اليوم التالي.. عصراً..
بعد تفكير طويل اقدمت شذرة على الخطوة واتصلت بخلود .. هذا اليوم الثالث على تباعده عنها ولا تستطيع الانتظار اكثر من هذا ...
انها لا تنام جيدا وتكاد لا تأكل .. حتى خالتها ابتهال لاحظت حالتها وحاولت التقصي لكن شذرة تهربت من الاجابة ..
عينا رقية تراقبانها وتحثانها بنظرات موبخة لتفعل شيئا لكن شذرة لم تعرف ماذا يفترض ان تفعل بالضبط .. حتى هداها تفكيرها قبل قليل للاتصال بخلود ...
جاءها صوت خلود ملهوفاً بعض الشيء وهي ترد عليها " بنت حلال يا شذرة .. كنت سأتصل بك .." للحظة قلقت شذرة وهي تتساءل
" لماذا ؟ هل هناك شيء ؟"
ردت خلود بنبرة (ام قلقة) " انا الذي اريد سؤالك هل هناك شيء ؟! خليل لا يعجبني ويبدو مشغول البال .. كلما كلمته يتهرب مني .. لكن قلبي يعلمني ان الفتى مهموم .. هل حصل بينكما خصام لا سمح الله ؟"
ابتلعت ريقها وهي ترفض ان تستسلم للبكاء .. كلمات رقية ترن في اذنيها وهي تلقنها ما يجب ان تقوله لخليل فتمنحها دعماً من حيث لا تشعر .. تشنجت قبضتها قليلا تقاوم حياءها وخجلها لتطلبها مباشرة من خلود
" اريد منك خدمة يا خلود .."
ردت بطيبتها "عيوني اقدمها لك .."
فقالت شذرة بتأثر " سلمت عيناك ..لا حرمنا الله من طيبتك .. اريد منك معروفاً .. لن انساه لك ابدا.. "
مخفر الشرطة ..
خرجت الخادمة من المخفر تسبق سيدها وميض الذي وقف يضاحك الضابط ويدس بالسر مزيدا من المال في جيبه...
كانت خائفة ومرتبكة ولا تعلم اخر هذا المشوار الذي باتت تسير فيه مجبرة..
ناداها وميض وهو يمر بها يتقدمها ناحية سيارته ويقول بنبرة صوته الآمرة المخيفة
" استقلي سيارة اجرة وانزلي عند بداية شارعكم كما اتفقنا .. انتِ كنت في السوق وهناك من تعرض لك فهربتِ واوقعت الحاجيات.."
يفتح باب سيارته وقبل ان يجلس في مقعده رمقها بنظرة ثم ابتسم باستهانة وهو يحدق في كدمة وجهها وأضاف بنبرة تهديد هذه المرة
" إياك ان تخطئي بكلمة والا ...."
ثم اشار للمخفر خلفها وأكمل " انت تعرفين كم هو سهل ان ازجك هناك لقمة سائغة في فم الضباط الجائعين .."
ترتجف حرفياً وينسحب الدم من وجهها فتهز رأسها وهي ترد " سأنفذ كل ما تطلبه سيدي .. لا تقلق .. لن اخطئ ابدا .."
بتعابير كريهة مقيتة يرد بكلمة مقتضبة
" جيد .." ثم ركب سيارته وانطلق تاركاً اياها تبحث عن سيارة اجرة وهي تختض رعباً..
الحي الصناعي .. سكن خليل ..
اهتم بهندامه وتعطر ثم يمشط شعره الكثيف ولحيته قبل ان يتحرك ناحية الاريكة ليجلس عليها وهو يلبس حذائه .. اوشك ان ينتهي عندما جاءته طرقات على الباب ...
يعبس قليلا وهو يكلم نفسه " ليس الوقت ملائما على الاطلاق لأي تأخير ..."
تحرك ناحية الباب وما ان فتحه حتى تفاجأ برؤية اخته مبتسمة الوجه تناظره ثم تصلي على النبي وتقول " اللهم صل على رسول الله محمد .. حصّنتك من عيون البشر واولهم عيناي انا .."
