آخر 10 مشاركات
ليلة مع زوجها المنسي (166) للكاتبة : Annie West .. كاملة (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          سحر التميمة (3) *مميزة ومكتملة*.. سلسلة قلوب تحكي (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          حصريا .. تحميل رواية الملعونة pdf للكاتبة أميرة المضحي (الكاتـب : مختلف - )           »          بين نبضة قلب و أخرى *مميزة ومكتملة * (الكاتـب : أغاني الشتاء.. - )           »          جنون المطر (الجزء الثاني)،للكاتبة الرااااائعة/ برد المشاعر،ليبية فصحى"مميزة " (الكاتـب : فيتامين سي - )           »          حصريا .. رواية في ديسمبر تنتهي كل الأحلام .. النسخة الكاملة للكاتبة أثير عبدالله (الكاتـب : مختلف - )           »          حصريا .. تحميل رواية رمانة فارس والهيئة للكاتبة السعودية شادية عسكر (الكاتـب : مختلف - )           »          27 - مطار 77 (الكاتـب : MooNy87 - )           »          40 - عن الطيور نحكى (الكاتـب : MooNy87 - )           »          الوحدة 731..العدد ال47 في سلسلةسافارى (الكاتـب : lovely_batootaya - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة

Like Tree35254Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 20-07-21, 11:49 PM   #16441

هاجر جوده

مشرفة منتدى الروايات المنقولة

 
الصورة الرمزية هاجر جوده

? العضوٌ??? » 402726
?  التسِجيلٌ » Jun 2017
? مشَارَ?اتْي » 1,915
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي tunis
?  نُقآطِيْ » هاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond reputeهاجر جوده has a reputation beyond repute
افتراضي


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 713 ( الأعضاء 142 والزوار 571)
‏هاجر جوده, ‏راوين, ‏ماريا تيم, ‏شمس عمر, ‏شغف...+, ‏بابيدو, ‏حورررررر, ‏sam_202, ‏أميرة مملكتي, ‏ملكةالقمر, ‏Alanoud., ‏MY.ArIn, ‏اميرته العنود, ‏ساره ناانا, ‏سماالنور, ‏Reanh, ‏Hazar Maani, ‏منـال مختار, ‏الحظ العاثر, ‏Aloly, ‏احب القراءه, ‏ميمي توتا, ‏نجود فايف, ‏ৡOosary, ‏ساره العامري, ‏Hyn, ‏افنان23, ‏girl lost, ‏خريف عمري, ‏شجنّ العُذوب, ‏بسنت محمود, ‏زينة الدنيا, ‏ملامح باهته, ‏أم البنيين, ‏سالي تاتا, ‏ام ريماس حشيش, ‏لينن علي, ‏ويبقى الأثر2002, ‏مسره الجوريه, ‏أم عواااش, ‏ثمرة الخاء, ‏Ebrahim khattab, ‏بشرى الخيرات, ‏طيف بسمه, ‏هبة محمد سعد أحمد, ‏نونا لبنان, ‏ساره شوقي, ‏فريال اسبر, ‏micdrop, ‏ريم الحمدان, ‏نورة502, ‏Yaw yaw, ‏جكيل مرحبا, ‏سلمى عامر, ‏الهد هد, ‏اسيل سلمى, ‏Wagnat❤❤, ‏عنقااء, ‏هبة الله العواد, ‏سمية١٢٣, ‏Arw2, ‏مريم القائد, ‏أية ناصر, ‏SORAYA M, ‏ارميتاج, ‏Hohoo, ‏هدى هدهد, ‏Glories1, ‏ريري المصري, ‏زوزا النونه, ‏غرام النهار, ‏سمية المقبلي, ‏همس الضلال, ‏مي_لم, ‏فاطمة الزهراء طلحة, ‏Mawn, ‏Shaima Esam, ‏إلين @, ‏Høpë☆, ‏Şirin, ‏shdn, ‏فراولة بالنوتيلا, ‏مر الزمان, ‏غصة في روحنا, ‏Hamedh, ‏The aquaris, ‏هناء حسن, ‏محبة النجوم, ‏منار سعد, ‏sira sira, ‏ورقة الخريف, ‏زهرة المدن, ‏Señorita, ‏مؤاميؤه, ‏~وردجوري~, ‏قــلـب مرهف, ‏غاليةياية, ‏آمنة كعكة, ‏سكينة سكينة, ‏زهره ابي, ‏الزهره البنفسجيه, ‏Amira fares, ‏لولوة 22, ‏نغم فارس, ‏بيرو♥, ‏Wafon, ‏قمر صفاء, ‏شفق قطبي, ‏الاميرة..., ‏ردينه حسن, ‏اغلى ناااسي, ‏دانه عبد, ‏نهى عبد السلام عبد الب, ‏Fatima hfz, ‏رندوش9, ‏meloka, ‏yasser20, ‏نَـــايّ+, ‏حنين سليمان ع, ‏رياح الجوري, ‏اجمل الاحاسيس, ‏جنون المشاعرر, ‏الملاك اريج, ‏Rasha ahmed, ‏ام جواد, ‏قـره عين, ‏Elaf12, ‏HUDA1995, ‏Fatima85, ‏سفيان بن, ‏همسااااات, ‏شام الاسعد, ‏dodo19, ‏اهة رحيل, ‏زهرة ايلول, ‏fatma r, ‏الفقيرة إلى الله, ‏lujain16, ‏حروراء, ‏Her Majesty, ‏جواهر الخليج


هاجر جوده غير متواجد حالياً  
التوقيع
"وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خيرٌ لكم." ❤




رد مع اقتباس
قديم 20-07-21, 11:54 PM   #16442

فيتامين سي

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة

alkap ~
 
الصورة الرمزية فيتامين سي

? العضوٌ??? » 12556
?  التسِجيلٌ » Jun 2008
? مشَارَ?اتْي » 42,437
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Saudi Arabia
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » فيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond repute
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي





الفصل السادس والعشرون


المدخل : ~

بقلم / Hanita

❤من مارية❤


أَأُلام بحبِّ تيمٍ و هو من تامَ قلبي و تيَّمه؟
مذ كنت طفلة أراه رجلاً فمن ذا الذي علَّمه؟

أن يكون سنداً و نعم السند لامرأةٍ كانت هي أمَّه!
و أن يكون راعياً لطفلةٍ بحبه دون وعي متيَّمة!

مروءة و شهامة و الصبر على الشدائد هو أبرز شيمه
أخبروني -حباً بالله- كيف بالتخلي عنه أحميه و أدعمه؟

كيف أمضي في حياتي و الشمس تسكن في مبسمه؟
و تلك العيون التي تدَّعون قسوتها أراها رقيقة مسالمة

تحكمون على كلينا بموتٍ هو السَّامُ ما أفظعه و ما آلمه
ألا ليتنا مِتنا صغاراً و ما حكمتم على تيمٍ بفراقِ مريمه



************





كانت ثوانٍ معدودة هي الفاصلة بين ارتفاع يده ونزولها به

على جسدها المنكمش تحضن ملاءة السرير لشفتيها

المرتجفة ببكاء تخفي وجهها فيها عن كل شيء ..عن

رؤيته عن نفسها عن موت أحلامها الصغيرة البريئة وعن

قلبها ودموعها تسقي موت كل لحظاته الجميلة في وقت واحد .

كانت ثوانٍ معدودة لكنها بحجم سنوات حياتها كاملة وكأولى

لحظات الموت تماماً وكما حكي عنه وشريط حياتها يُعرض

أمام العينان الباكية بنحيب وصل لقلبها قبل صوتها

ولارتجاف أطرافها ترى كل شيء يركض أمامها منذ كانت

طفلة بل ومنذ لم تكن تعرف هي نفسها رضيعة وكل يوم

ولحظة وثانية من تلك السنوات المتتابعة من الألم

والحرمان تنتظر عقابها القاسي من آخر شخص وُجد وكان

لفعل هذا .. مَن لم يفعلها بها يوماً ولا في أعظم أخطائها

طفلة وحفظ وصية والدته من قبل أن توصيه بها فرعاها

وهو يحتاج الرعاية .. حملها على كتفه وبين ذراعيه وهو
طفل مثلها.

كانت ثوانٍ فاصلة لكنها موجعة بعظم ما تتوقع أن تحمله

من ألم بعدها ويليها جعلها تنكمش أكثر صارخة وانتفض

جسدها كورقة ضعيفة تواجه غضب الرياح حين تردد

صفيره القاسي في الهواء مخترقاً أذنيها لحظة أن نزل

فوقها بقوة ..

صرخة لم تتركها تستوعب أنها لم تشعر بحرارته تلسع

جسدها وبأن ما سمعته تالياً كان صوت ارتطام قطعة

المعدن فيه وبقوة بطرف السرير بجانبها درجة أن شعرت

بالصمم في أذنيها بسبب الصوت المرتفع وعمّ المكان

هدوء غريب شعرت للحظات بأنها لوحدها فيه لا صوت

سوى لأنفاسها اللاهثة وشهقاتها الباكية بأنين خافت موجع

حتى كادت تلك الملاءة المبتلة بالدموع بين أصابعها أن

تبكي حزناً عليها وشفقة على حالها .


واستطاعت بصعوبة أن ترفع جسدها الواهن وجلست خائرة

القوى لم تقدر ولا على إبعاد خصلات شعرها الملتصقة

بالدموع التي ملأت وجهها المتورم من البكاء ومن شدة

الفاجعة ومن قسوة ما مرت به منذ سمعت صرخته الأولى

لاكتشافه الأمر ونظرت بعينين ذاهلة للفراغ الممتد أمامها

والخالي منه لا بل ليس بسبب ذلك بل ....


أغلقت أذنيها صارخة بقوة نزل معها رأسها ونظرها للأسفل

دون شعور حين علا صوت التحطم القوي وعلمت أن

مصدره المطبخ القريب من مكانها في شقة تُفتح جميع

أبوابها في مكان واحد وإن اتسع وتشابكت تفاصيله ..

وخبأت رأسها ونحيبها تحت ذراعيها المضمومتان فوق

رأسها ما أن سمعت الصوت الأقوى من سابقه وكأنه يقتلع

جدران المكان ويحطمه وازداد نحيبها حدة تشعر بأن ما

تحطم حينها قلبها وكل خلية في جسدها بل وكل حلم من

أحلامها الكثيرة تلك التي تعلقت جميعها به وحده .

وما أن وصلها الصوت للمرة الثالثة لم تشعر بنفسها إلا

وهي تغادر السرير وغرفتها أيضاً وبخطوات راكضة متعثرة

حتى كانت تستند بيدها وجسدها خائر القوى أمام باب

المكان الذي نظرت لداخله بذهول .. لآلة تحضير القهوة

الضخمة وقد تحولت لشبه بقايا متناثرة على الأرض وآلة

تبريد المياه المقسومة لنصفين قريباً منها .. لكنها لم تكن

هناك لترى ذلك أو تهتم به فكل ما كان يهمها النمر الثائر

الذي ما أن وقع نظرها عليه يحاول وبحركة غاضبة نزع

أحد أرفف الخزانة الخشبي المدعم بالزجاج وكأنه ينتقم من

كل شيء وينفس عن غضب أسود لم يخرج من داخله بعد

تقاطرت الدموع من عينيها وصرخت وكأنها تحاول إيصال

صوتها له من مكان بعيد لا يراها فيه ليسمعها

" تيييم توقف "

واشتد نحيبها حين لم يستجب لها بل ولم ينظر ناحيتها

واتكأت بطرف وجهها على إطار الباب وقالت بعبرة بكاء

" لا يمكننا تغيير هذا وعليك تقبّله مثلما أجبرت أنا عليه "

كانت تحاول التخفيف عن كليهما معاً عن القلب العاشق

المحطم والرجل الشرقي الغيور المطعون في كبريائه

وكرامته لكن محاولتها تلك كانت بمثابة الطعن برمح قاتل

موجه ناحية القلب وليست إقناعاً منطقياً للذات كما حدث

معها .. واكتشفت ذلك حين التفتت لها العينان الغاضبة

باحمرار شوه الأجفان الرجولية القاسية حولها في مشهد لم

تراه ولم تعرفه له سابقاً غير تلك الليلة التي فقد فيها والدته

صغيراً وصرخ بقوة يحرك رأسه بعنف

" أي تقبل هذا وأي إكراه .. أتريدين إيصالي للجنون ؟ "


وارتجف جسدها وقد ارتفعت يدها تغطي بظهر أناملها

شفتيها وشهقتها الباكية حين ضربت يده إحدى أبواب

الخزانة بجانبه حتى كاد يسقط من مكانه وهو يصرخ بعنف

" أي إكراه تتفوهين به مارياااا "

وامسكت شفتيها الباكية بيدها ما أن ضرب رأسه بخشب

أبوابها الأقرب له بقوة ولم تكن الأخيرة تلك ولا الوحيدة

وهو يكررها صارخا قبل أن يتكئ بجبينه عليه يتلقف

أنفاسه الغاضبة فتحركت خطوة للأمام وتوقفت ما أن مد يده

نحوها يمنعها دون أن يرفع رأسه أو ينظر ناحيتها وقال

بجمود وبأنفاس لاهثة خرجت من بين شفتيه مع كلماته

كالفحيح

" ابتعدي عني ماريا لا أريد أن أراك أمامي .. ابتعدي قبل
أن أقتلك "

لكن ولا ذرة واحدة في جسدها طاوعتها أو ساعدتها على

فعل ذلك وتحركت خطواتها اخيراً لكن ليس بعيداً عنه كما

طلب بل ناحيته حتى وصلت عنده وتمسكت أصابعها بقماش

سترته ناحية ذراعه ودفنت ملامحها الباكية ونحيبها

الموجع فيها تحضن بقايا ما لم يعد لها وسرقه كل شيء

منها .. ما لم يكن لها يوماً وكان مجرد أحلام وردية مُنحت

لها بالإكراه وأخذت منها دون وجه حق .

تعالت شهقاتها الباكية ما أن ضرب جبينه باب الخزانة ببطء

ضربة خفيفة هذه المرة وقالت ببكاء مرير لازالت تدفنه

حيث ذراعه السجينة بين نعومة أصابعها

" يكفي تيم أقسم أنك تقتلني ... "

واشتد نحيبها ما أن تابعت بحرقة

" أقسم أنه كان رغما عني... أقسم "

كانت تحكي واقعاً للأسف لا يعرف حقيقته سواها بينما كانت

كلماتها تلك كسابقاتها بمثابة رش النار بالوقود جعلته

يسحب ذراعه منها بقوة كادت تجعلها تسقط أرضاً لولا

ليس توازنها ولا قدرتها على التماسك والتي لم يتبقى لديها

منها شيء بل بسبب أصابعه التي أمسكت بذراعها بقوة

كادت تشعر بها تُحطم عظامها تحت تأثير قوتها الممسكة

لها بغضب وخرجت شهقتها مرتفعة فوق صوت بكائها الذي

لم يتوقف للحظة حين سحبها منها بقوة وسار بها ناحية

الباب الذي دخلت منه يسير ويجرها معه خطواتها تكاد

تفقد أي قوى لها للمضي بانتظام لتجعلها تسير كأي شخص

طبيعي وغشت الدموع الحارة التي لم تفارقها مقلتاها

المدججة بالألم ما أن أصبحت صورة باب الشقة تقترب

منهما ولم تستطع تصديق نفسها ولا أفكارها حين وقف بها

أمامه قبل أن يدير قفله ويفتحه بيده الأخرى بقوة واندفع

جسدها كخرقة بالية لا حول له ولا قوة وارتمى على الرخام

البارد وأصابتها كلماته كنصل سكين حاد حين صرخ

" إذهبي لمن خنت زوجك من أجله ماريا لا أريدك "


وسقط جسدها منهاراً على الأرضية تحتها حين علا صوت

الباب الذي ضربه بقوة كادت تحطمه وبكت ... بكت وهي

التي لم تتوقف عن البكاء يوماً سوى لأيام ها قد فقدتها

سريعاً .. بكت فوق الأرضية الصماء والرخام الشديد

البرودة تهديه جرعات مريرة من دموعها الساخنة

وعبراتها الموجعة حتى كادت تشعر به يحتضنها وبيدان

باردتان كالجليد رحمت حالها وكأنه ينصهر حناناً ورأفة بها

رغم قسوته وجموده وبرودته ليحتضن ألمها ووحشتها

ووحدتها تلك اللحظة تحديداً وقد شعر بها حين لم يشعر بها

أحد ولم يرحمها أحد حتى تمنى أن يحتضنها ويحتضنها

ويدفنها تحته حيث لن يجدها أحد منهم وحيث ذهبت عائلتها

الصغيرة وحُضن والداها الذي لم تعرفه يوما.


