آخر 10 مشاركات
جدران دافئة (2) .. سلسلة مشاعر صادقة (الكاتـب : كلبهار - )           »          247- حب رخيص-كيت ولكر (مدبولي) عدد جديد (الكاتـب : Gege86 - )           »          وريف الجوري (الكاتـب : Adella rose - )           »          💕💕 حكايا القلوب..بين الزحام والناس💕💕فعالية جديدة*قصص قصيرة*(الموسم الأول كامل) (الكاتـب : اسفة - )           »          أول شتاء من دونك -سلسلة قصص قصيرة- بأقلام نخبةكاتبات قلوب [حصرياً ]كاملة &الروابط* (الكاتـب : Märäĥ sämį - )           »          الدخيلة ... "مميزة & مكتملة" (الكاتـب : lossil - )           »          263 - بيني وبينك - لوسي غوردون (الكاتـب : PEPOO - )           »          انتقام النمر الأسود (13) للكاتبة: Jacqueline Baird *كاملة+روابط* (الكاتـب : * فوفو * - )           »          أنفاس أحمد *مميزة ومكتملة* (الكاتـب : سامراء النيل - )           »          52 - خداع المرايا - أجاثا كريستي (الكاتـب : فرح - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة > روايات اللغة العربية الفصحى المنقولة

Like Tree1Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 14-12-15, 08:04 PM   #1

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Rewitysmile25 على جناح تنين / للكاتبة عالم خيال ، فصحى مكتملة





بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نقدم لكم رواية
على جناح تنين
للكاتبة : عالم خيال



قراءة ممتعة لكم جميعاً......


ندى تدى likes this.


التعديل الأخير تم بواسطة لامارا ; 25-12-15 الساعة 07:03 AM
لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-12-15, 07:07 AM   #2

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



على جناح تنين..



السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
أنا كاتبة جديدة في هذا المنتدى، لكني لست جديدة في الكتابة..
لي عدد من السنين أنشر رواياتي في مدونتي وفي منتدى آخر.
والآن أحببت نشر هذه الرواية في هذا المنتدى آملة أن تنال إعجابكم ومتابعتكم..

قد نشرت هذه الرواية سابقاً في مدونتي، لكني ارتأيت أنها ستكون مناسبة لعرضها لكم
هذه الرواية خيالية، تدور في عالم آخر يخلتف أو يتشابه مع عالمنا كثيراً
هذا هو ملخص الرواية، وبالضغط على الصورة يمكنكم رؤية غلافها كاملاً


هذه خارطة خاصة بهذا العالم ويوضح أهم الأماكن فيه

خارطة الرواية



سأنشر فصلين معاً اليوم، وسأبدأ بنشر بقية الفصول يومياً بإذن الله حتى انتهائها
فأتمنى منكم المتابعة والتعليق على ما تقرؤونه..


وأتمنى أن يعجبكم المحتوى..




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-12-15, 07:10 AM   #3

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



الفصل الأول: مستقبل لا أريده

في عالم آخر.. عالم بعيد أم قريب، لا أحد يعرف.. في عالم شاسع، مكوّن من قارتين عظيمتين تحتلان ذلك العالم.. في ذلك العالم، انقسمت الأرض بين مملكتين عظيمتين هيمنتا على تلك القارتين وفرضتا سيطرتهما شبه الكاملة..
في مثل ذلك العالم، ولاء المرء لا ينقسم إلى اثنين.. فإما أن يكون موالياً لمملكة (بني فارس) التي سميت بهذا الاسم نسبة لموحدها فارس بن ظاهر، والتي ملكتها عائلة عريقة من الملوك الأقوياء.. وقد اشتهرت المملكة بمساحتها الكبيرة التي تغطي أغلب إحدى القارتين المكونتين لذلك العالم، وتسمى القارة العظمى.. فمنذ نشوئها، توسعت مملكة بني فارس وهي تلتهم الممالك والولايات الأصغر والأضعف حجماً بكل شراهة.. ولم يسلم من سطوتها إلا بضع ممالك صغيرة وقبائل غجرية في شمال وشرق المملكة في الأماكن الأكثر وعورة وقسوة في المناخ..
وفي الجزء الغربي من القارة الأكثر غنىً بثرواتها الطبيعية، استقرت العائلة المالكة في مدينة كبيرة اتخذتها عاصمة للمملكة، وسميّت (الزهراء)، والتي ازدانت بمساحات شاسعة من الحدائق الغنّاء بأشجارها المثمرة وشجيراتها الزاهرة، وشيّدت فيها المباني الفخمة والساحات المنظمة والشوارع المرصوفة حتى تعارف على تسميتها بزهراء الممالك لجمال أحيائها وتنظيمها وفخامة قصورها..
أو يكون المرء موالياً لمملكة (كشميت) الواقعة في قلب قارة الثنايا، وهي مملكة محبّة للعلوم والفنون وجميع أنواع المعارف.. شُغف ملوكها بالتطوير والتعمير، وقاموا باستقطاب أصحاب الفنون والعلوم لتطوير مملكتهم، بحيث أصبحت العاصمة التي اختاروها والتي سميّت (كاشتار) مطمحاً للعلماء وأصحاب المعارف المختلفة، وسرت شائعة أن كل من يملك علماً يعامل بأفضل مما قد يجد في باقي ممالك العالم.. ورغم أن ملوك (كشميت) لم يكونوا من عائلة عريقة بل مجهولي الأصل، فإن حكمهم القوي قد جعل من مملكتهم تتمدد حتى تكاد تغطي على قارة الثنايا بأكملها..
وكما هو معروف ومتوقع، فإن عداءً قوياً قد تأصّل بين المملكتين لاختلافهما في الأهداف والتطلعات، وامتد ذلك الخلاف لمئات السنين واستهلك عشرات وآلاف الأرواح والممتلكات في حروب ضارية خاضتها المملكتان دون تردد.. ورغم أن الحرب الأخيرة، التي انتهت باتفاقية مؤقتة للسلام، مضى عليها ما يزيد على خمس وعشرين عاماً، إلا أن مثل هذه الاتفاقية لم تتمكن من إرساء سلام كامل في العالم ولم تهّدئ القلاقل التي تحدث بين وقت وآخر عند أطراف المملكتين وعبر بحر السلام وهو بحر يفصل بين القارتين ويحمل في اسمه أمنية تمناها الأجداد.. بأن يسود السلام بين المملكتين وتنقطع الحروب الشرسة بينهما والتي أزهقت أرواح المئات من أبنائهم ودمرت القرى الواقعة على ساحل ذلك البحر من جهتيه..
وبسبب هيمنة هاتين المملكتين، وجدت الممالك والدول الأصغر والأقل تأثيراً أنها مجبرة على تحديد ولائها لمن يملك مصالحها أو من تخشى من بطشه أن يطالها ويتهدد أمانها.. وهذا كان حال مملكة بني غياث الصغيرة التي تحتل جزيرة لا تتجاوز مساحتها مساحة إقليم من الممالك الأكبر حجماً، وتحتوي على أقل من عشر مدن رئيسية وبعض القرى المتفرقة ومساحات جبلية احتلت معظم تضاريس الجزيرة.. مما جعل معيشة سكانها صعبة وقاسية، وجعل المملكة فقيرة وذات اقتصاد ضعيف.. وفقرها هذا جعلها غير قادرة على بذل المال لتجهيز جيش مدرب بعتاده لحماية المملكة من أي عدو يهدد أمنها وسلامة شعبها.. وهذا جعلها بحاجة ملحة لحليف قوي يدرأ عنها الأخطار ويساندها في أي أزمة تمر بها..
كانت عاصمة تلك المملكة هي (بارقة)، والتي أسماها ملوكها السابقون بذلك لأن القادم إليها يرى أول ما يرى انعكاس الشمس على بواباتها الفضية الضخمة.. هي مدينة كبيرة الحجم وتبزّ باقي مدن المملكة مساحة وفخامة.. لكنها أصغر بكثير من مدن الممالك الأكبر وتبدو كمجرد قرية صغيرة جوارها.. لكن الملك حاول جهده للتغلب على ذلك بالكثير من البهرجة والفخامة في قصره الملكي، بالإضافة لابتداع الكثير من المراسم الخاصة به وبالطبقة العليا لا هدف لها إلا إضفاء أهمية مزعومة على مملكته وعلى شخصه..
كان ملك مملكة بني غياث، قصيّ الرابع، رجلاً في الستين من عمره، بطباع جافة ومزاج عصبي وتسلط ظاهر، لا يتردد في عقاب من يخالف قوانينه محاولاً وأدَ أي اعتراض قبل أن يتفاقم لثورة تطيح به وبعائلته.. وكان يملك عائلة كبيرة الحجم بالنسبة لملك مثله، مكونة من زوجتين أنجبتا اثنا عشر ابناً وابنة بالإضافة لصبيين صغيرين أنجبتهما إحدى جواريه.. وقد تراوحت أعمار أبنائه بين الثالثة والثلاثين، وهو عمر أكبر بناته، إلى السنتين، وهو عمر الصبيين التوأمين اللذين أنجبتهما الجارية.. ورغم العدد الكبير لأبنائه، إلا أن الملك لا يكاد يذكر من أبنائه إلا اسم وريث مملكته، غياث الثاني، والذي يعدّه ليحكم المملكة من بعده آملاً أن يتحقق هذا بعد زمن طويل وعمر مديد.. ولا يكاد يذكر من بناته إلا من احتاج تزويجها لشخص ذي مكانة تمنح ملكه شيئاً من القوة أو تمنحه حليفاً جديداً..
لذلك، عندما تردد اسم ابنته السابعة على شفتيه، فإن الأخبار طارت بسرعة البرق في قصره الفخم الذي احتل مساحة يعجز الشخص العادي في تلك البلاد من تصديقها.. هلّلت زوجته الثانية لهذه الأخبار، وهي أم الإبنة السابعة.. بينما تراوح انفعال أخواتها لهذا الخبر بين سعادة لما يعنيه ومط شفاه بغيرة وحسرة..
ومع نهاية ذلك الأسبوع، كانت العاصمة تقيم احتفالاً باهراً عمّ أرجاءها وأحياءها باختلاف طبقاتها.. ولم يكن هناك سبب معروف لهذا الاحتفال، إلا إظهار البهجة والمبالغة بالترحيب بموكب خاص وبادي الأهمية على وشك الوصول لأبواب العاصمة.. فخلال الأيام الماضية، أمر الملك بالشوارع أن تزيّن والمنازل أن تجمّل والمصابيح الزجاجية الملونة أن تعلق في أغلب الأحياء التي سيمر بها الموكب.. انتشرت شجيرات الورد الزاهية حالّة محل الشجيرات التي ذبلت لعدم العناية بها، وازدانت المدينة بشكل لم يُرَ مثله من قبل.. ولما تساءل أحد الشباب بتعجب لرؤية التغيير الذي حدث للمدينة خلال أيام قليلة "ما الذي جرى؟.. من النادر أن يبذر الملك أمواله في تزيين المدينة وبهرجتها بهذه الصورة مهما كانت المناسبة.."
أجابه آخر وهو يتأمل الأعلام الزاهية التي تم تعليقها في مواقع متميزة "ألم تعلم؟.. موكب ملكي قادم من مملكة بني فارس لزيارة الملك.. ويبدو أن أنباء تتردد عن رغبة ملك مملكة بني فارس، الملك عبّاد، مصاهرة ملكنا بتزويج ولي عهده من إحدى أميرات مملكتنا.. لهذا يظن الملك أن رمي هذه الأموال في احتفال فارغ لإبهار ضيوفه سيعود عليه بفائدة عظيمة.."
قال الأول بدهشة "وما الذي يجعل ملك تلك المملكة العظيمة يسعى لمصاهرة ملك مملكة صغيرة ومتواضعة كمملكة بني غياث؟.. ما الذي سيجنيه من هذا؟"
ربت الثاني على كتفه قائلاً بابتسامة "وما الذي يهمك من هذا؟.. المهم أننا سنحصل على طعام وشراب مجاني هذه الليلة.. وسنرقص حتى الفجر.. فكن مستعداً.."
غمغم الأول وهو يتبع رفيقه "لكن ما يجري لا يمكن ابتلاعه بسهولة من ملك بخيل كملكنا المبجل.."
وفي جانب من قصر الملك، حيث الخدم والخادمات يعملون بأقصى سرعتهم استعداداً لذلك الاحتفال ولاستقبال الضيف في أبهى صورة، اندفعت إحدى الخادمات عبر أرجاء الحديقة هاتفة "مولاتي.. مولاتي أين أنت؟"
وتوجهت لأحد الخدم حاملة تساؤلاتها بقلق شديد، لكن الخادم نفى معرفته بموقع من تبحث عنها.. ولما ابتعدت الخادمة صاح خلفها "ابحثي عنها عند الحظائر.."
حوّلت الخادمة وجهتها نحو الحظائر التي كانت تحتل الجهة الجنوبية من حدائق القصر الواسعة.. وقد استغرقها الأمر عدة دقائق لتعبر طرقات معقدة وسط حدائق مزينة بشكل هندسي جميل، تقودها إلى الحظائر والاسطبلات التي تحتوي على عدد لا يحصى من الحيوانات اللازمة لإعاشة المئات الذين يعيشون في القصر، بالإضافة لعدد كبير من الخيول الخاصة بالملك والأمراء والتي خصص بعضها لجرّ العربات الملكية..
وقرب أحد الإسطبلات، رأت ما جعلها تقترب منه هاتفة "مولاتي...؟!.."
رأت، عند كومة من القش، تلك الفتاة التي استلقت قربها وهي تضع كتاباً بالي الأطراف تغطي به وجهها من أشعة الشمس التي كانت على شيء من الحدة، بحيث لا يبدو من رأسها إلا تلك الخصلات الكثيفة المتماوجة، وتعقد ذراعيها على صدرها بسكون تام.. وقربها قبع كلبٌ ضخم بشعر طويل بني يكاد يغطي عينيه وهو يستلقي بصمت وسكون.. اقتربت الخادمة من الفتاة هاتفة "ما الذي تفعلينه هنا يا مولاتي؟"
فتحت الفتاة عينيها شيئاً ما وهي تزيح الكتاب عن وجهها وتقول بصوت ناعس "ما الذي ترينه؟.. أستمتع بغفوة تحت أشعة الشمس الدافئة.."
قالت الخادمة باستنكار وهي تغطي أنفها بكُمّ ثوبها "في هذا المكان؟.. كيف يمكنك احتمال هذه الرائحة من الحظائر القريبة؟"
لم تعرها الفتاة اهتماماً وهي تغمض عينيها وتستسلم للنوم من جديد، لكن الخادمة اقتربت منها وقالت بإلحاح "مولاتي.. عليك أن تعودي للقصر حالاً.. أمك الملكة الثانية تطلبك حالاً، وعلينا ألا نجعلها تنتظر.."
قامت بطرد الكلب الذي أصدر زمجرة منزعجة وهو يبتعد خطوات ويجثو في موقع آخر، بينما قالت الفتاة بضيق "ما الأمر هذه المرة؟.. لمَ عليكم أن تقاطعوا غفوتي بشكل يومي؟.."
قالت الخادمة بعصبية "مولاتي الملكة ستعاقبني إن لم أعد بك حالاً.. أرجوك يا مولاتي لنعُدْ للقصر.."
نهضت الفتاة متأففة والخادمة تنفض القش الذي علق بشعرها وهي تقول بحنق "كيف يمكنك أن تفعلي هذا بنفسك؟.. وفي يوم مهم كهذا اليوم.. لن يكفينا الوقت لتجهيزك بشكل ملائم قبل وصول الضيف.."
نظرت لها الفتاة بغير فهم متسائلة "أي ضيف؟"
قالت الخادمة بضيق "مبعوث مملكة بني فارس، والذي أرسله الملك عبّاد لطلب يدك من والدك الملك.. أنسيتِ الأمر بهذه السرعة؟"
هزت الفتاة كتفيها معلقة "لا.. لكني ظننت أن سمعي قد خانني عندما ذكر أبي الملك اسمي في ذلك اليوم.. لابد أنه لم يكن يعنيني بتاتاً"
عقدت الخادمة حاجبيها قائلة "كيف يمكن أن يخطئ الملك في أمر كهذا؟.. كفاك تجاهلاً للأمر ولنسرع.."
دفعتها الخادمة نحو القصر وهي تنفض ملابسها مضيفة "مولاتي الملكة الثانية شديدة العصبية الآن.. يعلم الله ما الذي ستفعله بنا لكل هذا التأخير.."
زفرت الفتاة وهي تسير خلف الخادمة ضامّة كتابها لصدرها.. ماذا لو تركوها تستمتع بغفوتها تحت أشعة الشمس لمدة أطول؟.. ألابد أن يعيدوها لذلك القصر البارد بهذه السرعة؟.. وكأنهم يستكثرون عليها متعة صغيرة كهذه..


*********************
"رنيم.. ألم أطلب منك مراراً الكف عن الذهاب للحظائر؟.. أنت أميرة ولك مكانتك.. ألا تخجلين من هذه الرائحة التي تخلفها الحيوانات على ثيابك الغالية؟.. هل يعقل أن يصدر هذا من فتاة على وشك الزواج من وريث مملكة بني فارس؟.."
وقفت الملكة الثانية على شيء من المبعدة وهي تغطي أنفها باشمئزاز من الرائحة التي غمرت الجناح الواسع، بينما قالت رنيم وهي تنزع ثوبها الطويل محتفظة بقميص داخلي يصل لركبتيها "لا يهمني اشمئزازكم من هذه الرائحة.. أنا أستمتع بوجودي هناك أكثر من وجودي في هذه القصور الخانقة.."
لوّحت الملكة بيديها لوصيفتها وهي تقول بضيق "كفى هذراً.. اذهبي للاستحمام بسرعة وارتدي الملابس التي أعددتها لك.. لم يبق إلا القليل على وصول الضيف، وبعد لقائه بالملك سيطلب مقابلتك بالتأكيد.."
دمدمت رنيم متذمرة وهي تسير مجبرة خلف وصيفتها الخاصة، بينما رفعت الملكة الكتاب الذي وضعته رنيم جانباً قائلة باشمئزاز "ولازلت تُتْلِفين عينيك بقراءة هذه الكتب البالية.. إن رائحتها العفنة ستلتصق بأصابع يديك التي من المفترض أن تضوع برائحة أفخم العطور.. عليك أن تكفّي عن هذه الهوايات الغريبة.."
ورمت الكتاب من نافذة الجناح العريضة بينما رنيم تهتف محاولة الإمساك به "لا تفعلي هذا.. إنه كتاب قيّم.."
قالت الملكة بصرامة وهي تواجه رنيم "الكتاب الذي سأعثر عليه بين يديك في المرة القادمة سأقوم بحرقه.. أتفهمينني؟.."
واستدارت مغادرة وهي تقول للخادمات بعصبية "أين رئيسة الخدم؟.. أحضرنها لي حالاً.."
التفتت رنيم لوصيفتها وهي تقول بلهجة منذرة "لو لم يعد لي الكتاب خلال لحظات فسأقتلك يا صفية.. أفهمتِ؟"
ابتسمت صفية وهي تدفع رنيم ناحية الحمام الفخم الملحق بجناحها قائلة "حاضر يا مولاتي.. أتظنين أنني لا أعرف ما عليّ فعله بعد السنوات التي قضيتها في خدمتك؟"
وبإشارة من يدها، انطلقت خادمة أخرى لاستعادة الكتاب وإخفائه عن عين الملكة المسلطة على رنيم.. أما الملكة الثانية، ففور مغادرتها الجناح المخصص لابنتها فوجئت بضرّتها، الملكة الأولى، تقترب منها وخلفها حاشيتها دون أن تحاول إخفاء ملامح الامتعاض من وجهها.. فاضطرت الملكة الثانية للانحناء للأولى التي تفوقها مكانة ومنزلة في القصر.. بينما تجاهلتها الأولى وهي تقول بصوت بارد "هل استعدّت ابنتك المتشردة لاستقبال الضيف؟.. لم يبقَ الكثير على وصوله.."
قالت الثانية بثبات "لا تقلقي أيتها الملكة.. ستكون ابنتي بأفضل هيئة عند قدوم الموكب الرسمي لمملكة بني فارس"
مطّت الملكة الأولى شفتيها معلقة "عليك تنبيه ابنتك ألا تتصرف كعادتها بكل خرق ولا مبالاة.. لا أريد أن تسبب الحرج للملك أمام ضيفه.."
قالت الثانية بحزم "رنيم تعرف كيف تتصرف كأفضل من أي أميرة في القصر عندما يستدعي الأمر.. فلا تشغلي بالك كثيراً.. لا بد أنها ستنال إعجاب الضيف بكل تأكيد.."
ثم ابتسمت بجانب فمها مضيفة "سأرحب بأي نصائح منك لتجهيزات عروسنا الجميلة.. فهي يجب أن تظهر بأبهى حلة أمام شعب وملك مملكة بني فارس العظيمة.. أتمنى للأميرة سهى أن تحظى بحظ مماثل لحظ رنيم في المستقبل.."
بدت الغيرة واضحة على ملامح الملكة الأولى، لكنها لوت فمها باستنكار وغادرت دون أن تتفوه بكلمة رافعة أنفها بتكبر.. بينما كتمت الثانية ضحكة كادت تفلت منها وهي تغادر بسرعة لتتابع ما يقوم به الخدم.. وقد اشتعل القصر بحركة الخدم التي لا تهمد وهم يتراكضون في أرجائه لإتمام الاستعدادات لاستقبال الموكب فائق الأهمية.. والذي لم يحلم الملك قصيّ باستقباله يوماً في مملكته المتواضعة..


*********************
عندما اقترب وصول الموكب لأبواب القصر الملكي، كانت الابتسامة الواسعة تشقّ جانبي وجه الملك قصيّ، وقد كاد يتوجه لمدخل القصر لاستقبال الموكب بنفسه لولا أن استوقفه الأمير غياث قائلاً "مهلاً يا مولاي.. لا يجب أن تحطّ من قدرك بهذه الصورة.. تذكر أن ضيفك ليس إلا وزير من وزراء الملك عبّاد، وليس الملك نفسه ولا ولي عهده.."
قال الملك قصيّ دون أن تزول ابتسامته "أدرك ذلك.. لكن لا تنسَ من يمثل هذا الوزير، ولا تنسَ الفائدة التي سنجنيها لو رحّبنا به بشكل يسرّه.."
قال غياث بحزم "ليس بهذه الصورة.. تكفي هذه الابتسامة التي لم نرَ مثلها منذ سنين عديدة.. دعني أنا أتولى الأمر.."
وهبط بخفة على السلالم بجسده الممشوق وثيابه الرسمية وسيفه معلقٌ في حزامه، متجهاً لبوابة القصر الرئيسية حيث سيصل الموكب الملكي خلال وقت قصير.. بينما وقف الملك قصيّ في موقعه متململاً بانتظار قدوم ضيفه المبجل.. وبعد وقت رآه طويلاً، لمح ذلك الموكب الذي شقّ حديقة قصره سالكة الممر الحجري الواسع قبل أن يقف قرب السلالم المؤدية لمدخل القصر.. ومن عربة تتوسط ذلك الموكب المكون من ثلاث عربات وبضع جنود على أحصنتهم، خرج رجل في أوسط عمره من العربة وهبط بهدوء ليتقدم من سلالم القصر.. كان الرجل عادياً لا يوحي بأي هيبة أو أهمية لو تجاوز الناظر عن ملابسه الفخمة.. فهو نحيل نوعاً ما ويغطي رأسه العاري من الشعر بقبعة ذات ريش أسود، وعلى كتفيه وضع معطفاً ثقيلاً ليتجاوز به برد العاصمة النسبي بسبب موقعها المرتفع وتوسطها عدداً من الجبال العالية..
لاحظ الملك استقبال غياث للضيف وترحيبه به قبل أن يصعد الرجلان السلالم ويدلفا من بوابة القصر الضخمة، عندها سارع الملك عائداً لقاعة عرشه تمهيداً لمقابلة الضيف..
وفي جانب آخر من القصر، قرب إحدى الشرفات المطلة على مدخله، كانت الملكة الثانية مع عدد من خادماتها تقف مراقبة ما يجري لدى وصول الموكب قائلة "هل استعدت رنيم؟.."
أجابتها إحدى الخادمات "إنها مستعدة بالفعل.. فلا تقلقي يا مولاتي.."
فقالت الملكة الثانية بشيء من الحنق "لماذا كان على غياث أن يستقبل الضيف؟.. لا نعلم ما الذي سيفعله ليفسد هذه الزيجة قبل أن تنجح.. فلا بد أن أمه الملكة الأولى قد دفعته لاستقبال الضيف بنفسه لإقناعه بالعدول عن طلب يد رنيم.."
علقت الخادمة بشيء من التردد "لا أظن ذلك صحيحاً يا مولاتي.. مولاي غياث يحب الأميرة رنيم كثيراً، ويساندها دوماً.. لا يمكن أن يسعى لفعل شيء كهذا بتاتاً.."
قالت الملكة الثانية بحدة "اصمتي أنت.. ما أدراك ما ينتويه هذا الخبيث؟.. يكفي أنه ابن تلك الحرباء.."
نظرت الخادمة حولها بشيء من القلق خشية أن تتنصت إحدى الخادمات لحديثهما وتنقله مع الكثير من البهارات لأذني الملكة الأولى، ثم قالت الخادمة "يحسن بنا أن ننصرف لرؤية ما فعلته مولاتي رنيم.. الوقت يداهمنا بالفعل يا مولاتي.."
زفرت الملكة الثانية بضيق وغادرت موقعها مدمدمة "يحسن بتلك الفتاة أن تكون متأهبة لما سيحدث.. وإلا سيكون عقابها شديداً.."
في الآن ذاته، كانت الملكة الأولى تراقب ما يجري بدورها من خلف إحدى نوافذ القصر قائلة بجفاء "أما كان على الملك أن يحسن اختيار العروس؟.. لمَ اختار فتاة سوقية كهذه لزوج كهذا؟.. هذا سوء تقدير منه.."
جاءها صوت ابنتها البكر صافيناز، وهي الابنة الكبرى للملك، قائلة من موقع قريب "طبعاً لن يعجبك اختيار رنيم، لأنها سترفع شأن الملكة الثانية.. عليك قول ذلك صراحة يا أمي.."
نظرت لها الملكة الأولى قائلة بأنَفَة "مهما ظنت تلك المرأة أنها عَلَتْ شأناً، فهي لن تعلو عليّ أبداً.. أنا الزوجة الأولى، وابني هو وريث عرش هذه المملكة.. عليها أن تعِيَ موقعها جيداً في هذا القصر.."
ابتسمت صافيناز معلقة "عليك أن تفهمي هذا أنتِ أيضاً يا أماه.. لا داعي للقلق والضيق من هذا الزواج.. دعي لها هذه السعادة الصغيرة، فأنت لك مقامك الذي لن يتغيّر أبداً لدى الملك.."
عادت الملكة الأولى تراقب ما يجري ملاحظة وصول الموكب وتقدم غياث من الضيف لاستقباله، وقالت بضيق "هذان الاثنان لا يستمعان لكلمة مما أقولها.. لا الملك ولا غياث يعيران حديثي أي اهتمام.."
تساءلت صافيناز بفضول "ما الذي دار بينك وبين غياث وتجاهلك فيه؟.."
أشاحت الملكة الأولى بوجهها قائلة بحدة "وما شأنك أنت؟.. اذهبي لجناح تلك الفتاة وأنصتي لما يقال.. أريد أن أعرف ما سيجري بالتفصيل.."
قالت صافيناز وهي تبتسم "بل سأذهب لمعاونة أختي الصغيرة.. فهي ستحتاجني في يوم كهذا.. أنا لا أحب التنصّت على الآخرين، ويمكن لأي خادمة من خدم القصر أن تقوم بهذه المهمة بكفاءة تامة.."
واستدارت مغادرة بينما الملكة الأولى تدمدم بشيء من الحنق "أنت أيضاً؟.. لمَ يعاملني الجميع وكأنني مجنونة؟.. هذا لا يطاق.."
وراقبت الضيف الذي غاب في القصر برفقة غياث، قبل أن تكرر من جديد "هذا لا يطاق بتاتاً.."


*********************
وقفت رنيم بشيء من التوتر وهي تلملم أطراف ثوبها وتتأكد من هيئتها مواجهة الأبواب المزخرفة والمذهبة التي تفصلها عن قاعة عرش الملك.. عدّلت خصلات شعرها البني الجميل وشدت جسدها لتمنحه طولاً بالإضافة لما اكتسبه من حذائها ذي الكعب العالي.. ولم تتوقف عن حركتها الملولة والمتوترة حتى سمعت صرير الأبواب وهي تفتح ونداء باسمها يتردد عبر القاعة..
وعندما فتحت أبواب تلك القاعة، تعلق بصر الملك وبقربه ضيفه وسفير مملكة بني فارس بتلك الفتاة التي سارت بخطوات هادئة وابتسامة خفيفة تخفي تحتها توتراً وارتباكاً شديدين.. بينما وقف ولي العهد الأمير غياث قرب كرسي أبيه الملك قصيّ وقد ارتسمت ابتسامة صغيرة على شفتيه..
كانت رنيم تكره تلك المظاهر والبهرجة التي لا تلائم روحها وتصيبها بالاختناق، لكنها وبتوصيات مشددة من أمها بذلت جهدها بالفعل لتتحكم بانفعالاتها وبتوترها وأن ترسم ابتسامة جميلة على شفتيها على أمل أن تنال إعجاب الوزير الذي سيرفع تقريراً لخطيبها المستقبلي بكل ما سيراه..
بعد وقت بدا لها طويلاً، وهي التي لم تعتد مثل هذا السير الهادئ، وقفت الفتاة بظهر مستقيم وأمسكت جانب ثوبها بيد وهي تحني رأسها بخفة قائلة "مولاي.. يسعدني المثول أمام سموّك وسموّ الوزير الأعظم لمملكة بني فارس العظيمة.. هذا شرف لي لم أطمح به يوماً.."
سمعت الرجل يقول "لست الوزير الأعظم.. إنما أنا أحد الوزراء التابعين لمجلس الوزراء في المملكة.."
غاص قلب رنيم في صدرها لهذا الخطأ الذي قد يكلفها الكثير وهي تلاحظ الضحكة التي كبتها غياث بصعوبة.. لمَ لمْ تنتبه لتوصيات أمها المطوّلة وسرحت في عوالم أخرى في وقت حرج كهذا؟.. تداركت الأمر بما تملكه من لباقة قائلة "أنا آسفة.. عندما لمحتك يا سيدي عند دخولي القاعة، تيقنت من رؤيتي للأبّهة التي تبدو عليك أنك لا يمكن أن تكون أقل من الوزير الأعظم.."
وأحنت رأسها من جديد مضيفة "اعذرني لهذا الخطأ يا مولاي.. رغم أنني لازلت مصرة أن منصب الوزير الأعظم يليق بك أكثر من أي شخص آخر.."
لمحت بطرف عينها ابتسامة متسعة على شفتي الوزير وهو يلتفت للملك قائلاً "لديك ابنة جميلة وذات أخلاق عالية.. لا أظن ولي العهد يطمح بالحصول على أفضل منها.."
غمرت الراحة رنيم لرد فعل الوزير على قولها بينما علق الملك بفخر "طبعاً.. يكفي أنها ابنتي.."
جلست رنيم على أحد الكراسي المذهبة المصطفة في وسط القاعة على جانبي الممشى بالسجادة الحمراء ذات النقوش الكبيرة على شكل تعريشات ورود وعصافير زاهية الألوان.. بينما أضاف الوزير بابتسامة "ولي العهد قد خطب عدداً من فتيات العائلات المالكة في أرجاء القارة، لكن أياً منهن لم ترُق له.. لكن أظن أنه سيعثر على مبتغاه عندك يا مولاي بالتأكيد.."
لم يبدُ الاهتمام على وجه رنيم لهذا القول.. هي لا تهتم بالمناصب وليس الزواج من طموحاتها الحالية.. لكنها مضطرة لمجاراة البقية مع الوعيد الذي هددتها به أمها الملكة.. يجب أن تنجح هذه المقابلة، وتنال إعجاب الوزير ومن ثم ولي العهد.. ويجب أن يتم هذا الزواج بأي صورة كانت.. لكن ماذا عنها هي؟.. في الواقع ليس لرنيم أي طموح ثوري، ولا تملك القدرة على تغيير واقعها أو اختيار مستقبلها بأي شكل كان.. كل ما تملكه هو إحناء رأسها وترك العاصفة تمر، واستراق بعض المتعة من انغماسها بقراءة الكتب ورعاية الحيوانات التي تحبها بشكل يفوق أفراد عائلتها الكبيرة..
ورغم وصايا أمها، لكن رنيم مقتنعة أنها لن تنال إعجاب ولي عهد مملكة عظيمة كمملكة بني فارس التي تتقاتل بقية الممالك للحصول على حظوة لدى ملكها.. هي لا تملك الجمال الذي يجذب الأنظار، خاصة بالنسبة لشخص يرى أنواعاً وأشكالاً من الفتيات الساعيات لنيل إعجابه والحصول بالتالي على مكانة في قصره.. فقامتها التي لا تملك أي طول يتجاوز الطول العادي، وجسدها المتوسط بغير أن يبدو لافتاً للنظر بدون الملابس الزاهية والمشدّ الذي يمنحها خصراً لا تملكه، وبشرتها التي تحمل شيئاً من السمرة بسبب طول مكثها في الشمس، كلها تجعلها تبدو عادية المظهر ولا تحمل جمالاً مبهراً كالذي قد يرجوه ولي عهد مملكة بني فارس.. إن استثنينا شعرها الطويل البني والذي يتموج تموجات جميلة.. وعيناها الخضراوان اللامعتان بنباهة ملحوظة.. هي فتاة نبيهة وتملك صفات لا تتحلى بها فتيات أخريات، لكن تلك الصفات لا تفيدها كزوجة لولي العهد والملك المستقبلي.. كل ما هو مطلوب ممن يختارها الأمير هو جمال فائق وابتسامة جذابة وخصوبة عالية لتنجب ولي عهده المستقبلي بأسرع ما يمكن.. وبهذا تضمن لنفسها مكانة في تلك المملكة، وتضمن لزوجها أن يستمر نسله في وراثة تلك المملكة التي توارثتها عائلته لخمسة عشر جيلاً.. هذه هي الحقيقة المؤسية لمنصب زوجة الملك والذي تتنافس عليه الأميرات أشد التنافس.. ولهذا السبب بالذات فإن رنيم تودّ التنازل عن هذا الشرف بكل أريحية، لكن رأيها مرفوض جملة وتفصيلاً في قصر أبيها..
بعد أن أنهى الرجلان حديثهما القصير، ورنيم صامتة في خيالاتها الخاصة وهي تراقب السماء من النوافذ العريضة، فإنها انتبهت عندما لوّح لها الملك بيده علامة الانصراف.. فلم تعلق رنيم وهي تقف محنية رأسها بخفة، ثم استدارت رافعة رأسها وسارت بهدوء حتى غادرت القاعة واختفت عن ناظري الملك وضيفه.. وبعد أن أغلقت الأبواب خلفها، زفرت رنيم بقوة وهي تحني كتفيها متخلية عن تلك الاستقامة وهي تغمغم "تباً.. هذا عسير حقاً.."
وسارت بخطوات واسعة وسريعة عائدة لجناحها للتخلص من هذه الأثقال التي تقيدها، وسرعان ما لحقها شقيقها الأكبر وولي العهد غياث وقال "أتعرفين أنني شعرت بالذهول عندما رأيت تلك المسرحية في قاعة الملك؟.. عليك أن تقدري الصدمة التي شعرت بها عندما رأيت تلك الأميرة التي استبدلت القرد الصغير الذي هو شقيقتي.."
قالت له رنيم بابتسامة جانبية "اهزأ كما يحلو لك.. لو سمعت جانباً من الوعيد الذي صبّته أمي على رأسي فستدرك مقدار الجهد الذي كان عليّ بذله لأبدو في تلك الصورة.."
غمغم غياث وهو يتبعها بخصوات واسعة "أنا واثق أنها سعيدة بهذه الفرصة التي تمكنها من التفوق على الملكة الأولى بشيء ما على الأقل.."
همست رنيم "وما ذنبي أنا؟"
لم يعلق غياث بينما زفرت رنيم وهي تتركه وتسير بخطوات سريعة وقوية عبر ممرات القصر.. ولما دلفت جناحها، وجدت جمعاً من الفتيات هنّ شقيقاتها الخمس وثلاث من بنات عمّها واللواتي هتفن فور رؤيتها "ما الذي جرى؟.. هل نلتِ إعجاب الضيف؟"
علّقت صافيناز "أتمنى ألا تكوني قد تصرفتِ على طبيعتك وأحرجتِ الملك أمام ضيفه.."
غمغمت رنيم بشيء من الضيق "طبعاً لم أفعل.. لست حمقاء لأفعل فأجد أسنان أمي تطبق على رقبتي بغلّ.."
ضحكت الفتيات من قولها بينما صاحت شقيقتها الصغرى سهى التي تفوقها جمالاً ورقة وكل صفة أخرى تتمنى رنيم لو كانت تتحلى بها "يا لحظّك الباهر.. ولي عهد مملكة بني فارس؟.. من أين لنا بزوج مثله بعد أن اقتنصتِه أنت؟"
مطت رنيم شفتيها قائلة "بودّي التنازل عنه لك لو كان لي الخيار.. أنت تعلمين أن هذا الزواج هو آخر ما قد أتمناه في الحياة.."
قالت ابنة عمها الثانية بعتاب "هل تحاولين إثارة غيرتنا بهذا القول؟.. أنت تعلمين أن نصفنا يحلم بزواج كهذا.."
قالت رنيم وهي تخلع زينة شعرها "لكني لا أكذب.. أنا حقاً لا أتمنى هذا الزواج.."
ونظرت من النافذة للمدينة القريبة مضيفة بتنهيدة "لو كان لي الخيار في الزواج من ملك أو من غجري من الغجر الرحّالة، لاخترت الأخير دون تردد.. على الأقل، سأرى في ترحالي معه عوالم لم أرَها إلا من نافذة جناحي الضيقة.."
قالت صافيناز بحزم "أتظنين أن أباك سيزوجك من غجري أو حتى من شخص يقل عنك مكانة بهذه السهولة؟.. سيفضّل دفنك في هذا القصر عن منحك الفرصة لأن تضعي رأسه في التراب.."
تنهدت رنيم معلقة "لو كان سيفعل، فأفضل أن يحبسني في أعلى برج في القصر حيث يمكنني رؤية السماء.. أو أن يغلق عليّ أبواب مكتبة القصر الضخمة.. بعدها لا أطلب شيئاً من دنياي هذه.."
ضحكت سهى معلقة "يا لك من جاحدة.. الدنيا فيها من المسرّات ما يفوق بضع كتب ستؤدي بك للجنون بكل جدارة.. لماذا تقسين على نفسك بهذه الطريقة؟"
قالت رنيم وهي تخلع ثوبها بالمشدّ الضاغط على خصرها "لستُ أقسى ممن أجبرنا على ارتداء هذه الملابس المستحيلة لنمتع أنظارهم.."
تضاحكت الفتيات على قولها الذي لم يكن غريباً عليهن بينما سارعت صافيناز لمعاونتها.. كن يعرفن رنيم حق المعرفة، ويعرفن أنها تكره تلك المظاهر التي تتطلبها حياتها كأميرة.. كانوا يعلمون أنها تتوق للخروج من هذه المملكة ومن قيود القصر التي تجد أنها لا تطاق.. وتتوق لرؤية عالم آخر أكثر بهجة وانطلاقاً من العالم الذي تعيش فيه.. وبما أن تحقيق ذلك مستحيل، فقد استعاضت عن ذلك بالانغماس في قراءة أصناف وأشكال متنوعة من الكتب التي تحمل ذلك العالم إليها، ولا تكون بحاجة إلا لبعض الخيال لتعيش في تلك العوالم بالفعل..


*********************
في تلك الليلة، قالت الملكة الأولى لزوجها الملك وهي تتناول العشاء معه "ما الداعي لاستدعاء رنيم لمقابلة الوزير؟.. ملك مملكة بني فارس لم يحدّد ابنة معينة من بناتك للزواج من ابنه ووريث عرشه.. أما كان المفترض أن تقدم له أجمل بناتك؟.."
قال الملك "هل منبع اعتراضك أن رنيم ليست ابنتك؟.."
قالت الملكة بسرعة "لا.. لكن رنيم معروفة بعدم تقيدها بالقوانين وبكونها لا تتحلى بأي ميزة بين الأميرات.. إن ابنتي سهى أجمل وأكثر لطفاً وحصافة منها.. ماذا لو استاء الملك أو ابنه من تصرفات رنيم؟.. سنكون بذلك خسرنا زوجاً لابنتك، وفوق كل ذلك خسرنا حليفاً قوياً كان من الممكن أن يعين مملكتنا بشتى الطرق.."
قال الملك "الملك عبّاد مصرّ على مصاهرتنا، لذلك لم يحدد أي أميرة يرغب بتزويجها ابنه.. رنيم تكاد تبلغ العشرين من عمرها ولم يتقدم للزواج منها أي من أمراء وأعيان الممالك الأخرى، وبذلك هي تخسر فرصتها للزواج بسرعة كبيرة.. زواج وريث مملكة بني فارس هي فرصتها الأخيرة، ولو رفضها ذلك الأمير، فيعني ذلك أن أي شخص آخر لن يعدّها مؤهلة للزواج بتاتاً، وستبقى في قصري تأكل من طعامي لآخر يوم من حياتها.."
ونظر للملكة بحدة قائلاً "وهذا ما لن يحدث بتاتاً.. لذلك، من مصلحتها أن تنجح هذه المرة.."
دمدمت الملكة متذمرة "كيف تتوقع من تلك الفتاة أن تتحلى بالتهذيب الكافي لتنال إعجاب الأمير الذي ولاشك رأى أصنافاً عديدة من الأميرات؟!"
قال الملك بحزم "ستفعل ذلك رغم أنفها.."
صمتت الملكة للحظات وهي تعبث بطعامها مفكرة، ثم قالت بابتسامة "أنت تعلم أن كل ولاة مملكتك يتمنون مصاهرتك.. ما رأيك بأن نزوج رنيم أحدهم بينما تتزوج سهى ولي عهد بني فارس؟.. لا نريد أن نخسر حليفاً قوياً بسبب تصرفات ابنتك غير المسؤولة.."
قال الملك بحدة "أتريدين أن أزوج بنتاً من بناتي لوالٍ يعمل عندي؟.. هل جننتِ؟"
قالت الملكة بارتباك "لست أعني ذلك، لكني أفكر بمصلحة مملكتنا الضعيفة أصلاً والتي بحاجة لحليف وسَنَدٍ قوي.. لذلك....."
ضرب الملك الطاولة بيده قائلاً "رنيم ستتزوج ولي عهد بني فارس.. هذا قول قاطع.. أما سهى، فلا تزال في الرابعة عشر من عمرها.. لا تزال تملك فرصة كبيرة لنيل زوج كفء لها.. فلا داعي لإطالة هذا الحديث.."
مسح فمه بمنشفة قريبة ورماها جانباً وهو يغادر قاعة الطعام.. فزفرت الملكة بحنق ودمدمت "لماذا اخترتَ تلك الفتاة بالذات؟.. إنها لا تستحقه.. ولا تستحق ما ستحصل عليه بهذا الزواج.."
ونهضت بدورها عازفة عن إتمام طعامها وفكرة واحدة تدور في رأسها.. لابد من علاج سريع لهذه الزيجة غير المتكافئة.. علاجٌ لن يثير غضب زوجها الملك ولن يغيّر رأي الملك عبّاد في مصاهرتهم.. فأين هذا الحل المثالي؟..


*********************
مرت عدّة أيام على مبعوث الملك عبّاد في قصر الملك قصيّ، لم يلبث بعدها أن رحل عائداً لمملكة بني فارس محمّلاً بهدايا ووصايا من الملك قصيّ فيما يخص هذه الزيجة.. ومع رحيله، فإن رنيم تنفسّت الصعداء بشيء من الراحة ظناً منها أنها ستُترك وشأنها في الأيام التالية.. كل همها كان أن تعود لتقضي وقتها فيما تحب، وتنسى هذا الزواج الذي لم ترْتح له لسبب أو لآخر..
وعندما استدعاها الملك بعد أقل من إسبوعين، فإنها لم تملك نفسها من التأفف بشيء من الضيق.. لقد تردد اسمها على شفاه جميع من في القصر في الشهر الماضي ما يتجاوز سني عمرها كله.. فما الذي جرى؟.. هل يستحق هذا الزواج أن يعكر صفو حياتها بهذا الشكل دون أن تتمكن من الاعتراض؟.. نظرت لوصيفتها صفية التي وقفت قريباً وقالت "أأنتِ واثقة أن الملك قد طلبني أنا؟.. ربما لم يكن يعني أنه يريد مثولي أمامه.."
قالت صفية بإلحاح "بل هو يطلبك حالاً.. لم أنت متكاسلة كثيراً؟.. وكأن من ستتزوج هي فتاة أخرى لا تربطك بها أي صلة.."
دمدمت رنيم وهي تدفن بصرها في الكتاب بين يديها "لم أكد أُنهِ أي كتاب منذ عدة أيام لكثرة المقاطعات التي تلاحقني من كل جهة.."
سحبت صفية الكتاب من يدي رنيم بهدوء قائلة "ليست هذه الكتب هي المهمة الآن.. اذهبي للقاء الملك لكيلا تصبّ الملكة الثانية غضبها عليّ لهذا التأخير.."
لم تتمكن رنيم من الاعتراض وهي تزفر بحدة.. ثم نهضت وتأكدت من هندامها لئلا تواجه تعليقات حانقة من أمها فيما يخص مظهرها، قبل أن تغادر نحو قاعة العرش حيث يقضي الملك أغلب أوقاته في النهار.. وخلال وقت قصير، كانت رنيم تحني رأسها للملك بهدوء قائلة "هل طلبتني يا مولاي؟"
قال الملك ملوحاً بيده "ارفعي رأسك.. لقد أرسل إليّ الملك عبّاد برسالة قبل قليل يؤكد فيه رغبته بمصاهرتنا.."
سمعت رنيم شهقة صدرت من أمها التي وقفت جانباً وملامحها تنطق بسعادة تامة، بينما لم تبدُ أي سعادة مماثلة على ملامح رنيم التي قالت "هذا خبر جيد، مادام سيسعدك يا مولاي.."
لم يعلق الملك على ردها البارد وهو يضيف "أريدك أن تستعدي للرحيل نحو مملكة بني فارس خلال أقرب وقت ممكن.. سيصل موكب ملكي مرسل من الملك عبّاد ليصطحبك لعاصمة المملكة (الزهراء).."
رفعت رنيم رأسها بدهشة وتعجب، ثم قالت "لماذا؟.. ما الذي يستدعي رحيلي لمملكة بني فارس في هذا الوقت بالذات؟"
أجاب الملك بحدة "كي تقابلي زوجك الأمير زياد، ولكي تستكملي مراسم الخطبة والزواج في (الزهراء).."
نظرت رنيم للملك بتعجب قائلة "كيف أرحل للزهراء قبل زواجي من الأمير زياد بالفعل؟.."
أجاب الملك "الزواج لن يتم قبل ذهابك لعاصمة المملكة (الزهراء) ومقابلتك لولي العهد.. فهو قد أصرّ على رؤيتك قبل إتمام هذا الأمر، كما أصرّ الملك على أن يتم الزواج في عاصمة مملكته.. يريد أن يحتفل شعب مملكته بهذا الزواج مباشرة خاصة أن زياد هو ابنه الوحيد.."
تزايد تعجب رنيم وهي ترفع حاجبيها قائلة باستغراب "أفهم موضوع مقابلة الأمير قبل إتمام الزواج، لكن أما كان المفترض به أن يأتي لرؤيتي؟.. ألا يتم الزواج عادة في قصر الأميرة؟"
قال الملك مقطباً "أأنت حمقاء؟.. كيف نطلب من ملك مملكة عظيمة كعبّاد أن يتنزّل ويأتي بنفسه لمملكتنا؟.. ماذا لو تعرض لخطر أثناء تلك الرحلة؟.."
تعاظم استنكار رنيم والملك يضيف بصرامة "ستذهبين أنت إليه، وسيتم الزفاف بعد شهر من وصولك للزهراء وحصولنا على موافقة الأمير زياد.. وعندها، سنتجه نحن بدورنا للزهراء لحضور ذلك الزفاف.."
قالت رنيم باحتجاج "لماذا تفعل هذا لي أنا يا أبي؟.. أليس في هذا التصرف إهانة لي ولك؟.."
ثم أشاحت بوجهها قائلة "لو كان الأمير يريد الزواج بإحدى بنات ملك آخر، عليه أن يسعى لذلك.."
ضرب الملك مقبض كرسيه بقوة وهو يهدر "كفّي عن هذه الترهات.. سترحلين في الموعد تماماً دون أن أكرر قولي مرة أخرى.."
زمّت رنيم شفتيها بحنق وصدمة، بينما سارعت الملكة الثانية تقول بانفعال "لا تقلق يا مولاي.. سأتأكد أنها ستكون على أتم الاستعداد للرحيل في الوقت المحدد.. فطِبْ نفساً وتهيأ لمقابلة ضيوفك الذين سيتقاطرون لتهنئتك من جميع أرجاء المملكة.."
وأسرعت نحو رنيم فدفعتها أمامها وهي تنحني للملك مراراً.. وخارج قاعة العرش، قالت الملكة الثانية بعصبية "ألا بد من كل هذا الجدال أمام الملك؟.."
قالت رنيم بضيق "ألا يحق لي الاعتراض؟.."
قالت الملكة الثانية بحدة "لا.. ماذا لو غيّر الملك رأيه بخصوص زواجك هذا؟.. لا نريد أن يقوم باختيار تلك الفتاة سهى ونبذك أنت بعد أن وصلنا لهذه المرحلة.."
دمدمت رنيم "أنت قلقة من تغلّب الملكة الأولى عليك في هذا الأمر.. أليس كذلك؟"
أجابتها بحنق "أجل.. لذلك افعلي ما يطلب منك دون تذمر.. وافعليه بطريقة صحيحة لمرة واحدة في حياتك على الأقل.."
وغادرت بخطوات سريعة تاركة رنيم تقف والضيق يعتلي ملامحها، فلم تجد وسيلة للتخلص من هذا الضيق إلا بالانزواء في الجزء المفضل لديها من القصر.. لطالما اعتبرت قصر أبيها كصحراء قاحلة جافة بجفاف من يعيشون في القصر، والواحة الوحيدة في قلب تلك الصحراء الخانقة هي المكتبة الضخمة التي تحتل جانباً كاملاً من ذلك القصر العتيق الذي يعود عمره لمائتي سنة على الأقل، والذي بناه قصيّ الأول بن غياث فور جلوسه على العرش.. والمكتبة التي فيه غنية بما لا يوصف ولا يعدّ من الكتب التي حرص قصيّ الأول على جمعها نسبة لحبه الشديد للقراءة وللعلم ورغبته بأن يصنع مكتبة يصل صيتها لجميع الآفاق.. وهذا هو الشيء الذي لطالما شكرت رنيم جدها الأكبر عليه في كل مرة انزوت في جوانبها مستندة على بعض الأرفف التي تحوي أشكالاً وأنواعاً مختلفة من الكتب والمخطوطات القديمة التي علاها الغبار..
في ذلك اليوم، اختارت رنيم كتاباً يتحدث عن البحر الهائج الذي يقع شمال شرق القارة العظمى ويزخر بعشرات الأنواع من الكائنات الغريبة والمخلوقات التي لم يعرف كنهها البشر.. بالإضافة لجزر يقال إن سكانها من البدائيين يقتاتون على أكباد الغرباء ويعشقونها دوناً عن أنواع الطعام المتاحة لهم.. ورغم أنها بدأت قراءة الكتاب بحماس كبير وشغف بالغ، إلا أنها رغماً عنها تركته في حضنها وسرحت وهي تتطلع للسقف المزخرف الذي يعلو رأسها وتفكر في حياتها القادمة.. أهي مقدمة على الزواج حقاً؟.. وهل ستتزوج ولي عهد مملكة عظمى لتغادر قصر أبيها فتقضي ما بقي من حياتها حبيسة قصر زوجها؟.. ما الذي سيقدمه لها الزواج حقاً؟.. هي متأكدة أن زواج مصلحة مثل هذا سيكون جافاً خالياً من أي مشاعر قد تنشأ بين أي زوجين.. لذلك هي واثقة أن حياتها ستخلو من الحب.. لكن، مع ذلك، قد تتجاوز عن الأمر لو كانت طليقة وتملك الحرية لتغادر القصر متى شاءت.. لكن حياة زوجة ولي العهد أكثر تزمتاً من حياة أميرة مملكة عادية.. ستتكاثر القيود حول عنقها حتى لا تغدو قادرة على التنفس وستموت مختنقة من هذا العالم الكئيب الذي تعيش فيه.. فأي حياة ترجوها بعد الزواج؟..
انتبهت من شرودها وأفكارها التعيسة عندما دخل وجه أخيها غياث نطاق بصرها.. فالتفتت إليه وهي تسمعه يقول "كنت أدرك أنني سأجدك هنا ولابد.. لديّ خبر جديد قد يسعدك لو كنتِ فتاة عادية كبقية الفتيات.."
غمغمت رنيم وهي تعتدل في جلوسها "هذا يعني أنه خبر تعيس بلا شك.."
جلس غياث بعد أن جذب كرسياً خشبياً قريباً قائلاً "الملك أبلغني برسالة وصلته منذ قليل.. الموكب الملكي من مملكة بني فارس سيصل خلال عشرة أيام.. عليك أن تعدّي العدة لترحلي بعد وصوله بيوم أو يومين.."
نظرت له رنيم بصدمة واستنكار.. ثم صاحت "عشرة أيام؟.. بهذه السرعة؟.."
هز غياث رأسه موافقاً، فقالت رنيم بحنق "كيف ذلك؟.. هذا مبكر جداً، أبكر مما توقعته بكثير.."
تساءل غياث "وما سبب اعتراضك على هذا؟.."
قالت بحنق وبالعذر الوحيد الذي طرأ لها "عشرة أيام لا تكفي لتجهيز كل ما أحتاجه كعروس ولي العهد.. هذا الوقت لا يكفي لخياطة ثوب واحد.. فما الذي يمكنني فعله؟.."
قال غياث "رسالة الملك تقول إن عليك الرحيل في الموعد المحدد، وهم سيتكفلون بكل الأمور الثانوية في (الزهراء).. عليك أن تكوني سعيدة لكل هذه التسهيلات التي ترافق زواجك.."
بدت رنيم أكثر غمّاً لهذا القول، فمال غياث تجاهها مضيفاً بابتسامة "هل منبع ضيقك أنك لم تستعدي للزفاف حقاً؟"
زفرت دون أن تعلق وهي تقبض على الكتاب بين يديها بشدة، فقال غياث "أنت قلقة من هذا الزواج بأكمله.. لكن لا تقلقي.. لن يكون الأمر أسوأ مما أنتِ عليه هنا.."
قطبت رنيم لقوله مغمغمة "تباً.. هذا لا يسعدني بحال.."
علق غياث "عليك أن تكفي عن هذه الكلمات التي لا تليق بأميرة.. لمَ أنت مختلفة عن الأخريات؟.."
زفرت رنيم وهي تسند رأسها للأرفف خلفها قائلة "لا أدري.. ربما من الخير لو ولدت صبياً.. عندها ما كنت سأحتاج لهذا التصنع والادعاء والقلق لهوية زوج المستقبل.."
نظر لها غياث بدهشة، بينما استطردت رنيم بشيء من الحماس "ربما كان الملك سيطلق علي اسماً رجولياً جميلاً.. مثل ثابت أو غسّان.. عندها سأكون بارعة باستخدام السيف وركوب الخيل.. ولن أضطر لقضاء وقتي بين جدران هذا القصر.. وعندها......."
نهض غياث معلقاً "استيقظي من أحلامك يا فتاة، وابدئي استعدادات رحيلك.. لا تنسي أن الملك سيقيم احتفالاً لك قبل بدء الرحلة بيوم، وبعدها ستنطلقين لحياتك الجديدة.."
وغادر تاركاً رنيم تدمدم بملل "ليت الأحلام تتحقق بمجرد تمنيها.."


