21-06-20, 01:26 AM | #1 | ||||
| لعنة الجمال *مكتملة * السلام عليكم ورحمة الله وبركاته كيف حال جميلات المنتدى؟ هذه مشاركتي الأولى في قسم الروايات القصيرة المكتملة برواية من بدايات كتاباتي بعنوان "لعنة الجمال" أتمنى أن تلقى القبول والإعجاب وأرحب بكل رأي ونقد أترككم مع المقدمة والفصل الأول يليه ثم بقية الفصول تباعا على مدار الأسبوع لعنة الجمال بقلمي أسماء أيمن مقدمة من زمرة اللعنات ينضم الفرادى للحشود؛ فالمال لعنة، والجمال لعنة، والعمر لعنة، والشيب لعنة، والشباب لعنة. وكل ما هو مميز لعنة. والعجب لعنة، والفوز لعنة، والرباح والفلاح والتفوق لعنة. وكأن هذه الصفات تقرب مالكيهم إلى الكمال؛ وما يعلمون أن اكتمال الجمال ما هو إلا نقصان من جانب آخر أو ملمح حياتي آخر؛ قد يكون بعيدا عن أنظارهم أو انتباههم، ولكن للعلم، يظل ميزان الله قائما في أرضه وعلى عباده مهما قيل أو تم الظن فيه. يوزع على من يشاء من فضله ويعطي من يشاء بغير حساب. فعدل الله وموازينه تشمل الجوانب جلها، المال والبنون والصحة والسعادة و... إلى ما لا نهاية. فنعمه لا تعد ولا تحصى. ونعيمه لم يخطر على قلب بشر. ************************** روابط الفصول المقدمة.... اعلاه الفصول 1 - 9.... بالأسفل الفصل 10، 11 الأخير التعديل الأخير تم بواسطة **منى لطيفي (نصر الدين )** ; 13-01-21 الساعة 06:40 PM | ||||
21-06-20, 01:29 AM | #2 | ||||
| ١ الفصل الأول ولدت بجمال حباها الله به، يسحر العيون. كل من يراها يهتف: - "يا ما شاء الله، سبحان من صور وأبدع". راقدة في مهدها، التفتت بعينيها ذواتا اللون الفيروزي الساحر برموش سمراء طويلة تحلق في الأجواء، محيطة إياهم بهالة من السحر والجمال تشد أعين الجمع حولها، تكبلهم للاهتمام بالنظر إليها فقط، وكأنها تخبرهم: -أنا أجمل جميلة من بين جميلات عائلاتكم. ويمتصون صدمة الجمال بالانبهار فاغري الفوه، يهتف نبض أدمغتهم: -يا الله، ألا بعضا من هذا الجمال! وتقع حسرة حسد في نفس بعضهم كنتفة دقيقة ثم تكبر وتنمو الحسرة حتى تصل إلى ماذا؟ ماذا ندعوه؟ غبطة؟ كراهية؟ حقد وغل؟ رغبة أذى؟ والبقية تأتي على استعجال... هنا صبية يمرحون وهنا صبايا يتدللون... وتظهر هي كشمس ظهيرة في يوم شديد الغيم، حتى لكأنها الشمس ظهرت في الليل تنير ما عجز عنه القمر، وكأنها تُنَحّيه آمرة بكبر ودلال: -خذ لك ساكنا تتفرج فيه على كيف يكون أمر الإضاءة حقا، لا عليك؛ فأنت بالأساس معتم تستمد مني ضياءك، ومن الآن أعفيك من مهمة محاولة أن تصير كأنا. أنا هنا واليوم أنت عدت كما كنت حقا. ابحث لك عن آخر تتابعه وتسير حوله مهللا؛ معك كل الحق. واحتجبت الفتيات والصبايا وفي نفوسهم حسرات، وفي قلوبهم حسد ينتشر كما النار في الهشيم. اتخذن وضعا صامتا للفرجة من بعيد. والصبية يقتربون، تتنافس أعينهم في التمتع بهكذا جمال رباني رائع. وتتنافس نفوسهم على محاولة شد الانتباه ولفت نظر الصبية المبهرة في أعينهم. وبعضهم تسيرهم أدمغة، تلعب فيها شياطين الوضاعة، في قذارة تحط بهم من مصاف البشر إلى مستويات أدنى بكثير حتى لتكون أدنى من الحيوانات أيضا. ومضت فترات الطفولة والمراهقة وفار الشباب، والجمال المبهر برز أكثر في حيز جسد أنثوي شديد التناسق والاتساق والابهار، حتى أن الملامح ما عادت تجذب الأنظار لها كما يفعل ذاك الجسد. وهي كانت سعيدة بالاهتمام في طفولتها، مشبعة الغرور في مراهقتها، خائفة وجلة في شبابها. اليوم وكل يوم يتقدم لها من يريد الزواج بها. وأهلها يقفون على شفا الموافقة وتردعهم فقط كلمة: -ادخروها لعريس ثري فهي تستحق. وهي بين نارين الوحدة تعاني، تعليمها أبوا أن تتمه خوفا عليها من الانحراف الفكري، ونزولها الشارع ولو لزيارة صديقة منعوه منعا باتا خوفا عليها من الصحبة السيئة. ارتدت الحجاب -الذي جملها أكثر-منذ باكورة بروز أنوثتها، وأضحت به ملفتة للنظر أكثر فأكثر، وخوف أهلها عليها تنامى وحنقها وكراهية مظهرها وشكلها في نفسها تنامى. أضحت تقارن بين نفسها وبين قريناتها، بين وضعها ووضع جاراتها. وجدت الأمر في غير صالحها؛ فاستنفرت قواها التخيلية على الخروج من هذا الوضع. ****************************** التفت حوله باحثا عنها بعينيه. كان يتطلع إلى بداية الدراسة ليطمئن بصره ونفسه عليها. كان يراها في ذهابها وإيابها من المدرسة كل يوم. ولكنه لهذا العام انتظر وانتظر، ولم يلمح ولو ظلها، جال ببصره بين الفتيات يزيح هذه بعينيه وهذه برموشه، لعلها وراء إحداهن أو بينهن، لعلها اختلطت بهن فلم يلحظها في خضم تفكيره. حدث نفسه: -أين ذهبت؟ ألن تخرج إلى مدرستها؟ أم أنني لم ألحظها وهي تخرج؟ لعلها شعرت بمراقبتي فآثرت الاختفاء من أمامي! منذ أول يوم لها في الدراسة وهي تلفت نظره. منذ أن كانت في السادسة من عمرها بضفيرتين طويلتين ذهبيتين كشعاعين للشمس سميكين، جدلتهما الشمس لها على عجل فأضفوا عليها مظهرا رقيقا محببا للعين. وكم أحب النظر إلى عينيها ذواتا اللون الفيروزي الساحر متمتعا بحركة رموشها المضطربة خجلا وهو يناولها حلواها المفضلة. كان يقتص من مصروفة يوميا ما يشتري به لها حصتها من الحلوى. وكأنه منذ سنواته الأولى يخبرها بأنها مسئولة منه. وأنه عاجلا أم آجلا سيكون كل حياتها. كبرت أمام ناظريه، يوما عن يوم تتجمل بطبيعتها الحيية، ويستنفر جمالها للفت أنظار كل العيون المحبة للجمال. وكيف للعيون أن تتجاهل جمالا كهي يمشي على قدمين! كان يكفي أن تمر في طريق حتى يتوقف مرتاديه كلهم يحملقون في القمر الذي نافس الشمس في السطوع، وسرعان ما يتنهدون غبطة وحسرة وحسدا. خجلها تبدل غرورا مع مضي سنواتها الأولى، ومع اكتمال قمر أنوثتها، ارتفع سقف الاهتمام بها. فلم تعد النظرات نظرات غبطة وحسرة وحسد فقط؛ بل تجاوزت الخيال وعبرت حدود البراءة إلى الدناءة والوضاعة والقذارة. لطالما راقبها بحذر، يوما وراء يوم وعاما في ظهر عام. وكلما كبرت هي أمامه عاما منى نفسه بالارتباط بها، وكان عليه أن يتأكد منها، هو متأكد من أخلاقها بحكم مراقبته إياها؛ ولكن نظرات الشباب لها ونحوها التي تكاد تلتهمها تحرق جوفه ورأسه وقلبه وفكره. شيطانه يعيث في عقله السوء يوسوس له بسموم لاذعة، مميتة، سموم فكره تحركه وتدفعه دفعا لمحاولة إيجاد حل ليطفئ نيران قلبه المضطردة السعير. وابتدأ أولى خطواته. الحديث... ****************** في غرفة صالون أشرف على أن يهلك مفترشا الأرض. ألوانه تبدلت بفعل عوامل الزمن والتعرية والاتساخ إلى ما يجاوز اللون البني بقليل. على الأريكة تجلس العائلة الزائرة والمكونة من العريس ووالده ووالدته، وعلى المقاعد المقابلة يجلس على كل كرسي شخصا من أصحاب المنزل، الأم والأب والأختين. وبدأ خضم الترحيبات والمجاملات بين العائلتين: -كيف حالك يا عم سعيد؟ انطلق هذا السؤال بطريقة عفوية من "يحيى" –العريس-. أجابه عم سعيد بابتسامة مرحبة: -الحمد لله يا ابني، بخير. -الحمد لله دائما وأبدا. وقالت زوجة عم سعيد: -آنستم وأنرتم. ردت عليها والدة العريس: -المنزل منير بأهله الطيبين. وكأن الكلمات انزوت مختبئة حرجا، فتنحنح الجميع لكسر حاجز الصمت: -احم -احم بدأ عم صابر الحديث وهو يتنحنح كثيرا ويتعرق أكثر: -جئناكم زائرين خفيفين على القلب؛ ولن نطيل عليكم؛ سنعرض الموضوع مباشرة. رد عليه عم سعيد بسرعة بين استنكار ومجاملة: -تفضل يا عم صابر، ولكن أهذا كلام؟ لماذا تقول هكذا؛ البيت بيتكم. رد عليه: -عشت يا عم سعيد عشت. احم، الحقيقة، لقد جئنا لنطلب يد ابنتكم لابننا. تبادل عم سعيد وزوجته وابنتيه النظرات ثم قال: -ابنتنا؟ تقصد داليا؟ تبادل عم صابر النظرات مع ابنه وزوجته ثم التفت له حائرا: -داليا! الكبرى؟ صمت برهة ثم أكمل بحرج: -في الحقيقة لا، لا يا عم سعيد ليست داليا. نحن نطلب ابنتك دعاء. فوجئ عم سعيد بالطلب وتعثرت الكلمات على لسانه: -ها؟! دعاء؟! ولكن... -لكن ماذا يا عم سعيد؟ بدت على ملامحه الحيرة الشديدة، قال ببطء: -... لست أدري ما الذي أقوله؟ على الفور رد عليه عم صابر: -قل ما في نفسك. ابتلع لعابه ولبث مدة يستجمع ما شت من تركيزه؛ ليقول ما في نفسه بلباقة ودون أن يرهق الضيوف حرجا: -الحقيقة، لقد كنت أريد تزويج ابنتي الكبرى أولا وبعدها الصغرى. لم ينتظر عم صابر كثيرا حتى رد: -والصغرى جاءها نصيبها قبل الكبرى، أتوقف لها حالها؟ أجاب نافيا: -القصة ليست قصة أن أوقف لها حالها. ولكن ...، حسنا، طيب، أعطني فرصة لأفكر. تنهد عم صابر وسأل بلهفة: -ومتى الرد؟ -بعد أسبوع أو عشرة أيام على الأكثر. اعترض بقوله: -عشرة أيام فترة طويلة يا عم سعيد، فلتجعلها يومين أو ثلاثة. رفض عم سعيد دونما حرج: -أسبوع، أرجو ألا تضغط علي أكثر يا عم صابر، أنت تعلم أن مواضيع الزواج لا يجوز فيها التسرع. أذعن له موافقا: -حسنا إذا، بعد أسبوع لنا زيارة ثانية. -وهو كذلك. وانتهت الزيارة وودعت العائلتان بعضيهما. وتبادلا بضع مجاملات لعدد من الدقائق، قبل المغادرة الرسمية. ********************* | ||||
21-06-20, 06:38 AM | #3 | ||||