لكن ذلك لم يكن سوى فصل آخر في أمنياتها اليتيمة فلا

يدها وخدها المحتضنان لبرودته ولا دموعها التي كانت

تسقيه دون توقف كانت لتجعله أرحم عليها من قلوب

البشر .. من واقعها المرير ومن الألم الذي كانت تشعر به

يخرج مع كل شهقة بكاء .


وبالرغم من كل ذلك أدارت وجهها ودفنت ملامحها في

قسوة برودته وإن كان لن يشعر بها ولن يرحمها وخرج

همسها الباكي بأنين موجع تغمض عياناها الباكية بقوة

" يارب ... يارب خذ روحي ولا تحرمني منه "


*
*
*

اتسعت ابتسامتها الساخرة ما أن وقفت أمام باب الغرفة

ووقع نظرها على الجالسة فوق السرير تحضن ركبتيها

بذراعيها وقد ارتفع نظرها لها مما جعل مزاجها الساخر

ذاك يتبدل داخلها لنيران زادتها اشتعالاً بمجرد النظر لها ،

وككل مرة رأتها فيها تراها أجمل وأكثر حسناً من سابقتها

إن كانت تتسم بالبرود أو الجمود أو حتى الغضب ..

وها هي تراها الآن بشكل مختلف تماماً وملامحها الفاتنة

والعينان الزرقاء الواسعة تتسم بما لم تعرفه فيها من قبل

وهو السكون التام حيث لا يمكنك التنبؤ إن كان ذلك سكينة

أم هدوء أو أمر آخر لا يتقنه سواها !

فلم تعرف من قبل امرأة جميلة في كل حالاتها متجددة

وفريدة من نوعها مثلها !

أم هو شعور ينتابها لوحدها وغيرتها منها السبب فيه ؟!


سحبت نفساً عميقاً لرئتيها لم تشعر به إلا إعصار نار آخر

أجج من غضبها وهي تراها أمامها وتذكرت على الفور ما

فعلته سابقاً وأمام ناظريها فقط لتعلن انتصارها عليها ، لا

بل ووجودها هنا السبب الأول والأساسي لتأزم علاقتها مع

وقاص فمنذ أن أصبحت هذه المرأة هنا تحول هو لرجل آخر

لا أحد منهم يعرفه ..

ليس وقاص الذي لا يجرح مشاعر أحد وإن كان ذلك على

حساب نفسه ومشاعره ! وقاص الذي لم يكسر كلمة جده

يوماً وكان رضاه عنه في المقام الأول بالنسبة له !

فها هو الآن وبعد وجود هذه الغريبة بات آخر ما يهتم به

مشاعرها هي ومراعاتها كالسابق ولا مشاعر زوجة والده

المحببة والمقربة له والتي ربته بعد وفاة والدته كإبن لها !

بل ويتشاجر مع جده كلما تقابلا ويعصي أوامره دون أن

يهتم لغضبه منه وكل ذلك من أجل هذه !!

يهين نفسه كي لا تهان ..

ينكسر كي لا يكسرها أحد ويُغضب الجميع ليراها راضية !

بل ويموت رويداً رويداً لتعيش هي !.

اشتدت أصابعها في قبضة واحدة تكاد تشعر بأسنانها تتحطم

بسبب تنفيسها عن مشاعرها المكبوتة بها .. المشاعر

التي أججتها بكل تلك الأفكار السوداء وزادها رؤيتها هكذا

أمامها هنا بدلاً من أن يكون مكانها السجن ولازالت تراها

قوية كما هي لم يؤثر بها أي شيء .. قوتها تظهر جلية

حتى في سكونها المريب !

إن كانت هي مكانها لنامت ليلتها في المستشفى إن لم يكن

في ذاك المكان الخاص بالمختلين عقلياً ، لكن أن تقتل

رجلاً هكذا بدم بارد ولا يتحرك لها ساكن مثلها !

ولن تصدق ما يقال في عائلة المجانين هذه وبأنها قد تكون

بريئة درجة أن سيطرت على أغلبهم أفكار وقاص نحوها

وهذا ما يزيدها اشتعالاً فهو لا يسعى لشيء الآن سوى

إثبات ذلك .


وقع نظرها المشبع بالكراهية والغضب على الصينية

الموجودة عند بداية السرير وفي خطوة واحده رفعت

السكين الصغير الحاد منها ورفعته أمام وجهها بينهما

وكشرت عن أسنانها بغضب تنظر للجالسة مكانها لم تحرك

ساكنا ولم تزح نظراتها عنها وهمست بحقد

" عليك أن تختفي من عالمي ومن حياتي وحياة زوجي يا
خماصية "


وزادها اشتعالاً حين استدارت المقلتان الزرقاوان بلون

السماء بعيد عنها وكأنها لا تهتم لما تقول ولا يعنيها أن

تموت !

أم لا تصدق أنها قد تفعلها ؟

مدت يدها بطولها نحوها والسكين فيها وقالت بغضب مفعم

بالحقد والكراهية

" سأرحمك من السجن أو مصيرك الآخر وهو المصح

النفسي إن قرر جدك أن يغفر لك مقتل حفيده ، ومؤكد

تتمنين السجن على العودة له "


واشتدت كلماتها حدة وهي تحرك السكين بتهديد

" لن يعلم أحد بما فعلت وسيثبت ألف محامٍ سيوكلهم

والدي للدفاع عني بأنك من قتل نفسك "


كانت تسرد المستقبل وكل ما تخطط له بالرغم من أن

ضحيتها لم تناقش ..

لم تتحدث ولم تذكرها بالقانون والنجاة بفعلتها وهذا ما جعل

مشاعرها الثائرة تزداد سوءاً تحاول تثبيت يدها المرتجفة

وكأنها الضحية وليست من قررت أن تكون الجاني !

أمسكت بالسكين بكلتا يديها وهي تحاول جعل صوتها أكثر

اتزاناً أيضاً وهي تتابع بحقد

" إن كان فيها موتك أكون أرحتك وارتحت من وجودك

وإن نجوتِ منها فلن تنجي من القانون ومن جريمتك

الشنعاء في حق زوجك "

" وماذا إن كان أنتِ من قتله ؟ "

تجمدت مكانها تنظر بصدمة للعينان الواسعة التي صوبت

صاحبتها مقلتاها نحوها كرصاصة سبقت كلماتها الميتة

الهامسة تلك وارتجف جسدها بأكمله وهي تصرخ بينما

لازال توجه سكينها نحوها وكأنها تدافع به عن نفسها

وليس العكس

" لقد أصاب عقلك الجنون الذي لم يفارقه بالتأكيد ! "

وتابعت بانفعال معاكس للجالسة بكل هدوء وصل للامبالاة

في نظراتها لها

" كيف أكون أنا من قتله وأنا لست معكما ؟ "

وتلقفت أنفاسها بقوة تنظر بغضب مكبوت للتي كان تعليقها

المبدئي ابتسامة ساخرة بينما عادت للهمس بلامبالاة

" أثبتي لي الآن وقبل القضاء أين كنتِ وقت مقتله ؟ "


صرخت وانفعالها لا يزداد إلا حدة

" كنت نائمة "

وارتجفت يداها الممسكة بالسكين وتابعت باندفاع تدافع

عن نفسها وكأنها أمام قاضٍ في محكمة

" شقيقتي جيهان ايقظتني "

وحين تذكرت الوقت الذي ايقظتها فيه قالت بغضب

" أنتِ الفاعلة والسلاح كان معك "

واتسعت عيناها بذهول ما أن حدقت فيها الاحداق الزرقاء

الساكنة ترى قوتها حتى في سكونها ذاك وما أن قالت

صاحبتها تبتسم بسخرية

" يمكن لأي محامٍ مبتدئ أن يثبت أنه ثمة شخص ثالت كان

معنا فكيف إن كان ذاك المحامي وقاص ! "


تعالت أنفاسها مع ضربات قلبها المضطربة تتذكر كلام والدة

رواح عن تأكده من وجود شخص ثالث وهو ما يسعى بكل

جهده الآن لإثباته وبأن كل شخص من تلك العائلة اثبت

مكان تواجده وقت وقوع الجريمة فصرخت بعنف

" أنتِ من قتله وليس أنا "

وتلقفت أنفاسها بتوتر حتى كانت تشعر بالعرق يتصبب من

صدغيها والارتجاف قد زحف من يديها لكامل جسدها

لازالت تصوب سكينها بما تبقى لديها من قوى ناحية التي

عادت بنظرها للفراغ وبهدوء يجعل وضع كل واحدة منهما

مكان الأخرى وتمتمت

" سيصبح انتِ إن لم تصمتي وتبتعدي أو افعلي ما جئتِ

من أجله دون ثرثرة جوفاء "

اتسعت عيناها بذهول ليس فقط من لامبالاتها وهي تهددها

بقتلها ولا من طلبها منها أن تقتلها وكأنه لا يعنيها أن

تعيش لثانية أخرى بعد !

بل وبسبب صوت خطوات الحذاء الرجالي والذي تعرفه

جيداً وتميزه من بين جميع الأصوات فأخفت السكين بجانب

جسدها بحركة سريعة وإن كانت مرتجفة ونظرت ناحية

الباب تنتظر ليس ظهوره فقط بل وما سيقول اعتراضاً على

وجودها هنا وبماذا ستبرر ؟ .


كانت ثوانٍ فاصلة بين كل ذلك .. أفكارها توجسها

وانتظارها وظهوره الفعلي أمامها والذي جعلها تحدق فيه

بصدمة حين رماها بنظرة خاطفة فقط وهو يجتازها وفي

صمت تام .. نظرة جوفاء وكأنه لا يراها أمامه أو لا يهتم

بوجودها !

تبعته نظراتها الذاهلة وهو يتوجه فوراً وبخطوات واسعة

مسرعة ناحية الجالسة على السرير مكانها وأمسك بيدها

وسحبها منها وتحرك من فوره بينما تبعته هي منصاعة

واجتازها مجدداً يسحبها ورائه بذات الصمت والسرعة التي

دخل بها فتبعتهما خطواتها ودون شعور منها حتى وصلت

باب الجناح تنظر له وهو يغادر بها الممر بأكمله ناحية

السلالم فصاحت بحرقة لا تهتم إن وصله صوتها أم لم يصل

بينما الدموع تملأ عينيها

" زوجتك أنا يا وقاص وليس هي "


لكن الذي نزل السلالم مسرعاً بمن جاء خصيصاً لأجلها لم

يكن يعنيه كل ذلك أو لم يكن ليسمعه وجميع حواسه تعمل

و لأمر واحد فقط

( هل نقل لها نجيب العدوى بمرضه ؟ )


ذاك كل ما كان يفكر فيه ويكاد يقوده للجنون منذ علم

وخرج من مكتبهم هناك كالمجنون ولن يسامح نفسه ولا أي

فرد في عائلته أبداً ما عاش إن تبين أنها مصابة فعوضاً

عن تضميد جراحها وشقيقها وتعويضهما عن كل ما عانياه

السنوات الماضية يكافئونها بهذا !

لن يرحم أحداً وأولهم نفسه إن ثبت ما يخاف منه ويخشاه

ويكاد يجعل عقله ينفجر وقلبه يتوقف عن العمل تماماً من

مجرد التفكير فيه .

وصل بها لسيارته المركونة أمام الباب مباشرة وهي تتبعه

في صمت دون أن تسأل أو تعترض وكأنها تقرأ أفكاره وأن

آخر ما يريده حينها أو يفكر فيه هو الاستماع لأي كان

وحتى هي .. بل ومنذ متى كانت هي من ذاك النوع كثير

الأسئلة والتحدث وها قد اجتمع الأمران .


فتح لها الباب وحينها فقط همس بصوت أجش بالكاد كان

مسموعاً وكلمات سريعة

" اركبي زيزفون بسرعة "


وانصاعت هي من فورها وفي صمتها ذاته وإن كانت

نظراتها المستغربة تتبع حركته وهو يغلق بابها ويدور حول

السيارة بخطوات راكضة ليركب من بابه الذي لم يغلقه

أساساً عند نزوله منها وكان مفتوحاً وقت وصولهما

وضربه خلف بقوة وارتفع صوت صفير العجلات فوراً حيث

أنه نزل منها ولم يطفئ محركها ولو كان بيده لطار بها

للأعلى وأخذها من هناك يكره مرور كل ثانية تفصل بينه

وبين معرفة الحقيقة التي لم يخشى حياته معرفة شيء

مماثل لها .


غادرت سيارته مسرعة ويداه تقبض على المقود بقوة يكاد

يحطمه بين أصابعه نظره على الطريق أمامه ونور سيارته

القوي يخترق ظلمة الطريق المحفوفة بالأشجار والتي

تفصل قصرهم عن ضجيج المدينة وازدحامها يشعر

بضربات قلبه ترتفع حد الجنون كلما تغلب عليه عقله

وجسّد له صوراً يحاول منذ علم بتلك الورقة طردها ونفيها

منه يتمنى لو كان كابوساً يمكنه الاستيقاظ منه مهما كان

بشعاً ومخيفاً ، ولا شيء يصدر عنه سوى الأنفاس القوية

التي تحررها رئتاه من الحين للآخر بينما تمسح يده

وأصابعه الطويلة قفا عنقه نزولاً حيث ياقة قميصه

المفتوحة زرين من الأعلى وكأنه يختنق حد الموت ..

وهو كذلك بالفعل كل ما يتمناه حينها أن يموت وينتهي للأبد

ولا تتأكد له حقيقة مُفجعة كتلك ، وبالرغم من ذلك وبقدر ما

كان يقلص المسافة بسرعة جنونية كان يتمنى أن يبتعد

عنه انجلاء تلك الحقيقة وللأبد لتختفي وكأنها لم تكن .


وما زاد الأمر سوءاً أن الطريق استغرقت منه مقربة

النصف ساعة مع ازدحام المدينة وحركة السيارات بالرغم

من أن الساعة تجاوزت العاشرة مساءً وكان تأففه وضربه

للمقود براحة يده يرافق كل وقوف لسيارته إن كان بسبب

الازدحام أو إشارات المرور بينما كان الصمت والسكون

التام هو ما يرافق الجالسة بجانبه وكأنه لوحده هناك .


وما أن سلك الطريق الفرعي اجتازت السيارة شارعاً شبه

ضيق مع مباني بأسوار عالية وأشجار خضراء تتدلى منها

تتراقص اوراقها تحت النور القوي المنبعث من الأعمدة

المنشرة في كل مكان وتوقفت أمام مبنى حمل طابعاً مختلفاً

تماماً له باب زجاجي كبير ومزدوج احتل أغلب واجهته

ولافتة ضخمة أعلاه ، وبحركة سريعة ماهرة أوقف السيارة

في المساحة المقسمة أمامه برصيف على هيئة خطوط

متوازية بحيث كانت مقابلة للمبنى وحيث لم تكن هناك

سوى سيارة واحدة كانت مركونة في الرصيف المجاور

تماماً أو متوقفة كوصف أدق فما أن فتح وقاص بابه ونزل

مغلقاً إياه خلفه حتى فُتح باب تلك السيارة ونزل منها الشاب

الانجليزي ذو الشعر الأشقر الكثيف يضع نظارات شمسة

وسط خصلاته الناعمة أعلى رأسه وتحرك كل واحد منهما

نحو الآخر وهمس وقاص ما أن وصل له ووقف أمامه

" تحدثت معهم يا آنسون أو أدخل أنا بنفسي الآن ؟ "


حرك ذاك رأسه بإيماءة واضحة وقال

" بلى .. ولما أنا هنا إذاً ! "


ونظر من فوق كتفه وحيث خيال الجالسة داخل السيارة

هناك وقال بفضول

" أتعلم لما هي هنا ؟ "

قال وقاص من فوره

" لا ولا أريدها أن تعلم حتى تظهر النتيجة "


حرك رأسه بتفهم وهمس وهو يعود بنظره له

" لهذا هي هادئة هكذا "

فابعد نظره عنه وشعر بمشاعره تهوي للهاوية أكثر مما

هي عليه وقال بصوت كئيب وهو يوليه ظهره عائداً ناحيتها

" بل ما كانت لتفعل شيئاً مما تتخيل وإن ثبت ذلك

وعلمت به "


وتابع سيره بخطوات واسعة وهو يدور حول السيارة حتى

وصل لبابها وفتحه لها فنزلت من فورها ونظرت له

وخرجت من صمتها الطويل أخيراً ونظرها على عينيه

" لما نحن هنا ؟ "


كانت كلماتها تشبه نظراتها تلك ساكنة بجمود مريب

وجامدة بسكون غريب عنه جعله ينقل نظره بين مقلتيها

بضياع وحيرة ، وكما توقع ويعلم عنها هي لم تسأل حتى

وصلوا لوجهتهم فهي ليست من ذاك النوع الذي يُقدم

السؤال عن المعرفة وحين توقفت سيارته في مكان تجهله

كان السؤال .