*********************
عند وصول موكب مملكة بني فارس الملكي الفخم، فإن المدينة بأكملها خرجت لاستقباله والتفرج عليه بشغف تام.. المدينة بأكملها باستثناء رنيم التي انشغلت عن ذلك برعاية فرس مريضة تحبها بشكل كبير في حظائر القصر.. قضت وقتاً طويلاً في رعايتها والاهتمام بها رغم أن الطبيب البيطري قد طمأنها أن الفرس ستكون بخير خلال أيام قليلة.. لكن رنيم رفضت مغادرة الحظيرة وقضت وقتها قرب الفرس برفقة صبي من الخدم يعتني بالخيول الخاصة بالملك.. ولما سمعا صوت الأبواق التي علَتْ من جانب القصر، قال الصبي "مولاتي، أما كان من المفترض أن تذهبي لرؤية موكب مملكة بني فارس؟.."
قالت رنيم بعدم اهتمام "فرسي الجميلة أهم عندي من موكب ملكي سخيف.."
ومسحت على عنق الفرس قائلة بلطف ممتزج بالقلق "ما الذي أصابك يا عزيزتي؟.. كنتِ بأفضل حال بالأمس.."
قال الصبي بشيء من اللهفة "إذن.. أيمكنني أن أذهب أنا لرؤية ذلك الموكب؟.. لم يسبق لي أن شهدت موكباً مثله من قبل.."
أجابت رنيم "اذهب لكن عُدْ سريعاً.. سيغضب منك رئيسك بشدة لو اكتشف أنك تركت الموقع للفرجة على الموكب.."
صاح الصبي وهو يستدير راكضاً "شكراً يا مولاتي.."
ابتسمت رنيم بتعجب لسعادة الصبي.. ما الذي سيجنيه من مراقبة موكب ملكي تافه يسعى لإبهار الآخرين بشكله المبهرج؟..
أما الصبي، فقد سار متجاوزاً جوانب حدائق القصر باتجاه مدخله حيث الأبواب المزخرفة التي تفصله عن باقي المدينة.. وهناك، وقف قرب بعض الخدم الذي تجمعوا لمراقبة الموكب وشيك القدوم من جانب يسمح لهم بعدم الظهور أمامه.. وبعد وقت قصير، وصوت الأبواق يعلو بشكل متناغم معلناً اقتراب الموكب الذي طال انتظاره، فإن البوابة الحديدية المزخرفة لسور القصر فتحت بصوتٍ عالٍ ليدخل الموكب عبره بعد رحلة طويلة منذ غادر أسوار (الزهراء).. كان الموكب مكوناً من عدد من المركبات الفخمة يقود كل منها سائس بزي موحد فخم، وتجرها أحصنة أصيلة بديعة المنظر.. ووسط هذه المركبات سارت مركبة أكبر وأفخم عن البقية، بشعار مملكة بني فارس الذي يمثل أسداً فاغراً فمه وأنيابه بارزة وعلى رأسه تاج ملكي، والزخرفات الجميلة طالت جميع أرجائها حتى دواليبها الذهبية اللامعة.. ومن حول العربات، سار عدد من الخيّالة بأحصنتهم وزيّ الجنود الموحد وسيوفهم التي تدلّت من أحزمتهم..
راقب الصبي الموكب بشيء من الانبهار وهو يسمع إحدى الخادمات تهمس لرفيقتها "أترين هذه العربات؟.. إنها تحمل مهر الأميرة.. ترى كم قطعة ذهبية وكم من الجواهر تحوي في قلبها؟"
علقت الأخرى بشيء من الحسرة "بل كم من الأثواب والحرائر تحوي صناديقها؟.. يا لبؤسنا.. عندما تتزوج الفتاة منا فإن جلّ ما تحلم به هو خاتم ذهبي وبعض الملابس الرخيصة ومنزلٍ متداعٍ.."
قالت الأولى "طبعاً.. فمن نحن جوار الأميرة ابنة الملك قصيّ؟.. حياتها منذ مولدها وحتى مماتها تختلف عنا تمام الاختلاف.. يا لحظها الباهر ويا لحظنا التعس.."
علق خادم آخر وقف قريباً بشيء من الاستهزاء "أتظنين أن مولاتي رنيم ستحصل على شيء من هذه الجواهر والعملات الذهبية؟.. إنها ستنتقل رأساً لخزانة الملك، ولن ترى النور بعدها أبداً.. أما عن الأقمشة، فالملكتين والأميرات الأخريات سيتناهبنها ولن يبقين شيئاً للعروس المجيدة.."
غمغمت الخادمة الأولى وهي تتلفت حولها "صَه.. لا يعلو صوتك بهذا القول أبداً.. لا نريد أن نقع في طائلة مثل هذا القول بتاتاً.."
ظل الصبي يراقب الموكب ويستمع لأحاديث الخادمات والخدم، حتى وجد من يقبض على قميصه ويهزه صائحاً "ما الذي تفعله هنا يا فتى؟.. ألم آمرك أن تتمّ ما عليك من مهام قبل عودتي؟"
رفع الصبي رأسه ليرى أحد الساسة الموكلين بالحظائر ينظر له بغضب، فقال بسرعة "لقد سمحت لي مولاتي رنيم برؤية الموكب للحظات.. وسأعود بعدها لأعمالي.."
ثم تملص من قبضة الرجل وغادر راكضاً بينما الرجل يصيح خلفه "ستنال عقاباً على هذا يا فتى.. أتفهم؟"
لكن الصبي لم يعره أي اهتمام وهو يهرع للحظيرة، وهناك وجد رنيم في موقعها ذاته وهي تمسح على عنق الفرس التي كانت تلهث بصوت مسموع.. وفور أن رأته قالت "حسناً.. هل أعجبك ما رأيته؟.."
قال الصبي بحماس "إنه أمر مذهل.. ليتك أتيتِ معي.. إنه أكبر وأجمل وأفخم موكب رأيته يدخل القصر.."
ابتسمت رنيم لحماسته وانفعاله معلقة "سعيدة بسعادتك يا فتى.. لكن ليته لم يكن قادماً لأجلي.."
هتف الصبي "بل أنا مسرور لأنه قادم لأجلك يا مولاتي.. فأنت تستحقين الأفضل.."
قالت رنيم وابتسامتها تخفت "الأفضل لا يشي بالسعادة دائماً.."
ومسحت عنق الفرس بيدها مضيفة "لا أعلم لأي مصير سيأخذني هذا الموكب المبهرج، لكن يراودني شعور أنه لن يكون بأفضل من الواقع الذي أعيشه.."
صمت الصبي محاولاً فهم مغزى جملتها، ثم قال "أليس زواجك من ولي عهد مملكة الفرسان هو ما تطمحين إليه؟.."
هزت رأسها قائلة "قطعاً لا.."
وأضافت بابتسامة "لطالما حلمت بأن أرحل مع رجل قوي وطيب في الآن ذاته، بعد أن يشفق عليّ من السجن الذي أعيش فيه.. ومعه، أعرف معنى الحرية وأن أستمتع بحياتي كما أريد دون تسلط أحد.. حتى لو كان يعني ذلك تحمّل شقاء العيش دون رعاية من أبي الملك ودون الاعتماد على أمواله الطائلة.."
أمسك الصبي يديها بيديه بقوة قائلاً بحماس "لو كان هذا ما تحبينه، فأنا أتمنى أن يتحقق لك.. أنت تستحقين الأفضل، فأنا لم أرَ أميرة بطيبتك ولم يعاملني أحد بمثل هذا اللطف حتى بين الخدم.. سأدعو الله تعالى أن يحقق لك ما تتمنينه.."
ربتت رنيم على رأسه بابتسامة متسعة وقالت "شكراً لك يا عزيزي.. لكن أشك أن يتحقق ذلك حقاً.. بعد أن أصل (للزهراء)، ستكون حياتي قد تحددت ولا رجعة فيها.."
ونهضت قائلة "سأرحل خلال أيام قليلة.. لذلك أعهد لك برعاية الحيوانات خلال غيابي.. لا تهملها لئلا يطالك غضبي.."
ابتسم الصبي معلقاً "اعتمدي عليّ.. رغم شكي بموضوع غضبك هذا، فلم يسبق لي أن شهدته من قبل.."
قالت رنيم ملوحة بإصبعها "لا تستهن بغضبي يا فتى لئلا تندم.."
وغادرت بصمت وهي تتأمل أرجاء المكان وتلاطف ذلك الحصان وتمسح على أنف تلك الفرس.. كانت تعلم أن هذه قد تكون زيارتها الأخيرة لهذه الحظائر، فلا شك أن أمها ستمسك بخناقها طوال الأيام الباقية على رحيلها لمملكة بني فارس.. وهي، للأسف، لا تملك الاعتراض على ذلك بتاتاً..


*********************


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-12-15, 07:16 AM   #4

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



الفصل الثاني: واقعٌ قد دحر كل خيال


بعد احتفال بهيج أقامته المملكة لوداع الأميرة رنيم، وابتهاجاً بزواجها الوشيك من ولي عهد مملكة بني فارس، استيقظت رنيم في وقت مبكر بعد عدة أيام وأكملت استعداداتها للرحلة الطويلة.. ارتدت ثوباً بسيطاً مناسباً للترحال ولفّت شعرها الطويل في جديلة تتدلى على صدرها، ولم تنسَ قبل مغادرتها أن تمر على الإسطبلات والحظائر تودع الحيوانات التي عرفتها واعتنت بها منذ وقت طويل.. ورغم كل شيء، فإن جلّ ما كانت ستشتاق له في قصر أبيها هي هذه الحيوانات والمكتبة الكبيرة التي قضت فيها أغلب أيامها منذ تعلمت القراءة في صغرها..
وفي القاعة الخارجية للقصر، وجدت رنيم عائلتها الكبيرة تنتظرها لوداعها، مكونة من أشقائها وشقيقاتها وزوجتي الملك بالإضافة لعدد من الخدم والخادمات ممن اصطفوا باحترام وأحنوا رؤوسهم لها عند مرورها.. وبعد أن عانقنها شقيقاتها دامعات آملات أن تحظى بحياة سعيدة، وعانقها أشقاؤها آملين منها أن تكف عن التصرف بخرق ورعونة، ودعتها أمها بدموع فرح وسعادة للمكانة التي حصلت عليها، بينما ودعتها زوجة أبيها بابتسامة جانبية تعجبت لها رنيم ولم تفهم مغزاها.. وكأن الملكة الأولى تسخر من فشلها قبل أن يتحقق ذلك بالفعل.. لكن رنيم لم تحمّل الأمور أكثر من طاقتها وتجاوزت الأمر..
بعد ذلك، سارت مع الملك الذي قال لها "عليك أن تحسني التصرف ولا تحرجينني أمام ملك مملكة بني فارس.. تصرفاتك الخرقاء ستنعكس سلباً على علاقتنا بهم، لذلك كوني حذرة.."
غمغمت رنيم "أدرك ذلك يا مولاي.. لقد أعدت عليّ هذا الحديث مئة مرة في الأيام الماضية"
نظر لها الملك بشيء من الحنق، ثم أضاف "رحلتك الطويلة ستبدأ الآن، وستغادرين أراضي المملكة خلال يوم أو يومين نحو مملكة بني فارس.. لكن لا تقلقي، لقد أرسل الملك شخصاً أميناً وموثوقاً به لحمايتك طوال الرحلة.. إنه رئيس الحرس الملكي، ولا يمكن لشخص مثله أن يسمح بأن يصيبك أي سوء في تلك الرحلة.."
لم تعلق رنيم على قوله.. في الواقع كانت تشعر بحماس كبير لمغادرة المملكة للمرة الأولى في حياتها البالغة تسعة عشر عاماً.. لذلك لا تشعر بأي قلق من هذه الرحلة وتتوق لبدئها في الحال.. على الأقل، ستستمتع ببعض الحرية قبل أن تنزوي في قصر آخر من تلك القصور الخانقة..
بعد أن هبطوا عدة درجات تؤدي بهم لساحة القصر الواسعة، والتي تحفها أشجار زاهرة زرعت في أماكن مدروسة ومكونة منظراً هندسياً بديعاً، اتجهت رنيم برفقة الملك للموكب الذي يليق بزوجة ولي العهد، وإلى العربة التي تفوق البقية حجماً والتي هُيّئت لرحلتها الطويلة.. وقرب العربة، رأت رنيم رجلاً بثياب جنود ينحني واضعاً ركبته أرضاً ورافعاً الأخرى وهو يضع يده عليها واليد الثانية بقبضة مضمومة جوار ركبته.. ولما وصلت أمامه قال بلهجة احترام "لي الشرف بأن أكون حارسك الشخصي طوال هذه الرحلة يا مولاتي.. وتأكدي أن الرحلة ستكون سهلة وآمنة حتى تصلي بأمان للزهراء.."
علق الملك قائلاً "هذا هو مجد.. وهو من سيقود الموكب حتى تصلوا لقصر الملك عبّاد.."
رفع الرجل رأسه وانتصب واقفاً أمامها فوجدته يبزها طولاً رغم ارتدائها لحذاء بكعب عالٍ.. كان الرجل يبدو في منتصف الأربعين من عمره، بسمرة خفيفة ولحية سوداء مشذبة بعناية، وشعر فاحم تخللته شعيرات بيضاء لم تزده إلا هيبة ووقاراً.. عيناه رماديتان بلون باهت تتناقض مع سواد شعره، بزاويتان حادتان تمنحانها صارمة واضحة.. أنفه طويل ومستقيم وملامحه تشي بأنه شخصية شديدة الجدية..
ابتسمت رنيم ابتسامة خفيفة متجاوزة مشاعرها لرؤيته وهي تقول "شكراً لك يا سيدي.. سأعتمد عليك في هذه الرحلة.."
ابتعد مجد من طريقها سامحاً لها التقدم من العربة الملكية.. ولما وصلت إليها مد يده لها باحترام ليعينها على صعود العربة.. ورغم أن رنيم شعرت بضيق لهذه المعاملة، وهي لا تحتاج لمعونة عادة، إلا أنها لم تتردد في قبول يده شاكرة إياه بابتسامة.. عليها أن تحسن التصرف، وتعوّد نفسها على التصرف برقة وأناقة أمام أي شخص ينتمي لمملكة بني فارس.. على الأقل، هذه هي النصائح التي صبّتها أمها الملكة في أذنيها في الأيام والليالي الماضية دون ملل..
وفي العربة، والتي كانت واسعة بشكل لم تره من قبل ويمكنها أن تضمّ سبع أفراد دون تزاحم، وجدت رنيم أن جدرانها الداخلية مبهرجة بشكل مثير للدهشة.. جدرانها الخشبية قد بطّنت ببطائن حريرية مطرزة بخيوط ذهبية، وعلى نافذتها الجانبية ستائر رقيقة بلون سكري، ومقاعدها وثيرة بلون أخضر زاهٍ عليه تطريزات منمنمة لفراشات بيضاء وأشجار ذهبية.. وعلى الأرضية سجادة سميكة سكرية اللون كاد كعب حذائها يغوص فيها لسمكها..
جذبت رنيم ثوبها الطويل واستقرت في جانب العربة وهي تتلفت حولها بحبور.. هي حقاً من العائلة المالكة في هذه المملكة، لكن مملكة بني فارس تتفوق على مملكتهم الصغيرة في كل شيء.. لطالما سمعت عن مدنها العظيمة وقصورها الضخمة ذات الأبراج العالية وجسورها البديعة التي تعبر فوق الأنهار التي تقطع المدينة من عدة جهات.. وهذه العربة، وهذا الموكب الفخم، أكبر دليل على ما ستراه عند انتهاء رحلتها ووصولها لهدفها.. ورغم أنها تعلم أنها بوصولها لهدفها ستصبح سجينة تلك القصور الفاخرة، إلا أن هذا لا يمنعها من الاستمتاع بما تراه والتلهف على ما تتوقع رؤيته.. ظلت تقنع نفسها أنها في رحلة لاستكشاف عوالم لم ترها من قبل، وهي التي لم تغادر قصر أبيها بتاتاً في سنوات عمرها الماضية.. لذلك فإنها تناست التفكير في مستقبلها في ذلك القصر وفي مملكة زوجها المستقبلي، واقتنعت بالاستمتاع بحاضرها وبما ينتظرها في هذه الرحلة..
وبعد حديث قصير دار بين مجد والملك، وتلقى فيها رسالة مختومة منه للملك عبّاد، امتطى مجد فرسه البيضاء ذات العرف الذي خالط بياضه لون أشهب، وجذب عنانها وهو يرفع يده ليبدأ الموكب انطلاقه عبر حديقة القصر الشاسعة وعبر أحياء وطرقات المدينة ليغادروها من إحدى بواباتها.. وفور تجاوز الموكب لبوابة القصر المذهبة الضخمة، وسيرهم عبر طرقات المدينة الواسعة، سمعت رنيم صوتاً عالياً يندلع من جانبي الطريق.. نظرت من النافذة مزيحة الستائر، فرأت عشرات وعشرات من سكان المدينة ممن اصطفوا على جانبي الطريق حاملين زهوراً ألقوها على الموكب الذي يمر بينهم بينما هتف الآخرون بسعادة واضحة انعكست على رنيم وهي تراقبهم بسرور.. لا يخفى عليها سبب سعادة سكان مدينتها بزواجها هذا وما يتبعه من تحالف بين المملكتين واستفادة مملكتهم الضعيفة والفقيرة نوعاً بحليف قوي وغنيّ كمملكة بني فارس.. ورغم إدراكها أن سعادة الجميع بزواجها ليست موجهة لها هي بالذات، لكنها رغم ذلك بدت سعيدة وهي تتأمل سكان العاصمة ومنازلها والطرقات التي تمر العربة من خلالها..
وفي مقدمة الموكب، سار مجد بفرسه بخطوات متعجلة محاولاً تخطي الجموع التي أصمّت أذنيه وأثارت توتراً في فرسه شعر بها بوضوح.. وبعد لحظات، اقترب رجل آخر من الموكب بحصانه ليسير قرب مجد قائلاً "بدا الملك سعيداً بشدة لهذه المصاهرة.. كان بإمكانه أن يتصرف بشكل أكثر رقياً وأقل انفعالاً.."
علق مجد قائلاً "من يمكنه أن يلومه؟.. إن هذه المصاهرة ستمنحه حليفاً قوياً وإمداداً كبيراً على جميع الأصعدة.. يكفي وجود ابنته في قلب عاصمة مملكتنا، وفي قصرها الملكي.. وفي المستقبل، لو كانت حسنة الحظ، ستقف جوار زوجها الملك وقد تتمكن من تحريك قراراته بما يصبّ في مصلحة مملكة أبيها.."
ابتسم الرجل قائلاً "أنت أيضاً حسن الحظ بهذه الرحلة.. لو أتممتها وأرضيت الملك، سيرفعك لمنصب أكثر قوة وتأثيراً من منصبك.. لقد وعدك الملك بهذا قبل بدء رحلتنا هذه بالفعل.."
غمغم مجد بضيق "لا يهمني المنصب كثيراً، فيمكنني الحصول عليه بطرق أخرى.. ما أكرهه بشدة هو اضطراري لمرافقة هذه الأميرة في رحلة طويلة كهذه.. هذا أكثر مما أطيق احتماله بالفعل.."
تساءل الرجل "لماذا؟.. هل تخشى من فشلك في حمايتها؟."
أجاب مجد "بل أخشى من تعاملي معها.. لا أمانع من اصطحاب ذوي المناصب العليا والأمراء في مثل هذه الرحلات، لكن الأميرات هن أمر آخر.. إنهن يتصرفن بتعالٍ بغيض ويكثرن من الطلبات التي لا داعي لها ويتذمرن من كل أمر.. يتظاهرن بالرقة، لكنهن لا يعبأن لأمر طفل مشرد أو كلب أجرب.. كل ما يهمهن هو جمالهن وبهرجة ملابسهن.. في الواقع، أفضّل مواجهة عدو من أعداء المملكة في أحد الحروب عن مواجهة تذمر أميرة مدللة.."
ضحك الرجل بقوة وقال "لو سمعتك الأميرة لاشتكت لولي العهد من تصرفاتك واتهمتك بالصلافة.. فكن حذراً.."
غمغم مجد "لا تقلق.. لست مجنوناً لأفعل.."
وأضاف وهو يحث فرسه لتسرع في سيرها "فلنأمل أن تنتهي هذه الرحلة على خير.."
وبينما كتم مجد تأففه بصعوبة لذلك الإزعاج الذي صمّ أذنيه، فإن عينا رنيم تلألأتا وهي ترى الموكب يقترب من أسوار العاصمة، والبوابات الضخمة التي ترفرف فوقها أعلام المملكة قد فتحت بدعوة واضحة لها.. لقد بدأت رحلتها التي تتمنى ألا تقف عند أبواب (الزهراء).. ولا تدري لم خيّل إليها أن عربتها فور مغادرتها أسوار العاصمة ستطير مع الرياح المندفعة وترتفع فوق الغيوم العالية في رحلة خيالية.. رحلة لطالما تاقت نفسها إليها..


*********************
بعد نصف نهار من السير المتواصل، سار فيه الموكب الملكي مغادراً عاصمة المملكة عبر دروب تقطع تلك السلسلة الجبلية، فإنه وصل لموقع يمر بسهول عشبية تغزوها الأزهار البرية من كل جانب بينما تظللها الجبال التي وقفت جانباً كجدار عظيم يلامس عنان السماء.. انتاب رنيم ملل شديد وتعب أشد بعد أن اضطرت للبقاء في عربتها وحيدة إلا برفقة وصيفتها صفيّة والتي ستنتقل للعمل عندها في قصرها الجديد.. لم تكن رنيم معتادة على البقاء في موقع واحد لفترات طويلة دون عمل ودون كتاب تتسلى به، وبدأت تشعر بألم شديد في ساقيها لطول جلوسها دون حراك.. فقالت بتذمر وضيق "رباه.. متى ستقف هذه العربة؟.. أكاد أختنق من الجلوس فيها.."
قالت صفية مبتسمة "ما الداعي للتذمر يا مولاتي؟.. العربة واسعة ومريحة جداً.. ورحلتنا ستكون طويلة لذلك عليك أن تتحلي ببعض الصبر.."
قالت رنيم وهي تنظر لسقف العربة بملل "كيف تتوقعين مني ذلك؟.. كان عليهم الوقوف للراحة في وقت أبكر.."
علقت الوصيفة "هذا سيبطئ سيرنا أكثر.."
غمغمت رنيم وهي تنظر من النافذة "ليتني أحضرت كتاباً معي.. أشعر بملل قاتل.. لو كنت أكثر جرأة لارتحلت على ظهر فرس بدل اللجوء لهذه العربات الخانقة.."
علقت صفية بشك "وهل تتقنين ركوب الخيل يا مولاتي؟"
مطت رنيم شفتيها معلقة "ليتني كنت كذلك.."
ثم نظرت لصفيّة قائلة "استدعِ مجد.."
تساءلت صفية بدهشة "لمَ يا مولاتي؟"
قالت رنيم "يجب أن نتوقف قليلاً قبل أن أقضي نحبي اختناقاً من هذه العربة.. استدعيه حالاً.."
ورغم اعتراض صفية، إلا أنها استسلمت للأمر في النهاية وفتحت النافذة التي تعلو باب العربة مستدعية سائقها وطالبة الحديث مع مجد.. وخلال لحظات، توقف الموكب بأكمله عن الحركة وسمعت رنيم تململ الأحصنة وصهيلها وتساؤلات بعض الرجال الذين يرافقون الموكب لحمايتها..
اعتدلت رنيم في جلوسها وهي تعدّل هيئتها عندما سمعت طرقاً على باب العربة.. ولما سمحت للطارق بالدخول، وجدت الباب يفتح ويظهر من خلفه مجد الذي قال "ما الأمر يا مولاتي؟.. أهناك خطب ما؟"
قالت رنيم "ألن يتوقف الموكب للراحة قليلاً؟.. لقد أمضينا عدة ساعات في السير دون توقف.."
قال مجد باعتراض "عذراً يا مولاتي.. وقوفنا للراحة الآن ليس في صالحنا.. لم نقطع إلا مسافة ضئيلة من رحلتنا.."
شعرت رنيم بضيق لفكرة أن تبقى حبيسة هذه العربة، فقالت باندفاع "لكنني أريد أخذ قسط من الراحة.. ساعة واحدة لن تعطل سيرنا بشكل كبير.."
لمحت نظرة استياء في عيني مجد، لكنه لم يعلق وهو يحني رأسه لها، ثم ابتعد عن الباب، فنهضت رنيم وغادرت العربة متجاهلة يده الممدودة وتلفتت حولها في الموقع.. كانوا يقفون عند أطراف غابة كثيفة الأشجار يقطعها طريق على شيء من الاتساع، مخلّفين السهول العشبية التي كانت الأكبر في الجزيرة بأكملها.. فغمغمت رنيم "يا له من مكان بديع.."
علق مجد القريب "هذا هو الموقع الأجمل الذي رأيته منذ وصولي لمملكة بني غياث.."
ثم أضاف "سيهيئ الرجال لك موقعاً ملائماً لترتاحي فيه حتى نعاود السير.."
قالت رنيم بابتسامة متسعة "لا حاجة بكم لذلك.. يمكنني تدبر أموري كالبقية.."
ثم رفعت طرف ثوبها وتقدمت من الغابة القريبة قائلة "سأقوم بجولة صغيرة في المكان.."
استوقفها مجد قائلاً بشيء من القلق "بقاؤك في هذه السهول أفضل من دخولك الغابة.. لا نعلم ما قد يعترضك فيها.."
كان فضول رنيم يتزايد حول الغابة رغم جمال السهول القريبة، فقالت "أرجوك ألا تقلق لأمري.. ستصحبني وصيفتي.."
وأكملت سيرها غير عابئة بالضيق المتزايد في وجه مجد، بينما لحقتها صفية حاملة مظلة بيضاء من الدانتيلا وهي تقول "مهلاً يا مولاتي.. عليك أن تبقي في الظل ولا تتعرضي لأشعة الشمس القوية.."
علقت رنيم بابتسامة جانبية "لماذا؟.. هل سيرفع هذا من حظي أمام ولي العهد؟.."
غمغمت صفية بضيق "لماذا أنت مختلفة عن الأخريات يا مولاتي؟.. أنت لا تتصرفين كأميرة بتاتاً.."
قالت رنيم "ألا يكفي أنني أعفيك من طلباتي الكثيرة والتذمر الذي يلاحقكن من بقية الأميرات؟.."
قالت صفية "لكنني أركض بشكل دائم بحثاً عنك في أرجاء القصر.. وهذا منهك تماماً.."
التفتت إليها رنيم قائلة "يؤسفني أنني أجبرك على ذلك.. سأحاول ألا أفعل هذا.. والآن عودي للبقية وخذي بعض الراحة.."
قالت صفية باعتراض "لكن يا مولاتي...."
لوحت رنيم بيدها قائلة "لا تخشي شيئاً.. سأكون بخير.."
وقفت صفية تنظر لها بحيرة مما عليها فعله، بينما سارت رنيم بابتسامة متسعة وهي تأخذ نفساً قوياً مستمتعة برائحة الغابة.. تلك الرائحة التي تختلف عن رائحة القصر والحدائق المحيطة به..
لم يكن إصرارها على التخلص من وصيفتها لسبب معين، إلا لتشعر أنها طليقة حقاً دون رقيب ودون عين تلاحقها وتتبعها بإصرار.. فرغم أن صفية خادمتها ووصيفتها الوفية، إلا أنها تجبرها على التقيّد بقوانين القصر وعدم تجاوز ما يقتضيه منها كونها أميرة وابنة ملك هذه المملكة.. وتلاحقها بشكل دائم بالوصايا والتعليمات التي تصيب رنيم بالضجر.. لذلك كان هذا أنسب وقت للتخفف من هذه القيود والتمتع ببعض الحرية..
سارت في أرجاء الغابة التي بدأت أشجارها بالتكاثف والتقارب مع كل خطوة تخطوها رنيم في قلبها.. كان الموقع ساحراً، والهدوء الممتزج بأصوات العصافير المتنوعة يجعله خيالياً أكثر من اللازم.. تلفتت رنيم حولها وهي تحفر هذه المناظر في عقلها بشغف واضح، وسارت حتى انتبهت لخفوت الأصوات من خلفها وابتعادها عن موقع الموكب أكثر من اللازم.. ولو أنها كانت تفضّل الاستمرار في استكشاف الغابة، لكنها نوعاً ما خشيت من غضب وصيفتها أو مجد لو ضاعت ولم تتمكن من العودة.. لذلك استعاضت عن رحلتها بالتجوال في موقع قريب من طرف الغابة حيث الموكب قريب منها وحيث لن تثير قلق أحد عليها..
وبعد أن استكملت جولتها، فإن رنيم عادت مرغمة لموقع الموكب وهي تتنهد كمن يستيقظ من حلمٍ طالما اشتاق لرؤيته.. ولما خرجت من الغابة رأت المعسكر البسيط الذي أقيم في ذلك الموقع، وفي وسطه، نصبت مظلة كبيرة انتصبت على أربع أعمدة خشبية مدّ فوقها قماش أبيض اللون حمل زخارف وصور جميلة.. وتحت المظلة رأت رنيم كرسياً مريحاً أبيض اللون وقربه طاولة خشبية عليها بعض الفطائر وكوب عصير طازج..
لكن رنيم تجاهلت الموضع المهيأ لراحتها، وتجاهلت توسلات وصيفتها صفية، وسارت للموقع الذي ربطت عنده الأحصنة في جانب الغابة.. كان الجنود يجلسون للراحة في جانب المكان، بينما ربطت الأحصنة بالأشجار القريبة، فتقدمت رنيم منها ماسحة على عنق أقربها وهي تتأملها بابتسامة جانبية.. لفتت انتباهها تلك الفرس البيضاء ذات العرف الأشهب الجميل والذي ربط بضفيرة صغيرة، فتقدمت رنيم منها ومسحت على عنقها ووجهها وهي تتمتم "يا لك من فرس جميلة.."
سمعت من خلفها صوت مجد يقول "يبدو أن الشهباء قد أعجبتك.."
التفتت إليه قائلة "إنها جميلة جداً.. أهي ملكك؟"
هز مجد رأسه إيجاباً، وتقدم مربتاً على عنق الفرس وقال "هي معي منذ عدة سنوات، وهي فرس جميلة ومطيعة ومثابرة بشكل لا يصدق.. هي الوحيدة التي ارتحت لرفقتها طوال هذه السنوات.."
غمغمت رنيم وهي تتأمل عيني الفرس السوداوين "تمنيت لو كنت أعرف ركوب الخيل.. أحب هذه الكائنات الجميلة، وأود لو أنطلق على ظهرها بأقصى سرعة وبكل حرية.."
تساءل مجد "وما الذي يمنعك من ذلك؟"
تنهدت قائلة "لا يسمح لنا الملك بذلك.. يظن أن تعلم ركوب الفرس يجعلني أفقد أنوثتي وبهذا تقل فرصي في الزواج.."
رفع مجد حاجبيه بتعجب قائلاً "هذا غير مقنع.. لمَ عليك أن تكوني كالأخريات وتنزوي في جانب القصر بانتظار زواجك؟.."
انتبهت رنيم لنفسها وأدركت ما سيوحي به هذا الحديث لمجد، وما قد يتصوره عنها.. لكن، ما الذي سينقله لولي العهد وللملك عبّاد في (الزهراء)؟.. ألن يؤثر ما سيقوله لهما على مستقبلها الذي تسعى لنجاحه مرغمة؟.. بقدر ما كان ذلك مناقضاً لها، إلا أنها كانت ساعية بالفعل لإنجاح هذا الزواج، لتنال رضى أبويها،و لتزيح همّهما من عقلها بعدها..
اعتذرت رنيم من مجد وابتعدت عائدة نحو المظلة المهيئة لها بشيء من الكآبة.. أبعد ذلك الوقت الذي قضته جالسة في العربة يتوقعون منها أن تظل جالسة تحت هذه المظلة التي تمنع دفء الشمس من الوصول إليها وتملأ معدتها بالطعام والشراب دون هدف؟.. لكن، كما علقت صفية سابقاً، فإن رنيم تتساءل أيضاً عن السبب الذي يجعلها مختلفة عن بقية الأميرات، ولا تسعد بأشكال الراحة والبهرجة هذه كما تفعل الأخريات..


*********************
بعد راحة قصيرة، استأنف الموكب سيره قاطعاً تلك الغابة عبر طريق ممهد يمتد بطولها ولا ينتهي حتى يصل للبحر الواقع خلفها.. لم يكن السير عبر أراضي الجزيرة يمتد لأكثر من يومين، وبعدها سيرحل الموكب على سفينة ملكية تقطع به بحر السلام الواسع حتى تصل لأقرب ميناء من العاصمة (الزهراء) وهو ميناء (ذات المخالب) الذي يقع على الجانب الغربي من القارة العظمى.. وبعدها يسير الموكب عبر تضاريس سهلة حتى يصل العاصمة التي تبعد أربعة أيام عن الميناء..
هذه باختصار هي الرحلة التي سيقطعها الموكب في الأيام العشرة القادمة، كما شرحها لها مجد أثناء راحتها في ذلك الموقع.. وبدا لها بوضوح أنه أخبرها بكل هذه التفاصيل كي تكفّ عن قطع سيرهم بين لحظة وأخرى لتتجول في الأرجاء دون هدف واضح..
وخلال عدة ساعات، قضتها رنيم تتأمل الغابة من نافذة عربتها بصمت، توقف الموكب بعدها وسط الغابة في موضع منبسط تقلّ فيه الأشجار ليعسكر هذه الليلة.. وخلال وقت قصير، وقبل أن تغرب الشمس بشكل كامل، كان الجنود قد أقاموا المعسكر بسرعة وخبرة ونصبوا خيمة فخمة لرنيم وعدة خيام أخرى للوصيفات والخدم وبقية الجنود..
بدا المكان موحشاً بعد غروب الشمس، مع شحّة النور التي تغلغلت من بين الغيوم تلك الليلة، لكن رنيم لم تشعر بأي خوف وهي تجول في أرجاء المعسكر مهتدية بضوء النار التي أشعلت في عدة أجزاء منه..
وفي وقت متأخر من تلك الليلة، بعد أن أوى أغلب الجنود والخدم للنوم بينما بقيت فرقة صغيرة لحراسة المعسكر.. خرجت رنيم من الخيمة الفخمة التي نُصِبَتْ لها وسط الموقع، ووقفت تتأمل القمر المنير وسط السماء.. كان ضوء القمر قوياً وواضحاً بعد زوال أغلب الغيوم التي كانت تحجب نوره، وهو يلقي بلمعة فضية على كل ما يطاله نوره على سطح الأرض.. وبدت تلك الليلة لعيني رنيم مسالمة هادئة بشكل كبير..
تلفتت حولها مدركة أن وصيفتها صفية قد نامت منذ أمد طويل، بينما بقيت فرقة صغيرة من الجنود موزّعين في مواقع حددها مجد في وقت سابق لحراسة المعسكر الصغير.. تسللت رنيم دون أن يلاحظها أحدهم بخطوات خافتة نحو الغابة القريبة.. كان تعلم تمام العلم أن تصرفها خطير في ذلك الوقت، ولن تسلم من تأنيب صفية ومجد لو علما بذلك.. لكنها كانت تريد التجوال بحرية في الموقع دون رقيب بعد أن جافاها النوم لوقت طويل..
نوعاً ما، شعرت أن هذه الرحلة التي تستمر لعشرة أيام هي المتنفس الوحيد الذي قد تحصل عليه قبل أن تضمّها أسوار قصور (الزهراء) في قلبها وتحجب عنها نور الشمس بشكل كليّ.. قد يكون هذا التعبير مبالغاً فيه بشدة، فقصور (الزهراء) تملك أكبر وأجمل حدائق يمكن للمرء أن يرى في حياته، لكن رنيم تشعر أن مثل تلك القصور تغطيها غمامة سوداء تجعل كل ما تطاله كئيباً باهتاً لا روح فيه ولا يزهى بأي لون.. وربما كان هذا راجعاً لنظرتها المتشائمة والتي لا تحمل أي تفاؤل لأيامها القادمة..
كانت الغابة أشد ظلمة مما تخيلت، ونور القمر يتخللها بصعوبة بحيث بدت لها جذوع الأشجار المحيطة بها كأشباح أو ظلال متحركة جعلت قشعريرة قوية تسري في جسدها.. لكنها لم تتراجع وهي مستمتعة نوعاً ما بهذا الشعور.. شعرت بأنها تخوض رحلة خيالية كما قرأت مراراً في بعض الكتب الروائية.. لابد أن بطلة الرواية، لو كانت في موقعها، ستستلّ سيفها وتسير بحذر في هذا الطريق متلفتة حولها خشية أن يباغتها بعض اللصوص أو من هم أسوأ.. لابد أنها ستحاذر في سيرها وستتجنب وطء هذا الفرع اليابس الذي سيصدر صوتاً يوحي بموقعها في هذه الليلة الهادئة.. تماماً كهذا الصوت الذي سمعته من خلفها..
قبل أن تستفيق رنيم من خيالاتها، فوجئت في تلك اللحظة بيد تكمم فمها بقوة وبأداة حادة باردة الملمس تضغط على عنقها وصوت خافت يقول "لا تأتِ بأي حركة إن كنت تريدين النجاة.."
ارتجفت رنيم بشيء من الرعب لتلك المفاجأة.. لم تتوقع أن الخيالات التي دارت في عقلها كان لها جانبٌ من الصحة، ولم تظن أن شخصاً ما يمكن أن يختبئ في هذه الغابة الموحشة.. أهذا الرجل لصٌّ يطمح للاستيلاء على ما ترتديه من حليّ؟.. هل دفعه الفقر لمغافلتها بهذه الطريقة؟.. لاحظت ظهور شخصين آخرين من خلف أشجار قريبة، ثم قال أحدهما بهمس "لنسرع قبل أن يداهمنا بعض الجنود.."
شعرت بالرجل الذي يمسكها يجذبها مبتعداً عن المعسكر غير عابئ بمقاومتها، ثم قال لها بصرامة "اخلعي ما تملكينه من حليّ بسرعة.."
لم تتردد رنيم في تنفيذ طلبه بصمت وهي ترى الخنجر الذي لمس طرفه عنقها.. إذن فهم فقراء دفعهم الجوع للسرقة دون أن يعلموا هويتها حقاً.. وأغلب الظن أنهم لن يسيؤوا لها بعد أن يحصلوا على مبتغاهم..
سمعت أحد الرجال يقول بعصبية "أهذا وقته؟.. لم نتفق على هذا.."
نظرت له رنيم بدهشة بينما قال صاحب الخنجر "نحن لصوص.. لن نقنع أحداً بذلك إن لم نفعل هذا.."
رفعت رنيم حاجبيها بدهشة، وهي تحاول التعرف على ملامح هؤلاء اللصوص المزعومين.. فقال الرجل القريب بحدة "أسرعي.. ألم تسمعي ما........."
فوجئت به رنيم يسقط أرضاً بعنف بعد ضربة قوية أصابت رأسه من الخلف.. تجمد الآخران للحظة مع رؤية ما حدث لرفيقهم، بينما نظرت رنيم لمجد الذي وقف خلفها ضامّاً قبضته وقال بحدة "استسلما ولا داعي للمقاومة.."
لكن الرجلين قررا استغلال وجود مجد وحيداً فهجما عليه وهما يطلقان صيحة حانقة لتدخله قبل أن ينجحوا بالفعل.. لكن مجد دار حول نفسه متفادياً ضربة من أحدهم قبل أن يمسك ذراعه الممتدة بخنجر ويوجه له ضربة قوية ألقته للخلف، ثم وجه ركلة لساق الثاني قبل أن يصل إليه أتبعها بضربة قوية بقبضتيه المضمومتين على مؤخرة رأسه أسقطته فاقد الوعي على الفور..
تنهدت رنيم بشيء من الارتياح لرؤية انتصار مجد على الثلاثة بهذه السهولة رغم أنه امتنع من استخدام سيفه المعلق في حزامه، بينما تقدم مجد من الثاني الذي لم يفقد وعيه قائلاً بصرامة "من أنتم؟.. وما الذي دفعكم لمهاجمة الأميرة؟.."
لاحظت رنيم التوتر في وجه الرجل إنما لم يبدُ عليه أي دهشة لمعرفة هويتها وهو يقول بسرعة وارتباك "نحن لصوص.. كنا في موقع قريب ورأينا الموكب الفخم يعسكر قرب الغابة، ففكرنا أننا قد نتمكن من سرقة ما يمكننا بيعه بثمنٍ غالٍ والاستفادة من المال في إعالة عوائلنا.."
ثم أضاف ملوحاً بيديه "لم نكن نعلم أنها أميرة ولم نعلم هوية هذا الموكب.. ظننا أنه ملك لأحد التجار الأغنياء.."
نظر له مجد مقطباً بغير اقتناع، بينما وقفت رنيم قربه تنظر لما يجري بتردد.. ولما سمعت مجد يسأله "ألست كاذباً يا هذا؟.. لن أرحمك لو كنت كذلك.."
هتف الرجل "لست أكذب.. صدقني.."
سمع مجد رنيم تقول "ولكن......."
التفت إليها مجد باهتمام دون أن يغفل عن ذلك اللص، فقالت رنيم بعد تردد "لقد قال رفيقك أنكم لن تُقنِعوا أحداً بكونكم لصوصاً إن لم تسرقوا الحليّ التي ألبسها.. فماذا عنى بذلك؟"
التفت مجد إلى الرجل الممتقع قائلاً بغضب "إذن كان ذلك كذباً بالفعل.. أخبرني.. من أنتم حقاً ومن أرسلكم إلينا؟"
صاح الرجل ملوحاً بيديه "نحن لصوص بالفعل.. ما الذي علينا فعله لتصدق قولي؟"
تقدم منه مجد خطوة مدمدماً "لن تخدعني بهذا يا رجل.."
ودفع نصل سيفه في كفّ يد الرجل اليمنى بقوة صرخ لها الرجل متألماً.. ولما أبعد مجد سيفه تراجع الرجل خطوة وهو منثنٍ على نفسه وقد قبض على يده الجريحة التي تصببت الدماء منها بيده الأخرى.. وفي الآن ذاته اقترب عدد من الجنود بعد أن جذبتهم الأصوات العالية محيطين بالرجال الثلاثة.. ظلت رنيم تنظر لما يجري مشفقة على الرجل للألم الظاهر على وجهه، وراودها خاطر أن تكون قد جَنَت عليه بتعليقها ذاك.. فتقدمت محاولة التراجع عما قالته كي تجنّب الرجل استجواب مجد له، لكن مجد كان قد اقترب من الرجل من جديد قائلاً بصرامة "من أرسلك؟.. أخبرني لتوفر على نفسك المزيد من الألم.."
صاح الرجل وهو يقبض على يده الجريحة بعد أن خلّف فيها سيف مجد جرحاً بليغاً "إنها الملكة.. الملكة هي من أرسلنا.."
اتسعت عينا رنيم بصدمة بينما نظر له مجد بدهشة قائلاً "الملكة؟.. أتعني زوجة الملك قصيّ؟"
هز الرجل رأسه إيجاباً بقلق قائلاً "أجل.. هي من أرسلنا.."
زمجر مجد قائلاً "لا تكذب.. ما الذي أرادت الملكة تحقيقه بهذا التصرف؟"
قال الرجل وهو يتراجع خطوتين بقلق "لا أدري.. كل ما طلبته منا أن نباغت الفتاة بعيداً عن الجنود ونصيبها بجرح في وجهها.. لا أكثر من ذلك.. هذا كل ما طلبته منا وقد دفعت لنا مالاً لتنفيذه.."
نظر مجد لرنيم مقطباً ملاحظاً نظراتها الزائغة، ثم تساءل بحنق "ما معنى هذا؟"
أخيراً، تساءلت رنيم بصوت مبحوح "أي ملكة تعني بالضبط؟"
أجاب الرجل بسرعة "الملكة الأولى بالطبع.. مولاتي مريام هي من طلب منا ذلك قبل خروج موكبكم من العاصمة.. وطلبت منا تتبع الموكب من مبعدة وانتظار الفرصة الملائمة دون أن نلفت الأنظار إلينا أو إليها.. صدقني.. هذا كل ما هنالك.."


*********************
ظلت رنيم شاحبة وهي تجلس في جانب المعسكر غارقة في أفكارها، بينما تحدث مجد مع رجاله وأرسل عدداً منهم لاستطلاع الموقع حولهم بحثاً عن أي متسللين آخرين.. ثم توجه للفتاة الصامتة واقترب منها متسائلاً "ما الذي تطلبين منا فعله؟.. هل نقتلهم؟"
هزت رنيم رأسها نفياً بشدة، فعلق مجد "قد يكررون المحاولة مرة أخرى في وقت آخر طمعاً في النقود التي وعدتهم بها الملكة.."
ألقت رنيم نظرة على الرجال المقيدين في جانب المكان والبؤس واضح في ملامحهم، ثم خفضت بصرها وهي تهز رأسها نفياً من جديد.. فزفر مجد وهو يتطلع للموقع حولهم، ثم قال "ربما من الخير لنا اصطحابهم معنا مقيدين حتى نصل للميناء.. يمكننا عندها أن نطلقهم قبل رحيلنا على السفينة التي جئنا بها.. بهذا نضمن ألا يعودوا للملكة ويبلغوها بما جرى قبل رحيلنا بالفعل.."
ظلت رنيم على شحوبها وصمتها وهي تفرك يديها باستمرار.. عندها سألها مجد "أتعلمين لمَ فعلت أمك ذلك؟"
همست رنيم بصوت مبحوح "ليست أمي.. بل زوجة أبي.. إنها الزوجة الأولى للملك.."
فقال مجد "هذا ليس سبباً يدعوها لما فعلته!.."
صمتت رنيم وهي تتذكر سخرية أمها من الملكة الأولى لأن هذه الزيجة جاءت من نصيب رنيم عوضاً عن سهى وهي الوحيدة التي لم تتزوج من بنات الملكة الأولى.. عندها قالت رنيم بخفوت "لطالما أعربت أمي عن الحقد الذي ستشعر به الملكة الأولى تجاهي لأن هذه الزيجة لم تكن من نصيب ابنتها الصغرى.. ربما كانت هذه هي وسيلتها لاستبدالي بابنتها قبل وصولنا للزهراء، خاصة أن زواجاً كهذا لن يتكرر لمملكتنا الصغيرة.. فبجرح في وجهي، لن يتردد ولي العهد في رفضي دون أن يثير غضب أبي الملك ويسيء العلاقات بين المملكتين.."
نظر لها مجد بشيء من التعجب للهدوء الذي تتحدث به رغم شحوبها الواضح، ثم تساءل "ألستِ غاضبة لما جرى؟"
تطلعت رنيم لجانب الموقع وهي تكبت دموعها بصعوبة، ثم قالت بصوت مرتجف "لو كنت أعلم بما تنتويه الملكة، لتنازلت عن هذا الزواج منذ البدء.. لست سعيدة بارتباطي بولي العهد، ولن يهمني لو حظِيَتْ أختي سهى بهذا الشرف.. لماذا تلجأ الملكة لهذه الأساليب الرخيصة لتنحيتي من المستقبل الذي خططته لابنتها؟"
صمت مجد وهو بين مشفق على رنيم من الصدمة التي حاقت بها، وبين متعجب لخنوعها الظاهر.. لو كان الأمر يخصّ أميرة أخرى لملأت الدنيا صراخاً غاضباً لما جرى.. لكن ردة الفعل الهادئة هذه قد فاجأته.. فجلس قربها قائلاً "أتسمحين لي بأن أنصحك بشيء؟.."
نظرت له في استجابة صامتة، فقال "سترين الكثير بين جدران القصر، وستواجهين الكثير بالفعل.. لكن لو تصرفتِ بمثل هذا الخنوع وصُدمتِ لكل خيانة من شخص قريب منك، فلن تعيشي في هذا العالم طويلاً.. كل ما يمكنني أن أنصحك به أن تتجاهلي وتحاذري من الجميع.. المكان الذي ستصلين إليه ليس بأجمل من المكان الذي غادرته.. هذا شأن القصور في كل مكان وزمان.."
خفضت رنيم رأسها وهي تقول بصوت متهدج "أعلم ذلك تمام العلم.. لكني لا أطالب بالكثير.. كل ما أريده هو أن أترك وشأني.. أن أعيش حياتي بهدوء وسكينة.."
فقال مجد متأملاً ملامحها "إذن لمَ لا تتحررين من هذه القيود؟.. لمَ لا تفصحين عن رغباتك بوضوح وحزم؟.."
صمتت للحظات وهي تتذكر مواجهاتها البسيطة مع الملك والملكة في السابق، ثم أدارت وجهها جانباً مغمغمة بمرارة "هذا مستحيل.. هذه ليست أنا، ولا يمكنني أن أكون أكثر حزماً وقوة.. لا يمكنني مجابهة الآخرين دون أن أخضع وأنكسر بسهولة.."
علق مجد بحزم "ربما لم يَفُت الأوان لتغيير ذلك.."
هزت رنيم رأسها بشدة واستنكار، فتنهد مجد وقال "لن تستفيدي أمراً من هذه السلبية.. وأنا أعني ما أقوله.."
وغادرها عائداً للرجال المقيدين بحراسة بضع جنود تابعين له.. بينما زفرت رنيم وهي تنظر للأرض العشبية بصمت.. كيف يطلب منها مجد مثل هذا الطلب؟.. إنه لا يعرفها، ولو عرفها حقاً لأدرك أن حالها ميؤوس منه.. لو كان بإمكانها التغيير لما كانت في هذا الموقع وتخوض مثل هذه التجربة التي خلّفت مرارة في حلقها..


*********************
مضى اليوم التالي على الموكب في سيره نحو ميناء آرطا الحيوي الذي كان أقرب المواقع من القارة العظمى حيث تحتل مملكة بني فارس جزءاً كبيراً منها.. كان الميناء هو الأكبر على الجزيرة التي تحتلها مملكة بني غياث، وهذا الميناء هو ثاني أكبر مدينة في المملكة بعد العاصمة.. لذلك كانت الحركة على أشدها في أرجاء الميناء وفي المدينة المحيطة به حيث تبقى ساهرة أغلب الأحيان لتلبية احتياجات السفن القادمة للمملكة والتي لا تكاد تهدأ ليلاً أو نهاراً..
أمضت رنيم أغلب هذه الرحلة بصمت تام وهي سارحة في أفكارها الخاصة.. بدأ حماسها في هذه الرحلة يخفت وأفكارها تدور حول تلك الحادثة التي تكشف لها ما كانت غافلة عنه من خبايا قصر أبيها.. يمكن، لو صحّ القول، أن نَصِفَ رأس رنيم بأنه كان معلقاً بين الغيوم طوال سني عمرها.. لم تكن تدرك ما يدور في القصر من دسائس وما يخفيه من أسرار وخبايا.. لم تكن تحمّل أي ابتسامة تراها على وجه شخص في القصر أكبر من قدرها، ولم تكن تتساءل عن مغزى أي كلمة أو تصرف يصدر من أي شخص..
قد يصفها البعض بأنها براءة، رغم نباهتها في أمور أخرى.. وقد تكون مجرد سذاجة.. لكنه في الحقيقة كان انفصالاً عن الواقع.. كانت رنيم تعيش في عوالم أخرى وحكايات أخرى.. قد تنتبه لأدنى قدر من الخبث والنوايا السيئة في إحدى شخصيات رواية تقرؤها، لكنها لا تقتنع أن هذا يمكن أن يحدث في الواقع ومن أقرب الأشخاص إليها..
فكيف، بعد كل هذا، يمكنها أن تقتنع أن زوجة أبيها يمكنها أن تقوم بعمل خسيس كهذا؟.. كيف يمكنها أن تتصور حقداً يعتمر صدر تلك المرأة التي تحمل ملامح نبيلة ورثتها من عائلتها العريقة؟.. كيف؟؟!!!.. هذا ما يكاد يخرج رنيم من طورها ويصيبها بشيء من الكآبة.. ورغم محاولات صفية الدائمة للتسرية عنها والتخفيف من وقع هذه الصدمة عليها، إلا أن رنيم كانت تستمع لها بنصف وعي وهي تراقب ما يمر به الموكب الملكي في سيره نحو ميناء آرطا..
وعند وصول الموكب إلى الميناء في وقت متأخر من ذلك اليوم، فإن المكان كان ينبض بالحياة وكأن اليوم لا يزال في بدايته، والمدينة تغصّ بسكانها وبالبحارة والمسافرين الذين وصلوا على ظهر إحدى السفن أو يستعدون للرحيل على ظهر سفينة أخرى..
ظلت رنيم تراقب الأحياء والشوارع التي يمر عبرها الموكب لافتاً أنظار الجميع دون استثناء.. ورغم انشغالها بما تراه، فإنها لم تُبدِ حماسة أو تُظهر شغفاً بما تشاهده للمرة الأولى في حياتها.. وهذا أقلق صفية نوعاً ما وهي تقول مشيرة عبر نافذة العربة "أترين هذا يا مولاتي؟.. هذا هو الميناء الذي تدور حوله هذه المدينة.."
ثم أضافت بابتسامة "لا يمكنك تصديق ما يمر عبر هذا الميناء كل يوم من بضائع نفيسة.. يقال إن من يتمكن من السطو على هذا الميناء ولو لمرة واحدة، سيغدو ثرياً ما بقي له من العمر.. لكن طبعاً هناك حراسة قوية وفرق كاملة من الجنود تحرس الميناء من السرقات ومن أي هجوم متوقع من دولة معادية.."
لم تعلق رنيم بكلمة وهي تحدق من النافذة بصمت كعادتها مؤخراً.. عندها قالت صفية بإشفاق "لا تُتعبي نفسك بالتفكير فيما جرى يا مولاتي.. ما فعلته الملكة الأولى ليس غريباً عليها حقاً، لكنك لم تعرفي شخصيتها الحقيقية من قبل لأنك لا تهتمين لأمور القصور وما يجري فيها.. أنت بريئة التفكير ولا يمكنك تخيّل الدسائس التي تجري من حولك في القصر.."
غمغت رنيم "تقصدين أنني بلهاء لأنني ظننت أن الملكة الأولى سعيدة لزواجي كما هي أمي.."
أسرعت صفية تقول "لستِ بلهاء يا مولاتي.. بل ساذجة.. هناك فرق بين الاثنين.."
ابتسمت رنيم ابتسامة هازئة دون أن تعلق، فأضافت صفية "انسي ما جرى يا مولاتي.. لا نعلم متى سترين الملكة الأولى من جديد.. ثم إن مجد قد تمكن من حمايتك بنجاح حتى الآن، ولن يعجز عن فعل ذلك فيما بقي لنا من الرحلة.."
تنهدت رنيم وهي تعود بأفكارها لمجد.. وكلماته التي اختتم بها تلك الليلة المشؤومة لا تزال تتردد في ذهنها طوال الوقت.. (المكان الذي ستصلين إليه ليس بأجمل من المكان الذي غادرته).. أحقاً ستعيش في (الزهراء) حياة مشابهة للحياة التي عاشتها في قصر أبيها؟.. ما فائدة زواجها إذن؟.. أهي مجرد قطعة في رقعة شطرنج يحركها أبوها كيفما يشاء دون إرادة؟.. يبدو أنها فعلاً كذلك.. إنها تدرك ذلك منذ مدة، لكن لا تملك تغيير واقعها بشيء بتاتاً..
لاحظت أن الموكب قد توقف عن سيره، ولما نظرت من النافذة رأت ملامح الميناء واضحة لعينيها.. رغم أنها لم ترَ ميناء من قبل في حياتها، وهي التي لم تغادر العاصمة قبلاً، إلا أنه لم يكن من الصعب عليها إدراك مدى ضخامته.. وتبدّت لعينيها أعداد لا تحصى من السفن مختلفة الأحجام وقد توزعت في جوانبه بينما رسى بعضها في موقع أبعد قليلاً وسط الخليج بانتظار فراغ موقع قريب من رصيف الميناء.. ومع الحركة الشديدة في أرجاء الموقع، فإن الجنود فور وصولهم قد شكلوا طوقاً حول عربتها لمنع المتطفلين من الاقتراب منها حتى صعودها على السفينة القريبة..
هبطت رنيم من العربة متلفتة حولها وقد لاحظت كثرة الأعين الفضولية التي ترمقها من بين المتحلقين حول الموقع.. لكنها لم تعلق وهي تتقدم برفقة مجد ووصيفتها خلفها نحو السفينة القريبة.. غنيّ عن القول أن رنيم انبهرت بضخامة السفينة وحجمها وبهائها وهي تصعد إلى سطحها.. وخلال وقت قصير، كانت العربات الملكية قد حملت إلى قلب السفينة عبر معبر خاص، ومعها أغراض رنيم التي جلبتها معها..
ومع كل لحظة تمضي، كانت رنيم تتساءل وهي تجول في أرجاء السفينة "ألن تغرق السفينة مع حجمها الهائل هذا؟"
لكن مجد كان يجيب على أسئلتها القلقة بابتسامة جانبية وثقة شديدة.. ولما بدأت السفينة رحلتها الطويلة، تأكد لرنيم أن مخاوفها لم يكن لها أساس من الصحة.. كانت السفينة تقطع البحر وأمواجه بكل سلاسة وقوة والهواء المندفع يقوّس الأشرعة للأمام.. قضت رنيم الساعة الأولى تراقب رحلة السفينة مذهولة لهذه القدرة الخفية على الطفو فوق سطح المياه العميقة رغم وزنها الثقيل.. لكن لم يطُلْ بها الوقت قبل أن يداهمها غثيان شديد ودوار عنيف جعلها تتكوّم في جانب السفينة بتعب..
اقتربت منها صفية بقلق شديد وهي تهتف "مولاتي.. ماذا أصابك؟.. أأنت على ما يرام؟"
لوحت لها رنيم بيدها وهي عاجزة عن الإجابة، ولم تلبث أن أفرغت معدتها من فوق حاجز السفينة رغم مقاومتها لذلك.. فقالت صفية وهي تمسح جبهتها التي بدأ العرق ينضح منها وتناولها منديلاً "يحسن بنا أن نتجه للغرفة المخصصة لك.. هناك يمكنك أن تنالي قسطاً من الراحة حتى يعتاد جسدك على حركة السفينة وتمايلها.."
سمعتا صوت مجد الذي اقترب قائلاً "لا.. على الأميرة أن تلجأ لغرفة أخرى.. سأنقل أمتعتها لغرفة ثانية تتوسط السفينة، وستكون أفضل بدون شك.."
تساءلت صفية بدهشة "أليست الغرفة الأولى هي الرئيسية في هذه السفينة؟.. لماذا تريد نقل الأميرة؟"
أجاب مجد "كما قلت لك، ستكون الأخرى أفضل لها وأكثر راحة.."
قالت صفية بشيء من الحدة لم تملكها "ليس من مقام الأميرة البقاء في غرفة صغيرة.. لقد تفحصت أغلب غرف السفينة وتلك التي تقع في مقدمتها هي الأكبر.. هل تهدف للتقليل من شأن الأميرة؟"
قال مجد وهو يعاون رنيم على النهوض "قطعاً لا.. لمَ أنت محتدة هكذا؟"
لكن رنيم قاطعت جدالهما وهي تجبر نفسها على السير بمعاونة مجد.. لم تكن تقوى على البقاء في موقعها والغثيان يزداد حدة مع كل لحظة تمضي.. بدأت الأرض من حولها تميل بشدة وبدت ساقاها لينتان تكادان لا تقويان على حملها.. ولولا اعتمادها على ساعد مجد القوي، لتهاوت بعد الخطوة الأولى أرضاً..
وعند وصولها للغرفة التي حددها لها مجد، أدركت رنيم أنها أصغر وأكثر ضيقاً من الأولى بكثير.. لكنها لم تقوَ على الجدال وهي تستلقي على السرير البسيط بعد أن غادر مجد متمنياً أن تسترد عافيتها بسرعة.. وبينما أغمضت رنيم عينيها بتعب، فإن صفية أخذت تجول في الغرفة الصغيرة وهي تقول بحنق "ما الذي يعنيه هذا؟.. أهو يتهاون بمقام الأميرة؟.. ألن تكون زوجة مولاه؟.. كيف يمكنه أن يتخذ تصرفاً كهذا دون الرجوع إلينا؟.."
لم تعلق رنيم بكلمة، لكن ما قالته قد دار في ذهنها لوقت طويل.. لقد لاحظت سخرية مجد منها في الأيام الماضية، وهي مبطنة بابتسامته الجانبية دون أن يتخلى عن تهذيبه الدائم.. ولقد بدأ هذا منذ رآها مهتمة بالفرس الخاصة به.. فهل بدأ يتهاون بمقامها حقاً؟.. لم تكن تهتم بتلك المقامات والدرجات الاجتماعية، لكنها لا تريد سخريةً من شخص ينتمي لزوجها المستقبلي مما قد يفسد زواجها لأمر أو لآخر.. فما الذي عناه مجد حقاً بهذا التصرف؟..


