.. لكن كل ذلك كان يختفي مع منظر جسده الساكن وسط الحجارة المدببة والدماء التي أغرقت جانباً كبيراً من تلك الحجارة وملامح وجهه التي غابت عن عينيها من بين الدماء..
وبينما أفلتت دمعة من عين جايا، فإن الأمير قال بسخرية "أتمنى أن يكون هذا المنظر دافعاً معنوياً كبيراً لك لتتجاوبي معي كما أرغب منك.."
لو كان الكشميت يعاملون رجلاً منهم بهذه الصورة، فما الذي سيفعلونه في قرى الهوت عندما يحاولون وضع أيديهم على التنانين؟.. دفعت جايا نفسها لتقول بصوت مرتجف "لن أتحدث.."
ابتسم الأمير وقرّب وجهها منه بأصابع قاسية وهو يقول "ستتحدثين.. صدقيني يا فتاة ستفتحين فمك ولن تغلقيه إلا بعد أن تخبريني بكل ما أبغيه.."
قالت جايا وهي تحاول تخليص وجهها من أصابعه "أتراهن على ذلك؟.."
اتسعت ابتسامته الساخرة وهو يجيب "أراهنك.. أراهنك على ذلك بحياتي يا فتاة.."
واستدار مبتعداً تاركاً جايا تنظر للجسد الساكن من فوق السور وتغمغم بمرارة "يا للبؤس.. أنا لم أسأله عن اسمه قط..."
وجدت أحد الجنود يسحبها دون رفق عائداً بها لزنزانتها.. وبينما استسلمت جايا ولم تحاول المقاومة، فإنها شعرت بروحها تظلم بشكل تام، وذلك النور الذي كان يبدو لعينها ويتسلل منه الأمل، قد انقطع بشكل تام ولم يبقَ إلا الظلام الحالك الذي ساد كل شيء..


*********************




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-12-15, 12:11 PM   #20

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



فصل إضافي 2: حكاية غياث

عندما تردد اسم رنيم على الشفاه وتهامس به الناس في (بارقة)، لم يَغِب هذا الأمر عن أذني غياث الذي قطب جبينه بشدة وهو يقف في إحدى قاعات القصر.. بينما جلست الملكة الأولى على مقربه وهي تقول بهزء "هل سمعت كل هذا؟.. هذه الفتاة جلبت لنا العار كما توقعتُ تماماً.. لقد كنتُ محقةً عندما طلبت من الملك عدم تقديمها للملك الراحل عبّاد كزوجة لولي عهده.. فها هي قد هربت مع عشيقها وجابت الممالك مثيرة الفتن بينها وهي تتفاخر بعلاقتها المحرمة وتمرّغ اسم الملك قصيّ في التراب.."
جزّ غياث على أسنانه وفكه ينقبض بشدة والملكة تقول "ليته استمع لي وزوّج سهى من الأمير زياد.. لكانت الآن ملكة على مملكة بني فارس العظيمة.."
لم يتمكن غياث من الصمت أكثر وهو يقول بسخرية "زياد؟.. أليس هو الذي قام، أول ما تولّى عرش مملكة أبيه، بالزواج من جاريته مجهولة الأصل والهوية؟.. ولما حاولت أمه الملكة الاعتراض على هذا الزواج طردها من القصر لتعيش في قصرها الصيفي في مدينة صوفان؟.. أهذا من رأيته مناسباً للزواج من ابنتك المدللة؟.."
قالت الملكة مبررة "لم يكن ليفعل هذا لو كانت خطيبته ترقى لطموحه وتملأ عينيه وقلبه عن كل من عداها.. هذا أيضاً ما جَنَتْ به تلك التافهة على مملكة بني فارس التي استضافتها بكل رحابة صدر، فلم تتردد في طعن مضيفيها في ظهورهم عند أول بادرة.."
ثم تنهدت بأسىً مغمغمة "الحمدلله أن الملك قصيّ، في غيبوبتة التي سقط فيها بسبب تدهور صحته، لم يعلم بأي شيء من هذا.. لو كان يعلم أمراً من أفعال ابنته المخجلة هذه لمات من فوره.."