هرب بنظراته لا يعلم منها أم من نفسه فهو يكره حتى أن

يجيب لوقاص عنه فكيف هي ؟

ولثواني معدودة جمع فيها شتاته وأنفاسه على الأقل بعيداً

عن عينيها التي ما أن عاد ونظر لها مجددا وجدها على

حالها تنتظره فقط فسحب نفساً عميقاً قبل أن تخرج كلماته

معه يحرره بتحريرها

" هذا مختبر يا زيزفون مؤكد قرأت اللافتة "

قالت من فورها

" أعلم .. ولما أنا هنا ؟ أم ليس من حقي أن أسأل ؟ "


حرك رأسه وهو يقول بما استطاع جلبه من هدوء وقوة

" لأنه إجراء قانوني فقط وسيتم سحب عينة دم منك
وينتهي الأمر "


لم يبدو عليها الاقتناع وذاك ما فهمه جيداً من نظراتها التي

انتقلت للافتة الضخمة المعلقة أعلى المبنى المطلي باللون

الرصاصي الغامق تفصله مضلعات بلون الكريما ولن

يستغرب هذا منها فلا استعجاله ولا توتره يؤكدان هذا ولن

تُصدق أنه لا شيء بالفعل فشدها من يدها وسار بها نحوه

قائلاً

" مجرد إجراء قانوني يا زيزفون "


واجتازا الباب الزجاجي الذي انفتح فور اقترابهما وكانت

تسير بجانبه ما أصبحا في ردهة متسعة باردة كالجليد

أرضيتها من البورسلين الأبيض اللامع كالمرآة وعند

نهايتها طاولة نصف دائرية تحتل الجدار بالكامل تقف خلفها

فتاة بينما تجلس الأخرى وأمامها حاسوب تنقر بأصبعها

على أحد ازراره بينما نظرها على شاشته وقد ارتفع نظرها

وحدقت بهما أيضا ما أن وقف بها أمامهما وكأن زائري هذا

المكان يُحصونهم على الأصابع وقال ناظراً للتي أصبح يقف

مقابلاً لها

" السيد ماكويد في انتظارنا "

فأومأت من فورها برأسها المغطى بشعر كستنائي قصير

وأشارت بيدها ناحية اليمين قائلة

" اسلك ذاك الممر ثم يميناً "

فغادر بها من فوره يشكر بهمس التي جلست بجانب

رفيقتها وقالت بضحكة ونظرها يتبعهما

" كم هو وسيم "

ونظرت مبتسمة للتي تمتمت ببرود وهي تعود لما كانت

تفعله ونظرها على الشاشة المضاءة أمامها

" والتي برفقته فاتنة أيضا ً لا تنسي هذا "

خرجت منها ضحكة قصيرة وقالت وهي تمسك قلمها

" حسناً أنا أبدي رأيي به فقط وهو فعلاً وسيم "


" جيد لما لم تخبراني بذلك عند دخولي قبل قليل ؟ "

ارتفع نظرهما المصدوم فوراً للذي أصبح يقف فوقهما ينظر

لهما مبتسماً مما دل على أنه استمع لكل ما دار بينهما

وابتسمت إحداهما ابتسامة كرتونية لم تصل لعينيها التي

تخفيها نظراتها الطبية تعكس صورة الشاشة أمامها بينما

لم تستطع الأخرى امساك نفسها عن الضحك حتى أنه حين

سألها بضحكة خفيفة

" أين غادر الوسيم والفاتنة التي معه من فضلك ؟ "

لم تستطع أن تجيبه بأي كلمات بسبب ضحكها الذي ازداد

سوءًا واكتفت بأن أشارت بيدها فقط .. وبصعوبة بالغة

خرجت منها كلمة ( يميناً ) ليعلم أين يتجه بعد أن يدخل ذلك

الممر فغادر في ذاك الاتجاه مبتسماً ابتسامة التصقت

بشفتيه وهو يعبر الرواق الساكن بجدرانه المطلية بالأبيض

الناصع وكأنه يقوده للا شيء حتى كان عند ممرين على

يمينه ويساره واتجه يمينا حيث بدأت تتضح معالم الحياة

بوجود بعض الأبواب وإن كانت موصده، وخبت ابتسامته

تلك تدريجيا حتى اختفت تماماً وهو ينظر لوقاص والذي

ودّعت نظراته الضائعة الفتاة التي دخلت الغرفة برفقة

ممرضة بلباس زهري باهت يغطيه معطف طبي ناصع

البياض مع قبعة وقفازات طبية .

اقتربت خطواته منه حتى وصل له وأمسك بكتفه فالتفت

له ونظر له نظرة لم يراها ولم يعرفها يوماً في هذا العربي

المفعم بالذكاء والصبر والحنكة مما تجاوز به أصحاب

الدماء الانجليزية والذين ينتمون للبلد الذي يحمل هو قانونه

معهم كما جنسيتهم .. كانت نظرة رجل كُسر في أغلى ما

يملك جعلت قلبه ينقبض بشدة فهو رآها مرة واحدة في

حياته وكانت في عيني شقيقه حين توفيت زوجته وأكثر

امرأة أحبها في الوجود وها هو لليوم يهيم في الطرقات

يحمل قيثارته ويغني لها بحزن .

اشتدت قبضة أصابعه على كتفه وقال بتأني ينظر لعينيه

" أكثر ما أعجبني في حديثك عن أسس دينك حين سألتك

عنه هو أنكم تؤمنون بالقدر خيراً كان أم شراً وهو قدرها

يا وقاص وفي أي حالٍ كان "

وراقب بحزن عيناه التي هرب بنظراتها منه وكأنه يحاول

إخفاء ما هو أشدُ مما فيهما الآن قبل أن يعود وينظر له

وبالفعل كانت عيناه تحمل ما هو أعظم وأقسى من ذاك

بكثير وهو يقول بحسرة وألم

" أنت لا تعلم كم عانت بسبب إهمالنا لها ولشقيقها يا

آنسون لما كنت لتقول لهذا "


وضرب بيده على صدره قائلا بحرقة

" قسماً لن يُبرد النار المشتعلة في داخلي ولا أن أحقن

نفسي بدمها لأموت معها "

جعلت كلماته تلك الواقف أمامه يتصلب لثواني فقد فيها

القدرة على قول أي شيء فأقل ما يمكنه تخيل نفسه مكانه

الآن وما كان سيشعر .. ورغم ذلك استجمع قواه وقال

يحاول تخفيف الأمر عنه ولو قليلاً

" نحن لن نتسرع في التكهن بأنها إيجابية يا وقاص "

وضاعت جهوده جميعها حين فرد يديه وقال ببؤس وعدم

استيعاب

" كانت زوجته يا رجل ... أتمسك أنت نفسك عن امرأة

هي زوجة لك "

فتنهد وارتفع حاجباه وهو يهمس مستلماً

" مثلها لا بالتأكيد "

فكان بجواب صديقه ذاك كمن غرس سكيناً حاداً في قلبه

يزيد جرحه النازف ألما وغرس أصابعه في شعره الكث

المسرح للخلف وهمس بألم

" أكاد أصاب بالجنون يا أنسون .. قسما ً لا قدرة لدي
لتحمل هذا "

حرك ذاك رأسه وقال بضيق تغلب على الحزن في عينيه

" لما تقسو على نفسك هكذا يا صديقي فأنت لست من نقل لها هذا المرض ولست السبب فيه أيضاً "


ففتح فمه واغلقه حين لم يخرج منه سوى أنفاسه الملتهبة

كجوفه المشتعل وأولاه ظهره وتحرك بضع خطوات وكأنه

يفر من كل شيء حتى كان عند النافذة المؤمنة بعناية يده

قد اجتازت سترته المفتوحة وشدت بأصابعه ناحيه قلبه

بقوة واختفى منظر الشجيرات والأزهار المنسقة في الخارج

عن ناظريه بسبب الدموع التي تحجرت فيها يشد أصابعه

بقوة حيث الذي يشعر به يتمزق يئن ويموت فلن يشعر أحد

بما يوجد هنا ولا يمكنه شرح أو قول المزيد فلم يتمنى

الموت يوماً كما تمناه الآن .. وليته يمكنه قتل نفسه دون

أن يُحاسب على هذا لكان فعلها ودون تردد .

مسحت أصابعه رموشه الكثيفة الرطبة بحركة سريعة في

الوقت الذي استدار فيه ناحية الباب الذي فُتح خلفه ونظر

فوراً للتي كانت تشرح لها الممرضة كيف تثني ساعدها

لبضع ثوانٍ بينما كان نظرها هي بعيد تماماً عما تقوله لها

فقد التصقت نظراتها الجامدة بعينيه ويعلم كم من الأسئلة

يدور في عقلها حينها تبدأ من جلبه إياها إلى هنا دون شرح

أو توضيح وتنتهي لوضعه الذي لا يخفى عن الأعمى قبل

البصير ، وهو حاله منذ وقع نظره على جسد أخيه السابح

في بركة من الدماء وهي المتهم بقتله وباعترافها عن

نفسها ومهما جمع من أدلة وبراهين لكنه كان يتمسك بقوة

زائفة يضعها كقناع أمام الجميع قبل أن يزيده قدره طعنة

جديدة ما كان يحسب لها حساباً جعلته يفقد آخر حصن من

حصون قوته وصموده ..

ومنذ ذاك الحين وحاله كما هو عليه ربطة العنق تركها في

المكتب خلفه وقميصه مهمل مفتوح الأزرار ولم ينظر

لنفسه في المرآة طيلة هاذين اليومين ولم يجد أي وقت

لذلك .


استجمع ما تبقى لديه من قوى وتحرك من مكانه متجهاً

نحوها بخطوات متسعة وأمسك بيدها ونظر لرفيقه هناك

أولاً وقال بصوت منخفض متعب

" هل تبقى هنا آنسون؟ "

فابتسم له ذاك من فوره وربتت يده على ذراعه وقال

" بالتأكيد يمكنك المغادرة "

فابسم له بامتنان وإن لم تصل تلك الابتسامة لعينية التعيسة

المتعبة وسار بها من حيث دخلا فلا يمكنه الانتظار في هذا

المكان لأكثر من ساعة حتى تظهر نتيجة الاختبار على

عينة دمها حيث كان أسرع وأقصر وقت يمكن استخراجها

فيه وبطلب رسمي ليوافقوا فهو لن ينتظر ليومين كي يصاب

بالجنون لا محالة .


*
*
*



فيتامين سي غير متواجد حالياً  
التوقيع



شكراً منتداي الأول و الغالي ... وسام أعتز به


رد مع اقتباس
قديم 21-07-21, 12:00 AM   #16443

فيتامين سي

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة

alkap ~
 
الصورة الرمزية فيتامين سي

? العضوٌ??? » 12556
?  التسِجيلٌ » Jun 2008
? مشَارَ?اتْي » 42,437
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Saudi Arabia
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » فيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond repute
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي




*
*
*

تقدمت خطواتها ببطء ناحية الظهر والأكتاف العريضة

للجسد الرجولي الطويل أمامها جبينها الصغير ينقبض

باستغراب يقترب معه حاجباها الرقيقان ولم تستطع سماع

شيء مما كان يُقال حتى وقفت خلفه بعدة خطوات وسمعت

فقط صوته العميق المنخفض وهو يجتاز الواقفة أمامه

لينزل السلالم

" شكراً لكما "


كانت كلمات مختصرة قالها للتي لم تنم ليلة كاملة قد هجر

النوم عينيها حين قررت أن تسبق والدتها في استيقاظها

لتعد الخبز بنفسها وصعدت به وجلست منتصف السلالم

تنتظر أن تسمع صوت باب غرفته وهي التي تعلم بمغادرته

باكراً بينما كانت أذنها الأخرى كما عيناها تراقبان الطابق

السفلي كي تسمع أو ترى والدتها إن استيقظت قبل خروج

عمير من غرفته ، ورفرف قلبها كفراشة سجينة تم فك

أسرها فجأة حين سمعت باب غرفته يُفتح أخيراً وهبت

واقفة وصعدت العتبات تكاد تقفزها كل اثنتين في واحدة

وتصنعت المفاجأة حين وجدته أمامها ..

بل حين وجدها أمامه فهو من ظهرت على وجهه تعابير

الصدمة الحقيقة حينها فارتسمت على شفتيها ابتسامة

واسعة لم تستطع مقاومتها وهي تراه أمامها وكأنها لم تره

من قبل .. بل وفي كل مرة تشعر بأنها المرة الأولى التي

تراه فيها بعد عودته للوطن مع زعيمه ..

فارقها شاباً وسيما حُبه لها جعله يفعل كل شيء من أجلها

حتى أنه ترجاها وقت رحيله كما لا يفعل أي رجل أن تنتظره

لأعوام قليلة فقط ويعود .

وها هو عاد بعد كل تلك الأعوام الطويلة رجلاً امتزجت فيه

الرجولة مع الوسامة وتبدل الشاب الوسيم دائم المرح

لرجل أكثر اتزاناً ورجولة طاغية وهيبة ومرتبة عالية سلب

لبها وجعل ندمها يشتعل بقلبها ودون رحمة لأنها خذلته

وكسرت قلبه ، ولم تنسى لحظة منذ عودته نظرة الانكسار

التي رأتها في عينيه قبل أربعة عشر عاماً مضت وهي

ترفض طلبه بكل قسوة وأنانية .

وما لم تكن تعلمه بأن الواقف أمامها لم ينسى مثلها تماماً

تلك اللحظة التي فصلت بين عمير الماضي والحاضر ..

بين ذاك الشاب الذي كان يتّبع اختيارات قلبه وهذا الرجل

الذي بات لا يتصرف إلا بما يقوله عقله أولاً ..

بين العاشق بتهور والمحب بعقلانية وتروي ، فهي لم تكن

تستطيع رؤية كل ذلك بسبب غرورها وأنانيتها التي لم

تتغير مع نضوجها من صبية لامرأة وأنه مثلها تماماً قارن

الماضي بالحاضر لكنه لم يجد أي تغيير كما وجدته هي

لازالت تعتقد بأن الاختيار لها وحدها وبأنها فقط من يقرر

مشاعره وقراراته ولم تترك لها نرجسيتها مجالاً لتعلم أنه

ليس ظاهره ووضعه المادي فقط ما تغيرا بل ومشاعره

نحوها أيضاً حتى تحول لشعور بغيض بالتملك أعماها عن

كل شيء فالمميز لها وحدها دائماً كما حدث حين رفضت

انتظاره قبل أعوام لتتزوج بمن هو أكثر مالاً منه ، وحين

خسر ذاك الزوج جزءاً كبيراً من ثروته لم تعد تراه كما

كان وأحالت حياته لجحيم بسبب رفضها للواقع الذي

صارت له لتجد فجأة حبها القديم أمامها كفارس أحلامها

الذي لم تجده يوماً وكل ما أخبرها به عقلها المريض

بالتملك وحب المال بأنه عاد فقط من أجلها .. ليؤكد لها ذلك

سعيه لطلاقها وقرار جلبهم للعيش معه ، ومع كل تلك

الأفكار الواهمة ورغم تزوجه من غيرها ورفضه الصريح

لها باتت ترى أن معركة استرداده من حقها وأمر مشروع

تماماً ، وأن تلك الغريبة هي الدخيلة بينهما ومن سلبتها

حقها وأحد ممتلكاتها .