*********************
بعد أن ساد الظلام أرجاء السفينة، وخلدت وصيفتها للنوم في غرفة جانبية قريبة من غرفتها، نهضت رنيم بعد أن استردت شيئاً من قواها وراودتها رغبة قوية بالخروج من هذه الغرفة الضيقة.. فتحت بابها متطلعة للممر خارج الغرفة والذي سادته ظلمة موحشة، لكنها لم تعبأ بهذا وهي تغادر بصمت وخطوات خافتة متخلية عن حذائها لئلا يصدر صوتاً يجذب إليها الأنظار.. كان الغثيان قد خفت قليلاً إنما لا تزال تشعر بمعدتها متقلبة وكأنها ستخرج من فمها في أي لحظة.. تجاوزت ذلك الممر بأبوابه المغلقة حتى وصلت للسلم الخشبي الذي يقودها لسطح السفينة، فنظرت عبر الفتحة للحظات خشية وجود شخص على السطح قد يعترض على خروجها في ذلك الوقت المتأخر.. سارت رنيم عبر سطح السفينة الخشبي بخفة وهي تتنفس بقوة والهواء المنعش المشبع برائحة البحر يملأ رئتيها.. وللدهشة، بدأ الغثيان يخفت أكثر فأكثر وشعرت أنها ستغدو على ما يرام خلال لحظات.. لذلك شتمت مجد في سرها بعد أن أجبرها على البقاء في تلك الغرفة الخانقة..
سارت مستطلعة جوانب السفينة الواسعة، حتى وصلت لمقدمتها حيث رأسها المزخرف والذي يحمل علامة مملكة بني فارس المميزة بشكل بارز، بالأسد المزمجر والتاج الملكي على رأسه.. فوقفت قرب الحاجز الخشبي لتنظر للأفق المظلم وتطلّ على المسطحات المائية الشاسعة التي لم ترَ مثلها من قبل.. لم تعرف من قبل، مع كل ما تسمعه عن البحر، أن له سطوة كاسحة تُشعر ركاب السفينة بالضآلة والضعف.. كانت تتوق سابقاً لرؤية البحر وخوض غماره، لكنها الآن مع الضعف الذي تشعر به، فإن سطوة البحر بدت مهيمنة عليها وتثير رجفة في أعماقها بشدة..
ظلت رنيم تراقب الأمواج والهواء البارد يعبث بشعرها، ولما طال وقوفها على السطح الذي تمايل مع تمايل الأمواج تحته، عاد لها الشعور بالغثيان بقوة حتى أجبرها على إفراغ معدتها من فوق ذلك الحاجز.. ظلت رنيم في موقعها وهي تكاد تفقد قواها مع التعب والغثيان القوي، لكنها تشبثت بحد السفينة بإصرار وهي تلهث بقوة عندما فوجئت بضحكة تتعالى من موقع ما خلفها.. أدارت رنيم رأسها عابسة لترى، في موقع مرتفع من السفينة وعلى أحد صواريها، مجد ينظر لها بابتسامة جانبية كما أصبح يفعل في الأيام الأخيرة.. وسمعته يقول "لم أتوقع من أميرة نبيلة أن تفرغ معدتها بهذا الحماس أمام الآخرين.."
قالت بعبوس "ما الذي جاء بك لهذا المكان في مثل هذا الوقت؟"
أجاب رافعاً حاجبيه "للمرء الحق بأن يصاب بالأرق.. أليس كذلك؟.. كان حريّاً بك البقاء في غرفتك وإطاعة ما طلبته منك.."
لم تجبه رنيم وهي تبحث في ثوبها عن منديل تمسح به فمها، ولما لم تعثر على واحد قالت بضيق "تباً لهذه الرحلة المشؤومة.."
شعرت بشيء يسقط على رأسها، ولما مدت يدها إليه وجدت منديلاً سقط عليها بخفة بينما تعالى صوت مجد قائلاً "لا تلقي لعناتك على رحلتنا، فأنا سأكون الملام الوحيد لو لم نصل لوجهتنا سالمين.."
لم تعلق رنيم وهي تمسح فمها وتشعر بالغثيان يعود لها من جديد، بينما هبط مجد من موقعه المرتفع وهو يغمغم "يا لك من عنيدة.. عودي لغرفتك وخذي قسطاً من الراحة.. ستصبحين أفضل حالاً في الصباح.."
رآها تضغط على فمها بيد، قبل أن تقول بصوت متعب "الغثيان لا يخفت أبداً مهما تقيأت.. كيف تريدني أن أصدق قولك؟"
قال وهو يقف قريباً "لأنك ترفضين اللجوء لبعض الراحة حتى يعتاد جسدك على حركة السفينة.. ثم إن وقوفك في مقدمتها حيث الحركة أشد وضوحاً كفيل بزيادة تعبك وشعورك بالغثيان.. الموقع وسط السفينة أكثر ثباتاً، لذلك أصررت على أن تبقي في إحدى الغرف القريبة من وسط السفينة.."
نظرت له بشيء من الدهشة.. إذن لم يفعل ذلك احتقاراً لها؟.. هل أخطأت الظن به؟.. شعرت بالسوء نوعاً ما، فأدارت وجهها جانباً وغمغمت "لقد شعرت بشيء من الراحة مع هذا الهواء المنعش، وهو أفضل من تلك الغرفة الخانقة بالتأكيد.."
عندها قال مجد "إذن هناك حل آخر أكثر ملاءمة لحالك هذه.."
نظرت له باستفهام، فأشار للأفق قائلاً "ثبتي بصرك على الأفق لبعض الوقت.. رؤيتك لحركة الأمواج القريبة تزيد من شعورك بالغثيان.. الأفق أكثر ثباتاً، وإطالة النظر إليه ستعيد التوازن لجسدك وسيخفت التعب سريعاً بعده.."
ترددت رنيم للحظات، ثم أخذت بنصيحته وهي تتأمل الأفق المظلم إلا من انعكاس نور القمر الخفيف على الأمواج.. ظلت تراقب الأفق بصمت ومجد يقف في موقع قريب يراقب البحر بدوره.. فتساءلت رنيم عن سر ذلك الاهتمام الذي يبديه مجد تجاهها.. أهذا بسبب مرضها؟.. هل يخشى من تأنيب الملك له لو حدث لها شيء في هذه الرحلة؟.. هل يشعر بالشفقة تجاهها؟.. ليس هذا ما تريده بحال..
بعد قليل، شعرت أنها أفضل حالاً.. ومع كل لحظة تمضي، تشعر أن تعبها وغثيانها يخفت أكثر فأكثر.. لكن ألن يعاودها الغثيان حقاً؟..
ويبدو أن مجد قد سمع تساؤلاتها الصامتة، فقال فجأة محطماً ذلك الهدوء "لو زال عنك الغثيان، فستكونين بخير لما تبقى لنا من الرحلة.. عليك أن تتعلمي التحكم بجسدك بصورة أفضل.."
غمغمت رنيم "وهل هذا ممكن حقاً؟"
أجاب مجد "يمكنك ببعض الإرادة لو كنتِ تملكينها حقاً.."
شعرت رنيم أن قوله يحمل بعض التأنيب لها بسبب ما دار بينهما من حديث في ليلة الهجوم عليها، وما تلاه من تهاون رنيم في التصرف بشكل حازم فيما يخصّ حياتها.. لكن مجد الذي لاحظ انقباض ملامحها بضيق، سارع ليقول "أتعلمين؟.. لم يكن رد فعلي في أول رحلة قمت بها على ظهر سفينة يختلف عما جرى لك.. بل ربما كان أسوأ.."
نظرت له رنيم بدهشة، فقال بابتسامة "رغم أنني كنت رجلاً تجاوز العشرين من عمره بعدة سنوات، لكني قضيت أغلب تلك الرحلة أفرغ معدتي من فوق حاجز السفينة بكل حماس.."
ضحكت رنيم لتعليقه، فيما قال بابتسامة "لذلك، أشعر تماماً بما تشعرين به.."
تساءلت رنيم "وإلى أين كنت ذاهباً على ظهر تلك السفينة؟"
أجابها متطلعاً للأفق "كنت متوجهاً للزهراء في رحلتي الأولى.. فأنا لست من سكان (الزهراء) في الحقيقة، بل نشأت في جزيرة صغيرة من (الأرخبيل الأسود) الذي يتوسط بحر السلام.. وعندما بلغت ذلك العمر، قررت أنني أريد التوجه لعاصمة الملك عبّاد والانضمام لجيوشه.."
استمعت له رنيم بشيء من الدهشة، ثم تساءلت بشغف "ما اسم الجزيرة التي نشأت عليها؟.. وكيف كانت تبدو؟"
أجاب بابتسامة لفضولها "تلك جزيرة صغيرة نسبياً تقع وسط الأرخبيل، واسمها (جزيرة القمة البيضاء).. وبسبب موقعها المتوسط فإنها قد شهدت بعض المعارك بين جيشي المملكتين المعاديتين كان آخرها قبل أن أرحل من الجزيرة بالفعل........"
علقت رنيم "لم أسمع بهذه الجزيرة من قبل رغم كثرة قراءاتي في مكتبة أبي.."
نظر لها مجد باهتمام قائلاً "حقاً؟.. لا أتوقع أن تتحدث الكتب عن جزيرة بغير أهمية كجزيرتنا، كما لم أتوقع بتاتاً أنك تحبين قراءة الكتب.."
علقت رنيم بشيء من التردد "أحبها بالطبع، لكن......"
خشيت للحظة من أن يسيء هذا لصورتها أمام مجد، لكنها وجدته يبتسم قائلاً "رائع.. هذا يثبت لي أنك بالفعل مختلفة عن بقية الأميرات فارغات العقل ممن لا يستهويهن إلا الجواهر والحلي.."
ابتسمت رنيم مع دهشتها لتعليقه، وقالت "في الواقع، تتذمر أمي باستمرار من كوني مختلفة.. وهذا سبب لضيقها مني منذ نشوئي.."
غمغم مجد "لابد أن الملكة تطمح لأن تكون ابنتها كما هن بقية الأميرات.. رغم أن هذا ليس الخيار الأفضل دائماً.."
ثم التفت إليها مغيراً الموضوع "أتعلمين أن أسطورة معينة تتردد عن الجبل الذي يتوسط جزيرتنا؟.. إنها أسطورة قديمة جداً وعلى جانب من الغرابة يجعلها بعيدة عن الصحة بشكل أكيد، لكن كبار السن يؤمنون بها بشكل مطلق.. إنها تقول إن اليوم الذي سيطلق فيه الجبل حممه ويلتهم نصف الجزيرة، سيكون هو اليوم الذي سيخرج فيه شاب من شبابها يملك مقدرة غير عادية على مواجهة هذا الخطر، وسـ........."
استمعت له رنيم بكل اهتمام وشغف.. كانت تحب قراءة الحكايات التي تحكي عن مناطق لم ترها من قبل في هذا العالم الواسع.. والآن، مع استماعها لمجد، فإن شعوراً مشابهاً قد راودها وهي تنصت له بكل اهتمام.. ورغم التعب الذي نال مجد من الرحلة في هذا اليوم، فإنه لم يتنصل من هذا الحديث مع رؤية اللهفة في عينيها وهي تستمع له.. ومع مرور الدقائق بسرعة كبيرة حتى قارب الفجر على الانبلاج، فإن رنيم لم تترك أي جزء من رحلات مجد في أرجاء مملكة بني فارس لم تسأله عنها.. وعندما طالبها أخيراً بالعودة لغرفتها لنيل بعض الراحة، غادرت رنيم عائدة لغرفتها وقد زال عنها شعور الضيق والكآبة اللذين استعمراها منذ تلك الحادثة.. بدأت تدرك أن مجد، رغم صرامته ورغم تصرفاته التي ضايقتها أحياناً، فإنه شخص طيب ولطيف معها.. والأهم من ذلك يملك الكثير من الحكايا التي أمتعتها وأنستها همومها ولو بشكل مؤقت..
وشيئاً ما، شعرت أن ذلك الرجل الذي يقارب في عمره عمر عمها الثاني، قد أصبح أقرب إليها بحكاياته وبلطفه الذي أظهره بشكل باغتها.. وأصبحت ترى أن رحلتها تلك ستغدو أكثر إمتاعاً وثراء مما ظنت بكثير..


*********************




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-12-15, 07:30 AM   #5

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الفصل الثالث : الجانب المظلم للقمر


عندما وصل الموكب الملكي إلى العاصمة (الزهراء)، عاصمة مملكة بني فارس، فإن رنيم لم تملك نفسها من الانبهار بها وهي فارغة فاهها بدهشة تامة.. كانت عاصمة مملكة بني غياث لا توازي (الزهراء) بأي حال من الأحوال رغم كل جهود أبيها الدؤوبة.. ومساحتها الصغيرة التي تحدها الجبال من كل جهة لا تقارن بمساحة (الزهراء) الشاسعة والتي بنيت وسط سهل واسع يمتد على مدّ البصر يقطعه نهر عريض يخترق جانباً من المدينة الكبيرة.. وقد بدت لها المدينة بغاية الجمال والأناقة دون بهرجة رغم أنها لا ترى أي علامات على إعدادات مسبقة للاحتفال بوصولها..
وفوق موقع مرتفع وسط المدينة، ارتفع القصر الملكي بأبراجه العالية وبواباته الذهبية والتماثيل التي تحمل شعار المملكة موزعة في شرفاته وفي مواقع مدروسة من أسواره بحيث تبدو للناظر إلى القصر من بعيد.. وعلى الأبراج رفرفت الأعلام الحمراء الخاصة بالمملكة.. كان منظر القصر بديعاً جعل رنيم تحدق فيه بانبهار تام.. رغم رفضها لفكرة العيش في ظل أسوار القصور، لكن هذا القصر البديع قد جذب انتباهها رغماً عنها.. وشيئاً ما، راودها خاطر أن لا يكون الأمر بالسوء الذي توقعته منذ أسابيع مضت.. لا يمكن أن يكون صاحب هذا القصر الجميل قاسي القلب، كما لا يمكن لحياتها هنا أن تكون سيئة.. عليها أن تتحلى ببعض الأمل، فهو لا يضرّ أحداً..
بعد أن تجاوز الموكب بوابات القصر، وسار لمسافة طويلة بين حدائقه التي ازدانت بعدد لا يحصى من الأشجار ذات الأزهار الزاهية التي حمل النسيم الدافئ شذاها الذي يخلب الألباب.. وبعد بعض الوقت، وجدت رنيم أن العربة قد توقفت أمام سلالم القصر حيث رأت جمعاً من الأشخاص من ذوي المناصب في القصر وبعض الخدم قد استعدوا لاستقبالها، وزيّن الموقع بباقات ورد ضخمة بديعة المنظر..
لاحظت رنيم مجد الذي تقدم من العربة وفتح بابها قائلاً "يسعدني الترحيب بك في العاصمة (الزهراء) وفي قصر مولاي الملك عبّاد.. واعذريني لأي تقصير بدر مني أو من رجالي أثناء تلك الرحلة الطويلة.."
ابتسمت رنيم برقة ملاحظة حديثه بلهجة رسمية، مخالفاً ما كان يفعله في الأيام الأخيرة من رحلتهما تلك.. فأجابته قائلة "شاكرة لك جهودك يا مجد.. أنت لم تدّخر وسعاً في حمايتي طوال الرحلة.."
وتناولت يده ليعينها على الهبوط من العربة بعد أن ظهر عليها التوتر الشديد للأعين التي تحدق بها من لجنة الاستقبال تلك.. ولما استقرت أرضاً، عدّلت رنيم ثيابها بشيء من التوتر وهي تبتسم لمن حولها، قبل أن تستدير إلى مجد متسائلة بصوت خافت "ألن أراك بعد اليوم؟"
ابتسم مجد معلقاً "أنا أعيش في هذا القصر، وأنا كما تعلمين قائد الحرس هنا.. لذلك، سنرى بعضنا بعضاً بكل تأكيد.."
ابتسمت رنيم براحة لهذا الخبر، فيما أحنى مجد رأسه لها باحترام قبل أن يتراجع.. ثم سمعت رنيم صوتاً خلفها يقول "مرحباً بك في (الزهراء) يا مولاتي.. اتبعيني رجاءً.."
استدارت رنيم تابعة المتحدث دون أن تعلم هويته، ملاحظة أن أحداً من أصحاب القصر لم يأتِ لملاقاتها.. لكن ربما كان هذا للأفضل، فلا بد أنها بهيئة بشعة بعد هذه الرحلة وبعد الإرهاق الذي نالها خلالها.. لذلك فهي سترحب ببعض الراحة قبل أن تقابل زوجها المستقبلي، وقبل أن ترى الملك والملكة وتحاول نيل رضاهم عنها بأي شكل من الأشكال..
أول ما لحظته رنيم لدى عبورها بوابة القصر الضخمة، هي الرائحة العطرة التي تشبه رائحة الصندل ممزوجة بعبير بعض الزهور الشذية والذي نبع من نافورة ضخمة تتوسط بهو القصر.. اقتربت رنيم من النافورة التي تبدو على شكل عدة أسود ينبع الماء من حلقها وأحدها يرتدي التاج الملكي، ولما بللت يدها بالماء تمكنت من شمّ الرائحة بوضوح من أصابعها.. لكن الرجل الذي اصطحبها بدا نافذ الصبر مما جعل رنيم تتجاهل ما تراه وهي تتقدم خلفه قاطعة البهو الواسع الذي ملئ لوحات فخمة وزخارف بهيجة المنظر.. ومن البهو إلى رواق واسع بدا يتسع لعربة كبيرة الحجم للمرور عبره بسهولة دون أن ترتطم بالجدران ذات الأعمدة المنقوشة ومجموعة التحف الثمينة التي صفّت على طوله بشكل متناسق..
تبعت رنيم الرجل عبر عدة أروقة وقاعات واسعة حتى قادها إلى جناح يتوسط القصر بدا مخصصاً لها وعلى بابه وقفت خادمة من خدم القصر منحنية لها باحترام.. وبينما جالت رنيم في أرجاء الجناح، فإن الرجل قال لها بلهجة رسمية "مولاتي الملكة ستقابلك عند انتصاف هذا النهار.. وسيأتي شخص لاصطحابك في الموعد المحدد.. أتمنى لك الراحة في جناحك يا مولاتي.."
شكرته رنيم وهي تدير بصرها في الجناح الواسع.. ثم توجهت رأساً للسرير الفخم ورمت نفسها عليه قائلة بتعب "أخيراً.. سرير مريح يمكنني أن أستلقي عليه.."
قالت صفية التي تبعتها وهي تتفحص الجناح بدورها "سأتركك لتنالي قسطاً من الراحة يا مولاتي.. وسآتي قبل موعد مقابلتك مع الملكة لتستعدي لها بشكل ملائم.."
لم تعلق رنيم وهي تغمض عينيها بصمت.. لقد أنهكتها الرحلة الطويلة التي تخوضها للمرة الأولى في حياتها.. لا يمكن لمن عاش حياته حبيس منزل أو قصر أن يرتحل مثل هذه المسافة دون أن يصاب بإنهاك شديد وتعب بالغ.. كل ما تريده الآن هو بعض الراحة، قبل أن تبدأ حياتها الجديدة في هذه المدينة..
وبعد بضع ساعات، سارت رنيم خلف أحد الخدم للقاء الملكة في إحدى القاعات الواسعة للقصر، وهي القاعة الزرقاء التي تزهو بجدران ذات لون أزرق بزرقة البحر وكراسٍ سماوية وأرضية بيضاء تبرز زرقة المكان بشكل أكبر.. وفي جانب تلك القاعة، جلست الملكة على كرسي فخم وثير بانتظار ضيفتها..
من اللحظة الأولى، أدركت رنيم أن المقابلة لن تكون ممتعة بحال.. فمع النظرات الباردة التي رمقتها بها الملكة ومع شفتيها المزمومتين وهي تتفحص رنيم بعينٍ غير راضية، أدركت رنيم أن مجهوداً كبيراً يستلزمها لنيل رضى الملكة.. كانت الملكة سليمة تتجاوز الخامسة والأربعين من عمرها، بوجه طويل نحيف وأنف طويل يوحي بالقسوة، وعينين بنيتين تخلوان من أي مشاعر.. شعرها بني أشقر خالطه بياض لا يكاد يبدو لتقاربه من لون شعرها السابق، وهي نحيفة وتبدو بطول يفوق رنيم رغم جلوسها..
انحنت رنيم للملكة بتوتر وهي تقول "سعيدة للقائك يا مولاتي، وسعيدة لتشريفكم لي بهذا الزواج.."
بدا أن الملكة كانت ستعلق على هذا القول، لكنها عزفت عن ذلك وهي تشير لرنيم لتجلس على كرسي قريب.. فجلست رنيم بتوتر بالغ وهي تعدل ثوبها وتدير الخاتم في إصبعها بشكل متكرر.. وبينما ظلت الملكة تتفحصها بشكل صريح ووقت طويل، فإن رنيم ظلت على صمتها بانتظار أن يسمح لها بالحديث.. تخشى إن حاولت التحدث دون إذن ألا تنال رضى الملكة وأن تظهر بمظهر يسيء إليها.. وبعد بعض الوقت، قالت الملكة "اسمك رنيم.. أليس كذلك؟.. يبدو الاسم جميلاً بشدة، ولا يناسبك شيئاً ما.."
نظرت لها رنيم بصمت ودهشة.. أهي تسخر من هيئتها؟.. ثم غمغمت وهي تخفض رأسها "شاكرة لك يا مولاتي.."
كانت أصول اللياقة تقتضي منها أن تتقبل كل ما يقال لها مهما كان جارحاً، بل وتشكر قائله بحرارة وكأنه أسدى لها معروفاً، ما دام القائل يفوقها منصباً ومكانة.. ألم يكن الأحرى بالمتحدث أن يمتلك بعض التهذيب على الأقل؟..
قالت الملكة بابتسامة جانبية "هل أذهلتك (الزهراء)؟.. سمعت أن (بارقة) عاصمة مملكتكم صغيرة جداً وذات شوارع ضيقة.. لا أظن أن الموقع يسمح بإنشاء قصر ضخم ومهيب يناسب ملك مملكة.. أليس كذلك؟"
غمغمت رنيم بحلق جاف "هو كذلك يا مولاتي.."
تساءلت الملكة "هل يملك ولي العهد قصراً خاصاً به؟.. لابد أنه كذلك بالنظر لمكانته في مملكة أبيه.."
قالت رنيم "لا.. لا يملك غياث قصراً خاصاً به.."
رفعت الملكة حاجباً معلقة "سمعت أنه متزوج.. كيف لا يملك ولي العهد قصراً خاصاً به بعد زواجه؟.. الأمير زياد له قصر خاص في جانب (الزهراء)، وسينتقل للسكنى فيه بعد زواجه.. ظننت هذا ما هو متبع في بقية الممالك.."
غمغمت رنيم بخفوت "لست أدري عن ذلك شيئاً يا مولاتي.."
أضافت الملكة وهي تدير وجهها جانباً بابتسامة متسعة "لا أدري حقاً لمَ تسمى تلك مملكة.. المفترض أن تكون مجرد ولاية تابعة للممالك الأكبر حجماً والأكثر تأثيراً في هذا العالم.."
كانت الابتسامة قد غابت عن شفتي رنيم وهي تستمع لتلك الكلمات المهينة وتغمغم بلا انقطاع "هو كذلك يا مولاتي.."
بدت لها الملكة وكأنها تتعمد ترديد تلك الإهانات مقللة من شأن رنيم بكل وضوح.. ما الذي يعنيه هذا؟.. في النهاية، عجزت رنيم عن التعليق وظلت صامتة خافضة وجهها الذي بدا شاحباً بشدة.. عندها قالت الملكة بابتسامة جانبية "أتمنى ألا تكون تعليقاتي قد ضايقتك يا فتاة.. إنها المرة الأولى التي نستقبل فيها أحداً من مملكة بني غياث.. لذلك غلبني بعض الفضول فيما يخص مملكتكم القصيّة.. لا تأخذي كلماتي على محمل الجد يا عزيزتي.."
فضول؟.. بدت لها الكلمات تجريحاً متعمداً واستهانة بها أكثر من كونه مجرد فضول.. لكن رنيم لم تعلق وهي تقول بابتسامة "لا تقلقي يا مولاتي.. لا يمكن أن أسيء الظن بأي شيء تقولينه.. فنحن سنصبح عائلة واحدة قريباً.."
بدا أن جملة رنيم قد أساءت للملكة التي غابت الابتسامة عن شفتيها وهي ترمق رنيم قائلة ببرود "حقاً.. سنصبح كذلك.. لكن، من يدري؟"
ثم لوحت بيدها منهية المقابلة بقولها "لا بأس.. استعدي للقاء الملك والأمير زياد غداً.."
نهضت رنيم وانحنت للملكة باحترام، دون أن تلتفت الملكة إليها.. وقبل أن تستدير مغادرة سمعت الملكة تقول بابتسامة "سنرى إن كنتِ ستنالين إعجاب الأمير زياد غداً.."
لم تعلق رنيم وهي تستدير مغادرة بصمت.. ترى، ما الذي يعنيه هذا؟.. لمَ تعاملها الملكة بهذه العدائية والبرود المتعمد؟.. هل أخطأت رنيم الظن أن الملكة كارهة لارتباطها بابنها الأمير زياد؟.. هذا شيء لم تتوقعه رنيم بتاتاً..


*********************
في اليوم التالي، استعدت رنيم للقاء الملك والأمير زياد في وقت مبكر.. ورغم أنها لم تحضَ بنوم طويل بعد أن أصابها أرق شديد وهي تعيد كلمات الملكة مراراً وتكراراً بقلق، إلا أن التوتر لم يسمح لها بالخمول والراحة لوقت طويل.. وعندما جاء أحد الخدم لاصطحابها لمقابلة الملك، فإنها زفرت بشدة لإفراغ توترها وهي تستدير لتتبعه، بينما همست لها صفية قبل أن تغادر "كوني واثقة من نفسك يا مولاتي.. أنت أجمل مما قد يتمنى الأمير زياد.."
لم تعلق رنيم على قولها الذي بدا خالياً من الصحة، بل سارت خلف الخادم متخذة طريقاً لم تسلكه من قبل في القصر وهي تلتزم الصمت التام.. كان منظر الحدائق التي يطل عليها القصر بهيجاً، لكن رنيم التي ألقت عليها نظرة عابرة لم تكن ببالٍ يسمح لها بالتفكير في جمالها.. كل ما تطمح إليه هو أن تمضي الساعة القادمة على خير، ففي هذه الساعة سيتحدد مصيرها في الأيام والشهور وربما السنوات القادمة..
وصلت رنيم إلى رواق يؤدي لبوابة ذهبية ضخمة وقد نحت نصف وجه الأسد، وهو شعار المملكة بتاجه الملكي، على كل جانب من البوابة بحيث يكتمل الوجه عند إغلاقها.. كان الشعار يدل بوضوح أن البوابة تؤدي لقاعة العرش الخاصة بالملك عبّاد، وقرب البوابة، استطاعت رنيم أن تلمح مجد الذي وقف يتحدث مع بعض الحراس..
ابتسمت رنيم بتوتر لدى رؤيته، بينما اقترب منها مجد قائلاً "سعيد برؤيتك مجدداً يا مولاتي.. هل أتيتِ لمقابلة الملك والأمير زياد؟"
هزت رنيم رأسها إيجاباً، فقال مجد "إذن لابد أنك قد قابلت الملكة سابقاً.. فكيف جرى ذلك اللقاء؟.."
انثنى فم رنيم بابتسامة مرتبكة وهي تخفض بصرها بصمت، وقبل أن تفتح فمها بكلمة، سمعت مجد يقول زافراً "لا بأس.. لا حاجة بك لقول شيء.. يمكنني توقع ما جرى مع شخصية كالملكة سليمة.. لابد أنها أحالت تلك الدقائق لجحيم بالنسبة لك.."
لم تعلق رنيم وهي تتذكر استقبال الملكة البارد لها وتعليقاتها التي لم تخلُ من استهزاء بها وبمملكة بني غياث عموماً.. وهذا جعلها تتساءل حقاً عن سبب قدومها لهذا القصر لو كان أصحابه غير مرحبين بها.. ولدى هذا الخاطر فإنها شعرت بتوترها يزداد أضعافاً مضاعفة ويربكها.. فقالت لمجد القريب منها بصوت حمل توترها وقلقها "ألن تتمنى لي حظاً موفقاً؟.. أنا على أبواب نقطة فاصلة في حياتي، وبحاجة لحظ كبير كي أوفّق فيها.."
لم تسمع من مجد استجابة إلا زفرة بيّنت لها ضيقاً شديداً يشعر به.. فالتفتت إليه بابتسامة متوترة وعلقت "لا تقل لي إنك قد وقعت في غرامي وتشعر بضيق لزواجي من الأمير؟.."
لكن ملامح مجد الصامتة لم تبدُ مرحبة بهذا التعليق الساخر، فعادت ببصرها للبوابة التي بدأت تفتح مضيفة "لو كنت واقعاً في غرامي حقاً، فما رأيك بأن تختطفني من هذا القصر وتذهب بي لموقع بعيد لا يصل إليه أحد؟.. أشعر برغبة شديدة في الهروب من هذا المكان.."
رغم أن رنيم كانت تمزح بهذا القول في محاولة منها لإزالة التوتر الذي تشعر به، لكنها شعرت لوهلة أنها سترحب بهذا الحل بشدة لو حاول مجد تنفيذه.. لكنها شعرت بمجد يدفعها بخفة لتسير نحو القاعة معلقاً "أنت بالفعل لا تستحقين هذه الزيجة.."
لم تدرِ رنيم إن كان ذلك التعليق موجهاً نحوها أم نحو الأمير زياد.. من الذي لا يستحق الآخر؟.. سيتضح ذلك بعد لحظات عندما تقابله، وتدرك نوع الحياة التي ستحياها بعد الآن انطلاقاً من تلك اللحظة..
سارت رنيم في قاعة العرش نحو نهايتها وهي تخفض بصرها.. ولما وقفت في الموقع المحدد لها كما تقتضي الأعراف انحنت بكل لباقة تملكها قائلة "يسعدني ويشرفني المثول أمامك يا مولاي الملك.. قدومي لهذا القصر هو شرف لي ولمملكة بني غياث.. ومساندتك لأبي الملك جميلٌ لن ينساه لك مدى الحياة.."
أتاها صوت الملك الهادئ وهو يقول "ارفعي رأسك يا فتاة.. اسمك رنيم، أليس كذلك؟"
أجابت رنيم وهي ترفع بصرها للملك "أجل.. هو كذلك يا مولاي.."
كان الملك لا يكبر أباها بكثير، إنما أكثر سمنة وبلحية أطول خالطها البياض حتى لم يبقَ فيها إلا لمحة من سواد قديم.. عيناه الضيقتان ترمقانها بشيء من عدم الاهتمام، وكأنه يستقبلها لأنه أمر واجب منه لا غير، ولو خيّر لفضّل القيام بأعمال أخرى أكثر أهمية من مقابلة خطيبة ولي عهده.. ثم سمعته يقول بعد لحظة صمت "أتمنى أن تكوني عند حسن ظني بك، وأن تتأقلمي في هذا القصر بأسرع ما يمكن.. سيتم زفافك بعد قدوم الملك قصيّ وعائلته، وسيكون الزفاف مشرّفاً وفخماً كأفضل ما يكون.. لذلك، وحتى ذلك الوقت، أتمنى ألا أواجه أي صدام بينك وبين الملكة، وهو أمر حتمي مع رفضها السابق لزواج زياد منك بسبب صِغَر مملكة أبيك.."
دهشت رنيم لتصريح الملك بذلك رغم أنها أدركته في اليوم السابق من الملكة نفسها، لكنها انحنت قائلة "لا تخشَ شيئاً يا مولاي.. أنا رهن إشارتكم وسأكون كما تحبّون وكما تحب الملكة بالتأكيد.."
وبعد حوار بسيط، انتبهت رنيم للصوت الذي أعن عن قدوم الأمير زياد ولي عهد المملكة.. فتوترت بشدة وهي تشد جسدها لتمنحه طولاً واستقامة أجمل وتعدل زينة شعرها بأصابع مرتجفة.. إن هي إلا لحظات ويتحدد مصيرها ومستقبلها.. صحيح أنها جاءت بدعوة شخصية من الملك وولي عهده، لكن لو لم ترُق للأمير فلا تظن أن يتم هذا الزواج حتى لو كانت توابع هذا الرفض كبيرة في العلاقة بين المملكتين.. فالأمير من مملكة أقوى ولا يخشى عواقب أفعاله فلابد أن أباه الملك سيسانده رغم كل شيء..
أمسكت رنيم جانب ثوبها الزاهي بقبضتها واعتصرته بتوتر.. تودّ لو تمكنت من رؤية وجهها في المرآة قبل لقاء ولي العهد.. بودها لو عرفت ما الذي سينال رضاه وما الذي لن يروق له.. لمَ يجب أن يكون الأمر عسيراً هكذا على النساء؟.. سمعت عدة خطوات تقترب من موقعها، فخفضت وجهها وبصرها، ولما لمحت طرف الحذاء اللامع الذي وقف أمامها سمعت صوتاً يقول "أهذه هي العروس المنشودة؟.."
انحنت رنيم بخفة وهي تقول بصوت هامس "لي الشرف بمثولي أمامك وباختيارك لي يا مولاي.. والدي الملك يرسل لك عميق شكره.........."
قاطعها الشاب قائلاً بضجر "أعرف كل ذلك.. كفّي عن اللغو وارفعي رأسك.."
رغم صدمتها، إلا أنها لم تظهر ذلك في ملامحها وهي تعتدل بعد انحناءتها ونظرت للأمير الذي وقف أمامها بصمت.. ورغم توترها، لم تمنع نفسها من تفحص الأمير الذي نظر لها متفحصاً بدوره.. ورغم الملابس الثمينة والأنيقة التي يرتديها، فإن جلّ ما يملكه ولي العهد هو منصبه وشبابه، وهو كما علمت لم يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره.. فوجهه لا يلفت النظر وملامحه عادية، فلا يملك وسامة قد تبهرها أو حتى جاذبية قد تستميلها.. لكنه لم يكن بشع الهيئة على الأقل.. بوجه نحيف وطويل، وشعر بني قصير، وعينين ضيقتين تنظران لها بنظرات بها شيء من خيبة الأمل، ولحية خفيفة مشذبة بعناية.. وهو يقاربها في الطول مما جعل رنيم تدرك أن عليها الكف عن ارتداء أحذيتها ذات الكعب العالي لئلا يبدو الأمير أقصر من اللازم.. هذا لو كانت قد راقت له لدرجة إتمام الزواج، ونوعاً ما أدركت أن هذا لم يحدث من نظراته المستاءة وهو يلتفت إلى أبيه معلقاً "لقد رفضت أميرات أجمل منها في السابق يا أبي.. فلمَ هذه بالذات؟.."
احتقن وجه رنيم شيئاً ما وهي تقف في موقعها بصمت مندهشة من تعليق الأمير الخالي من التهذيب، بينما قال الملك "لقد اتفقنا على هذا الأمر سابقاً، وأنت أعلنت عن رضاك بهذه الزيجة بعد اجتماعك بالوزير حارث"
قال الأمير بحنق "لكن ذلك الرجل الخَرِف قد بالغ في مدح جمالها حتى ظننت أنني سأرى حورية من الجنة.."
تزايد احمرار وجه رنيم وهي تشعر بشعور كريه لم يسبق لها الإحساس به، ولم تتمكن من إطلاق اسم على تلك المشاعر بينما قال الملك بصرامة "زياد... ألا تملك وسيلة أخرى للتعبير عن سرورك برؤية زوجتك المستقبلية؟.."
زفر زياد للحظة، ثم التفت إلى رنيم بابتسامة جانبية وقال "أرحب بك طبعاً في مدينتنا الرائعة.. بغضّ النظر عن شعوري لرؤية (زوجتي المستقبلية)، فلابد أنك بقمة السعادة لرؤية هذه المدينة العظيمة مقارنة بقريتكم الصغيرة التي تطلقون عليها اسم (عاصمة).."
لم تجد رنيم ما تقوله على هذا الاستهزاء، إلا أنها تجاوزت هذا بعزيمة قوية وهي تنحني قائلة بخفوت "إن العاصمة أجمل مما تخيلت بكثير.. وأنا بقمة السعادة لرؤيتها ولنيل شرف مقابلتكم يا مولاي.."
بغض النظر عن صحة الجزء الأول فقط من جملتها، وبغض النظر عن خيبتها الشديدة بتصرفات الأمير زياد التي تبدو لها خالية من أي تهذيب، فإن على رنيم أن تتجاوز هذا وتبتلع غصتها بصمت.. فهي لا تنسى وصايا أبيها التي لاحقتها ليل نهار في كل مرة رآها فيها منذ وصل موكب الوزير لمدينتهم لأول مرة، ولا وعيد أمها لو فكرت بالعودة لقصر أبيها دون إتمام ذلك الزواج..
سمعت الملك يقول لها "عودي لجناحك يا سمو الأميرة.. سنقيم حفل استقبال لك خلال الأيام القادمة، عليك أن تكوني مستعدة لتبهري الحضور.."
سمعت الأمير يطلق ضحكة هازئة وهو يغمغم "(تبهر) الحضور..؟!!"
لم تعلق من جديد وهي تخفض رأسها قائلة بهدوء "كما يأمر مولاي.."
واستدارت مغادرة بينما وصل لسمعها صوت الأمير بوضوح قائلاً "الجارية التي اشتريتها الشهر الماضي تفوق هذه (الأميرة) جمالاً بعشرات المرات.. لا أدري لمَ تفرض عليّ الزواج بأميرة!.."
قال الملك بحنق "هل تريد أن يتولى وراثة عرشي من بعدك ابن جارية؟.. إن للحمق حدوداً.. كما أن لمملكة بني غياث موقع استراتيجي سيفيدنا في تعزيز أمن مملكتنا قبل أن تشتعل الحروب بيننا وبين مملكة كشميت، وهو أمر لا أستبعده كثيراً.."
عضّت رنيم شفتها السفلى بمزيج الحنق والمرارة دون أن تشعر بأي راحة لجواب الملك.. حافظت على هدوء خطواتها خارجة من القاعة وهي تحاول لملمة مشاعرها المبعثرة.. الآن عثرت على اسم مناسب لما شعرت به وهي تقف أمام ولي العهد.. الدونيّة.. هذا الشعور الكريه الذي سحقها وأشعرها أنها لا تفوق أي خادمة في القصر مكانة..
بعد أن أغلقت أبواب القاعة خلفها، انتبهت رنيم لوجود مجد قرب إحدى النوافذ التي تتوزع على طول ذلك الرواق.. فاقترب منها عند خروجها متسائلاً "كيف جرى الأمر؟"
تعلق بصرها به قائلة بمرارة "أحقاً لا تفكر باختطافي؟.. قد أرحب بذلك بشدة الآن.."
جذبها بعيداً عن مسامع الحراس القريبين حتى وقفا قرب النافذة ورنيم تشد على يديها بضيق وكآبة.. فقال مجد "هل كان الأمر سيئاً لهذا الحد؟"
غمغمت بصوت يحمل غصة واضحة في حلقها "بل أسوأ مما ظننت.. ظللت أوهم نفسي طوال الشهر الماضي أن الأمير قد يحوز على إعجابي، أو أنه قد يكون شخصاً طيباً يمكنني التفاهم معه.. لكن آمالي تبددت لحظة رؤيتي له.. ولا أعلم أي مستقبل قد أرجو لو أصبحت زوجته.."
غمغم مجد "كنت أثق أن الأمير زياد لا يستحقك.. إنه يستحق فتاة فارغة العقل مثله.. لكنه أمر لا يمكنني التدخل فيه.."
خفضت رنيم بصرها بمرارة، ومجد يتأملها بصمت، ثم علق قائلاً "لا تحزني.. قد يأتي الرفض من الأمير زياد وبهذا تتنصّلين من هذا الزواج دون عواقب.."
قالت رنيم بصوت متهدج "بل إن هذا قد يكون له أسوأ الأثر.. لقد هددني أبي بأنه لن يستقبلني مجدداً في قصره لو تسببت في إفساد هذا الزواج.."
بدا الإشفاق في عيني مجد وهو ينظر لملامحها المضطربة، لكنه قبل أن يعلق سمع صوت الأمير زياد يقول بشيء من الحدة "ما الأمر؟.. ما الذي تريده (سمو الأميرة) منك يا مجد؟"
لم يفت رنيم رنة السخرية في صوت الأمير زياد، لكنها لم تعلق أو ترفع وجهها وهي تنحني له، بينما أجاب مجد "لا شيء.. إنها تتساءل عن سبب اختفاء بعض أمتعتها التي أحضرتها معها.."
قال الأمير بصلافة "دعك منها.. وأعدّ بعض الرجال لمرافقتي.. سأخرج بعد قليل.."
وغادر دون أن يبادل رنيم كلمة واحدة، بينما ربت مجد على كتفها هامساً "تحلّي ببعض الصبر.."
ثم غادر لينفذ أوامر الأمير بينما همست رنيم لنفسها "الأمل هو ما أحتاج إليه في هذه الأيام.."
وغادرت بخطوات سريعة وهي ترفع أطراف ثوبها لئلا تتعثر به.. منعت الكآبة من أن تعتمر صدرها بصعوبة وهي تتجه لجناحها عندما رأت آخر شخص تتمنى رؤيته.. وكانت تلك الملكة الأم التي قابلتها بامتعاض قائلة "ما الأمر يا فتاتي؟.. تبدين على وشك البكاء.."
ابتسمت رنيم ابتسامة حاولت إتقانها قدر ما تستطيع وهي تقول "هي دموع سعادة يا مولاتي.. لم أتخيل في أحلامي أنني سأقابل الأمير زياد ولا أن يوافق على الزواج بي.. لذلك سعادتي اليوم بعد لقائه أكبر من أن تصفها الكلمات.."
مطّت الملكة شفتيها بضيق واضح، ثم قالت ببرود "طبعاً لن تحلمي بهذا، فهذا أكبر من مستواك ويفوق ما تستحقينه بكثير.."
لم تخفت ابتسامة رنيم وهي تنظر للملكة بصمت.. فقالت الملكة بابتسامة جانبية "حظاً موفقاً يا عزيزتي.. فأنتِ تحتاجينه بشدة.."
وابتعدت مع حاشيتها من الأميرات وبعض الوصيفات، واللواتي صدرت منهن بعض الضحكات في استهزاء واضح، بينما اضطرت رنيم للبقاء منحنية بانتظار مرور الملكة وابتعادها كما تقتضي منها اللياقة.. ولما تمكنت من الابتعاد أخيراً، سارت بخطوات سريعة عائدة لجناحها دون أن تتمكن من تمالك دموعها هذه المرة.. فرمت نفسها على السرير الوثير وهي تقبض على الوسادة بشدة حتى آلمتها أصابعها.. إنها لا تروق للأمير ولا للملكة.. والملك لا يعبأ لأمرها إلا بقدر ما يفيد مصلحته.. فأي حياة ترجوها في هذا القصر؟.. أي تعاسة ستشهد طوال الأيام الباقية من عمرها؟.. ما الذي جاء بها لهذا المكان حقاً؟..

***************************

بعد لقائها بالأمير زياد، فإن رنيم قضت عدة أيام في قصر الملك دون أن تراه مجدداً مما ساعدها على استعادة هدوئها والتفكير ملياً في مستقبلها في هذا القصر.. رغم الرفض الذي واجهته من الملكة ومن الأمير زياد، فإن الملك على الأقل بيّن لها أنه عازم على إكمال هذا الزواج.. هذا يهدؤها على الأقل ويطمئنها أنها لن تعود لقصر أبيها خائبة، ولن تواجه غضبه العارم لذلك..
كانت رنيم تتحاشى لقاء الملكة بأي شكل كان لئلا تواجه تعليقاً قاسياً منها، وفي الوقت ذاته كانت تجد عسراً في لقاء مجد وتبادل الحديث معه لانشغاله أغلب الأوقات وخروجه من القصر لبعض الأعمال في أحياء العاصمة.. لذلك ظلت رنيم وحيدة في القصر الضخم لا تكاد تجد من تحادثه سوى صفية وصيفتها الأمينة.. وبعد يومين، في وقت مبكر من ذلك الصباح، وجدت رنيم أحد الخدم يطرق باب جناحها ويبلغها بحضور الأميرة نوران، وهو اسم جهلته رنيم تماماً ودهشت لأن شخصاً يهتم بلقائها من العائلة المالكة بعد كل هذه الأيام..
وبعد وقت قصير، فوجئت رنيم برؤية فتاة لا تكبرها إلا بسنة أو اثنتين تدخل جناحها بصخب.. أكثر ما يلفت النظر في الفتاة هو شعرها الأشقر الناعم الذي ينسدل بطول ظهرها، ووجهها الصغير الرقيق بعينيها الزرقاوين الجميلتين وأنفها المستقيم وشفتيها الحمراوين المكتنزتين.. تملك جسداً مشابهاً لرنيم في الحجم، لكن بانحناءات أكثر أنوثة ويمنحها جمالاً يدير الرؤوس، وثيابها الأنيقة تزيدها جمالاً وهي تهرع نحو رنيم مادة ذراعيها هاتفة "يا إلهي.. وأخيراً تمكنت من رؤيتك.."
وقفت رنيم في موقعها متجمدة والفتاة تحتضنها بقوة وعاطفة واضحة، قبل أن تبتعد خطوة وهي تقول بابتسامة ملائكية "سعيدة جداً لتعرفي عليك يا رنيم.. أنا نوران.. ابنة الملك الصغرى.."
تمتمت رنيم بكلمات لا معنى لها بعد أن فاجأتها تصرفات الأميرة العاطفية، بينما نوران تضيف بلهفة "لم أتوقع أن تكون خطيبة أخي فتاة بهذه الرقة.. الأميرة التي جاءت للقصر قبلك كانت متعجرفة لم أحبها أبداً منذ رأيتها.. أنا سعيدة لأنني أتيت للزهراء فور وصول الدعوة من أبي لزفاف زياد القريب.."
تمالكت رنيم نفسها وهي تبتسم ابتسامة واسعة وتقول "سعيدة أنا بلقائك يا مولاتي.."
جذبتها نوران من يدها قائلة "لا تخاطبيني بمولاتي.. يكفيني أن تناديني باسمي فأنا أكره التعامل بهذه الألقاب.. لنذهب.. لقد أعددت موقعاً ملائماً لجلستنا هذه.."
تبعتها رنيم دون اعتراض حتى وصلتا لإحدى شرفات القصر الواسعة والتي تطل على الحديقة الزاهية الخاصة بالقصر.. وهناك، جلستا على كرسيين معدنيين بوسائد حريرية ذهبية، وأمامهما طاولة مزخرفة ازدانت بباقة ورد جميلة وغطاء موشّى وامتلأت بأطباق الحلوى والفطائر الشهية.. فقالت نوران فور جلوسها باهتمام "إذن.. كيف رأيت (الزهراء)؟.. هل أعجبتك؟"
ابتسمت رنيم معلقة "إنها مذهلة.."
فقالت نوران مبتسمة بدورها "وكيف هو زياد؟.. أتمنى ألا يكون قد خيّب آمالك.."
لم يكن قول نوران يجانب الحقيقة، لكن رنيم قالت بلباقة "إنني سعيدة جداً لانضمامي لقصر الملك عبّاد، ويشرفني الزواج من الأمير زياد.."
قالت نوران معترضة "هيا.. لا تحدثيني بهذا الأسلوب المهذب كما يفعل مجد عندما يتهرب من إجابتي.. أريد رأيك الحقيقي.."
قبل أن تعلق رنيم بكلمة على قولها، سمعتا صوت مجد يقترب قائلاً "هل تتحدثان عني من وراء ظهري؟"
استدارت نوران هاتفة بلهفة واضحة "هل جئت أخيراً يا مجد؟.. انتظرتك لوقت طويل حتى يئست من قدومك.."
نهضت نوران وركضت نحو مجد فرمت نفسها عليه وهي تعانقه بقوة كما فعلت مع رنيم وتقول بسعادة "اشتقت لك كثيراً.. كيف تتركني أنتظر بهذه الصورة؟"
استدارت رنيم بدهشة لما تراه وللألفة الواضحة بينهما ومجد يعلق وهو يبعد نوران خطوة "لأنني أدرك أنك بغير عمل طوال النهار.. لذلك لا يضيرك انتظاري لساعة أو اثنتان حتى أنجز ما عليّ من أعمال ثم أتفرغ لحديثك الفارغ.."
ضحكت نوران دون أن يبدو عليها استياء لما قاله، ونظرت لرنيم قائلة "لا تستنكري أسلوبه في الحديث يا رنيم، فهو طيب القلب رغم لسانه السليط.."
ابتسم مجد شيئاً ما و رنيم تعلق بابتسامة بدورها "أصبحت أعرفه بشكل يكفي لكيلا أنخدع بكلماته.."
جذبت نوران مجد نحو مجلسهما وهي تقول لرنيم بابتسامة متسعة "أنا أعرف مجد منذ طفولتي، فقد كان يرافقني بشكل دائم بطلب من أبي وكنت متعلقة به جداً.."
وأضافت بضحكة صغيرة "لقد توسلت لأبي الملك أياماً طويلة أن يسمح لي بالزواج من مجد عندما كنت في الخامسة عشر، لكنه رفض بشدة.. وأصر على تزويجي من سلطان (نجم الجنوب)، وهي سلطنة ذات نفوذ كما تعلمين ويرغب أبي بتوطيد أواصر العلاقات معها.. وبعد دموع غزيرة ذرفتها دون فائدة، وافقت أخيراً على الزواج من عمران وهو زوجي الحالي.."
ظلت رنيم تستمع لما يقال بدهشة متعاظمة لتعامل نوران مع مجد بهذه العاطفة وتصريحها بحبها له بلا أدنى حرج، وتتعجب عدم اهتمامهما بوجود رنيم كشخص غريب بشكل تام.. سمعت مجد يعلق "هل استدعيتني لتتفاخري بماضيك أمام ضيفتك؟.. لدي الكثير من الأعمال التي طلبها مني الأمير زياد، ولا وقت لديّ لتضييعه في أحاديث نسائية.."
هتفت نوران "لا يمكنك الذهاب.. أريد البقاء معك والتحدث عما جرى أثناء غيابي.. لم أرك منذ شهور عديدة.. كيف تعاملني بهذا البرود؟.."
ظلت رنيم تراقب حديث نوران وهي غير قادرة على ملاحقة انفعالاتها الواضحة وحديثها السريع.. بدت نوران مناقضة لها بشكل كامل.. وليس شكلياً فقط.. فشخصيتها واضحة وصريحة وإن كان ذلك في إظهار عاطفتها بكل صراحة.. بينما عاشت رنيم تكبت انفعالاتها ومشاعرها بصمت عن عائلتها لإدراكها أن أحداً لن يعبأ لأمرها..
تملص مجد بعد هذا الحديث منهما متعللاً بمشاغله.. عندها التفتت نوران إلى رنيم قائلة بلهفة "الليلة سيقام حفل لتعريفك بالعائلة المالكة وبالطبقة العليا في (الزهراء).. لذلك أتيت خصيصاً لحضور الحفل.. فكوني مستعدة لإبهار الحضور.."
ابتسمت رنيم ابتسامة مجاملة.. كان هذا آخر ما تتمناه.. في السابق، كان بإمكانها التنصل من مثل تلك الاحتفالات التي لا تخصّها لا من قريب ولا من بعيد.. لكن كيف تتنصّل من احتفال أقيم خصيصاً لها؟..

*********************

عندما عادت رنيم لجناحها، رمت نفسها على كرسي قرب النافذة وهي تزفر بحدة.. كانت تشعر بضيق شديد لمجرد التفكير في ذلك الاحتفال الذي ستحضره الليلة.. كيف لها أن تقف في قاعة واسعة وسط أشخاص لا تعرف أحداً منهم لساعات طوال؟.. هل يمكنها حتى أن تغادر الحفل بعد حضورها بوقت قصير؟.. إنها تعرف استحالة ذلك هذه المرة..
تلفتت حولها ملاحظة غياب صفية، فنادتها بشيء من الضيق "صفية.. أين أنت؟.. تعالي ساعديني لخلع هذا الثوب البغيض.."
وضعت يدها على عينيها محاولة التخلص من الضيق الذي تشعر به، عندما شعرت بتلك الخطوات التي اقتربت منها.. فرفعت يدها قائلة "أين اختفيت يا..........؟"
قطعت قولها وهي تحدق في تلك الفتاة التي وقفت أمامها، والتي لا تشبه صفية بأي حال.. كانت فتاة لا تتجاوز رنيم في العمر كثيراً.. على شيء من الطول ببشرة ذهبية جميلة وجسد نحيف بأطراف صغيرة.. شعرها أسود قصير لا يكاد يتجاوز أذنيها، ووجهها صغير بحاجبين طويلين وعينان واسعتان سوداوان وأنف صغير يعتلي فماً أصغر.. كانت ملامحها تدلّ بوضوح على كونها غريبة عن العاصمة، لكن ملابس الخدم التي ترتديها دلت على هويتها وهي تنحني أمام رنيم بملامح جامدة ودون أي انفعال..
اعتدلت رنيم متطلعة للفتاة وقالت "من أنت؟.. وأين صفية؟"
تحدثت الفتاة بهدوء ولكنة غريبة التقطتها رنيم بسهولة "مولاتي الملكة قد عينتني لخدمتك منذ اليوم.. لذلك يمكنك أن تعتمدي عليّ في أمورك كلها...."
قالت رنيم مقطبة "أين صفية؟.. هي وصيفتي وهي من يعتني بأموري.."
قالت الفتاة "ما علمته أن الملكة قد استبعدتها من خدمتك واستبدلتها بي.."
نهضت رنيم صائحة بعصبية "لا يحق لأي شخص استبعاد وصيفتي.. استدعها حالاً.."
لم تغادر الفتاة موقعها وهي تعلق "لا يمكنني ذلك يا مولاتي.."
وإزاء استنكار رنيم لهذا الرد، أضافت الفتاة "ما علمته أن الملكة قد هيأت لرحيل وصيفتك مع بقية الخدم الذين جاؤوا برفقتك منذ الصباح الباكر.. لم يعد أيهم موجوداً في (الزهراء).."
ظلت رنيم رافعة حاجبيها باستنكار شديد.. وراودتها رغبة بالتوجه للملكة والشكوى مما فعلته، لكنها أدركت عدم جدوى ذلك.. بعد أن تصرفت الملكة في أمر يخصها دون الرجوع إليها، فهذا يعني أنها لا تقيم لها أي وزن، وشكواها أو تذمرها لن يكون له أي أهمية تذكر..
حاولت رنيم تجاوز ضيقها الشديد بقوة وهي متفاجئة لتدخل الملكة في أمورها بهذا الشكل السافر، فقالت بضيق شديد "ما الذي فعلته أيضاً الملكة؟.. يبدو أنني لا أملك رأياً في أي شيء يخصني.."
رغم أنها لم تتوقع أي إجابة على سؤالها، لكنها سمعت الخادمة تضيف بهدوء "لقد أرسلت الملكة مع خدمك جميع ما لا تحتاجينه من أغراض.."
اتسعت عينا رنيم وهي تفكر للحظة.. لم تحضر معها من قصر أبيها إلا ما تحتاج إليه من ملابس، فما الذي استبعدته الملكة؟.. دفعت الخادمة بعيداً وأسرع لخزانة قريبة كانت قد استخدمتها لحفظ الكتب التي أحضرتها معها.. لقد اعتنت رنيم بانتقاء بعض الكتب من مكتبة أبيها وأحضرتهم معها مالئة حقيبة كاملة بها، والآن تجد الخزانة فارغة تماماً من أي أثر لها.. فصاحت رنيم بهياج للمرة الأولى في حياتها "أين كتبي؟.."
قالت الخادمة بهدوء "أرسلتها الملكة الأم مع........"
قاطعتها رنيم صائحة "أين كتبي؟.. أين أغراضي؟.. لمَ ليس لي الحق في الاحتفاظ بشيء يخصني بعيداً عن عين الملكة؟.."
وقفت الخادمة بهدوء في موقعها دون تعليق، بينما لطمت رنيم كرسياً قريباً ورمت بمحتويات الطاولة أرضاً.. كانت تشعر بهياج وغضب شديدين، ومن يراها يظن أن الأمر لن ينتهي قبل أن تثير زوبعة في القصر للتدخل السافر في أمورها.. لكن الخادمة لم تقلق لثورة رنيم وهي تقول "أنا آسفة.. لكن أوامر الملكة لا يمكن رفضها يا مولاتي.."
وقفت رنيم وسط الجناح وهي تقبض على يديها بشدة.. كتمت غصّة كبيرة تسدّ حلقها، ثم قالت بصوت حانق "أعلم ذلك.. بالتأكيد أعرف أن رأيي وقراراتي لا يعتدّ بها.. لا في هذا القصر ولا في أي مكان آخر من هذا العالم.."
ثم ألقت بنفسها على الكرسي وهي تضيف بصوت مختنق "لست واثقة إن كان لوجودي نفسه أي معنى في هذا العالم بالفعل.."
وزفرت بضيق ومرارة شديدة.. مع احتمالها لكلمات الملكة القاسية، ولإهانات الأمير الواضحة، ومع شعورها بأنها غير مرغوب بها في هذا القصر، ومع افتقادها لوصيفتها الطيبة التي اعتادت عليها كثيراً، عليها الآن أن تتخلى عن تسليتها الوحيدة وألا تتذمر لافتقادها كتبها العزيزة عليها..
لكن لماذا تفعل الملكة كل هذا؟.. لماذا تتصرف معها بهذه الطريقة الدونية؟.. ألأنها رافضة لهذا الزواج؟.. لو كان الأمر كذلك فبإمكان الملكة إعلان رفضها له بكل صراحة أمام الملك.. فلمَ هذه الألاعيب الساذجة التي لا تفهم رنيم لها سبباً؟.. لمَ عليها أن تجعل واقع رنيم أسوأ مما هو بالفعل؟..