| ٢ الفصل الثاني العين تعانق العين، الشفاه تتقارب تكاد تتلامس، الأكف متشابكة، الجسد ينتفض متعرقا كالمحموم، والنبض على أشده يتسارع... -أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ما هذا الحلم المقرف؟! انتفضت من نومها فزعة من أثر الكابوس الذي غلف نومها طيلة الليل. همهمت لنفسها وبدت كمن تهذي: -لا، ارحمني يا رب، لا أريد الزواج منه. لماذا أنا؟! لما لا يتزوج أختي؟! هي جميلة أيضا. ليرد شيطانها: -جمالك عن جمالها يختلف، جمال أبيض وأسود وجمال بالألوان، وهو اختار جمال الألوان. قطبت بشدة مستنكرة: -ولماذا أنا؟ ذوات الألوان كثر. همس لها بفحيح يبث بها الغرور ويحقنه ببطء: -أنتِ أحلاهم وأجملهم وأرقهم. وارتفع الغرور إلى حدود السماء ولامس الشهب والنيازك فاشتعل أكثر. استأنف: -قد تكونين تشاركينهم جمالك الملون؛ ولكنكِ تتميزين عنهن بجسد غض بض ملفوف القوام دقيق الوسط متزن البروزات الأنثوية. شردت تفكر فيما سمعته، وهمست حالمة: -وماذا أيضا؟ اتسعت ابتسامته الشيطانية وهو يردد: -تتميزين عنهن بروح، بكبرياء، بقوة وعزيمة؛ كما أنك ذكية ولا يعيبك عدم إتمامك تعليمك. لا يعيبك شيء. همست خجلى: -معك حق، و"الباشمهندس" يظهر عليه أنه يحبني جدا، ومستعد لأن يفعل أي شيء من أجلي. قال بهدوء وبسمة انتصار صغيرة تداعب فمه: -إذا، فلتشترطي عليه ما تريدين. ابتسمت ببطء وهي تقول: -وهذا تحديدا ما سأفعله. ******************** الغرور ملازم لجمالها يبثه رحيق الضجر والشر. يداعبه ليهجو من سواه ومن دونه منزلة في الجمال والدلال؛ فلا يأبى، ويهجو المعشر ويعوق التقدم في مسيرة الحب الأخوي. كانت الغيرة تأكل قلبها، كيف لأختها الكبرى الأقل منها جمالا أن تتم تعليمها! وهي الصغرى والأجمل كتب عليها أن تظل في منزلها كأي قطعة أثاث، تنتظر من يدفع فيها أكثر، ثم يحملها إلى بيته بموافقة ضمنية وإمضائية من أهلها ووكيلها بالأخص؛ ليشبع بها رجل غريب رغباته وينعم بجمالها، وينال منها مطالبا إياها بإنجاب البنين لا البنات. ولكن "الباشمهندس" غير، فالجميع يقولون إنه يحبها، كما أن عيناه لم تفارقا ظلها منذ وطئت قدميها أرض الشارع. في يدها أن تستفيد قدر إمكانها من هذا الوضع. لذا قررت أن تطلب الحديث مع العريس على انفراد. ****************************** هز سكون المنزل اتصال هاتفي. رفع رب المنزل سماعته ليجيب: -ألو. من معي؟ أجابه صوت رجولي ذو نبرة قوية واثقة: -أنا "الباشمهندس يحيى" يا عمي. كيف حالك؟ وحال عروستنا! -الحمد لله يا ابني. تردد قليلا وهو يستفهم عن رأي العروس: -احم، هل... هل... هل هي موافقة؟ أخذ عم سعيد نفسا عميقا قبل أن يجيبه بهدوء وجدية: -الصراحة يا ابني. كنت أنوي الرفض ولكن... ولكن لن أرفض إكراما لك ووالدك؛ ولكن لي شروط. أصر "الباشمهندس" أن يعرف رأي العروس قبل الرد على قول عم سعيد: -وما رأي عروستنا يا عمي؟ موافقة؟ فرحة؟ أم أنها متحفظة و... قاطعه عم سعيد: -والله يا ابني ما أخذت برأيها. شعر بالحنق والحزن؛ ولكنه حافظ على هدوء نبرته تأدبا واحتراما: -ولكن لماذا؟! أجابه عم سعيد بنبرة ضجرة توحي بأن السبب بديهي وكأنه يقول له ضمنا لماذا تسأل: -أنتَ تعلم بأنها صغيرة لا تعلم مصلحتها أين ومع من، أنا وأمها أحرص على مصلحتها وأختها من أنفسهما. رد بعفوية سريعة وكأنه يخشى أن يجبن فيصمت عما قرر: -يا عمي، دعني أحدثها إذا سمحت. استنكر عم سعيد الطلب: -ماذا تقول؟! بالتأكيد لا. ألح عليه محاولا إقناعه: -لماذا يا عمي؟ أنا أحتاج أن أعرف رأيها لأضع النقاط على الحروف. كما أنني أريد أن أعرف طلباتها وما تحتاجه أيضا. مرت ثوانٍ بلا رد من عم سعيد، كان يفكر فيهم فيما سمع، وفكر بأن "الباشمهندس" من حقه أن يتحدث مع دعاء ليعرف كيف تفكر، كما أنه يقول بأنه يريد أن يعلم طلباتها، ربما هي ستخشى الحديث أمامي ووالدتها فتصمت عما تحتاجه منه؛ ما الضير إذا في مقابلة لوضع النقاط على الحروف كما قال هو: -امممم، حسنا، موافق، يمكنك أن تأتي اليوم بعد العصر. ابتسم وظهر أثر الابتسامة في صوته وهو يقول: -سآتي وحدي بعد إذن حضرتك. أريد أن أحادث العروس على انفراد. اقترح عليه: -وماذا فيها إن أحضرت معك العائلة فنتفق أيضا! شعر بالحرج وهو يجيبه: -الاتفاق يلزم له ترتيبات أخرى، والحاج والحاجة في مشوار ولن يستطيعا القدوم؛ فقلت لنفسي استغل الوضع وتكلم مع العروس، ووقت الاتفاق سيحضر معي الحاج والحاجة لنتمم الموضوع على خير ونتفق على كل شيء. أذعن على مضض: -وأنا في انتظارك. تجاوز حرجه بابتسامة عريضة نَمّت عن فرحه الشديد، شكره بأدب: -أشكرك يا عم سعيد، أشكرك كثيرا. -الشكر لله وحده يا ابني. مع السلامة. -مع السلامة. ********************* على الرغم من حسن سيرها وسيرتها واحتشام ملابسها إلا أن ذلك لم يمنع العقول الفارغة المريضة من التربص بها. فكم من عقل شيطاني وسوس لصاحبه أن يفكر بها كما يفكر الحيوان بشهوته. كانت كوجبة شهية أمام حثالة من الجوعى. ونجاها الله من العيون التي تكاد تلتهمها حية، الأب لمح النظرات، سمع الأفكار بعينيه وقلبه، واتخذ قرارا نابعا من خوفه، لا إكمال للتعليم ولا خروج من المنزل. كم بكت وترجت وقبلت الأكف والأقدام على أن تنهي فقط هذا العام، وبعدها قد ترضى بإكمال تعليمها بالانتساب. ولكن القرار كان حاسما لا رجوع فيه ولا مراجعة. تذكرت تلك الفترة وكأنها كانت بالأمس، العمر يمر بسرعة وهي واقفة في محلها "محل السر"؛ وغيرتها حركت فيها مشاعر لم تكن لتولد فيها لولا شعورها بالظلم. رأت أن تجاري التيار حتى لا تهلك أعصابها بمواجهة ومقاومة تعلم تماما مردها. توقن من خسارتها وتلاشيها كذرات غبار في الهواء. استسلمت لمصيرها دون تسليم حقيقي؛ فنية الثورة داخلها تتأجج، وغرورها يحركها أيضا للاستمرار والخوض في سبيل حلمها المتعرقل بجمالها، والمحكوم عليه بالموت إن هي ظلت في كنف عائلتها. قالت لنفسها: -ولم لا؟ أنا كفيلة بحماية نفسي والحفاظ على عفتي. وسأعاقبه على رغبته في الاقتران بي. لم لا ينظر إلى نفسه في المرآة؟ ألا يرى شكله؟ ملامحه؟ أي امرأة عاقلة تلك التي ستطيق النظر إليه؟! ألا يرى دمامته وقبح هيئته؟! ألا يرى عرجه؟! ألا يرى وزنه الزائد؟! لِمَ أحتمله؟! كنت قديما آخذ منه الحلوى التي كان يهاديني بها رأفة به حتى لا أحرجه برد يده. ثم اعتبرتها حق مكتسب؛ ألا يتمتع بالنظر إلي؟ كنت أوقن من إعجابه بي، كنت أشعر بالحرج من رده، كنت أشفق عليه أحيانا. أما وقد علمت نيته الحقيقية؛ فلم تعد بي قدرة على التماس الأعذار له. لم يعد على الهامش كما كان، وإن رفضته؛ فأصير على الهامش مثله، بلا شهادة ولا علم. وجمالي لن ينفعني، وأبي... آه منه أبي... ألا يعلم أن شهادتي ترفع من سعري في سوق الزواج! ألا يعلم أن الأثرياء باتوا يبحثون عن الواجهة الاجتماعية والشهادة الجامعية أولا! ألا يعلم أن عيناي الزرقاوين لن تتصيد عريسا ولو كان ثريا يتعبد في محراب الجمال! لن يكفي جمالي ولا جسدي لرفع قدري لدى العرسان المحتملين! فقط هو رآني... رآى ضعفي، ويبدو أن ضعفي جذبه؛ ولكني لن أخضع وأنا ضعيفة. فقط سأستكين حتى أقوي من نفسي، ثم أقتص لنفسي وأقتنص المكانة التي أستحق. لست مغرورة؛ ولكني أعلم قيمة نفسي جيدا. قيمتي أغلى مما يمنحونني. سأريهم جميعا بأنني أستحق الأفضل. ************************** | ||||
22-06-20, 12:50 AM | #4 | ||||
| ٣ [ color="orange"]الفصل الثالث[/color] تسابقت مع الزمن لإتمام الأمر. أسرعت وأبدلت العبوس على وجهها ببسمة رضا، عزمت على العمل جيدا على طمأنة العريس المرضي عنه من عائلتها. هل تبتئس وتكتئب كما تفعل الخائبات من الفتيات؟! ليس عليها أن تفعل ولا أن تبكي ولا أن تنوح. آمنت بأن الفتاة التي تبكي هي ضعيفة. كأختها تماما. وهي تكره الضعف، تكره حساسية أختها. تكره كل ما تمثله في النساء عن طريقها. الحاضر والنعم اللتان لا تفارقان ردودها، البكاء عند نظرة زجر ولو بسيطة، النواح مع أضعف ضربة على جسدها كعقاب. أما هي، فلطالما قابلت نظرات الزجر بنظرات متحدية، رافضة البكاء. كانت نظراتها تدفعهم للصراخ بها وشتمها، ثم يعودون للاعتذار آنهم تجاوزوا مستوى العقاب المفترض، تجاوزوا حد الإهانات المسموح به. كانت باردة ولكنها لم تكن يوما حمقاء. قرار اكتفاء والدها بشهادتها الإعدادية أرعبها. فكرة إقامتها الجبرية في المنزل أخافتها. ولكنها تعلم يقينا أن قراره ذاك لا رجعة فيه ولا فصال، والمناقشة ستتعب حنجرتها وتوتر أعصابها لا أكثر. العريس فرصتها، تبلغ من العمر الآن السادسة عشر. ثلاث سنوات عجاف قضتهم في منزل والديها عابسة العقل، أما الملامح فلا تُظهر إلا اللامبالاة والبرود. ثلاث سنوات ضاعوا من عمرها ولا تسامح فيهم أحدا. يقولون لها بأن العريس انتظرها، طلبها من عامين أو ثلاث، ورفض والدها لصغر سنها. والدها يفكر بها بطريقته؛ ولكنها طريقة غريبة، لا تناسب تفكيرها ولا أحلامها. تنص الأحلام اليوم على الرضا التام والتسليم بالواقع، والآتي سيكون على يديها استكماله بنفسها، ستقتص بمجهودها، ستعوض ما فاتها. ************************ كان عم سعيد يراقب دعاء في ذهابها وإيابها. يلاحظ خلجاتها، نظراتها، التماع عينيها. كان يتوقع أفكارها ويسمع بصعوبة حديث نفسها. أراد لو يحدثها، ولكنه لم يعتد الحديث، كما أنه يشعر بحرج من التحدث مع بناته في أمور الزواج وما شابه. لو كانت زوجته متعلمه، لساعدته ورفعت الحرج عنه وخاطبتهما هي. ولكنها لا تعبأ إلا بشئون المنزل من طبخ وغسل وتنظيف وما إلى آخره من أمور مشابهة. لا يجرؤ على محادثة الفتيات وخاصة دعاء. يقرأ أفكارها التي تتلاعب في عقلها تريد إفساده، يريد لو يقول لها: -ابنتي، لو لم تكوني بهذا الجمال لما تركتك هنا وحدك. لما سعيت لمنعك عن إكمال تعليمك وإتمام حلمك. أرى في عينيك ظلمي وكراهة ما أفعله، أرى حسدك لأختك وغبطتك لوضعها، أرى كراهية نفسكِ ومظهركِ في عينيكِ. تلومي جمالك على حرماني إياك من حلمك. لا أريد منك أن تظلي ساكنة الحزن والفقر؛ الفقر يقتل الجمال، وأنا أريد لجمالك الإيناع. صدقيني، ما أفعله هو لك خير. "الباشمهندس" يحبك، صدقا يحبك، لو لم يحبك لما انتظركِ، لما اقتصرت أحلامه لبناء عائلة عليكِ وحدكِ وإلا لكان تزوج منذ زمن. كلما حادثته، أرى اهتمامه في عينيه، أتعلمين؟ لقد أثبت لي اليوم أن رأيك فيه مهم. طلب لقاءك منفردا ليسمع ردك بنفسه، وأنا وافقت. أتصدقين ذلك؟! هو يتوق للزواج منك، ويهتم بك. يريد أن يجمل حياته بوجودك، يريد أن يكمل الناقص منه بك. لم يهتم بعلامك ولا جمالك، صدقيني. هو مهتم بروحك. لو طلبتِ أغلى الأشياء لن يبخل بها عنكِ، ولو طلبتِ إحدى عينيه لأعطاكِ الاثنتين عن طيب خاطر. سامحي قلة حيلتي يا ابنتي؛ فأنا ضعيف يرى الذئاب في دنيا الغاب تحلق حولك لاصطيادك والاستيلاء على جمالك. أتوق لأن أترككِ تتنعمين في ظل رجل لا ظل علم؛ هو سيحميك من شرور الأعين وضعاف الأنفس وشياطين الإنس. ********************** | ||||
22-06-20, 12:52 AM | #5 | ||||
| ٤ الفصل الرابع في يوم المقابلة، انفرد بها الضيف المرحب به من الأهل كزوج منتظر، وخاصة أنه يمتلك ورشة خاصة به ودخله اليومي لا يقل عن الألف جنيه. فضلا عن عمارة يمتلكها باسمه، كما أنه ابن وحيد لعائلة حسنة السمعة كريمة اليد وكريمة المعشر. دخل إلى الغرفة التي شهدت اللقاء المجمع الأول، ولكن هذه المرة كانت هي وهو وحدهما. حمحم بحرج واحمرت وجنتيها حنقا. صاح نبضها داخلها قائلا: -عودي إلى غرفتك وارفضيه، فما لك بهذا الأرعن الأمي حاجة، أنتِ تستحقين الأفضل، طبيبا أو مهندسا وليس صاحب ورشة تصليح سيارات. وما يعنيك إن كان يكسب ألفا او آلافا أو ملايين الجنيهات. هو لن يرقى إلى فكرك أبدا، ولن يجاري ذكاءك ولن يستحق جمالك. ولن يستنطق الكلم منك، كما أنك لن تستطيعي أن تحبيه على أي حال. وهنا صرخ عقلها: -ولكنك تستطيعين التحكم فيه، ألا ترين الوله في عينيه، والحب متلألئ في ننيه، واللهفة بادية مجردة في صوته لصورة ظلك فقط! فما بالك لو منحته نظره! ورفعت بصرها كمن تتأكد وتتحقق وتجرب عليه تأثير العينين الذباحتين لراحة باله ومنامه، انفرج فمه بابتسامة حنونة خجولة وارتعش فكه توترا. صاح عقلها منتصرا: -أرأيتِ؟ ندت منها همهمة رضا، وشبح ابتسامة مكسوبة بالغرور لاحت على شفتيها. لم ينتبه للشوائب وهو يرى جمال الأصل أمامه يَتَبَسّم. حبيبته تبتسم وكونه يبتسم معها. تاق أن يتعهد لها برسم البسمات دوما على شفاهها؛ ولكن شيئا من الحرج تكاتف مع حيائه وبضع تعقل؛ فآثر التريث حتى تصير نصيبه وحلاله، عندها سيبثها كل ما يشتعل في قلبه ولن يهدأ حتى يستعر مثيله في قلبها. يعلم أن الحواجز بينهما متوافرة، ولكنه بماله سيغرقها بهداياه ويشترى صكوك ملكية تلك الحواجز فيدكها للأبد. سيثبت لها أنه رجلها، أنها يمكنها أن تحبه وتطمئن به وفي حضرته، أن تعتمد عليه. سيصونها، سيكون لها كما تتمنى وأكثر. قاطعت أمانيه بوقفة سريعة وضحت رغبتها في الهروب، ولكنه لم يأتي ليفوت فرصة الكلام؛ أمرها بحزم: -اجلسي. طالعته بنظرة مستنكرة، ثم حائرة، ثم ببطء جلست. -أريد أن أعلم لما هو هنا، ولولا ذلك لما أطعته. حدثت نفسها هكذا وهي تطالع ظله على أرضيه الغرفة يتململ في جلسته توترا، رفعت بصرها إليه؛ فأسر نظراتها بعينيه العسليتين. قالت عيناه لعينيها: -أنتِ لي. وردّت عيناها بغرور خجل: -تحلم أنتَ! وقال لسانه بهدوء حذر: -ما رأيكِ في؟ أجابته باختصار: -أبي يقول إنك عريس مناسب. لسعته برودة الرد، وكأن أحدهم ألقاه من علو على جبال سيبيريا لتتجمد أطرافه وتتجمد الكلمات على طرف لسانه. جاهد ليخرج حروفا متشابكة تُفهم ككلمات: -معنى ذلك أنهم أجبروكِ على القبول بي؟ صوبت نحوه نظرات غرورها وقالت بحنق مستنكره: -لا أحد يمكنه إجباري... أبدا. سألها برفق كيلا يخيفها: -إذا، ما الأمر؟ ألا توافقين علي؟ ردت باقتضاب: -بلى، أوافق. تقارب حاجبيه في تعبير استفهامي؛ فوضحت: -أنا ما زلت صغيرة في السن، ما زلت في ال 16 عشر من عمري، فلا أستطيع الحكم على الأشخاص بعد. أنا موافقة على الزواج منك ولكن بشروط. وهذه الشروط هي سبب موافقتي وفقط. شعر بمهانة وجرح يتعمق في رجولته وكبريائه، سألها: -ما الأمر إذا؟ أقصد لماذا؟ ما هي الشروط أقصد؟ قالت بشيء من التردد: -أود أن أكمل تعليمي أولا، سأعيش معك ولكن؛ لن تمسني قبل أن أُتم تعليمي. أريد أن أنال شهادتي وألتحق بالجامعة. أريد أن أكون مثل أختي ومثل زميلاتي. أبي منعني من إكمال تعليمي، وسمح لأختي الكبرى أن تفعل. حرمني وأعطاها؛ وهذا بفضل جمالي الزائد عن جمالها فقط، يرى أنه هكذا يقيم العدل بيننا ميزانا. لست أدري كيف له أن يفكر هكذا، ولكنه بهذا ظلمني وبخسني حقا من حقوقي كما بخسني حق القبول والرفض في أمر زواجي. لم أُرِد أن أتزوج قبل أختي، ولكنه وافق بالفعل لأنك تملك من النقود ما يسد جشعه. قاطعها مغاضبا: -من فضلك اصمتي. لا تكملي، هذا والدك من توصميه بالجشع، استغفري الله. استجابت على الفور مع فوران رغبتها في البكاء: -أستغفر الله العظيم وأتوب إليه. انحدرت دموعها ترتجف على خديها، تغسل أثر الكلمات من نفسه، فتبدل غضبه إلى عطف وحنان، أراد لو يمسح دمعها، فأخذ يفرك كفيه لكيلا يفعل وهي لا تحل له. فكر: -معها بعض الحق، ألم يشعر بنفسه بالحنق والظلم لما ترك المدرسة متخليا عن حلمه في الالتحاق بكلية الهندسة؟! من أجل أن يساهم في تحسين مستواهم المعيشي ورفع طبقتهم الاجتماعية من الفقر إلى الطبقات المتوسطة، على درجة تحتل أوسط السلم الهرمي تماما. كان ذلك بعد أن عانى والده من إصابة بليغة جراء حادث أثناء عمله كعامل، والنتيجة كانت عاهة مستديمة، اختتمت ببتر أحد أطرافه. منعته إصابته من الاستمرار في العمل مع ارتفاع ضغطه نتيجة حزنه على مصابه؛ فبات العمل عبئا وخطرا على صحته المتدهورة. ومن ضغط لمشاكل بالقلب نتيجة زيادة وزنه جراء مكوثه طريح الفراش شهورا وسنوات؛ ما صعب عليه الاستمرار في مسيرته الحياتية والعمرية. قرر أن يمكث مع ابنه في مشروعه الذي افتتحه بناءا على خبرته في المدرسة الفنية التي كان يرتادها، ثم نمت خبرته يوما بعد يوم، وتولى والده الأمور المالية والمفاوضات على الأسعار. ولأنه كان ماهرا ويده تُلف في حرير كما يقال، فقد التمع نجمعه سريعا، وباتت ورشته مكتظة بالعمل، ويأتيه الأثرياء وأصحاب الطبقات الوسطى من مسافات بعيدة، وباتت مواعيده مشغولة تماما وبالحجز. كان نجاحه تعويضا من الله على حسن تعامله وبره بوالديه وكذا على قربه من الله، ولم يتبقى له إلا أمنيته التي لطالما حلم بها، وهي الارتباط بدعاء، تلك الفتاة التي شغلته عن كافة فتيات الأرض، ورأى فيها نصفه الثاني، نصفه الرقيق، نصفه الكامل المتكامل، نصفه الذي سيكون عونه وسنده وحلوى الحياة له. قال له قلبه: -ألا يمكنك أن تضحي قليلا بعد؛ فقط لتحظى بحبها كما تريد وتأمل. ألا تستطيع الصبر عليها قليلا لتحقق أمنيتها التي تريد؟ كيف لك أن تخذلها وهي ما طلبت إلا حقها الذي ظُلمت به. نعم، لا تندهش، شرطها حقها، ولكن أسلوبها في عرضه قد كان فظا غليظا. ولكن، لعلها متوترة، أو خشيت الرفض فخانها التعبير. خيانة تعبيرها لا تعني أنها ليست على حق؛ بل إن كل الحق معها ولها، ولها ترخص الدُّنا، ولو طلبت لبن العصفور فعليك بالعمل على جلبه لها، شرطها طلب بسيط ولا يغلو عليها. قال بعد زوبعة التفكير التي مرت بباله تلك: -حسنا، موافق. ابتهجت على الفور وارتسمت بسمة نصر صغيرة تلتمع بالقليل من الغرور والكثير من السعادة: -رأى سعادتها ولم تفته لمعة الغرور. قرأ بقية مشاعرها ولكن التماع الفرح في عينيها كفاه ووفى رغبته في إرضائها. أشبع رضاه بإسعادها، ومكث واثقا بقدرته عل إسعادها ونيل قلبها يدق باسمه أحبك للأبد أو حتى يتلاشى العالم من حولنا. تخيلها بثوب العرس الأبيض تبتسم له بمحبة، وعينيها تعانقان عينيه بحنان ثم تهربان خجلا ثم تعودان لاختلاس نظرات قصيرة مشتاقة نحوه. لم يتحدث لكيلا يبدد سحر اللحظات التي ثمنت في نظره وفكره. أما هي، فآثرت الخروج من حيز مراقبته، والهرب إلى غرفتها متعللة بتعب وصداع مفاجئ. هرولت نحو غرفتها دون إتاحة فرصة للرد منه. ابتسم بسخرية وهو يراها تهرب منه بعد أن وجدت لما طلبت منه قبولا وإذعانا وترحيبا أيضا من قبله. لم يندم، ولكنه جعل يقول لنفسه بأنها هي من ستندم، مؤكد ستندم، لو لم تحبه ستندم أشد الندم. أكد لنفسه مرارا بأنها ستندم. سلم عل والدها الحاج ورحل دون أن يدرك ما قاله له أو يتفكر فيما سمعه منه. عاد إلى منزله مشغول البال، دخل إلى غرفته دون أن يمر على غرفة والديه ودون أن يتناول طعامه. كان ينظر حوله حائرا. هو قرأ نيتها قبل أن تصارحه بها، علم أنها كانت مجبرة عليه وتأكد. ولكن، أيحق له استغلال الوضع وهي في بيته كزوجة ونيل حقوقه الشرعية منها دون رضاها؟! استنكر فكره: -وهل تتزوجها من أجل حقوق زوجية؟ رغبة حيوانية؟ شهوة فارغة تُوَلّد في نفسها كرها له؟ -سأمضي في طريق الزواج، سأعمل على نيل رضاها وحبها، سأختم على قلبها حبي وأوشمها باسمي، سأفعل حتما. أخذ يردد لنفسه هذا الكلام، وما على نفس المنوال، حتى غرق في نوم مضطرب. **************************** | ||||