تزايد غضب غياث أكثر وهو يستدير مبتعداً تاركاً أمه تهتف به "إلى أين؟.."
وسارت خلفه قائلة بحدة "لمَ عليك أن تهرب في كل مرة حدثتك فيها عن تلك الفتاة؟.. عليك أن تبتّ بأمرها بما أنك ولي العهد والنائب عن الملك حالياً.. أعلِن تبرؤكَ من هذه الخسيسة وأنها لا تنتمي لمملكة بني غياث لا من بعيد ولا من قريب.. عليك أن تتصرف قبل أن تجلب علينا الويلات والمصائب.."
لكن غياث سرّع من خطواته دون أن يرد عليها حتى عجزت عن اللحاق به.. كان يرفض الحديث عن هذا الأمر، ويرفض أن يصدق ما يحاك حول أخته التي يعرفها تمام المعرفة..
رنيم لا يمكن أن تفعل كل هذا.. رنيم الهادئة البسيطة البريئة لا يمكن أن ترتكب أبسط تلك الأفعال دون أن تصاب بذعر.. رنيم تهرب من (الزهراء) مع عشيق؟.. رنيم تمتطي ظهر تنين وتجوب القارتين؟.. والأدهى من ذلك، رنيم تشارك في اغتيال أحد أمراء كشميت وهدم إحدى قلاعهم؟.. لو كان لشخص أن يحوك كذبة فعليه أن يجعلها واقعية أكثر وأقرب للتصديق من هذا التجديف..
في ذلك المساء، وبينما كان غياث يجلس في جناحه مسنداً رأسه للكرسي الوثير بتعب، وأمامه عدد من الأوراق والكتب التي تحتاج منه بعض الجهد لمراجعتها، تلقى طلباً بالإذن لمقابلته من شقيقته الكبرى.. فسمح لها بالدخول دون أن يغيّر موضعه وهو يزفر بحدة.. ولما دخلت صافيناز ورأته على هذه الحال علقت بابتسامة "لابد أن أعمال الملك تُثقل كاهليك.. أليس كذلك؟.. هذا مجرد تدريب لما هو قادم عندما تتولى مُلك هذه المملكة حقاً.."
غمغم غياث وهو يعتدل في جلوسه "ليس الأمر عسيراً حقاً.."
تساءلت وهي تجلس قريبة وتمسح على شعره "إذن ما الأمر؟.. ما الذي سبب كل هذه التنهدات من شقيقي العزيز؟.."
قال غياث بضيق "لقد ضاقت نفسي من كل تلك الاتهامات التي تطال رنيم على ألسنة من في القصر والمدينة والمملكة كلها.. أتصدقين كل ما يقال عنها؟"
صمتت صافيناز وهي تضع يديها في حجرها، بينما أضاف غياث "اختفاء رنيم المفاجئ لا يوحي لي بأنها قد هربت بالفعل.. ثم إن الضجة التي أثارها زياد، بعد هربها بعدة أيام على الأقل، تثير تعجبي.. لماذا لم يبلغنا بالأمر فور حدوثه؟.. كان بإمكانه إبلاغنا به بواسطة الحمام الزاجل.. أكان عليه أن ينتظر كل ذلك الوقت وينتظر موت الملك عبّاد ليخبرنا أنه فقد كل أثر لرنيم؟"
تنهدت صافيناز وقالت "لهذا الأمر بالذات أتيت إليك.. إن أمي تصرّ على أن تصدر قراراً يخص رنيم ويعلن تبرؤ المملكة منها ومن أفعالها.."
نظر لها غياث بعبوس قائلاً "وهل توافقين على أن أفعل ذلك؟.. أهذا ما سيسعدكم ويريح بالكم حقاً؟"
خفضت صافيناز بصرها ثم غمغمت "لا.. بودي لو أرى رنيم في الحال.. بودي لو أعرف ما جرى لها حقاً.."
ثم تنهدت وأضافت "أشعر أن هذه ليست رنيم.. رنيم لا يمكن أن تكون بهذه الصلافة ولا بهذا التهور.. لن تخون اسم أبيها ولن تتصرف بما يخجله.. لكن لست أدري من أين أتت تلك الشائعات.."