*********************


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-12-15, 07:47 AM   #6

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



الفصل الرابع : لماذا أدفن رأسي في التراب ؟


في تلك الليلة، وبعد أن خضعت رنيم لإعداد طويل ومرهق للاحتفال الملكي الذي بدأت أصداؤه مع غروب شمس ذلك اليوم، فإن رنيم سارت تتبع إحدى الخادمات عبر أروقة القصر نحو موقع الاحتفال.. كانت رنيم ترتدي ثوباً ذهبياً طويل الأكمام وبرقبة عالية منشّاة وتبطنها طبقات من الدانتيلا الناعمة والتي تبدو أيضاً من أسفل أكمامها المشقوقة.. وفيما كانت تسير بخطوات وئيدة مرتدية حذاءً ذهبياً مزين بمجموعة من الأحجار الكريمة اللامعة، فإنها كانت تتلمس زينة شعرها الذهبية وتتأكد من انتظام تموجات شعرها المنسدل على كتفيها ومن القرطين الماسيين المتدليين من أذنيها.. كانت تنوء بما ترتديه وما تحمله على رأسها من زينة، ومن الأصباغ التي غطّت وجهها بحيث شعرت بعجزها عن الابتسام خشية أن تفسد شكلها الذي أمضت ساعات لإعداده.. ولما نظرت لوجهها في المرآة قبل مغادرة جناحها، راودتها رغبة شديدة في إزالة كل ما عبث بملامحها وأظهرها بشكل آخر لا يشبهها لا من قريب ولا من بعيد.. كيف يمكن للآخرين أن يسعدوا برؤيتها بشكل يخالف حقيقتها بهذه الصورة؟.. هذا لغز لم تفهمه حتى الآن..
ولدى وصولها للباب المخصص لدخول العائلة المالكة، والذي يختلف عن الباب الذي دخل منه ضيوف الاحتفال المميزين، سمعت نداء يتعالى باسمها ولقبها كخطيبة لولي العهد.. تضاعف توترها أضعافاً وهي ترى الباب يفتح بصوت عالٍ، عندها لم يكن أمامها مناص من التقدم بخطوات ثابتة وهي تمسك جانب ثوبها بحركة بدت أنيقة ولكنها تخفي قلقها وانفعالها الشديدين..
لاحظت أن الحضور تجمدوا في مواقعهم وهم يرمقونها بفضول كبير، ولم تفتها الهمسات التي اندلعت من بعض الحاضرات كبيرات السن.. لكنها حاولت تجاهل كل هذا وهي تبتسم لمن تلتقي عيناها بعينيه وتسير قدماً دون أن تعرف أين تذهب في هذه القاعة الواسعة التي غصّت بحضورها من جميع الأعمار.. رأت بعض النسوة يتقدمن منها مرحبات ومهنئات بهذه الزيجة، فشكرتهن بابتسامة دون أن تغفل عن تفحصهن المكثف لملامحها والابتسامة التي حملت جانباً هازئاً لم تحاول إحداهن إخفاءه..
بعد سير قصير دون هدف، لاحظت رنيم الأمير زياد الذي كان يضحك مع إحدى الأميرات المتصنعات غير عابئ بوجودها في الحفل.. لكنها لم تحاول الاقتراب منه وهي تدير وجهها جانباً تتأمل رعايا (الزهراء) من ذوي الطبقة العالية والأصول العريقة.. شعرت بغربة تامة، وكأنها وسط حقل مليء بالأشواك لا تجرؤ أن تخطو خطوة فيه دون أن تؤذي نفسها.. وبعد بعض الوقت، وجدت نوران تقترب منها قائلة بسرور "انظري إليك.. تبدين أجمل من المعتاد بكثير.."
ابتسمت رنيم بصمت وهي مدركة أن أي قول تقوله نوران ينطبق عليها هي بصورة أكبر بعشرات المرات.. كانت نوران تزهو بثوب طويل بلون خمري جميل يظهر بياض بشرتها وشعرها الذهبي، ورغم اقتناعها بقليل من الزينة وظهورها بمظهر طبيعي خالٍ من التبرج المبالغ به، إلا أنها بدت كحورية من قصة خرافية.. ألهذا السبب تشعر رنيم بتضاؤل شديد لوقوفها جوار نوران وكأنها برغوثة بشعة المنظر؟..
وجدت نوران تجذبها قائلة بابتسامة "لابد أنك لم تقابلي زياد.. لنذهب إليه.."
وغمزت بعينها مضيفة "ولابد أن زياد سيذهل لرؤية جمالك الأخاذ هذا.."
شعرت رنيم بشحوب ونوران تجذبها تجاه ذلك الشخص الذي تخشى مواجهته بشدة.. تخشى أن يعلق تعليقاً هازئاً لرؤيتها فيسبب لها الحرج أمام تلك الجماعة من الأميرات اللواتي تحلقن حوله..
قبل أن تصلا لموقع الأمير زياد الذي انشغل عنها ساهياً أو متعمداً منذ وصولها للحفل، جذبت رنيم ذراعها من يد نوران قائلة بارتباك "مهلاً.. أريد شرب بعض الماء.. أشعر بجفاف شديد في حلقي.."
نظرت لها نوران قائلة "وماذا عن زياد؟.. لا يمكن أن نتركه ينتظرنا.."
لم يبدُ أن الأمير ينتظرهما بحال وهو لاهٍ بحديثه الضاحك ذاك، فقالت رنيم بابتسامة مرتبكة "سأعود بعد لحظات معدودة وآتي للقاء الأمير من فوري.."
واستدارت مبتعدة تشق طريقها بين الحضور، حتى وصلت لمائدة صفّت عليها أنواع الشراب والماء البارد وبعض الحلويات.. فشربت رنيم بعض الماء وهي تحاول تمالك انفعالها.. ثم عادت ببصرها نحو الموقع الذي يقف فيه زياد، ولوهلة خايلها أن تلك الابتسامات والضحكات التي تتبادلها الأميرات معه هي نتيجة سخريته منها..
أشاحت رنيم بوجهها وغادرت نحو مخرج القاعة الذي يؤدي لشرفة واسعة خارجية ومنها للحديقة التي ظلت جوانبها مظلمة رغم المصابيح والمشاعل الموزعة في جوانبها بدقة.. شعرت بشيء من التعب وضيق تنفس جعلها تكره وقوفها في تلك القاعة الملأى بغرباء لا تعرف معظمهم.. والأدهى أن الأمير، زوجها المستقبلي، لم يلقِ عليها نظرة واحدة منذ دخلت القاعة.. ولم يحاول حتى تعريف الآخرين بها كخطيبته، وكأن وجودها لا معنى له..
اختارت رنيم جانباً مظلماً من الحديقة وجلست على كرسي طويل حجري بأرجل مزخرفة وتحيط به أشجار الياسمين ذات الرائحة العطرة.. حاولت أن تفرغ عوطفها ومشاعرها مما اكتسبته طوال هذا النهار من انفعالات عصفت بها.. إنها تشعر بشؤم شديد منذ وصولها للزهراء، ويتزايد هذا الشعور مع كل يومٍ يمضي.. لكن هل سيغير شعورها هذا شيئاً من واقعها؟..
ظلت رنيم في موقعها بصمت، رغم أن العطش سبب لها جفافاً في حلقها ورغم القشعريرة التي أثارتها في جسدها نسمة باردة هبّت على المكان.. لكنها لم تعبأ للأمر وهي متجمدة في موقعها دون حراك.. إنها تكاد تجزم أن من سيراها الآن سيظنها تمثالاً من التماثيل الموزعة في أرجاء الحديقة..
طال الاحتفال مدة طويلة، وكلما حاولت رنيم دفع نفسها للعودة للآخرين، شعرت بضيق من جديد وعزفت عن الحراك مستسلمة له.. هل الأفضل لها أن تعود لجناحها؟.. قد يعدّ الأمير ذلك سوء أخلاق، وهذا الاحتفال مقام احتفاءً بخطبتهما.. لكن، مع بقائها هنا، يمكنها أن تتذرع بحاجتها لبعض الهواء وشعورها بالاختناق في القاعة، وهو أمر لم يجانب الصواب كثيراً..
بعد وقت طويل، لاحظت رنيم خفوت الأصوات والأضواء القادمة من القاعة، فاقتنعت أن الاحتفال قد خفتت حدته، وقد يكون الحضور قد انتقلوا لموقع آخر من القصر كما يحدث في مثل تلك الحفلات.. فنهضت رنيم بهدوء وسارت بشيء من التردد وهي تتنهد.. لابد أن نوران ستثير زوبعة في اليوم التالي لغيابها عن هذا الحفل الذي أقيم خصيصاً لها..
سمعت صوت خطوات تقترب من خلفها، ثم أتاها صوت يزفر قائلاً "أخيراً عثرت عليك.."
انتفضت رنيم وهي تلتفت خلفها لترى مجد يقترب منها قائلاً بتقطيبة "ما بك؟.. لقد اختفيت منذ بدء الاحتفال، ونوران بحثت عنك طوال الساعات الماضية عبثاً.. لقد تضخمت أذناي لكثرة ما صبّتْ فيهما من الوساوس، ولولا خشيتها من إثارة بلبلة بين الحضور لأعلنت للجميع أنك اختُطِفْت من القصر.."
لم تجبه رنيم وهي تدير وجهها جانباً بصمت، فقال مجد وهو يقترب منها "أأنت على ما يرام؟.. بدوت شاحبة الوجه نوعاً ما في الاحتفال بشكل يثير القلق.."
لم تعلق وهي تدمدم "لا شيء.. أنا بخير.."
قال مجد "هل تمزحين؟.. ملامحك لا تدل على هذا بتاتاً.."
عادت رنيم للجلوس على الكرسي القريب وهي مطرقة.. فجلس مجد بدوره قائلاً "أخبريني بما حل بك.. قد أتمكن من معاونتك بأي شكل من الأشكال.."
قالت رنيم بعد لحظة صمت "أريد الرحيل.."
وإزاء صمت مجد أضافت بصوت مرير "أريد المغادرة لأبعد مكان ممكن.. لكن لا يمكنني التنصل من هذا الزواج لئلا ألقى غضب أبي وثورة أمي.. لكني حقاً أريد الرحيل فلم أعد أطيق رؤية شخص في هذا القصر.."
غمغم مجد وهو يتطلع للسماء "لا ألومك على هذا.."
أضافت وهي تدفن وجهها بين ذراعيها المستندتين على ركبتيها "الأمير زياد، زوجي المستقبلي، يعاملي بكل برود.. بل إنه يتعمد تحقيري ومعاملتي بكل دونية.. كما أن الملكة الأم تعاملني بكره واضح، وتتدخل بأموري بشكل سافر.. فما الذي جنيته لأستحق هذا؟.. ألم آتِ للزهراء بدعوة من الملك؟.."
ربت مجد على رأسها بخفة قائلاً "أدرك ما تشعرين به.. لكن لا يمكنك التنصل من هذا الزواج الآن.. لمَ لمْ ترفضي هذا المصير قبل أن يرسلك الملك قصيّ للزهراء؟.. كان عليك أن تكوني حاسمة في قرارك منذ البدء.."
قالت رنيم بمرارة "لا أحد يعيرني أي اهتمام ولا يُعتدّ برأيي أبداً.. رفضي لا يعني لأبي الملك شيئاً.. ثم إنني ظننت أن الأمور ستكون في (الزهراء) أفضل حالاً من (بارقة).. ظننت أنني سأبدأ حياة جديدة، وقد أتمكن من تغيير واقعي شيئاً ما.. قد أتمكن من أن أصبح بشخصية أقوى وأكثر حزماً في التعامل مع الآخرين.."
ابتسم مجد معلقاً "هل كنت تعوّلين على تغيير حياتك لتبدئي بداية جديدة؟.. هذا أمر صعب لو لم تبدئي بتغيير شخصيتك ذاتها.."
غمغمت رنيم "أدرك ذلك الآن.. لكني بدأت أفقد صبري حقاً.. أشعر بالحلقة تضيق على عنقي مع كل يوم يمضي، ولست أدري متى سأفقد القدرة على الاستمرار.."
قال مجد بحزم "لن يطول ذلك كثيراً ما لم تتمكني من تمالك نفسك بصورة أفضل.. تجاهلي ما يجري حولك، ولا تضعي آمالاً على الأمير زياد.. نحن لسنا في حكاية عاطفية، ولن تجدي الحب الذي قد تتأملينه من زوجك في المستقبل.."
غمغمت رنيم بمرارة "ليس هذا ما كنت أطمح إليه حقاً.. كل ما تمنيته هو بعض الحرية، والتخلص من بعض القيود التي تقيدني.."
نظر لها مجد بصمت وتعجب، ثم علق قائلاً "هذه نقطة أخرى لم أتوقعها فيك.. أغلب الفتيات، والأميرات منهن، يسعين للحصول على الحب الذي حلمن به سنين طويلة، مهما كان الأمر يقيّدهن ويجبرهن على التنازل.. ففي سبيل الحب، يمكن للفتاة أن تتنازل عن كل ما تملك من شخصية وكرامة وعزة نفس.. وهذا ما يشعرني أنهن لا يقدّرن أنفسهن حقاً.."
نظرت له رنيم متسائلة بتردد "أتظنني أقدّر نفسي حق قدرها بالفعل؟"
زفر مجد وهو يتطلع لوجهها المتردد، ثم قال "أنت تملكين الكثير من الصفات الرائعة يا أميرتي.. لكن كل هذا يزول لدى رؤية ملامح الخضوع والتردد البادية على وجهك.. كل جمال تملكينه، سواء أكان ظاهرياً أم داخلياً، يبهت عندما تخفضين رأسك وتخضعين لمن حولك.. ما الذي يدعوك لهذا الاستسلام الذي أقل ما يوصف به أنه مخزٍ لفتاة في منصبك؟"
خفضت رنيم وجهها المحتقن بصمت.. كان قوله كفيلاً بأن يجرحها بشدة، لكنه كان مصيباً ودقيقاً في كل ما ذكره.. ثم إنها، رغم قِصَر معرفتها بمجد، قد تآلفت معه وشعرت به كشخص موثوق يمكنها أن تطمئن إليه.. لذلك لم تستنكر قوله رغم قسوته بل استنكرت أن يكون خضوعها واستسلامها بهذا السوء.. ربما كانت تجمّل واقعها بأنها بهذا التصرف تشتري هناء بالها.. لكن مجد قد أزال كل ما دارَتْ به ضعفها وأبرزه أمام عينيها بشكل أثار خجلها مما تراه.. أهي بهذا السوء حقاً؟..
ولدى صمتها واحتقان وجهها، قال مجد بشيء من اللطف "أرجوك ألا تسيئي فهمي يا فتاة.. لا أعني تجريحك بقدر ما أرغب بإيقاظك من الغفلة التي تعيشين فيها.. حتى متى ستدفنين رأسك في التراب؟.. من هي مثلك حريّ بها أن تكون أكثر نباهة وفطنة وأشد يقظة لما يدور حولها.."
غمغمت رنيم بكآبة "أدرك ذلك.. فلا تقلق.. ما يسبب لي الضيق حقاً هو إدراكي مدى سوء واقعي بعيداً عن التجمّل الذي كنت أداري به ضعفي.. ما يسوؤني أن أرى أنني لست بالكمال الذي ظننت نفسي عليه.."
ربت مجد على رأسها مجدداً قائلاً "الاعتراف بهذا ليس سيئاً.. الأهم أن تقتنعي بتغيير ما ترينه.."
تنهدت رنيم للحظة، ثم نهضت مغمغمة "ربما كنت على حق.. لكن، من يدري إن كنت أقدر على ذلك؟.."
واستدارت بخطوات بطيئة عائدة لجناحها.. كانت تريد الخلوّ لنفسها والتفكير في ما عرفته هذه الليلة.. بينما وقف مجد يراقبها للحظات بصمت، قبل أن يستدير ويتجه بخطوات سريعة لشجيرة ورد قريبة.. وهناك، استطاع أن يرى تلك الخادمة التي أولته ظهرها وغادرت بخطوات سريعة مرتبكة.. لكن مجد لحق بالخادمة الهاربة حتى قبض على ذراعها بشدة وأوقف ركضها.. فالتفتت الخادمة إليه بفزع قائلة "ما الأمر يا سيدي؟.. أطلقني.."
لاحظ مجد أنها إحدى الخدم التي رآها عدة مرات ضمن حاشية الملكة، فقال مقطباً "أنت تعملين لدى الملكة، ألست كذلك؟.. أكنت تنوين الهرب والوشاية بما سمعته لها؟.."
هتفت الخادمة "لا يا سيدي.. أنا لا أتدخل فيما لا يعنيني.."
لكن مجد اعتصر ذراعها بشكل مؤلم بقبضته وهو يقول "أتظنين أنني لا أعرف عنكن شيئاً؟.. هل كنت تتلصصين بنفسك أم أن الملكة هي من أرسلتك؟.."
اتسعت عينا الخادمة شيئاً ما وهي تقول بقلق "لا يا سيدي.. لقد مررت من ذلك الموقع بالصدفة ولم........"
شدّ مجد على ذراعها بقوة فقالت بألم "أطلقني أرجوك يا سيدي.."
قال مجد بصرامة "لو لم تقولي الحقيقة، سألفق لك تهمة الخيانة وسيتم طردك من القصر.. لن ينفعك أي شخص عندها، ولا حتى الملكة الأم.."
بدا الارتياع على وجه الخادمة التي سرعان ما صاحت "لا تفعل هذا يا سيدي.. سأخبرك الحقيقة.. إنها أوامر الملكة.."
نظر لها مجد مقطباً وهي تضيف بارتباك "أنا أنفذ ما أمرتني به الملكة فقط.."
فسألها بحدة "وبمَ أمرتك بالتحديد؟.."
قالت الخادمة "أمرتني أن ألاحق الأميرة رنيم لعلّي أجد عليها ممسكاً أو زلة.. وتريدني أن أبلغها بكل ما أراه صغيراً كان أو كبيراً.."
تخلى مجد عن ذراع الخادمة وهو يفكر بما سمعه مقطباً، فتراجعت الخادمة خطوة وهي تضيف "هذا كل ما أوصتني به.. وأنا أنفذ أمرها فقط.."
لم يكن صعباً على مجد إدراك أن الملكة تبحث عن سبب لرفض هذا الزواج وطرد رنيم من القصر، فهي قد أبدت رفضها له سابقاً بكل صراحة.. فنظر مجد للخادمة بحزم قائلاً "لا بأس.. استمري فيما كنت تفعلينه.."
نظرت له الخادمة بدهشة، فأضاف بسرعة "لكنك لن تشي بأي شيء مما رأيته للملكة.. لن تنقلي عن الأميرة رنيم إلا ما يسرّني سماعه.. أفهمت؟.."
غمغمت الخادمة بقلق "ماذا لو أدركت الملكة الأم أنني خدعتها؟.. ستعاقبني بشدة على ذلك.."
قال مجد بصرامة "عقابها لن يكون أسوأ من عقابي لو علمت أنك أبلغت الملكة بخبر سيئ عن رنيم.. فكوني حذرة وتخيّري كلماتك بدقة.."
نظرت الخادمة بقلق لعينيه الحادتين، ثم أحنت رأسها قائلة بارتباك "سأفعل ذلك يا سيدي.. ثق بي.."
وتراجعت مبتعدة بخطوات سريعة، بينما زفر مجد بحدة وهو يغمغم "تباً.. ظننت أنني معتاد على تصرفات أهل القصر المتّسمة بالخسة والحقارة.. لكن لمَ يغلي دمي لمثل هذا التصرف وهو موجه لرنيم؟.. إنها لا تستحق شيئاً من هذا.."
ثم غادر بخطوات واسعة وشيء من الضيق عائداً لعمله وتفكيره منشغل بالفتاة التي تبدو شاذة في هذا القصر الفخم البهيج..


*********************
في اليوم التالي، تذرعت رنيم بمرضها لئلا تخرج من جناحها.. لم تكن معتادة على سجن نفسها في جناح أو غرفة لأي سبب من الأسباب، لكن كلمات مجد في الليلة الماضية أخذت تدوّي في رأسها وأبعدت النوم من عينيها لساعات طوال.. حتى عجزت عن العثور على إرادة لمغادرة سريرها بعد ليلة أنهكها التفكير وتحليل مجريات حياتها منذ البدء.. لكن هل تملك حقاً الإرادة على تغيير حياتها؟.. هل تقدر على أن تبدأ حملة تغيير شاملة تنطلق من أعماق نفسها الضعيفة؟.. ومع التفكير الطويل، فإن رنيم قد بدت لمن يراها كمن وقعت أسيرة لمرض شديد بالفعل..
وكان التعليق الذي قالته نوران فور دخول جناحها هو "يا إلهي.. إنك مريضة جداً.. كيف حدث ذلك؟"
غمغمت رنيم بكلمات مبهمة، بينما اقتربت نوران من سريرها ووضعت يدها على جبين رنيم قبل أن تقول "حرارتك طبيعية تقريباً، لكن وجهك شاحب بشدة.. ما الذي تشعرين به؟"
غمغمت رنيم مبتسمة "لا تقلقي.. هو مجرد إرهاق وتعب.. سيزولان بعد بعض الراحة.."
قالت نوران وهي تجلس جانباً "ألهذا السبب اختفيتِ من الاحتفال البارحة؟.. لقد أمضيت وقتي في البحث عنك دون فائدة.. ولم أهدأ حتى طمأنني مجد أنك في جناحك.."
قالت رنيم دون أن تواجه عينيها "لقد خرجت لاستنشاق بعض الهواء بعد شعوري بشيء من الضيق والدوار.. ولما لم أتمكن من العودة للاحتفال لتعب ألمّ بي، عدت لجناحي لأرتاح.."
ثم نظرت لنوران بشيء من التردد متسائلة "هل سأل عني الأمير زياد؟"
نظرت لها نوران بصمت، ثم نهضت وتقدمت من النافذة قائلة "هل تخشين من غضبه لاختفائك؟.. لا تقلقي.. لن يفعل.."
خفضت رنيم بصرها وهي مدركة أن نوران تقصد عدم اهتمام الأمير بها بتاتاً، لكنها صاغت جملتها بشكل أقل جرحاً لمشاعرها..
استدارت إليها نوران بابتسامة متسعة وهي تقول "عليك أن تنهضي من هذا الفراش.. أريد قضاء بعض الوقت معك قبل اضطراري للرحيل، وهو أمر لم أتوقع حدوثه بهذه السرعة.."
راقبت رنيم الابتسامة السعيدة على شفتي نوران رغم حديثها عن اضطرارها للرحيل، ثم غمغمت "تبدين في غاية السعادة.. ما الذي جرى؟"
دارت نوران حول نفسها بضحكة عالية، ثم قالت "ألا أبدو كذلك؟.. يمكن رؤية السعادة في ملامحي بوضوح.."
وإزاء نظرات الدهشة من رنيم، قالت نوران وهي تقترب منها وتقبض على يدها بشدة "وصلني خبر أسعدني الليلة الماضية.. زوجي، السلطان عمران، سيصل في وقت لاحق من هذا اليوم.."
رفعت رنيم حاجبيها بدهشة وابتسامة نوران تتسع بسعادة قائلة "لم أتوقع أن يكون قد لحق بي بهذه السرعة.. لم أره منذ شهر كامل فقد كان في رحلة هامة طارئة.. لكنه قطع تلك الرحلة فجأة ولحق بي.. قال في إحدى رسائله أنه اشتاق إليّ، لذلك سيصل للزهراء وسيبقى فيها بضع أيام في القصر الخاص به قبل أن يصطحبني معه في رحلته تلك.."
نظرت رنيم لملامح البهجة الواضحة في وجه نوران، والتي ظلت تثرثر لوقت طويل عن زوجها وعن شغفه بها بينما سرحت رنيم في أفكارها.. ثم قالت لنوران بشيء من التردد "ماذا عن مجد؟.."
تساءلت نوران باهتمام "ماذا عنه؟"
قالت رنيم بتردد أكبر "ظننت أنك تحبينه.. كيف تنازلتِ عن حبك له وحلمك بالزواج منه ورضيتِ بما خططه الملك لك؟.. كيف أمكنك أن تكوني سعيدة بحياة لم تختاريها لنفسك؟.."
كان ذلك السؤال ذاته الذي تطرحه رنيم دائماً على نفسها منذ قرر الملك قصيّ مصيرها دون الرجوع إليها.. وتمنت لو تمنحها نوران في تلك اللحظة جواباً شافياً لحيرتها تلك، فضحكت نوران للحظة ولوحت بيدها قائلة "لا أنكر أنني أحببته بشدة.. لكنه كان حب مراهقة.. كنت أشعر أنه عالمي كله، ولم أدرك أن العالم سيغدو أكثر بهجة لي بعد زواجي من عمران وتقربي منه.."
ثم أضافت وهي تقترب من النافذة "كنت مستاءة من زواجي الذي رتّبه أبي رغم إرادتي، وشعرت أنني سأدفن نفسي في حياة لا مشاعر فيها.. لكني لم أكن أعلم أن زوجي كان يحبني بالفعل قبل أن يتقدم لخطبتي.. ولم أكن أدرك أن مشاعري ستميل تجاهه بعد أن غمرني بحبه وعطفه الكبيرين.."
ثم استدارت إلى رنيم قائلة "الكل يعرف بأمر مشاعري التي كنت أحملها لمجد، حتى زوجي.. ورغم غيرته، إلا أنه يصدق أنها مشاعر طفولية انتهت منذ زمن طويل.."
ظلت رنيم تستمع لها بدهشة وشيء من الأمل.. أيمكن أن تشعر هي بشيء مماثل كالذي شعرت به نوران بعد زواجها الذي كان بترتيب من الملك رغم إرادتها؟.. أيمكن أن يتضح لها أن الأمير زياد ليس بالسوء الذي تتخيله عليه وأنها ستجده أفضل لو تعرفت عليه أكثر؟.. لكن لا.. بدا لها واضحاً أن الأمير زياد لا يمكن أن يحوي شخصية أعمق مما تراها عليه بالفعل.. هو لا يحب إلا نفسه ولا يعشق إلا ذاته.. مثل هؤلاء الأشخاص لا يحبون إلا من يخدمهم ويسعدهم.. ولو لم تتمكن من إسعاده فهي لن تنال إلا على احتقاره ومعاملته الدونيّة كما فعل منذ اللحظة الأولى التي وقعت عيناه عليها..
ثم إنها لطالما حلمت بزواج يبتعد بها عن القصور والأسوار وينطلق بها لعالم مجهول أكثر رحابة من هذا العالم الكئيب.. لم تفكر بالحب قط، لكنها أمِلَتْ أن يربطها الزواج برجل قوي يسبغ عليها حمايته ويحيطها بعطفه.. رجل يفك قيودها التي تغلّها لحياة كئيبة لا روح فيها.. رجل قلباً وقالباً لا كالأمير زياد الذي يشمئز من لطخة صغيرة لطخت حذاءه اللامع ويصبّ سخطه على الخدم لذلك دون رحمة..


*********************
في وقت لاحق من ذلك النهار، كانت رنيم لا تزال منطوية على نفسها في جناحها.. كانت تراقب عمل الخادمة الصامتة التي علمت أن اسمها كاينا، وتتذكر وصيفتها صفية التي اختفت من القصر بأمر من الملكة سليمة.. في هذا الوقت بالذات، افتقدت رنيم وصيفتها الثرثارة طيبة القلب.. ورغم أن كاينا طيبة ومسالمة كذلك، لكن صمتها كان يثير حفيظة رنيم بشكل كبير، خاصة مع بقائها وحيدة لساعات طوال لسبب أو لآخر.. بينما لا تتوانى صفية عن الاستماع إليها وتقديم النصح لها بما يخفف عن رنيم ما تشعر به.. ولكم تفتقد رنيم هذا بشدة الآن..
راقبت كاينا التي كانت تهيئ سريرها لتلك الليلة وتعتني بجناحها وبكل ما تحتاج إليه.. رغم ثورتها في البدء، إلا أن رنيم لا تنكر أن كاينا تخدمها بكل إخلاص وتفانٍ أدهشاها.. تذكرت أنها حملت تساؤلاتها عن هاته الخادمات اللواتي رأتهن في أرجاء القصر ممن يشابهون خادمتها الجديدة في الصفات الخارجية وفي اللكنة الغريبة، وذلك في الأيام الأولى لوجودها في القصر.. في ذلك الوقت، استنكرت رنيم رؤية هاته الخادمات اللواتي لا ينتمين للزهراء ولا يتحدثن العربية إلا بلكنة غريبة واضحة، ويمكن رؤيتهن يؤدين أعمالهن بصمت وسكون ودون أي تدخل في شؤون سكان القصر كما تفعل بقية الخادمات عادة.. وإزاء تساؤلاتها، أجابها مجد "إنهم من شعب يعيش في الجزء الشمالي من المملكة.. إنهم لا يتحدثون لغتنا ويخالفوننا في الكثير من العادات والتقاليد.. إنهم أشبه بالغجر الرحّل الذين جابوا أجزاء عديدة من القارة، لكنهم استقروا في ذلك الجزء الخالي من المملكة منذ عدة عقود.. ومنذ استقرارهم، والمناوشات بينهم وبين جنود المملكة تكاد لا تهدأ.."
تساءلت رنيم بدهشة "لماذا؟.. ما سبب هذا العداء بينكم وبينهم؟"
أجاب مجد "أسباب عديدة.. ربما كان الاختلاف بيننا في أسلوب الحياة والمعيشة هو السبب الأكبر، كما أنهم يرفضون الخضوع للملك بشكل كامل ويعتزّون بهويتهم وتفردهم عن البقية.. كما أنهم أقل تحضراً منا بمراحل، ولا يعرفون القراءة والكتابة.. لذلك يطلق عليهم شعب المملكة الرعاع.."
كانت رنيم تستمع بمزيج التعجب والشغف لتلك الحكاية، ثم تساءلت وهي ترمق إحدى تلك الخادمات التي سارت حاملة دورقاً من العصير الطازج بصمت ودون اهتمام بما حولها "لكن ما الداعي لاستخدام هؤلاء كخادمات في القصر؟.. رغم وجود كفاية من الخدم والخادمات من أهل (الزهراء).. كما أن الملكة حرصت على استبعاد وصيفتي وخدمي واستبدلتها بإحدى تلك الخادمات.. فما السبب؟"
قال مجد بضيق "مزيج من الاستعباد والتظاهر.. الملك أسر عدداً من فتيات الرعاع لا يقل عن عشرين فتاة وجلبهن للزهراء بعد انتصاره في إحدى المعارك عليهم.. حجته بذلك أن وجود الفتيات في العاصمة سيكسر شوكة الرعاع ويقطع أجنحتهم.. ولن يجرؤوا على التهجم على القوافل التجارية أو التناوش مع جنود المملكة خشية على الفتيات من أن يصيبهن مكروه جراء ذلك.."
شعرت رنيم بإشفاق على الفتيات لما مررن به وهي تحاول تخيّل ما جرى لهن، بينما أضاف مجد "وجدتها الملكة فرصة سانحة لاستبدال بعض الخادمات في القصر بخادمات من الشمال، مدّعية أنهن أفضل في الخدمة وأكثر طاعة.. لكن ما تريده حقاً هو أن تلمح الدهشة في أعين ضيوفها لدى رؤيتهم لهاته الفتيات الغريبات بملامحهن الغريبة ولكنتهن الأغرب.. هذا كل ما هنالك.."
تساءلت رنيم بإشفاق "ألم يحاول ذلك الشعب استعادة هؤلاء الفتيات؟.. لا يحق للملك استعبادهن دون سبب.."
علق مجد "ليس المهم اعتبار ما يحق للملك وما لا يحق.. المهم هو قدرة الملك على ذلك أم عدم قدرته، والملك لا يترك فرصة ليثبت لخصومه أنه قادر على أي شيء.."
لم تدرِ رنيم بمَ شعرت به كاينا منذ أن اختطفت من موطنها وأسرها غرباء قساة حرموها من عائلتها وأحبابها وعاملوها معاملة العبيد.. شعرت بإشفاق شديد تجاهها وهي تراقب عملها الصامت، مما دفعها لتسألها "كاينا.. لمَ لمْ تحاولي الهرب قط؟.."
اتسعت عينا كاينا بدهشة، إنما التزمت الصمت على هذا السؤال وهي مستمرة بعملها، فقالت رنيم بإلحاح أكبر "لماذا رضيتِ بهذه العبودية رغماً عنك؟.. ألا تملكين تقرير مصيرك بنفسك؟.."
غمغمت كاينا "وهل يمكنني هذا حقاً؟"
قالت رنيم "أنا متعجبة من هذا الاستسلام البادي عليكن لهذه العبودية المفروضة عليكن بحد السيف.. أنتن لستن جواري، فكيف يتم استعبادكن بهذه السهولة؟"
أدارت كاينا بصرها بعيداً وقالت "لسنا مستسلمين لهذه العبودية ولا نرضى بها.. لكننا لا نريد أن نغامر بالهرب ونحن في وسط المملكة فهذا الهروب لن يطول كثيراً.. وعقابنا سيكون قاسياً على يد الملك فهو لا يسامح من يعصي أي أمر منه أبداً.."
دمدمت رنيم "هذا ليس سبباً.. لو كنت مكانك، لما ترددت في الهرب في أقرب فرصة.."
ابتسمت كاينا ابتسامة جانبية مغمغمة "ربما.. من يدري ما تحمله لنا الأيام؟"
صمتت رنيم وهي تتطلع لملامح كاينا المسترخية وتفكر في حالها.. لم يبدُ على كاينا أنها تحمل همّ هذه العبودية التي تعيشها، ولم يبدُ عليها أنها بائسة أو متعجلة للهرب بأي شكل كان.. فما الذي تخفيه ملامحها الهادئة الصامتة يا ترى؟..
لو كانت رنيم في موقعها، لهربت منذ اليوم الأول، وهو ما كانت تود فعله منذ زمن بعيد.. كيف لشخص يمتلك حريته وحياته الطليقة أن يرضى بهذه العبودية ويستكين لها؟..


*********************
بعد عدة أيام من ذلك الاحتفال، وبعد رحيل نوران بيوم وخلوّ القصر ممن يمكن لرنيم أن تتحدث معه بكل بساطة ودون تكلف، فإن الملكة قد استدعت رنيم لمقابلتها دون أن تفصح عن السبب.. وبالطبع، فإن رنيم لم تملك التعليق على ذلك وهي تتوجه لمقابلتها محاولة رسم ابتسامة على شفتيها.. رغم محاولات رنيم المتكررة لفرض رأيها بشكل أو بآخر خلال اليومين الماضيين، فإنها تخضع لمن يفوقونها منصباً ومكانة بسرعة قبل أن تنطق حرفاً واحداً مما يدور في عقلها.. ويبدو أنها ستلجأ للاستسلام عما قريب وتتخلى عن تلك الفكرة من الأساس.. فهي لا تناسبها ولا تناسب شخصيتها الحقيقية بتاتاً..
قادتها إحدى الخادمات لموقع الملكة في إحدى شرفات القصر الواسعة، والتي رصفت برخام ثمين بلون أخضر تتخلله عروق بيضاء.. وفي جوانب الشرفة وضعت أصصٌ لعدد متنوع من شجيرات الورد الزاهرة ورائحة أزهارها تخلب الألباب.. ووسط الشرفة جلست الملكة على كرسي حديدي قرب طاولة بيضاء عليها صحاف مذهبة بعدد متنوع من الأطعمة الخفيفة وأكواب ماء ودورق شاي معطر ببتلات ورد..
انتاب رنيم توتر كبير لم تتمالكه وهي تقترب من موقع الملكة التي لم تستدر تجاهها ولو للحظة وكأنها تعرف هوية المتقدم منها تمام العلم.. فلا يجرؤ شخص على الاقتراب من الملكة دون استئذان ودون المرور بحاشيتها التي تحيط بها إحاطة السوار بالمعصم..
وقفت رنيم أمام الملكة وانحنت باحترام قائلة "سعدتِ صباحاً يا مولاتي.."
قالت الملكة بجفاف "كفّي عن هذا التمثيل واجلسي.."
ابتلعت رنيم ما كانت تريد قوله وهي تطيعها بصمت، بينما ظلت الملكة صامتة وهي تطرق بأصابعها على الطاولة القريبة دون أن تدعو رنيم لتناول شيء مما ازدحمت به الطاولة ولو من باب اللياقة.. ثم قالت "هل أنت سعيدة هنا؟.."
فوجئت رنيم بهذا السؤال الذي جهلت معناه، فقالت بابتسامة متوترة "طبعاً أنا سعيدة يا مولاتي.. هذه المدينة، وهذا القصر، فاقا أحلامي وتوقعاتي.. والعيش فيهما يحقق آمال أي فتاة في العالم.."
قطبت الملكة شيئاً ما معلقة "لم أسألك عن (الزهراء) وعن القصر، فهما مطمح أي امرأة أو رجل في هذا العالم بالفعل.. ما أسألك عنه هو هذا الزواج.. أأنت سعيدة به؟.. هل تودين إتمامه بالفعل؟"
حافظت رنيم على ابتسامتها بصعوبة وهي تتساءل "ولم لا يكون ذلك يا مولاتي؟.. أهناك من لا تطمح للزواج من الأمير زياد؟"
مالت الملكة نحوها قائلة "حتى لو عاملك الأمير زياد بتعالٍ وفوقية؟.. ألا تشعرين بالسوء لاضطرارك احتمال تصرفاته المتعجرفة هذه؟"
ما زالت رنيم حائرة من مناورات الملكة اللفظية.. ما الذي تهدف إليه هذه المرأة بالضبط؟.. وبعد أن بحثت عن رد مناسب لمثل ذلك القول غير المتوقع، قالت رنيم بتهذيب "يحق للأمير التعامل بهذه الطريقة فهو ولي عهد عرش أعظم مملكة في عالمنا هذا.. لو كان الأمراء الأقل شأناً منه يفخرون بما يملكونه، فكيف لا يفعل ذلك الأمير زياد وهو من هو؟"
يبدو أن ردها أثار استياء الملكة التي قالت بضيق "وهل أحضرتك هنا لتشرحي لي مميزات الأمير زياد؟"
ظلت رنيم تنظر لها بغير فهم، فقالت الملكة بتقطيبة "اسمعي يا فتاة.. لابد أنك لاحظت أن الأمير زياد غير راغب بك، ولا يريد إتمام هذا الزواج.. لا يمكن لفتاة ألا تلحظ هذا من كلماته وتعليقاته.. لذلك أريد منك أمراً واحداً.."
ومالت نحو رنيم قائلة "أريدك أن تعلني رفضك لهذا الزواج.. اطلبي مقابلة الملك، وعندما تمثُلين أمامه أعلني عن عدم رضاك الارتباط بالأمير ورغبتك العودة لمملكة أبيك.."
رفعت رنيم عينيها بدهشة وصدمة، ثم قالت باضطراب "ولمَ لا يرفض الأمير هذا الزواج؟.. لابد أن كلمته مقبولة أكثر مني في هذا الشأن.."
قالت الملكة بحدة "الأمير لن يفعل ذلك.. فافعلي ما يطلب منك.. أستطيع أن أرى على وجهك الكئيب هذا أنك غير مسرورة ببقائك في القصر.. فلا تتعسي نفسك بهذا الأمر وأعلني رفضك بكل صراحة.."
خفضت رنيم رأسها مفكرة للحظة.. بدا لها واضحاً أن الملكة تخشى من رفض هذا الزواج أمام الملك، ويبدو أن الأمير زياد يخشى ذلك أيضاً.. فقد بدا لها بوضوح إصرار الملك على تزويج الأمير منها كما سمعت في اللقاء الوحيد الذي كان لها معه.. ألهذا تريد الملكة أن يأتي الرفض منها هي؟..
لم ترفع رنيم بصرها وهي تقول بصوت مرتبك "اعذريني يا مولاتي.. هذا أمر مستحيل بالنسبة لي.."
قطبت الملكة بشدة وهي تقول محتدة "ماذا تعنين؟"
التقطت رنيم نفساً قوياً لتشد عزمها، ثم قالت وهي تفرك يديها بشدة "لا أستطيع رفض الزواج من الأمير والعودة لقصر أبي.. هذا سيجلب عليّ نقمة الجميع، وستتضرر مصالح مملكة بني غياث بهذا كثيراً.."
ظلت الملكة تحدج رنيم بغضب.. كان رفضها فجائياً ولم يدر بخلد الملكة قط وهي تستدعيها لهذا اللقاء سابقاً.. كانت تظن أن رنيم ستذعن للأمر كعادتها منذ قدومها للقصر، فهي لا تملك الإرادة الكافية لمواجهة الملكة، كما أن عرضاً كهذا كفيل بإراحة رنيم التي بدت كارهة لوجودها في هذا القصر منذ البدء.. لكن ما لا تعلمه الملكة أن رنيم تخشى عودتها لقصر أبيها بشدة.. تخشى ما سيعلق به أبواها على هذا الأمر، وتخشى من نقمة المملكة عليها بعد أن ينقطع الخيط الذي كان سيُعقد بين المملكتين ولمدة طويلة..
انتبهت رنيم في تلك اللحظة لخطوات تقترب من طاولة الملكة دون استئذان كما يحدث عادة، ثم تعالى صوت الأمير زياد وهو يقول بعجرفة معتادة "ما الذي تفعلينه هنا؟"
انتبهت رنيم أنه يعنيها بهذا التساؤل.. وبينما لم تعلق الملكة على حديثه الخالي من اللياقة، فإن رنيم نهضت وأحنت رأسها له قائلة بصوت مبحوح "مولاتي الملكة قد استدعتني للحديث......"
قاطعها الأمير بنفاذ صبر وهو يجلس في كرسيها ملوحاً بيده "ارحلي من هنا.. أريد الحديث مع الملكة منفرداً.."
لم تملك رنيم الاعتراض وهي تنحني لهما من جديد وتستدير مغادرة بهدوء.. كانت تشعر براحة لانقطاع حديثها مع الملكة، لكن تصرف الأمير الذي تلى حديث الملكة القاسي كان كلطمة موجهة لوجهها جعلت قلبها يغوص في جوفها.. لكنها لم تظهر هذا وهي تخرج من الشرفة بصمت..
بعد مغادرة رنيم، وكاينا تتبعها كالمعتاد بصمت، انتبهت الأخيرة لتأفف الأمير زياد وهو يجلس جوار أمه قائلاً بحنق "متى سأتخلص من هذه التافهة؟"
لا تدري كاينا لمَ شعرت بالقلق لقوله، رغم أنها متأكدة أنه لم يحاول إخفاء تأففه وضيقه عن رنيم.. لكنها تحركت على الفور وطلبت من رنيم الممتقعة أن تمنحها مهلة صغيرة لأداء عمل مهم.. ثم هرعت تعبر ذلك الرواق وخرجت من أحد الأبواب الزجاجية التي تفضي للحديقة ومنها عبر سلالم حجرية يقف على جانبيها تمثالان لفتاتين تحملان جرتين.. وخلف أحد التمثالين، فإن كاينا انزوت وهي متأكدة أن موقعها يقع تحت تلك الشرفة العالية التي جلست فيها الملكة الأم.. تظاهرت كاينا بأنها تعالج حذاءها وهي تنصت بكل حواسها مدركة أن من في الشرفة لا يمكنهم لمحها.. لكن لا يزال خطر رؤيتها من جوانب أخرى من الحديقة قائماً..
في تلك اللحظة سمعت صوت الأمير زياد يقول "حتى متى؟.. لقد طلبتِ مني الصبر مدة طويلة.. لكني سئمت ذلك.. لماذا يفرض عليّ الملك الزواج من بلهاء تسكن قرية لا أهمية لها حتى لو كان والدها ملكاً؟.. هذه سخافة.."
أتاها صوت الملكة الأم وهي تقول بصرامة "أخبرتك أن تتعامل معها بشكل ينفّرها منك، لكن جهودك كانت بلا طائل فها هي ترفض الانصياع لطلبي.. الآن علينا البحث عن وسيلة جديدة أكثر فائدة.."
قال الأمير زياد باشمئزاز "أنا لم أعُد أطيق النظر لوجهها.. سأبلغ أبي رفضي لهذا الزواج جملة وتفصيلاً.. أنا رجل، ولن يمكنه أبداً أن يجبرني......."
ضربت الملكة مقبض الكرسي بقوة وهي تقول "بل سيفعل.. سيجبرك على الزواج منها فهو لن يكسر وعده أمام ملك بني غياث.. لذلك من الخير لنا العثور على وسيلة ملائمة للتخلص منها دون أن نقع في عواقب لا نريدها.."
قال الأمير زياد باهتمام "ما رأيك بأن ندسّ من يقتلها؟.. سنخرج بها من القصر وهناك سنرسل من يتخلص منها.. ثم ندّعي أن اللصوص قد قتلوها بغية الحصول على ما ترتديه من جواهر.."
قالت الملكة بضيق "ما هذه الخطة التافهة؟.. أنسيت وجود مجد؟.. لن يسمح لها بمغادرة القصر دون حراسة مشددة.. ثم إن موضوع اللصوص هذا لا يصل لحد القتل في (الزهراء).. مدينتنا من أأمن المدن في جميع الممالك.. كيف تتوقع من الملك أن يصدق كذبة رخيصة كهذه دون أن يشك بالأمر؟.."
قال الأمير زياد باعتراض "لكني أراها مقنعة.. لمَ لا نحاول تنفيذها؟.. دعي أمر مجد عليّ.. يمكنني شغله بأفضل الطرق.."
صمتت الملكة للحظات، ثم قالت بابتسامة جانبية "لا.. لازلت مقتنعة بتفاهة خطتك.. لكن جانب الشخص المدسوس عليها قد أعجبني.. لكن يمكنني استخدامه بوسيلة أفضل وأكثر فاعلية.."
نظر لها الأمير زياد بغير فهم، فمالت نحوه قائلة باهتمام "استمع لما أقوله جيداً.. وتأكد أنك لن تفشي سرّ ما سأفعله لأي شخص، حتى للجارية التي تقضي الساعات برفقتها كل ليلة.."
مال الأمير زياد تجاهها باهتمام شديد، بينما تلاعبت ابتسامة خبيثة على شفتي الملكة الأم وهي تضيف "خطة بسيطة هي، لكنها لن تفشل بالتأكيد.."
قطبت كاينا باهتمام بالغ وهي تقبض على يديها بشدة.. ومع كل كلمة تتفوه بها الملكة، فإن كاينا تتأكد لحظة بعد لحظة أن إحساس البغض الذي شعرت به منذ رؤيتها للملكة لم يكن خائباً أبداً..


*********************
سارت كاينا بخطوات سريعة عبر الرواق الذي يؤدي لجناح رنيم وهي تفكر بشكل محموم.. ما سمعته خطير جداً، وله عواقب وخيمة بالنسبة لرنيم.. لذلك لم تقدر على البقاء صامتة وتتعامل مع الأمر بحيادية.. هي عادة لا تتدخل في أي أمر، ولا تهتم لأمر أي شخص في هذا القصر ما عدا ما يخصّ الخادمات الأخريات من ذوات جنسها.. لكن لا تستطيع تجاهل ما يخططه هذان الإثنان لرنيم.. تلك الفتاة التي تجدها على شيء من الطيبة بشكل لم تشهده من قبل في القصر، قد أذابت حواجز كثيرة بينها وبين كاينا منذ عملها معها رغم قِصَر تلك المدة.. لأول مرة تجد كاينا من يتعامل معها كإنسان، وكفتاة، لا كمجرد خادمة لا أهمية لها ويمكن استبدالها في أي لحظة.. ربما لهذا السبب استاءت كاينا لما سمعته.. لهذا السبب ركضت عائدة للجناح لتنذر رنيم مما يحاك ضدها بكل دناءة من أشخاص لا تنقصهم الأموال ولا المناصب ولا الهيبة.. أشخاص استكثروا على الفتاة أن تعيش حياتها بصمت وسكينة.. وفور اقتحامها للجناح، وجدت رنيم تجلس في جانب المكان دون أن تستبدل ملابسها وهي منطوية على نفسها تحدق من النافذة بصمت.. انتابت كاينا شفقة على هذه الفتاة المسالمة والتي ترى في عينيها براءة وطيبة قد يجدها الآخرون سلبية وضعفاً..
التفتت رنيم عندما انتبهت لدخول كاينا، وقالت "هل أنهيتِ ما ذهبت لإنجازه؟"
اندفعت كاينا إليها بعد أن تأكدت من إغلاق باب الجناح، وقالت بصوت متعجل "بل كشفت أمراً حرصت الملكة الأم على إخفائه عن الآخرين.. لذلك جئت لتحذيرك قبل أن يتم تنفيذ ما خططت له الملكة مع الأمير زياد.."
واندفعت تغلق النافذة خشية وجود متلصص أسفلها، بينما نهضت رنيم واقتربت منها قائلة بحيرة "لا أفهم ما ترمين إليه يا كاينا.. ما الذي جرى في اللحظات التي غبتِ فيها عني؟"
قالت كاينا باندفاع "لقد شككت أن الأمير زياد يريد التحدث مع الملكة الأم لشأن يخصّك، وتوجست من ذلك الحديث خيفة.. لذلك اختبأت في موقع قريب وتنصّت على حديثهما.."
رفعت رنيم حاجبيها معلقة "هذا سوء تصرف يا كاينا.. لمَ تلجأ الخادمات للتنصت دائماً؟"
قالت كاينا منفعلة "أهذا ما يهم الآن؟.. ألا يهمك أن تعرفي ما تحدث فيه الإثنان بما يخصك؟"
أدارت رنيم وجهها جانباً للحظات، ثم قالت بتوتر "لا.. لا أريد معرفة ذلك، فهو لن يسرّني بحال.."
واستدارت مبتعدة، لكن كاينا أمسكت ذراعها لتوقفها قائلة "تجاهل الأمر لن يمنعه من الحدوث يا مولاتي.. الأمير زياد يخطط مع الملكة للتخلص منك.."
نظرت لها رنيم بشيء من الصدمة، ثم قالت بغير تصديق "ربما أسأتِ فهم حديثهما.."
قالت كاينا بعصبية "لا.. لقد تباحثا في أفضل الخطط للتخلص منك دون أن ينالهما غضب الملك.. سيلصقان بك تهمة تجعل الملك يطردك من قصره ويعيدك لأبيك دون أن يتمّ هذا الزواج.."
اتسعت عينا رنيم وهي تهمس بصدمة "ماذا تقولين؟"
قالت كاينا وهي تقبض على ذراعي رنيم وتشدّ عليهما "سيحاولان دسّ أحد الحراس الشباب في جناحك بعد أن يغرياه بالكثير من العطايا المجزية.. فإن لم يتمكن من إغوائك فلن يتردد في الاعتداء عليك بالقوة.. وعندها سيكشفان كونك غير عذراء للملك، وسيدّعيان وجود عشيق لك من بين الحراس في القصر.. وحتى لو اتهمتِ الحارس بما فعله فهو بعد أن ينجز مهمته سيُطرد من القصر ومن العاصمة بأكملها، ولن يمكنك إثبات أن ما حدث لم يكن برضاك.. عندها لن يجد الملك بداً من إعادتك لمملكة بني غياث بعد أن تتناقل الألسن ما سيحدث لك وتصبح فضيحة في أرجاء القصر والعاصمة بأكملها، وهو ما ستتأكد الملكة من حدوثه بأكبر صدىً ممكن.."
شحبت رنيم بشدة وهي تستمع لما يقال.. غلبتها نفضة شديدة والخادمة تقول بانفعال "عليك أن تفعلي شيئاً قبل أن يحدث ذلك.. غادري القصر قبل أن ينفذوا مخططهم القذر هذا، فلو لجأتِ للملك طالبة عونه لن يتردد الإثنان في تنفيذ خطة أخرى لا نعلم عنها شيئاً.."
تهاوت رنيم على كرسي جانبي في جناحها، وبدت مع شحوبها الشديد كأن الحياة قد فارقتها بالفعل.. فاقتربت كاينا منها قائلة بإلحاح "يجب أن نفعل هذا فور مغيب شمس هذه الليلة.. يمكنني تدبير كل الأمور لوحدي.. سأعثر على وسيلة لإخراجك من هذه المدينة وسأوفر بعض الحراس لحمايتك.. عليك فقط أن تجزلي لهم العطاء عند وصولك إلى........"
قاطعتها رنيم بيأس وصوت مرتجف "إلى أين؟.. أين سأذهب بالله عليك؟"
نظرت لها كاينا بدهشة، ثم قالت "ستعودين إلى قصر أبيك.. أليس هذا بديهياً؟"
أطلقت رنيم ضحكة مبتورة قبل أن تقول بعينين زائغتين "أبي سيقتلني بنفسه لو عدت إليه خائبة الوفاض ودون زوج.. هدفي من وجودي في الحياة هو في الزواج من ولي عهد مملكة بني فارس.. ولو لم يحدث ذلك، فأنا لا جدوى لي.. وموتي أفضل بالنسبة له من عودتي لقصره وتحمّل خذلاني له بهذه الطريقة المخزية.."
ثم وضعت رأسها على راحتي يديها هامسة بصوت يرتجف "أنا ضائعة تماماً.. فإلى أين أذهب؟"
ركعت كاينا قربها وهزتها قائلة "أليس لك أي رأي فيما يجري لك؟.. ألا تقدرين على مواجهة أبيك وإخباره بما انتوى الأمير زياد وأمه فعله بك؟.. قد يتفهم.. لا يمكن للملك أن يقبل بهذا على ابنته.."
غمغمت رنيم بمرارة "أنت متعاطفة معي أكثر مما قد يفعل أبي في حياته كلها.. عودتي لقصر أبي هو حكم عليّ بالموت.."
قالت كاينا بغير تصديق "هذه مبالغة.."
لم تعلق رنيم ودمعة تسيل من عينها وتسقط على ثوبها وهي تحدق بالنقوش الزاهية في السجادة تحت قدميها.. لقد وصلت لنقطة مسدودة ولم تعد قادرة على معرفة ما يمكنها فعله.. لطالما عاشت حياتها مسيّرة كما يشاء والدها الملك أو كما تحبّ أمها الملكة الثانية.. بل إن الملكة الأولى كان لها يد أيضاً في تسيير حياتها واتخاذ قراراتها عنها بينما لم تملك رنيم سوى الإذعان وتنفيذ خيارات لم تتخذها ولا تناسبها لكنها لم تعترض بكلمة يوماً.. وحتى إن اعترضت فإن الآخرين كانوا لا يأبهون لاعتراضها.. لذلك كان جلّ ما تملكه هو الهرب بخيالها.. لم تكن تهرب فقط من كآبة القصر وجدرانه الصماء.. بل كانت تهرب من ضعفها ومن خنوعها المخجلين.. تهرب لتحلم بأنها أكثر قوة وشجاعة مما هي بالفعل.. تحلم بأن تكون ذات شخصية جميلة تجذب الآخرين وتبهرهم.. أن تكون كصبيحة، الزوجة الثانية للملك قصيّ الأول جدها الأكبر، وهي امرأة عُرفت بقوتها وحكمتها وطيبتها الشديدة.. كانت فارسة لا يشق لها غبار في تلك الأوقات المضطربة التي صاحبت إنشاء مملكة بني غياث، وفي الآن ذاته كانت أماً رؤوماً اعتنت بصبي وفتاة يتيمين ليسا من صلبها بعد أن أدركت أنها لا تنجب.. لقد اشتهرت سيرتها واهتم كثير من الكتاب والمؤرخين بتدوينها مازجينها أحياناً ببعض المبالغات والخرافات التي تزيد حكايتها جمالاً وإبهاراً في عيني رنيم.. ولا تزال اللوحة التي تحمل صورتها، بدرع لامع فضي حاملة علم المملكة مرفرفاً وشعرها الأشقر يتطاير في الهواء، لا تزال تلك اللوحة معلقة في أهم قاعات قصر أبيها جوار لوحات تخص ملوك المملكة السابقين.. لكن للأسف، فإن رنيم لم تستطع أن تكون مثلها ولا تستطيع المحاولة حتى.. كل ما كانت تأمله أن تمضي حياتها دون أن تضطر للصدام مع أشخاص يفوقونها قوة وإصراراً.. وهو ما يكاد يحدث الآن في قصر الملك عبّاد..
تساقطت الدموع من عيني رنيم متتابعة وكاينا تقول "عليك اتخاذ القرار.. هل ستبقين في هذا القصر وتنتظرين غدر الأمير زياد؟.. أتظنين أن حالك سيكون أفضل بعد أن يلصق الأمير تهمته عليك وتعودين مكللة بالعار لقصر أبيك؟.. كوني قوية واتخذي قرارك بنفسك.."
لكن هذا مستحيل.. هكذا رددت رنيم لنفسها وهي تنهض متعثرة وتسير لسريرها العريض فترمي نفسها عليه وتدفن وجهها في وسائده بصمت.. من المحال أن تتخذ رنيم خطوة كبيرة كهذه.. من المحال أن تجد الشجاعة للهرب ومواجهة أبيها حتى لو كانت مظلومة.. دفنت وجهها في وسادة ناعمة الملمس، ورغم الرائحة العطرة التي تضوع من سريرها عادة، إلا أنها شعرت بغثيان شديد من كل ما تراه وتشمّه في هذا القصر.. أغمضت عينيها محاولة الهرب من واقعها الذي لطمها بشدة.. وشعرت بجدران القصر تكاد تطبق عليها، ولم يكن لها مهرب من هذه الكآبة التي حلّقت فوق رأسها..
شعرت بكاينا تقف قرب سريرها متنهدة بضيق لهذا الخنوع الذي أبدته رنيم، ثم دمدمت "ربما تنقلب حياتك رأساً على عقب هذه الليلة.. لنأمل أن تملكي الإرادة لاتخاذ التصرف الصحيح عندها.."
وغادرت بصمت مغلقة باب الجناح خلفها.. ورغم أن جملة كاينا كانت غامضة وأشعلت عدة تساؤلات في نفس رنيم، إلا أن صدمتها لما يخطط لها كانت حاضرة بقوة ومهيمنة عليها وهي تسلك السبيل الوحيد لتنسى هذه الصدمة.. ومهربها الوحيد كان في استغراقها في أحلام اليقظة وتناسي واقعها المؤلم الذي يزداد كآبة مع كل يوم يمضي..