يتبسم وهو يرخي اهدابه ويقول
" القرد في عيون امه ... غزال .."
تعبس خلود وهي ترد عليه " اي قرد يا فتى .. انظر لنفسك بالمرآة .."
ثم تصمت للحظة قبل ان تضيف بنبرة خاصة وابتسامتها تتسع " ام ربما تحتاج حبيبة القلب ان تراك وتخبرك بنفسها.. اقتربي شذرة .. اقتربي واخبريه.."
دوم دوم دوم .. قلبه يدوي كزلزال ... عيناه ترتفعان ببطء وهما تنظران جانبا لتظهر له من الركن الذي تتخفى فيه ...
لا يصدق انها هنا ! لا بد انه يحلم .. او يهذي..
صدره يضج بالانفاس وكأنه يتنفس بعد موت وعيناه تستوعبان رؤيتها وهي تنظر اليه مباشرة وتهمس بارتباك " مساء الخير.."
لا يشعر الا بيد اخته تدفعه في صدره فيتراخى مبتعدا دون ان تتراخى عيناه عن النظر الى شذرة ..
" هل سنقف بالباب .. ابتعد يا فتى وانت تسد مدخل الباب بعرض كتفيك .."
يبتلع ريقه ويستدرك ان شذرة تدخل سكنه الضيق لاول مرة .. يشعر بالحنق وهو يراها تنظر فيما حولها تتعرف على المكان فيميل لاذن اخته ويقول بهمس غاضب " كيف تحضرينها الى هنا ..؟"
تعبس خلود وترد عليه " ولماذا لا احضرها ؟! انها زوجتك .."
قلبه يدوي من جديد واخته تنطق بكلمة (زوجتك) بهذه البساطة .. عيناه تعاودان النظر الى شذرة فيراها تقف على مسافة تنظر اليهما وهي تشد بجانب تنورتها الطويلة في توتر وارتباك ...
قالت اخيرا وهي تشبك كفيها مع بعض
" ان كنت غير مرتاح لحضوري .. فسأغادر .."
تتدخل خلود وهي تعلق بعبوس " من الذي غير مرتاح ؟! هذا بيتك كما بيته حتى تختاران بيتاً افضل باذن الله.. اجلسي يا فتاة وسأذهب لاسلم على ام زاهرة ثم أعود اليكما .."
تتحرك خلود ناحية الباب من جديد بينما تناديها شذرة بخجل " لحظة .. خلود .."
لكن خلود تلوح بيدها وهي تقول
" يجب ان اسلم عليها .. لن أتأخر .."
ثم خرجت واغلقت الباب خلفها تاركة الاثنين يقفان قبالة بعض ومسافة اقل من مترين تفصلهما ..
أطرقت للارض وهي تقول بتوتر وخنقة بكاء تسيطر عليها " اسفة .. كانت فكرة سخيفة متهورة مني وخلود طاوعتني بطيبتها .."
شعرت بخطواته تقترب فتزداد توترا وغصة البكاء تثقل صدرها .. اضافت وهي تريد المغادرة حالا " سألحق بخلـ......اوووه.."
حضنه غمرها كأتون نار تحرقه .. وشفاهه تسعى لارواء عطش لا يرتوي الا من شفاهها..
وهو بين أتون الحريق وارتواء عطش تاه وضاع بل يموت ويحيى ... ضاعت هي معه وهو يعلمها معنى الاحتراق والارتواء فتنصهر كلياً وتطن اذناها وهو يبتعد عن شفتيها ويهمس كأنه يشتكي لله حاله " ربي... كيف خلقت الشوق ليقتلنا قتلا ونحن احياء .."
كانت في حضنه كأنها انفصلت عن العالم فقط تغمض عينيها وقواها تسيح وهي ترد عليه بهمس" من اين تأتي بهذه الكلمات .. "
تشعر بانفاسه تلفحها وهو يرد " تلهمني انفاسك يا جنة خليل .."