زفر غياث وهو يعود لصمته متأملاً النقوش البارزة التي تزيّن سقف جناحه بعقل سرح في أفكاره.. ولم تلبث صافيناز أن غادرت بعد أن يئست من الوصول لاتفاق بينه وبين أمها وردم الفجوة التي بدأت تتسع بينهما..
أما غياث، فبعد أن أسْهِد لساعات طوال ولم يقاربه النوم، نهض ووقف قرب نافذة جناحه يتأمل القمر المضيء الذي تلتمع جدران القصر بنوره.. كان موضوع رنيم يؤرقه، وأخبارها تعكر مزاجه.. لكن أحداً لم يجزم بموقعها في هذه اللحظة ولا يعلم غياث وسيلة للوصول إليها.. فكيف يمكنه استعادتها ومعرفة حقيقة ما جرى منها مباشرة؟..
انتبه في تلك اللحظة لرؤية طائر ضخم يقترب من أحد جوانب القصر حتى هبط على شرفة من شرفاته.. نظر غياث للطائر الذي غلّفه الظلام بشكل كامل بشيء من الاستنكار ملاحظاً أن وجود ذلك الطائر لم يجذب انتباه أحد من الحراس بتاتاً.. ثم لاحظ ما أشعل قلقه أضعافاً عندما رأى ذلك الجسد الصغير الذي انسلّ من فوق الطائر وركض بخفة عبر الشرفة ونحو النافذة القريبة ليتسلل منها إلى القصر..
كان غياث يعرف ذلك الموقع جيداً، ويدرك تمام الإدراك أن تلك الشرفة تؤدي لجناح أبيه، الملك قصيّ، بالذات.. فلم يتوانَ لحظة واحدة وهو يغادر جناحه راكضاً نحو جناح الملك.. لكن شيئاً ما في ذلك الجسد الصغير جعله لا يستدعي الحراس ولا يطلب عوناً من أحد.. وخلال وقت قصير، كان يقتحم الجناح حيث يرقد الملك قصيّ في فراشه غارقاً في غيبوبة منذ بضع أسابيع لم يفلح الأطباء في إيجاد علاج لها..
وفي جانب الفراش، رأى ذلك الجسد الصغير المسربل بمعطف يغطيه وغطاء رأس يلقي ظلاله على وجهه وهو منحنٍ على الجسد الراقد بصمت.. انتبه المتسلل لقدوم غياث وهو ينتفض واقفاً، فقال غياث بحدة "توقف ولا تحاول الهرب.. من أنت؟.. وما الذي تفعله هنا؟"
تلفت المتسلل حوله للحظات، ولما اطمأن لخلو الجناح إلا منه ومن غياث، رفع يده وأزاح غطاء الرأس قائلاً بابتسامة "هذه أنا يا أخي.."
نظر غياث مصعوقاً لرنيم التي وقفت تنظر له بابتسامة، ثم تقدم منها بسرعة مما جعل رنيم تتوتر وهي تظن به ظنوناً شتى.. هل سيقبض عليها؟.. هل سيعاجلها بصفعة على وجهها مع كل تلك الأقاويل التي انتشرت عنها؟.. ما هي ردة فعل غياث، ومَن في القصر، على كل ما قيل عنها؟..
لكنها فوجئت به يجذبها ويعانقها بقوة شديدة بهتت لها رنيم، وقال لها بشيء من اللهفة "أأنت بخير يا رنيم؟.. أهي أنت حقاً؟"
قالت رنيم بابتسامة وهي تستكين بين ذراعيه "هي أنا يا أخي.. أتسرك رؤيتي حقاً؟"
أبعدها للحظات ونظر لوجهها ملاحظاً التغيير فيه.. كانت قد اكتسبت شيئاً من السمرة وبدا شعرها قصيراً جداً بينما ظهر جرح واضح على جبينها.. كانت مختلفة، ولولا عيناها اللامعتان ذاتهما لما عرفها حقاً..