22-06-20, 12:54 AM | #6 | ||||
| ٥ الفصل الخامس -اليوم، أنت وأنا معا، أريد أن أعلم رأيك، كيف حالك؟ توافقين علي؟ تحبينني كما أحبك؟ أعلم أنى لست جميلا، ولكني أحيطك بحب كبير، وسأحيطك بأضعافه وبحماية وبكل ما تشتهي نفسكِ. استيقظ من نومه، أدرك أنه كان يحلم بها، لا يعلم لماذا تشغل فكره إلى هذا الحد! أصحيح أنه يحبها أكثر من أي أحد؟ بات اليوم غير موقن من مشاعره نحوها، ما طبيعة شعوره؟ هل هو حب حقيقي أم أن جمالها لفته أم أن عقله الباطن علقه بها لشعور ما بالنقص في نفسه، ربما لملامحه أو لعلها أميته! أو ربما هي أشياء أخرى مدفونة بنفسه لم يدرك كنهها بعد! ********************** بعد أسبوع من المقابلة الفردية للـ "باشمهندس يحيى" مع العروس، كانت هناك زيارة جديدة للعريس مع أهله. بعد الجلوس والاستراحة من عناء صعود السلم، بعد الاستقبال المرحب وتبادل المجاملات والترحيبات وعبارات المودة والمحبة، بدأ الحديث يصل خيوطه بين جميع الحاضرين، وكانت البداية مع عم صابر والد "الباشمهندس": -ما الأخبار يا عم سعيد؟ رد عم سعيد بنبرة صادقة: -الحقيقة أن "الباشمهندس" عريس لا يُرفض. تهللت أساريرهم وبان الفرح على وجوههم، وقال عم صابر مستبشرا: -أيعني ذلك أنكم موافقين. ابتسم عم سعيد على فرحتهم البادية، وأيقن بأنهم أناس طيبون يفهمون في الأصول، وسيثقلون ابنته بالذهب كما يقال. قال مرحبا: -موافقين إن شاء الله، وهل نقدر أن نرفض لكم طلب؟ رد عم صابر بعد أن وجه نظرة ذات معنى إلى ابنه: -هي ابنتنا وستكون في أعيننا ورعايتنا. ابتسم عم سعيد وبدى مرتاحا وهو يقول: -أسأل الله أن يديم المحبة، فلنتوكل على الله ونقرأ الفاتحة... أم ننتظر حتى نتفق على الطلبات أولا؟! رد عم صابر ممازحا: -نقرأها ثم بعد الاتفاق نقرأها ثانية، ما المانع؟! البركة تحل بذكر الله. رفع الجميع أيديهم لقراءة الفاتحة والدعاء بأن يتمم الله الأمر ويباركه على خير. بعدها تم تقديم المشروبات الساخنة من شاي وقهوة ومعه قطع الكعك الطازجة لمضايفة العريس وأهله. جلست العائلتان تتناوشان على مقدم ومؤخر ومهر وشبكة ولوازم وما شابه. عادة معظم العائلات في مواسم الزواج. نعم، فالزواج أضحى له موسم عندهم -الطبقة المتوسطة وما تحتها بقليل-، موسم انخفاض سعر الذهب وانخفاض سعر القاعات الكبرى للأفراح، وربما انخفاض أسعار متعلقات أخرى ولوازم ورفاهيات. بعد أن تم الاتفاق، مضت العائلتان تقويان وتشدان أواصل الصداقة وتتبتان عليها قدر الإمكان. **************** واكتمل الأمر بالنسبة لدعاء، فبعد الشرط الذي فاتحت فيه العريس، والذي بدوره وافق عليه ولكنه أبقاه في نفسه ولم يخبر أحدا عنه، تم تحديد موعد الزفاف في مقابلة لاحقة لتلك التي تم فيها الاتفاق. عقدوا القران وتعالت الزغاريد وكان الجمع فرح مستبشر. علقت أنوار ملونة وزينة في كل بقعة من منطقتهم السكنية وعلت أصوات الجيران بأغاني الأفراح مجاملة للعروسين وأهلهما. بدت عائلة العريس فخورين بابنهم وعروسه الجميلة، الجميع كان يحب "الباشمهندس"؛ فهو خلوق طيب المعشر يخدم الجميع ويعين كل محتاج، يسعى في سبيل الناس ويقضي حوائج من يستطيع. فكرت دعاء وهي ترقب الحشد المهنئ يقترب منها: -لا أعلم كيف يحتمله أي أحد، بالنسبة لي هو ثقيل الظل، أشعر بالنفور منه، أعلم أني أُغضب الله بمنع نفسي عنه، ولكني حقا لا أطيقه. حاولت وحاولت أن تستكين أو تتنازل ولكن... تشعر تجاهه بحائل لا يزول، سد يمنعها عن حبه أو حتى تقبله. ربما مظهره وربما أميته، وربما شيئا آخر يقف مانعا إياها عن حبه. أهو غرورها؟ أهو القدر؟ ربما هي إرادة الله، ولا سلطان لبشر على قلبه، لا يملك أحد ما الحق في أن يأمر قلبه بأن يحب فلان أو أن يكره فلان. ذلك يحدث فقط وحده، دون تدخل منا وربما من أي أحد. قد نرتاح لشخص معين من نظرة، وقد نكره أيضا شخصا معين من نظره. ولا سلطان على ما نحب وما نكره سوى للقلب، وحده له الأمر والنهي بأمر الله في هذا الشأن. *********************** استقر وضعهما في بيت العائلة، في شقة "الباشمهندس" المستقلة. كانت مؤثثة على أحدث طراز، اهتم بتجميلها وحسن ترتيبها جيدا، فهي سكن العروس، لذا يجب أن تكون مجهزة لاستقبالها على أكمل وجه. اهتم بالتفاصيل الدقيقة، درجات ألوان الطلاء، السجاد والستائر والأثاث. كل شيء كان ينطق بالرقي والفخامة والبساطة في ذات الوقت. صالة الاستقبال أثاثها بالبني الفاتح المطعم بالعنابي، تتوسط الأرضية سجادة كبيرة تجمع في درجاتها بين العنابي والبني الفاتح، والستائر باللون البيج المطرز بنفس اللونين السابقين. ومن صالة الاستقبال إلى غرفة النوم التي طليت بدرجة من درجات الوردي الفاتح جدا، درجة رومانسية تليق بعروس رقيقة، وعلى السرير وضع مفرش بلون وردي ساحر وهادئ، والأرضية تزينت بسجادة متوسطة الحجم تجمع بين اللون البني الغامق وعدة درجات من اللون الوردي. الستائر كانت من قماش متعدد الألوان يجمع البني والوردي بألوان أخرى. كانت تلك هي المرة الأولى بالنسبة لدعاء، المرة الأولى التي تدخل فيها بيتا جميلا، والمرة الأولى التي ترى فيها الشقة، والمرة الأولى التي ستتعامل فيها مع رجل غريب عنها؛ بل وستبيت معه في بيته، ارتعشت وجف حلقها وهي تفكر خائفة: -يا إلهي، ما هذا الذي فعلته بنفسي؟ ما الذي ينتويه لي؟ هل سيتركني لحالي أم سيستغل وضعي ووجودي معه وحدنا؟ كنت أظنه يعيش مع والديه. ما هذه الورطة؟! كيف سأفلت من يده؟ كانت خائفة لدرجة أن الدموع هاجمت عينيها، فصدتهم عن النزول، لا تريد أن تبدو ضعيفة، أخذت الدموع تحرق جفنيها اعتراضا على سد طريقها. لاحظ هو خوفها، توقعه وتيقن منه لما رآها ترتجف كهرة مبتلة في يوم صقيع معتبر. سألها بهدوء: -هل تُصَلّين؟ احمرت وجنتيها من تحت قناع المكياج، فهمت سؤاله خطأ، ثم قررت أن تجيبه في لحظة خوف مجنونة: -لا. خرجت الكلمة همسا بعكس ما انتوت، كان صوتها يفضح كذبها. كان يعلم أنها خائفة وتريد مخرجا لتبتعد عنه، سألها لا ليحرجها ولكنه كان متعمدا أن يعطيها الحجة التي ستستخدمها معه. كان يعلم بأنها ستجيبه بلا وإن كانت الحقيقة نعم. ورأى الاعتراف بالكذب في عينيها. قال بهدوء: -حسنا إذا، يمكنك استخدام غرفة النوم وأنا سأتصرف. ارتعشت من جديد وهي تسأله شاعرة بذنب يؤرق ضميرها: -أين ستنام أنت؟ حافظ على هدوء صوته: -في الصالة. سألته قلقة: -وماذا لو رآك أحد؟ فهم قصدها، يبدو أنها تقصد والديه تحديدا، أجاب بشيء من الضيق: -اطمئني، مفتاح الشقة معي فقط، والداي لو قررا الصعود إلينا لاتصلا أولا للاستئذان، ثم أنهما لا يملكان نسخة من مفتاح الشقة، النسخ معي أنا. تنهدت بشيء من الراحة، لاحظ هو انبساط عضلات وجهها دلالة انقشاع بعض من قلقها. اتجه نحو دولابه لسحب ملابس النوم خاصته من الدولاب، ثم خرج من الغرفة بعد أن قال: -تصبحين على خير، إن شعرت بالجوع يمكنك أن تفتحي الثلاجة؛ ستجدي بها كل ما تشتهيه نفسك. يمكنك الأكل حتى تشبعين. ثم عليك أن تبدلي ملابسك وتحاولي النوم. اطمأنت لخروجه وإغلاقه الباب خلفه، أسرعت تجر ثوب عرسها الثقيل ثم أغلقت الباب بالمفتاح. سمع صوت دوران المفتاح فحزن كثيرا، ولكنه عَذَرَها، فما زالت صغيرة وما زالت لم تعتده وما زالت لا تثق به وتعتبره غريبا. قال بصوت خافت تسمعه أذناه: -صبرا يا يحيى، صبرا، ستحبك وتعتادك وتثق بك، ولكن يلزمها الصبر، اعطِها وقتها. قضت ليلتها وحدها بالغرفة، ومن بعدها كل ليلة، لم يحاول قط أن يقترب منها أو يراودها عن نفسها. ومع ذلك، كان حريصا جدا على أن يلبي كل طلباتها ويهاديها ويشتري لها كل ما تحب. وهي اعتبرت معاملته لها حق مكتسب. فكانت تتمادى في طلباتها وتغالي فيها. وتكثر من طلب الهدايا وأكل الحلويات. كانت تعوض دلال طفولتها الذي لم تعشه يوما. تمتعت بحياة الرفاهية التي لم تحلم بها يوما. هل كانت تريد أن تثبت لنفسها أو له أن كل ما يفعل هو حق لها وليس دليلا على كرم أخلاقه؟ لم تحبه ولم تستطع أن تتقبله بالقرب منها، عندما ترتدي الأسود تراه يطالعها بعينين تريد أن تقول شيئا ما. هل يا ترى تقول عينيه بأنه غير راض عن ارتدائها الألوان الغامقة؟ لم تبالي في أول الأمر، ولكنها بعد أن اعتادته توقفت عن النظر إليه. صارت تحضر أغلب ملابسها باللون الأسود. كانت تحب إغاظته ورؤيته يغضب. استأنفت دراستها كما سمح لها، بدأت دراستها الثانوية من جديد، ثم تأهلت لكلية الطب بعدها. طيلة تلك السنوات كان هو يتولى رعايتها وتوفير طلباتها، ملابسها، أدواتها، مصاريف دراستها وكل شيء، بينما هي تولت رعاية شئون المنزل، من تحضير الطعام والتنظيف والترتيب والغسيل. لم ترد أن تدخل خادمة غريبة إلى المنزل وتخاطر بكشف سرها مع "الباشمهندس". فأي غريبة ستدخل المنزل قد تخرج لتحكي ما تراه وتسمعه مضافا إليه بهارات الكذب خاصتها. لا تريد مشاكلا، فقط تريد الأمر أن يمر معها بسلام. كان "الباشمهندس" يصد عنها إلحاح الجميع بضرورة مراجعة الطبيب لتأخر الحمل كل هذه السنوات، وهو كان يجيبهم: -ما زالت صغيرة، أنا صاحب قرار التأجيل. وبعد أن كبرت بات يتعلل بحزم أمام كثرة الضغوطات من العائلتين: -تنهي دراستها أولا، ثم نبدأ في البحث عن أمر الأطفال، لا نريد ما يعطل الدراسة الآن، يكفينا التأخير الذي مضى. وهكذا مضت السنون بهما، حياة مستقرة ظاهرية هشة باطنيا، لم يبد عليها يوما شعورها نحوه بالامتنان أو الشكر أو حتى الشعور بالذنب. كانت تأخذ وتأخذ ودون مقابل، ودون شعور بالحرج لذلك. وتطلب ما ينقصها دوما بعين قوية. *************************** | ||||
23-06-20, 12:07 AM | #7 | ||||
| ٦ الفصل السادس كان الأمر يمر عليه مرور السم في الجسد، يميت ولكن ببطء، كان يصبر عليها لعلها تلين له؛ ولكنها لم تعطه أي إشارة ليقترب، لا دليل على ثقتها به ولا دليل على حبها له ولا دليل على... لا بل هناك دليل قوي على اعتيادها إياه، طلبها النقود منه بشكل مفرط، اهتمامها بمظهرها وملابسها ودراستها على حسابه يثبت. من حقها نعم، ولكنه أيضا له حقوق، تغاضت هي عنها. فحتى اليوم، ما زالت تغلق عليها باب غرفتها بالمفتاح، حتى اليوم ما زالت لا تعتبره زوجها. هو على أي حال لن يذهب ويتذلل لها أو يطلب منها حقه الشرعي؛ فهو وعدها وهو أشرف من أن يخون كلمة أعطاها على حين أمل. وما زال يحمل بداخله الأمل ولم يقطع حبله بعد. ولكن رجولته تئن وكبريائه يُنحر، وهو يصبر نفسه بنفسه: -هان الوقت، لقد أشرفت على الانتهاء من دراستها، اقترب موعد تخرجها، بضع شهور فقط. أعلم أن الأمر قد طال حقا؛ ولكنك أكرم من أن تبخل عليها بحق لها، ظُلمت على يد والدها من قبل ولم تتم تعليمها، فلا تظلمها أنتَ الآخر. ألا ترى أختها التي تخرجت من كلية الصيدلة؟! ألم تكن ترى نظراتها المشبعة بالغيرة وهي تطالعها كل يوم وهي رائحة وهي عائدة من كليتها حاملة البالطو الأبيض على ساعدها؟ لا تكن قاسيا في الحكم عليها، فالزمن أقسى معلم، وأنتَ لا تريد لها أن تعاني ما عانيته أنت بنفسك من عدم إتمام تعليمك. فقط دعها تأخذ فرصتها كاملة، ربما بعد أن تنال شهادتها وتتخرج تحن لك، ويرتفع قدرك في نظرها وتزداد لك تقديرا وتحبك كما أنت. هيا، اهتم بعملك ودعها لدراستها والوقت كفيل بتقريب ضفافكما، إن شاء الله. ************************ لم تكن تظن دعاء أن "الباشمهندس" سيفي بوعده وينفذ كلمته وإن تعذب بسببها سنوات وسنوات. لقد مرت حتى الآن قرابة العشر سنوات، وهو صابر عليها ومحتسب أجرها عند الله. أحيانا تشعر بأنها يتيمه تَمّ تبنيها على يديه، وبات من بعدها هو المسئول عنها وتربيتها والإنفاق عليها ورعايتها. لم تشكو من إهمال أو تقصير من جهته أبدا. ولكنها ما زالت تشعر بالحاجز بينهما موجودا، بل ويتنامى مع الوقت. تعلم أنها ظلمته ولكنه أيضا ظلمها لما طلب الزواج منها في سن صغيرة، بسببه هو اتخذ والدها قرار بقائها في المنزل دون إتمام تعليمها. طلبه الزواج منها لفت نظر والدها على تقدم عمرها ونضوجها المبكر. لن تغفر له أبدا أن كان السبب. عليه أن يتحمل نتاج ما فعل. فلقد أقسمت على الانتقام وها هي تنتقم. تغلق غرفتها عليها كل يوم بالمفتاح، فهي وإن عاشت معه ولمست نبله، إلا أنها لا زالت لا تثق به. لا زالت لا تريد منه إلا نقوده التي تنفقها على دراستها والاهتمام بنفسها. الحنين إليه لا يجرفها، حب المصلحة هو ما يطرحها في منزله، واستغلال كرمه هو ما يحركها، وحسن معاملته هي ما تبقيها عنده، خشيت من أن يطالبها بحقه، ولكنها كانت مستعدة للرد. ************************* اقترب موعد انتهاء دراستها أخيرا، وتحدد موعد حفل التخرج، كانت فرحة، تتوق إلى نيل شهادتها والتخرج بسلام، فعلى مر سنوات دراستها بكلية الطب سجلت المركز الأول كل عام على دفعتها. تخيلت اليوم الذي سترتدي فيه الروب الأسود. أرادت أن تدعو أهلها ليشاركوها فرحتها وهم فخورين بها. وتخيلت اليوم. أهلها وأهله حاضرين. الجميع فرح مبتهج، وهي خجلة. خجلة ومحرجة من أهلها وملابسهم البسيطة ووضعهم المزري من بين كل الحاضرين. تشعر بأنهم الفقراء الوحيدون بين كل الحضور. تشعر بالندم على دعوتها لهم لحضور حفل تخرجها. نعم سيفخرون بها؛ ولكن المقابل به شيء سيء، به أن يُفضح أمرها ويراهم أحد ما. وهذه ستكون كارثة بكل المقاييس. عليها أن تصرفهم في أسرع وقت. ثارت نفسها وهاجت عندما رأت الناس ينظرون لهم شذرا، هؤلاء القوم أتوا لينكلوا بها! لا تريد أن تظل في نفس موضعهم، وحتى زواجها من يحيى عجز عن انتشالها من بينهم، لا تريد هذا المصير للأبد، ألا يمكنهم الانتقال إلى شقة أرقى؟ ألا يمكنهم تحسين مظهرهم والاهتمام بملابسهم وشراء البعض مما يواكب الموضة ويليق بمستواها الذي وصلته؟! أختها ترتدي عباءة لا تليق إلا بالأكبر سنا من النساء، من بلغن سن اليأس وربما أكبر. والدتها تضع جلبابا أسمر اللون من مكان ما عديم التهوية. فبدت رائحته المعتقة ومظهره المكسر منفرين للنظر. أما والدها فيلبس جلبابا بلديا اكلح لونه، فبدى كمن أُخرِجَ توا من فم كلب أو سلة قمامة. ملابسهم بادية القدم وعليها آثار بقع في عدة مواضع ما أفلح غسيل والدتها اليدوي في إزالته. ربما لهذا السبب تعودت على شراء الملابس الغامقة، وخاصة السوداء. فاللون الغامق كفيل بحجب آثار البقع عن عيون الناس. تريد لو تهرب، لو تنشق الارض وتبتلعها، أن تختفي عن الأنظار، تختبئ بعيدا عن الجمع المحتشد. ماذا سيقول زملاؤها عنها إن هم علموا عن أمرهم شيئا، وما الذي سيفكر فيه أساتذتها؟! كان والدها ووالدتها وأختها يقفون بين حين وآخر مصفقين ووجههم ينطق بفرحة حقيقية. لم تقرأ هي الفرحة؛ بل قرأت رغبتهم في إفساد فرحتها. أشارت لهم في خفية من الأعين: أن اجلسوا. ثم نفذت حركة كأنها تغلق فمها بسوسته خفية، مستخدمة إصبعيها، السبابة والابهام. فهمت اختها الإشارة. ولم يفهم والدها ووالدتها، تحدثت أختها معهما بهدوء؛ فنظرا إليها؛ فأشارت خفية: بنعم، كما قالت أختي. نظرا إليها لبضع دقائق غير مصدقين، ثم أخذا بعضهما وتحركا للمغادرة. حاولت أختها إقناعهما بالمكوث حتى النهاية ولكنهما أبيا. وقال والدها بحزم: -إن كنتِ تريدين المكوث، فافعلي. أما نحن فلن نظل دقيقة واحدة. يبدو أن أختك متضايقة من وجودنا، يبدو أنها تستعر منا. الحق ليس عليها، ولكنه علينا نحن؛ كان علينا إيقافها عند حدها، كان يجب أن نرى حقيقتها منذ زمن، كنا نحسبها... قطع كلامه واختنق صوته كمدا، أمسك بذراع زوجته ومشى معها ببطء، بضع خطوات وعاد بعدها فنظر إلى أختها يسألها: -ستأتين معنا أم ستبقين حتى النهاية؟ ترددت، نظرت نحو أختها فرأتها تشيح بوجهها بعيدا عنهم عندما نظرت نحوها؛ يبدو عليها بوضوح أنها لا تريدهم معها، جميعهم، فلتشبع بما جنته، لن يُفادوا منه شيئا ولا يريدون منها شيئا. التفتت لوالدها وأومأت بنعم وهمهمت: -سآتي. لملمت أشلاء كرامة ورحلت مع والديها، تاركين وراءهم ثلاث مقاعد فارغة، وظهرا مكشوفا، وبسمة مقتضبة ملتوية جاهدت لإخفائها، وتنهيدة نمت عن شعور بالراحة جراء رحيل عائلتها. لم تكن عائلتها بالسوء الذي هيأه لها عقلها. ولم يكونوا محط أنظار ولا سخرية. ولم يلفتوا النظر بشكل غريب عن الطبيعي. بدوا أناسا بسطاء طبيعيين. هي من خيل إليها أنهم يحقدون عليها وما هم بفاعلين، هم أتوا فرحين بها ليشاركوها نجاحها. والأب خصوصا، أراد أن يعوض عن شعوره بالخجل من ظلمه لها بمنعه لها من إكمال تعليمها. أراد أن يكفر عن ذنبه ويصمت ضميره الذي لم يكف عن جلده بسوط من الألم طيلة السنوات الماضية. حتى مع زواجها، شعر بأنه حكم عليها وأجبرها على ما لا ترغب، شعر بأنها اختارت الزواج لتحقق حلمها بإكمال تعليمها. فهم، فهم متأخرا كل شيء. نظرات ابنته لهم كأنهم أعداؤها بسبب ما فعله هو بها، أيلومها؟ لو كان مكانها لفعل مثلها، أما ابنته الكبرى فهي مثل والدتها، كانت سترضى وتكتفي بقول حاضر، ولو قال لها اليوم لن تعملي أو لن تفعلي ﻷذعنت دون بادرة رفض، وكان ليكون ردها التلقائي الهادئ: -أمرك يا بابا. هو من رباهما وهو من يعرفهما أكثر من أي أحد، حتى أمهما لا تعلم عنهما شيئا. امرأة بسيطة لا تعرف القراءة والكتابة، كل ما تعرفة هو إدارة شئون المنزل، وتولت تعليم بناتها ما تعرفه، الغسيل والطبخ والتنظيف وبقية قائمة لا تنتهي من أعمال المنزل هم كل معارفها؛ وهو يحترم تلك المعارف. كادت ابنته الكبرى أن تكون نسخة منها؛ لولا أنه تدخل وحسم الأمر وقرر تعليمها. لو رفض لكانت نسخة من أمها. أما الصغرى، فإنه رفض وهو موقن من أنها ستتعلم وستستغل أول فرصة لتعوض ما فاتها. ولكن ما لم يعلمه أو لم يحسب حسابه هو حنقها عليهم، شعورها نحوهم. شعر بأنها تزدريهم وتعتبرهم أقل منها شأنا، ولكنه يعلم بأن ذلك ليس ما تضمره حقا. هو رباها ويعلم معدنها. هي تعاقبهم، وهو يشعر بقلبه يُعتصر ألما، عقابها قاس، وهو حزين وأمها حزينة وأختها حزينة. كان يود لو يعود العمر زمنا للوراء فيرفض أن تتعلم ويرفض أن تتزوج، إن هي أصرت على أن تتعلم. ************************ راقبت دعاء خفية رحيلهم المنكسر الحزين، أكتافهم متهدلة وظهرهم محني ونظراتهم نحو الأرض ملقاة. قلوبهم يشغلها حزن وعيونهم انكسار. دموعهم تزور عيونهم ويردونها. وقعت في نفسها قبضة ألم. كانت تود لو تركض نحوهم وتعتذر ولكنها استكبرت، أليسوا هم سبب ما هي به؟ إذا، هذا ردها على ما فُعِل بها قديما، واليوم انتقمت. هزت رأسها تنفض الأحلام والتخيلات، وقررت، لن تخبر أحدا ولن تدعو أحدا لحفل تخرجها. ستفرح وحدها. فهي لا تثق إلا بنفسها فقط. أما عائلتها فلن تسامح نفسها إن هي فكرت فيهم كما رأت في التخيلات العجيبة التي اقتحمت أحلامها فجأة. ولن يسامحوها هم أيضا إن نظرت لهم فقط كما نظرت في الحلم المتخيل. فكيف إن حادثتهم! أما زوجها، فهو الأولى بعدم الدعوى، لأنه تخشى من أن... من أن... لا تعلم لما تخشى دعوته، تشعر بأن لا حق له في التواجد، رغم أنه هو سبب ما أضحت عليه، ولكنها تشعر بأنه دخيل على عالمها ودنياها... أو ربما هي تشعر نحوه بالذنب... أو لعلها شفقة لعدم تمكنه من أن يفعل مثلها... ربما إن رآها لن يقدر ما هي فيه، أو ربما يستكثره عليها... صاحت بحيرة والصداع يهاجمها: -لا أعلم، لا أعلم. ************** | ||||
23-06-20, 12:09 AM | #8 | ||||
| ٧ الفصل السابع "الباشمهندس" لم يحضر حفل التخرج. لم تدعه ولم يذهب من نفسه؛ خشي أن تتحاشاه كما تفعل دوما، خشي أن تحرجه أمام زملائها. خشي أن يراها تتحدث إلى زميل أو طبيب أو تسلم على رجل فتزأر رجولته ويفتعل مشاكل لا تُحمد عقباها. هو غيور حامي الدم، ولكنه على جانب الحياد اليوم، ينتظر شيئا مبهما؛ فقلبه ينغره كل حين، ونفسه يضيق على فترات، وعضلاته منقبضة وأعصابه مشدودة منذ مدة. ماذا يفعل؟ أينتظر فقط؟ ولكن انتظار البلاء عذاب، هو يتعذب، يُعذب نفسه بنفسه ﻷجلها، ﻷجل أن... ماذا؟ أن ينال ثقتها واحترامها وحبها؟ لا، هي لن تفعل، صبر كثيرا وتيقن اليوم من أنها لم تفعل ولن تفعل. والبرهان القاطع هو أنها لم تدعه لحفل تخرجها، لم تهتم بإخباره عن الموعد رغم أنه عرف لأنه يتابع أخبارها أولا بأول باهتمام، لم تطلب منه إلا نقود الاشتراك في الحفل، وهذا يعني أنها لا تعترف بفضله عليها ولا بحقه في أن يشاركها فرحتها الكبرى. كل علاقتها به تتلخص في المال، هات المال، أريد المال، أعطني المال، وهكذا على نفس المنوال. هو حزين جدا جدا. اليوم سينتهي كل شيء، إما المقابل أو لا شيء، سيطلب منها اليوم حقه، وإن رفضت فلا يملك لها إلا الطلاق. يشعر بأن اليوم هو يوم الفراق. ************************* انتهى الحفل وعادت إلى المنزل مبتهجة وفرحة. لم تنتبه إلى زوجها الذي كان يجلس بصالة المنزل في انتظارها. دخلت مباشرة إلى غرفتها وتطلعت في مرآتها مزهوة بنفسها، وعلى وجنتيها ارتسمت حمرة شهية، وعلى شفتيها اتسعت بسمة متلألئة. بدت سعيدة، فخورة ومعتدة بنفسها، تطلعت من جديد إلى نفسها شاملة ثيابها بنظرة تقييم طويلة، تخصرت وأمام المرأة تحركت بغنج؛ تراقب انعكاس صورتها في المرآة. خلعت حجابها ببطء، ثم انتبهت أنها لم تغلق باب الغرفة خلفها. أسرعت لتغلقه؛ فهي لا تعلم متى يعود زوجها، وقد يفاجئها في أي لحظة، ولا تريد مواجهة ما لا يحمد عقباه. لا تريد أن تواجهه اليوم، فهي سعيدة جدا ولا تريد تكدير مزاجها الرائق، تعلم ضرورة الحديث بينهما لوضع النقط على الحروف؛ ولكنها لن تضيع فرحتها في نقاش وشد وجذب مع زوجها. ستؤجل أمر الحديث حتى الغد وليكن ما يكون. التفت حول نفسها أمام المرآة من جديد، قبل أن تلتفت نحو الباب عازمة الاتجاه نحوه لإغلاقه. رأته، زوجها، كان يقف على مدخل الغرفة متكئا على العارض الخشبي للباب، يتأملها شاردا. شعرت بالغضب، ثم بالخوف. هو هنا، في غرفة النوم، يريد... ماذا يريد؟ حقه؟ فكرت: -اليوم أنا مستعدة أن أعطيه حقه ولكن... ولكن... بشروطي، يجب أن يسمع ليوافق. صمتت أفكارها ولم تتحدث، جَبِنَت. تأملها، ركز بصره على ملابسها وروب التخرج الذي ترتديه، تأمله مرارا، مرة بعد مرة؛ لعله يسعد به أو يفخر بها، ولكن لا شيء... فقط لا شيء... لم يشعر بالفرح ولا بالفخر، لأول مرة منذ زواجهما وتاريخ نجاحاتها في كنفه، لا يرى في نفسه القدرة على الفرح من أجلها. رفع بصره يتأمل وجهها وشعرها، الفرحة في عينيها... استقر عندها بضع دقائق، لمح كلاما يختبئ خلف زرقة عينيها. تحدث بهدوء وبدى عليه التعب: -أريد الحديث معك، الآن. هل نتحدث هنا أم تفضلين الجلوس في الصالة؟ على الفور أجابت معترضة: -ألا يمكن أن نؤجل الحديث للغد؟ فأنا متعبة، ولم أنم جيدا بالأمس، وأحتاج لبعض الراحة. قال بحزم: -الآن. تركها وخرج، لم تصدق عينيها، لم تصدق انه خرج فعلا، خرجت وراءه بروب التخرج. كان الروب يحدث صوتا كلما مشت خطوة نتيجة احتكاكه بملابسها. شعر يحيى أن الصوت يكاد يثقب أذنيه. كان صوتا مرهقا ﻷعصابه. جلس على أول مقعد صادفه منتظرا منها أن تشاركه الجلوس؛ لبدء الحديث المؤجل قرابة العشر سنوات. جلست، ودون مقدمات سألها: -ماذا تنوين؟ أجابت بنبرة حائرة: -أنوي ماذا؟ أقصد بشأن ماذا؟ تقصد بخصوصنا؟ أجابها بنفاد صبر: -بل أقصد بخصوصك. مستقبلك، ماذا تخططين له؟ قالت بنبرة تقريرية واثقة: -سأستلم العمل، وسأحاول أن يكون الجدول مناسبا ليتسنى لي التوفيق بين العمل والاهتمام بالبيت. رفع حاجبيه تهكما: -العمل؟! ومن قال بأنك ستعملين؟ صمتت لدقيقة من مفاجأة الرد، ثم أجابت ببطء: - ولم لا؟ وهل كنت أتعلم حتى أظل في المنزل؟ وهل بعد أن صرت طبيبة أتخلى عما وصلت إليه فأتحول إلى ربة منزل عادية؟ تطلع إليها بنظرات تقول: -نعم، وماذا فيها؟! استأنفت رافضة بقوة: -لا، أريد أن أعمل وأثبت ذاتي. أريد أن أحقق نجاحي الخاص. سأدرس لدرجتي الماجستير والدكتوراه و... قاطعها بحنق: - وأنا؟ أين أنا من أحلامك؟ ووضعنا؟ ألم تفكري فيه ولو لثوانٍ؟ ألم يعذبك ضميرك على...؟ بتر سؤاله المستهجن والذي فهمت تتمته جيدا. قالت بصوت خفيض خجلا وحرجا، وحمرة خديها قد زادتا حدة: -سنكون زوجين طبيعيين كأي زوجين، ويمكنك أن تعود إلى الغرفة من اليوم إن أردت. -لا. صرخ بها. -لا لن أفعل. حياتنا سويا في كفة، وعملك وإكمال ما تبغينه من دراسات عليا في كفة أخرى. اليوم اختاري بيني وبين عملك ودراساتك العليا. صمتت، لم تتوقع منه أن ينفعل هكذا. لم تتوقع منه صدا ولا ردا كهذا. لم تضع في اعتبارها نفاد صبره. قال لها لما رأى صمتها طال: -لقد اتفقنا على إتمام تعليمك، ثم بعدها لم أبخل عليكِ بدخول كلية شاقة ككلية الطب؛ سنوات دراسية طويلة وامتحانات ومصاريف كثيرة. أما وقد تخرجت؛ فقد قضيت دَيْني الذي وعدتك بتسديده، وأنا كنت عند وعدي. اليوم تخرجتِ وتم إحلالي من الدين. لا تطلبي مني أكثر فلقد استنفذت رصيد الصبر لدي. لم تعد لدي ذرة منه، الآن أجيبيني، أنا أم العمل؟ الآن أعطني ردا قاطعا. أجابت على الفور: -بل العمل، لن أكون نسخة من أمي. حتى أختى البسيطة الحمقاء تكمل دراستها العليا، وأنا لست أقل منها ذكاءً ولا شأنا. لن أفرط في حقي، سأكمل في طريقي الذي حلمت به. لم يصدم، فقد توقع ردها، كان يعلم بأنها سترفض قطعا، كان اختبارا سهلا ولم تجتزه، لو كانت اختارته لكان أخبرها أن تعمل. لكان شجعها على إكمال ما لم يتسنى له اكماله. ولكنها غبية؛ فكرت فيما تحت قدميها فقط. كان رده عليها كلمة واحدة، خرجت بكبرياء جريح: -طالق. استفهمته: -ماذا تقول؟ بصوت أعلى وهو يثبت عينيه في عينيها: -أنتِ طالق. أقول بأنكِ طالق. هل أعيد؟ ذهلت، طلقها؟! فكرت: -وأنا التي كنت أنوي السماح له بإتمام الزواج تنازلا مني وتمننا؛ كنوع من الشكر له على إيفائه بوعده لي؟! هو من يلفظني؟! لن أُهَنِأه عليها... -أنا لا أحبك، ولم يشرفني أن أتزوج من شخص مثلك، لا أتممت تعليمك ولا تمتلك وظيفة محترمة. صاحب ورشة؟! أصحاب الورش كثير، أنتَ في نظري حيا الله صبي، أو كأقصى تقدير ميكانيكي، بمعنى، أنك مقارنة بي لا شيء. ولا يصح للميكانيكي أن يتزوج طبيبة. من حقك وإحقاقا للحق والعدل والمساواة أن تتزوج فقط من تليق بك مكانة وعلما، أي، من تملك شهادة دبلوم مثلك كأقصى تقدير. غلي الدم في عروقه وصرخ بها غاضبا: -هل تحسبينني علمتكِ حتى تتعالين علي؟! أنا علمتكِ لتصيري أحسن من في الدنيا وأتفاخر بكِ بين الناس كلهم. وفي النهاية تُدَفّعينني الثمن؟ تندمينني؟ أي أنني أخطأت لما وعدتك ووفيت بوعدي لكِ؟! صرخت بدورها وملامحها متقلصة من الغيظ: -لا، أنا هي المخطئة؛ أنا من كان من المفترض أن أرفضك من البداية. كان وضعي جيدا حتى تقدمت أنتَ وأفسدت كل شيء، والدي وعائلتي وافقوا عليك. بصوت غاضب وملامح أشد غضبا: -أتعلمين ما مشكلتك؟ مشكلتك أنك شخصية غيورة، تشعرين بالغيرة من أختك. صحيح أنك أحلى منها في الملامح. لكنها هي أحلى طبعا. صمت يستجمع هدوءه ثم استأنف بنبرة باردة: -أنا آسف لأنكِ تنازلتِ و... صاحت بغيظ شديد احمر له وجهها وانتفخت أوداجها: -طلقني. ضحك باستخفاف وقال: -أنتِ بالفعل طالق. لقد طلقتك منذ قليل، هل فقدتِ ذاكرتك؟ هكذا بدون إطالة وبدون مماطلة وبدون فرصة للتفكير أو التريث ليهدأ. قابلت رده بالصمت؛ وكأنها صُدِمَت. شحب لونها قليلا ثم أعادت ارتداء حجابها وتناولت حقيبتها ثم رحلت. ********** | ||||