تتشبث اصابعها بقميصه قبل ان تتجرأ وتفتح عينيها لتنظر لوجهه القريب ...
يخفق قلبها بجنون وهي تنظر لوسامته ..
تحمر عفوياً من انجذابها التلقائي اليه ..
يبتسم وعيناه تشعان دفئا وكأنه يقرأ اعجابها فتسارع لتطرق بنظراتها محدقة باعلى قميصه ثم تهمس بحشرجة " لماذا .. تضايقت من .. حضوري ؟"
شعرته يتوتر وهو يرد عليها بصدق " لم أكن اريدك ان .. تري المكان .. انه ليس من .. مقامك .."
ذُهلت وهي ترفع وجهها لتنظر الى وجهه قائلة باستنكار
" لا تقل هذا يا خليل .. انه بيتك .. وبيتي كما قالتها خلود ..."
رد وهو يسبل اهدابه " بيتك هو ما تستحقينه وسأوفره لك بمشيئة الله .. وعدت أهلك وسأوفي بوعدي .."
صمتت لتسأل بقلب خافق في وجل " لماذا تخاصمني منذ يومين ؟"
فيعاود النظر وهو يقول " لا عشت ولا كنت .. لو خاصمت الدنيا كلها فأنت لا وألف لا ..."
هم ثقيل كان يجثم فوق صدرها أزاحه ببضع كلمات لتتبسم له وهو يضيف بحرقة " كنت قادماً اليك الآن .. قبل ان تطرقا الباب انت وخلود .. سبقتني يا بنت الاجاويد .."
ثم ذابت ابتسامتها وابتلعت ريقها وهي تهمس له " لماذا اذن لم تكن تكلمني عبر الهاتف او حتى ترسل لي الرسائل؟ لا تقل ان .. انشغالك بالعمل .. هو ما منعك .."
ما زالت في حضنه يعزلها عن الشعور بالعالم .. فقط هو وهي .. فتشعر بكل ما يختلج في صدره وتتألم وهي تفهمه وتتفهم كرامته وعزة نفسه .. استعادت كلمات رقية وهي تنصحها وتؤكد عليها
( اياك ان تخبريه عن الاتصالات الهاتفية .. هو لن يحتمل الامر .. مهما قال لك سيتقبله فلن يفعل صدقيني .. انا اعرف امثال خليل.. اياك يا شذرة .. كوني ذكية ومختصرة .. )
لم ينطق بكلمة فبادرت هي بحدسها قائلة دون مراوغة لتفتح الموضوع " انا كنت اعرف مهند قبل ان نلتقيه في المكتب ..."
تشعره يتجمد بالكامل ثم يحدق فيها ونيران الغيرة تشتعل ليبتلع ريقه كأنه يبتلع احجارا مسننة ثم يهمس بخشونة " لهذا ابتعدت يومين .. كي احتمل ما ستقولينه .. آآآه لو تعرفين كم هو شاق عليّ.."
كانت تتوجع لاجله لكن يجب ان تريحه وتغلق هذا الباب الى الابد .. ردت بما دربتها عليه رقية " كان يريدني.... زوجة .."
ان كانت تشك سابقا بكلام رقية وتأثيره فنظرة خليل الآن دحضت كل الشكوك ..
ان تخبره (ارادها زوجة) منذ اول الكلام فهذا يثير غيرته ربما لكن تمحو اي تفكير آخر ووساوس ...
اكملت بثقة اكبر وكل كلمة تقولها محفورة في رأسها منذ يومين تعيدها وتكررها
" لم يخبرني انه يعرف حبيبة وارادها زوجة قبل سنوات .. لم يخبرني انه ... متزوج من اخرى ولديه منها طفلة .. لم اعرف الا حين رافقتني حبيبة للقائه في مقهى عندما اخبرتها ان رجلا يريد الزواج مني .. "
الألم نضح من نبرة صوتها ولو بشكل أخف من السابق .. وربما سيأتي اليوم وتنسى ما تعرضت له مع مهند بما مس كرامتها واهانها...