*********************


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-12-15, 07:58 AM   #7

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



الفصل الخامس: مجرد أحلام


عمّ الظلام شبه الدامس تلك الليلة على القصر المنيف الذي يتجاوز حجمه حجم قرية صغيرة من القرى الفقيرة في المملكة.. ورغم مضيّ ساعات تلك الليلة وخلود أغلب سكانه للنوم، فإن بضع مواقع فيه ظلت ساهرة لشأن أو لآخر.. مثل تلك القاعة التي اجتمع فيها الأمير زياد مع نخبة من أصدقائه لا يقلّون عنه خبثاً وصفاقة، ودارت بينهم الكؤوس في جلسة ستطول عدة ساعات قبل أن يغرق بعضهم في النوم في مكانه بينما يغادر الأمير زياد لجناحه برفقة أحد الخدم وهو يترنح ويضحك لأقل كلمة.. وفي جانب آخر فإن الملك ظل ساهراً بدوره برفقة بعض وزرائه يتناقشون أمر الهجمات التي طالت قوافل تجارية خرجت من (الزهراء) نحو أحد الجوانب القصيّة من المملكة.. ومغزى مثل تلك الهجمات المتكررة في طريق اشتهر بأنه آمنٌ يسلكه التجار كل عام لتسويق بضائعهم..
في تلك الليلة، لم تكن رنيم قد غادرت سريرها سوى بعد المغيب لاستبدال ملابسها ولتناول بعض الطعام بعد أن أجبرتها كاينا على ذلك.. فمنذ صدمتها لما يخططه الأمير زياد لها، وهي محبطة ومكتئبة بحيث لا تملك الإرادة للجلوس ناهيك عن الخروج من جناحها أو مقابلة أي شخص من القصر.. وبالطبع لم يعبأ شخص لأمرها بعد رحيل نوران وهي الوحيدة التي أبدت اهتماماً صادقاً تجاهها، ومع انشغال مجد وعدم تمكنه من الاقتراب من جناحها لئلا يثير تصرفه الأقاويل في شأنها وشأنه..
ظلت رنيم منطوية على نفسها في سريرها وهي تجبر عقلها على أن يتوه في عوالم أخرى بعيدة عن القصر وعن (الزهراء) وعن المملكة كلها.. بعد أن فقدت كتبها، فإنها فقدت وسيلتها الوحيدة للهرب من الخيبات التي تحاصرها.. لذلك لجأت لخيالها الذي اتسع وتمدد مع الحكايات والكتب التي أدمنت قراءتها لسنوات طوال.. سرحت في عالم تكون فيه طليقة.. وربما تكون كإحدى تلك الكائنات ذوات الأجنحة تحلق في السماء بكل حرية دون أن يقيدها شيء للتراب.. استرسلت في خيالها حتى غرقت في النوم بالفعل ليتمدد خيالها في حلم طويل وجدت نفسها فيه..
كانت في الحلم كائناً يغزو الريش اللامع الأخضر جسده، بذيل طويل جميل وجناحان يلتمع ريشهما تحت ضوء الشمس.. كانت تحلق بكل سلاسة ونعومة، وترى (الزهراء) من تحتها كأنها رقعة صغيرة لا تتجاوز متراً واحداً ولا تكاد تلمح بشرياً من سكانها لعلوّها في السماء.. أدارت رنيم بصرها عن الأرض التي باتت تمقتها وحوّلت بصرها للغيوم التي تعلو رأسها وهي تحاول جاهدة الارتفاع فوقها.. رفرفت بجناحيها بقوة ودفعت نفسها حتى اخترقت جانباً من الغيوم وارتفعت فوقها لتبدو لها الشمس الوليدة في الأفق أشد لمعاناً من أي وقت مضى..
اتسعت ابتسامة رنيم كما لم تفعل من قبل، ولم تلبث أن تحولت إلى ضحكة عالية مليئة بسعادة لم تذقها منذ زمن.. رغم أنها مدركة أن هذا لا يعدو كونه حلماً، لكنه كان أجمل من أن تتمنى انتهاءه.. تمنت لو سجنت نفسها في هذا الحلم للأبد ولم تعُدْ لواقعها القاسي.. فليس في حياتها ما يدعوها للتلهف عليه أو البكاء على فقدانه..
قطعت ضحكتها عندما لمحت ظلاً أسود يعلوها.. وعندما رفعت رأسها بدهشة فوجئت بذلك النسر الضخم الذي انقض عليها بقوة.. تلقائياً، رفرفت رنيم بجناحيها جزعة وهي تدير نفسها جانباً محاولة الهرب دون أن تدرك السبب.. من أين ظهر هذا النسر الضخم بشكل المرعب؟.. أهو ينوي اصطيادها؟.. لكنها وجدت مخالبه الحادة تنغرس في كتفيها قبل أن تتمكن من الهرب وهو يجثم بثقله عليها، ومع ثقله، بدأت رنيم تهوي بقوة من ذلك الارتفاع والأرض تقترب منها بسرعة شديدة.. أطلقت صيحة فزع والمدينة في الأسفل تتقارب منها بسرعة وشدة حتى بدت لها المنازل والأبراج واضحة أشد الوضوح.. ورغم محاولاتها، لم تتمكن من الإفلات من النسر الذي زاد من ثقله عليها وكأنه يدفعها عامداً للأسفل.. وكأنه ينتوي إجبارها على السقوط والارتطام بالأرض بأعنف ما يمكن.. ورغم صرخاتها، إلا أن رنيم أدركت أن نهايتها قادمة لا محالة..
وقبل أن تلامس الأرض، استيقظت جزعة وقلبها يدق بقوة.. واستغرق الأمر منها بضع لحظات لتدرك أنها لا تزال في جناحها المظلم في القصر.. فهمست لنفسها وهي تتأمل الظلام الدامس من حولها "يا له من حلم مقبض.. ما الذي يعنيه يا ترى؟.."
مسحت قطرات عرق احتشدت على جبينها عندما سمعت صوتاً خافتاً قرب سريرها.. رفعت بصرها بشيء من الدهشة بعد أن اعتادت عيناها على الظلام لترى خيالاً أسود طويلاً يقف وسط الجناح عند قدم سريرها.. لوهلة ظنت أنها لا تزال غارقة في ذلك الحلم الكئيب، لكن حركة حادة من ذلك الظل نحوها وهو يدفع يده تجاهها بشيء ما جعلتها تتراجع بحدة حتى ارتطم رأسها بالإطار الخشبي المذهب للسرير بأطرافه البارزة الحادة.. ومع الألم الذي نبض من مؤخرة رأسها، ومع التماعة ذلك السيف العريض الذي وجّهه الظل ناحيتها وكاد يلامس طرف أنفها، فإن رنيم انتبهت من نومها بشكل كامل وندت عنها صرخة حادة عالية حملت رعباً عارماً في ثناياها.. ومع صراخها، كان من المفترض أن تقضّ مضجع القصر الساكن في عتمة تلك الليلة.. لكن ذلك لم يحدث البتة ولم يبدُ أن أحداً سيهبّ لنجدتها، بينما بدرت من الظل الطويل كلمات حانقة بصوت عميق أثار فزعها أكثر قبل أن يمد يده ويزيح الستار الذي يحجب نور القمر الباهت عن المكان.. ومع النور الخفيف الذي أضاء أرجاء المكان، فإن ارتجافة رنيم قد تحولت نفضة عارمة وهي ترى بوضوح هوية ذلك الظل، وتتبين فيه رجلاً لم تره من قبل في القصر.. ثم سمعته يقول بصوت خشن ولكنة ثقيلة زادتها رعباً "أين جايا؟.."
رفعت بصرها له برعب بالعة ريقها بصعوبة.. كان الظل لرجل طويل عريض الكتفين بجسد ممشوق ووجه لوّحته الشمس بشدة.. ملامحه جافة وعيناه حادتان زادتاها رعباً وحاجباه المنخفضان ألقيا ظلالهما على عينيه السوداوين بحيث بدت نظراته مبهمة غامضة.. بوجهه غير حليق بينما أرسل شعره الأسود الطويل في ظفيرة على ظهره.. وثيابه هي مزيج من قماش قطني بلون داكن وسترة جلدية وحذائين من جلد مدبوغ بلون بني يصل لأعلى ساقيه وقد لفّ فوقهما شرائط من قماش سميك ثبتهما على قدميه بإحكام..
عاد الرجل يكرر السؤال على رنيم التي لم تتمالك ذهولها من هذا الهجوم على جناحها الواقع وسط القصر بغفلة من حراسه، ولما لم يجد إجابة لتساؤله عاد يلوح بسيفه العريض نحوها صائحاً بشيء من الحدة "أين جايا؟.. أجيبي.."
انتفضت رنيم واقفة بذعر وهزت رأسها بشدة دلالة عدم المعرفة أو عدم الفهم.. هل يبحث عن شخص ما أم عن شيء ما يسمى جايا؟..
في تلك اللحظة سمعت كلمات بصوت متوتر صدرت من باب جناحها، ثم رأت كاينا خادمتها الوفية وهي تهرع نحو الرجل وتجادله بشيء من العصبية.. ظلت رنيم تراقبها بذهول وعدم استيعاب.. مع هيئة ذلك الرجل الغريبة والمرعبة، ومع وجوده الأشد غرابة في هذا الوقت وهذا المكان، فإن خادمتها لم تظهر دهشة للأمر ولا خوفاً من ذلك الغريب، بالإضافة لتحدثهما بلغة واحدة لم تفقه رنيم منها حرفاً..
لاحظت أن الرجل ألقى عليها بنظرة حانقة بينما استمرت كاينا تحدثه بعصبية.. لكنه ألقى عدة كلمات حازمة عليها قبل أن يجذب رنيم من ذراعها بشدة متجهاً لباب جناحها.. جذبت رنيم ذراعها بقوة وهي تهتف برعب "أطلقني.."
حدجها الرجل بنظرة سبّبت لها نفضة قوية وشدد قبضته على ذراعها قائلاً بحنق "اصمتي.."
عاد يجذبها خلفه من جديد دون أن تُجدي مقاومتها المستمرة في منعه من ذلك، بينما سارعت كاينا تتبعها قائلة "لا تقلقي.. إنه لا ينوي لك شراً.."
التفتت إليها رنيم قائلة بنبرة مرتعبة "أتعرفين هذا المتهجم؟.. كيف دخل القصر وسط الحراسة المشددة؟.."
لم تكد تتم جملتها عند مغادرتهم جناحها حتى رأت في الرواق الواسع ما سبب لها صدمة شديدة.. فعلى ضوء المصابيح المتناثرة بشكل مدروس في الرواق القريب، رأت رنيم عدداً من الأجساد الملقاة أرضاً والدماء التي لطخت الجدران والأرضية دليل واضح لما جرى بغفلة منها.. غطت رنيم فمها بيد وهي تهمس "هل قتلتهم جميعاً؟.."
أسرعت كاينا تقول "ليسوا موتى.. فلا تقلقي.. أغلبهم نجا من الموت بأعجوبة.."
انتبهت في تلك اللحظة للأنين الصادر من بعض تلك الأجساد، وبدا لها أن إصاباتهم لا تبدو قاتلة، لكنها كافية لتعطيلهم.. زادت رنيم من مقاومتها لمختطفها على أمل أن يهبّ أحد الحراس لنجدتها، وصاحت بصوتٍ عالٍ وهي تجذب ذراعها "أنقذوني.. ليساعدني أحدكم.."
لكن من رأته يقترب من مختطفها من الجهة الأخرى للرواق لم يكن حارساً جلّ همه إنقاذها، بل رجلان لا يختلفان كثيراً عن مختطفها في الشكل والزي والسيف العريض الذي يخلو من أي زينة أو غمد.. قلّبت رنيم بصرها فيمن حولها بصدمة وهي تسمع الحوار الذي دار بين الثلاثة، وقد بدأت تدرك أبعاد ما جرى في القصر في غفلة من الجميع.. لم يكن ذلك تسللٌ قام به رجل واحد، بل هجوم قامت به جماعة لا تعلم رنيم عدد أفرادها.. جماعة نجحت في التغلب على تحصينات القصر وأسواره بوسيلة ما وتخلصت ممن يواجهها من الحراس والآن قد تمكنت من القبض عليها لسبب لا تفهمه..
التفتت رنيم إلى كاينا القريبة قائلة بصدمة وغضب "أأنت سبب كل هذا؟.. هل سهّلت لهؤلاء المتوحشين التسلل للقصر والتنكيل بمن فيه بكل حقارة؟.."
رفعت كاينا رأسها قائلة "لست أنا الحقيرة وأنا التي اختُطفت وأُجبرت على الخضوع لأصحاب هذا القصر بكل ذِلّة.."
قالت رنيم بنظرات قلقة "وهؤلاء؟.. أهم من الرعاع أيضاً؟.."
رمقها الرجال الثلاثة بشيء من الحدة بينما قالت كاينا بحزم "أنتم من أطلق علينا هذا اللقب.. لكننا لسنا رعاع.. نحن الهوت ونفخر بذلك.."
استدار الرجل الأول إليها مشدداً قبضته عليها وقال بحدة "كفى جدالاً.. لن أطلقك حتى أعرف ما فعلتموه بجايا.. أين هي؟.."
قالت رنيم بقلق "لكني لا أعلم من هي جايا ولا أين هي.. أطلقني أرجوك فلا شأن لي بأي شيء.."
سارعت كاينا تقول "هي بالفعل لا تعلم شيئاً.. لقد جاءت للقصر منذ وقت قصير ولا تدري بأي شيء جرى فيه سابقاً.."
صاح الرجل بكاينا بغلظة "كيف لا تعلمين أنتِ من أمر جايا شيئاً؟.. ما الذي كنت تفعلينه في الأشهر الماضية؟.."
قالت كاينا بتوتر "لقد فقدتُ أثرها منذ أيامٍ عدة.. وحريّ بسؤالي عنها أن يجذب الأنظار إليّ.. لكني لم أتوانَ عن البحث عنها بكل ما أملك دون أن أكشف من أمرنا شيئاً.."
وإزاء نظرات الرجل الحادة أضافت بسرعة "كل ما يمكنني تأكيده أن آخر من خدمته كان الأمير زياد.."
غمغم الرجل بحنق "زياد؟.. ذلك الوغد.. لن يفلت من يدي مهما اختبأ أو هرب.."
نقلت رنيم بصرها بينهم ثم قالت بتوسل "ها أنت تدرك ألا علاقة لي بهذا الأمر.. فأطلقني أرجوك.."
قبل أن يجيبها الرجل سمعا صياحاً من رجل آخر بتلك اللغة الخاصة بالهوت توتر لها الرجال جميعاً.. وصاحب ذلك صوت بعض البنادق يندلع في أرجاء أخرى من القصر.. وسرعان ما بدأ الرجال يتراجعون رغم الحنق على وجوههم، وبالمثل تبعتهم كاينا دون تردد.. عندها وجدتها رنيم فرصة للهرب من قبضة ذلك الرجل الذي انشغل عنها للحظات، فجذبت ذراعها بقوة واستدارت هاربة بأسرع ما تستطيع.. لكنها لم تكد تبتعد حتى فوجئت به يلحقها بخطوات واسعة ويضربها بقوة على ظهرها أسقطتها أرضاً.. عندها سارع للوي ذراعيها خلف ظهرها ثم قيّد يديها بشدة بحزام ثوبها القطني.. صاحت رنيم وهي تقاومه "ما الذي تبغيه مني؟.. ماذا تنوي فعله بي؟.."
قال الرجل وهو ينهضها واقفة "أنت زوجة زياد.. ألستِ كذلك؟"
اتسعت عينا رنيم بقلق محاولة إدراك مغزى قوله، لكنها فوجئت به يحملها ويضعها على كتفه بخفة كأي جوال قمح، وسرعان ما لحق بالبقية دون إبطاء.. فصاحت رنيم وقاومت بشدة وهي تحاول الإفلات من قبضته القوية ومن مصير تخشاه بشدة.. كانت تجد أنها تتعرض للاختطاف وسط القصر وعلى مرأى من حراسه دون أن تجد من يمد يده لمعاونتها.. فأين اختفت الخادمات وبقية الحرس؟.. وأين الأمير زياد، زوجها المستقبلي؟.. بل أين اختفى مجد الذي كان عوناً لها منذ قدومها ووعدها أنه سيحميها دائماً؟..
وجدت أن الجمع الصغير قد اتجه لأبواب زجاجية تؤدي لشرفة واسعة مرتفعة تتجاوز حجم الشرفات العادية.. ووسطها، وعلى ضوء القمر، لاحظت رنيم تلك الأعين الملتمعة كأعين الهررة بلونها الأخضر المشع بينما تدلى اللسان الطويل من الفم الواسع بأنيابه الحادة.. شهقت رنيم بشدة وهي ترى تلك الكائنات رأي العين للمرة الأولى، فرغم معرفتها بها إلا أنها لم ترها سابقاً إلا في بضع لوحات مرسومة متناثرة في عدد من أروقة القصر.. لم تكن تلك الكائنات التي انتصبت وسط الشرفة، وعددها لا يقل عن خمس، إلا تنانين على شيء من الضخامة.. وقد التمع جسدها على نور القمر الشحيح وبعضها مغطىً بحراشف سميكة، بينما فردت أجنحتها العريضة التي تشبه أجنحة الخفافيش وحركتها بقوة دافعة الهواء بصوت واضح أيقظ رنيم من ذهولها..
ركلت رنيم وصرخت بشدة لدى رؤيتها تلك التنانين التي وقفت بتململ وهي تصدر فحيحاً من أفواهها بتهديد واضح.. لم تكن تحلم بلقاء هذه الكائنات يوماً، ولم تكن تعرف عنها إلا ما قرأته في متون الكتب في مكتبة أبيها الضخمة، وكل ما عرفته أنها تعيش في الجانب الشمالي من القارة العظمى حيث الجو أكثر برودة، وحيث تؤمن لها الجبال العالية مأوىً يناسب طبيعتها المتوحشة.. والآن تراها وتقترب منها في هذه الظروف الصادمة وفي لحظة اختطافها قسراً من أشخاص لا تعرفهم ولسبب تجهله تماماً.. لكن الرجل الذي يحملها شدّد قبضته عليها وهو يقترب من أحد أشرس التنانين مظهراً بلون أبيض وأطراف حمراء، جلده ثخين يكاد يخلو من الحراشف التي كست أجساد بعض التنانين الأخرى، وعيناه خضراوان لامعتان فوق أنف طويل ينتهي بفم مدبب بأسنان صفراء حادة.. لاحظت رنيم نوعاً من اللجام البدائي في فم التنين وسرج غريب الشكل على ظهره، ويعلو طرفا السرج الأمامي والخلفي أكثر من المعتاد ليمنحا الراكب ثباتاً أكبر.. تلفتت رنيم حولها برعب وارتباك بحثاً عمن ينقذها، لكن القصر بقي هادئاً بشكل مريب، بينما امتطى الرجال الذين سبقوهما ظهور التنانين الأخرى وكل منهم يردف خلفه إحدى الخادمات اللواتي ينتمين للهوت.. وانتبهت رنيم لعدد آخر من تلك الكائنات تحلق في الجو ولا يكشفها إلا نور القمر الشاحب..
سمعوا في تلك اللحظة خطوات راكضة من خلفهم لعدد من الأشخاص، وسرعان ما ظهر عدد من الحراس من بوابة تلك الشرفة حاملين بنادقهم بتأهب يتقدمهم مجد الذي صاح "قفوا واستسلموا حالاً.. الحراس يحاصرونكم من جميع الجهات.."
تلفتت كاينا بتوتر لتلاحظ جمعاً آخر من الحراس يقف في جوانب الحديقة وفي الشرفات الأخرى موجهين بنادقهم تجاه الدخلاء بتحذير واضح.. ولدى رؤية مجد، صاحت رنيم بهستيرية "أين كنت يا مجد؟.. كيف يتم اختطافي بكل بساطة من القصر وأنت موجود؟.."
قال مجد بحزم وهو يتقدم "لم أكن لأسمح بذلك.. كنت فقط أؤمّن الملك وعائلته قبل قدومي إليك.."
شعرت رنيم بشيء من المرارة لقوله.. طبعاً الملك وأفراد عائلته أهم منها، وما سيجري لها سيحتل المرتبة الثانية من اهتمامات مجد وحراس القصر.. لماذا لا تشعر بأي صدمة لهذا؟..
توقف مجد عن تقدمه فجأة عندما أنزل المختطف رنيم من على كتفه بعنف ووجّه سيفه العريض إلى عنقها بتهديد واضح.. دار مجد ببصره في الرجال والخادمات أمامه للحظة، ثم قال بحزم "لو حاولتم الهرب فلن نتردد في إطلاق رصاصات بنادقنا عليكم.."
قال الرجل بسخرية "ألا يهمك أمر الفتاة؟.."
قطب مجد بينما أضاف الرجل بصرامة "لو أردت استعادتها فأعد جايا إلينا.. هذا هو شرطنا الوحيد.."
كان دور مجد لتنتابه الحيرة وهو يتساءل "ماذا تعني؟.. من هي جايا؟.."
صاح الرجل بحدة "لا تتظاهر بالغباء.. فهذا لن يجعلني أكثر تسامحاً في معاملة هذه الفتاة.."
سمعوا أحد رجال الهوت يجادل الأول بشيء من العصبية، دون أن يخفف الأول نظراته الحادة والحازمة التي وجهها لمجد وحراس القصر.. وقبل أن يتصرف أحد الحرس بحركة، أصدر أحد التنانين زمجرة قوية نحو الحراس صاحبها فحيح من آخر أثار الفزع في قلوبهم وجعلهم يتراجعون خطوات تاركين مجد يقف في موقعه بمفرده.. ولم يكد الحراس يستعيدون ثباتهم حتى فوجئوا بالرجل يرمي رنيم على ظهر التنين القريب ويقفز خلفها بدوره جاذباً العنان بقوة، لينطلق التنين على الفور بعد أن زمجر بتحذير شديد.. ووسط صراخ رنيم المرتعبة، فإن مجد الذي كان الأسرع حراكاً ركض بسرعة متجاوزاً المسافة البسيطة التي تفصله عن الدخلاء، ثم قفز بأقوى ما يملك ليتعلق بساق التنين الذي يحمل الفتاة.. وبينما أطلق التنين صيحة غاضبة وهو يواصل ارتفاعه، فإن مجد زاد من تشبثه بالتنين وهو يحاول رفع جسده عالياً.. لكن الرجل سارع لركل مجد بغير ترفق حتى أسقطه من ذلك الارتفاع الذي لا يقل عن خمسة أمتار وسط نظرات رنيم المرتعبة..
سقط مجد سقطة مؤلمة رغم محاولته تخفيف سقطته تلك، وقبل أن يعتدل سمع أحد الحراس يصيح بالبقية "أطلقوا الرصاص على التنانين.. امنعوها من الهرب.."
بدأ الحراس في إطلاق رصاصات بنادقهم على التنانين بتوتر كبير بينما نهض مجد قابضاً على ذراعه اليمنى التي اشتعلت بألم حارق، وصاح في رجاله "حاذروا من إصابة الأميرة.."
كانت الرصاصات غير مجدية في التصدي للتنانين التي نجح جلدها السميك المغطى بالحراشف في تخفيف تأثير الرصاصات وصدّها في بعض الأحيان.. وبينما حاول راكبوها تفادي ذلك السيل المنهمر من كل الاتجاهات، فإنهم فوجئوا بصوت مدفع يدوي من جانب القصر قبل أن يلمحوا طلقة مشتعلة تطير تجاههم شاقة السماء المظلمة.. تفادت التنانين تلك الطلقة بصعوبة ليجدوا أن طلقات أخرى بدأت تتبعها بغزارة وقد أضاءت جانباً من الظلام المهيمن على القصر والسماء..
صاح الرجل الذي اختطف رنيم بالبقية وهو يناور طلقة كادت ترتطم بصدر التنين "يكفينا هذا.. لنتراجع في الوقت الحالي.."
وجذب العنان في يده ليرتفع بالتنين بسرعة فائقة وحركة بدت مجنونة لرنيم التي صرخت بشدة وهي لا تصدق ما يجري لها.. ووسط شهقاتها المرتعبة، فإن الأرض تضاءلت أمام عينيها بسرعة كبيرة بينما الطلقات المشتعلة ما تزال تشق السماء نحوهم.. ومع طيران التنين بحركات خطرة، تزايد شعور رنيم بأن جسدها يكاد يفقد توازنه حيث ألقاها الرجل على بطنها فوق التنين دون أن يفك قيد يديها ليسمح لها بالتشبث بالسرج.. وإزاء منظر كهذا، وانفعالات عنيفة كالتي مرت بها، لم تجد رنيم ما تفعله أفضل من أن تفقد وعيها في محاولة للهروب من ليلة أثارت رعبها بلا حدود..


*********************
بعد وقت طويل، والأمير زياد قد استنفذ كل الصبر عنده حيث اختبأ مع بعض الحرس في أحد الأجنحة القصيّة من القصر، رأى مجد يدلف الجناح بذراع مجبرة بشكل بسيط ومعلقة في عنقه برباط قوي.. فقال زياد بتقطيبة "ما الذي جرى؟.. هل نجحت في التخلص من أولئك الدخلاء؟"
زفر مجد قائلاً "لقد غادروا بالفعل.. لكنهم قد استعادوا جميع الفتيات اللواتي جلبهن الملك من الهوت.."
قال زياد بحنق "كيف يحدث هذا في قصر أعظم ملك في الدنيا؟.. هذه وصمة عار علينا، وعليك أنت بالذات وأنت المكلف بحراسة هذا القصر وأصحابه.."
قال مجد خافضاً رأسه "أعلم ذلك يا مولاي.. لكنني أشدد الحراسة على القصر كل ليلة لتفادي أي هجوم من الخارج.. ولم أتوقع يوماً أن يبدأ الهجوم من الداخل، بواسطة هاته الفتيات اللواتي يعلمن مداخل القصر ومخارجه.. كما أنني لم أتوقع يوماً أن يتركز الهجوم على القصر من الأعلى.."
قال زياد بحدة "هذا لن يعفيك من العقاب بتاتاً.. نحن في حالٍ يرثى لها بسببك.."
قال مجد دون أن يقابل عيني زياد بعينيه "هناك أمر آخر يا مولاي.."
سأله زياد بجفاء "ما هو؟.. هل سرق أولئك الرعاع شيئاً من القصر؟.. سيكون ذلك متوقعاً.."
أجاب مجد بتوتر "لا.. لكن أحدهم قام باختطاف مولاتي رنيم.."
نظر له زياد مقطباً، بينما أضاف مجد "لقد تحدث المختطف عن فتاة اسمها جايا.. وطالب بإعادتها.."
قال زياد رافعاً حاجبيه "آه.. تلك الفتاة؟.. لقد اختفت منذ مدة طويلة.."
فقال مجد "عليّ أخذ فرقة من الجنود واللحاق بهم قبل أن يبتعدوا عن (الزهراء) كثيراً.. ربما أستطيع إجبارهم على الهبوط بتلك التنانين بوسيلة ما، وعندها......."
قال زياد بجفاء "لا تتعب نفسك.. لا يهمني ما يجري لتلك الفتاة.."
نظر له مجد بدهشة وعدم استيعاب، ثم قال "مولاي.. إن مولاتي رنيم....."
قال زياد بحدة "أخبرتك أن تنسى أمرها.. ألا تفهم؟.. سلامتي وسلامة الملك أهم من تلك التافهة.."
ثم استدار مبتعداً وهو يدمدم "هذه فرصة أتتني من السماء للخلاص منها.. والآن يتوقعون مني أن أحاول جهدي لاستعادتها؟.. هذا أمر مضحك.."
تبعه مجد قائلاً بإلحاح "مولاي.. لا يمكنني التخلي عن مولاتي رنيم.. عليّ استعادتها قبل أن يفعل بها أولئك الرعاع شيئاً.. لو أصابها أي مكروه، فإن الملك قصيّ لن يصمت على هذا.."
قال زياد باستهزاء "الملك قصيّ؟.. وما الذي يمكن أن يفعله ذلك التافه تجاه مملكتنا العظيمة؟"
ثم أضاف ضاحكاً "أراهنك أنه سيسارع لإرسال ابنة أخرى لاستبدال تلك التي فشلت.. فلا يمكنه أن يفرّط في علاقات مملكته البائسة بنا بسهولة لأجل فتاة.."
لم يكن رد فعل الأمير زياد مفاجئاً لمجد، ولم يكن توقعه عن رد فعل الملك قصيّ بمستغرب.. فكما قالت رنيم مراراً، أهمية وجودها في الحياة هو في نجاحها فيما سيقت له.. وفشلها يجعلها لا تستحق اهتماماً من أحد.. أيمكن لحياتها أن تكون أكثر جفافاً وقسوة رغم ما يحيط بها من نعيم؟..
وقف مجد وسط الجناح مقطباً بشدة، ثم قال بلهجة حازمة "عذراً يا مولاي.. بعد أن أتأكد من تخلصنا من الدخلاء، سأذهب على رأس فرقة صغيرة من الجنود لاستعادة مولاتي رنيم.. هذا واجبي، وما حدث لها كان بسبب تهاوني.. لذلك......"
قاطعه صياح زياد بغضب "ماذا تعني؟.. أتعصي أوامري؟"
قبل أن يعترض مجد بكلمة، جاءه صوت الملكة سليمة وهي تقول بصرامة "عصيان أوامر الملك أو ولي عهده كفيل بجعلك في مصاف الخونة يا مجد....."
نظر مجد للملكة التي اقتربت منهما بتقطيبة وهي تضيف بصرامة "وأنت تعلم عقوبة الخيانة جيداً.. أليس كذلك؟"
قال مجد بضيق "وهل الحفاظ على سلامة أحد أفراد العائلة المالكة يحسب خيانة؟"
أطلق الأمير زياد ضحكة ساخرة والملكة تضيف بابتسامة جانبية "تلك الفتاة لم تكن، ولن تكون جزءاً من العائلة المالكة.. وبعد ما جرى لها الليلة، فإنها لم تعد بمكانة تسمح لها بالتشرف للانضمام لعائلة الملك عبّاد.. لذلك لا تتعب رأسك بأمرها كثيراً.."
خفض مجد رأسه بضيق شديد، أهو ذنبها أنها اختطفت من قصر الملك وسط الحراسة المشددة؟.. ثم قال محاولاً الثبات على موقفه "مع احترامي لك ولولي العهد يا مولاتي، لا يمكنني بتاتاً أن........"
قاطعه صياح من جانب الجناح وأحد الخدم يقترب مسرعاً من الملكة صائحاً "مولاتي.. مولاي.."
التفتت إليه الملكة قائلة بضيق "ما الأمر؟.. لمَ هذا الصياح المزعج؟"
قال الخادم وهو يشير خلفه بفزع ظاهر "مولاي الملك عبّاد.. إنه.... إنه......."
لم يكن الأمر بحاجة لتفصيل ومجد يركض دون إبطاء نحو الغرفة الداخلية في الجناح حيث الملك، ولم يلبث الأمير زياد والملكة أن تبعاه بتوتر كبير.. يبدو أن هذه الليلة لن تنتهي برحيل الدخلاء واستتباب الأمن في قصر الملك الواسع..


*********************
عندما استيقظت رنيم، بعد وقت لا تعلمه، وجدت نفسها راقدة على أرض عشبية باردة مبللة بالندى الذي تسلل لثياب نومها القطنية.. وأول ما رأته، بعد أن فتحت عينيها، هو ذلك الوجه الضخم بأنيابه البارزة الغارقة بالدماء والعينان الخضراوان الملتمعتان.. شهقت رنيم بذعر كبير وهي تنهض مفزوعة لذلك المنظر، وقبل أن تطلق صرخة ذعر لمرأى ذلك التنين قريباً منها، اقتربت منها كاينا بسرعة قائلة "لا تخافي.. إنه لن يؤذيك.."
صاحت رنيم برعب وهي تتراجع زاحفة "ألا ترينه؟.. ألا ترين الدم الذي يسيل من شدقيه؟"
قالت كاينا مبتسمة "لقد تناول وجبته قبل قليل.. لذلك لن يفكر بإيذائك ما لم تفزعيه بصراخك.. لم أتوقعك بهذا الجبن يا رنيم.."
نظرت رنيم للتنين بتوتر كبير، ثم نظرت لكاينا بدهشة لدى سماع اسمها.. فأكدت كاينا قولها معلقة "لم أعد أعمل في القصر ولستِ سيدتي.. لذلك يحق لي أن أناديك باسمك.. أليس كذلك؟"
قالت رنيم بصوت مرتجف "كيف؟.. كيف تفعلين هذا بي؟.. أنا لم أسئ إليك قط، ولم أعاملك كما يفعل الآخرون.. فلماذا تعاقبيني بهذه الطريقة؟"
قالت كاينا بأسف "لم أهدف لعقابك، ولم أكن أتمنى أن يحدث هذا لك.. لكن بعد أن عجزنا عن العثور على جايا، فإن ذلك الرجل خشي أن ينتقم الملك منها بسبب هروبنا.. لذلك كان اختطافك ضماناً لئلا يصيب جايا أي ضرر، وليتمكن من مبادلتك بها عندما يحاول الملك استعادتك.."
دارت رنيم ببصرها في المجموعة حولها من الرجال ومن الفتيات اللواتي كن يخدمن في قصر الملك.. ثم قالت بصوت مرتجف "ومن هي جايا؟"
نظرت كاينا للرجل الذي اقترب منهما قائلاً بحزم "أهذا وقت تفسير الأمور؟.. علينا الرحيل.. فرقة من الجنود تقترب من موقعنا.."
نهضت كاينا بتوتر، بينما راود رنيم شيء من الأمل أن تتمكن من التحرر من مختطفيها هؤلاء.. لابد أن يكون مجد على رأس تلك الفرقة من الجنود بحثاً عنها، فلا تشك أنه الوحيد الذي سيسعى خلفها من (الزهراء) كلها..
اقتربت كاينا من الرجل قائلة بلغة الهوت "ما الذي ستفعله الآن بعد هذه الحماقة التي ارتكبتها؟.. هل ستأخذ الفتاة للقرية حقاً؟"
قال الرجل مقطباً "هذا كل ما يمكنني فعله.. لا يمكنني البقاء معها في العراء ولا أضمن ألا يستعيدها الجنود قسراً مني.. عليّ أن أستعيد جايا مهما كانت الوسيلة.."
قالت كاينا محتدة "ليس بهذا الأسلوب.. ألا تعرف حقاً ما سيفعله أهل القرية عند رؤيتها؟.. أنت لا تستطيع ضمان سلامتها في القرية أكثر من أي موقع آخر.."
قال بشيء من الضجر "لا داعي لهذا التذمر.. أخبرتك أنني واثق مما أفعله.."
لوحت كاينا بإصبعها في وجهه قائلة بصرامة "هذه الفتاة الطيبة لا تستحق أي شيء مما جرى لها.. ولو أصيبت بأي مكروه، فلن أسامحك على ذلك بتاتاً.."
لم يعلق الرجل على قولها وهو يقترب من رنيم ويجذب ذراعها قائلاً "هيا بنا.. سنغادر في الحال.."
جذبت رنيم ذراعها وهي تقول بصوت متوسل "استمع إليّ.. أنا لن أفيدك بشيء.. الأمير زياد يرغب بالتخلص مني ولن يهتم لأمري بتاتاً.. أخطأت بخطفي أنا من بين جميع من في القصر.."
قال الرجل بتقطيبة "أتظنين أنك ستخدعينني بهذا القول؟.."
صاحت وهو يجبرها على النهوض "أنا لا أكذب.. استمع إليّ.. لا تعوّل على أهميتي لدى الملك أو الأمير زياد.. فأنت ستكون الخاسر في النهاية.."
لكن الرجل لم يعبأ لاعتراضها وهو يقترب بها من التنين الذي لعق بلسانه الطويل ما سال على فكه من دماء، وبدت لها أنيابه الصفراء ضخمة وواضحة أشد الوضوح.. حاولت رنيم التنصل من قبضة الرجل وهي تهز رأسها بقوة صائحة "أرجوك.. لا تفعل هذا.. ستندم على هذا.."
جذبها الرجل بشدة وهو ينظر لها بغضب قائلاً "أتهددينني؟"
هزت رأسها بقوة وذعر من نظراته الحادة، فيما قال بحدة "أتظنين أنك في موقع يسمح لك بتهديدي؟.. أنت بلهاء.."
غمغمت رنيم بتوسل "لم أعنِ ذلك.. عنيت أنك لن تستفيد من هذا الذي تفعله.."
لكنه جذبها رغم توسلاتها ورفعها عنوة ليضعها فوق السرج على ظهر التنين، ثم امتطى ظهر التنين بدوره خلفها بينما انكمشت هي بشدة وهي تتلفت حولها بحثاً عمن يمكن أن يقف في صفها، وتقلب بصرها في الأفق ترقباً لقدوم فرقة الجنود.. لكن كاينا، كما كانت بقية الفتيات، كن قد تجاهلنها بشكل تام وكأن ذعرها وثورتها بغير سبب مفهوم.. بينما لم يبدُ لجنود الملك أي أثر في أي موقع قريب..
وبكلمة واحدة، حذرها الرجل بحزم "تمسكي.."
لم تملك رنيم الاعتراض وهي تتشبث برأس السرج العالي أمامها، وبحركة حادة ارتفع التنين بقوة مرفرفراً بجناحيه والهواء يندفع بقوة حولها بحيث أغمضت عينيها بذعر مستسلمة للانفعالات التي عصفت بها..
التفت الرجل حوله للحظات، ثم قال لرفاقه الذين تبعوه على التنانين الأخرى "لنذهب قبل قدوم الجنود.. لن نتوقف قبل الوصول للقرية.."
لم يعترض أحدهم بكلمة وهم يدفعون التنانين للتحليق متخذين وجهة واحدة يعرفونها تمام المعرفة.. رغم أن الهوت يوصفون بالرعاع من بقية شعوب العالم، ورغم ما يبدو عليهم من عدم تحضر وجهل، إلا أنهم يملكون وسائلهم الخاصة في ترحالهم وفي تطويع تلك الحيوانات التي عجزت شعوب العالم عن الاقتراب منها.. ولم يكونوا بحاجة لآلات معقدة وحسابات طويلة لتحديد وجهتهم نحو موطنهم، بل يسيرون إليه بسلاسة ودون أخطاء كما ينجذب رأس البوصلة للشمال بدقة في كل مرة..
ظلت رنيم في موقعها منكمشة على نفسها بشدة وهي تتشبث بالجزء المرتفع من السرج أمامها وتغمض عينيها بقوة.. كانت تكفيها الحركات القوية التي يقوم بها التنين كي تصاب بدوار وتشعر بنفضة شديدة في جسدها.. ترى ما سيكون شعورها عندما تفلت السرج وتسقط من على ظهر التنين هاوية للأرض من هذا الارتفاع الشاهق؟.. هل ستفقد وعيها من الذعر أم أنها ستحتفظ بحواسها وهي تراقب اقتراب الأرض منها بشكل متسارع ومفزع؟.. تذكرت ما انتهى عليه حلمها المفزع، ولم يكن هذا ليهدئ روعها بحال..
شعرت بالتنين يهوي شيئاً ما قبل أن يميل جانباً بقوة، فأطلقت صيحة ذعر وانكمشت أكثر وهي تحاول تمالك ذعرها وتتمنى لو تفقد الوعي من جديد لكي ترتاح من هذا الخوف المفزع.. لكن الرجل خلفها قال بشيء من الحدة "لا تنطوي بهذه الطريقة فوق ظهر التنين.. خوفك يصيبه بتوتر فهو يشعر برجفة جسدك الواضحة.. افتحي عينيك وكفي عن هذا الخوف.."
قالت رنيم بصوت متهدج وذعر واضح "محال.. أنزلني على الأرض فوراً.. لا أطيق البقاء على ظهر هذا الحيوان أكثر من هذا.."
قال الرجل بحنق "ألا تنسين أنك أميرة حتى وأنت بعيدة عن القصر؟.. قلت لك افتحي عينيك وكفي عن التشبث بالأرض لهذه الدرجة.. ألا تطيقين الابتعاد عن التراب للحظة واحدة؟.."
شيء ما في قوله جعلها تقاوم ذعرها وتفتح عينيها ببطء لتسمح لنفسها بالنظر لما حولها.. كانت التنانين الأخرى تطير حولهم بشكل متماوج، ترتفع وتنخفض بتناغم واضح وهي ترفرف بأجنحتها الضخمة بحركات هادئة.. وفي الأفق، بدأت الشمس تعلن عن وجودها بنور ذهبي قوي دحر ظلمة تلك الليلة وأكسب الغيوم القريبة لمعة وإشراقاً غير معهودين..
بدأت عينا رنيم تتسعان وهي تنظر للغيوم التي تقترب منهم فيخترقها التنين بقوة واندفاع دون أدنى تردد، لتجد رنيم أن الغيوم الرطبة قد لمست وجهها بخفة مثيرة برودة شديدة في بشرتها وهي تشمّ رائحة منعشة لم يسبق لها أن شمّتها من قبل..
شيئاً ما، تناست رنيم موقفها الحالي، وتناست التنين الشرس الذي تمتطي ظهره، وكل فكرها منشغل بالأفق الذهبي الذي تبدّى بقوة بعد الظلمة الكئيبة لتلك الليلة التي لم يتسنّ لنور القمر الشحيح أن يخفف منها.. كانت المشاعر القوية التي تعصف بها، ممتزجة مع الأفق المنير، وانعكاس الضوء الوليد على الغيوم من جهة بينما تتشبث الزرقة بها من الجهة الأخرى بإصرار، والرياح التي حملت برودة رغم شدتها إلا أنها كانت منعشة نوعاً ما، واللون الأزرق البهيج الذي تبدّى من تحتهم وهم يعبرون إحدى البحيرات الكبيرة التي عكست بعض أشعة الشمس مع بدء هذا النهار.. كل هذا جعل رنيم تصمت مذهولة وهي تراقب ما يجري.. شعرت أنها في عالم آخر بالفعل.. في عالم لم تعرفه إلا من صفحات الكتب، ومن مخيلتها الواسعة التي لم تجمح لتنقل لها هذه الصورة التي تراها الآن..
هل كانت رنيم تتخيل وهي تمسك أحد تلك الكتب التي يعلوها الغبار وتحلم وهي مسندة رأسها إلى الأرفف الخشبية القاسية أنها ستنتقل لعالم آخر رغماً عنها في غمضة عين؟.. أكانت تتخيل أن تعيش هذه اللحظة التي بدت لها مستحيلة وجدران القصر السميكة تخنقها ومن خلفها أسوار المدينة العالية؟..
رغم أنها مدركة أن عواقب ما تمر به ستكون وخيمة عليها.. ورغم قلقها مما سيفعله بها هؤلاء الرعاع، ورد فعل أبيها الملك والملك عبّاد على ما جرى لها، إلا أنها تناست واقعها في لحظة وهي تستغرق فيما تراه بكل مشاعرها..
سمعت الرجل يعلق من خلفها "يبدو أنك تناسيتِ خوفك في لحظة.."
عاد لها واقعها بسرعة، فعادت تتشبث بالسرج بقوة وهي تقول بصوت مرتجف "أرجوك.. أطلقني.. أنا لا ذنب لي فيما جرى لمن تبحث عنها.."
قال الرجل بحزم "لم أقل إن لك ذنباً فيما جرى.. لكنك وسيلتي لاستعادتها، ولضمان سلامتها من غدر الملك.."
خفضت رنيم عينيها قائلة بصوت مرير "لكن.. لمَ أنا؟.. لمَ لمْ تختطف الملكة أو تختطف الأمير زياد نفسه؟.. لمْ استهدفت شخصاً بغير أهمية مثلي؟"
علق الرجل "كفي عن التقليل من شأنك بهذه الصورة.. واتركي الملك والأمير زياد يقرران أهميتك عندما أتفاوض معهما.."
راقبت رنيم الغيوم المتسارعة حولهما وهي منشغلة بأفكارها المريرة.. كيف حدث ما حدث؟.. كيف انقلب واقعها بهذه الصورة؟.. وما ذنبها ليحدث كل هذا لها؟..


*********************
تدافعت دموع الملكة سليمة غزيرة وهي تقف قرب نافذة زجاجية ضخمة تطل على حدائق القصر في قلب (الزهراء) متأملة الشمس التي ارتفعت سريعاً شاقة السماء.. كانت تقف وحيدة في إحدى القاعات، تستمع للصمت من حولها دون أن تتمكن من إيقاف دموعها أو رجفة شفتيها..
بعد وقت قصير، سمعت صوت باب القاعة يفتح وصوت حذائي الأمير زياد الواضحين يقتربان منها قبل أن يقول بضيق "أمازلت تبكين يا أماه؟.. أأنت حزينة حقاً لما جرى؟"
قالت بشيء من الحدة "لست حزينة على ما جرى قدر هلعي مما سيجري.. فحريّ بشابٍ أحمق مثلك أن يجهل تبعات ما حدث هذا اليوم.."
زفر زياد بضيق واضح والملكة تدور في الموقع مدمدمة بغيظ وهي تمسح دموعها المتدافعه بمنديل في يدها "الملك مات.. من كان يتخيل أن يموت الملك العظيم عبّاد بسبب سمّ دسّته له إحدى الخادمات الملعونات قبل فرارهن؟.. هذا شيء لم أتوقعه في أحلامي.."
هز زياد كتفيه معلقاً "وماذا في ذلك؟.. سأتولى أنا الحكم وستبقين أنت الملكة الأم في مملكة بني فارس.. لن يتغير شيء بتاتاً.."
نظرت له مقطبة بعين غير راضية، ثم قالت بجفاء "أتظن أن شاباً خليعاً مثلك يقدر على الحفاظ على مملكة هائلة كهذه؟.."
ودارت في موقعها من جديد قائلة "الويل لي لو تفككت هذه المملكة على يد ابني.. كيف يمكننا تفادي مثل ذلك؟.."
قال زياد وهو يرمي جسده على كرسي قريب باسترخاء "أنت تبالغين يا عجوز.."
نظرت له بتقطيبة شديدة، ثم تقدمت منه وقبضت على مجمع ثوبه ورفعته حتى واجهت عيناه بعينيها قائلة "أنسيت أنك لا تقابل بترحيب من أغلب القيادات في (الزهراء)؟.. قائد الجيش فِراق بالذات لا يطيق النظر لوجهك.. كيف تتوقع منه أن يقسم بالولاء لك؟"
قطب زياد وقد انتقل قلق الملكة إليه، بينما تخلت عنه الملكة وهي تقول بحزم "عليك أن تتصرف بسرعة.. يجب أن تدعّم مُلكك بأشخاص يدينون بالولاء لك، وتحسم أمر خصومك قبل أن يفيقوا لأمرك.."
غمغم زياد "لم يمضِ على موت الملك ساعات معدودة.."
شدّت الملكة جسدها ووقفت وسط القاعة باستقامة وهي تقول بحزم صارم "عليك أن تحسم الأمر الآن، أو تفرّ من القصر قبل أن تعامل كملك مخلوع.. وصدقني لن تكون معاملة تليق بك أبداً بالنظر لكل ما ارتكبته في سني حياتك القصيرة هذه.."
نظر لها زياد بتوتر شديد، ثم اعتدل باهتمام قائلاً "ما الذي عليّ فعله؟.. سأطيعك في كل أمر، فهل تملكين خطة معينة؟"
ابتسمت الملكة ابتسامة جانبية ماسحة آخر دمعة سالت من عينها، ثم قالت بحزم "طبعاً.. وهل يخلو عقلي من الخطط الناجحة؟.."
وجلست على كرسي قريب متطلعة لزياد الذي أولاها اهتمامه الكامل مضيفة "في البدء، عليك التخلص من فِراق، فهو لن يكون معك بتاتاً.."
قال زياد بحماس "سأطرده من منصبه.."
نظرت له الملكة بحنق قائلة "حقاً؟.. كيف تتوقع أن تملك مملكة عظيمة كهذه وأنت قصير النظر بهذه الصورة؟.. أتظن أن فِراق سيستسلم لطرده؟.. كما أن أغلب قيادات الجيش وألويتها معه ويطيعونه.. سيطيح بك بإشارة من إصبعه.."
ومالت تجاهه متممة حديثها بفحيح "عليك أن ترسل من يغتاله.. في هذه الساعة.."
قال زياد بقلق "من يمكنه أن يفعل ذلك بهذه السرعة؟.."
اعتدلت الملكة قائلة "لا تقلق.. لقد فكرت في هذا الأمر بالفعل.. الجارية التي يملكها ولا يكاد يطيق فراقها تدين لي بالكثير.. وستفعل ما أشاء لو ضمنت لها مكاناً عالياً في هذا القصر.."
فقال زياد باهتمام "وماذا عن مجد؟.. هل نتخلص منه هو أيضاً؟"
نظرت له الملكة شذراً قائلة "يا لك من أحمق.. مجد هو ورقة رابحة في يدك.."
نظر لها بحيرة مغمغماً "حقاً؟"
قالت بحزم "افهمني أيها الغرّ الساذج.. مجد، رغم أنه لا يواليك ولاءً تاماً، لكنه كان أميناً وموالياً للملك الراحل.. وستمنعه أمانته من خيانة ذكرى الملك والتخلص من ولي عهده.. باستخدام مجد، وباستغلال مثاليته وموالاته للملك الراحل، يمكننا أن نحكم قبضتنا على الجيش بسهولة.. أقترح عليك أن تقوم بترقيته ليتولى منصب قائد الجيش، فهذا سيسهّل علينا الحصول على طاعة بقية الفرق والألوية دون عسر.."
ثم لوّحت بإصبع مثقل بخاتم ذهبي قائلة "هذه مجرد البداية.. بعد ذلك سنلتفت للقيادات الأصغر والأقل تأثيراً.. لو أحكمت سيطرتك على الجيش وألويته، فستكون بخير.."
ووضعت يدها على كتف الأمير زياد قائلة بابتسامة واثقة "ستكون بخير يا بنيّ.. ستظل كذلك ما دمت تطيعني.. ثق بي ونفذ كل ما أقوله حرفياً دون جدال.."
قال زياد بحماس "سأطيعك.. طبعاً سأفعل كل ما توصِني به.. المهم ألا ينتقل هذا العرش لغيري.."
قالت الملكة بابتسامة جانبية "لا تقلق.. لا يمكن أن أسمح بذلك بتاتاً.."


*********************
بعد رحلة طويلة أرهقت رنيم كثيراً لطول جلوسها دون حراك، لاحظت معالم تلك البيوت الصغيرة التي امتدت لمسافة معقولة وسط تضاريس جبلية قاسية .. كانت تلك قرية صغيرة تفترش وادياً ضيقاً وسط جبال عالية قممها بيضاء ثلجية، ولا تكاد ترتبط ببقية العالم إلا عبر طريق ضيق ووعر.. أهذه قرية من قرى الهوت؟.. وعند اقترابهم من تلك القرية، بدأت التنانين الهبوط نحو ساحة صغيرة تتوسط ذلك المكان..
انتاب رنيم توتر لا محدود لدى اقترابهم من هدفهم، ولرؤيتها ذلك الجمع الذي بدأ يحتشد قرب الساحة بانتظار القادمين.. بدا أن القرية كلها كانت بانتظار عودة فرقة التنانين تلك، ولم يبدُ على أحدهم أي ذعر لمرآها لاعتيادهم عليها.. ولما هبط التنين الذي حمل رنيم على ظهره، فإن الرجل خلفها قد هبط بسهولة ونشاط، بينما تجمدت رنيم في موقعها متيبسة الأطراف.. ومع كل تنين يهبط، فإن الفتيات الأسيرات يسارعن للهبوط ولقيا عوائلهن بعد فراق طال.. سمعت رنيم عدة صيحات فرح وضحكات تندلع هنا وهناك، بالإضافة لبكاء ودموع بعض النسوة الأكبر سناً..
انتبهت رنيم من تأمل ما حولها على تململ التنين تحتها، بينما قال مختطفها "يحسن بك أن تهبطي قبل أن يرمي بك التنين أرضاً.."
قالت رنيم برعب "كيف أفعل ذلك؟.."
رفع الرجل يده قائلاً "سأسندك عند الهبوط.."
ترددت رنيم للحظات، وقبل أن تتحرك بالفعل كان صبر التنين قد نفذ وهو ينتفض بقوة ويرميها من على ظهره، فوجدت نفسها تسقط على الأرض بشيء من العنف.. وبينما ارتفع التنين طائراً بسرعة مثيراً الغبار في الموقع، فإن الرجل قد اقترب وعاون رنيم على النهوض قائلاً "أخبرتك أن عليك الإسراع.."
نهضت رنيم بساقين ترتجفان ورأس يدوّي بألم وعينين غشيتهما الدموع.. وقبل أن تتضح لها الرؤية من جديد، انتبهت لصمت ساد الموقع بعد تلك الضجة التي أثارها لقاء الهوت بفتياتهم المختطفات.. تلفتت رنيم حولها بدهشة لهذا الصمت بينما قطب مختطفها شيئاً ما.. ولم يلبث أحد رجال القرية أن تقدم قائلاً بلغة الهوت التي لا تفهمهما رنيم "أهذه فتاة من المدينة؟.. ما الذي جاء بها؟"
قالت إحدى الفتيات التي كانت تعمل خادمة في قصر الملك "هذه أميرة وخطيبة للأمير زياد.."
اتسعت الأعين بصدمة واستنكار، بينما قال الرجل من جديد بحدة "ما الذي جاء بها معكم؟"
قال مختطفها "لم نعثر على جايا.. فأحضرت هذه الفتاة لنقايضها بجايا عندما نحاول استعادتها.."
صاح الرجل "هذه حماقة.."
تبعته صيحات مؤيدة من عدد من أفراد القبيلة، بينما انكمشت رنيم شيئاً ما وهي تلاحظ الغضب في الأعين المحدقة بها.. بدا لها واضحاً أن وجودها غير مرحب به، فما الذي ينتوون فعله بها؟..
قال مختطفها بحزم "مهما كان رأيكم بالأمر، كان لابد لي من الحصول على ضمان لئلا يمس الملك جايا بضرر نتيجة هرب بقية الفتيات.."
صاحت امرأة كبيرة من العمر بغضب "أنت ستجلب الوبال على هذه القرية.. زوجة الأمير؟.. هل تريد أن يحرّك الملك جيوشه ليسحق هذه القرية تماماً؟"
كان الغضب قد بدأ يظهر بوضوح في الوجوه المحيطة بهما وآخر يصيح "نحن لم ننسَ بعد ما جرى قبل شهور.. هل تريد تكرار هذا مرة أخرى؟"
وصاح رجل من الجهة الأخرى "يجب أن تدفع هذه الفتاة ثمن ما فعله الملك بقريتنا.. يجب أن يذوق بعض ما ذقناه لاختطافه بناتنا دون وجه حق.."
انكمشت رنيم أكثر وهي ترى بعض الرجال يتقدمون منها بأعين تنطق شراً.. رباه.. ما الذي ينتوون فعله بها؟.. قلّبت بصرها بذعر بينهم وبين مختطفها الذي قطب بشدة وصاح بصرامة "لن يمسّها شخص بسوء.. كما قلت لكم، سلامة جايا مرهونة بسلامة هذه الفتاة.. ومهما فعل الملك في السابق، فإن إيذاء هذه الفتاة لن يعيد شيئاً مما جرى.."
انبرت كاينا بين الجموع تقول "أجل.. هذه الفتاة لا ذنب لها، وهي ليست من عائلة الملك.. إنها من مملكة بعيدة.. فكيف تعاقبونها على ما جرى؟"
قال أحدهم بحنق "يكفي أنها زوجة ابن الملك.. هذا كافٍ ليشعل قلوبنا بنار لا تخمد.."
بدأ بضع رجال منهم يتقدمون منها غير عابئين بتهديد مختطفها، وبدأت أيديهم بالتطاول عليها وهي تشعر بمن يشدّ شعرها بقوة.. صاحت رنيم مرتعبة وهي تحاول الإفلات دون أن تدرك وسيلة للتخلص من الجموع التي تكاثرت حولها، عندما وجدت مختطفها يبعد الآخرين عنها ويحميها بذراعه بينما رفع سيفه العريض باليد الأخرى صائحاً "لو تجرأ أحدكم على الاقتراب منها، فلن أرحمه بتاتاً.."
صاحت امرأة من بعيد "اطردها من هذه القرية.. لا نريد أن نواجه جيش الملك من جديد.."
تعالت الصيحات الغاضبة من الجموع المحيطة بهما، بينما جذب الرجل رنيم المرتعبة بشدة وقادها عبر طريق حجري نحو جانب القرية.. وبينما استمر الصياح الغاضب من خلفهما، فإن أحداً لم يجرؤ على الاقتراب ولمسها بسوء والرجل يحجز بينها وبينهم.. تلفتت رنيم حولها مذهولة للنظرات الغاضبة والصياح الذي صمّ أذنيها، وقد أمكنها أن تفهم مغزى الحديث الذي دار حولها رغم أنها لم تفهم كلمة واحدة مما قيل.. بينما دفعها الرجل أمامه حتى وصلا منزلاً في جانب القرية لا يختلف عن غيره الكثير، ففتح بابه ودفعها لتدخل مغلقاً الباب بشدة خلفه..
نظرت رنيم للرجل بقلق قائلة "ما الذي ستفعله بي؟.."
لم تملك رجفة صوتها وهي تسأله بعد أن واجهت الغضب الواضح من أفراد القرية هذه.. فما سيكون مصيرها في مكان كهذا؟..
جذبها الرجل دون أن يجيبها حتى أدخلها غرفة جانبية بأثاث قليل، ثم خرج وأغلق الباب خلفه ورنيم تسمع دوران المفتاح في قفله.. أخيراً، تهاوت رنيم على سرير في جانب الغرفة وهي تحدق في الأرض الخشبية تحت قدميها الحافيتين.. حتى الآن، لا تصدق أنها اختُطفت من قصر الملك عبّاد ووصلت مع مختطفيها لأقصى هذا العالم.. رحلة قد تستغرق أياماً طويلة على الأرض لم تحتج التنانين إلا لنهار وليلة لقطعها متجاوزين كل المعوقات والتضاريس المختلفة على الأرض برفّة جناح.. لكن لا يمكن أن يكون هذا حلماً.. لا يمكن لحلم أن يكون بهذه الدقة والواقعية.. ولا يمكن له أن يستثير فيها هذه المشاعر الغريبة المتعاكسة وهي على ظهر ذلك التنين.. فما الذي سيحدث لها الآن بعد كل هذا؟.. عودتها (للزهراء) لن تحدث ببساطة ودون عواقب.. فهل ستعود حقاً لذلك المكان؟..
تذكرت رنيم الثورة التي قام بها الهوت لدى رؤيتها، وتذكرت ما سمعته من كاينا في القصر قبل تلك الليلة المشؤومة.. فانطوت على نفسها وهي تشعر بمرارة شديدة وحزن عارم..
لو راجعت رنيم حياتها منذ البدء، للاحظت حوادث مشابهة تتكرر بشكل دائم ولا يمكن تأويلها بشكل خاطئٍ بتاتاً.. فهي في قصر أبيها تواجه تأففاته الدائمة لتأخرها بالزواج عما يحدث لقريناتها من الأميرات.. بينما تتذمر أمها بشكل دائم وتصرّح في كل لحظة وحين برغبتها الشديدة في التخلص من ابنتها التي كادت تصبح عانساً..
ومع ظهور ذلك الزوج الأسطوري، سرّ أبويها أشد السرور لخلاصهم منها ومن همّها الدائم، وكررا عليها تحذيراً شديد اللهجة في حال فشلها وعودتها لهم خائبة.. أما كان المفترض بهم أن يطمئنوها أن أبواب قصر أبيها مفتوحة لها في كل وقت؟.. أما كان من المفترض أن يبقى قصر أبيها واحة أمان تعود إليها لو تعسّرت حياتها في المدينة الغريبة عليها؟..
وفي جزء لاحق من حياتها، واجهها رفض صريح من الملكة في (الزهراء) ومن زوجها المفترض، الأمير زياد، وتطور الأمر ليخططا لطردها بطريقة مخزية ستصمها بعار أبدي..
ومع التطور الأخير والفجائي الذي حدث لها مع المتسللين من الهوت، فإنها اختطفت عنوة لعالم غريب لم يسبق لها رؤيته، ورغم ذلك جابهت ثورة من الهوت ترفض وجودها بينهم وتطالب بطردها في اللحظة التي وطأت فيها قدماها تراب القرية..
هل هي مكروهة لهذه الدرجة؟.. أما من مكان يؤويها؟.. أما من مكان يسعد أصحابه لوجودها فيه حتى لو لم يرتبط ذلك بمصالحهم الشخصية؟.. ما الذي فعلته لتجني مثل تلك الكراهية؟.. وإلى أين يمكنها أن تلجأ دون أن تواجه مثل تلك المشاعر البغيضة التي تلاحقها طوال سني حياتها؟..
غلبتها مشاعرها وملامحها تنقبض بأسىً واضح، ثم وجدت دموعها تسيل رغماً عنها وهي تجهش ببكاء مرير.. ذرفت دموعاً غزيرة وهي لا تملك التوقف عن البكاء لوقت طويل.. تداعت مشاعرها مع دموعها وغلبها الحزن على حياتها التي لم يعد لها أي معنى.. لم تتمكن من الحصول على السعادة التي كانت ترجوها وتطمح إليها، ولم تتمكن من إرضاء أبويها، ولم تحصل حتى على رضى زوجها المستقبلي وأبويه.. ما الذي عليها أن تتوقعه من حياتها القادمة؟.. ما الذي عليها أن تسعى إليه؟.. لا شيء.. لم تعُد تدرك أو تتوقع شيئاً من أيامها القادمة ومن حياتها التي صارت بلا هدف ولا معنى..