ذبلت ابتسامتها ما أن أسدل جفنيه مبعداً نظره عنها للأسفل

وانخفض رأسه قليلاً لكنها وكالعادة لم تستسلم ولن تفعل

كما كانت قد قررت سلفاً فستكون زوجة له وتعود حبيبته

ومهما كلفها ذلك ، ارتسمت ابتسامة ذابلة على وجهها لا

تقارن البتة بسابقتها فلازالت تعزي قلبها بأنه يتجنبها لأنها

لم تكمل عدتها بعد كما قال سابقاً وانتقلت نظراتها بشغف

في ملامح وجهه التي لا يظهر لها منه سوى نصفه ، وحتى

الشعيرات البيضاء القليلة عند صدغيه لا تراها تزيده إلا

هيبة ورجولة فتنهدت نفساً عميقاً خرج من عمق شجونها

وكأنها تتعمد إيصاله له وتمنت أن ترجمته بكلمات وأن

لامست أصابعها المتلهفة وجهه وخصلات شعره الناعم

تمني نفسها بالكثير وبالوقت القليل لنيل كل ذلك ، وخرج

صوتها هادئاً وبكل ما استطاعت أن تضيف له من نعومة

طبيعية خالية من الدلال

" صباح الخير يا عمير "

وتابعت من فورها دون أن تنتظر تعليقه في ارتباك مخافة

أن يذكرها مجدداً بالحبل الذي التف حول عنقها حتى

بفراقها من ذاك الرجل وقالت تنظر للطبق الممتلئ بالخبز

تغطيه منشفة مطبخ بيضاء ناصعة طبعت عليها صوراً

جميلة لخبز فرنسي

" لن تختار الخروج من دون تذوق خبز والدتي الشهي
بالتأكيد "


وختمت جملتها تلك بضحكة صغيرة قصيرة ومنخفضة

ورفعت نظرها له بلهفة تنتظر تعليقاً منه لعلها تجذبه لأي

حديث معها وهو من تجنب ذلك بقسوة منذ عودته

والتقائهما مجدداً لكن سرعان ما عادت تلك الابتسامة

لمهدها تعاني الاحتضار قبل أن تموت وتدفن مع سابقتها

حين لم يبدر منه أي رد فعل ولا ابتسامة ولا حتى أن نظر

ناحيتها بينما أشغل نظره بمفاتيحه التي أخرجها وأعادها

لجيبه سريعاً وقد أصدر صوت اصطدامها ببعضها رنيناً

متداخلاً عبث بصمت المكان المتسع حولهما قبل أن يجتازها

وهو يهمس بالعبارة اليتيمة الوحيدة يشكرهما فيها ودون

أن يجعل حتى عبارة الشكر مخصصة لها فابتلعت غصتها

مع ريقها نظراتها المتأسية تتبعه تعزي نفسها ككل مرة

بأنه عقاب منه هي تستحقه ومستعدة لتحمله حتى يرضى

عنها ويعود عمير الذي عرفته وأحبها بشغف .

واختفى جسده الطويل عنها بسبب خطواته الواسعة وهو

ينزل السلالم مسرعاً واكتشفت حينها بأنها ليست وحدها

في المكان الذي تركها فيه ونظرت سريعاً ناحية التي باتت

تقف على مسافة قريبة منها والتي النظر لها فقط هكذا

والبيجامة المصنوعة من الحرير تحتضن جسدها المستدير

وشعرها البني الطويل الكثيف الناعم يغطي كامل ظهرها

والملامح التي جمعت بين صنوان والحالك لانتمائها لقبيلة

غزير تجعل نيران الغيرة تتقد في داخلها مُحرقة كل شيء

فهذه لا يمكن لرجل بكامل قواه العقلية مقاومتها وهي

زوجة له فكيف إن كان قارب الأربعين عاماً دون زواج !


لكن ما جعل البهجة تتسلل كالماء البارد تطفئ لهيب النار

في قلبها هو ما لمحته خلفها وكان الباب المفتوح للغرفة

المجاورة للتي خرج منها ذاك قبل قليل وأغلقه خلفه مما

يعني أنه لازال كل واحد منهما ينام في مكان ، فها هو

قاومها ولم يقترب منها كما هو جلي أمامها مما يعني أنه

ثمة سبب آخر لزواجه بها ، وكم تمنى قلبها المتقافز بين

أضلعها حينها أن تكون هي ذاك السبب وبأنه عتاب من نوع

آخر فقط يوجهه لها ، وإن كان غير ذلك فلا بأس المهم

ليس رغبة بها أو حباً لها .


أفكارها تلك جعلت الابتسامة تشع من وجهها وكأنها لم تكن

غائبة عنه تماماً قبل ثوانٍ معدودة والتي سرعان ما

اختلطت بسخرية أقرب للشماتة وهي تنظر لعينيها المحدقة

بها بتجهم خالطه الكثير من الاستغراب لازالت أثار قلة

النوم والبكاء الطويل يوم أمس تجهدهما وتحركت شفتاها

قائلة وهي تحضن طبق الخبز تحت ذراعها

" طلب عمير أن أتركه لك بعد أن أخذ واحداً معه
وهو يغادر"

وأتبعت كلماتها تلك بابتسامة ملتوية تخفي ضحكة وكأنها

توصل لها رسالة مفادها بأنها تسخر منها ولم تستطع تكهن

إن كانت استمعت لحديثها معه كاملاً أم وصلت متأخرة ؟

لكنها توقعت الأخيرة والحقيقية فعلاً وأنها لم تسمع سوى

آخر كلمات له فأضافت ما أضافته من مخيلتها لتكمل

رسالتها لها وقالت حين لم تعلق الواقفة أمامها بشيء كما

لم تتبدل نظراتها تلك

"إن كنتِ لا تفضلين خبز المنزل آخذه معي كي
لا يفسد هنا "

وكما توقعت فقد همست الواقفة أمامها وإن ببرود قاتل

" شكراً لك "

فاستدارت من فورها مبتسمة ابتسامة اختفت فور نزولها

وهي تهمس بكراهية وصوت لم يسمعه غيرها

" ما كنت لأتركه لك ولا أحرقت أصابعي من أجل
ريفية مثلك "


وتابعت نزولها ونظرات من تركتها في الأعلى تتبعها وهي

تدندن لحناً ما تلعب يدها الحرة بخصلات شعرها التي لا

يغطيها حجابها المنزلق للخلف طوال الوقت فشدت على

أسنانها بقوة وغضب منها ومن عجرفتها والكره الذي لا

تفهم تفسيراً له ناحيتها ! بل والأسوأ من كل ذلك تعدّيها

على خصوصيات غيرها فالطابق مكشوف بالكامل تقريباً

للسلالم الذي يتوسطه فتصعد وتنزل في أي وقت تريد ولا

تُعير لحرمة المكان بالاً وبأنه ثمة رجل وزوجته هنا وكأنها

تتعمد هذا متعذرة بخبزها مجدداً !!

اتسعت عيناها بذهول حين لاحت تلك الفكرة في رأسها ..

فهل تفعل كل هذا لتصعد لابن خالها !

هي باتت مطلقة من فترة قريبة فهل تسعى خلفه !

حركت رأسها بقوة ولم تفهم هي نفسها تكذيباً لأفكارها

أم نفياً لها ؟

وتأففت مستغفره الله وهي تستدير لتعود من حيث جاءت

فلن تتهم وترمي محصنة وإن بأفكارها فقط ودون دليل

لتُحاسب على ذلك .
وقفت مكانها تنظر بغضب موبخة نفسها لباب الغرفة الذي

تركته مفتوحاً بعد خروجها ولا تعلم انتبهت له تلك المرأة

أم لا والمؤكد فعلت .

توجهت نحوه بخطوات غاضبة وضربت بابه بقوة وهي

تشده نحوها لتغلقه وتوجهت نحو باب غرفته فعليها أن

تكون هناك وقت تغيبه الطويل تحسباً لأي زيارة أخرى

مستقبلاً لساكني الطابق السفلي والذي يبدو أنه سيتكرر

دائماً .

أغلقت الباب بهدوء بينما نظراتها تتجول في المكان الذي

وكأن من خرج منه منذ قليل لم يكن موجوداً فيه !

فكل شيء مرتب مكانه حتى ملابسه التي نزعها

لا وجود لها !

اتكأت بظهرها على الباب خلفها تدس يديها للخلف بينه

وبين جسدها واتكأت برأسها عليه ترفعه للأعلى ولمعت

عيناها ببريق حزين تتأسف على كل تلك الأيام والسنوات

التي حلمت فيها وكأي فتاة بأن تكون عروساً وأن تُزف

للرجل الذي تحب وأحبته كل عمرها فكم كانت مغفلة وطفلة

في ثوب امرأة ودفعت غالياً ثمن كل تلك الأحلام التي جعلتها

تتهور درجة أن ترتبط برجل آخر وتسرقه من سعادته

وحبيبته لتحقيقها وماذا كانت النتيجة ؟

أضاعت عمرها وعمر حبيبة رماح معها وحطمت قلبها

وقلبيهما معها .


لكنها لا ولن تتمنى أو تتخيل لو أن ذاك الرجل زوجها

الآن .. ليس فقط وفاءً لرجل هي زوجته لن تخونه ولا

بأفكارها ومهما كان سبب ونتيجة زواجها به بل لأنه كان

سيخذلها ويبيعها من أجل أخرى كما ظهر على حقيقته

وتحول بسبب مال رماح الذي سرقه لزير نساء مدمن

خمور ولكانت حياتها معه ستتبدل لجحيم .


مسحت عيناها والدمعة التي لم تفارقهما تستغفر الله هامسة

وتحركت من مكانها ووجهتها السرير الذي جلست عليه

ببطء وكأنها تخشى أن تترك أثراً عليه يجده من بعدها أو

أن تَعلق رائحتها بقماش لحافه الأحمر الغامق الفاخر

والذي تشبع برائحة عطره القوي ولن تؤثر به بقايا

عطرها مهما كان فاخراً .

اتكأت بظهرها على ظهر السرير الخشبي واستدار رأسها

كما نظرها ناحية النافذة الكبيرة التي كانت تحتل نصف

الجدار عرضاً وهامت نظراتها الحزينة في السماء الزرقاء

الصافية وتنهدت نفساً عميقاً فلا شيء تفعله هنا سوى

التحديق بها ليمر يومها بطيئاً كئيبا وبائساً يشبهها .


*
*
*

نظر لباب الغرفة للحظات واقفاً مكانه وحيث تركته

الممرضة التي أخبرته عن مكان المدعوة فجر لا يعلم خوفاً

من انجلاء الحقيقة أكثر أمامه أم هرباً منها !

وهذا ما لا يفهمه رغم إصراره على مقابلتها واقتناعه

التام بما ينوي فعله ولن يترك نفسه كريشة تحملها الريح

وتقذفها حيث تشاء وفي كل حين يصارعه عقله بأفكار

تتجدد كل لحظة وتتقاذفه كمركب وحيد في عرض البحر

بدون شراع ولا وجهة .. فإن كان بعيداً عنها وتذكر كل ما

حدث وسمعه بنفسه تأكد من كل شكوكه الجلية أمامه

كوضوح الشمس وما أن يرجع لمنزله ويراها أمامه حتى

تعود الأفكار لصراعها القاتل في رأسه ويتذكر كل ما رآه

وعلمه عنها منذ أصبحت زوجته وتعيش معه فبات يكره

البقاء خارج المنزل وهروبه المتعمد منه كما العودة له

مجدداً لذلك عليه أن يفهم كل شيء من الموجودة في تلك

الغرفة هناك يفصله عنها بضع خطوات فقط ليرتاح عقله
كما قلبه .

وبالرغم من أن حديثها كان واضحاً وسمعه بنفسه لكن

عليه أن يفهم ويعلم ويقتل الشك باليقين ولن يسمح بأن

تكذب عليه مجدداً ويريد الحقيقة فقط وسيجبرها على قولها

ولن يسمح لغبائه وطيب خلقه أن يجعلاه فرسية لها
مجدداً .


تحركت خطواته أخيراً حيث المكان الذي لم تفارقه نظراته

المليئة بالإصرار وإن كان لازال يقاوم ذاك الشعور الغريب

الذي يقول له تراجع وغادر وكن تائهاً بين أفكارك

المتناقضة أفضل خياراً من أن تصل للحقيقة البشعة التي

أنت هنا على أمل تكذيبها واختفائها ، شعور رغم ضعفه

أمام عزيمته إلا أنه موجود ولازال لا يفهم تفسيره !


توقف بعد الخطوات القلية التي تحركها ببطء ما أن رن

هاتفه في جيب بنطلونه وأخرجه منه ونظر للمتصل وفتح

الخط ووضعه على اذنه ونظره على ذاك الباب البعيد عنه

بعض الشيء وقال وهو يتنحى جانباً حيث جدار الممر

بسبب الذي مر بجانبه مسرعاً يتحدث في هاتفه وقال

" مرحباً يا أويس "

وصله صوته سريعاً

" مرحباً يمان أين أنت الآن ؟ "

دخل شخصان آخران وكثُر الحديث في الممر ولم يعد

يستطيع سماعه جيداً فغادر المستشفى القروي الصغير

لخارجه ووقف بجانب الباب الخارجي وقال

" في أباجير هل غادرت أنت ؟ "

وصله صوته سريعاً

" لا .. وكنت أريد التحدث معك في أمر مهم قبل مغادرتي "

قال بتوجس

" هل ثمة مشكلة ما ! "

" لا .. لا تقلق كنت أريد فقط التحدث معك بشأن المنزل "

شردت نظراته للفراغ بصدمة وتذكر ما حدث مؤخراً

وإيجاده لمايرين في إحدى مزارع غيلوان وكل ما قاله حين

وجدها لازالت في منزله وفكر سريعاً في شقيقيه وأين

سيذهب بهما إن فكر في أن يخيّره بينها وبين البقاء في

منزله أو يطلب منه المغادرة دون تفسير وقال بتوجس

" لا تقل بأنك تريد أن نغادر منزلك "

وانتظر بقلب وجل كلمات الذي قال من فوره

" لا بالطبع .. فأنت مستأجر عندي وأفضل من شخص غيرك لا أعرفه "

شعر بكم هائل من الارتياح يغمره حتى خرج في تنهيدة

طويلة وكأن الهواء كان مسجوناً في رئتيه لأعوام وقال

" لكني أدفع ما يعادل نصف الإيجار في العادة "

" أنا من طلب هذا وليس أنت ولا تظن أني لا أعلم انك

تتأخر ساعة في المزرعة يومياً ليست من ضمن ساعات

عملك تعمل فيها وحيداً لتسدد ثمن باقي إيجار المنزل دون

أن أعلم أنا "

همس بذهول

" من أخبرك بهذا ! "

وصله صوته مباشرة

" لا يهم من أخبرني المهم أني علمت "

هام بنظرة للبناء الذي بدأ يرتفع تدريجياً هناك وهو

المستشفى الجديد والحديث الذي يتم بناؤه وقال

بهدوء حزين

" لا يمكنني أن أعيش في منزلك بنصف ثمن الإيجار وغيري كان سيعطيك أكثر "


وصله صوته المتضايق سريعاً

" لكني كنت ولازلت راضٍ يا رجل ، ثم أنت لم تخبرني بعملك لساعات إضافية لسداد باقي المبلغ ! "


نزل نظره للأرض وهمس بجمود

" كنت أنا أعلم وهذا يكفيني "

تمتم ذاك ببرود

" ما أغرب تفكيرك يا رجل ! "


تنهد نفساً عميقاً وقال

" أنا هكذا ولا يمكن أن أكون مرتاحاً فهل أجلب لنفسي أسباب تعبها ؟ "


" لن أجبرك على مالا تريد لكن لتعلم فقط أني لست راضٍ ولك دين عندي "

حرك رأسه برفض وكأنه يكتفي بإسماع الجواب لنفسه فقط

وقال يغير مجرى الحديث

" ما الذي كنت تريده بشأن المنزل ؟ "

" لا يمكننا التحدث في الهاتف "

قال ونظره ينتقل لباب المشفى بجانبه يفكر فيما هو هنا
من أجله

" هل يمكنك انتظاري لبعض الوقت ؟ "

" حسناً ولا تتأخر كثيراً عليا الوصول لحوران قبل الواحدة ظهراً "


همس بحسناً وهو ينظر باستغراب للذين دخلا مسرعان

يتحدثان معاً بانفعال وكأنهما يحدثان شخص ثالث وليس

بعضهما فلا يبدو أن الحركة هنا طبيعية !