23-06-20, 12:10 AM | #9 | ||||
| ٨ الفصل الثامن علم إلى أين ستذهب، إلى بيت عائلتها لتشكوه وتهجوه وتبث سمومها في عقولهم فيكرهوه، وربما تسيء إلى عائلته وتتهمهم بما ليس فيهم. خرج مغاضبا وراءها وقرر أن يلحق بها ليسمع ما يقال عنه وفي حقه، كان الباب مغلقا ولكن الأصوات عالية، جذبت فضول بعض الجيران للاقتراب من أبوابهم للتلصص. سمع صراخ والدها الغاضب: -لماذا طلقك؟ ردت ببرود: -أنا طلبت الطلاق. بصوت أشد غضبا سألها: -لماذا؟ أجابت بكل البرود الذي استطاعت أن تتظاهر به: -لأني لا أطيقه، أجبرتموني عليه. كما أنه لم يعد من مستواي، لم يعد يليق بي زوجا. فأنا الآن طبيبة ومن حقي الزواج من طبيب و... و... صمتت، زل لسانها والآن هي محتجزة في خانة الورطة، ماذا عليها أن تقول؟ الحقيقة؟ صرخ بها والدها من جديد: -وماذا؟ انطقي. قالت بهدوء: -لقد تقدم لخطبتي معيدي في الكلية، وأخبرته بأنني سأرد عليه بعد أن أعرض الموضوع عليكَ يا والدي. صُدِم والدها بشدة، لدرجة أن صوته انخفض وهو يسألها بدهشة مستنكرة: -وهل طلبتِ منه الطلاق من أجل معيدك؟ ابتسمت بغرور زائد وهمست: -نعم. لمعت عينيها ظفرا وفخرا بنفسها. كانت تتظاهر أمامهم بالتماسك. أرادت أن ترسم الكبرياء ولعلها أفلحت. ولكن بدلا عن الكبرياء رسمت الغرور والكبر. صورة مشوهة وشخصية متعالية متكبرة متنمرة تستجدي كره الجميع وانتحاءهم عنها ليسلموا من أذاها فقط. لم تعلم بأنها قتلت كل ذرات الحب في قلب يحيى الكامن وراء الناحية الأخرى من الباب يستمع لما يجري خلفه، ولم تعلم بأنها تختال في بئر من الخيانة بمجرد تفكيرها في السماح لرجل آخر ليطلبها للزواج وهي على ذمة آخر. صحيح أنها زوجة على الورق فقط؛ ولكنها تظل متزوجة. عاشت في بيته سنوات دراستها دون أن يحاول أن يضايقها أو يمسها رغما، وهي اعتادت الأمر وتعايشت معه كأخ. غاب عنها التفكير في سبب، تبرر به وضعها الذي سيُكتشف عاجلا أم آجلا. كان على الجانب الآخر يقف يحيى محدثا نفسه: -لم تحبك، عجزت عن أن تثق بك، ربما تكون اعتمدت عليك، ولكن كأخ. لم تنظر نحوك ولو مرة كزوج. لم تعرك اهتمام زوجة؛ بل كان كل ما تعطيها من مالك واهتمامك ورعايتك وحنانك حقا مكتسبا في اعتباراتها. كأنها تدفع ثمنا بخسا من أجل أن تمكث في منزلك معززة مكرمة، كأنك تزوجتها لتفعل كل ذلك دون مقابل. في حين لم يكن يعنيك من كل ذلك إلا كلمة أحبك. أن تقولها قانعة مقتنعة ومتشبعة بها. ولكن اليوم، ضربتك في مقتل، علمت وتيقنت من أنها كانت تستغلك فقط. لم تكن لِتُكِن لك يوما ما كنت تحلم به، ويبدو أن قلبها دق لآخر. على الرغم من غضبه وحنقه؛ إلا أنه لم يستطع أن يطرق الباب؛ لم يكن مستعدا أن يرى في عين أحد من أهلها شفقة نحوه، أو أي نظرات بمعانٍ أخرى. كرامته المغدور بها أَنّت، كأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة. شعر بأنه يجب أن يغادر المكان حالا لكيلا تحتضر؛ يجب أن ينعشها، أن ينقذها، ربما ينتقم منها. ولكنه سيفكر في ذلك بعد أن يهدأ؛ كيلا يظلمها. لو كان يريد تشريدها والإساءة إليها لرفض قطعا تطليقها، ولكانت لجأت إلى المحكمة لرفع قضية عليه. ولم يكن ليذعن لها. ربما كان طلبها في بيت الطاعة. ولكنه لم ولن يستقوي عليها أو يستأسد على ضعفها وفقرها وحاجتها. لا يريد أن يكون ظالما ومظلوما، الظلم ظلمات كما يوقن. لو فعل فلن يفلت من عقاب الله، والله يمهل ولا يهمل؛ سيرد له حقه وهي ستنال جزاءها. هو متيقن من ذلك. قال بينما هو يغادر المبنى العتيق: -حسبي الله ونعم الوكيل. هي استغنت عنه بعلمها وشهادتها، وهو أغنى بكرامته وكبريائه عنها؛ فلترحل بعيدا لا أسف عليها ولا حزن. لقد نجاه الله منها، أرادت؛ ولها ما تريد. كافة حقوقها وصلتها مع ورقة الطلاق مع تنازل عن شقة الزوجية، تم توثيق كل شيء، الطلاق والتنازل والحقوق وما إلى ذلك. كانت سعيدة، تغبط نفسها، تتطلع في مرآتها تراقب جمالها، تلاحظ ازدياد جاذبيتها ولمعان عينيها وامتلاء خديها واستدارة وجهها. زادت جمالا مع اكتسابها بضع كيلومترات قليلة بدلت نحافتها إلى رشاقة متزنة؛ فأضحت كغزالة تطمع في التهامها الذئاب وتشم رائحتها من على بعد. انتظرت مدة قبل أن ترد على معيدها الذي كان يحاصرها ويلاحقها ويصب إعجابه في أذنيها ويقدم لها عروض الراحة والتقدير والحب. كان رجلا تتمناه كل فتيات الجامعة، وسيم، طويل، جذاب، حسن المظهر والهندام، مهتم بنفسه، وثقته بنفسه لامست حدود السماء، عزته وكبرياءه وقوة شخصيته أسرتها أسرا، إلى جانب ما تميز به من طموح وعلم ومهارة في عمله، كما أن مركزه مناسب لمركزها الآن، طبيب يتزوج طبيبة. خاصة أنها كانت من الأوائل، ومن المرجح أن يتم تعيينها في الجامعة كمعيدة أيضا، فسيكون من المناسب جدا أن تكون زوجته وزميلته. ولكن... هل عليها أن تخبره بأمر زواجها السابق؟ هل عليها أن تخبره أنها ما تزال على حالها؟ أيطالبها بتفسير؟ كيف تشرح له؟ أنها تزوجت من لا يستطيع أن يكون لها زوجا وحبيبا؟ أترمي طليقها بافتراء كذلك؟ ما الذي عليها فعله لتتجاوز تلك المعضلة؟ ربما تفكر في حيلة ما. الوقت أمامها، وهي أخبرت المعيد بأنها لها ظروف خاصة، وأن والدها على سفر. وبمجرد وصوله ستخبره عن طلبه وتحدد له موعدا معه. سألها: -إلى أين سافر والدك؟ قالت كاذبة: -إلى إحدى دول الخليج. -ومتى سيعود؟ -خلال بضعة أشهر، هو لم يحدد موعد العودة بعد. وظلت هكذا، تماطل في تحديد الموعد، والمعيد يتعطش للزواج بها والانتظار يرهقه. لم يطق صبرا؛ فقرر أن يداهم الوقت ويدخل البيت من بابه كما يقال. تبعها ذات يوم وهي عائدة إلى منزلها. رآها تستقل سيارة أجرة ففعل كما فعلت. تبعها حتى علم مسكنها وعنوانها، لم يكن ذات العنوان المدون في ملفها. أتزور أحدهم هنا؟ ترجلت على أول شارعهم السكني؛ فترجل هو الآخر دون أن تنتبه له. نقد السائق وتبعها من على بعد مناسب، وأهل نفسه للاختباء إن هي نظرت خلفها؛ كيلا تلمحه. يريد مفاجأتها ولا يريد أن يُفسد المفاجأة الآن بفضيحة في وسط الطريق. رآها تحدث رجلا كبير السن ثم ترافقه في المسير، امتص صدمته برؤيته لها مع ذاك الكهل واتجه إلى محل بقالة قريب ليسأل صاحبه عما صدمه: -السلام عليكم. -وعليكم السلام... ورحمة الله... وبركاته. رد عليه الرجل متمهلا، وهو ينظر إليه بفضول، ممررا بصره على محدثه من أطراف شعره وحتى أخمص قدميه، مارا ببذلته الثمينة وملامحه الوسيمة، مقدرا عمره من مظهره بالثلاثين أو أقل أو أزيد بعام أو عامين على الأكثر. كان الشاب يقف متململا ينتظر جوابا على سؤاله الذي لم يطلقه بعد. فقد كان ينتظر الإشارة كي يفعل. -مرني يا بيه، كيف أساعدك؟ كاد يطلق زفرة ويصرخ: -أخيرا. ولكنه تمالك نفسه وسأل بهدوء: -دكتورة دعاء سعيد، أين تسكن؟ أشار له على المنزل الذي دلفت إليه دعاء مع والدها منذ دقائق قليلة. بدى مشدوها وهو يطالع البيت الذي يكاد ينهار على ساكنيه. تطلع حوله بريبة ثم اتخذ قراره واتجه إلى نفس وجهتهما. وصل إلى البيت قديم، دلف ونظر إلى الأعلى، رآهما يرتقيان السلالم درجة درجة ببطء وحذر. انتظر برهة وارتقى على مهل، تابع صوت صعودهما قبل أن يصعد. على مهل صعد بحذر؛ كيلا تزل قدمه من على السلالم المتهالكة التي اختفى نصفها بالفعل. ولسبب آخر، أنه خشي من أن تُسمع خُطاه فتراه ومن معها. مرا على الطابق الأول، وعلى مهل سارا في طرقة صغيرة ثم الطابق الثاني، ومرا الثانية متجاوزين طرقته إلى الدور الثالث، ثم صوت مفتاح يدور في الباب. انتظر حتى سمع صوت إغلاق الباب، ثم صعد حتى الدور الثالث. انتظر برهة متوترا ومتعرقا ومتحمسا، ثم طرق الباب ثلاث طرقات متتالية، ثم توقف منتظرا بوجل. مرت برهة قبل أن يفتح الباب رجل ستيني العمر، ملامحه منحوتة بالفقر، وظهره محني بفعل الزمن ويداه مرتجفتان بفعل ضعف العضد، والبصر شاب ويرى ضبابا في ضباب. وقف المعيد مذهولا، صامتا، دون قدرة على الكلام. فبعد أن رأى الرجل أمامه اندهش أولا، تسمر ثانيا، وصدم أخيرا. أكانت تكذب عليه؟ من الواضح أنه والدها؛ فهو يشبهها كثيرا، أو للدقة هي من تشبهه، ملامحها كملامحه ولكن بالألوان. عينان لوزيتان باللون البني الداكن بديلا عن الأزرق الفاتن لعينيها، هذه بشرة بيضاء كبشرتها، أنف مستقيم متناسق، وفم أكبر من فمها بقليل مع تشابه رسمته مع خاصتها، وجه مدور ودقة الحسن التي تميزهما، نحيف كهي، طويل كهي. أمامه كان يقف والد دعاء، لا شك عنده في ذلك. ولكن، لماذا كذبت عليه وأخبرته أن والدها على سفر؟ لماذا زورت عنوان سكنها؟ تشكلت قائمة من الأسئلة تبدأ كلها بـ لماذا في عقله. لم ينطق بحرف وهو يراقب الرجل يفسح له مجالا للدخول ويقول بلهجة قوية بدت متناقضة مع بنيته ومظهره: -تفضل بالدخول. ************************ | ||||