*******************************


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-12-15, 08:17 AM   #8

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




الفصل السادس : عهد جديد وملك جديد

مع شروق الشمس، التي لم تتمكن من تخفيف البرودة الشديدة في الجو، اعتدلت رنيم جالسة وهي تضمّ الدثار الصوفي الذي وجدته على السرير حول جسدها.. كانت ثيابها القطنية غير قادرة على تدفئة جسدها البارد أو تخفيف البرودة القارسة في الغرفة الخشبية.. تأملت الموقع حولها بصمت، كانت الغرفة التي آوتها في الليلة الماضية صغيرة الحجم جداً مقارنة بأصغر جناح تعرفه، بأثاث بسيط دون زخارف، عليه فراش صوفي سميك ذو رائحة رطبة ودثار صوفي خشن أزعجها طوال الليلة الماضية، وفي جانبه باب صغير يؤدي لدار الخلاء..
لاحظت رنيم أن المدفأة الحجرية في جانب الغرفة كانت تضمّ حطباً مشتعلاً متوهجاً، فنهضت واقتربت منها لتنعم ببعض الدفء وهي تفرك يديها بقوة.. كان البرد في هذا الموقع شديداً وقارساً بشكل لم تعهده في مملكة أبيها الجنوبية حيث الدفء سمة عامة إلا في المناطق المرتفعة منها، ولم تعهده في (الزهراء) التي لا يكاد الطقس الربيعي فيها يتغير طوال السنة..
لاحظت وجود طاولة جانبية عليها بعض الأطعمة، والتي بدت طازجة.. وبالإضافة للمدفأة المشتعلة، فإن رنيم أدركت أن مختطفها قد دخل الغرفة وهي نائمة.. متى حدث ذلك؟.. ضمّت الدثار حول جسدها أكثر وهي تتوتر متلفتة حولها.. لقد نامت منهكة كجثة طوال تلك الليلة بعد أن أتعبها البكاء وهدّها التفكير والقلق، لكن هذا ليس عذراً لها لتغفل عن أمر مختطفها الذي لن يكون بالتهذيب الذي تتوقعه.. عليها أن تكون أكثر حذراً بعد هذا، ولا تغفل عن تصرفاته أبداً.. إنها لم تعد في ربوع القصر الآمنة، ولم يعد حراس القصر يقفون بتحفز عند أبواب جناحها، رغم أن وقوفهم لم يأتِ بالنتيجة المرجوّة عندما واجهت خطراً حقيقياً..
سارت نحو النافذة التي كساها شيء من الضباب للدفء في الغرفة مقارنة بالبرودة الشديدة خارجها.. وبالنور الضعيف الذي بدأ ينبلج من الأفق، كانت حدود القرية الصغيرة تبدو لها واضحة شيئاً فشيئاً.. كانت قرية صغيرة، تشبه بعض اللوحات المرسومة للقرى النائية التي وجدتها في بعض الكتب.. بيوتها خشبية ذات طابق واحد على الأغلب، جدرانها الخشبية بلون أبيض والعوارض بقيت بلونها البني القاتم.. أما أسقفها فهي متنوعة بعضها خشبية وبعضها من القش الذي ثبت بالحبال وعليه صخور لئلا تطيّره الرياح القوية.. ووسط القرية ممر حجري بدائي لا يتمتع بأي جمال كما كانت الطرقات الحجرية في (الزهراء) أو في (بارقة).. ولا تزهو القرية بأي زينة أو أشجار غير تلك التي زرعتها الطبيعة في جوانبها..
انتبهت من أفكارها على صوت باب الغرفة يفتح، وظهر من خلفه مختطفها الذي وقف قرب الباب قائلاً "ألم تتناولي إفطارك؟"
خفضت رأسها وهي تهز رأسها نفياً، ثم قالت بصوت مبحوح "ما الذي تريده مني؟"
زفر قائلاً "عدنا لهذا؟.. حتى متى سترددين هذا السؤال؟"
قالت برجاء "أعدني (للزهراء)، وأنا سأبحث عن تلك المدعوة جايا بنفسي.. سأسأل الملكة، وسأسأل الملك عبّاد نفسه لو أردت.. لن تحقق شيئاً بسجني في هذا المكان البعيد.."
قال الرجل بهزء "حقاً؟.. وتتوقعين مني تصديق ذلك؟"
هتفت بإلحاح "ولمَ أكذب عليك؟.. اسأل كاينا عني، وهي ستخبرك إن كنت سأخدعك أم لا.."
نظر لها الرجل بغير اقتناع، بينما تعالى صوت من جانب آخر من المنزل.. التفت الإثنان لمدخل الغرفة ليجدا رجلاً لا يقل عمره عن الستين، بملابس لا تختلف عن بقية القرويين الذين رأتهم رنيم، وبشعر ولحية بيضاوين وبشرة على شيء من السمرة لتعرضه للفحات البرد القارسة.. ورغم أنه لا يبدو مختلفاً عن البقية، إلا أن الاحترام الذي بدا على وجه مختطفها وهو يحادثه جعل رنيم تدرك أن لذلك الرجل أهمية في القرية.. أهو رئيسها؟.. هل سيجيب مطلبها لو طلبت منه إطلاق سراحها؟.. لكن هل يفهم لغتها كما يفعل الرجل وكما تفعل كاينا؟..
ظلت تراقب حديثهما بقلق ملاحظة الغضب على وجه الرجل قابله ضيق وحدة على وجه مختطفها.. وبينما كانت لا تفقه كلمة مما يقولان، فإنها أدركت أنهما يتحدثان عنها بالتأكيد..
فور دخول ذلك الرجل للغرفة، أدرك الأول أنه يريد التحدث بخصوص رنيم، فقال بشيء من الضيق "أعرف ما ستطلبه مني يا أرنيف.. لكن يجب أن تمهلني بعض الوقت لـ...."
قاطعه الرجل الأشيب بشيء من الحدة قائلاً "لا أفهم دوافعك يا آرجان فكيف تطلب مني الصبر على هذا؟.. لقد أفسدت خطتنا الطويلة لإنقاذ فتيات القرية باختطافك لهذه الفتاة وإحضارها لهذا المكان.. الآن جنود الملك كلهم سيكونون في أعقابكم وستعاني القرية من ويلات معركة مثل هذه.."
قال آرجان "ليس هذا ما أبغيه، وليس هذا ما سيحدث.. لديّ خطة للتفاهم مع الملك لاسترداد جايا.. هذه الفتاة مقابل خادمة من خدم قصره.. لمن تظن الملك سينحاز؟.. هذه هي زوجة ولي عهده ولن يفرط فيها الملك أبداً.. لذلك......."
قال أرنيف محتداً "لكن ليس في هذه القرية.. وليس بعد كل ما جرى لنا على أيديهم.. أنسيت بهذه السرعة آخر مرة تواجهنا فيها مع الجنود؟.. عشرات الرجال قتلوا، وما لا يقل عن عشرين فتاة من الهوت تم اختطافهن ومعاملتهن كأسرى وكخدم في قصر الملك لشهور طوال.. هل تريد تكرار هذا من جديد؟"
قال آرجان بتقطيبة شديدة "لا.. قطعاً لا.."
فقال أرنيف بحزم "إذن تخرج الفتاة من القرية اليوم.. لا نريد مزيداً من النحس بسبب هذه الأميرة.."
ظل آرجان مطرقاً بينما ألقى أرنيف نظرة كارهة على رنيم لم تفُتها، ثم استدار مغادراً عندما استوقفه آرجان قائلاً بحزم "هذا ما لا يمكنني فعله يا أرنيف.. واعذر وقاحتي هذه.."
نظر له أرنيف بتقطيبة شديدة رسمت خطوطاً سميكة على جبينه، بينما وقف آرجان في مواجهته قائلاً "لن أعيد الفتاة قبل أن أستعيد جايا.. لقد خططت للأمر جيداً، ولن تفشل خطتي بتاتاً.."
عبس أرنيف بشدة وهو يقول "أتعصي أمري يا آرجان؟.. لم أتوقع منك هذا التهور.."
قال آرجان بسرعة "ليس تهوراً.. سأشرح لك خطتي فلا تتعجل بإطلاق الأحكام عليها.. ولا تترك غضب أهل القرية يؤثر في حكمك، فأنا المتضرر الوحيد في كل ما جرى.."
نظر أرنيف لرنيم المنكمشة بصمت حتى خايل آرجان أنه سيرفض الأمر بشكل قاطع، لكن أرنيف قال بحزم "أنتظرك في منزلي، فلا تضيع وقتي رجاءً.."
وغادر بصمت تاركاً آرجان يزفر بحدة.. وبعد بعض الصمت تجرأت رنيم على أن تتساءل هامسة "ما الذي جرى؟.. أهذا رئيس قريتكم؟"
نظر لها آرجان بصمت، فقالت بشيء من الأمل "هو غاضب لإحضاري لهذه القرية كما البقية.. أليس كذلك؟.. لمَ لا تطيعه وتعيدني للزهراء؟.. هذا خير لك ولي.."
قال آرجان "أرنيف لا يهمه أن تعودي للزهراء، جلّ همه أن تغادري هذه القرية.. فهل هذا ما تريدين مني فعله؟"
امتقع وجه رنيم وهي تفكر في الأمر.. أينوي رميها خارج القرية في موقع منقطع كهذا؟.. ما الذي يمكنها فعله وحيدة وهي على هذا البعد من (الزهراء) ومن أي مدينة مأهولة بالسكان؟..
وإزاء صمتها قال آرجان وهو يغادر "لا تأملي أن يتمّ ما بذهنك قبل أن أستعيد جايا.. التزمي الصمت واصبري.."
وخرج ورنيم تتساءل بانفعال "ومن هي جايا هذه؟.. لماذا عليّ أن أتحمل أخطاء غيري؟"
لكنها لم تجد إجابة إلا من باب غرفتها الذي أغلق تاركاً إياها حبيسة لمدة لا يعلمها إلا الله تعالى..


*********************
في وقت متأخر من ذلك النهار، وجدت رنيم الباب يفتح ووجه كاينا يطل عبره قائلة "مرحباً.. جئت لأطمئن عليك.."
قالت رنيم بكآبة من موقعها الذي لا تغيّره فوق سريرها "تطمئنين أنني لم أهرب بعد؟.. لا تخافي، ذلك الرجل يتأكد من هذا بكل حزم.."
ابتسمت كاينا وهي تقترب منها حاملة إناءً يحوي بعض الفطائر الطازجة قائلة "لا بأس.. لن يطول بك هذا السجن طويلاً.. كما أن القرية ليست بهذا السوء رغم استقبالهم الحافل لك البارحة"
نظرت رنيم لكاينا بتقطيبة لترى إن كانت تمزح بقولها هذا.. كيف يمكن لأمرها ألا يكون بهذا السوء حقاً؟.. ثم زفرت وهي تدير رأسها جانباً بصمت.. عندها جلست كاينا على السرير قائلة "أكنتِ تفضّلين أن تبقي في ذلك القصر حتى يتهمك الأمير زياد في شرفك ويردّك لقصر أبيك مكللة بالعار؟.. أهذا ما كان سيسعدك حقاً؟"
قالت رنيم بغضب "أتجدين أنني أفضل حالاً الآن؟.. اختطافي لن يمرّ مرور الكرام، وعودتي ستكون مكللة بعار لن أمحوه ما حييت.. أتظنين أن الأمير زياد سيرضى بي زوجة بعدها حقاً؟"
نظرت لها كاينا بشيء من الاستنكار، ثم علقت "أأنت تتمنين الزواج من ذلك الشاب البغيض حقاً يا رنيم؟.. أأقصى أحلامك أن تصبحي أدنى من جارية في قصر خانق وتحت إمرة امرأة متكبرة قاسية وشخص متعجرف لا يستحق بأن يوصف بأنه رجل؟"
نظرت لها رنيم بمرارة وكاينا تسألها بإلحاح "أحقاً لا يتجاوز طموحك أكثر من هذا؟"
دفنت رنيم وجهها بين ذراعيها قائلة "ما أطمح له لا يمكن تحقيقه، وقد يئست من الحصول عليه أبداً.."
قالت كاينا بإصرار "ما الذي يجبرك على العودة لذلك القصر؟.. ما الذي يجبرك على تقمص حياة لا تريدينها والعيش وفق قوانين لا تحبينها؟.. أنت حرة في اختيار ما تريدينه.. أليس كذلك؟"
نظرت لها رنيم متسائلة بمرارة "أنا حرة؟"
أجابت كاينا بسرعة "لن يطول هذا السجن بك كما قلت لك سابقاً.. إن هي إلا أيام معدودة ونطلق سراحك بعدها.. عندها، يمكنك اختيار ما تريدين فعله بحياتك بعيداً عن سلطة أبيك أو غيره.."
عادت رنيم تدفن وجهها بصمت، ثم غمغمت بشيء من الانكسار "هذه لست أنا.. لا يمكنني فعل ما أشاء دون أن أخشى رد فعل أبي والآخرين على ذلك.."
زفرت كاينا بحدة لاستسلام رنيم بشكل متكرر، ثم نهضت قائلة "لو كنتِ تعتبرين هذا سجناً، فأنت عشتِ في سجن أكبر منه طوال حياتك.. وللمرة الأولى أرى سجينة تعود لسجّانها وترجوه تقييد حريتها من جديد.."
تركت الإناء على طاولة قريبة وغادرت ليعود الصمت ويلفّ رنيم من جديد.. صمت لا يكاد يغطي على الصخب الذي يدور في رأسها والأفكار تصطرع فيه بشكل محموم ومتكرر..


*********************
عندما امتثل مجد لاستدعاء الملكة سليمة والأمير زياد، الذي لم يتم تنصيبه كملك بعد، كانت الأخبار قد وصلته بالفعل عن موت قائد الجيش فِراق في حادث مؤسف.. لم يكن بحاجة لذكاء كبير ليعلم أنه تم التخلص منه بسبب رفضه السابق تولّي زياد ولاية عهد المملكة وادعائه بأنه أضعف من أن يحكمها.. لذلك لم يكن من المدهش موته في ذلك الحادث في هذا الوقت بالذات..
انحنى مجد أمام الملكة والأمير وذراعه المكسورة معلقة لعنقه قائلاً "هل طلبت لقائي يا مولاي؟"
رأى الأمير زياد ينهض ويقترب منه قائلاً بصرامة "مجد.. أنت حارس هذا القصر، وأنت المسؤول عن سلامة من فيه.. فكيف يحدث ما حدث للملك في وجودك ووجود حراسك؟.. هذا أمر لا يمكن أن يمرّ مرور الكرام.."
قال مجد عاقداً حاجبيه "لم يكن هذا في نطاق عملي.. يمكنني حراسة الملك من أي هجوم متوقع، لكن كيف أتأكد أن الخادمات اللواتي يتسللن في جوانب القصر قد عمدن لتسميم طعامه انتقاماً لما جرى لهن؟.."
قال زياد محتداً "هذا ليس عذراً.. كان عليك أن تحذر هذا أيضاً وتتصرف بما يلزم لسلامة الملك.."
خفض مجد رأسه دون اعتراض قائلاً "ربما كان قولك محقاً يا مولاي.. لا يمكنني أبداً الاعتذار عما جرى، ولا يمكنني التكفير عن مثل هذا الذنب.. لذلك، لا يسعني إلا أن أستقيل من هذا المنصب الذي لا أستحقه.."
قال زياد بحزم "أنت بالفعل لا تستحقه.."
سمع مجد صوت الملكة وهي تقول بهدوء "مهلاً يا زياد.. مجد قد قام بكل ما يمكنه فعله بالفعل.. لقد تخلص من أولئك الدخلاء دون أن يطالنا أي أذى.. كما أنه كان مخلصاً طوال سني عمله الطويلة مع الملك الراحل.."
نظر لها مجد بشيء من الدهشة لم تبدُ على ملامحه.. من المحال أن تُثني الملكة على شخص ما لم يكن ذلك يصبّ في صالحها.. فما الذي تهدف إليه فعلاً؟.. بدا على الأمير زياد تفكير مفتعل ثم غمغم "هذا حق.. لا يمكنني نكران جهودك يا مجد طوال السنوات السابقة.."
ظل مجد يراقب مسرحيتهما المفتعلة بانتظار ما ستسفر عنه، عندما قال الأمير زياد بابتسامة جانبية "ربما وجب عليّ مكافأتك بدل إقالتك من منصبك هذا.. أنت تستحق الأفضل بكل تأكيد.."
ووضع يده على كتف مجد مضيفاً "حسناً.. سأولّيك منصب قائد الجيش.. أنت شخص كفؤ ولن أجد من يتولى هذا المنصب خيراً منك.."
انتابت مجد دهشة عميقة لهذا، بينما ربت زياد على كتفه قائلاً بابتسامة "هنيئاً لك هذا المنصب يا مجد.."
تدخلت الملكة في تلك اللحظة قائلة بحزم "في البدء، على مجد أن يعلن ولاءه لك، وأنت ملك البلاد القادم، ويتعهد بمعاونتك في السنوات القادمة دون خيانة.."
نظر زياد لمجد بترقب، بينما فكر مجد بصمت للحظة.. لم يكن هذا ما يسعى إليه، ولا يسعده ذلك بحال.. التعامل مع الملك عبّاد يختلف تماماً عن العمل مع الأمير زياد.. فالأمير زياد لا يتمتع بالصراحة والوضوح التي امتلكها الملك عبّاد، والعمل معه لن يخلو من الانغماس في الوحل أكثر فأكثر مع كل يوم يمضي.. وفوق ذلك هذا المنصب سيربطه أكثر بالعاصمة مع هذه الأيام التي تنذر بتقلبات كبيرة، ولن يجد الحجة الملائمة ليرحل بحثاً عن رنيم..
كان لا يزال يشعر بالسوء لما جرى لها، ويغمره استياء كلما تذكر أنها اختطفت بسبب تهاونه في حمايتها واهتمامه بالعائلة المالكة قبلها..
وبعد تفكير، قال مجد باحترام "مع شكري لهذا العرض الرائع، إلا أنني أتمنى إعفائي من هذا المنصب الذي لا يليق بي.."
نظر له زياد باستنكار صائحاً "ما معني هذا؟"
بينما قالت الملكة مقطبة "أترفض منصباً كهذا لن تناله أبداً حتى في أحلامك؟.. لماذا؟"
قال مجد "هذا منصب كبير ومسؤولية أكبر لا يمكنني حملها.. لذلك، سأرضى بأي منصب آخر وسأقسم بالولاء للأمير زياد في أي موقع كنت.."
قالت الملكة وهي تنهض بحدة "أتدرك معنى هذا يا مجد؟.. أنت ترفض طلباً لملكك القادم، ألا يسمى هذا خيانة؟"
مرة أخرى مع هذه التهمة؟.. كان يدرك أن الملكة يحلو لها التلويح بهذه التهمة لنيل ما تريده، لكنه قال بثبات "الأمير زياد يدرك تمام الإدراك أنني بعيد عن هذه التهمة يا مولاتي.."
قال زياد بعصبية "هذا شأن آخر.. أنا أريدك معي، وأريدك أن تساعد في تثبيت حكمي.. أنت مدرك أن الكثير من الشخصيات المعروفة في (الزهراء) قد يرفضون مبايعتي بالحكم.. وأريد شخصاً أميناً موثوقاً به لمساندتي.. فكيف ترفض ذلك؟"
ثم أضاف بحدة "لو لم تفعل ما آمرك به، فسأقوم بسجنك على الفور.."
قطب مجد وهو يرى الحدة في وجهي الملكة والأمير زياد، بينما أضافت الملكة "هذه هي الوسيلة الوحيدة التي يمكنك بها التكفير عن ذنبك بموت الملك السابق يا مجد.. فكُن حصيفاً وفكر فيما يضمن لك مستقبلاً عالياً في هذه المملكة.."
خفض مجد رأسه مفكراً للحظات دون أن تزول تقطيبة حاجبيه، ثم زفر أخيراً وركع أرضاً بيد واحدة وقال "أتعهد بالولاء للملك زياد، ملك مملكة بني فارس ووريث عرشها.. وأضع نفسي في تصرفه في أي وقت ومكان وبأي صورة كانت.."
بدا الرضا على وجه الأمير زياد، بينما قالت الملكة بابتسامة "رائع.. أنت تثبت ولاءك لهذه المملكة في كل يوم يا مجد.. ستصبح ذا مكانة مشهودة في هذه المدينة وفي المملكة كلها.."
لوّح زياد بيده قائلاً "انهض يا مجد واستلم منصبك منذ اللحظة.. أريدك أن تجتمع بقادة الألوية والكتائب المختلفة في الجيش وتتأكد من أنهم يقسمون بالولاء لي.. ومن لا يفعل، فتخلص منه بسرعة.."
قال مجد بحزم وهو يقف "مع احترامي لك يا مولاي، لا يمكنني قتل أي شخص لا يدين لك بالولاء.."
قال زياد بغيظ "لا يهم.. اطرده من منصبه ومن المدينة كلها.. المهم ألا يثير أي بلبلة في المدينة حتى يتم تنصيبي وأصبح الملك فعلياً على هذه المملكة.."
هز مجد رأسه موافقاً، ثم استأذن للرحيل وغادر بعد أن أدى التحية للأمير زياد.. لم يكن انصياع مجد لمطالب زياد والملكة ضعفاً أو خشية على ما قد يحدث له.. لكنه بالفعل يشعر بشيء من الذنب لما جرى للملك.. ويشعر بأنه مدين للملك عبّاد الذي أأتمنه على حياته وعلى قصره.. لذلك، فالمعاونة على تثبيت المملكة في هذه المرحلة القادمة أقل ما على مجد فعله للوفاء بعهده للملك عبّاد.. وبعد أن يتم ذلك، وتستقيم أمور المملكة في عهدها الجديد، فلكل حادث حديث..


*********************
مع اقتراب ذلك المساء، كانت رنيم مستلقية على سريرها بعد أن تعبت من ذلك السجن الخانق الذي هي فيه.. النافذة مغلقة بإحكام ولا يمكنها فتحها، والباب مغلق كذلك.. الغرفة ضيقة ولا تحوي إلا سريراً صغيراً وطاولة جانبية، والمدفأة التي كانت تمنحها بعض الدفء قد استهلكت الأخشاب التي بقلبها وانطفأت منذ وقت طويل.. لا تدري رنيم حتى متى ستبقى بهذه الصورة، ولا حتى متى ستظل بهذا الاستسلام.. لقد يئست حقاً من تغيير نفسها، وجلّ ما تريده هو العيش بسلام بعيداً عن أي صراع.. فلمَ يستكثرون عليها هذا؟..
انتبهت في تلك اللحظة لصوت المفتاح يدار في قفله، فاعتدلت جالسة بتوتر لترى آرجان يدخل الغرفة حاملاً بعض الطعام ودورق ماء وهو يقول لها "أكنتِ نائمة؟.. ألم تشعري بالجوع بعد هذا النهار الطويل؟"
لم تعلق رنيم رغم اصطراع معدتها بجوع شديد مع رائحة الطعام، لكنها لم تظهر ذلك وهي ترى آرجان يضع الطعام جانباً ثم يتقدم منها.. انتاب رنيم شيء من التوتر والقلق وهي تقول منكمشة "ما... ما الذي تريده مني؟"
مد يده إليها فوجدته يحمل بعض الأوراق وريشة كتابة بالإضافة لمحبرة.. نظرت للأوراق بدهشة وهو يقول لها "أريدك أن تكتبي رسالة للملك.. وعليك أن تحسني كتابتها دون خداع.. لو سارت الأمور كما أتوقع، فستحصلين على حريتك قريباً جداً.."
لم تكن رنيم واثقة من هذا الأمر، لكنها لم تعترض وهي تحمل الأوراق والمحبرة للطاولة القريبة.. فأزاحت الطعام جانباً وجلست على كرسي بتأهب لكتابة ما يطلب منها.. فقال آرجان وهو منشغل بتنظيف المدفأة وتعبئتها بمزيد من الأخشاب "وجّهي الرسالة للملك عبّاد، واسأليه عن إحدى الخادمات التي لم نعثر عليها معهن.. اسمها جايا، وقد أسرها الملك مع الباقيات وأخذها للزهراء لكنها اختفت بعد وقت وجيز.."
تساءلت رنيم بفضول لم تملكه "ومن تكون جايا هذه؟"
نظر لها آرجان بتقطيبة قائلاً "هلّا فعلت ما يطلب منك؟.. أخبري الملك أنني أحتجزك عندي رهينة، ولن أطلق سراحك حتى يعيد إلينا جايا.. أخبريه أنني لن أتردد في الاقتصاص منكِ لو أصاب جايا أي مكروه أو لمس شخص شعرة من رأسها.."
نظرت له رنيم بارتجافة وقالت بعينين متسعتين "هل ستفعل هذا حقاً؟"
قال بابتسامة جانبية "لا.. لكن لا يضيرك أن تكتبي هذا لإقلاق الملك وليتصرف بسرعة أكبر.. أليس كذلك؟"
صمتت رنيم وهي تغمس الريشة في المحبرة، ثم تنقلها على الورق كاتبة رسالتها بخط جميل أنيق، فانسابت الكلمات على الورقة بسرعة ورنيم تحمّلها مشاعرها المتوترة.. على الملك عبّاد أن يتصرف بسرعة.. عليه أن ينقذها قبل أن تواجه غضبة الهوت العارمة، أو تواجه انتقام مختطفها الذي بدا عازماً على الوصول لمراده مهما كلفه ذلك.. عليه أن يعيدها لحياتها السابقة الهادئة رغم كآبتها وضيقها..
وبعد أن أنهت رسالتها، رفعت رأسها نحو آرجان الذي نجح في إشعال الحطب في المدفأة ليعيد الدفء للغرفة، ثم توجه إليها وتناول الرسالة منها يتأملها بصمت.. قبل أن يسألها بشيء من الشك "هل كتبتِ ما طلبته منك بالضبط؟"
بدا لها بوضوح أنه لا يحسن القراءة كما لا يحسن الكتابة، ويبدو أنه لا يعرف إلا التحدث بهذه اللغة فقط.. فأجابت رنيم بتوتر "بلى.. فعلت ذلك.."
هز رأسه باستحسان ورنيم تقول "هل تملك مغلفاً يمكنني أن أضعها فيه؟"
علق آرجان بهزء "مغلف؟.. لا نتمتع برقيّ كهذا.. سيتم ربط هذه الرسالة في سهم وسيرمى السهم في قصر الملك ذاته.. لا تقلقي لهذا الأمر واستمتعي بوقتك حتى نحصل على رد ملائم.."
تستمتع بوقتها؟.. شعرت رنيم بضيق وانفعال يكاد ينفجر له رأسها.. كانت الجدران في هذه الغرفة الضيقة تطبق على أنفاسها، وتزيدها بؤساً فوق ما تشعر به لاختطافها.. لكنها كالعادة لا تستطيع الاعتراض، ولا تستطيع تغيير واقعها قيد أنملة..


*********************
في اليوم التالي، دهشت رنيم لرؤية كاينا تحمل لها إفطارها في وقت مبكر.. فقالت "هل أصبحت تعملين خادمة عند هذا الرجل الآن؟"
ابتسمت كاينا معلقة "لستُ خادمة عند أحد هنا.. الكل في القرية يتعاونون عند الحاجة ولا نعامل بعضنا كخدم أبداً.."
ثم وضعت الطعام على الطاولة مضيفة "ثم إن من تعنينه غير موجود حالياً.."
نظرت لها رنيم بدهشة، بينما لوّحت كاينا بإصبعها قائلة "ولا يخايلك أنك ستقدرين على الهرب مني.. لن أكون أقل في حراستك منه، ولن أتهاون معك لو حاولت الهرب أبداً.."
قالت رنيم بضيق "أهرب لأضيع في هذا المكان المنقطع بلا وسيلة للترحال؟.. لست حمقاء لهذه الدرجة.."
عاد لها فضولها فتساءلت "وأين ذهب ذلك الرجل في هذا الوقت؟"
أجابت كاينا "عاد للزهراء ليحصل على رد قاطع من الملك.."
شعرت رنيم بلهفة شديدة وهي تقول "حقاً؟.. كم يوماً سيطول غيابه؟"
ابتسمت كاينا قائلة "تحلّي ببعض الصبر وكلي طعامك.. لابد أن يعود قريباً، ولابد أن سجنك هذا سينتهي بعودته.. فلا تقلقي.."
في الليلة التالية، وبينما كانت رنيم تتقلب في فراشها بتململ بانتظار ما سيسفر عنه الخطاب الذي وجهته للملك دون أن تعلم بما حل في (الزهراء) من بعد رحيلها، فإن مجد كان في الوقت ذاته يسير عابراً أحد الممرات المكشوفة ذات السقف المزخرف والأعمدة المتوازية.. كان ذلك الممر يقوده بشكل محاذٍ للقصر نحو مبنى جانبي لا يقل عن القصر أبهة وإن كان أصغر حجماً بكثير.. كان ذلك حتى وقت قريب منزل قائد الجيش فِراق الذي لم يتردد زياد في التخلص منه بعد ساعات معدودة من موت أبيه.. ومع تولّي مجد هذا المنصب كان محتماً عليه أن يسكن في القصر ذاته ليكون قريباً من الملك في أي وقت يحتاج إليه..
زفر مجد وهو يفكر بالأحداث القليلة الماضية التي اشتعلت مع اختطاف رنيم.. رغم أن ذلك التسلل من قِبَل جماعة الهوت كان ضئيلاً ولم يسفر إلا عن مقتل بضع أفراد من الحراس وجرح آخرين وتهريب الأسيرات من الهوت، إلا أن قتل الملك عبّاد وحده له تبعات جمّة على هذه المملكة قد تؤدي مع بعض الوقت لتفككها لو لم يحسن زياد إحكام قبضته عليها.. يكفي ما يصلهم من أخبار عن تحركات مشبوهة لدى مملكة كشميت وتجمعات من السفن الحربية التي تخوض عباب بحر السلام في وقت كهذا..
فهل يحق لمجد، مع كل هذه الأحداث الهامة، أن يشغل تفكيره برنيم وهي فرد واحد مقابل مملكة كبيرة كهذه؟.. هل يحق له أن يتخلى عن واجبه تجاه هذه المملكة ويسعى خلف رنيم مدفوعاً بشعور الذنب الذي يؤرقه كل ليلة؟..
قطع تفكيره صفير خافت وشيء مرق أمامه بشكل خاطف.. توقف مجد عن الحركة وهو يحدق في ذلك السهم الذي سقط على بعد خطوة واحدة منه.. فتوتر بشدة وهو يبحث عن مصدر هذا السهم.. هل كان المتسلل الذي أطلقه قد وجهه بنيّة قتل مجد بعد أن أصبح قائداً للجيش؟.. وهل ستتبعه سهام أخرى؟..
انتبه في تلك اللحظة لتلك الورقة المربوطة أعلى السهم، فتقدم منها ونزع السهم ساحباً الورقة برفق لئلا يتلفها.. ونظر حوله بحيرة ملاحظاً الصمت التام في الموقع، قبل أن يفضّ الورقة ويقرأها بسرعة.. تراكضت عيناه على الكلمات وأدرك من الوهلة الأولى هوية كاتبته.. عندها انتفض وهو يستدير قابضاً على الرسالة بشدة وصاح متلفتاً حوله "أين أنت؟.. أعلم أنك هنا.. فأظهِر نفسك وواجهني.."
جاوبه الصمت المطلق، فعاد يصيح "أعطيك كلمتي أن سوءاً لن يلحق بك حتى أتحدث معك.."
أتاه الصوت من موقع علوي يقول ببرود "لست أخشاك لو ظننت هذا للحظة.."
رفع مجد بصره للأعلى ليجد فوق شجرة وارفة قريبة من هذا الممر جسداً مظلماً لا يبدو واضحاً في هذه الليلة السوداء.. وخلال لحظة، كان الجسد قد اعتدل واقفاً وقفز دون وجل من ذلك الموقع ليستقر أمام مجد.. قطب مجد وهو يرى المشاعل القريبة تلقي بضوئها على الرجل بحيث بدت ملامحه واضحة شيئاً ما.. عندها قال بغيظ "أهو أنت؟.. أنت من اختطف رنيم.. ما الذي فعلته بها؟"
قال آرجان الذي وقف أمامه ممسكاً بسيفه العريض في يده "هي بخير.. فلا تقلق.. لكن الأمر مرهون باستجابتكم لما طلبته في هذه الرسالة.. أريد منك تسليمها للملك عبّاد وسأنتظر الرد خلال يوم واحد.. ومع مغيب شمس يوم الغد، لو تم تجاهل مطالبي، فسوف.........."
قاطعه مجد مقطباً "الملك عبّاد قد مات.."
قطع آرجان قوله وهو يحدق في وجه مجد بصمت وصدمة، فأضاف الأخير "قامت إحدى الفتيات اللواتي هربن معكم بتسميمه قبل رحيلها، ولم نتمكن من إنقاذه.. هل نسيتم هذا بهذه السرعة؟"
عقد آرجان حاجبيه وقال "لا.. لم أكن أعلم بهذا.. ولم نأتِ المرة الماضية للانتقام منه لو دار ذلك بخلدك.. لقد قامت تلك الفتاة بذلك التصرف بشكل فردي ولم تبلغ به أحداً منا.."
ثم قال بحزم "هذا لا يغيّر من الواقع شيئاً.. الفتاة ستظل سجينة عندي حتى أستعيد جايا.. أبلغ الأمير زياد بذلك، واطلب منه تحقيق مطالبي بأسرع ما يمكن لضمان سلامة الفتاة.."
زفر مجد بحدة وقال "بل هذا يغير كل شيء.. الأمير زياد لا يعبأ لأمر الفتاة، ولن يحرك إصبعاً لإنقاذها.. أما بالنسبة لتلك المسماة جايا، فقد بحثت عنها في أرجاء القصر منذ تلك الليلة.. حاولت العثور عليها لكي أتمكن من استعادة رنيم، لكني لم أعثر لها على أثر.. وبسؤال الملكة التي كانت تدير أمور هاته الفتيات أخبرتني أن تلك الفتاة قد تمكنت من الهرب قبل وقت طويل، عندما كنتُ غائباً لاصطحاب الأميرة من مملكة أخرى.."
غمغم آرجان بحنق "لو هربت لعادت للهوت بالتأكيد...."
قال مجد بتقطيبة "لكن الملكة قالت إن الفتاة قد سرقت كنزاً غالياً من كنوز الملك، ولا أحد يعلم في أي اتجاه هربت.. ربما هربت لمملكة أخرى لتتمكن من بيع ذلك الكنز والاستفادة مما سيعود به عليها.."
صاح آرجان بغضب "هذا كذب.. كذب.. جايا لن تسرق ولن تلمس شيئاً لا تملكه.. كفّ عن هذه الأكاذيب وسلمني إياها.."
سمعا صيحة تعلو من جانب الحديقة، ولاحظا تدافع عدد من الحراس بعد أن انتبهوا لوجود شخص غريب مع مجد.. أدرك آرجان عندها أن فرصة نجاته من هذا الموقف ضئيلة لو لم يبادر بالابتعاد في هذه اللحظة.. استدار إليه مجد ملاحظاً تلفت آرجان حوله وقال بحدة "أين الفتاة؟.. عليك إعادتها فنحن لا نعلم إلى أين رحلت تلك المدعوة جايا.."
لكن آرجان تجاهله وأطلق صفيراً طويلاً ومجد يصيح به "أين الفتاة؟.. أين هي أيها الجبان؟"
قطع قوله مع هبوط جسم قريب بشيء من العنف مثيراً عاصفة قربه، ولما انتبه مجد لذلك الجسم كان آرجان قد امتطى ظهر التنين الذي استجاب لندائه وقال بصوت واضح "لا أصدق حرفاً مما قلته لي.. أبلغ زياد أن الفتاة لن تعود حتى تعود فتاة الهوت التي اختفت.. واحدة مقابل أخرى.. وما سيصيب فتاة الهوت من ضرر، سيصيب فتاتكم أيضاً.."
وبتربيتة على عنقه، فإن التنين أقلع بسرعة وارتفع في السماء ليغيّبه الظلام في قلبه بينما سمع مجد صوت أقدام الحرس تقترب منه وأحدهم يصيح "هل يتعرض القصر لهجوم آخر يا سيدي؟"
قال مجد بتقطيبة "لا.. ليس هجوماً هذه المرة.."
وزفر بحدة مغمغماً "تباً لهذا الصفيق.. أرجو ألا تكون رنيم قد قضت نحبها ذعراً لما جرى لها.."
نظر للرسالة في يده، وزفر من جديد مفكراً في أمر تلك المدعوة جايا.. لو استعادها، فقد يتمكن من إنقاذ رنيم بشكل أسرع.. لكن بدا أن تلك الفتاة قد ذابت ولم يعد لها أثر في القصر كله.. لمَ تلك الفتاة بالذات؟.. وكيف اختفت بصورة لا يعرفها أحد في القصر كله؟..


*********************
بعد أربعة أيام من اختفائه، وبعد أن فاض الصبر برنيم وكادت تجن في انتظاره، انتبهت لصوت مختطفها الواضح يصلها عبر الباب المغلق.. جلست في سريرها بشيء من اللهفة بانتظار أن يفتح باب الغرفة.. لابد أنه تمكن من إيصال رسالتها، ولابد أن شخصاً ما في (الزهراء) سيستجيب لمطالبه.. هل جاء بهم لهذا المكان؟.. أم سيأخذها إليهم على ظهر تنينه؟..
في تلك الأثناء، كانت كاينا تحدث آرجان المتجهم قائلة بحدة "ما الذي ستفعله الآن؟.. لقد باءت مخططاتك بالفشل والوحيد الذي سيتحمل تبعات ذلك هي رنيم.. فما ذنبها؟"
قال آرجان بحدة "اصمتي.. أتظنين أنني لا أدرك ذلك؟"
ظلت كاينا تراقبه مقطبة وهو يدور في منزله بعصبية، ثم عادت تسأله "قل لي أنك تملك خطة أخرى على الأقل.."
زفر بحدة وقال "سأبحث عن جايا في قرى الهوت الأخرى.. ربما لجأت لإحداها ومنعها أمر ما من العودة إلينا.. وبعد أن يرتاح كاجا من عناء هذه الرحلة، سأعود به للزهراء، عسى أن يكون الملك، أو ذلك الرجل الذي يدعى مجد، قد استوعبا ما نطلبه منهما وحاولا البحث عن جايا بجدية أكبر.."
غمغمت كاينا وهي تغادر "وستظل هذه المسكينة حبيسة دارك حتى يقررا ذلك؟.. كان عليك أن تطيعني عندما طلبتُ منك تركها في الزهراء.."
وخرجت صافقة الباب خلفها بقوة، بينما جزّ آرجان على أسنانه بغضب.. لا يمكن أن تختفي جايا بهذه الصورة.. لا يمكن أن يكون ذلك الرجل صادقاً في كل ما قاله عنها.. لمَ هي دوناً عن بقية الفتيات؟..
طال انتظار رنيم وهي تسمع حديث آرجان مع شخص آخر بلغته دون أن تتبين ما يقال.. ثم بعد وقت طال، ساد الصمت في المنزل بشكل لم تتوقعه.. توترت لهذا وهي تتقدم من الباب وتطرقه بشيء من الحدة.. وبعد بعض الصمت، وجدت الباب يفتح ووجه آرجان يبدو من خلفه بعبوس واضح.. لا تدري لم خفق قلب رنيم لمرأى عبوسه وقد أدركت ما يحمله من أخبار، لكنها تساءلت رغم ذلك "حسناً.. ما الذي جرى مع الملك؟"
زفر آرجان بحدة، ثم قال بشيء من الجفاء "لم يحدث ما يمكنك التلهف عليه.. ما تزال الأمور كما هي وما تزالين حبيسة هذا المكان.. فاهدئي ولا تثيري غضبي.."
وغادر مغلقاً الباب خلفه بينما وقفت رنيم في موقعها ذاهلة.. ثم ركضت للباب وضربته بحدة بقبضتيها وهي تصيح "ماذا تعني بهذا؟.. ألم تصل رسالتي إلى الملك؟.. ألم يرسل أحداً لإنقاذي؟.. افتح بالله عليك ولا تتركني هكذا.."
لكن الباب ظل صامتاً والمنزل ساكناً ورنيم تتهاوى في موقعها واضعة يداً مرتجفة على جبينها.. ما الذي جرى؟.. لمَ لمْ يهرع شخص لإنقاذها مما هي فيه؟.. كيف يتخلون عنها بهذه البساطة؟.. هذا مستحيل.. مستحيل تماماً..


*********************
في اليوم التالي، وبعد انقضاء معظم ذلك النهار، وجدت رنيم المنطوية على نفسها في جانب المكان أن كاينا قد أتت لرؤيتها كعادتها.. وما إن جلست قربها حتى سألتها رنيم برجاء "كاينا.. أخبريني بما جرى بالرسالة التي أرسلها ذلك الرجل للملك.. ما كان رد الملك عليها؟.. ولمَ لمْ يأتِ أحد لإخراجي من هذا المكان؟"
نظرت لها كاينا بشيء من الشفقة، ثم قالت "حدثت أمور كثيرة منذ غيابك عن (الزهراء) يا رنيم.."
سألتها رنيم وقد هوى قلبها عند قدميها "أمور كثيرة؟.. ما الذي جرى؟"
أجابت كاينا بعد لحظة صمت "الملك عبّاد قد مات.."
اتسعت عينا رنيم بذعر وكاينا تضيف "إحدى الفتيات قد قامت بتسميمه تلك الليلة التي هربنا فيها، لكنها لم تخبر أحداً بذلك.. يبدو أن الملك قد أساء إليها بشكل ما، ولذلك لجأت للانتقام قبل رحيلها.. ولم يدرك أحد ما جرى للملك حتى مات بالفعل، لذلك لم يتمكن طبيب القصر من إنقاذه.."
هتفت رنيم وهي تتشبث بكاينا "ما الذي سيجري لي إذاً؟.. بعد موت الملك، من سيعبأ لأمري ويأتي لإنقاذي؟"
قالت كاينا محاولة تهوين الأمر "لقد استطاع آرجان التحدث مع مجد بغفلة عن بقية الحراس.. وقد كان مجد قلقاً لأمرك بشدة.. لابد أنه سيسعى لاستعادتك بشتى الطرق.."
نظرت لها رنيم بمزيج الأمل واليأس، وهما مزيجان متناقضان بشدة لم تشعر بمثلهما من قبل.. يحدوها الأمل أن مجد يهتم لأمرها، وسيأتي لنجدتها بالتأكيد.. ويأس لأنه لم يأتِ بعد رغم مرور كل هذه الأيام.. فما معنى هذا؟.. أهو بسبب موت الملك؟.. أم بسبب رفض زياد السماح له بذلك وهو قد أصبح حاكم المملكة ورئيس مجد؟..
أمسكت كاينا كتفيها قائلة "اسمعيني يا فتاة.. لن تستفيدي شيئاً من هذا البؤس.. سواء أأتى شخص لإنقاذك أم لا.. أهناك فارق؟"
غمغمت رنيم بمرارة "ألا ترين أن هناك فارقاً في هذا؟"
قالت كاينا "لا.. أنا واثقة أن ذلك لن يختلف بالنسبة لك.. ثقي بي يا فتاة.. نحن لا ننوي إيذاءك، ولا ننوي الانتقام لك لما جرى ولأي شيء سيجري.. اعتبري أننا نستضيفك لبعض الوقت، رغم أن هذا جرى بغير إرادتك.. صدقيني لم أكن أتمنى أن يحدث هذا، لكن الآن أرى أنه لا يصنع فارقاً حقاً بالنظر لما كان سيجري لك على يد الملكة والأمير زياد.."
قالت رنيم بصوت متهدج "لقد دُمرت حياتي يا كاينا.."
رفعت كاينا حاجباً وقالت "أتظنين ذلك؟.. وهل أنت آسفة على تلك الحياة حقاً؟"
صمتت رنيم دون إجابة.. لم تكن آسفة على حياة كرهتها، لكنها كانت شيئاً مفهوماً على الأقل.. الآن هي تمر بأيام لا تدري إلى أين ستأخذها أو ما الذي سينتج عنها بعد ذلك.. وهي حبيسة في غرفة بعد أن كانت حبيسة قصر واسع، وتعيش وسط أناس يكرهون النظر لوجهها بأي شكل كما كانت في القصر تماماً.. فما الذي تغيّر حقاً؟..
قضت رنيم ذلك اليوم غارقة في كآبتها، وقد غاب عنها آرجان طوال اليوم بعد أن بدا متعباً بشدة في اللحظة التي رأته فيها في الليلة السابقة.. ومع مغيب شمس ذلك اليوم، وجدته يدخل الغرفة حاملاً بعض الطعام وبعض الأخشاب لإشعال النار في المدفأة اتقاءً لبرد تلك الليلة.. ولما رأته رنيم التزمت الصمت وهي تراقب عمله للحظات.. ثم قالت بصوت لم تملك تهدجه "ما الذي سيجري لي بعد الآن؟"
أجاب دون أن ينظر إليها "لا شيء.. سيظل الحال على ما هو عليه.. لنأمل أن يمتلك ذلك الرجل بعض الحماسة للسعي خلفك وإعادة جايا لنا.."
قالت بمرارة خافتة "أما من أمل في إعادتي للزهراء؟"
صمت للحظات وهو يمارس عمله، ثم قال باقتضاب "ليس في الوقت الحالي.."
زمّت رنيم شفتيها بضيق ومرارة.. لو كان ينوي احتجازها لوقت غير محدد، فهل سيبقيها حبيسة هذه الغرفة حقاً؟.. إنها لم تكد ترَ نور الشمس منذ أيام عدة إلا من نافذة غرفتها الصغيرة، ولا تكاد تقدر على أن تشمّ هواءً نقياً بسبب إقفاله للنافذة.. فهل ستظل على هذه الحال مدة أطول؟..
ودّت لو تخبره بحقيقة ما يعتمل في صدرها، لكنها لم تجرؤ يوماً على ذلك أمام والديها ومن بعدهما زوجها المستقبلي، فكيف تفعل ذلك أمام مختطفها الجلف؟.. لابد أنه سينتقم منها بشدة لو فعلت.. كما أنه لم يعبأ بها عندما طالبته بإعادتها للزهراء.. فهل سيعبأ بضيقها من هذه الغرفة؟..
بعد أن انتهى من عمله، وبدأت المدفأة تنشر بعض الدفء في الغرفة الصقيعية، توجه للمخرج ورنيم جالسة بإطراق وهي تفرك كفيها باستمرار.. لكنها وجدته يقف وسط الغرفة متسائلاً "ما بك؟.. لو كان هناك ما تريدين قوله، فإليّ به.."
خفضت رنيم بصرها بصمت، فسمعته يقول ونظراته الحادة منصبّة على رأسها "عليك التحدث لو كان هناك ما لا يعجبك.. أكره تلك النظرات التي تظهر ما يخفيه لسانك.."
لم تجبه رنيم وشيء من التوتر يغزوها.. ما الذي يبغيه منها بالضبط؟.. وجدته يتقدم فيضرب الجدار خلفها براحة يده وهو يميل نحوها قائلاً بحدة "لا تبتلعي لسانك هكذا.. ألا تملكين رأياً في الأمر؟.."
هزت رنيم رأسها نفياً بسرعة وقلبها يغوص في صدرها.. لابد أنها أثارت غضبه.. فما الذي سيفعله بها الآن؟.. سمعته يزفر بحدة قبل أن يقول "أنت أسوأ مما ظننت.. أحقاً أنت أميرة وأنت منعدمة الشخصية بهذه الصورة؟.. أم أن ما تفلحين بفعله حقاً هو التسلط على الخادمات والحرس في قصر أبيك؟.."
ثم استدار مغادراً معلقاً "بئس الحال.. هذا ممل جداً.."
رفعت رنيم رأسها وقد شعرت بسوء وحنق كبيرين، ثم قالت قبل أن يغلق باب الغرفة "لكني........"
رغم أن صوتها كان ضعيفاً بسبب ارتباكها، إلا أنه توقف ونظر إليها بشيء من التعجب.. استجمعت رنيم شجاعتها وقالت بصوت أكثر وضوحاً دون أن تواجهه بعينيها "أنا أريد الخروج.. لا يحق لك سجني في غرفة واحدة بعد أن اختطفتني عنوة.. كما ليس عليك أن تخشى هروبي فذلك مستحيل تماماً..........."
حلّت ابتسامة ساخرة على شفتي آرجان محل ذلك التعجب، ثم سمعته يقول "هذا أفضل دون شك.. التعامل مع شخصية سلبية كشخصيتك ممل بالتأكيد.. ورغم ذلك، فطلبك مرفوض تماماً.. لا يمكنك مغادرة الغرفة لئلا تواجهي غضب أهل القرية.."
وغادر مغلقاً الباب خلفه، بينما احتقن وجه رنيم بغضب.. لقد خدعها.. فما هدفه من ذلك حقاً؟.. مادام سيرفض طلبها دون نقاش، فلمَ شجعها على طلبه؟.. أهو يتسلى بها؟.. أم أنه أمر آخر؟..