وتأكدت شكوكه حين خرجا مجدداً ومعهما شخص ثالث

ونظراته تزداد استغراباً بسبب وقوفهما أمامه وقد
قال أحدهما

" هل السيارة المتوقفة هنا لك ؟ "

واشار حيث سيارته المركونة على مقربة من المكان فنقل

يمان نظره بينهم بصمت لبرهة يرى في ملامحهم جميعاً

توتراً لم يفهمه وقال بتردد

" نعم إنها لي "


قال الواقف على يمينه وبكلمات سريعة

" ثمة من علينا نقله لإحليل بسرعة "

نظر له بصمت لبرهة وكأنه يستوعب ما قال قبل أن ينظر

حوله يبحث عن سيارة الإسعاف الوحيدة في تلك البلدة

وقال باستغراب

" وأين هو ! "

قال الذي شده من ذراعه وسحبه معه

" لازال مرمياً مكانه فبسرعة رجاءً "


سار معهم وإن كان لا يفهم شيئاً ! يعلم أن أهل هذه القرية

أغلبهم لا يملكون سيارات جديدة يمكنها اجتياز تلك الطريق

الوعرة للوصول لإحليل وهي المدينة الأقرب التي تحوي

مستشفى حقيقي وذاك ما جعل سيارة الإسعاف الوحيدة

والمخصصة لهذه القرية تصل للحالة المزرية التي وصلت

لها بسبب نقل بعض الحالات إلى هناك ، لكن لما لم يتم

نقله إلا هنا بسيارة أخرى أولاً !


وقف أمام باب سيارته ولم يفتحه فعليه أن يفهم أولاً ولن

يسمح لطيبة قلبه أن تجعله فريسة لأحد مجدداً لتُوقعه في

مشكلات يكون هو السبب فيها ، لكنه لم يستطع أيضاً قول

أي شيء وهو ينظر لهم وينتظرهم وكل واحد يقول للآخر

اذهب أنت حتى استسلم أحدهم حين قال له الآخر

" أنت المسؤول عن مستشفى القريبة هنا ووجودك سيكون سليماً وهو الأفضل "


فعلم حينها بأن الأمر حقيقي لكن ّ الغموض لازال يلتف حول

أمرهم فقال باستغراب ينقل نظره بينهم

" ولما لم يتم نقله إلى هنا وفحصه أولا ً ؟ "

وتابعهم بنظره وهم ينقلون نظراتهم بين بعضهم حتى

امتدت يد المسؤول عن المستشفى لباب السيارة

وفتحه قائلاً

" سنتحدث عن كل هذا فلنسرع الآن قبل أن يموت .. هذا إن كان لازال حياً "

لكنه لم يفتح بابه ولم ينصع له بل قال بإصرار

" لن أتحرك من هنا ولن تتحرك السيارة أيضاً حتى أفهم "

وتابع بضيق حين لم يعلق أحد منهم

" لما تتركون مصاباً يموت ولا ينقله أحد إلى هنا ؟ "

" لأنه نوح غيلوان "

نطق أحدهم اخيراً ورحمه ورحمهم فنظر له بدهشة وهمس
" غيلوان !! "

قال مدير المشفى باستياء يشير بيده بعيداً

" أجل وثمة من ضربه بحجر على رأسه وفر هارباً "

حدق فيه بصدمة وصمت لبرهة وقبل أن ينطق باستغراب

" وما يمنع نقله إلى هنا ؟! "

قال أحد الواقفين جانباً

" لقد أسعفناه ولا فائدة من نقله سوى لإحليل "

نقل نظره بينهم لازال لم يستوعب أعذارهم تلك وقال مجدداً

وبضيق ونفاذ صبر

" لا أفهم لما يتم إسعافه إلى هناك وليس إلى هنا أولاً ! "


تأفف الواقف أمام باب السيارة المفتوح وقال بنفاذ

صبر واستياء

" إنه قريب من هنا بسرعة لنأخذه فالإصابة بليغة وكثرة
نقله وفحصه قد تؤذيه ولن ننجو من أشقاءه قبل قبيلته
حينها "


لم يكن مقتنعاً بأغلب ما قيل وسمع ولا أن يُسعف أحداً من

تلك العائلة بجرائمهم التي يفعلونها لكنه لا يستطيع أيضاً

ترك شخص يموت وهو يستطيع إنقاذه وأيّا كان .

فتح باب سيارته وجلس في كرسيه فركب الآخر من فوره

وأغلق بابه وتحركت سيارته بسرعة وهو يصف له أين

يتجه وكان المكان بالفعل قريباً من هناك وهو يشير

له أمامهم

" ها هو هناك "

فنظر باستغراب وسيارته تخف سرعتها تدريجياً للجسد

الملقى أرضاً بدأ يظهر له بوضوح شيئاً فشيئاً ملقى فوق

الأرض الرطبة وحيداً لا أحد حوله سوى سيارته المتوقفة

على مبعدة منه ونزل من السيارة ما أن أوقفها يتبع الذي

نزل مسرعاً وقد اتجه نحوه وجثا أمامه على ركبتيه

يتفحص نبض أوردة نحره بينما وقف هو فوقه ينظر

للمرمي أرضاً الدماء تحت رأسه تحولت لبقعة كبيرة

تشربها التراب وقميص ما ملفوف حول رأسه بقوة ويبدو

لإيقاف النزيف ، وكان هو بالفعل نوح غيلوان لازال يذكر

ملامحه وإن لم يكن رآه إلا لمرات محدودة جداً .


انتقل نظره للذي نظر له فوقه وقال

" هيا ساعدني بنقله للسيارة "

وعاد وانحنى نحوه يمسكه من ذراعه ويحاول رفعه منها

فاستدار حوله بخطوات واسعة وأمسك بذراعه الآخر ورفعا

جسده معاً فسقط رأسه بين كتفيه وقاما بجره نحو السيارة

قدماه وساقاه على الأرض بينما ارتفع نصف جسده العلوي

معهما وبصعوبة استطاعا وضعه على كرسي السيارة

بسبب ضخامة جسده وهما اثنان فقط وأغلق ذاك الباب كي

يثبته به ونظر حينها ناحية يمان وقال يتنفس بصعوبة

بسبب المجهود الذي بذله

" عليك أخذه بأقصى سرعة ممكنة "

حدق فيه باستغراب وقال

" ألن تأتي معنا ! "



وراقبته نظراته المستفهمة وهو ينظر حوله حيث لم تكون

المرة الأولى التي تمسح فيها نظراته المكان حولهما وقال

ما أن عاد بنظره له

" السيارة لن تسع لثلاثتنا .. وهي هكذا أقل وزناً "

قال ببرود وهو يشير لها برأسه

" أنت تراها بنفسك يمكنها حمل أكثر من هذا بكثير وعجلاتها جديدة فلما ترفض الذهاب معه ! "

" معه ! "

همس ذاك باستغراب يحدق به فقال يمان بجدية

" أجل معه فأنا لست غبياً لهذا الحد كي لا أفهم ما يجري هنا فلا أحد بجانبه ولا أحد قام بنقله لأنهم يخافون أن تلتصق التهمة بهم وأنت مثلهم تماماً لذلك وجدتم هذا الغريب عن بلدتكم فرصة مواتية "

انفعل ذاك فجأة وصرخ

" بل ما قلته صحيحاً ولا جدوى من نقله للمشفى "

مد له مفتاح سيارته قائلاً

" خذه إذاً ثم أعد لي المفتاح "

وتيقن حينها من شكوكه رغم يقينه أساساً بسبب ارتباكه

الواضح وهو يقول برفض

" لا أنا لا آخذ سيارة ليست لي وقد يحدث لها أي مكروه
في الطريق "

قال بإصرار ولازال يمد له يده والمفتاح فيها

" وأنا متنازل عن حقي إن أصابها أي ضرر "

فظهرت نواياه الحقيقية حينها وتراجع للوراء خطوتين

ورفع يديه قائلاً

" الرجل في سيارتك وتأخره قد يكون فيه هلاكه فإن كنت لا
تريد نقله فارمه منها للأرض وغادر "

وأنهى كلماته تلك وغادر من هناك بخطوات مسرعة لم

يلتفت ولا لندائه الغاضب صارخاً بعنف

" لا أصدق أنكم جبناء هكذا تخيفكم عائلة أو حتى قبيلة؟ "


وتابع بصراخ أكبر ما أن تابع ذاك طريقه دون اهتمام

لما يقول

" لما تبحثون عمن ينقذه إذاً بما أنكم أجبن من
مواجهتهم بحقيقة من فعل هذا أم تخشون عقاباً جماعياً
أيضاً ؟ "

لكن الذي بدأ يبتعد عنه لم يجب ولم يتوقف يسير بسرعة

نافضاً يديه فهمس من بين أسنانه ونظره لازال يراقبه

" يالكم من مثيري للشفقة "

وتحرك باتجاه سيارته ووقف جهة النافذة التي يتكئ عليها

من الداخل الرأس الملفوف بالقميص الأبيض الملطخ

بالدماء وهو يتذكر كلمات ذاك الرجل بأن يتركه هنا أيضاً

ويغادر ، لكنه لا يستطيع وهو يراه أمامه لا حول له ولا

قوة .. لا قبيلة ولا مال وجاه نفعاه وهو هكذا تهرب الناس

حتى من مساعدته خوفاً من التورط في دمه إن هو مات ولم

يفتح عينيه ليقول اسم الفاعل ، لكن الحقيقة القاسية أنه لا

يمكنه فعلها مهما كان ما فعله هذا الشخص وسمع عنه لا

تسمح له إنسانيته مهما كانت العواقب ولن يرتاح ضميره

لتركه يموت وهو بإمكانه مساعدته ، ولن يستغرب أن

يورطوه بالفعل حينها ويشهدون متفقين بأنه من فعلها وفر

هارباً فلن يستطيع محو آثار عجلات سيارته في الأرض

الرطبة ولكل هذه المسافة ومهما فعل وحاول .

همس مستغفراً الله وتحرك حول السيارة وركبها ونظر أولاً

للجسد الذي لا يعلم صاحبه شيئاً من حوله وكم كره أن

يكون هكذا تخشى الناس حتى مساعدته يخافون عقاب

أخوته وشرهم الذي يسبق القانون لتتحول حياة الفاعل

لجحيم يمتد معه ما بقي له من حياة وعائلته معه أيضاً

فالقوة مع الظلم لا تخلف إلا ضعفاً حين تكون في أمس

الحاجة لدعم البسطاء لك فيتخلون عنك إما كرهاً لك أو

خوفاً منك .. فإن كان عامل من عمالهم لم يتجرأ أن ينقله

أحد للمستشفى وتركوه ليموت ببطء خوفاً من غضبهم

لتعديهم على أراضيهم وعُمّالهم فكيف بفرد منهم قد تصبح

متهماً بقتله ؟ .

أدار مفتاح سيارته وعلا صوت محركها القوي في هدوء

المكان الذي لم يعد أحد ولا يعبر من خلاله وهم يعلمون

وجوده فيه وهمس وهو يدير المقود ليغادر في الاتجاه

الذي جاء منه

" حتى وإن قُتلت متهماً بدمه فسأكون أكثر ارتياحاً من أن لا أنام بسبب تأنيب الضمير "


*
*
*

رتبت خصلات شعرها الشقراء خلف كتفيها والتي سرحتها

بلفافات متموجة استعداداً لأمر لم تكن تتوقع أن تكون فيه

تثبتها بعيداً عن وجهها بمشبك كريستالي أنيق وتجعدت

ملامحها تنظر لعينيها ولمقلتيها الزرقاء حيث انعكاسها في

المرآة أمامها .

تكره هذه اللحظات التي تعلن فيها هزيمتها واستسلامها

أمام والدتها وما أكثر ما بات يحدث هذا مؤخراً للأسف

وأصبحت شيئاً فشيئاً تنقاد وهذا أكثر ما تكرهه في غيرها

فكيف بنفسها ؟

سرق نظرها الصوت المنبعث من هاتفها المرمي فوق

ملاءة السرير المشدودة فوقه بنعومة تشبه تفاصيلها

وتوجهت نحوه ورفعته تنظر للإسم على شاشته قبل أن

تتنهد بعبوس ووضعته على أذنها هامسة بقلة حيلة

" لا أمل يا كاتي عليكم الذهاب من دوني "

وصلها الصوت الانجليزي العذب الحزين سريعاً

" لا يمكن هذا ساندي الرحلة من دونك ستكون
سيئة للغاية "


تمتمت بعبوس

" هذه ليست المرة الأولى "

قالت تلك من فورها وببرود

" ليس والأستاذ سبينستر موجود بالطبع "

أمسكت خصرها النحيل بيدها الحرة قائلة بضيق

" ما معنى هذا !"


وصلها الصوت الباسم سريعاً

" تعلمين كما الجميع بأنه لا شيء يجعله يغضب ويكمل

باقي الرحلة جالساً في الحافلة سواك "


تأففت قائلة بضيق

" عليكم أن تجدو إذاً مصدر ازعاج آخر يخلصكم من

عجرفته فوالدتي أعلنت رفضها الذي لا نقاش فيه وقد

قمتُ بإبلاغ المنظمة واعتذرت أمامها ولا تراجع "


" ماذا عن والدك "

تقوس كتفاها قبل شفتيها هامسة بإحباط

" والدي رافض أيضاً "

وصلها صوتها بنبرة باردة

" لكننا سنرجع قبل منتصف الليل "


لوحت بيدها قائلة بضيق من تلميحها الواضح

" أنا أعلم بهذا .. وليس لأنه لديا والد يقلق بشأن ابنته
الوحيدة يكون متزمتاً "


قالت التي علمت بأنها تمادت قليلاً

" لم أقصد أن أزعجك ساندي ما بك ! "


لوت شفتيها وتمتمت بلهجة تهديد

" ظننت فقط "


وصلها صوتها المحبط

" لا أمل إذاً "


تمتمت بعبوس

" أجل "

قالت التي اقتنعت بالأمر الواقع كما يبدو

" الجميع يريدك معنا لكن لا بأس هي لن تكون
الأخيرة بالتأكيد "

اتكأت بظهرها على الخزانة خلفها وقالت مبتسمة

" بالتأكيد وقبّلي لي سباركي كثيراً "

خرج لها صوتها المتقزز سريعاً

" تتصورين بالفعل أني سأقبّل كلباً مشرداً من أجلك ؟ "

امسكت وسطها بيدها قائلة

" نعم .. ولما لا تفعلينها؟ لما تكونين في منظمة إغاثة إذاً "

قالت تلك سريعاً وقبل ان تغلق الخط

" في رحلتنا القادمة لأكسفورد قبّلية بنفسك حتى تبتلعيه ...
وداعاً "

نظرت للهاتف في يدها وتمتمت من بين أسنانها

" صعلوكة "

ورمته مكانه السابق وانحنت لساقيها تعدل صندلها ذو

الكعبين العاليين قبل أن تقف تبعد خصلات شعرها المموجة

للخلف مكانها السابق ونظرت لنفسها للمرة الأخيرة
في المرآة .


كان فستانها بلون الشمندر بأكمام طويلة وصلت لنهاية

رسغيها وياقة مربعة الشكل ويضيق حول خصرها النحيل

بينما يتسع في الأسفل وصولا لكعبيها وهي وصايا والدتها

المتكررة اليوم وبتهديد حازم

( فستان طويل محتشم ساندي مفهوم )

لوت شفتيها بسبب تذكرها لها وكأنها الآن .. ومنذ متى

كانت ترتدي غير ذلك !

لكن هذه المرة حتى البنطلونات ممنوعة بسبب الزائر الذي

سيتناول العشاء معهم اليوم وتراه سبق موعده بكثير

فبالكاد حل الظلام منذ قليل ! .


أهدت نفسها وصورتها الجميلة قبلة مبتسمة قبل أن تغادر

غرفتها فعليها أن تُقنع نفسها بهذا ولا تفكر في رحلة

المنظمة كي لا تقضي يومها عابسة ، وهذا جل ما تكرهه

أن تحزن وتغتم من أجل أي أمر كان وبما أن رحلة أدغال

كايلي تأجلت ولم تخسرها فالباقي يمكن تعويضه .


سارت خلال الرواق الفاصل بين غرفتها وردهة المنزل تعد

بأصابعها وتكرر تنبيهات والدتها وكأنها تذكر نفسها بها

تقلد صوتها وتحرك مقلتاها حركة بندول بطيء

( لا تمسكي شعرك ساندي مفهوم )

( لا ترتدي بنطالاً أو فستاناً قصيراً )

( لا تضحكي بصوت مرتفع )

( لا تمضغي الطعام وفمك مفتوح )

( لا تتفوهي بالحماقات كعادتك )

وقفت مكانها وكررت آخر عبارة تضرب سبابتها بالأخرى

( حماقات حماقات ممنوع ساندي مفهوم ؟ )

ولوت شفتيها وفردت يدها هامسة بضيق من بين أسناها

( هل كل الدرر التي أقولها حماقات ! لما يعشق الجميع
الكذب الذي يسمونه مجاملات ! )

رمت خصلات شعرها المموج خلف كتفيها وحركتهما

بلامبالاة مبتسمة وتمتمت تتابع طريقها

" الأميرة ساندي لا يخرج من شفتيها إلا الدرر "

هي تعلم جيداً سبب تعليمات والدتها الصارمة وهو السيد

غاستوني ميديشي ضيفهم اليوم والموجود على العشاء

والذي يزورهم لأول مرة بعد انتقاله لإنجلترا فقد جلبه

عمل ابنه الجديد في نورثود بعد وفاة والدته وانتقاله

من المكسيك للعيش مع والده قبل عامين .