فقال لها بانفعال "ما الذي جرى لك يا رنيم؟.. أأنت بخير حقاً؟"
ابتسمت رنيم قائلة "أنا بخير حقاً.. لقد سمعت بمرض أبي، فلم أتمكن من تجاهل الأمر.."
ونظرت للجسد الغارق في غيبوبة على الفراش القريب مضيفة "أتيت لرؤيته والاطمئنان عليه.. لم أتخيل يوماً أن أرى أبي المتجبر القاسي بهذه الصورة الضعيفة الواهنة.."
علق غياث "هذا طبيعي بالنظر لعمره.. لكن.. كيف تمكنت من الوصول للجناح دون المرور على الحراس؟.."
تذكر رؤية ذلك الطائر، فقال رافعاً حاجبيه بصدمة "هل أتيت على ظهر تنين حقاً؟"
قالت بهدوء "كاجا كائن طيب ورائع حقاً.."
أمسك غياث كتفيها وقال بتقطيبة "ما الذي جرى لك؟.. ولمَ هربت من (الزهراء) حقاً؟.. أريد تفسيراً لكل ما جرى.."
غمغمت رنيم "هل وصلك ما قيل عني؟.. أتمنى ألا تكون قد كرهتني لذلك يا أخي.."
ثم ابتسمت مجيبة "أنا لم أهرب يا غياث، ولم أنتوِ يوماً إذلال أبي وتلطيخ جبينه.. ما جرى حقاً أنني اختطفت من (الزهراء)، ومن وسط قصر الملك.."
نظر لها غياث بصدمة وقال "لكن زياد قال......."
قاطعته قائلة "زياد كان يريد التخلص مني بأي شكل كان لكنه كان يخشى من الملك عبّاد.. ولما جرى ما جرى وجدها فرصة للتخلص مني والتنصل من هذه الزيجة بإطلاق تلك الافتراءات عليّ.."
قال غياث بحنق "لا أتوقع أقل من ذلك من رجل خسيس مثله.."
ثم نظر لها مضيفاً "وماذا عن بقية تلك الإشاعات؟"
قالت بابتسامة "ذلك حديث يطول.."
جذبها لتجلس على كرسي قريب قائلاً بحزم "لن أطلقك حتى أعرف ما جرى لك.. وبكل تفصيل.."
لم تمانع رنيم وهي تجلس جانباً وتبدأ حكايتها الطويلة.. تلك الحكاية التي ابتدأت بمتسلل دخل جناحها بغفلة من حراس القصر واختطفها رغماً عنها.. وليس انتهاءً بتهدم قلعة (جمجات) وهرب الهوت منها..
ظل غياث يستمع إليها بدهشة وشيء من الصدمة.. كان ما ترويه أبعد من أن يتم تصديقه، وما جرى لها في ذلك الوقت القصير بدا مستحيلاً بعد تسعة عشر عاماً قضتها في حياة هادئة لا يعكر صفوها أي شيء.. ولما فرغت من حديثها، أمسك يديها قائلاً "رباه.. هل جرى كل هذا حقاً؟.. لماذا لم تعودي لقصر أبيك فور تحررك من خاطفيك؟"
قالت بهدوء "أتظن أن قصر أبي سيتقبلني بعدما أشاعه عني زياد؟.. أم أنني سأواجه مصيراً أسوأ مما واجهته بالفعل؟"
لم يعلق غياث وهو يتذكر شماتة الملكة الأولى لما سمعته عن رنيم، وما قد يفعله الملك لو كان بوعيه.. فتغاضى عن ذلك وهو يسألها "أأنت واثقة أنك بخير بعد كل ما جرى؟"
قالت رنيم وهي تتأمل ملامحه التي تحمل قلقاً واضحاً لشأنها "لا أريدك أن تقلق لأمري بعد اليوم يا غياث.. سعيدة أنني رأيتك، وسعيدة أكثر أنك لم تخيّب ظني فيك.. لو واجهت أخاً متعصباً غاضباً مما فعلته دون أن يستمع لحججي لشعرت بحزن شديد بالفعل.."