سألها بغيرة حارقة " هل.... احببته ؟"
ردت بعفوية وتلقائية وثقة " لا ... "
يعتصرها بين ذراعيه ويستحلفها بالقول الهادر العاطفي " استحلفك بالله اكذبي في اي شيء .. انا اقولها لك وأعنيها .. اكذبي عليّ يا شذرة .. الا في هذا ..! الا هذا لا تكذبي.. أنا سأصدق اي كلمة تقولينها .. وحق لا اله الا الله سأصدق..."
فردت وعيناها تشعان صدقاً " وانا اقسم بالله لم احبه ... لم اهتم الا بـ..."
قاطعها بهمس مبحوح لاهث بالمشاعر" اذن لا يهمني شيء بعدها ... لا يهمني شيء.. لا تقولي المزيد .. لا اريد ان أعرف .."
دمعت عيناها وهي تهمس اسمه " خليل ..."
ثم تبتسم لعينيه وتهمسها له " انا لم احب في حياتي الا رجلا واحدا .. هو أنت ... وسأظل احبك لاخر عمري .."
اخذ صدره يعلو ويهبط بتأثر رهيب واسمها يخرج مع انفاسه " شذرة....."
تسيل دمعتها وهي تهمس بعجز انثوي رقيق
" ليتني اعرف اقولها كما تقولها انت لي .. ليتني اعرف انطقها لك بمئة لغة وبمئة كلمة وبمئة ...مئة.... نبضة .."
يمسك برأسها بين كفيه ويسند جبينه فوق جبينها وهو يغمض عينيه بقوة ويهمس بخشونة " ان كان كذباً فاكذبي علي هكذا دوماً ! "
تتنهد وهي تهمس " ان كنت انت كاذبا فانا كاذبة .. فانظر ماذا ترى ؟"
ذابت شفتاها في شفتيه وهو يهمس " رباااه.."
بعد ساعة ... في السوق القريب..
تسير ام عادل في السوق وعيناها تتربصان بالرائح والغادي وكأنها تجد في كل واحد منهم بغية تريد تحقيقها وارضاء اهوائها ...
تكلم اشجان عبر الهاتف وتقول " لماذا لا تدعيني اسأل عنه ؟"
فترد اشجان بتشدد " إياك يا ام عادل .. لا اريد ان يصل اليه خبر اني ابحث عنه.."
ثم تتنهد اشجان بتعب المرض ثم تضيف بخفوت كي لا تسمعها بتول " ان اردت مساعدتي حقاً فقط ابحثي عنه حتى تجديه وتعرفي عنوانه بنفسك .. وإن رآك صدفة لن يتساءل عن سبب وجودك بالسوق .. فقط لا تثيري ريبته .. اريد ان اذهب اليه وافاجؤه بنفسي .."
تبجحت ام عادل وهي ترد بصلف " الرجال آآه منهم .. كلهم كالكلاب .. بلا ضمير ولا اخلاق ويلهثون خلف رغبات اجسادهم ..لا اعلم كيف تصبرين عليه وهو يهملك هكذا ويتركك ليعيش اغلب ايامه في مكان اخر وكأنه يشعر بالخزي منك ؟!"
تكاد اشجان تبصق عليها في الهاتف لكنها تتحمل منها فلا وسيلة لها الا ام عادل لتصل لخليل ..
يجب ان تصل اليه .. ما ان يراها عند بابه فسيضعف امامها ولن يتحمل رؤيتها تعاني ..
فجأة هتفت ام عادل بحماسة " لقد رأيته .. ها هو يا اشجان .. اراه يمشي ضاحكاً في الاسواق و.. و ...." قلب اشجان ينبض بعنف وهي تحثها بنزق " و ماذا يا امرأة .. افصحي .."
فترد ام عادل وكأنها وجدت ضالتها " ومعه فتاة جميلة جدا .. عيناه لا تفارقان وجهها.."
نهاية الجزء الأول من الفصل الواحد الثلاثين