ما تعلمه عنه بأنه كان ضابطاً مهماً في البحرية الملكية

البريطانية وخاض حروباً عدة في الماضي ، وليس هذا

السبب فقط بل لأنه عاش وتربى في عائلة ارستقراطية في

تلك الحقبة فوالدته كانت من النبلاء تزوجها والده والذي

كان من الطبقة البرجوازية التي استولت على التجارة حتى

أصبحت والطبقة الأرستقراطية سواء وإن انتهت تلك الحقبة

أو تقلصت كثيراً لتنحصر بالعائلة الملكية فقط إلا أن والدتها

يبدو لها وجهة نظر مختلفة وتعلم أن ذاك العجوز لن ينسى

ما تربى وشب عليه بسهولة .


ضحكت بصمت تحمد الله أن والدتها لا ترى في ابنه عريساً

مناسباً لها لكانت ستصدأ فكاها من الصمت لأنها لا تملك

من الكلمات اللبقة إلا القليل .

تمسكت ملامحها بالابتسامة الواسعة حيث كانت حينها قد

أصبحت في بهو المنزل وحيث الصالون الواسع الذي

يتوسطه ووقع نظرها فوراً على الجالس فوق الكرسي

الفردي بلباسه الرسمي والقبعة السوداء يمد ذراعه للأمام

حيث كانت تستند راحة يده على الرأس الفضي لعصاه

السوداء اللامعة بملامح جادة هادئة ذات الوقت لا تستطيع

شرحها ولا تفسيرها ولا حتى فهمها تشبه تلك التي ترتسم

على وجوه أسلافه في الصور الخالدة لهم .. وشارباه

معقوفان عند نهايتهما المدببة رغم قصرهما تُكمل الصورة

بشكل نهائي .. هو فعلاً رجل من قائمة النبلاء قفز من

إحدى اللوحات وجلس لديهم هنا ! حتى طريقة جلوسه

استقامة ظهره وشموخ رأسه بل وملامحه بالرغم من أنه

تجاوز السبعين عاما على ما يبدو تحاكي جذوره العريقة

والثراء الذي عاش فيه كما الثروة التي ورثها منهم

وانغرست في طباعه للأبد ولولا خوفها من والدتها كانت

ستستقبله استقبالاً مميزاً .


ضحكت في سرها واقتربت منه ما أن انتبه الجميع لوجودها

ووقفت قريباً منه مبتسمة ورفعت طرفي فستانها بينما ثنت

ساقها ونزلت بجسدها قليلاً قائلة بضحكة صغيرة

" تشرفت بمعرفتك سيدي "

وكان رد فعل المقابل لها ابتسامة لطيفة وهو يشير برأسه

وكما توقعت تماماً لم يمد يده لمصافحتها كما لم يقف أيضاً

وكما هم أسلافه الذين ولد بينهم وتربى معهم ولا تستغرب

الآن أن اختار فيلا في ريف لندن للعيش فيها بدلاً من

المدينة ذاتها فيبدو أنه يكره أن ينسلخ عن عالمه القديم .


انتبهت حينها فقط للذي كان يجلس على الأريكة قريباً من

والده ومن كانت تعتقد بأنه لن يكون معه اليوم خاصة أن

والداها استبعدا قدومه لانشغاله الدائم حيث اختار أن يكون

كوالده ضابطاً في البحرية أو كما تجزم أن والده من

سيكون اختار له هذا ونظرت له مبتسمة وهو يقف ويمد

يده لها عكس والده وما أن صافحته حتى رفع يدها لشفتيه

وقبلها وقال مبتسما

" سررت برؤيتك سينيورا "


فضحكت وحضنت يديها قائلة

" يبدو أن الدماء الإيطالية لم تجف منك بشكل نهائي "

وبينما كان رد فعل الواقف أمامها ضحكة عالية مع ارتفاع

رأسه وذقنه البارز تيبست ضحكتها هي حين وصلها صوت

حمحمة ما من خلفها وتدرك مصدرها بالتأكيد وهي والدتها

فما قالته سيُعد إهانة للرجل الارستقراطي إن هو أراد

فهمها كذلك فرمقته بطرف عينيها وكان لحسن حظها

منشغل في الحديث مع والدها والجالس على يمينه فاتخذت

من الكرسي المجاور لابنه في الطرف الآخر للأريكة التي

يجلس عليها مكانا لها ونظرت ناحيته ما أن قال مبتسما

" المعذرة منك فلم نستطع أن نكون في حفل
الزفاف لانشغالي "


تشنجت ابتسامتها تتخيل أن يكون والده هناك وأي انطباع

سيحمله عنها حينها تحت قبعته قبل أن يغادر وقالت بأدب

" لا داعي للإعتذار فجميعنا نعلم أنه ثمة سبب مهم
منع حضوركم "


كان للابن ملامح تشبه والده بل تحاكي جذوره الإيطالية

البشرة المائلة قليلاً للحنطية والشعر الأسود اللامع كما

الأنف المستقيم .. الوجنتان الصلبتان تغطيهما شعيرات

لحية مشذبة بعناية وعينان سوداء وحاجبان كثان بطريقة

رجولية أنيقة كما له جسد أطول من شقيقها كين .


نظرت حيث شد انتباه الجميع الحديث بين والدها ووالده أو

إن صح التعبير هو حديث أحادي الجانب حيث كان والدها

يستمع فقط تقريباً سوى من كلمات بسيطة متفرقة وضيفه

يحكي له عن مغامراته في الحروب أيام البحرية ولم تستطع

تمالك نفسها وهي ترى ملامحه ومحاولته للانسجام وفهم

ما يتحدث عنه وها هو أخيراً فيلسوف ما يجعل والدها

يصمت عاجزاً .. وأمسكت ضحكتها بيدها تثبت مرفقها

بطرف الكرسي لكن الشخص الأقرب لها انتبه سريعاً ونظر

ناحيتها وخشيت أن يكون فهم أنها تضحك من حديث والده

بالرغم من أن ابتسامته لم تثبت شكوها ورغم ذلك قالت

تشرح الموقف وبصوت منخفض لم يسمعه سواه بينما

نظرها على والدها تشعر بتصلب فكيه الذي تخيلت

نفسها فيه

" والدي الآن يتمنى لو قضى ليلة البارحة يقرأ جميع

الكتب التي تتحدث عن الحروب التي خاضتها البحرية
الملكية ومنذ القرن الرابع عشر "

ولم تستطع منع نفسها من مشاركته الضحك وقد نظر البقية

نحوهما فقال مبتسماً ومغيراً مجرى الحديث ومنقذاً

لمضيفهم بالدرجة الأولى فهو يعرف والده جيداً
" ما هي أخبار ماري ؟ "


وتابع ينقل نظره بين الحارثة وزوجته

" لم نراها حتى الآن ولم تتصل وحين سألت تيم عنها في
منزل الاميرال قال بأنها منشغلة مع دراستها "


تبادل كلاهما نظرات صامتة وما أن وقع نظر ايميليا على

ابنتها والتي كما توقعت كانت ستتحدث حينها قالت تسبقها

ونظراتها تنبهها لأن تهتم لما تقول

" جيدة وتزورنا من فترة لأخرى وهي منشغلة بالفعل
مع الدراسة "


تحدث غاستوني حينها قائلاً ببرود

" لما لم تفكر في زيارتنا ونحن عائلتها ؟
انتظرت أن تتصرف بلباقة بعض الشيء "


ابتسمت ايميليا وهي تنظر له وقالت

" مؤكد هي تخطط لذلك إنها فتاة رائعة وحسنة التعامل لن
تغفل عن هذا إلا لسبب قوي بالتأكيد "


لكنه تجاهل كل ما قالت كما يبدو وهو يتابع وبضيق

هذه المرة

" ثم لا أفهم كيف يستلم ابن خالتها الوصاية ؟ أنا لم

يعجبني ذاك الشاب منذ التقيته قبل عامين لا يحترم أحداً

وجدته اليونانية تلك أفسدت تربيته ومنذ صغره "


تبادل الثلاثة نظرات صامتة بينما قال ابنه هذه المرة

ناظراً له

" نحن لم نكن هناك أبي وماري والدها من اختار ذلك "


كان الحديث بالتبادل بين الأب وابنه بينما لاذ البقية بالصمت

وإن كان اختيارياً للبعض وإجبارياً للبعض الآخر أو للتي

كانت عيناها تنطق نيابة عنها ولا يوقفها سوى تهديد

والدتها ونظراتها المصوبة ناحيتها خصوصاً وأن تيم في

الموضوع ومن يفترض أنه وحسب الأدوار التي يلعبها

الجميع هو ابن خالتها .. الشقيقات الثلاث والتي تزوجت كل

واحدة منهن برجل من بلاد مختلفة فبينما تزوجت والدتها

رجل انجليزي وأنجبت شقيقها كين تزوجت والدة ماري

بإيطالي ووالدة تيموثي بيوناني وتوفي الفتى الصغير خلال

رحلته مع والديه وغرق السفينة التي كانت تبحر بهم ناحية

بحر المكسيك وتوفيت ماري قبل أقل من عام في ظروف

غامضة توصلت الشرطة مع الأدلة الموجودة أنها انتحرت

وألقت بنفسها من أعلى الجرف الصخري للبحر وأخذت

ماريه مكانها حينما تم جلبها إلى هنا بينما تيم كان اليوناني

الأصل الانجليزي الجنسية .. وبهذا عليها الاعتراف به

كجزء من عائلتها العربية في الخفاء والانجليزية في العلن

واحترامه أمام الجميع وفي جميع حالاتها كعربية

وكأنجليزية وهي التي يستفزها وجوده أو التحدث عنه

أمامها بسبب عجرفته وتعاليه كما ترى وتَعامله السيء

المجحف مع والدها الذي حاول ولسنوات عدة أن يقنعه به

كقريب له وأن يجد حلاً للفجوة الواسعة بينه وبين والده

لكنه كان يتعامل معه بلامبالاة وقلة تهذيب في كل مرة

حتى نمت وتعاظمت مشاعر الكره ناحيته ورغماً عنها .


نظرت للذي قال مجدداً وبذات ضيقه فيبدو لم ينتهي بعد

" كان يمكنه إعلامنا فأنا لم أوافق أبداً أن تتربى ابنتنا
لدى تلك العائلة "

لاذ فاليريو بالصمت محرجاً من كلام والده والذي يبدو فهم

فوراً السبب من تغير وجه ابنه وخفضه لنظراته فنظر

باتجاه مضيفته وقال بنبرة اعتذار

" لم أقصد إهانة شقيقتك ولا عائلتها لكنك تعلمين جيداً
ما حدث وأنتِ خارجه بالتأكيد "


فكان ردها أن أسدلت جفنيها تنظر للأسفل وقالت بأدب

خالطه الكثير من الحزن

" ليرحمهما الله "


وكان تذكيراً جيداً ليتوقف عن التحدث عن الأموات بسوء

مهما كانت أخطاؤهم فهم غادرونا ورحلوا ولن يرجعوا

مجدداً ، لكن ثمة من لم تكن تخضع لذاك القانون ولم

تستطع الصمت أكثر من ذلك وحين تحول الحديث عن تلك

المشكلة القديمة وقالت تنظر لوالدتها وكأنها تتحداها أن

تجد عذراً آخر

" ماري كانت المخطئة فلما تتحمل العائلة
بأكملها النتائج "


قالت ما قالته بحجة قوية أمامها فهي على قيد الحياة

حسب اعتقاد الجميع والحديث عنها مسموح بينما من

تتحدث عنها هي ميتة بالفعل ولن تنسى كما تعلم أن والدتها

تذكر أيضاً أن تلك المدللة الفاسدة كانت السبب في الكثير

من المشكلات والقطيعة بين طرفي عائلتها ووالدها وعائلته

وسبب كل الحقيقة التي كان يقولها ضيفهم الآن ، ونظرت

ببرود لوالدتها وهي تقف وتتوجه نحوها وهمست لها

بضيق ما أن وصلت لها

" أمي لن تضربيني أماهم "


لكنها قالت بصوت مسموع وهي تمسك يدها وتسحبها منها

" بعد إذنكم علينا تفقد الطعام .. المنزل منزلكما "

وغادرت تسحبها معها حتى وصلتا المطبخ وأغلقت بابه

فعلمت حينها أي نوع من التوبيخ هذا الذي ستناله وهي

تغلقه خلفهما فسبقتها قائلة بضيق

" لا يمكنك إنكار أن ما قلته حقيقة أمي وبأن جدتي وعمتها
من كانتا تناصرانها فيما تفعل "


قالت المقابلة لها بضيق أشد

" لكن التي تتحدثين عنها الآن ماريه وليست ماري يا
ساندرين فلن نوقعها في مشاكل كانت غيرها السبب فيها
لتتحمل هي نتائجها "


كتفت ذراعيها لصدرها وأشاحت بوجهها جانباً بضيق

وتابعت الواقفة أمامها بحدة

" أم تريدي أن يصلو لحقيقتها وبالتالي ستنتهي هي وتيم
معها من الوجود بل وأنا ووالدك كمتستران عن جاسوس
وزوجته ؟ بل ومئات الشبان وشقيقك كين وزوجك وشقيقه
من ضمنهم سيُعدمون جميعهم أمام عينيك "


نظرت لها وقالت بأسى لمع في عينيها كما صوتها

" لا أريد هذا بالطبع ولا يمكنني فعلها بهم لكنك ... "


قاطعتها بحدة تضع سبابتها على شفتيها بتهديد

" أصمتي ساندي وموضوع ماري وكل ما حدث في الماضي أنسيه تماماً مفهوم ؟ "

لوت شفتيها ولم تعلق فقالت التي لم ينتهي ما لديها بعد

" وهي ميتة ساندي وديننا يقول اذكروا محاسن موتاكم "

تحرك لسانها مجدداً ولم تطق صبراً وقالت بضيق

" لكنها ليست مسلمة ولست مجبرة على ذكر محاسنها "

وغادرت وتركت الواقفة خلفها تحرك رأسها بيأس منها

وهمست بضيق وهي تحمل باقي الأطباق

" أعان الله ذاك الشاب المسكين عليك "


*
*
*



فيتامين سي غير متواجد حالياً  
التوقيع



شكراً منتداي الأول و الغالي ... وسام أعتز به


رد مع اقتباس
قديم 21-07-21, 12:03 AM   #16444

فيتامين سي

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة

alkap ~
 
الصورة الرمزية فيتامين سي

? العضوٌ??? » 12556
?  التسِجيلٌ » Jun 2008
? مشَارَ?اتْي » 42,437
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Saudi Arabia
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » فيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond repute
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي




*
*
*

جلس على طرف السرير يُغلق أزرار بيجامته وتنهد بنفاذ

صبر مغمضاً عينيه بسبب التي قالت بضيق تقف قربه

" ما معنى صمتك هذا يا ضرار ؟ "

وتابعت حين لم يعلق وقد وصله صوتها المتضايق ممزوجاً

ببحة بكاء

" هل هو إبني لوحدي من مات مقتولاً على يديها ؟ "

وتحول الأمر لصراخ باكي وهي تتابع بغضب من صمته

" لا أفهم معنى ما تفعلونه جميعكم ! بل وما الذي لازالت
تفعله تلك القاتلة هنا ؟ "

نفض قميص بيجامته وهو يقف حيث كان قد وصل لزره

السفلي يغلقه والتفت ناحيتها وقال بحدة

" لا أعلم ما الذي لا تفهمينه فيما قلت وأعدت حتى سئمت
من تكراره ؟ "


تساقطت الدموع من عينيها وضربت بيدها على صدرها

وصاحت بحرقة

" إبني هذا الذي قتل يا سلطان .. إبني وقاتلته حرة طليقة
تعيش وتنام وتأكل في ذات المكان الذي أنا فيه فكيف تريد
مني أن أصمت وأفهم ؟ "


تنهد بضيق نفساً قوياً خرج من شفتيه كتأفف طويل قبل أن

يشير بيده للبعيد قائلاً بحزم

" القضية على مكتب وقاص وإن كانت المذنبة فسيأخذ
القانون مجراه "