23-06-20, 12:11 AM | #10 | ||||
| ٩ الفصل التاسع "عيناي تسكنها مدينة مطيرة، حزينة، مليئة بالألم". عبارة دونتها على دفتر مذكراتها يوم علمت بتقدم يحيى للزواج من أختها. ومن يوم أن قبلت به أختها دعاء، وهي تعيد تدوينها يوميا على رأس كل صفحة من صفحات مذكراتها. أيناها من الأحلام؟ من الحب والزواج؟ رفضت كل من تقدم لها، طيلة العشر سنوات الماضية، لم ترى زوجا لها إلاه. وهو، لم يرَ إلا أختها زوجة. رأت حبه لها في عينيه فزهدت الرجال من بعده. أما بعدما جد، بعد الطلاق، بعد الانفصال، راودها الأمل. ترددت الأفكار في عقلها كصدى لصوت أحلامها: -قد يراكِ الآن. لقد خلي الطريق. وسرعان ما داهمتها المخاوف من جديد، ربما عملت هذه التجربة على نزع ثقته في النساء جميعا، ومن ضمنهن هي. وظلت في دوامة أفكارها تتخبط حتى غلبها النوم. ********************* " همي يئن والناس قد رقدوا، يسعل ويُسهِد عيناي عن النوم وعن السّنَةِ، ألوذ بحمى الأحلام لعلي أجد عندها متكئي فلا أجده، ولا حول ولا قوة لفرحي بلا حزني. يلازمني عبوس الحاضر وندوب الماضي قد ومضوا، تئن عليّ جروحي ألا تبعدني، ألوذ بحمى الدمع فيأبى أن يشاركني، والبسمة أقسمت أن تمزج رسمها بالعبس، فلا فرح يدوم ولا حزن يدوم؛ ولكنه الحاضر من يستمسك بما يتعبني. يكيل الركلات واللكمات في كلمات انتفضت لترهقني. أرهقني العسر وأناجي الصبر ألا يفارقني. أعاتب صورتك التي خفتت، ألم تعلمي بأني أحببتك؟! كنتِ تتدللين وتأمرين: افعل، لا تفعل. لأني كنت أُحِبكِ فكنتُ أفعل. كنت أبيع راحتي في سبيل رضاكِ، كنتِ تريدين فأجود لك العطاء، تطلبين فتجابين. كدت أريق صحتي وأبيع نومي في سبيل الهناء لك؛ لكنك من أتيتِ الغدر مسلكا وبدى الخداع على يديكِ مطلعا. حِلْتِ التعاون مني للتهاون منك فما ربحتُ حبكِ. مكنتكِ من انتهازي، لكن قوة الكلمة أطلقت يداي، قطعت خيوط ضعفي الموصولة بإرادتك، غادرت مكان السر لأرض رحيبة الخيرات، بعيدا عن أن أُستغل وأُمتهن. قابلتُ الماضي بالنسيان وحاضري رسمت فيه الأمل. الأمل الجديد الذي عميت عنه عمرا. يا نفس، لا تركني لليأس يحبطك، اخلقي أملك وتشبثي به، وامضي في حياتك لرسم غدك بساعدك، وعضدك شديه بربك وقربك منه، وافتعلي في خيالك ما يسد رمق البأس. كوني يا نفسي أسدا في وجه الخصوم، وإن رافق هيئتك صوت مواء. واعلمي بأن البحث عن الحق حرفة؛ فتعلميها وأتقنيها واسعي فيها. اعلمي بأنني سأبحث عمن تستحق قلبي وطيبتي وحبي؛ سأجدها وأوقن من أنها ستقدر تعبي حتى أجدها، ستهتز عجبا وتفتخر بما نالته، ستغبطها كل فتيات العالم، ستتمنى كل امرأة أن تكون مكانها، سأغدقها بما مُنعت عن منحه لمن اختارها قلبي. هي سيختارها عقلي، سأجبر قلبي على أن يصدق على اختياره، سأمتن وأشكر وأحن وأود وبعد كل شيء سأحب. فالحب المعاملة، الحب الثقة، الحبة التعاون، الحب الحماية والأمان، الحب في النهاية ليس مقياسا لبداية الحياة، وليس نبراسا تهتدي به سفن المعيشة ولا منارة تهتدي إليها الاستمرارية. أوقن من أن قدري المخبأ في علم الغيب أجمل من قدري الذي مضى، تعلمت منه على الأقل درسا؛ ألا أمنح ثقتي إلا لمن سيحافظ عليها، أن أثق بشعوري وحكمي، ألا أبذل كرامتي في سبيل أي فرد. أنا تصدقت عليك حبا ولكن، لا مزيد من الصدقات. المزيد المتاح سيكون للتشارك والتعاون والمصالحة مع الحلال، مراقبة الله في الأفعال والأقوال والنيات. القلب لا سلطان عليه إلا الله، يقلبه كيف يشاء، يهدئه ويثبته، ويؤمن روعاته كلما شاء. الآن أكتب مصيري من جديد. أرسم لنفسي طريقا جميلا مزهرا بالوفاء، لن أزهو بنفسي كطاووس كما فعلتِ، ولكني سأعمل أن أستحق مكانة ما كنتِ لتحلمي بها في أقصى أحلامك. دعي العمر يمضي في الانتظار، وبعدها، سأعمل على أن تُفَاجَئِي. أعدك... ستندمين... " كانت تلك الكلمات تضج في ذهنه فيسارع بتدوينها على الورق يبثه شكواه، ومن الأرض إلى الورق يذرف الألم تباعا، يدعو الله أن يهديه ويعوضه عما ظُلم فيه. ولأن الله أكرم الأكرمين وأعدل العادلين؛ فقد أرسل إليه خبرا في جريدة. كان الخبر يقول: " لمن يهمه الأمر... بمناسبة افتتاح جامعة... للهندسة والتكنولوجيا، تم فتح باب القبول لطلبة الثانوية العامة الحاصلين على مجموع... فما أكثر. والمفاجأة... سيتم عمل اختبار للقدرات لخريجي الدبلوم الفني، دون تحديد سنة التخرج، وسيكون التقديم مفتوحا لمدة أسبوع واحد فقط من تاريخ الإعلان، والمراكز العشرة الأولى، ستحظى بمنحة دراسية مجانية للدراسة بالجامعة. كما سيتاح لهم التأهل لبعثات خارجية لتسجيل دراسات عليا بجامعتي... أو ... بألمانيا. على من يجد فيه الرغبة والأهلية والجدية في الدراسة أن يبادر بالتسجيل على الموقع الإلكتروني... وسيتم الاتصال به في حالة القبول لتحديد موعد الاختبار. الموقع الإلكتروني: ... رقم الهاتف: ... رقم الفاكس: ... " تهللت أساريره واستبشر خيرا. سجد لله شكرا ثم استقام وسارع بتسجيل بياناته على الموقع المذكور. كان التاريخ يدل على أن المسابقة في نهايتها وأنه بقي أمامه يوم واحد فقط للتقديم. سجل بياناته وانتظر، كان يدعو الله أن يعطيه الفرصة ليحقق ذاته. إذا أراد الله؛ فسيكمل حلمه الذي توقف رغما عنه. كان والديه يرقون له ويدعون له بالتوفيق والسداد. لم يحدثوه عما حدث بينه وبين دعاء، لم يعاتبوه على الطلاق وهدم بيتهما. كان همهما منصبا عليه، على مظهره الذي يحزنهما، على الحزن الساكن أضلعه تاركا ظلاله على ملامحه لتُظلمها. خرج إليهما باسما لأول مرة منذ الطلاق، استبشرا خيرا، تحدثا في نفس واحد: -خيرا إن شاء الله، فرّحنا معك. اقترب يجلس بالقرب منهما، وبهدوء، حكى لهما عن الإعلان في الجريدة، وأنه قد قدم فيه، ثم استأنف: -ولكني أشعر بالقلق، فمؤكد الأعداد غفيرة، هل سيقبلونني مع هذا السن الذي وصلته؟ قال والده: -لا تهلك نفسك بالتفكير، قل يا رب، والله عليه التدبير. لو خيرا لأصابك لو شرا لأبعده عنك. كن واثقا بالله. -ونعم بالله. الحديث مع والديه أراح قلبه وأزاح الهم عن صدره. وبالفعل، وجه تفكيره إلى الورشة وتطويرها والتوسع فيها. كان يحرق وقته في العمل. يبعد الماضي عن تفكيره ويزيح الأحزان في ركن مظلم لئلا يفكر فيما مضى. المستقبل في يد الله، فعليه بالدعاء أن يكتب له الخير ويصرف عنه الشر أي كان. وقد كان، فبعد قرابة الأسبوعين من تسجيله وصلته رسالة الكترونية على بريده الالكتروني الذي قام بالتسجيل منه. كان نصها: " لقد تم تحديد موعد اختبار القدرات لعام...، يوم...، الموافق...، في تمام الساعة... عليكم بالتواجد في مقر الجامعة على العنوان التالي: ... في تمام الساعة... لتسجيل الأسماء ومعرفة مكان الاختبار. مع تمنياتنا بالتوفيق للجميع. " ********************************** حلقت في سماء طموحها تبتغي زوجا كهو ومكانة كهي وحبا كهما، ولكن الدائرة تدور بالنوائب؛ فها هي تسمع صوته بالخارج. هل تبعها؟ شحب وجهها فجأة وعقلها يستقبل نتاج كذبها، ستهتز صورتها في نظره كتوابع لأفعالها. مؤكد أنه علم أنها كذبت عليه لما رأى والدها. لماذا أتى؟ لماذا لم ينتظر حتى تخبره هي أن يأتي؟ يريد أن تكون له الكلمة العليا؟ حسنا، لا يلومن إلا نفسه. سيندم على تسرعه بالتأكيد ويرحل عنها. ستخسره. ربما خسرته بالفعل. تعلم أنها مذنبة، لن تجرؤ على أن تريه وجهها. ماذا تفعل إن طلب لقاءها ومواجهتها؟ أتستجيب له أم تتهرب أم ماذا؟ قلقة وحزينة والأفكار تتنامى في عقلها تكاد تفجره. الآن هو مع والدها يتحدثان بشأنها. ربما والدها سيخبره عنها أنها لا تستحق شخصا في مكانته وأخلاقه. ربما سيخبره أنها سيئة وأنها لا تتصف بالوفاء. وربما يقول له بأنها جُلبت على كفر العشير. كيف ستتفادى الصدام معه والمواجهة. -آه. صرخة خافتة انطلقت منها قبل أن تكتم فمها بيدها. سببها كان هاجس داهمها فجأة، أن ربما يلجأ لنشر الخبر في الجامعة فتضيع سمعتها، سيتهامس الجميع عليها، وربما يمنعون تعيينها في الجامعة لأجل هذا السبب. همست بيأس: -يا الله، ما الذي فعلته بنفسي؟! *************** | ||||
مواقع النشر (المفضلة) |
الكلمات الدلالية (Tags) |
لعنة، الجمال |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|