ضغط غياث على يدها بصمت للحظات، ثم قال وهو يقف "لا يمكنني أن أصمت لكل ما جرى.. لابد أن يدفع زياد الثمن على معاملتك بتلك الطريقة الخبيثة متناسياً ابنة من أنت.. سآخذك لجناحك، فهو كما تركته تماماً.. وغداً سيكون لنا حديث آخر.."
وقفت رنيم بدورها قائلة "لا أظن ذلك يا غياث.."
نظر لها بدهشة، فتراجعت خطوة للوراء مضيفة "لم أعد تلك الفتاة التي تنزوي في جناح في جانب القصر.. ولم أعد أميرة من أميرات هذه المملكة.. لا يمكنني العودة لهذه الحياة بتاتاً يا أخي.."
تقدم غياث منها خطوة قائلاً بانفعال "هذا قصر أبيك يا رنيم، وهذه حياتك.. إلى أين تنوين رمي نفسك في هذا العالم؟"
غمغمت بابتسامة "حيث يأخذني التنين.. هذه حياتي، وهذا ما سأفعله لما بقي لي من العمر.. سامحني يا غياث.. قد لا أراك بعد هذا اليوم أبداً.. فلا أنوي العودة لـ(بارقة) بتاتاً.."
ثم أضافت وابتسامتها تتسع "ولن ألومك لو قمت بإعلاني ميتة وشطبي من عالم الأحياء.. فأنا لن أكون من عائلة بني غياث بعد الآن.."
أدرك أنها سمعت الإشاعات التي دارت في (بارقة) مع كل تلك الأخبار المتتالية عنها.. فهتف غياث بانفعال "أنت ابنة قصيّ الرابع وسليلة بني غياث، أحببتِ ذلك أم كرهته يا رنيم.. لكن إلى أين تنوين الذهاب؟.. هل تنوين الهرب مع ذاك الرجل الذي اختطفك عنوة؟"
قالت رنيم ببساطة "ذاك الرجل هو زوجي الآن يا غياث، لذلك ليس عليك أن تقلق لهذا الأمر.."
ظل غياث يستمع إليها مبهوتاً وقد أعجزته الصدمة عن الرد، ثم رآها ترفع الغطاء الذي يغطي رأسها ويخفي هويتها واستدارت مسرعة نحو النافذة القريبة.. فهتف غياث "كيف يمكنك أن تفعلي هذا؟.. أأنت واثقة أنك رنيم حقاً؟.. لستِ أنت الفتاة التي عرفتها طوال سني عمرها.."
ابتسمت رنيم ابتسامة جميلة وهي تقول "ربما كنتَ لا تعرفني حقاً يا أخي.."
وخرجت من النافذة مسرعة نحو الشرفة المتصلة بها، ولما ركض غياث خلفها رآها تمتطي تنيناً أبيض اللون عظيم الهيئة وتمسك بلجامه بيدها بكل بساطة.. ظل غياث يراقب التنين بذهول بينما لوحت له رنيم بيدها.. وبحركة بسيطة، قفز التنين في الهواء ورفرف بجناحيه معتلياً حتى أصبح أعلى من أي برج من أبراج القصر.. ولم يلبث أن صار نقطة سوداء في السماء التي ينيرها القمر الخافت تلك الليلة..
وبينما غابت رنيم مع التنين في الأفق، فإن غياث لم يبارح موقفه وهو مذهول وقد أعجزته الصدمة عن الحديث.. أهذه رنيم؟.. أهذا أخته البريئة التي كان يحبها ويعطف عليها بشدة قبل رحيلها لقصر زوجها الموعود؟.. أهذه حقاً من غادرت قصر أبيها وهي قلقة من مستقبلها وتخشى أن ترفع رأسها وتواجه الآخرين بعينيها؟..
لشدّ ما تغيرت تلك الفتاة في هذه المدة الوجيزة.. لكن ما كان يثق منه غياث، أنه لم يشعر للحظة بالضيق لرؤية هذا التغيير.. ولم يشعر للحظة أنه محرج من تصرفاتها وأنها قد مرّغت رأسه بالتراب.. ورغم كل ما رآه، ما تزال رنيم حاضرة في ذهنه بعينيها البريئتين المعلقتين في السماء دائماً وأبداً..


*********************



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:35 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.