وكان تصريحه ذاك بمثابة رمي الحطب في النار في قلب

التي صرخت بحدة وانفعال

" ولأنها على مكتب ابنك ذاك أنا أعلم جيداً ما الذي
سيحدث "

اتسعت عيناه بغضب قبل الصدمة وقال

" ما الذي تعنيه بقولك هذا يا أسماء ! "


وقاطعها ما أن كانت ستسرد ما في جعبتها دون اهتمام

بينما رفع سبابته مهدداً بحزم

" وقاص أنزه من أن يبيع مبادئه من أجل أحد وأياً كان
افهمي هذا ؟ "

ورغم كل ذلك فقد احتجت بعنف صارخة تلوح بيدها بغضب

" سيجد لها ثغرة ما وسيخرجها جدها منها وإن بتقديم
تقارير عن وجودها سابقاً في المصح النفسي ولن يترك
حفيدته تدخل السجن بينما إبني ... "


وتبدل صوتها للبكاء وهي تضرب صدرها مجدداً وصرخت

بحرقة أم مذبوحة في ابنها الوحيد

" إبني أنا لا يُهم مات انتهى لا أحد يهتم به "

وازداد صراخها كما بكاؤها حدة وهي تتابع

" بل ومنذ كان طفلاً وفتياً وحتى حين أصبح رجالاً
يُعامل كطفل ولا حق له ولا في الاقتصاص الآن من
قاتله متعمداً "

حرك رأسه بقوة ينظر لعيناها الباكية تتساقط منها الدموع

دون توقف وكان هو من ضرب بقبضته على صدره هذه

المرة قائلاً بألم

" ومن قال أني لا أشعر به ؟ هو إبني أيضاً وفقدته وهو في
ريعان شبابه "


صرخت من فورها تشير بيدها خلف كتفه وحيث باب الغرفة

" وقاتلته أمامك هنا ولا تتحدث ؟ لا رأي لك ولا مع ابنك
ولا والدك "


وكان ذاك ما جعله يشتعل مجدداً وبغضب أشد من سابقه

وصرخ فيها وكأنه إعصار مدمر

" لا أحد يتحكم في رأيي يا أسماء فتوقفي عن رش
النار بالبنزين "


اشارت لنفسها هامسة بصدمة

" أنا ! "

تنفس بقوة علا معها صدره ونزل وعاد للصراخ مجدداً

يشير لها بسبابته

" أجل وبأسلوبك هذا جعلت ابنك يكره أشقائه ويعاديهم
حتى مات "

وكانت تلك الرصاصة التي جعلت لسانها يقذف حممه

مجدداً وصرخت

" لا تتهرب من ضعفك أمامهم باتهامي "


" أسمااااء "


اتسعت عيناها تنظر مصدومة ليده التي يبست في الهواء

عالياً قبل أن تنظر لعينيه المشتعلتان بغضب وأشارت

لنفسها وهمست وعيناها تمتلئ بالدموع

" تضربني يا سلطان ! "


شد أصابعه في قبضة واحدة وأنزلها بحركة عنيفة يشد

فكيه بقوة حتى كان يشعر بهما سيتحطمان ورفع سبابته

بينهما وهمس من بين أنفاسه اللاهثة بغضب

" قسماً لولا أني أتفهم ما تمرين به لكنت فعلتها "


ارتجف جسدها من شدة ما كانت تشعر به والذي كان آخره

الخوف منه .. بل هو الألم والحسرة والغضب وحتى

الكراهية لكل من تراه السبب في موت ابنها الوحيد والذي

حلمت وكأي أم أن تراه رجلاً ناجحاً وأباً عظيماً وحُرمت من

كل ذلك وليس الآن بل منذ وقت طويل .. طويل جداً وهي

ترى الأفضلية لأشقائه دونه حتى أصبح ينعته الجميع

بالفاشل وتزوج بمجنونة خرساء ولم يمانع أحد منهم كما لم

تعلم أو يهتم ليكون موته على يد ابنتهم تلك ، وها هي

تراهم الآن يسعون لإنقاذها من عقوبة فعلتها تلك وكأنها لم

تفعل شيئاً ويختلقون لها تبريرات سخيفة وكأن ذاك الذي

قتلته حشرة وضيعة وليس رجلاً وابنهم من دمهم ولحمهم

غاب ولن يراه أحد مجدداً بسببها وعلى يديها .


خرجت الكلمات من بين ارتجاف شفتيها وكأنها تنطق

كل حرف من عينيها الدامعة والمشتعلة بحقد تنظر

لعيناه تحديداً

" لن أكون وهي في مكان واحد يا سلطان ... إما أنا
وإما هي "

وراقبت عيناها المحمرتان من البكاء والغضب الذي همس

ب( لا حول ولا قوة إلا بالله ) وقد التفت للسرير يعدل

وسائده بحركة غاضبة فنفضت يديها بحركة غاضبة أيضاً

عادت معها دموعها تتقاطر من عينيها وتوجهت جهة باب

الغرفة وخرجت منها ضاربة إياه خلفها بقوة وجلست فوق

أريكة صالون جناحها تكمل بكائها الموجع وحيدة تتكئ

بمرفقها على المسند الجنابي بينما تخفي عينيها الباكية في

كفها تُسند رأسها بها وتبكي دون توقف ينتفض جسدها مع

كل شهقة وعبرة لا ترى سوى صورته أمام عينيها مما

يزيد وضعها السيء سوءًا ، ضربت يدها الأخرى على

فخذها المغطى بقماش بيجامتها القطنية بلون القرنفل

ومسحت يدها عليها وخرجت كلماتها الباكية كأنين

ظبية جريحة

" يا حرقة قلبي عليك والنار التي تشتعل في داخلي
كالجحيم يا بني "


وكانت بالفعل نار تتآكلها من الداخل تشعر بها في كل قطرة

دم تسري في عروقها لم تستطع معها ولا الجلوس

فاستقامت واقفة ووجهتها باب الجناح وخرجت تعاود لف

شعرها الأسود الناعم وغرست المشبك فيه تثبته جيداً

ووجهتها الطريق المؤدي للسلالم المشتركة بين الطابق

الموجودة به والذي يليه تمسح عيناها المحمرتان من كثرة



البكاء بقوة بطرف أكمام بيجامتها تزيل الدموع عنهما

وصعدت عتبات السلم بخطوات غاضبة تشبه نار الحقد

المشتعلة في عينيها والتي كانت تجعلها لا ترى أمامها شيئاً

سوى عدوها الوحيد ومن تراه السبب في كل ما هي

فيه الآن .


عبرت الممر المؤدي لغرفتها وفي كل خطوة تضرب قدمها

وكأنها تريد تحطيم الأرضية الرخامية من تحتها تنفيساً

عما تشعر به بل وتأكيداً على ما هي عازمة عليه .


وصلت باب الجناح والذي وقفت أمامه تنظر له بدهشة فهي

لم تتخيل أن تجده مفتوحاً أمامها هكذا ونسيت تماماً في

غمرة غضبها أنه ثمة باب سيمنعها عنها تتحصن خلفه منذ

الصباح بل ومنذ غادر حارسها ذاك الذي لا يسمح لأحد

وبأوامر منه من الاقتراب منها سوى زوجة والده التي

ربته تلك وذاك ما كان يزيدها غضباً وقهراً يقومون بحماية

مجرمة قاتلة منهم بدلاً من أن يكون العكس وأن يسلموها

للقضاء كي لا تُجرم في حق شخص آخر ! وشعرت وكأن

قدرة الله فتحت أمامها هذا الباب لتنتقم لفلذة كبدها الانتقام

الذي لم يسمحوا للقضاء بتطبيقه عليها لعل النار المتأججة

داخلها تهدأ ولو قليلاً .


شدت قبضتاها بجانب جسدها بقوة تدفع الأنفاس الحارة

لرئتيها في دفعات متتالية تكاد تشعر بأسنانها تتحطم من

شدها عليها وتقدمت نحو الداخل تشعر بإعصار ضخم

يلتف حولها يكاد يحرق كل ما تمر به لتتوقف تلك الخطوات

فجأة وما أن أصبحت وسط المكان ونظرت للجالسة على

الأريكة المستطيلة يغطيها قماش من الجلد الأبيض الفاخر

وهمست بصدمة

" جُمانة !! "

وانتقلت نظراتها المستغربة لعينيها المجهدتان من البكاء

وأنفها المحمر ووجنتاها المشتعلتان بسبب كثرة مسح

الدموع التي لم تجف حتى الان فكانت وكأنها ترى نفسها

في مرآة تعكس مشاعر من ينظر إليها !

وحين لم يصدر عن الجالسة مكانها سوى امتلاء مقلتيها

بدموع زاد انعكاسها ولمعانها العدسات الاصطناعية التي لم

تعد تفارقهما نقلت نطرها منها لباب الغرفة المفتوح يظهر

من خلاله السرير الخالي تماماً وعادت بنظرها لها وخرج

صوتها مبحوحاً متأثراً بالبكاء الذي لم يغادرها

لساعات طويلة

" ما الذي تفعلينه هنا ! وأين تكون تلك القاتلة ؟ "


وكان ذاك ما جعل الجسد الممتلئ باعتدال بات مختلفاً كثيراً

عن السابق ينتفض واقفاً والدمعة المتحجرة في مقلتيها

تنساب ببطء يشبه كلماتها المليئة بالألم

" خرج بها وقاص منذ وقت ومن أمامي وكأنها زوجته
ولست أنا ... "


وتحولت الدمعة اليتيمة لقطرات متتابعة وتبدل الصوت

المنخفض المتألم لصراخ باكي وهي تشير لنفسها

" بل ولم ينظر ناحيتي ولا مجرد النظر وكأني والخزانة
في الغرفة سواء "


قالت حينها أسماء بحقد ومن بين أسنانها نظراتها تؤكد

كل ما تقول

" قسماً لو وجدتها هنا لقتلتها وقطعت لحمها بأسناني "

قالت حينها جمانة باكية

" وهذا ما كنت سأفعله لولا دخوله فجأة "


همست الواقفة أمامها بصدمة

" كنتِ ستقتلينها !! "

رفعت قبضتها وقالت بحقد وإن كانت ليست مقتنعة

بقوتها لفعلها

" وكانت السكينة في يدي والفرصة مواتية وها
قد ضاعت "


حركت تلك رأسها تشير بعيداً قائلة بحقد

" وكنت سأفعلها قبلك لكن زوجك ذاك نام في ممر غرفتها
البارحة وأخفاها هنا صباحاً "

وكانت وكأنها وجهت صفعة قوية بيد من فولاذ لها وتيبست

ملامحها بصدمة وعيناها الدامعة تكاد تتمزق من الاتساع

الذاهل وخرج صوتها اخيراً من مكان لا يمكن أن

يكون جوفها

" نام معها هناك ! "

قالت التي لا تزيد حالها إلا سوءاً مؤكدة

" أجل ورأيته بأم عيني يدخل ممر غرفتها ولم يغادره "

فعلى نحيبها وتذكرت من فورها تلك القبلة وما فعلت أمام

عينيها ويدها تضرب على صدرها وكأنها تمنع روحها

بالقوة من مغادرة جسدها مما جعل تلك تقترب منها

وأمسكتها من ذراعيها وقالت ودموعها تنساب من عينيها

" عدوي وعدوك واحد يا جمانة وعلينا أن نثأر لنفسينا
منه وعليها أن تخرج من هنا قبل أن تبقى ونخرج نحن ...
تسمعين يا جمانة ؟ "


لكنها كانت وكأنها لا تسمعها ولم تتوقف عن الترديد

باكية ونظرتها معلقة بالسقف بينما يدها تضرب صدرها

دون توقف

" قلبي يحترق .. قلبي يحترق يا الله "

وكانت تنتحب دون توقف كذبيحة تصارع خروج الروح

يدها لازالت تضرب فوق قماش الفستان الناعم الذي يغطي

صدرها وعيناها تذرف الدموع دون توقف فحضنتها تبكي

معها بينما تبكي حالها ونفسها وكل واحدة منهما وضعت

سبب تعاستها في شخص واحد فقط تراه لا يستحق ولا

الحياة التعيسة التي يحياها الآن .

" ما بكما ! ما الذي حدث هنا ؟ "

ذاك الصوت الرجولي العميق الصارخ فوق بكائهما ومن

يميزه جميع ساكني ذاك المكان هو ما جعل مسلسل النحيب

الطويل يتوقف فجأة وافترقتا بحركة لا شعورية ونظرت

العيون الباكية له فوراً فلم يغب عن أي منهما صاحب ذاك

الصوت وقد أكده ما رأتاه أمامهما وجسده قد اجتاز باب

الجناح الإلكتروني المفتوح بخطوتين نحو الداخل ينظر لهما

عاقداً حاجبيه وملامحه الصلبة زادها عبوس قاتم فاق ذاك

الذي عهدوه في ملامحه سنوات عيشهما معه في مكان

واحد طالت أو قصرت ولم تتحدث أياً منهما ولم ينتظر هو

المزيد وقد انتقلت نظراته لباب الغرفة المفتوح قبل أن

يقول بجدية وقد عاد بنظره ينقله بينهما

" ما بها زيزفون ولما تنوحان هنا ؟ "

لم تستطع أسماء النطق بأي كلمة ومن عرفته جيداً لأعوام

بينما فعلتها الواقفة بجانبها وصدمتها فبالرغم من أنها هي

التي عاشت معه لسنوات وهو والد زوجها لم تقوى على

فعلها ولم تتخيل أبداً أن تفعلها جمانة التي يعرفونها سابقاً

والتي لم تُصبح هنا سوى من أربعة أعوام تقريباً وصاحبة

الشخصية المهزوزة التي تبكي وحيدة بعيداً عن الجميع

أكثر مما تترجم مشاعرها بالأفعال خاصة وهما موجودتان

هنا دون مبرر تقدمانه في طابق لا يسكنه أحد من تلك

العائلة بل وجناح يفترض أنه محمي برمز سري لا يعرفه

الكثير منهم ، وانتقلت نظراتها ناحيتها ما أن قالت بألم

وبكاء بل وحسرة كان أقرب للضيق

" اسأل عنا نحن وليس هي فواحدة قتلت ابنها والأخرى
تسرق منها زوجها "

واطبقت شفتيها المرتجفة بسبب بكائها ما أن خرجت كلماته

القاسية وملامحه تزداد عبوساً صارخاً

" سألت عنها وليس عنكما فمن لا تملك الجواب تصمت "

فلم تعلق أيّا منهما ليس فقط خوفاً منه بل وبسبب الذي

دخل من باب الجناح حينها وكانت رقية التي تنقلت نظراتها

بينهم باستغراب وسيكون هذا حال كل من سيقتحم هذا

المكان بالتأكيد ، لكن ليس بحثاً عن ساكنه مثلهم فهي رأتها

ووقاص يغادران بسيارته وصعدت فقط لتُنزل صينية

الطعام ظناً منها أن وقاص أغلقه قبل مغادرته واستغربت

حين وجدته مفتوحاً ولم تكن تتخيل أن تجد واحداً منهم

هنا فكيف بثلاثتهم !

تبادلت جمانة والواقفة بجانبها نظرات صامتة قالت الكثير

مما تفهمه كلاهما دون حديث مفاده أن حق كل واحدة

منهما عليها أن تأخذه بيديها فلن يمنحوه لها وهم عائلة

وهي غريبة عنهم مهما كانت مكانتها وتحركتا من هناك

الواحدة في إثر الأخرى وكل واحدة منهما رمقت رقية نظرة

حارقة وهي تخرج بينما نظراتها المستغربة تتبعهما فهي

في نظر الأولى تناصر وقاص في دفاعه عن قاتلة ابنها

وفي نظر الأخرى تقف مع عدوتها ضدها ولم تعترض

يوماً على ما يفعله زوجها بها وهي التي يحترمها ويحبها

وكأنها والدته ، ولن تستطيع بالطبع أيّا منهما أن توجه

ذاك الغضب المدفون تحت الصمت المكرهة عليه لضرار

السلطان فكان من نصيبها هي .

عادت نظراتها سريعاً للذي قال بجمود ينظر لها

" أين هي زيزفون ولما تم نقلها إلى هنا ؟ "
وراقب عيناها التي كان أثر البكاء لازال يظهر عليهما فهي

لازالت بين الحين والآخر تفقد سيطرتها على دموعها ما أن

تتذكر ابن زوجها وآلمها رحيله بالقدر الذي لم تتخيله يوماً

فبالرغم من طباعه ومنذ صغره وكل ما كان يفعل تألمت

لفكرة أنه غاب ولن يعود مجدداً وهو في ريعان شبابه ..