*********************
نهضت رنيم في وقت باكر من صباح اليوم التالي على بعض الضجة في جانب من جوانب المنزل.. لم يكن الفجر قد انبلج بعد وبدت السماء سوداء من نافذتها عندما فوجئت بآرجان يفتح باب غرفتها قائلاً "اغسلي وجهك واستعدي.. ستغادرين هذا المكان لعمل قصير.."
قالت رنيم بتوترها الدائم "أي عمل؟.. ولمَ في هذا الوقت بالذات؟.."
أجابها وهو يرمي شيئاً على سريرها "استبدلي ملابسك بهذه.. لقد طلبت من كاينا جلبها لك.. من المحال خروجك بهذه الملابس الخفيفة في هذا الجو القارس.."
تساءلت بقلق أكبر "لماذا؟.. ما الذي سأفعله بالتحديد؟"
أجاب آرجان بملل "نفذي ما أقوله بصمت.. لا نملك الكثير من الوقت.."
وغادر تاركاً الباب خلفه مفتوحاً ورنيم مشدوهة مما جرى.. لم يسبق له أن فعل أمراً كهذا منذ وصولها لهذه القرية، فما الذي يعنيه هذا؟.. راودها خاطر أن يكون هذا بسبب ما قالته في اليوم السابق، هل ينتوي عقابها على تجرؤها بذاك الطلب؟..
أسرعت بارتباك تغسل وجهها بالماء الذي وضع في آنية في جانب الغرفة.. تذكرت الأواني الفضية ذات النقوش المنمنمة التي تجدها في كل جناح في قصر أبيها وقد ملئت بماء صافٍ مزج بماء الورد.. ولم تكن هذه الآنية تقارن بتلك بأي حال..
نظرت للثياب التي كانت من قماش صوفي بلون أصفرٍ باهتٍ ونقوش بأشكال هندسية على الحزام الذي يخصها، ثم استبدلت ملابسها بعد أن أغلقت باب غرفتها من جديد بإحكام.. لم تكن معتادة على استبدال ملابسها بنفسها، وقد عانت أشد المعاناة من البقاء بالثوب ذاته لعدة أيام.. لكن كيف يمكنها التذمر وهي سجينة لدى هذا الرجل الغريب؟..
بعد ارتدائها لتلك الثياب التي تكونت من قميص بأكمام واسعة تصل لمنتصف ذراعها وبنطال فضفاض طويل، فإنها شعرت بتوتر كبير وهي تنظر لنفسها بقلق.. كيف يمكنها ارتداء مثل هذه الثياب التي لم تعتدْ عليها من قبل؟.. إنها لا تختلف عن ثياب الرجال كثيراً، وتشبه ثياب الخادمات في قصر (الزهراء) وإن كانت تنقصه الزينة التي على ثياب الخدم وتختلف عن قماشها الناعم الجميل.. لكن هل تجرؤ على الرفض؟..
أخيراً، بعد أن استسلمت دون اعتراض كعادتها، سرّحت شعرها المموج وعقصته، وارتدت حذاءً بسيطاً وجدته قرب الباب، ثم تقدمت من باب الغرفة بتوتر وأطلت منه نحو بقية المنزل الذي لم تره منذ قدومها.. كان المنزل الصغير مزدحماً بعدد من الأدوات التي كوّمت في جوانبه، بينما رأت عدداً من الدروع والأسلحة التي علقت في أحد حوائطه.. نافذته التي تحتل جانباً عريضاً من المنزل لا تغطيها أي ستائر، وأثاث المنزل الخشبي البسيط الذي يكاد يخلو من أي زخارف وتغطيه أغطية ملونة زاهية بنقوش وتطريزات لم ترَ مثلها من قبل.. ووسط المكان، رأت آرجان يقف قرب طاولة قريبة يتناول طعامه منها بسرعة..
وبعد تردد، تساءلت رنيم بصوت مبحوح "إلى أين تنوي أخذي؟.. ولأي عمل؟"
قال وهو يشير لإناء قريب "ألا تكفّين عن هذه الأسئلة؟.. تناولي فطورك بسرعة فسنغادر حالاً.. وارتدي هذه لكيلا تتجمدي من البرد.."
تقدمت رنيم من الطاولة متطلعة لذلك الإناء الذي حوى فطورها البسيط.. ورغم جوعها، إلا أنها لم تجد في نفسها أي شهية لتناول الطعام والقلق يعتمرها مما سيجرّها إليه ذلك الرجل الغريب.. ما مصيرها بعد أن تغادر هذا المنزل برفقته؟..
عندما فتح آرجان الباب وخرج منه، وقفت رنيم قرب الباب تتأمل الموقع خارجه بعد أن ارتدت سترة من جلد مدبوغ مبطن بفرو سميك لتمنحها الدفء في هذا الوقت المبكر.. كانت منازل القرية الصغيرة ممتدة أمام ناظريها، مغلفة بظلام شبه تام بحيث أيقنت رنيم أن الفجر لا يزال بعيداً.. ربما لن يغمر نور الشمس الموقع إلا بعد ساعة أو يزيد، وهذا ما نبأتها به زقزقات بعض العصافير المبكرة والتي لم تتمكن من رؤيتها.. نظرت لآرجان الذي حمل بعض الأدوات القريبة ثم تساءلت بقلق "ما الذي سأفعله بالضبط؟.."
قال لها بسرعة "ألم أخبرك؟.. إنه عمل ضروري.. وأحتاج عونك فيه.."
قالت رنيم بقلق متزايد "وما هو هذا العمل الذي لا ينتظر طلوع الشمس؟.."
لم يجبها وهو يحمل بعض تلك الأدوات ودلواً فارغاً، فأضافت "ألست تنوي الخلاص مني؟.."
قال آرجان بنفاذ صبر "وهل أنوي الخلاص منك بدلو فارغ وبعض الأدوات؟.. كفي عن هذه الخيالات واتبعيني.."
وغادر خلف المنزل مبتعداً نحو موقعٍ يعلو عن موقع بقية القرية، فتبعته رنيم بعد شيء من التردد.. لاحظت أنه يستطيع السير في ذلك الموقع المظلم بسهولة دون الحاجة لأي إنارة، بينما تتعثر هي بالحجارة بين خطوة وأخرى وتلحقه بصعوبة تامة، بالإضافة إلى أنها بدأت تلهث بعد مسافة قصيرة وهي لا تكاد تتمتع بأي لياقة.. انتبهت في تلك اللحظة إلى أنه فضّل حمل كل الأدوات بنفسه رغم أنه طلب عونها، فتعجبت لأمره شيئاً ما مما دفعها لتقول "يا سيد.. إلى أين نحن ذاهبان حقاً؟.."
قال لها دون أن يلتفت إليها "اسمي آرجان.."
فقالت "يا سيد آرجان.. إلى أين....؟"
قاطعها قائلاً بضيق "لا أحب أن تناديني بذاك اللقب.. الهوت لا يحبون الألقاب.. أنا هو أنا دون أن أكون سيداً لأحد.."
كان دور رنيم لتقول بنفاذ صبر "إلى أين تأخذني حقاً؟.. لمَ تتنصل من إجابتي بهذه الصورة؟.."
نظر لها قائلاً بابتسامة جانبية "ممّ أنت خائفة؟.. لاشيء يضطرني لاقتيادك كل هذه المسافة لارتكاب أي جرم بحقك.. اتبعيني بصمت فما يزال الهوت نائمون، ولا نريد إيقاظ أحد منهم بعد.."
تلفتت رنيم حولها بشيء من القلق، لكنها لم تتمكن من رؤية شيء مع الظلام الشديد من حولها.. ثم توقفت فجأة عن السير عندما سمعت زمجرة خافتة ولفحتها أنفاس دافئة جعلتها ترفع بصرها وتفتح عينيها على اتساعهما.. فأمامها، وعلى بعد متر أو أقل قليلاً، استطاعت رؤية تينك العينين اللامعتين بلون أخضرٍ زاهٍ، والتي التمعت في الظلام كأعين القطط وإن كانت تفوقها حجماً بعدد من المرات.. تراجعت رنيم خطوة بذعر بينما صدر فحيح من ذلك الجسد الذي تململ وهو يزمجر بتحذير واضح.. لكن آرجان قذف بشيء ما نحوها قائلاً "لا تفرّي مذعورة، فسيلحق بك وسيطؤك بقدمه دون شك.."
انتفضت رنيم بذعر وهي تلتقط ذلك الشيء، لتجد أنه تفاحة حمراء بحجم كف يدها.. ولم تكد تلتقطها حتى وجدت التنين الذي كان أمامها يندفع نحوها بسرعة صرخت لها رنيم فزعة وهي تتعثر فتسقط أرضاً.. أغمضت عينيها بشدة وفزع وهي تنتظر اللحظة التي ستشعر فيها بالألم عندما ينشب التنين أنيابه في جسدها، لكنها عوضاً عن ذلك شعرت بلفحات أنفاسه الحارة وهو يتشممها ويزوم بشيء من الحنق..
أخيراً تجرأت رنيم على فتح عينيها لترى تلك العين الخضراء قريبة منها وهو يبحث بأنفه تحت ذراعها التي ضمّتها لجسدها عند سقوطها.. وقبل أن تفهم ما يفعله سمعت آرجان يقول "إنه يبحث عن مكافأته، وأنت تخبئينها.. لا تستثيري غضبه رجاء.."
أسرعت رنيم تمد يدها بالتفاحة نحو ذلك الفم العريض، ورغماً عنها أغمضت عينيها خشية أن يلتهم نصف ذراعها مع التفاحة بفمه العريض وأنيابه الحادة.. لكنها شعرت بلسانه الرطب وهو يلتقط التفاحة بمهارة ويرميها عالياً قبل أن ينقض عليها ويلتهمها بقضمة واحدة.. ثم استدار وهجم على آرجان الذي أطلق صيحة أفزعت رنيم، فنهضت بسرعة واقتربت من جسده الذي سقط أرضاً وهي تشعر بدقات قلبها تتعالى.. لو أن التنين قد هجم على صاحبه، فهي التالية بالتأكيد.. فكيف لها أن تفرّ من مصير كهذا؟..
لكنها بعد لحظة سمعت ضحكة تصدر من آرجان والتنين يزوم بحنق، ثم قال آرجان مربتاً على خطمه "لم يعد لديّ المزيد.. ألم نتفق على أن أجلب لك تفاحة واحدة كل صباح؟"
نظرت له رنيم بدهشة وهي تراه يحدث التنين كصديق قديم، ثم وجدته يعتدل مزيحاً الحيوان الضخم من فوقه وهو يقول لها "هل فزعت من تصرفاته؟.. التنين لا يختلف عن غيره من الحيوانات، ولا يجب أن يثير الفزع في نفسك.. فكما استطاعت بعض القبائل والممالك ترويض النمور والأسود الشرسة، فإن شعبنا قد استطاع التعامل مع التنانين وتسييرها لمصلحتنا.."
أدارت رنيم رأسها جانباً بصمت.. من المحال عليها في هذه الظروف أن تتأقلم مع رؤية هذه الكائنات المرعبة.. ربما لو كانت في القصر ومحاطة بجمع من الجنود، لكان الأمر أفضل بكثير.. لكن أن تتعامل مع هذا الكائن وهي أسيرة لصاحبه، فهذا مما لا يطمئنها بأي حال..
سمعته يقول وهو ينهض نافضاً ثيابه "احملي هذا الدلو وتوجهي للجدول القريب.. أمامنا عمل كثير في إزالة هذه القذارة عن هذا الكسول.."
بعد تردد كبير، أطاعته وهي تتقدم من جدول قريب لا تكاد تراه، إنما مهتدية بصوته السلس الذي أشعرها ببعض الراحة.. وبعد ممانعة كبيرة، تقدم التنين ليقف قريباً من الجدول ليبدأ آرجان في غسل جلده والعناية به.. بدا لها أن آرجان يعتني عناية فائقة بهذا التنين ويعامله برفق شديد وكأنه مجرد طفل لا حيوان ضخم يفوقهما حجماً.. فتساءلت بعد تردد وبعد أن وجدت أنه يستفرد بمعظم ذلك العمل "كيف تمكن الهوت من ترويض هذه الكائنات المعروفة بشراستها؟.. ما علمته أن التخلص منها، وترويضها بصورة أكبر، عمل مستحيل لم يتمكن أي شعب مع كل علومه من تحقيقه.. فكيف يمكن للهوت المعروفين بـ......"
ترددت للحظة فقاطعها قائلاً بابتسامة جانبية حملت سخرية واضحة "معروفين بماذا؟.. بجهلنا وكوننا أقرب للرعاع منا للبشر المتحضرين؟.. هذه مغالطة كبيرة.."
غمغمت رنيم "ربما كنتَ محقاً بهذا، من وجة نظرك أنت.. لكن هذا ليس سبباً كافياً لتفسير علاقتكم الغريبة بالتنانين.. فكيف تفعلون ذلك حقاً؟"
سمعته يقول وهو منهمك في عمله "نحن لم نروّض التنانين ولم نجبرها على الانصياع لنا.. لا يمكن لبشري أن يفعل ذلك مع كائن ذو كبرياء كهذا التنين.. كل ما هنالك أننا تمكنا من تطويعها بما نقدمه لها من خدمات ومن طعام وخلافه، بينما يصرّ بقية البشر على تطويعها بالقوة وهو ما ترفضه هذه الكائنات.."
استمعت له رنيم بدهشة وهو يضيف "ولذلك، هي بحاجة لرعاية وعناية كبيرة لكي تبقى في خدمتنا.."
تساءلت رنيم وهي تربت على أنف التنين المسترخِ جانباً بعد شيء من التردد "لكن، لمَ كان علينا القدوم في مثل هذا الوقت المبكر للعناية بها؟.. أهناك ما يمنع انتظار النهار؟"
قال آرجان "لا شيء يمنع ذلك.. لكن أنسيتِ أن الهوت يكرهون رؤيتك؟.. لو شاهدوك خارج منزلي فلن أقدر على منعهم عنك.."
صمتت رنيم للحظات، ثم عادت تتساءل "ومن الذي يعاونك في أعمالك هذه عادة؟"
قال آرجان "لا أحد.. أفعل هذا بنفسي عادة.."
استمعت له رنيم بشيء من الدهشة.. هل اضطر للنهوض في وقت أبكر من المعتاد ليخرجها من المنزل قبل استيقاظ بقية من في القرية؟.. ما الذي يدفعه لذلك رغم أنه يقوم بالأعمال ذاتها وحيداً في العادة؟.. هل فعل هذا بسبب طلبها الخروج من المنزل؟.. تنهدت وهي تحك جانب رقبة التنين الذي بدا مستمتعاً بهذا أكثر من أي شيء آخر.. إنها لم تعُد تفهمه.. كيف يهتم بما تريده وهو مختطفها؟..
وبعد بعض الوقت قضته في العناية بهذا الكائن الخرافي، ومعاونة آرجان بما يمكنها عمله رغم تفرده بكل الأعمال المهمة، فإن آرجان توقف فجأة وتلفت حوله للحظات قبل أن يقول "يكفي هذا.. يستحسن أن تعودي لمنزلي قبل استيقاظ الآخرين.."
توترت رنيم شيئاً ما متلفتة حولها، ثم رأت آرجان يتقدمها وهو يشير لها لتتبعه.. فلم تتوانَ عن ذلك وهي تسرع في خطواتها بعد أن بدأ نور خفيف يزيح الظلمة السابقة واستطاعت رنيم أن ترى موضع قدمها بوضوح.. كان من المدهش عودة رنيم لمحبسها طواعية، فما الذي منعها من الهرب في هذه اللحظة؟.. في الواقع، لهذا أسباب عديدة.. منها أنها تخشى مواجهة بقية الهوت.. ويأسها من إمكانية عودتها إلى (الزهراء) أو حتى لـ(بارقة) وحيدة دون معاونة.. ثم إن موقع القرية الغريب يجعل من الصعب عليها، وهي التي قضت حياتها في القصور، من تخطي تلك السلسلة الجبلية والوصول للسهول القريبة ومنها لأقرب قرية..
لكن.. كم من الوقت سيمضي قبل أن يقتنع آرجان أن انتظاره سيطول دون فائدة؟.. هل سيطول الأمر لأسبوع؟.. أسبوعان؟.. أم يستلزمه الأمر شهراً للتأكد أن أحداً لن يأتي بحثاً عنها لإنقاذها؟.. يبدو أن لقب (زوجة ولي العهد) كان أكبر منها كالثوب الفضفاض الذي يبدو عليها بشعاً وغير ملائمٍ بالمرة..
تنهدت رنيم بحدة لم تلحظها وهي تحدق في موضع خطواتها وتتبع آرجان بآلية.. فسمعته يقول "يا للبؤس.. أكل هذا الضيق بسبب عودتك لتلك الغرفة؟.. إذن ما الذي ستفعلينه لو حبسك الهوت في سجونهم الضيقة كريهة الرائحة؟"
نظرت له رنيم بقلق متسائلة "أهي حقاً كذلك؟"
ابتسم بجانب فمه بصمت للحظات، ثم قال وهو ينظر للقرية الساكنة عند قدميهما "لا.. الهوت لا يملكون سجوناً البتة.. هذه عقوبة لا توجد في شرائعنا ولا نطبقها على أي شخص كان.."
تساءلت رنيم بدهشة "كيف ذلك؟.. وما الذي تفعلونه بمن يرتكب خطأ أو إثماً من الهوت؟"
أجاب هازاً كتفيه "هناك عقوبات أخرى أكثر نفعاً للطرفين، وهي تتمحور بالأساس حول القيام بخدمات مجانية للطرف المتضرر.. لكن إن كان الجرم أكبر من أن يُغتفر، فالعقوبة القصوى بالنسبة للهوت هي النفي.. مغادرة القرية دون رجعة هي أشد عقوبة يمكن إيقاعها على أي مجرم من القرية.."
غمغمت رنيم "أنتم متهاونون كثيراً.."
قال آرجان "ربما.. لكن لاحظي أننا نعيش حياة أكثر أمناً مما تعيشونه أنتم في العاصمة.. ثم إن أي رجل أو امرأة من الهوت يضطر للرحيل عن قريته سيعيش حياة عسيرة جداً خارجها.. فالهوت غير مرحب بهم في أي مكان كما تعرفين، لذلك يكون هذا هو العقاب الأشد وقعاً على أي شخص من هذه القرية.."
ظلت رنيم تستمع له بتعجب.. ما سمعته وعرفته عن الهوت صوّر لها أنه شعب جلف متوحش يعيش بصورة أدنى عن بقية البشر.. ظنت أنهم همج لا قانون لديهم ولا ثقافة ولا يختلفون عن الحيوانات بشيء.. ورغم أنها تعرفت على كاينا في القصر وتآلفت معها شيئاً ما، إلا أن ذلك الشعور لم يفارقها بتاتاً حتى رأت قرى الهوت بنفسها.. وبدأت تعرف أي نوع من البشر هم بعيداً عن الادعاءات والأساطير التي تشاع عنهم.. وبعيداً عن نظرة الشعوب الأخرى الضيقة لهذا الشعب المعتزل..


*********************






لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-12-15, 08:30 AM   #9

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



الفصل السابع: عودة للسماء الرحبة


في ذلك اليوم، وبعد عدة أيام من موت الملك عبّاد ودفنه في مقابر الملوك التي تقع قريبة من القصر الملكي، ازدانت المدينة كاملة استعداداً للاحتفال الكبير الذي لم تشهد مثله منذ عقود.. حفل تنصيب زياد ملكاً على عرش مملكة بني فارس العريقة..
كان زياد قد أمر بتجهيز حفل باذخ شديد الفخامة، ودعا إليه عدداً كبيراً من ملوك وأمراء الممالك الموالية لمملكة بني فارس.. كانت (الزهراء) تبدو أجمل مما هي عليه في العادة أضعافاً مضاعفة، ورائحتها تزهو بمئات اللترات من العطور التي رشّت في جوانبها مع بداية ذلك النهار..
وقد ظهر زياد في قاعة العرش مرتدياً زيّاً ذهبي اللون بتطريزات تمثل الأسد وهو شعار هذه المملكة، وهو يزهو بثيابه وبالتاج الذي قام رئيس الوزراء بوضعه على رأسه في احتفالية خاصة وبالطقوس التي مارسها الملوك السابقون نفسها.. بينما تنافس الأمراء ومبعوثي الممالك الموالية لتهنئته والمباركة ببدء هذا العهد الجديد للمملكة.. ولم يكن أسعد من زياد، إلا الملكة سليمة التي جلست على كرسيها قرب كرسي العرش وهي تبتسم بفخر واعتزاز وكأن الاحتفال كان لها هي.. ولم يعكر صفوها إلا رؤية نوران التي وقفت في جانب القاعة دامعة العينين بعد أن بلغتها أنباء اختطاف رنيم عند وصولها للزهراء لحضور الاحتفال.. ما الذي يجعل تلك الحمقاء تبكي على فتاة مثل رنيم؟.. كان عليها أن تظهر سعادتها وحبورها في يوم كهذا..
وبعد عدة ساعات، وقد انفضت أغلب الجموع التي شهدت حفل التنصيب، اقترب الوزير حارث من زياد مهنئاً.. ثم بعد بعض التردد قال بصوت خفيض "مولاي.. ما الذي يمكننا إبلاغه للملك قصيّ بشأن ابنته التي اختفت من القصر؟"
لوّح زياد بيده قائلاً "غير مهم.. لا تقل له أي شيء.."
قال حارث بحيرة "كيف يمكنني ذلك؟.. لابد أن يعلم بما جرى فهي ابنته وهو قد أمّننا إياها.. لو علم بأن الهوت قد اختطفوها فسوف......."
قال زياد بحدة "أأنت مجنون؟.. أتريد أن تعلم الممالك كلها أن أولئك التافهين قد تمكنوا من التسلل للقصر واختطاف أميرة منه والهرب دون أن نتمكن من القبض عليهم؟.. ستسقط هيبة مملكتنا، وسنجد أن الممالك كلها قد أرسلت من يقتحم قصرنا هذا دون وجل.."
قال حارث بضيق وحيرة "أدرك ذلك طبعاً يا مولاي.. لكن مملكة بني غياث قد أرسلت مبعوثاً لتهنئتكم بجلوسكم على العرش.. ألن يثير اختفاء ابنة قصيّ من القصر ريبته؟"
تراجع زياد في كرسيه قائلاً بصرامة "لا عليك من هذا الأمر.. سأتولى أنا صياغة رسالة خاصة موجهة للملك قصيّ وسأرسلها مع مبعوثه.. وسأشرح فيها كل شيء.."
تساءل حارث بشيء من القلق "إذن، كيف ستفسر غياب الأميرة رنيم من قصركم يا مولاي؟"
ابتسم زياد ابتسامة ساخرة وقال "سأبلغه أن ابنته المصون قد هربت من القصر مع أحد الحرس.. هذا هو التفسير الوحيد الذي سيحفظ ماء وجهنا وسيجنّب المملكة مغبّة معرفته بالحقيقة.. هكذا، لن يسعى الملك خلف تلك الفتاة ولن يستنكر اختفاءها من القصر أو يتهمنا بالتهاون في حمايتها.."
لم يعترض حارث وهو مدرك أن ذلك لن يجدي نفعاً، بل انحنى مهنئاً للمرة الثانية، واستدار مبتعداً تاركاً زياد يبتسم ابتسامة واسعة وهو يتأمل أصابعه ذات الخواتم الذهبية التي لا تقدر بثمن.. لقد جاءته هجمة الهوت من حيث لا يحتسب، ومنحته أجمل تغيير تمناه في حياته.. تخلص من تلك الفتاة التافهة، وأصبح الملك في غمضة عين.. كيف يمكن للحياة أن تكون أفضل من هذا؟..


*********************
أمضت رنيم عدة أيام وهي تغادر مع آرجان قرب الفجر للعناية بالتنين.. في الواقع، لم يسمح لها آرجان إلا بالقيام بالقليل التافه من الأعمال، ولم يكن يعترض حتى عندما تتركه وتجول في المنطقة متفحصة بصمت.. بدأت تتآلف بعض الشيء مع التنين، الذي يطلق عليه آرجان اسم كاجا ويعني السماء بلغة الهوت، وبدأت تقترب منه دون خوف أو ذعر وهي تربت على رأسه وتمسح رقبته بشيء من الألفة.. على الأقل، في هذا الوقت القصير الذي تنشغل فيه بهذا العمل، ينشغل عقلها عن أفكاره البائسة وعن الحسرة والندم الذي يلاحقها في كل لحظة وحين.. ماذا لو أنها قبلت عرض كاينا في ذلك اليوم ورحلت قبل مغيب شمسه وقبل بدء تلك الليلة المشؤومة؟.. ماذا لو.......؟.. لكنها سرعان ما تطرح تلك الفكرة من عقلها وتحاول التفكير في أي أمر آخر..
ومع كل لحظة تمضي، تكتشف رنيم أن التنانين لا تختلف كثيراً عن أي حيوان أليف آخر.. لها مظهر مرعب، ولها تصرفات تثير ذعر الآخرين، لكنها تستجيب للطف البشر بسهولة تامة ويمكن كسبها بتفاحة صغيرة..
لاحظت أيضاً أن آرجان يشبه التنين الذي يملكه شبهاً تاماً.. له مظهر مرعب، ويثير ذعرها بصوته الخشن، لكنه يخفي لطفاً واهتماماً بها وبالآخرين خلف مظهره الجلف هذا.. لقد دأب على النهوض أبكر من المعتاد والخروج في هذا البرد القارس للعناية بالتنين لتستغل رنيم الفرصة للخروج من سجنها الخانق دون أن تواجه غضب أهل القرية.. وهي تشكر له مراعاته تلك رغم أنها لا تنسى أنه مختطفها.. لكن ما يهمها أنه لم يسيء إليها بقول أو فعل منذ اختطفها، وهذا يدل على أنه لا يحمل نوايا خبيثة تجاهها..
بعد تلك الأيام، فإن آرجان قد تركها تعود للمنزل وحيدة دون رقابة بثقة تامة لم تتعجب لها.. فكما أدركت رنيم أن هربها مستحيل، كان آرجان واثقاً من ذلك ثقة تامة.. ولولا خشيته من رد فعل الهوت لرؤيتها لتركها تجول بحرية في القرية..
وبعد عودتها، فإنها تبقى طليقة في المنزل لكن وحيدة مع اختفاء آرجان أغلب ساعات النهار.. ومما علمته من كاينا أنه يغادر لقرى الهوت الأخرى بشكل شبه يومي دون أن تفصح لها عن سبب ذلك..
وفي أحد الأيام، وفيما كانت رنيم تهمّ بالعودة لمنزل آرجان قبل انبلاج الفجر بقليل، سمعته يقول للتنين "هيا بنا يا صاحبي.. علينا الرحيل باكراً هذه المرة فالطريق طويل.."
استدارت رنيم باهتمام ووقفت تراقبهما وآرجان يثبت السرج على ظهر التنين بإحكام ويضع الشكيمة المعدنية في فمه بعد شيء من الممانعة من جانب كاجا.. ولما انتبه آرجان لرنيم التي تراقبه عن كثب، تساءل بدهشة "ما الذي يبقيك هنا حتى الآن؟.."
فركت رنيم كفيها دون أن تجيبه.. فقال وهو يتأكد من ثبات السرج "أخبرتك ألا تكتمي ما برأسك من......"
اندفعت تقول قبل أن يتم حديثه "هل تسمح لي بالركوب معك في جولة قصيرة؟.."
قال آرجان بدهشة "لماذا؟.."
قالت بارتباك "أحب تجربة ذلك مرة أخرى.. في المرة الماضية أعجزني خوفي عن الاستمتاع بتجربة استثنائية كهذه.. وقد لا تتكرر هذه الفرصة مرة أخرى.."
غمغم بابتسامة "ألا تخططين لأي أمر آخر؟.."
هتفت بإخلاص "قطعاً لا.."
ضحك آرجان لردها المنفعل، ثم قال "حسناً.. أعتقد أنك تستحقين ذلك.."
امتطى ظهر التنين المرتفع بكل مهارة، ثم انحنى ومد يده لها فتقدمت بعد شيء من التردد وتمسكت بيده لتجده يرفعها بكل سهولة.. وعوضاً عن أن يردفها خلفه، أجلسها أمامه ومد يده باللجام إليها قائلاً "ما رأيك بأن تتولي توجيه كاجا بنفسك؟"
نظرت له رنيم بدهشة وهتفت "هل ستسمح لي بذلك؟"
لوّح بإصبعه مجيباً "لمرة واحدة فقط.."
أمسكت رنيم اللجام بيدين ترتجفان لشدة انفعالها، وشعرت بتململ التنين وهو يحرك جناحيه ويطوّح ذيله بانتظار أمر منها.. وقبل أن تتجرأ على جذب العنان والسماح للتنين بالطيران عالياً، فإنها مدت يدها وربتت على رقبته القريبة منها هامسة "سأكون تحت رحمتك في اللحظات القادمة.. فكن رفيقاً بي يا كاجا.. اتفقنا؟"
هز كاجا رأسه بقوة وهو يرفع بصره للسماء، عندها هزت رنيم اللجام ولكزت التنين في بطنه متبعة تعليمات آرجان.. وبخفة، إنما بقوة وسرعة، ارتفع كاجا نحو السماء مرفرفاً بجناحيه بقوة بينما تحاول رنيم توجيهه بشيء من الصعوبة.. لم تكن تستطيع الإمساك باللجام وتسيير التنين دون التشبث بالسرج، ولولا أن آرجان قام بتثبيتها بإمساك كتفها بيده، لسقطت من فوق ظهر التنين من اللحظة الأولى مع حركته العنيفة..
سمعت آرجان يقول لها "لو شعرتِ ببرد شديد أخبريني لكي أعيدك للأرض.."
لكنها لم تجبه وهي منشغلة بما تمر به.. ولشدة انفعالها فإنها شعرت بلهيب في أعماقها ولم تكد تشعر بالبرد القارس الذي لسع خديها.. كان التنين يرتفع بكل سلاسة وسرعة متجاوزاً قمة جبل قريب قبل أن يرتفع عالياً في دورة واسعة حول القرية معتمداً على الرياح القوية ومكتفياً برفة جناح بين فينة وأخرى.. نظرت رنيم للموقع الذي بدأ الظلام يهرب منه مع تزايد النور في الأفق، بينما التهبت الألوان بشدة في ذلك الموقع دليلاً على قرب شروق الشمس.. كانت الرياح القوية تحمل لها رائحة منعشة رغم برودتها الشديدة، وبينما مال التنين متفادياً بعض جوانب الجبل القريب، فإن رنيم أخذت نفساً عميقاً وهي تشعر بالهواء يضرب خديها بقوة.. وبمعاونة صغيرة من آرجان الذي استمر في تعليمها كيفية التحكم بالتنين دون أن تسمح له بالطيران برعونة قد تسقطهما من على ظهره، فإن رنيم قادت التنين عبر القمم القريبة بشيء من الانطلاق رغم أن هذه هي محاولتها الأولى..
وبعد عدة دقائق من الطيران بكل حرية، فإن آرجان ربت على كتفها قائلاً "لنعد للأرض.. ستتجمدين من البرد.."
غمغمت رنيم بشيء من الإحباط "لن يحدث هذا.."
فقال وهو يشد عنان التنين "بل أنا من سيتجمد من البرد.. والآن، وجّهي التنين للهبوط واضغطي على بطنه بقدميك برفق.."
فعلت رنيم ما طلبه منها والتنين يهبط بهما بدورة واسعة حتى عاد لموقعه السابق في جانب من ذلك الجبل.. وبعد هبوطهم بسلاسة، بقيت رنيم في موقعها وهي تلهث بشدة وكأنها بذلت مجهوداً عنيفاً.. إنما كانت تلك مشاعر قوية غمرتها وجعلتها مشدوهة منفعلة بشدة بحيث عجزت عن التعبير عما تحسّ به في تلك اللحظات.. وإزاء صمتها، قال آرجان وهو يترجل "يبدو أن ما رأيته كان صدمة لك.. أتمنى ألا تراودك الكوابيس مع كل هذا الانفعال.."
وساعدها على الترجل بدورها، وفور أن لامست الأرض بدا أن العقدة التي كانت تربط لسانها قد انفكّت وهي تهتف "أأنت تمزح؟.. هذا أجمل من أي حلم حلمت به في حياتي.."
نظر لعينيها اللامعتين رافعاً حاجبيه بتعجب، بينما ابتسمت رنيم ابتسامة مشرقة وهي تقول بانفعال "أشكرك كثيراً على هذه الفرصة التي أتحتها لي.. رغم كل ما جرى، لن أنسى ما رأيته اليوم بقية حياتي.."
أدار آرجان بصره للتنين القريب هارباً من انفعالاتها الغامرة، ثم قال وقد انتبه لشروق الشمس الذي بدا واضحاً في الأفق "عليكِ الرحيل بسرعة.. أخشى أن يراك أحد الرجال ويحدث ما لا نرغب به.."
لم تعترض رنيم على ذلك وهي تستدير للتنين الذي أخذ يفتش عن مكافأته بعد رحلة كهذه.. فاقتربت منه رنيم دون وجل وأحاطت رأسه بذراعيها وهي تقول بابتسامة "شكراً لك يا كاجا.. أنت كائن رائع حقاً.."
دهش آرجان لرؤية كاجا مستسلماً لانفعالاتها وهو يمسح رأسه بذراعيها.. فقالت رنيم وهي تبتعد خطوات "سأحضر لك مكافأتك في المرة القادمة.. فانتظرني.."
واستدارت مبتعدة بخطوات خفيفة غاب عنها ارتباكها المعهود وتوترها الدائم.. ربت آرجان على رأس كاجا الذي أخذ يزوم معترضاً على تجاهله، وراقب رنيم في ابتعادها مغمغماً "يبدو أننا قابلنا فتاة غير اعتيادية يا رفيقي.. إنها خيالية فوق ما يلزم.."
دفعه كاجا بشيء من الحنق لتجاهله حتى أسقطه في الجدول البارد القريب التي غمرته بمياهها الصقيعية مما جعل آرجان ينتفض بصدمة وهو يصيح "ما بك يا أحمق؟.. هل تريد قتلي؟"
أما رنيم، فقد سارت بخفة هابطة من ذلك الجانب من الجبل نحو منزل آرجان وابتسامة متسعة تتبدى على شفتيها.. شمّت الهواء البارد بعمق مستمتعة برائحة القرية القريبة، وتنهدت وهي ترفع بصرها للسماء.. من الصعب تصديق ما شعرت به وهي في الأعلى.. للمرة الأولى تشعر وتتيقن أن ذلك المكان الواسع هو موطنها.. هو المكان الذي لطالما حلمت به في خيالاتها وتمنت أن تكون فيه.. لو كان للبشر أن يعيشوا فوق الغيوم، فهي ستكون أول من يفعل ذلك بكل حماس.. وهي سعيدة لأنها قامت بهذه التجربة التي ستستعيد ذكراها بمتعة وحنين عند عودتها لذلك القصر البارد..
توقفت رنيم فجأة وهي تفكر بصمت.. تعود لذلك القصر؟.. لماذا؟.. ما الذي يجبرها على ذلك فعلاً؟.. عائلتها؟.. زوجها الذي لم تتزوجه بعد؟.. ما السبب الذي يجعلها تلحّ وتبكي للعودة لذلك القصر حقاً؟..
نفضت رنيم تلك الأفكار بشيء من القلق وهي تخطو خطوة نحو منزل آرجان، عندما توقفت من جديد لدى سماعها ذلك الأنين الخافت.. بدا خافتاً لدرجة أنها لم تسمعه إلا عندما توقفت عن السير.. تلفتت رنيم حولها بشيء من الدهشة، ثم سارت نحو ذلك الموقع الأقرب للصوت.. وهناك عند حافة عالية في ذلك المنحدر ومن فوق الصخور التي تميل بحدة نحو هاوية على شيء من الانخفاض، رأت رنيم ثوباً أزرق ملقىً على صخرة بارزة تعلو تلك الهاوية.. ولما دققت النظر فيه انتبهت لتلك اليدين اللتين برزتا من الثوب متشبثة بالصخرة وذلك الرأس بالشعر الأشقر الذي يصدر أنيناً خافتاً..
توترت رنيم لذلك المنظر وهي تصيح بصاحبه "أأنت بخير؟"
ثم انتبهت لحديثها بالعربية وهو ما لن يفهمه ذلك الصبي الذي لم يرفع رأسه تجاهها.. وقفت رنيم تتلفت بقلق شديد بحثاً عن آرجان، لكنه كان بعيداً عنها ولن يسمع نداءها لو فكرت بالاستعانة به.. كما أن الموقع حولها كان خالياً من أي بشري، فهل تترك الموقع وتذهب لمناداة آرجان؟.. لكنها لا تثق أن الصبي سيتمكن من الثبات على الصخرة لوقت طويل.. عندها غامرت رنيم بالشيء الوحيد الذي تستطيع فعله، فأسرعت تحلّ رباط ثوبها الذي كان على شيء من الطول وربطت طرفه في شجرة قريبة.. ثم حاولت أن تتدلى من الصخرة ونحو المنحدر ببطء متشبثة بالرباط.. أخذت تنقل خطواتها شيئاً فشيئاً ببطء شديد وقلق أشد.. لم تكن قد تجاوزت الصخرة بشكل مباشر عندما عجزت قدماها عن الثبات على الصخرة الملساء فانزلقت وهي تطلق صيحة فزع.. تشبثت بالرباط بكلتي يديها وهي تحاول الارتفاع من جديد دون نجاح يذكر، عندما شعرت بيد قوية وباردة كالصقيع ترفعها بسهولة حتى جلست على الأرض المستوية..
نظرت لآرجان الذي قال لها بحنق "ما الذي تفعلينه؟.. هل تنوين الانتحار؟"
غمغمت بشيء من الارتباك "هناك.. صبي.. في الأسفل.."
قال بضيق "لقد رأيته بالفعل.. لكن لمَ لمْ تناديني لأرفعه بنفسي؟.. سقوطك أنت سيكون أسوأ منه.."
قام بالهبوط بنفسه مستخدماً رباط ثوبها الذي لم يكن بالطول الكافي، لكن آرجان مد ذراعه الأخرى متشبثاً بالرباط بيد واحدة، وجذب الصبي من ملابسه حتى أحاطه بذراعه بقوة.. ثم هزه قائلاً "أيها الصبي.. أأنت مستيقظ؟.. تشبث بي كي أتمكن من الارتفاع بك للأعلى.."
ظل الصبي ساكناً للحظات، ولما هزه آرجان بشدة أكبر فتح الصبي عينيه، وقام بما طلبه أرجان وهو يتشبث بعنقه بكل ما يملك.. عندها عاد آرجان يرتفع حاملاً الصبي على ظهره وينقل خطواته بكل حذر حتى وصل لموضع رنيم التي حاولت مساعدته وجذبت الصبي من على ظهره..
وبينما جلس آرجان جانباً بشيء من التعب، فإن الصبي قد أغمض عينيه من جديد وبدا أنه قد غرق في غيبوبة ربما كانت ناتجة عن سقوطه العنيف.. نظرت رنيم لآرجان قائلة "شكراً لك.. كاد يلقى حتفه لو سقط في هذا المنحدر.."
انتبهت أن آرجان كان مغموراً بالمياه شديدة البرودة، فتساءلت بتعجب "هل ذهبت للاستحمام في هذا الجو الصقيعي؟"
قال آرجان بضيق وحنق "كفي عن هذه الملاحظات الساخرة.. سأذهب لاستبدال ملابسي.. يستحسن أن نحضر الصبي أيضاً للمنزل ولا يبقى في العراء.."
حمل الصبي عائداً للمنزل القريب مدمدماً "يبدو أن رحلة اليوم قد ألغيت مع كل هذا التأخير.."
تبعته رنيم بخطوات سريعة كاتمة ابتسامة وهي تراه يعطس باستمرار.. وفي المنزل، وضع آرجان الصبي على أحد المقاعد العريضة وسطه وغادر لاستبدال ملابسه بعد أن تجمدت أطرافه من البرد، بينما اقتربت رنيم مشفقة من الصبي وتفحصته محاولة معرفة إن كان قد أصيب بجرح خطير أو كسر في أحد عظامه.. لكنه كان سليماً مما جعلها تتنهد وتجلس بقربه بعد أن غطته بدثار جلبته من غرفتها..
بدا لها أن الصبي لم يتجاوز التاسعة من عمره، بملامح بريئة وجسد ضئيل وقصير.. وبعد بعض الوقت، عندما فتح الصبي عيناه، قفز جالساً في موقعه قبل أن ينثني بألم ممسكاً خاصرته.. فقالت رنيم "اهدأ.. كانت سقطتك عنيفة وسيؤلمك جسدك لبعض الوقت.. لكنك خالٍ من أي كسور أو جراح والحمدلله.."
كانت واثقة أن ذلك الصبي لن يفهم ما تقوله، لكنها حاولت تطمينه بابتسامتها وبإشارة من يديها.. فنظر لها الفتى بتوجس، ثم قال "ما الذي فعلته بي؟"
رفعت رنيم حاجبيها وهي تسمعه يتحدث العربية بشيء من التشويه وإن كانت كلماته مفهومة.. فقالت بابتسامة "أنت تتحدث لغتي؟.. هذا رائع.. لكن، ما الذي تظن أنني فعلته بك؟.. لقد أنقذت حياتك.."
قطب الصبي بحدة وقال "أنقذت حياتي؟.. هراء.."
نظرت له بتعجب للغضب البادي على وجهه، ثم سمعته يقول بعد لحظة صمت وبحدة أكبر "حتى لو أنقذت حياتي، فلا يمكنني شكرك أبداً.. أنت ستجلبين الوبال على قريتنا هذه.."
ضحكت رنيم لقوله وعلقت قائلة "ممن سمعت هذا القول؟.. لا تردد كل ما تسمعه كالببغاء.."
وربتت على رأسه عابثة بشعره قليلاً.. فلوح بذراعيه ليبعد يدها وهو يقول بحنق "أتهزئين بي؟"
لم تملك رنيم ابتسامتها وهي ترى تلك التصرفات المتكبرة من ذلك الصبي الضئيل، فسألته بلطف "ما هو اسمك؟.."
نظر لها بحدة تتجاوز عمره، ثم قال بكبرياء "الأسماء مقدسة لدى الهوت، لذلك لا يفشونها للغرباء بتاتاً.."
تظاهرت رنيم بالتفكير للحظة ثم قالت "هذا غريب.. أنا واثقة أن اسم كاينا هو اسمها الحقيقي.. كما أن آرجان لم يتردد في إخباري باسمه دون أن أسأله.."
نظر لها الصبي بمزيج الحدة والضيق، ثم قال باستنكار "أنا لست ضعيف الشخصية مثلهما.. لن أخبرك باسمي مهما حصل.."
سمعت رنيم في تلك اللحظة صوت طفلة تنادي "توما.. توما......"
بدا شيء من الغيظ على ملامح الصبي بينما تكرر النداء بإلحاح، مما أكد لرنيم أن الطفلة تنادي هذا الصبي بالتحديد.. ثم رأته يقفز واقفاً واستدار مغادراً بوجه محتقن محاولاً ألا يعرج في سيره بينما هتفت رنيم خلفه بابتسامة "إلى اللقاء يا توما.."
رأته يركض نحو طفلة لا تتعدى الخامسة من عمرها ووقف يجادلها بحنق، ثم لكمها على رأسها بيده المضمومة لكمة آلمتها وغادر وهي تتبعه باكية.. بينما ضحكت رنيم لتصرفاته وغمغمت بتعجب "حتى الأطفال يكرهون وجودي هنا؟.. يبدو أنني أتفوق على نفسي.."
كان لمثل تلك المحادثة أن تسبب ضيقاً في نفسها وكآبة شديدة في العادة، لكنها هذه المرة كانت رائقة المزاج وصدرها يفيض سعادة وحبوراً بحيث ترى كل شيء ممتعاً ويرسم الابتسامة على شفتيها.. تنهدت وهي تجلس على سريرها وتنظر عبر النافذة الضيقة في الغرفة للسماء التي بدأت تكتسب لوناً أزرقاً جميلاً.. ليت الحياة كانت جميلة كما رأتها من الأعلى.. ليت المصاعب والمشاكل التي تلاحقها بدت صغيرة ضئيلة بشكل تافه كما بدت منازل القرية من ذلك الارتفاع.. وليتها تملك الحرية والانطلاق اللذين شعرت بهما وهي على ظهر ذلك التنين الذي شقّ السماء بكل سلاسة ونعومة..


*********************
في اليوم التالي، وبعد أن عادت رنيم من العناية بالتنين وبقيت جالسة وحيدة في المنزل، شعرت بصوت خافت قرب باب المنزل دهشت له.. اقتربت من الباب وفتحته ظناً منها أنه آرجان وقد عاد بعد أن أتمّ ما عليه من مهام كالعادة، لكنها فوجئت بتوما الذي كان منحنياً يضع شيئاً في يده قرب عتبة المنزل.. ولما رآها استدار بسرعة هارباً، لكنها قبضت على عنق ثوبه بسرعة وقالت "إلى أين؟"
صاح توما وهو يقاومها "اتركيني.."
لكنه كان ضئيل الجسد بحيث لم يتمكن من الفكاك من قبضتها، بينما نظرت رنيم للإناء الذي وضعه توما قرب الباب وحوى بعض الخبز الساخن.. نظرت لتوما الغاضب بدهشة وقالت "أهذا لي؟.. أم لآرجان؟"
قال بحدة "لكما أنتما الإثنان.. أنا لا أحب أن أحمل جميلاً لأحد، وبهذا الإناء أكون قد رددت جميلك لإنقاذ حياتي.."
ابتسمت رنيم معلقة "حياتك تساوي بضع أقراص من الخبز؟.. هي حياة بخسة إذاً.."
وجذبته حاملة الإناء لداخل المنزل وهو يصيح معترضاً "أطلقيني.. ما الذي تبغينه بعد؟"
قالت بعد أن أغلقت الباب "اسمع.. أنا أبقى وحيدة معظم اليوم في المنزل.. ما رأيك بأن تجلس معي وتحدثني قليلاً؟"
قال بجفاء "لماذا؟.. ما الذي سأستفيده من البقاء مع غريبة مثلك؟"
قالت "سأحدثك عن (الزهراء) التي لم ترَ مثلها من قبل، وبالمقابل ستحدثني عن الهوت وعن هذه القرية.."
قال توما بحدة وسرعة "أنا لن أفعل ذلك.. الهوت لا يفشون أسرار القرية بتاتاً.."
جلست رنيم جانباً وقالت "لا بأس.. يكفي أن تستمع إليّ وأنا من سيتحدث.. ألا تحب أن تعرف شيئاً عن (الزهراء)؟"
غلب فضول توما حنقه، فسار بعد تردد حتى جلس على كرسي آخر وهو ينظر لها مضيقاً عينيه بجفاء.. لكن رنيم لم تعبأ بهذا وهي تحدثه عن كل ما رأته في (الزهراء) وعن جمال طرقاتها وبناياتها وقصورها.. كانت واثقة أن حديثاً كهذا سيجذب انتباه توما وسيُسقط الحواجز التي يضعها حول نفسه بسهولة.. لقد سئمت رنيم من البقاء وحيدة في هذا المنزل، وفضولها الذي لا يخفت عن الهوت لا يعبأ به آرجان الذي لا يجيب عن أغلب أسئلتها إلا بإجابات مقتضبة..
ورغم أن توما غادر في ذلك اليوم قائلاً بحدة أنه لن يعود مرة أخرى، فإن رنيم وجدته في اليوم التالي عائداً حاملاً بعض الفطائر بحجة أنها زائدة عن حاجة عائلته.. ابتسمت رنيم دون تعليق وهي تجذبه للمنزل وتجلس معه محاولة دفعه للحديث عن عائلته وعن القرية والتنانين الأخرى التي لم ترها رنيم.. وقد سألته باهتمام "كيف تعلمت الحديث باللغة العربية؟.. أغلب الهوت لا يعرفونها كما لاحظت عند قدومي.."
قطب توما وكأنه أهين بقولها هذا وقال بحدة "بل كل الهوت يعرفون التحدث بالعربية، لكنهم يأبون إلا التحدث بلغتهم.. نحن نفخر بلغتنا، نفخر بهويتنا، ولا ننوي بتاتاً الذوبان في مملكة بني فارس كما فعلت الشعوب الأخرى حتى ضاعت هويتها ونُسي تاريخها.."
قالت رنيم بابتسامة "هذا رائع.. مثابرتكم هذه أثارت إعجابي.. وماذا عن.....؟"
قال لها توما مضيّقاً عينيه "لمَ تكثرين من الأسئلة عن الهوت؟.. أأنت جاسوسة من الملك؟.. لابد أنه أرسلك لتقصّي أخبار الهوت تحضيراً لهجمة جديدة على قُرانا.. أليس كذلك؟"
ضحكت رنيم لقوله وعلقت "جاسوسة؟.. لم أكن لآتي لهذه القرى لو لم يختطفني آرجان بالقوة.. لكني أحب القراءة وقد قرأت الكثير من الكتب عن شعوب العالم.. قرأت كل ما يمكن قراءته، لكني لم أجد إلا قلة من المعلومات عن الهوت.. فهم لا يملكون تاريخاً مكتوباً ولا يشاركون خبراتهم وتاريخهم مع أحد، بل لا يخالطون أحداً بتاتاً مهما استدعت الحاجة لذلك إلا في نطاق ضيّق.."
قال توما باهتمام شديد "أأنت تعرفين القراءة؟"
هزت رأسها إيجاباً، فاعتدل في جلسته متسائلاً "وهل تعرفين الكتابة أيضاً؟"
قالت رنيم "القراءة والكتابة لا ينفصلان أبداً.."
عندها قفز توما قائلاً بلهفة "هل تعلمينني إياهما؟"
نظرت له رنيم بدهشة، لكنها فوجئت به يغادر الموقع راكضاً وهي تناديه دون أن يستجيب لندائها، ثم لم يلبث أن عاد حاملاً كتاباً أوراقه عتيقة وغلافه مهترئ.. فوضعه أمامها قائلاً بلهفة "علميني قراءة هذا الكتاب.."
تناولت رنيم الكتاب بدهشة متسائلة "من أين حصلت عليه؟"
أجابها "هازر قد ورث بعض الكتب من أبيه الذي كان يحب جمعها ويتقن القراءة والكتابة.. للأسف كان قد عميَ عندما بدأت أهتم بالكتب ولم أتمكن من التعلم على يديه.."
صمتت وتأملت غلافه فلم تتمكن من قراءة ما كتب عليه لشدة ما كانت مطموسة، ففتحته وتصفحته بشيء من الدهشة والاهتمام.. لقد افتقدت هذا الشعور منذ زمن.. افتقدت ملمس الأوراق ورائحتها، وافتقدت جمال الحروف المكتوبة وافتقدت ذلك العالم الذي تحلق إليه بخيالها.. كان الكتاب عن حروب القرن الأخير قبل توحد مملكة بني فارس.. وقد أدرجت فيه خرائط وخطط خاصة بتلك الحروب وبنتائجها وبما قادت إليه من قيام المملكة ومن توحد معظم أقطار القارة العظمى تحت لوائها..
انتبهت لنظرات توما المتلهفة وهو يراقبها، فقالت بابتسامة "عليك أن تكون صبوراً.. أريد قراءة هذا الكتاب هذه الليلة، وسأعلمك القراءة والكتابة منذ الغد.. اتفقنا؟"
قال بإلحاح "علميني البداية على الأقل.. أي حرف أو أي كلمة.. هذا ليس عدلاً.."
هزت رنيم رأسها موافقة، وفتحت أولى صفحات الكتاب وهي تشير للحروف وتشرح لتوما كيفية كتابتها وقراءتها في مواضع مختلفة من الكلمة.. لم يكن توما يملك دواة وريشة للكتابة، فاكتفت بشرح شفوي على أمل أن يستفيد من هذا رغم كل شيء.. كان شغف توما يتزايد مع كل لحظة تمضي، ولم ينتبه الإثنان إلى آرجان عند دخوله للمنزل حتى سمعاه يقول "يبدو أن توما قد أصبح أحد أفراد هذا المنزل.. ما الذي تفعله هنا كل يوم يا فتى؟"
قال توما بحنق وهو يشعر بأن آرجان يعامله بشيء من التصغير "ليس لك الحق في التدخل فيما يخصني.."
قال آرجان بتعجب "حتى لو كان ذلك في منزلي؟.."
ثم لوح بيده قائلاً "هيا غادر يا فتى.. لا أريد أحد أفراد عائلتك أن يبحث عنك ويكتشفوا أنك تختبئ في منزلي لتحادث الفتاة الغريبة.."
نظر له توما بغيظ، وقد كان مستمتعاً بتعلم قراءة الكتاب مع رنيم، لكنه غادر بصمت خشية أن يطرده آرجان ويمنعه من دخول المنزل، وترك الكتاب مع رنيم مع وعد بالعودة في يوم آخر..
ولما غادر نظر آرجان بتعجب لرنيم، فغمغمت بابتسامة "إنه فتىً طيب.."
علق آرجان وهو يضع ما يحمله بيده في جانب المنزل "لا تجعليه يقضي أوقاتاً طويله هنا، فأنا لا أريد أي مشاكل مع أهل القرية.."
قالت رنيم باعتراض "لكني وعدته بتعليمه القراءة والكتابة.. يبدو لي أن توما شغوف بالتعلم والقراءة، واحتفاظه بهذا الكتاب أكبر دليل على هذا.."
ثم غمغمت وهي تنظر للكتاب بين يديها "يذكرني هذا بأزمان قديمة جداً.. عندما كنت أتلهف لتعلم القراءة كي أتمكن من التسلل لمكتبة أبي الضخمة وأطالع الكتب التي تجذبني بأغلفتها الزاهية وعناوينها المذهبة.."
قال بسخرية "أزمانٍ قديمة؟.. من يسمعك يظنك تجاوزت المائة من عمرك.."
قالت مقطبة "لكني أكاد أبلغ العشرين من عمري.. وهذا عمر ليس بقليل.."
ضحك آرجان معلقاً "عشرين؟.. لازلتِ غرّة ساذجة.. أنت بحاجة لعشر سنوات على الأقل قبل أن تعدّي نفسك بالغة.."
فقالت بضيق "وكم عمرك أنت؟.. لا أظنك تكبرني بكثير.."
أجاب بابتسامة جانبية "لقد تجاوزت الرابعة والثلاثين.. وهو فارق كبير كما ترين.."
علقت بشيء من الحنق "هذا لا يبيح لك الاستهزاء بي.."
فقال دون أن تخفت ابتسامته "لم أستهزئ بك بتاتاً.. إنما كانت تلك حقيقة.."
لم يهدئ ذلك ضيقها وهي تدير بصرها جانباً بصمت.. ثم تساءلت "لمَ تعيش وحيداً في هذا المنزل؟.. أين بقية أهلك؟.. ولمَ لست متزوجاً حتى الآن؟"
قال رافعاً حاجبيه "وما شأنك أنت؟.. هل تسألين هذه الأسئلة بحثاً عن وسيلة للفرار من قبضتي؟"
غمغمت وهي تدير بصرها جانباً "من يدري؟.."
فقال آرجان وهو يدلف غرفته "كما يحلو لك.. الأبواب مفتوحة لك في أي وقت.."
ابتسمت رنيم وهي مدركة أنها لن تفعل ذلك.. آرجان أيضاً يدرك أن رنيم لا تملك القدرة على الرحيل وحيدة، لذلك لم يعد يغلق بابها بالمفتاح كل ليلة.. ورغم تطاول الأيام، فإن رنيم لم تعد تسأله عما ينوي فعله بها، وعن نيته بإطلاق سراحها.. لم تعد تعبأ بعدّ الأيام للعودة للزهراء، ولم تعد تسأل عما جرى فيها..
غادرت للغرفة التي كانت محبسها في الأساس، لكنها أصبحت غرفتها نوعاً ما بعد أن طال وجودها في هذه القرية، وهذا المنزل، دون أن يكون لها سبيل للرحيل.. وفي هذه اللحظات، كانت رنيم ترحّب بالخلوة بشدة وبين يديها هذا الكتاب الذي أثار شغفها للقراءة من جديد.. وهي التي تعشق قراءة التاريخ بكل أشكاله الممكنة..


*********************
كم يوماً قضته رنيم سجينة في قرية الهوت، لا تكاد تخالط أحداً ولا ترى أحداً عدا الثلاثة الذين تعرفهم وهم كاينا وآرجان وتوما؟.. لا تعرف الجواب.. وبعد كل تلك الأوقات، نسيت رنيم أو تناست أمر عودتها للزهراء تماماً.. أصبح الموضوع لا يشغل تفكيرها ولا يسبب لها الضيق إلا اضطرارها للبقاء طوال اليوم في المنزل دون أن تخطو خطوة خارجه وحيدة.. والوقت الوحيد الذي أصبح متنفساً لها من هذا السجن هو في العناية بالتنين الذي لم تتخلّ عن القيام به كل فجر رغم أن آرجان حاول إقناعها بالكف عن ذلك.. لكن كيف تكف عن الخروج من هذا السجن واستنشاق رائحة الفجر في هذه الجبال الباردة والالتقاء بالتنين كاجا الذي أصبح مع مرور الوقت يقفز نحوها كلما رآها لينال جائزته التي تحملها معها في كل مرة..
ورغم أن آرجان كرر رفضه اصطحابها في جولاته في مرات ثانية، لكنها لم تتذمر وهي تكتفي بالعناية بالتنين بكل صبر..
وبعد تلك الأيام، بعد مضيّ ساعات قليلة على بدء ذلك النهار، وبينما كانت رنيم جالسة في المنزل بانتظار قدوم توما الذي دأب على الجلوس معها وتعلم الكتابة والقراءة منها بمثابرة، سمعت صوتاً يتحدث قرب الباب بنبرة أثارت انتباهها.. أدركت أن ذلك الصوت هو صوت آرجان، لكن الثاني كان صوت رجل آخر من أهل القرية.. ورغم أن رنيم حاولت الإنصات عبر الباب المغلق، لكنها لن تقدر على فهم لغة الهوت مهما حاولت.. على الرغم من أنها سعت لتعلمها من توما في الأيام الماضية مدفوعة برغبة غير مسبوقة لفهم حديثهم دون ترجمة، لكن الأمر لا يتعدى بضع عشرات من الكلمات وبعض الجمل البسيطة..
توجهت رنيم للنافذة القريبة وأطلّت عبرها محاولة ألا تظهر نفسها للرجل الغريب.. وهناك رأت آرجان يتحدث مع الغريب بسرعة وانفعال واضح.. بدا أن الموضوع هام جداً لآرجان وأثارلهفته بشدة، ولم يلبث الرجل بعدها أن ابتعد بينما اندفع آرجان للمنزل وفتح بابه بشيء من الضجة..
نظرت رنيم لوجهه المنفعل بدهشة، بينما بادلها آرجان النظرات بصمت وكأنه لا يعرف ما يقول.. وأخيراً زفر بشدة واقترب منها قائلاً "لديّ بعض الأخبار.."
سألته دون أن تملك قلقها "أهي تخصني؟.."
أدار آرجان بصره جانباً قائلاً "نوعاً ما.."
خفق قلب رنيم بقلق متزايد.. أهو خبر من (الزهراء)؟.. رأته يجلس جانباً مطرقاً قبل أن يقول "وصلتني أخبار شبه مؤكدة عن جايا.."
رفعت رنيم حاجبيها وقد زال قلقها هاتفة "حقاً؟.. هل عثروا عليها؟.. أين هي؟.."
أجاب آرجان "لقد هربت من (الزهراء) بالفعل كما قال ذلك الرجل، لكن عوضاً عن العودة لقرى الهوت فإنها شوهدت في ميناء (مارِج).."
نظرت له بحيرة، ففسر الأمر قائلاً "إنها مدينة تقع خلف سهول الأكاشي، في الجانب الغربي القصي من القارة العظمى.."
تساءلت بدهشة "ما الذي دعاها للذهاب إلى هناك؟.."
زفر آرجان مجيباً "ليتني أعرف ذلك.. لا يمكن أن يكون ذهابها لذلك المكان اعتباطاً.. لابد من سبب قوي.."
سألته من جديد "لكن كيف علمت أنها موجودة هناك؟.. وما الذي يؤكد لك أنها هي بالتحديد؟"
قال بشيء من الضيق "تلك قضية أخرى.."
وغمغم مطرقاً دون أن يلاقي عينيها بعينيه "هكذا ترين أنني أخطأت بما فعلته بك.. فجايا لم تكن في (الزهراء) بالفعل.."
صمتت رنيم دون أن تعلق أو تشعر بأسى لما جرى لها دون ذنب ودون سبب حقيقي.. وبعد أن طال الصمت بينهما، غمغمت رنيم "وما الذي ستفعله الآن؟"
نظر لها قائلاً بتوتر كبير "سألحق بها بالطبع.. بأسرع ما يمكنني.."
ونهض يجمع أغراضه ويدور في المنزل ليعدّ العدة لرحيله ويضع أغراضه في حقيبة جلدية، وتتضمن في الأغلب بعض الأسلحة اليدوية والخناجر، وما يلزمه لرحلة طويلة لا يعلم كم ستستغرقه.. وبعد بعض الصمت، غمغمت رنيم "ماذا عني؟"
نظر لها آرجان بصمت وتوتر للحظات، ثم قال "سأطلب من كاينا وأحد الرجال إعادتك لموقع قريب من (الزهراء)، فقد انتفى الغرض من إبقائك في هذه القرية.. لهذا العمل خطورة بالغة عليهما بعد هجومنا السابق على القصر، لكن ما باليد حيلة.."
صمتت رنيم دون أن تعلق على هذا القول.. أهي تريد الرحيل حقاً؟.. أهذا ما سيسعدها ويختم هذا الفصل الغريب من حياتها؟.. وكما قالت لها كاينا في أول يوم لها في القرية، ما الذي يجبرها على العودة لذلك السجن حقاً؟..
نظرت لآرجان بصمت من جديد وهو منهمك في ارتداء حذائه طويل الرقبة.. وكأنه انتبه لنظراتها دون أن يلتفت إليها فعلق قائلاً "أخبرتك سابقاً.. لو كان لديك ما تقولينه فقوليه الآن.. لا أحب اعتراضك الصامت هذا أبداً.."
ابتسمت رنيم بجانب فمها لتعليقه، ثم قالت وهي تدير بصرها جانباً "لماذا أعود؟"
نظر لها آرجان بدهشة، فقالت بعد لحظة صمت "حقاً.. هذا سؤال كان يدور بذهني منذ زمن.. لماذا أعود؟.. وما الذي أعنيه لسكان (الزهراء) ولمن في قصر الملك؟.. بل ما الذي يعنيه وجودي لأبي وأمي؟.. أيرغب أحدهم باستعادتي حقاً بعد فشلي في تحقيق ما أمِلوه مني؟"
ظل آرجان صامتاً للحظات بدهشة تامة، ثم وجدته يتقدم منها فيقف في مواجهتها قائلاً بحزم "ما الذي تريدين فعله إذاً؟.. أخبريني بما تريدينه وسأحققه لك ما دام في وسعي ذلك.."
تساءلت رنيم بدهشة "لمَ عليك فعل ذلك؟"
أجاب "ربما كنت مديناً لك بذلك.. لقد أفسدت حياتك باختطافي لك دون ذنب ارتكبتيه، فلم يكن لك دخل فيما حلّ بجايا.."
قالت رنيم ببساطة "ربما كان العكس هو الصحيح.. أنت لم تفسد حياتي، بل أصلحتها.."
صمت آرجان وهو يتأمل ملامحها بدهشة، بينما خفضت رنيم بصرها محاولة استجماع مشاعرها وشدّ عزمها.. كانت تعرف بالضبط ما تريده.. هو حلم لطالما حلمت به منذ استوعبت أبعاد حياتها التي كانت تراها كئيبة.. كانت واثقة من رغباتها، لكن لم تكن تملك الثقة الكافية لاتخاذ قرارات توافق تلك الرغبات.. وأبعدها عجزها عن مسار حياتها الذي لطالما تمنته..
كل ما تريده رنيم هو بعض الحرية.. أن تطير.. أن تحلق بلا قيود..
اختطاف آرجان لها قد خفف ضغط السلاسل التي كانت تقيد روحها، وبدأت رنيم تتململ بحثاً عن تلك الحرية المنشودة.. وها هي تقف أمامها وليس على رنيم سوى أن ترفع رأسها فتراها بكل وضوح..
رفعت رأسها تتطلع لآرجان الذي يراقبها بصمت، ثم قالت بهدوء "أريد الرحيل معك.."
صمت آرجان بصدمة للحظات، ثم قال بعدم فهم "ترحلين؟.. لأين؟"
ابتسمت رنيم مجيبة "حيثما ذهبْت.."
اتسعت عينا آرجان بدهشة وهو حائر في مغزى كلماتها.. ثم قال "أيتها الأميرة.. رحلة كالتي أنوي الذهاب فيها ليست ممتعة ولن تسير بالسلاسة التي تتوقعينها.. لا تقارنيها بتاتاً برحلة تقومين بها وسط حراسة مشددة وفي عربة مريحة في ربوع مملكة أبيك الآمنة.."
لم تعلق رنيم على مناداته لها بالأميرة في سخرية واضحة، لكنها قالت "أدرك كل ذلك.. وهذا بالتحديد ما أسعى إليه.. لا أريد أي شيء من حياتي السابقة.. ولست أطمح للحصول على متعة أو مغامرة أحكيها عند عودتي للقصر الآمن.."
تساءل آرجان بحيرة "إذن ما الذي تريدينه؟"
نهضت رنيم وواجهته بحزم للمرة الأولى في حياتها قائلة "أريد الرحيل.. أريد نسيان من أكون ونسيان الحياة التي عشتها حتى الآن.. أريد أن أكون جزءاً من هذا العالم الذي لم أره إلا من نافذة قصر أبي.. لست أملك وسيلة للترحال، وليس أمامي إلا الانضمام إليك في هذه الرحلة.. أنت ستبحث عن جايا وأنا سأحقق حلمي الوحيد.."
غمغم آرجان وهو يتراجع "أنت تهذين.."
وحمل حقيبته قائلاً "سأترك أمرك لكاينا.. وهي ستعود بك لقصر زوجك في الأيام القادمة.."
أسرعت رنيم واعترضت طريقه قائلة "ألم يقنعك قولي؟.. لا أريد العودة.. أفضل البقاء سجينة في هذا المنزل عن العودة لعالم قاسٍ لا يعبأ بي قيد شعرة.."
قطب آرجان بغير اقتناع، فأمسكت رنيم يديه بيديها قائلة بتوسل "لن أعطلك في هذه الرحلة أبداً.. أدرك أن قول هذا سهل، لكني سأفعل ما بوسعي لمعاونتك ولن أزعجك بتاتاً.. فلا ترفض هذا دون سبب"
قال آرجان باستنكار "دون سبب؟.. أنت لا تدركين ما أنت مقدمة عليه.."
ضربت رنيم الأرض بقدمها قائلة بحنق "أنت طلبت مني التعبير عما أريد قوله بصراحة.. فلماذا تستنكر ذلك الآن؟.. لا أريد العودة لذلك القصر.. ألا يمكنك فهم ذلك؟"
قال آرجان بحدة "وماذا عن زوجك؟.. ماذا عن حياتك؟.. ماذا عن ذلك النعيم الذي كنت ترفلين فيه؟"
قالت رنيم بانفعال شديد "زوجي نبذني قبل أن يتزوجني.. حياتي تلك كانت موتاً محتوماً.. وذلك النعيم كان كالأشواك في حلقي.. أنت لا تعرفني، ولا تعرف ما أريده حقاً.. لماذا لا تصدق أنني مختلفة عن كل أولئك الفتيات اللواتي يتلهفن لحياة القصور الزاهية؟.."
ظل آرجان يحدق في عينيها بحيرة ودهشة، بينما واجهته رنيم بحزم وانفعال واضحين.. كانت مصرّة، وموقنة أن هذا هو الخيار الأمثل الذي سيقودها في الطريق الذي لطالما تلهفت إليه.. جنون؟.. ربما.. لكن ما هي موقنة منه أن الجنون خيرٌ من البؤس..
قطع صمتهما صوت توما الذي دخل من الباب المفتوح بغفلة منهما قائلاً بحزم "سأذهب معكما.."
نظرا له بدهشة، ثم قالت رنيم "تذهب معنا؟.. لماذا؟"
قال توما "لا لسبب.. لكني أريد الذهاب.."
علق آرجان بضجر "هذا ما كان ينقصني.."
فقال توما بحدة "لا شأن لك.. سأذهب معكما سواء أعجبك هذا أم لم يعجبك.."
اقتربت منه رنيم وأمسكت كتفيه قائلة "توما.. نحن لن نذهب لنلهو، ولن نعود بعد أيام قليلة.. هذه رحلة ستطول، ولا نعلم علامَ ستنتهي.."
قال توما بسخرية "كان آرجان يقنعك بالأمر ذاته.. لكنك لم تقتنعي.."
نظرت له رنيم بصمت وحيرة بينما قال آرجان بحزم "مستحيل.. لمْ أوافق على اصطحاب فتاة ولن أوافق بالتأكيد على اصطحاب طفل.."
احتقن وجه توما للإهانة، وقبل أن يجد رداً لاذعاً يرد به على آرجان، سمع الثلاثة صياحاً من بعيد، ولم يلبث أحد رجال القرية أن هرع إلى آرجان منفعلاً.. ولما لمح الرجل رنيم، بدت تقطيبة واضحة على وجهه وهو يقول لآرجان بلغة الهوت "آرجان.. إنهم الجنود......"
لم تغِبْ نظراته الكارهة عن عيني رنيم التي أدارت بصرها جانباً، بينما نظر آرجان وتوما للرجل بدهشة وهو يضيف بانفعال "جنود الملك عند حدود القرية.. لقد علمَ أرنيف بذلك قبل قليل.."
بدا شيء من القلق في عيني توما بينما قال آرجان بدهشة "أأنت واثق؟"
قال الرجل بحدة "واثق طبعاً.. لقد اشتبك معهم بضع رجال منا، بينما عاد أحدهم لينذر القرية.."
لم يتأخر آرجان في اللحاق بالرجل متجهين إلى موقع أرنيف، بينما قبضت رنيم على ذراع توما وهي تسأله بقلق "ما الأمر؟.. ما الذي أراده الرجل في مثل هذا الوقت؟"
نظر لها توما بشيء من التوتر، ثم قال "إنه يحذرنا من هجوم جنود الملك على القرية.. فرقة منهم تقترب من حدودها بالفعل.."
اتسعت عينا رنيم بدهشة ممتزجة بالاستنكار، ثم قالت بقلق "ما الذي جاء بهم لهذا الموقع؟.. أأنتم معتادون على هجمات الجنود على قريتكم؟"
هز توما رأسه نفياً، ثم نظر لعيني رنيم قائلاً "أغلب الظن أنهم جاؤوا لأجلك أنت.."
رغم أن هذا ما تمنته رنيم عندما تم اختطافها، لكن حدوثه في مثل هذا الوقت قد أصابها بصدمة شديدة.. أيمكن أن يكون الملك قد أرسل جنوده لاستعادتها؟.. لماذا الآن؟.. لمَ حدث هذا بعد أن اتخذت عزمها على نسيان حياتها السابقة والسير في طريق آخر تختاره بكل حرية؟..
لكن ما هي متأكدة منه أن الجنود لن يترفقوا في التعامل مع القرية وسكانها.. لابد أنهم سيسببون أشكالاً من الدمار ويقتلون عدداً من القرويين الذين لن يستسلموا بسهولة.. فما الذي يمكنها فعله لإيقاف هذا الأمر؟.. ما الذي يمكن لرنيم فعله لكي لا تعود لحياتها السابقة رغماً عنها؟..


*********************




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-12-15, 08:42 AM   #10

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



الفصل الثامن: لماذا أعود ؟

بأمر من أرنيف، زعيم قرية الهوت التي تقع وسط السلسلة الجبلية تلك وفي وادٍ ضيق منها، انطلق عدد من الرجال على ظهور التنانين متجهين نحو الممر الجبلي الضيق الذي يربط القرية بالعالم الخارجي.. وعند اقترابهم من جانب الجبل الذي يلقي بظلاله على القرية، رأوا في ذلك الطريق فرقة من الجنود لا يزيد تعدادها عن خمسين رجلاً تتقدم من القرية بثبات وبتسليح خفيف.. فصاح أحد الرجال برفاقه "إنهم قلّة.. لن يُعجزنا التخلص منهم.."
اقتربت التنانين بأصحابها لتبدأ هجومها على فرقة الجنود تلك، ورغم أن الجنود بادروا بإطلاق رصاصاتهم بغزارة، لكن التنانين كانت تناور بسرعتها الكبيرة بينما يهاجم الرجال برماحهم وسهامهم التي انهمرت على الجنود بتصويب محكم فجندلت عدداً منهم بينما صدّها الآخر ن بما يحملونه من دروع.. ورغم أن الهوت لا يتعاملون بالأسلحة الحديثة في ذلك العالم مكتفين بالسيوف والرماح والسهام، لكنهم يملكون نوعاً خاصاً من القنابل المصنوعة يدوياً باستخدام البارود ومساحيق خاصة يستخرجونها من الطبيعة حولهم.. وسرعان ما انهمرت بضع قنابل على فرقة الجنود التي حاولت الاختباء في جانب الجبل من ذلك الهجوم والتقدم ببطء شديد.. ومع انفجار القنابل الذي كان ضعيفاً ولم يسبب الضرر للجنود، فإن سحابة كثيفة صفراء اللون انتشرت في الموقع مسببة السعال والدموع تنهمر من أعين الجنود بالإضافة لغثيان شديد أعجزهم عن الحراك، وفي الآن ذاته بدأ الهوت باقتناصهم دون أن يهبطوا من على ظهور تنانينهم بتاتاً..
وبينما تخبط الجنود في موقعهم، صاح قائدهم "ليتقدم حَملة المدافع ويُسقطوا تلك الطيور اللعينة بسرعة.."
تقدم عدد من الجنود حاملين مدافع صغيرة الحجم ومطورة بحيث تمتاز بالخفة والقوة في الإطلاق.. وبعد تعبئتها بالقنابل، قام الجنود بالتصويب بسرعة وإحكام على التنانين وإطلاق القنابل قبل أن يبتعد الهدف من موقعه..
فوجئ الهوت بالقذائف التي تطايرت نحوهم، ورغم أن أغلبهم تمكن من تفاديها بشيء من الصعوبة، لكن هجومهم أصبح أكثر عسراً من السابق واضطروا للارتفاع والابتعاد عن مرمى قذائف الجنود، ولم تفلح قنابلهم في إحداث أي تأثير في الجنود الذين استمروا في سيرهم ببطء مدروس.. ولما طارت الأنباء إلى أرنيف بتطورات هذا الهجوم، وبعد أن أدرك الجميع أن الجنود سيصلون للقرية خلال وقت قصير، قال أحد الرجال "علينا أولاً أن نبتعد عن هذه القرية.. علينا تأمين النساء والأطفال قبل أن نهجم عليهم هجمة رجل واحد.. لا نريد تكرار ما جرى في السابق، ولن نحقق شيئاً ما لم نباغتهم ونلتحم بهم مباشرة.."
قال آخر بغضب "هذا ما جناه آرجان علينا باختطاف تلك الفتاة.. الآن ستقع القرية كلها تحت طائلة أفعاله.."
لم يعلق آرجان الواقف جانباً بينما صاح آخر به "ما الذي يمكنك فعله لتعويض الأهالي عما سيجري لنا هذا اليوم؟.."
فقال أرنيف "عوضاً عن إلقاء الاتهامات بلا طائل، علينا أن نتضافر لصدّ هذا الهجوم بأي وسيلة كانت.. حتى لو اضطررنا لحرق هذه القرية والانتقال لموضع آخر.."
ونظر للرجال من حوله مضيفاً بحزم "لن نسمح لجندي باختطاف شخص منا هذا اليوم أبداً.."
وفي جانب آخر، استمعت رنيم للحوار الدائر من مخبئها خلف أحد المنازل بعد أن عجزت عن البقاء في مخبئها وسط تلك الأحداث، ونظرت لتوما الشاحب حيث وقف قربها متسائلة بقلق "ما الذي جرى يا توما؟.."
لخّص لها توما الموقف بكلمات مقتضبة، ثم ختم قوله بصوت يرتجف "أبي خرج مع الفرقة التي تقاتل الجنود الآن.. ولا أعلم ما جرى له.."
عضّت رنيم شفتها السفلى بقلق ومرارة واضحة.. ها هي تتسبب في كارثة لهذه القرية المسالمة، رغم أن هذا لم يكن ذنبها حقاً.. لكن لولا وجودها هنا، لما وصل الجنود للقرية وهاجموا سكانها دون رحمة..
نظرت حولها وهي تفكر بسرعة بحثاً عن حل لهذا المأزق.. رجال القرية قد يُقتلون عند محاولتهم صدّ هذا الهجوم.. وآرجان لن يكون أفضل حالاً منهم.. عندها، ما سيكون مصير توما وكاينا وبقية من في القرية؟..
عندها نظرت للأعلى وفكرة واحدة تختمر في عقلها.. يجب أن تخرج بنفسها للقاء جنود الملك.. مهما كان الأمر، هي الوحيدة التي تقدر على منع كارثة كهذه بأخف ضرر ممكن.. وعليها، فوق كل ذلك، أن تصل لموقع الهجوم بأسرع وأسهل وسيلة ممكنة لتفادي مصائب جديدة..
التفتت إلى توما القلق، ثم قالت وهي تربت على رأسه "لا تقلق يا فتى.. ستنتهي الأمور على ما يرام، وسيكون أباك بخير بإذن الله تعالى.."
نظر لها توما بعدم اقتناع، بينما استدارت رنيم راكضة نحو منزل آرجان، وبعد لحظة قصيرة قضتها فيه، خرجت من المنزل ثم تجاوزته لموضع أعلى في جانب ذلك الجبل دون أن تخفف خطواتها رغم شعورها بالتعب.. وهناك، رأت كاجا الذي يتسكع في تلك المواقع في المعتاد ما لم يغلبه جوعه ويدفعه للرحيل بحثاً عن طريدة يصطادها.. اقتربت رنيم من التنين الذي أقعى جانباً بصمت، ولما رآها نهض واقفاً وتقدم نحوها خطوة.. فوجدت السرج على ظهره بتأهب، ويبدو أن آرجان قد وضعه في وقت سابق مما أراحها بشدة.. ربتت على خطم كاجا قائلة "أأنت مستعد يا صديقي؟.. أريد منك خدمة سريعة.."
وجدته يتشمم ملابسها بشيء من اللهفة، فقالت بتوتر "ليس الآن يا كاجا.. عندما نعود بإذن الله تعالى.."
وبشيء من المشقة، اعتلت ظهر التنين الذي لم يُظهر ممانعة لذلك وأمسكت بلجامه وهي تشعر بيديها متعرقتان لشدة توترها.. وقبل أن تشد العنان بالفعل، سمعت صيحة من بعيد ورأت آرجان يتقدم منها راكضاً.. ولما وصل لموقعها اقترب قائلاً بحنق "ما أنت فاعلة؟.. لو لم يبلغني توما بما جرى لما وصلت قبل أن ترتكبي هذه الحماقة.. كيف تتصرفين بهذه الصورة ودون استشارتي؟"
قالت رنيم بسرعة "يجب أن أفعل شيئاً لإيقاف هجوم الجنود على القرية.."
قال آرجان بعبوس "نحن من سيفعل ذلك.. ترجلي بسرعة ولا تقومي بأي تصرف متهور.."
قالت رنيم وهي تجذب العنان "لا.. يجب أن أذهب.. الهجوم على القرية لن يتوقف حتى أظهر للجنود.."
وأضافت معتذرة "سأتحمل أي عقاب تقرره عليّ بعد عودتي.. لكن الآن لا يمكنني الاستجابة لك.."
وجذبت العنان دون تردد وهي تضغط على بطن التنين، بينما قفز آرجان نحوها صائحًا "لا تفعلي هذا.."
لكن التنين كان قد استجاب لها وارتفع بسرعة تاركاً آرجان على الأرض ينظر لهما بصدمة مغمغماً "تباً.. ليس مع كاجا.. ليس مع كاجا يا حمقاء.."
لكن رنيم لم تسمعه وهي تدير التنين ليطير نحو الموقع الذي تعالت منه الأصوات العالية في جانب القرية.. كانت تلك المرة الأولى التي تطير فيها مع كاجا وحيدة ودون معاونة آرجان.. في الواقع هذه هي ثاني مرة تطير فيها مع أي تنين في حياتها كلها.. لكنها لم تتردد رغم أن بعض القلق قد ساورها لقدرتها على التحكم بهذا الكائن المعروف بشدّته.. لكن ما غلب تفكيرها في تلك اللحظات هو إيقاف ذلك الهجوم على القرية ومنع كارثة جديدة من أن تحدث لأهلها وتزيد نقمتهم عليها وعلى المملكة..
دار التنين دورة حول الموقع ورنيم تتشبث به جيداً.. بينما كانت بقية التنانين تطير على مسافة آمنة تراقب فرقة الجنود التي تقدمت بثبات، وتحاول إعاقتها دون أن تخاطر بإسقاط التنانين بضربة غاشمة.. ووسط ذلك، شقّ كاجا طريقه بسرعة وقوة بينها أثارت دهشة بقية الرجال قبل أن ينتبهوا أن الراكب على ظهره لم يكن آرجان، بل كان فتاة يتطاير شعرها الطويل المتماوج في الهواء.. ولما اقتربت رنيم من موقع الجنود، لاحظت على الفور توترهم الشديد لرؤية التنين المندفع نحوهم وهم يرفعون البنادق نحوها متأهبين.. ربتت رنيم على رقبة التنين قائلة "حاول ألا تصاب بأسلحتهم يا عزيزي.."
زمجر التنين وهو يحلق قريباً من الجنود دون أن يخفف تقدمه، بينما رفعت رنيم رأسها لتبدو واضحة وهي تصيح "توقفوا أرجوكم.. لا تطلقوا النار.."
لم يسمع الجنود كلمة مما قالتها ورصاصاتهم تتطاير نحو التنين الذي استدار بحدة وهو يرفّ بجناحيه ويرتفع قليلاً.. فجذبت رنيم العنان ليدور حول الموقع وهي تصيح بصوت أعلى "توقفوا.. لا داعي لإطلاق النيران.."
ضاع صوتها من جديد مع تلك القذيفة التي انطلقت من أحد المدافع نحوها محاولة إسقاطها.. تجاوز كاجا القذيفة بمهارة تامة بينما اتسعت عينا رنيم بقلق خشية أن يصاب التنين بسبب تهورها، فصاحت بصوت أعلى مع استدارة التنين في الموقع "توقفوا باسم الملك.."
كان هذا ما دار في ذهنها لجذب انتباههم، ورغم ذلك ما كاد التنين يقترب من الجموع حتى عادت الرصاصات تتطاير بغزارة والتوتر الشديد بادٍ على أوجه الجنود.. لم تستطع رنيم لومهم، فهي نفسها كادت تموت ذعراً عندما رأت هذا الكائن المهيب للمرة الأولى، ولا يمكن لمن يراه دون أن يكون معتاداً على التعامل معه إلا أن يصاب بالتوتر والقلق الشديد.. لكن كيف السبيل للتفاهم مع الجنود وإجبارهم على التوقف عن الهجوم على القرية؟..
أخيراً، قررت رنيم القيام بمخاطرة كبيرة، فجذبت عنان التنين وهي توجهه للهبوط على شيء من المبعدة من الموقع في جزء شبه منبسط من الوادي.. كانت فرصتها ضعيفة في أن تقنع الجنود بالاستماع إليها، لكنه كان السبيل الوحيد.. ورغم اعتراضه، فإن التنين قد أطاعها وهبط بحدة وقوة في جانب المكان، فأسرعت رنيم تهبط من على ظهره وهي تسمعه يطلق زمجرة عصبية.. ربتت على كتفه مهدئة، ثم استدارت مواجهة الجنود الذين استداروا إليها بتحفز وهي ترفع ذراعيها عالياً وتصيح "توقفوا أرجوكم باسم الملك.."
لكن الرصاصات تطايرت نحوها وأصابت الأرض عند قدميها بشيء من الغزارة دفع رنيم للتراجع بسرعة وشيء من الفزع حتى سقطت أرضاً، بينما أطلق التنين صيحة غاضبة وهو يكشر عن أنيابه بتهديد واضح.. لكن رنيم صاحت به "كاجا.. توقف.."
زمجر التنين باعتراض إنما لم يملك إلا أن يطيعها، في نفس الوقت الذي سمعت فيه رنيم صياحاً جهورياً يطلب من الجنود الكف عن إطلاق النيران.. ولم تلبث أن رأت رجلاً من الجنود يتقدم منها قائلاً بدهشة "رنيم.. أهذه أنت؟"
نظرت رنيم بذهول لمجد الذي اقترب منها وأمسك بيدها ليساعدها على الوقوف.. كان هذا آخر شخص تتوقع رؤيته بين الجنود هؤلاء، وبدا لها مختلفاً قليلاً بشكل لم تستطع تحديده في البدء.. لكن أدركت بعد ذلك أنه يبدو متعباً مهموماً بشكل بدا بوضوح في ملامحه.. لكنه ابتسم لها ابتسامته المعهودة قائلاً "حمداً لله على سلامتك يا فتاة.. لقد خشيت ألا أعثر عليك أبداً.."
تشبثت بذراعيه هاتفة "أين كنت؟.. لقد يئست من انتظارك طوال تلك الأيام.. لقد تيقنت بعدها أنك... أن......."
وخفضت بصرها مضيفة بصوت مرتجف "تيقنت أنني لا أعني لك، ولا لأحد في هذا العالم، شيئاً.."
قال مجد "هذا ليس صحيحاً.."
فقالت بشيء من المرارة "كيف يمكنني أن أصدق غير ذلك؟.. لقد تم اختطافي من القصر بكل سهولة.. ولم يلاحق المختطفين أي جندي من جنود مملكة بني فارس.. ورغم مرور الأيام والأسابيع فإن أحداً لم يحاول الوصول إليّ.. فما الذي يعنيه هذا؟"
زفر مجد للحظات بصمت، ثم قال "ما حدث بعد رحيلك منعني من الوصول إليك بالسرعة التي أرجوها.. وإنني أقدم اعتذاري لك يا رنيم.."
لم ترفع رنيم بصرها وهي تشعر بدموعها وشيكة الهطول.. رغم أن بقاءها مع الهوت لم يكن بالسوء الذي توقعته، ورغم أنها شدّت عزمها على عدم العودة لذلك العالم، لكن ما أحزنها أن وجودها غير مهم في مملكة بني فارس وفي قصر الملك.. وأكثر ما أساء إليها أن تشعر أنها لا تحتل من اهتمامات مجد أي جزء يذكر، وهو شخص تحمل له معزة خاصة في قلبها..
وجدت مجد يركع على ركبته ويمسك يدها شادّاً عليها وقال وهو ينظر في عينيها "أرجوك اقبلي اعتذاري.. لا يمكن أن أغفر لنفسي ما جرى لك لو لم تسامحيني.."
شعرت رنيم بدموعها تسيل على وجنتيها وهي تقول بصوت متهدج "لماذا؟.. لماذا جئت الآن؟.."
شدّ على يدها قائلاً "عندما حدث الهجوم، ظننا أنهم سيستهدفون الملك أو ولي العهد.. لذلك لم أعتقد ولو للحظة أن أحدهم قد يلجأ لاختطافك.. لذلك هرعت مع من معي من حرس القصر لتأمين الملك والملكة والأمير زياد.. وحاولنا القضاء على الدخلاء بأسرع ما نستطيع.. لكن اكتشفت أنهم بمساعدة من الفتيات اللواتي جلبهن الملك من الهوت، فإن الدخلاء تمكنوا من التسلل في ممرات القصر وأروقته متجنبين أي صدام سيؤخرهم عما جاؤوا لأجله.. وبعد أن تمكنت من تتبع أثرهم فوجئت باختطاف ذلك الرجل لك.."
لم تعلق رنيم وهي تمسح دموعها بينما أضاف مجد "لقد كسرت ذراعي بعد سقوطي وأنا أحاول إنقاذك.. وهذا ما تسبب في تأخيري عن اللحاق بك وإنقاذك من يدهم تلك الليلة.. ورغم أنني أرسلت بعض الرجال لتتبع فوج التنانين الطائرة، لكنهم لم يتمكنوا من اللحاق بهم لأنها كانت أسرع ولا تعترضها أي عواقب في طيرانها في السماء.. ثم حدث ما لم يكن بالحسبان.."
عاد يزفر بشيء من الحدة ورنيم تستمع له بصمت، قبل أن يقول "لم تمضِ ساعات معدودة على ذلك الهجوم حتى فوجئنا بأن الملك عبّاد قد أصيب بمرض شديد لم نجد له تفسيراً، ولم ندرك أنه تم تسميمه بواسطة إحدى الفتيات قبل هربهن إلا بعد موته بالفعل.."
غمغمت رنيم "لقد سمعت بذلك.."
أدرك مجد أنها سمعت به من ذلك الرجل من الهوت الذي جاء للقائه بعد اختطافها بعدة أيام.. فقال دون تعليق "حصلت معمعة في المملكة وفي (الزهراء) بالتحديد لموت الملك المفاجئ.. ورغم أن الأمير زياد قد تولى الحكم بسرعة لتلافي أي انهيار يصيب المملكة بعد موت ملكها القوي، وعيّنني قائد جيشه لأساعده في تثبيت حكمه، إلا أن الأمير زياد أضعف من أن يستطيع إحكام قبضته على المملكة حتى بمساعدة أمه الملكة.."
لم تدرِ رنيم بمَ تعلق على ذلك ومجد يقول "وخلال أيام، وصلتنا أنباءٌ أن مملكة كشميت المعادية تستعد لإنهاء الصراع الذي طال بينها وبين مملكة بني فارس مستغلة عدم استقرار أحوال مملكتنا.. وهذا جعلني مقيداً وغير قادر على التحرك بعيداً عن (الزهراء).. ولقد شدد الأمير زياد عليّ بأن حمايته وحماية مُلكه أهم بكثير من البحث عنك وإنقاذك.."
لم تشعر رنيم بحزن لهذا، فهو كان متوقعاً من شخص كالأمير زياد.. ومع ما قاله مجد، فإن حزن رنيم بدأ يخفت وهي تتفهم ما مرّ به خلال الأيام الماضية.. فكيف لها أن تحزن على نفسها بينما عانى مجد الأمرّين في هذه الأوقات المضطربة؟.. انتبهت لمجد الذي قال "هل تغفرين لي تقصيري فيما جرى لك يا مولاتي؟"
ابتسمت رنيم شيئاً ما وهي تمسح دموعها قائلة "بالطبع.. لا يمكنني أن أغضب مما جرى وأنا أدرك أي ظروف مررت بها في الأيام الماضية.."
فنهض مجد واقفاً وقال "شكراً لك.. أعدك ألا أسمح بتكرار أمر كهذا ما حييت.."
نظرت له رنيم متسائلة "كيف سمح لك الأمير زياد.. أعني.. الملك زياد بالقدوم إليّ وإنقاذي الآن؟"
أجاب مجد "بعد استقرار الأمور في المملكة وبعد أن تكرر رفض الملك طلبي الرحيل للبحث عنك، تقدمت باستقالتي متخلياً عن منصبي.. ومع صدمته، فإن الملك رفض هذا بإصرار.. لذلك استسلم أخيراً وسمح لي بالرحيل مع فرقة صغيرة من الجنود للبحث عنك مع وعد بالتنازل عن تلك الاستقالة والعودة بأسرع ما أستطيع.."
ابتسمت رنيم معلقة "بالطبع، فالملك لن يجد شخصاً موثوقاً أكثر منك لحمايته.. خاصة بعدما جرى مع الملك السابق.."
ثم أمسكت يدي مجد قائلة "أنا شاكرة لك ما فعلته لأجلي يا مجد.. تخلّيك عن منصبك قرار كبير، وتضحية كبيرة لا أستحقها منك.. لذلك أنا سعيدة أن الملك رفض طلبك بإصرار.."
دمدم مجد بضيق "من قال إنك لا تستحقين ذلك؟........"
قاطعته قائلة "وما يحزنني أكثر أن جهودك قد تكون بلا طائل.."
نظر لها مجد بدهشة، ثم قال "ماذا تعنين يا رنيم؟.. أهناك ما يمنع عودتك إلى (الزهراء)؟.."
ضحكت رنيم بشيء من السخرية وقالت "(الزهراء)؟.. أتظنني سأكون محلّ ترحيب هناك بعد كل ما جرى؟"
أسرع مجد يقول "لازلتِ خطيبة الملك.. فهو لم يعلن حلّ ذلك الارتباط رسمياً بعد.."
قالت رنيم بابتسامة "لأنه لم يجد داعياً لذلك مع اختفائي.. أتعلم أن زياد والملكة كانا يخططان لاتهامي في عِرضي والتخلص مني بطريقة مخزية قبل أن يحدث ما حدث تلك الليلة؟.."
نظر لها مجد باستنكار، ورنيم تضيف "أتظن أن أحداً منهما سيكون مسروراً بعودتي بعد ذلك؟.. لقد جاءتهما الفرصة للتخلص مني على طبق من ذهب، فمن يمكنه أن يلومهما على ذلك؟.."
زفر مجد بضيق لقولها الذي لم يخالف الحقيقة بتاتاً، ثم قال "إذن، من الواجب عليّ أن أصطحبك إلى مملكة بني غياث وأطمئن لسلامتك.. هذا أقل ما عليّ فعله.."
قالت رنيم وهي تدير بصرها جانباً "أتظن أن قصر أبي سيكون أكثر ترحيباً بي من قصر الملك زياد؟"
نظر لها مجد بدهشة، فنظرت في عينيه قائلة "أنا غير مُرَحَّب بي في أي مكان على هذه الأرض.. لا في قصر أبي ولا في قصر زوجي المزعوم.. لقد فقدت هويتي التي ألصقت بي رغم إرادتي.. وفقدت معها الانتماء الذي يعيدني لأكون سجينة تلك القصور.."
هتف مجد "هذا غير صحيح.. كيف يمكنك أن تجزمي بكل ذلك؟"
قالت رنيم بحزم "أنا أثق بما أقول ثقة مطلقة.. لقد أراد مني الجميع أن أكون شخصاً آخر.. أن أكون أي شيء غير ما أنا عليه حقيقة.. تعذبت لسنوات طوال وأنا أخفض رأسي وأحاول مجاراتهم لأنال رضاهم الذي كان صعب المنال.. لكن رغم ذلك، لم أهنأ بأي شيء من هذا، ولم يتردد أحدهم في التخلص مني عند أدنى بادرة.. فهل تريد مني العودة لكل هذا من جديد؟.."
قال مجد بدهشة "إذن ما الذي تنوين فعله؟"
نظرت رنيم للسماء التي ازدهت بزرقة جميلة وغيوم متماوجة عكست نور الشمس القوية، ثم قالت بابتسامة "الآن، يمكنني أن أكون كما أنا حقيقة، وأن أبقى في الموضع الذي يناسبني كما أنا دون تغيير.."
صاح مجد بغير تصديق "ستبقين مع الرعاع الذين اختطفوك؟"
نظرت له رنيم قائلة بشيء من التأنيب "ليسوا رعاعاً كما تطلقون عليهم.. إنهم أناسٌ يعيشون حياتهم بحرية تفتقدها شعوب الأرض أجمعين.. فلماذا تستنكرون عليهم هذه الحرية التي عشتُ حياتي شوقاً إليها؟"
ظل مجد ينظر لها بغير تصديق، ملاحظاً للمرة الأولى الابتسامة التي تفيض سعادة على شفتيها.. ابتسامة لا تشوبها شائبة كما كان يراها سابقاً.. وبدا في عينيها الجميلتين تصميم وعزم لم يره فيهما من قبل.. ورغم أنها هي رنيم التي يعرفها، لكنها بدت الآن شخصاً آخر.. شعر بروحها متوهجة وجميلة وتختلف عن ذلك الخيال الميت الذي كانت عليه في (الزهراء)..
عاد يجادلها بشيء من العناد "ما الذي تنوين فعله مع الهوت حقاً؟.. بضع أسابيع تختلف تمام الاختلاف عن الشهور والسنوات القادمة.. ما تحملته وأعجبت به في الأيام الماضية، سيصبح قاسياً مع مرور الشهور والسنوات.. لكن عندها ستكون عودتك لعالمك السابق مستحيلة تماماً.."
قالت رنيم دون أن تبدو عليها لمحة قلق لذلك "أدرك ذلك طبعاً.. لكن عودتي لما كنت عليه من آخر الأشياء التي قد أتمناها في حياتي.. لو استعصى عليّ البقاء مع الهوت، سأبحث لي عن سبيل آخر ومكان آخر أعيش فيه بحرية.. ومهما كانت الحياة شاقة وتعيسة هنا، فهي ليست أتعس من حياة تغيب عنها أشعة الشمس وسط الجدران العالية المذهبة المحيطة بالقصر.."
ونظرت له بتصميم قائلة "صدقني.. أنا أدرك ما أريده من حياتي بالتحديد.. وأتخذ قراراً نيابة عن نفسي للمرة الأولى.. فلا تنزع الأجنحة التي نبتت لي بعد طول شقاء، خاصة أنك كنت أول من شجعني على اتخاذ طريقي بنفسي.."
زفر مجد بضيق وهو تائه بين رغبته في استعادة رنيم وحمايتها وبين رغبته في سعادتها.. وهذان الاثنان لا يجتمعان بتاتاً.. رآها تتقدم منه خطوة وتمسك يديه بيديها قائلة "أنا راحلة يا مجد.. شكراً لك على كل شيء.. لكن لا تنْسَني أرجوك.."
ابتسم مجد رغماً عنه معلقاً "لا أظنني بقادرٍ على ذلك مهما حاولت.."
ثم نظر في عينيها قائلاً بحزم "لا يمكنني الاعتراض على ما تريدينه يا رنيم لو كنتِ واثقة مما تفعلينه حقاً.. لكن كل ما أقدر على فعله هو أن أدعو لك بالتوفيق.. ولا تترددي في العودة إليّ في أي وقت كان.."
ابتسمت له رنيم ابتسامة متسعة، ثم استدارت مبتعدة دون تردد.. ولأول مرة في حياتها لا يخالجها أي تردد في اتخاذ قرار يخصها.. لأول مرة تكون سعيدة بامتلاكها زمام أمورها دون أن تنتظر من الآخرين تسيير حياتها كيفما يشاؤون.. تسارعت خطواتها وهي تبتعد مستشعرة انطلاق ساقيها وخفة جسدها مقارنة بالسابق.. ثم توقفت فجأة واستدارت متطلعة إلى مجد الذي ظل في موقعه ناظراً إليها.. لوهلة ساورها قلق أن ترى ملامح خيبة الأمل على وجهه، وهو أمر كانت تخشى رؤيته من الجميع لذلك لم تكن تجرؤ على مقاومة ما يُفرض عليها.. لكن الآن، لم تكن تريد رؤية هذه الملامح.. وليس من مجد بالذات..
لكن مجد كان ينظر لها بثبات وابتسامة خفيفة ترتسم على شفتيه.. ابتسامة بدت لها سعيدة.. لا تدري لمَ شعرت بنظراته تحمل فخراً بما حققتْه، وكأنه أبٌ فخور بابنته التي شبّت عن الطوق بعد طول انتكاسٍ.. ابتسمت رنيم بدورها ووضعت يديها حول فمها ليصل إليه صوتها وصاحت "أتعلم؟.. لو كنتَ أصغر بعشرين سنة لأعجبت بك بكل تأكيد.."
اتسعت ابتسامة مجد وهو يعلق بصوت واضح "لو كنتُ أصغر بعشرين سنة لكنت سعيداً بذلك بالتأكيد.."
لوحت له رنيم بيدها ثم استدارت منطلقة بعد أن تقطعت الخيوط التي كانت تربطها بماضيها وبحياتها السابقة وبكل ما كانت تكرهه.. شعرت بنفسها حرة.. شعرت بنفسها كمولود جديد لا يعلم ما تخبئ له الأيام، لكنها ستكون أكثر رحابة مما سبقها بكل تأكيد..
الآن، خدشت رنيم الطبقة القاسية التي كانت تغلف روحها، وخرجت من ذلك الظلام كطائر وليد يسعى بحثاً عن النور رغم أنه لا يبصر شيئاً بعد.. بحثاً عن الحياة التي ليس لها معنى دون حرية تزيدها إشراقاً وبهجة..
وبينما انطلقت رنيم براحة شديدة، فإن مجد راقبها وهي تتقدم من ذلك التنين الضخم دون خوف فتربت على أنفه بكل ألفة، ثم تمتطيه بسهولة ليرفرف التنين بجناحيه العريضين للحظات.. وفي غمضة عين، كان قد ارتفع بسرعة نحو السماء وفوقه تلك الفتاة التي يتطاير شعرها المموج خلفها وهي ترفع بصرها عالياً.. راقب مجد كل هذا بصمت ودهشة، ثم غمغم بابتسامة جانبية "لشدّ ما تغيرت هذه الفتاة خلال أيام قليلة.."
اقترب أحد جنوده قائلاً بقلق "سيدي.. لماذا تركت مولاتي رنيم تغادر؟.. المفترض أن نعيدها لمولاي الملك بأسرع ما نستطيع.."
قال مجد وهو يراقب التنين الذي انطلق مبتعداً "الملك لا يعبأ لأمر رنيم قيد شعرة.. ولا يريد استعادتها أبداً.. لذلك سيكون أسعد الناس بفشل مهمتنا هذه.."
ثم نظر للجندي قائلاً "اجمعوا عتادكم.. سنغادر إلى (الزهراء) في الحال.."
رغم دهشته، إلا أن الجندي لم يعترض وهي يؤدي التحية ويغادر مسرعاً نحو البقية.. بينما اتسعت ابتسامة مجد وهو يغمغم "هذه المرة، ربما كان عدم اهتمام الملك برنيم من حسن حظها بالفعل.. ترى، إلى أين ستأخذك الرياح معها يا فتاة؟.."


*********************
بعد أن توقف الهجوم، وخفتت الضوضاء الصادرة عن التنانين الثائرة وهي تحلق في السماء بغضب، فإن أهل القرية قد اجتمعوا في جانب منها بقلق وصمت بانتظار ما ستسفر عنه الأمور.. وبينما بقي الرجال على ظهور التنانين لمراقبة ما تفعله فرقة الجنود التي لملمت عتادها وشرعت في العودة عبر ذلك الطريق الضيق، فإن آرجان قد وقف في الساحة وسط القرية والقلق يمتزج بالغضب على وجهه وهو يحدق بالأفق.. لم يتوقع لوهلة أن تتصرف تلك الفتاة الخانعة بهذه الطريقة، ولم يتوقع أن تواجهه بحزم وتعصي ما طلبه منها دون أن يرف لها جفن.. ألم تجد سوى كاجا لتغامر بالرحيل معه؟.. ذلك تنين شرس، وهو يسيطر عليه بصعوبة، فكيف تمكنت من تطويعه في فترة زمنية قصيرة؟..
سمع عدة صيحات من أهل القرية ورآهم يشيرون لموقع في السماء.. وبنظرة لذلك الموقع، أدرك أن تلك النقطة البيضاء هي لكاجا الذي يحلق نحوهم بشكل حثيث.. ظل آرجان يراقب التنين بقلق شديد بحثاً عن أثر لرنيم.. لو كان السرج على ظهر كاجا خالياً، فهذا معناه أنه تخلص من الفتاة في مرحلة ما.. وكاجا عنيف عندما يسيطر عليه الغضب.. زفر آرجان بحدة وتوما القريب يسأله بقلق "أتظن أن رنيم على ظهره؟"
لم يجبه آرجان وبصره معلق بذلك التنين الذي اقترب منهم بسرعته الكبيرة.. ولما تبيّن ذلك الشعر المتموج الذي تطيّره الرياح، تنهد براحة شديدة بينما صاح توما بلهفة "أستطيع رؤيتها على ظهره.."
لم يعلق آرجان من جديد والتنين يقترب ويهبط بسلاسة وسط أهالي القرية مثيراً عاصفة من الهواء القوي.. فتقدم آرجان منه دون وجل وأسرع نحو الفتاة التي هبطت من على ظهره بابتسامة واسعة على شفتيها.. ولما رأته يتقدم منها قالت براحة "لقد انتهى كل شيء.. الجنود سيرحلون دون إيذاء من........"
وجدت آرجان يقبض على ذراعها بشدة قائلاً بغضب "كيف تفعلين هذا؟"
نظرت له بدهشة وهو يضيف بحدة "ألا تدركين مع من تتعاملين؟.. كان بإمكان كاجا أن يسقطك من على ظهره من ذلك العلو.. إنه تنين شرس ولا يطيع شخصاً غيري.. فكيف.......؟"
قالت رنيم وهي تزيح يده عن ذراعها "لكنني فعلت ذلك دون أن أثير غضب كاجا.. ثم إن لي وسيلة خاصة للتعامل مع الحيوانات.."
رآها تخرج من ثوبها تفاحة حمراء ألقتها نحو كاجا الذي التقطها بفمه وابتلعها دفعة واحدة بتلذذ، ثم دفع أنفه وهو يبحث عن أخرى في يدي رنيم التي ربتت على خطمه بابتسامة متسعة.. أما آرجان، فقد ظل ينظر لها بدهشة وشيء من الحنق.. لم يكن الأمر متعلقاً بتفاحة، فهي وسيلة تافهة لاستمالة تنين بهذه القوة.. ولم يكن تجاوب كاجا معها لأنه مرغم على هذا، بل لأنها تمكنت من استمالته بوسيلة دفعته لإطاعتها بعرض بسيط كهذا.. فما السر في ذلك حقاً؟..
ومن بين أهل القرية الذين وقفوا يراقبون رنيم بصمت ودهشة، تقدم أرنيف قائلاً لآرجان "ما الذي جرى يا آرجان؟.. رجالي يبلغونني عن استعداد الجنود للرحيل.. فما الذي جرى بحق السماء؟"
التفت آرجان إلى رنيم متسائلاً "ما الذي جرى للجنود؟.. كيف تمكنت من إقناعهم بالرحيل؟"
ابتسمت رنيم وأخبرته بما حدث لها مع مجد بينما استمع إليها أرنيف دون حاجة لترجمة، وقربه وقفت كاينا تستمع لما يقال.. وأخيراً، بعد أن أنهت رنيم حديثها وطمأنت الجميع أن الجنود لن يعاودوا مهاجمة القرية في الوقت الحالي، فإن آرجان تساءل بشيء من الدهشة "ولماذا عدتِ أنت؟.. لمَ لمْ تغادري معهم وهي فرصتك الوحيدة لذلك؟"
هزت رنيم كتفيها معلقة "لم أعد أرغب بالعودة.. هذا كل ما هنالك.."
ارتفع حاجبا آرجان بدهشة، قبل أن يقطب من جديد قائلاً بحدة "رغم كل ما جرى، لم يكن يحق لك التصرف بكاجا كما تحبين.. وإياك أن تفكري بامتطائه وحيدة دوني، هذا لو لم ترغبي بأن يتهشم جسدك على هذه الصخور القاسية.."
وابتعد جاذباً كاجا الذي أخذ يزوم باعتراض باحثاً في ملابس آرجان عن مكافأة أخرى.. بينما قال أرنيف مقطباً عبر كاينا "نحن شاكرون لك ما فعلته للقرية، رغم أن هذا كان بسببك في الأساس.."
تعجبت رنيم من حاجته لمن يترجم قوله رغم أنه استمع لها دون ترجمان، ثم تذكرت قول توما من رفض الهوت التحدث بغير لغتهم عدا قلة منهم.. بينما أضاف أرنيف "لذلك، لا يسعنا إلا أن نطلب منك الرحيل عن هذه القرية.."
نظرت له رنيم بدهشة، بينما بدا القلق في عيني كاينا وهي تترجم قوله.. ثم استجمعت رنيم شجاعتها قائلة "أتفهم ذلك.. سأغادر بعد أن......"
قاطعها أرنيف قائلاً بصرامة "ترحلين الآن.. في التو واللحظة.. أنتِ غير مرحّب بك في القرية ولا لثانية أخرى.."
نظرت رنيم بشيء من الدهشة لأرنيف ولبقية الهوت الذين رمقوها بحنق وغضب.. كان تصرفهم متوقعاً بعد ذلك الهجوم، لكن لمَ يطردونها الآن بالذات؟.. أهم يخشون هجوماً جديداً من الجنود؟..
لم تتمكن من الاعتراض هذه المرة.. ليس خنوعاً منها كالعادة، بل لأنها لم تُرِد أن تسبب المزيد من الأذى لهذه القرية.. رغم معاملتهم الخشنة لها، فهي كانت تتفهم دوافعهم وتدرك أن ما جرى لهم لم يكن شيئاً يمكن نسيانه بسهولة.. لذلك تغاضت عن كراهيتهم الواضحة وهي تقول ببساطة "حسناً.. لا يمكنني الاعتراض على ذلك.."
نظر لها توما بقلق بينما بدت ملامح الإشفاق على وجه كاينا.. فقالت رنيم وهي تخفض وجهها "أعتذر لكل ما سببه الجنود لكم من قلق وذعر اليوم.. وأتمنى لكم حياة هانئة بعيداً عن سطوة الملك.."
فقال لها أرنيف من خلال كاينا التي تترجم حديثه "رغم أن كل ما جرى لك كان بسبب أحد رجالي، لكن لا يمكنني الاعتذار عن ذلك.. تذكري أن ما فعله ملككم بفتياتنا كان أسوأ وأكثر خسّة.."
قالت رنيم بهدوء "لا أطلب منكم اعتذاراً.. وأنا شاكرة لكم على كل شيء.."
لم تخفت النظرات الغاضبة من الوجوه حولها، فانحنت لهم رنيم انحناءة خفيفة ممسكة جانب قميصها، ثم استدارت مغادرة بصمت وتوما يلحقها بقلق واضح.. ثم سمعته يقول "رنيم.. لا ترحلي.."
ربتت رنيم على رأسه قائلة "لماذا؟.. ما الذي يمكنني فعله في مكان لا يطيق وجودي فيه؟"
قال توما بانفعال "لكن هذا سيتغير.. مع بعض الوقت سينسى أهل القرية ما جرى لهم وسيعتادون وجودك.. فلا ترحلي بهذه البساطة.."
هزت رنيم رأسها قائلة "بل يجب أن أفعل.."
نظر لها توما بشيء من الصدمة، بينما تعالى صوت كاينا من خلفها وهي تقول "هل ستلحقين بالجنود قبل رحيلهم؟"
التفتت إليها رنيم قائلة "يبدو أنني سأفعل ذلك.. فهي الوسيلة الوحيدة لي للعودة.."
قالت كاينا بإشفاق "هل ستعودين لذلك القصر حقاً؟"
هزت رنيم كتفيها بقلة حيلة دون أن تختفي الابتسامة من شفتيها، فعانقتها كاينا هامسة "سامحيني يا عزيزتي.. وددتُ لو لم أكن السبب في كل ما جرى لك.."
ربتت رنيم على كتفها قائلة "لا داعي للاعتذار.. أنا موقنة أن ما جرى لي كان للأفضل.."
ثم نظرت لوجه كاينا مضيفة "اعتني بنفسك وحاذري من السقوط في أيدي الجنود من جديد.."
ابتسمت كاينا وقبّلت رنيم في وجنتها بعاطفة.. وقبل أن تبتعد رنيم، تساءلت متلفتة حولها "أين ذهب آرجان؟.. لقد اختفى مع كاجا منذ بعض الوقت.."
قالت كاينا "لقد عاد لمنزله.. أظنه يعدّ العدة لرحيله أيضاً.."
غمغمت رنيم بخيبة أمل "كنت أود توديع كاجا.. لكن الهوت لن يسمحوا لي بالبقاء مدة أطول في هذه القرية حتى أذهب بحثاً عنه.."
ثم انخفضت في موقعها قريبة من توما الذي وقف مطرقاً بحاجبين معقودين، فقالت له "حسناً أيها الرجل الصغير.. سأودعك فلا أظنني سألقاك بعدها مرة أخرى.."
قال توما بحنق "لماذا عليك الرحيل؟.."
قبلته رنيم في وجنتيه وقالت "هذا هو قدري يا فتى.. ولا يحق لأحدنا الاعتراض عليه.."
فقال توما بانفعال "سأذهب معك.."
لكمته كاينا بقبضتها معلقة "من تظن سيسمح لك بذلك؟"
أمسك توما موضع الضربة بألم وهو يصيح "لمَ تتدخلين في أموري أيتها الحمقاء؟"
وغادر راكضاً بانفعال شديد، بينما نهضت رنيم وتأملت الثياب التي ترتديها والحذاء البسيط الذي تنتعله معلقة "وددت لو أستطيع إعادة هذه الملابس لك يا كاينا، لكن لا يمكنني الترحال بملابسي السابقة.. سيكون ذلك مذلاً بشدة.."
قالت كاينا "لا عليك.. احتفظي بهذه الملابس واذكريني كلما رأيتها.."
استدارت رنيم أخيراً مغادرة القرية بعد أن نفذ صبر الهوت الذين وقفوا يراقبون ابتعادها.. مرة أخرى، تشعر رنيم أن رحيلها يثير راحة لدى الجميع وتكاد تسمعهم يتنفسون الصعداء مع مرأى ابتعادها.. أهي حقاً بهذا السوء كما يُشعرونها؟..
لكن هذه المرة لم تبكِ رنيم ولم تشعر بمرارة لكل ما جرى.. رغم قِصَر المدة التي قضتها في هذه القرية، إلا أن احتكاكها ببعض أصحابها، والأحداث القليلة التي جرت فيها بعيداً عن تسلط وسطوة أبيها والآخرين لكل ما تفعله، فإن رنيم شعرت بتغيير كبير وتدريجي لم تنتبه له في البدء..
ربما لم يكن التغيير كبيراً وحاسماً، ولم يجعلها شخصية رائعة كما تمنّت دوماً، لكنها على الأقل بدأت تمتلك بعض الثقة لاتخاذ قراراتها بنفسها، وأصبحت لا تشعر بتلك المشاعر المتكررة من الإشفاق على نفسها وعلى ما يجري لها ولوم الآخرين لكل ما يحدث لها.. أليس هذا تغييراً كافياً بالنسبة لها؟..


*********************
تنهدت رنيم بقوة وهي تجلس على صخرة متوسطة الحجم بعد أن ابتعدت عن قرية الهوت وغابت عن أعين أفرادها.. ظلت في موقعها صامتة وهي تسند ذراعيها على ركبتيها وتضع وجهها على راحتي يديها.. كانت معدتها تطلق أصواتاً مرحة تدلّ على جوعها الشديد، بينما حاولت رنيم تجاهلها لفترة طويلة.. لماذا تخلّت عن تناول إفطارها في هذا اليوم بالذات؟.. رغم أن طعام آرجان لا يمتلك لذة في الطعم ولا جمالاً في الشكل، لكنه يملأ معدتها على الأقل ويدفئها في هذا البرد الشديد..
عادت تتنهد وهي ترمق الأفق بصمت.. كانت موقنة أن مجد وجنود الملك قد ابتعدوا كثيراً عن موقعها.. لكنها في الواقع لم تكن تنوي اللحاق بهم، ولم تكن تنوي العودة للزهراء ولذلك القصر الكئيب.. لقد أثمر فيها حديث كاينا واعتراضها الدائم على استسلامها لما يجري لها.. للمرة الأولى في حياتها تقرر أنها ستعيش كما تحب ودون أي اعتبار لأي شخص كان..
لكن هذه البداية صعبة جداً.. إنها في موضع مقفر، وقرية الهوت القريبة لا تنوي معاونتها بأي شكل من الأشكال، وأقرب الأشخاص إليها هم الجنود الذين لا ترغب برؤيتهم ولا مرافقتهم بأي حال.. ودّت لو كانت قد طلبت من كاينا بعض الزاد لرحلتها هذه، لكن هذا لم يكن معتاداً بالنسبة لها وشعرت بالحرج من القيام به.. كما أنه قد يوحي لكاينا بما عزمت على فعله، وسيملأ ذلك تلك الفتاة الطيبة بقلق لا محدود على مصير رنيم.. وهو أمر لا ترغب به البتة.. تنهدت للمرة العاشرة وهي تضغط على معدتها مغمغمة "كفاك مرحاً أيتها الحمقاء.. جوعنا سيطول كثيراً وستنهكينني بسرعة.."
خيّل إليها أن صوت معدتها كان أعلى من المعتاد، ثم انتبهت في تلك اللحظة أن ذلك الصوت أتى من موقع يعلو رأسها.. استدارت متطلعة للسماء لترى ذلك الظل الذي خيّم عليها لوهلة قبل أن يعلو صوت الهبوط المدوّي قريباً منها.. وبينما اندفع الهواء بقوة بحيث أجبر رنيم على إدارة وجهها بعيداً وإغماض عينيها، فإنها شعرت بذلك الخطم القاسي الذي عبث بملابسها والصوت الخشن يزوم بشيء من اللهفة.. وقبل أن تتمكن من رؤية ما يجري حقاً، فإنها أدركت هوية ذلك الشيء الذي اقترب منها واندفعت تعانقه بذراعيها هاتفة "كاجا.. لقد تمنيت أن أتمكن من توديعك قبل رحيلي.. ويبدو أن أمنياتي تتحقق بسرعة هذه الأيام.."
سمعت صوت آرجان الذي تقدم منها بعد أن ترجل من على ظهر التنين قائلاً "ظننت أنك ستتمكنين من اللحاق بالجنود نظراً للوقت الذي مضى.. هل أُنهكتِ بعد هذه المسافة البسيطة؟"
التفتت إليه قائلة "لم يمضِ إلا وقت قليل.. وخُذ بالاعتبار أنني قضيت حياتي لا أبذل مجهوداً كبيراً كهذا بتاتاً.."
وقف قريباً يتأمل القرية خلفه وقال "يمكن لأي شخص من الهوت أن يقطع أربع أضعاف هذه المسافة في هذا الوقت القصير.."
ابتسمت رنيم وهي تربت على خطم التنين القريب معلقة "على ظهر تنين طبعاً.."
تأملها بصمت للحظات، ثم قال "هيا.. سأنقلك لموضع قريب من جنود الملك.. أشعر بسوء لاضطرار أميرة منعّمة مثلك لقطع هذه المسافة سيراً على الأقدام.."
قالت رنيم دون أن تنظر إليه "شكراً.. لستَ بحاجة لفعل ذلك.."
قال بتبرير "بل عليّ فعل ذلك.. أنا أخطأت بما قمت به معك، وبجرّك لهذا الموقع البعيد دون وجه حق.. هذا أقل ما أفعله اعتذاراً لما جرى.."
قالت رنيم بخفوت "لست بحاجة لفعل ذلك حقاً.. فأنا لا أنوي الانضمام للجنود بتاتاً.."
قال آرجان بتقطيبة "أين تنوين الذهاب إذاً؟.. هل ستجربين حظك في قرى الهوت الأخرى؟.. لا تفكري بذلك بتاتاً.."
صمتت للحظات وهي تتأمل كاجا الذي أقعى في جانب المكان يمرر لسانه على إحدى يديه، ثم قالت ببساطة "عرضتُ عليك عرضاً في السابق، لكنك تجاهلتني بشكل تام.. فلمَ تهتم لأمري الآن؟"
صمت آرجان وهو يقلّب الأمر في عقله، بينما نظرت إليه رنيم مضيفة "لو أردت رفضي، فعليك أن تكون حازماً بشكل قاطع.. لا يمكنك أن تمنحني بعض الأمل ولو كان صغيراً، فسأتشبث به بكل إصرار.. وعودتك لأجلي هي ما سيمنحني هذا الأمل الخافت.."
نظر آرجان لملامحها الهادئة وابتسامتها الخفيفة، ثم قال بابتسامة جانبية "ولم لا؟.. لا أظن أن بعض الأمل يضير أحداً.."
نظرت له رنيم بدهشة، بينما اقترب آرجان من كاجا وامتطاه بسهولة.. ثم مدّ يده لرنيم بدعوة واضحة.. لكن رنيم قالت وهي تتراجع خطوة "أخبرتك أنني لا أريد العودة للجنود.."
قال آرجان بسرعة "ومن قال إننا سنلحق بهم؟.. وجهتنا هي ميناء (مارِج) كما أظن.. أليس كذلك؟"
نظرت له رنيم بعينين متسعتان، ثم قالت بفرح "هل ستأخذني معك لأرى العالم حقاً؟"
قال آرجان بابتسامة "بل لنبحث عن جايا.. أنسيتِ بهذه السرعة؟.."
لم تكذب رنيم خبراً وهي تتقدم بوثبة سريعة ليلتقط آرجان يدها ويجذبها بقوة خلفه.. ولما استقرت على السرج، قال "تمسكي جيداً يا فتاة.."
لكنها أمسكت ذراعه قبل أن يجذب العنان قائلة "مهلاً.. أنا جائعة.."
ضحك آرجان لقولها "منذ الآن؟.. يبدو أن مواردنا ستنفذ بسرعة.."
وناولها جراب زاده القليل وهو يضيف "ولكن هذا لا يمنع أن تتشبثي لئلا تسقطي فنغادر بدونك.."
تمسكت به رنيم بإحكام وكاجا يرتفع برفّات سريعة من جناحيه، ودار دورة واسعة حول المكان قبل أن ينطلق نحو الغرب مواجهاً الرياح المندفعة بقوة وثبات دون أن يهتز أو يفقد توازنه.. وبينما ملأت رنيم فمها ببعض الفطائر المحشوة والتي تخلو من أي طعم أو رائحة، فإنها نظرت للأرض تحتها ولفرقة الجنود التي بدت كنقاط سوداء تزحف على الأرض.. وبعد أن تجاوزاها بسرعة فائقة، فإن رنيم حوّلت بصرها عن الأرض نحو الأفق الذي سدّته الجبال العالية بقممها الثلجية.. وبينما راقبت الغيوم التي تتسارع مبتعدة عنهما، فإنها قالت لآرجان "لكن.. من هي جايا حقاً؟.. ما زلت لا أعرف إجابة هذا السؤال.."
غمغم آرجان بابتسامة "أمازلتِ تسألين السؤال ذاته؟"
قالت بانفعال "لأن أحداً لا يجيبني على هذا السؤال.. لن أندهش لو علمت أن جايا كانت مجرد خنجر صغير استلبه الجنود منك في السابق.."
ضحك آرجان لتعليقها دون أن يجيبها كعادته.. وجذب العنان بيده اليمنى ليدفع التنين لتجاوز قمة منخفضة لجبل قريب.. وبرفرفة جناحين، وبسرعة تشق الغيوم القريبة، بدأت رنيم رحلتها التي كانت مجرد أحلام تحلم بها وهي نائمة ومستيقظة.. تحلم بها وهي تمسك دفتي كتاب وتسرح في سطوره.. تحلم بها وهي تخشى من التصريح بهذا الحلم وتخشى من أخذه بعين الاعتبار.. والآن، بعد أن أصبح الحلم واقعاً، فإن رنيم كانت أشد انفعالاً ولهفة من أن تصدق هذا فعلاً..


*********************




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:40 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.