كما تتألم لحال والدته وهي أم مثلها وتعلم معنى أن تقلق

على بنها إن تأخر ليلاً فكيف أن يموت ؟

أخفضت نظرها وقالت بحزن

" وقاص من نقلها إلى هنا وهو من أخذها معه منذ قليل "


وارتفع نظرها لعينيه مجدداً ورأت فيهما ما توقعته تماماً

وهو يقول بحزم لازال حاجباه يحتفظان بانعقادهما المعهود

وإن كانت تراه اسوأ

" ولما ! "

لم تكن تعلم عن أيهما يسأل فقالت بقلة حيلة وبعد

تنهيدة قصيرة

" لا أعلم يا عمي "

وما أن كان سيستدير مغادراً أوقفته يدها التي لامست

ذراعها فالتفت برأسه ونظر لعينيها التي تغلبت نظرة الحزن

فيهما على حزن صوتها قائلة

" حالها لا يسر يا عمي ووقاص لم يفارق ممر غرفتها
البارحة ولم تكن ليلة هينة عليها كما يبدو وما أن طلعت
شمس الصباح نقلها إلى هنا وهو يصر على أنه ثمة
شخص ثالث كان معهما وقت الحادثة ... "


وتكسر صوتها وهي تبعد يدها عنه وحضنتها لصدرها بينما

غشت عيناها سحابة دموع رقيقة قائلة برجاء كسير

" لم أراها هكذا من قبل .. لقد أصبحت منفصلة عمّا حولها تماماً
وكل ما اخشاه أن تمرض مجدداً وترجع للمصح .. يكفيها ما
قاسته كل حياتها "

وتدلت الدمعة من طرف رموشها وهي تراقب انسدال جفنيه

وكأنه يخفي شيئاً يكره أن تراه في العينان الحازمة طوال

الوقت والذي لم تخفيه أضلعه وهو يتنهد نفساً عميقاً قبل

أن يستدير مغادراً لا تسمع سوى صوت اصطدام رأس

عصاه المذهب بالأرض فرفعت نظرها عالياً للسقف

وأغمضت عيناها الدامعة هامسة بعبرة مكتومة

" يا الله كن رحيماً بقلبها الصغير فهو لن يتحمل المزيد "


*
*
*


" توقف هنا "

أخفض سرعة السيارة ونظر ناحيتها باستغراب ما أن وصله

همسها بتلك الكلمات الجوفاء وشكَ لوهلة أنه تَخيل هذا وبأنه ثمة

نسيم هواء ما اخترق زجاج سيارته واصطدم بطبلة أذنه يحاول

إيقاظه من دوامة أفكاره السوداء تلك والتي لازالت تبتلعه وتقذفه

لتعود وتبتلعه مجدداً ودون توقف .

التصقت نظراته بها وهو يوقف السيارة حيث كانا فوق جسر

كليفتون حينها بينما لازالت هي تنظر ناحية نافذتها وهو حالها

ذاته ليس منذ غادرا المختبر فقط بل ومنذ غادر بها من قصرهم ،

ولم يكن سبب استغرابه أن تحدثت أخيراً وبأي شيءٍ كان بل أن

تطلب منه أن يتوقف هكذا فجأة وهنا !!

وما أن امتدت يدها لقفل الباب قال باستغراب

" ما الذي تفعلينه يا زيزفون ! "

وراقب ما يظهر له من وجهها وهو القليل جداً بينما وصله

صوتها المنخفض

" أريد أن أنزل قليلاً ولن أهرب "

تنهد نفساً طويلاً مغمضاً عينيه قبل ينظر لها وقال بهدوء

" ومن قال بأني أخاف هروبك أو أفكر فيه ..؟ أنتِ لست الفاعلة
يا زيزفون وكلانا يعلم هذا جيداً "

لكنها لم تعلق لم تنظر له ولم تقل شيئاً وفتحت الباب هذه المرة

وإن كان صوتاً فقط صدر عنه ولم يُفتح بعد فأمسكت يده برسغها

من تحت قماش قميصها المصنوع من الشيفون في تفصيل متسع

الأكمام يضيق عند رسغيها بقصة عريضة وقد أبعدها ما أن

نظرت له وقال بهدوء ينظر لعينيها

" زيزفون أنتِ في فترة حداد الآن ولولا الضرورة ما أخرجتك "

" أنا لست في حداد على أحد "

اتسعت عيناه بدهشة ما أن همست بتلك الكلمات وقال بعد صمت

برهة لم تفارق فيه نظراته عيناها

" بلى وهو زو... "

وبتر عبارته تلك ما أن تحول مزاجها للحدة فجأة وفي أول رد

فعل مغاير لسلوكها الجديد وصرخت

" أنا لست زوجة له ولم أكن يوماً كذلك فلم يأخذ أحد برأيي
ولم أوافق عليه "

عاد للتحديق الصامت في عينيها والتي التمعت زرقة السماء

فيهما بشهب كم كان يراها حين تغضب في تلك الحالات النادرة

أيضاً فهي كانت ذات مزاج بارد ساخر أغلب الأحيان يتبدل للكره

والحقد ما أن يكون الحديث عنهم أو عن ماضيها ويتحول لبارود

قاتل ما أن يُمس كبرياؤها بالطريقة التي تقرها هي لا ما يظنه

محدثها .. تنفس بعمق نفساً طويلاً وقال بتأني يجنبها ونفسه

تبعات هذا المزاج عليها وفي هذا الوقت خاصة

" لكنك زوجته قانونياً وشرعاً وجدك هو وليك "

كان جلياً له من اشتداد فكيها أن كلامه لم يُعجبها وتوقع هجوماً

نارياً آخر لكن الكلمات خرجت من بين أسنانها جامدة جمود

الصخر متأنية وكأنها تقول كل كلمة منها بمفردها

" لا وصاية ولا ولاية له علي ولم يأخذ برأيي في
جميع الأحوال "

حرك رأسه بنفاذ صبر وقال بذات هدوئه يحاول إيصال ما يريد

بأقل ضرر

" وكيف يفعل ذلك وهو يظن كما الجميع حينها أنك خرساء ؟ "

عاد مزاجها للإشتعال فجأة وأدارت رأسها ونظرت له وقالت بحدة

ترمي يدها جانباً

" والخرساء لا تفهم ويتم تزويجها دون علمها ! "

اشتدت قبضة يده التي لازالت تمسك بالمقود وخرجت كلماته جادة

حازمة هذه المرة

" ليس هذا هو موضوعنا الآن يا زيزفون بل أنك امرأة
زوجها توفي و... "

لكنها لم تترك له مجالاً ليكمل ما كان يريد قوله ويعلم كلاهما ما

يكون سلفاً وقد فتحت الباب بحركة غاضبة قائلة ببرود

" اعتبرها جلسة محاكمة إذاً أم ستخبرهم بأني في فترة حداد ؟ "

ونزلت من فورها هامسة من بين أسنانها بغضب همساً لم تسمعه

سوى الريح حولها

" زوجي الذي وافقت عليه لازال حياً ولم يمت بعد "

وضربت الباب خلفها بقوة تاركة نظراته المتأسية تتبعها وهي

تقترب من حافة الجسر تضم نفسها بذراعيها وخصلات شعرها

الذهبية تتراقص كنغمات موسيقى عذبة حول جسدها .

ليته فقط يستطيع فعل أي شيء لأجلها ولا يريد أي مقابل له

ولا أن تتغير مشاعرها نحوه ولم ينتظر ذلك منها يوماً

فقط لتكون كأي امرأة غيرها وتنسى كل ذاك الحقد والسواد

الذي يغلف قلبها .

يعذرها في طلبها هذا وإن كان يرفضه فما حدث تلك الليلة بأكملها

ليس أمراً يمكن تجاوزه بسهولة كيف وهي شهدت مثيلات لها

طوال سنوات طفولتها حتى حولتها لطفولة مليئة بالألم ..

قُتلت جدتها أمام عينيها واحترقت والدتها أمامها وقَتل شقيقها

رجلاً ليسقط جسده أمام ناظريها فكم من صور عادت وتجسدت

أمامها وهي تعيش ذات الموقف مجدداً ؟

خاصة وأنه لازال يجهل هوية ذاك الفاعل وإن كان من داخل

قصرهم أم خارجه ! فهي مطاردة من ماضيها وكوابيسه التي

تلاحقها في نومها وصحوتها وباتت الآن مطاردة من شخص

مجهول أيضاً ليضيف كابوساً آخر لحياتها .

شعر بجسده ارتجف مع صوت رنين الرسالة الذي خرج من هاتفه

حتى شعر بها اصطدمت بقلبه وارتفعت ضرباته حد الجنون ،

وبالرغم من أنه لم يغادر ذاك المكان إلا من دقائق قليلة لن تصل

لساعة بالتأكيد وكان رفيقه سيتحدث معه حسب اتفاقهما لكن أي

شيء يصدر عن هذا الجهاز المخبئ في جيب سترته كان سيقوده

ودون شعور له .

انتقل نظره مع حركة يده وهو يدسها في جيبه وأخرجه منه ونظر

لشاشته التي لازالت مضاءة وانعقد حاجباه باستغراب وهو ينظر

لإسم جده !

خطف نظرة سريعة ناحية التي لازالت تقف مكانها وعلى وضعها

ذاته وكأنه يخشى أن تغفل عيناه عنها لثوان معدودة ولا يجدها

وعاد بنظره للرسالة التي فتحها يقرأ حروفها باستغراب لا بل

بصدمة أو اندهاش

( خذها لترى شقيقها يا وقاص )

وفي السطر الذي يليه كان اسم المستشفى ..

وما لم يتوقعه أن يكون هنا في بريستول !

ولم تكن تلك المفاجأة الأخيرة وعيناه تنتقل للسطر الأخير

( أرهم بطاقتك الشخصية لعلهم يتركوها تدخل )

عادت نظراته للتنقل بين الأسطر وكأنه يخشى أن يكون قرأ شيئاً

منها بشكل خاطئ !

وانفرجت شفتاه وكأنه يحاول التحدث مع الكلمات وهي ستسمعه

ولم يصدر عنه للأسف سوى أنفاس متشنجة كحال كل عصب في

جسده حينها ولم يعد يمكنه فهم كل هذا فكيف علم جده بمكانه

وكيفية الدخول له !

هل ذهب لزيارته مسبقاً ؟

سيكون هو الجواب بالتأكيد لكن كيف وصل له !

وما علاقة مطر شاهين بإختفائه فهو ذكر اسمه يصرخ به بغضب

حين علم بأمر حفيده ذاك فما سر العداء القديم بينهما وأي حديث

قد يكون دار بينهما !

نظر للواقفة مكانها مجدداً وغرس أصابع يده الحرة في شعره

الكث الناعم وتنهد بعجز فهما كانا يتجادلان منذ لحظات على

قرار نزولها وها هو مكلف بنقلها لمكان آخر أيضاً !

لا يعلم إن كان جده فاته أن يفكر في هذا أم أنه يحمل في قلبه ذات

مخاوفه من أن تتسبب الحادثة في إرجاعها للحالة التي غادرت

بها المصح النفسي أو حتى الحالة التي أدخلتها له وسينهار كل ما

تم فعله لأجلها طيلة عشرة اعوام فهي دخلت لحالة تشبه ما حكت

له عنها مربيتها تلك حين تم جلبها لها ما أن غادرت المصح

النفسي فهي لا تشبه البتة ولا حالة الكراهية والحقد التي كانت لا

تفارقها فترة وجودها معهم .

تنهد هامساً يستغفر الله وهو يدس هاتفه في جيبه ويفتح باب

السيارة وينزل منها وكانت النسائم الباردة في استقباله تتلاعب

بخصلات شعره القصير تلتها سترته التي اغلق زرها وهو يستدير

حول السيارة بخطوات سريعة تباطأت ما أن اقترب منها حتى

أصبح يقف خلفها تماماً وواجهه منظر أضواء المباني واعمدة

الطرقات المتفرقة حيث منطقة لاي وودز ومنظر الأشجار العالية

والطبيعة الخلابة حول النهر يشعر به ككل مرة كان يأتي إلى

هنا وحيداً ويراه فيها وكأنه علاج روحاني تشعر بأنه يمتص

الكثير من الطاقة السلبية المشتعلة داخلك ، وكالمعتاد سرقه

للحظات من كل ما يتحرك في رأسه كالدوامة التي لا نهاية لها ..

وكم تمنى أن يكون له ذات التأثير الايجابي عليها لعل روحها

الضائعة بين ماضيها وحاضرها وذكرياتها المؤلمة أن

تستكين قليلاً .


انتقل نظره لها وللخصلات الذهبية المتطايرة حول رأسها وهمس

من خلفها ببطء ورِقة وكأنه يخشى أن تدفعها كلماته وترميها

لأسفل النهر

" زيزفون علينا أن نغادر "

وحين لم يصدر عنها أي رد فعل تنهد بأسى وعلم أي مهمة صعبة

كانت تنتظره لجعلها تتحرك من هنا لولا رسالة جده ، أمسك

بذراعها وادارها ناحيته وأمسك بكلتا ذراعيها قبل أن تفكر في

العودة لوضعها السابق وما هو واثق منه تماماً وقال بتأني ينظر

لعينيها التي كانت تخفيها عنه ظلال خصلات غرتها المتطايرة

رغم أنوار الجسر القوية

" هل تريدين رؤية شقيقك يا زيزفون ؟ "

وكما توقع تماماً وهو يرى حركة شفتيها البطيئة لتسمح للأحرف
الهامسة لتخرج

" إسحاق ؟! "

فشعر بأدق وريد في جسده يتمزق مع تسرب ذاك الهمس الموجع

من أذنيه لآخر قطرة دم في جسده حتى كانت قشعريرة لم يشعر

بمثيل لها يوماً وكم كره نفسه حينها وعائلته وكل ما يمت للقلب

السلطان بصلة من جدهم الأكبر لآخر حفيد لهم فقد كان من

الأحرى بتلك السلالة أن اندثرت وانقطع نسلها ولم ترتكب كل هذا

الجُرم بأحدهم فكيف إن كان هذا الأحد جزء منهم ودمائهم تجري

في عروقه .


تنقلت نظراته في عينيها بضياع وخرجت الكلمات الحزينة

رغماً عنه

" أيمكنك مسامحتنا يوماً ما ؟ أثمة أمل أن يكون هناك مشاعر
غير الحقد نحونا ومهما كان ذاك الثمن ؟ "

انتظر بلهفة أن تجيب يشعر بالثواني القصيرة بين صمتها وتحرك

شفتيها تمر وكأنها أعوام طويلة استطاع فيها أن يرى كامل

مأساتها تُعرض أمامه حتى مات الأمل في داخله وهو يتخيل أن

يكون مكانهما وكيف يمكن أن تكون مشاعره حيالهم ؟

لكن الجواب كان أقسى مما رسم له من مشاعر جعله يشعر بكل

شيء يصمت تماماً من حوله وحتى ضربات قلبه المجنونة ما أن

تحركت تلك الشفاه الزهرية ببطء وعبر همسها الرياح ليصل

وحده ويتخلل كل خلية في جسده وليس فقط أذنيه

" ليس وضرار السلطان حي يتنفس لم يعلم معنى المعاناة التي
تركنا جميعنا فيها "

أبعد حينها يديه عنها ولم يعرف أين يذهب بهما لينتهي به الأمر

بأن غرس أصابعهما في شعره وشده للخلف ينظر بعجز عن قول

أي شيء للتي لم تنتظر ذلك كما يبد وتحركت مجتازة له نحو

السيارة المتوقفة خلفه تماماً لأن كل واحد منهما يعرف الجواب

بالتأكيد ولن يقدم لها أحد ذاك الثمن .

تحركت أصابعه نزولا لعنقه واستدار بجسده للخلف ونظر بتفكير

عميق تبدل لما يشبه الصدمة للجالسة مكانها داخل السيرة تهيم

بنظرها للفراغ ملامحها اكتسبت جموداً مريعاً وقد تذكر الأوراق

التي تخص أسهمها في شركتهم وبعض المعلومات والأرقام

الدقيقة عن حسابات الشركة فهل هذا ما كانت تخطط له أن تدمر

جدها بتلك الطريقة ونجيب من كان يساعدها في ذلك !

حرك رأسه بعدم استيعاب يتخيل أن يكون ذاك تفكيرها والطريقة

التي تريد الانتقام بها منه !

بل ومنهم جميعاً بأن تجردهم من كل ما يملكونه !

والأسوأ من كل ذلك أن يكون نجيب من قدم لها هذا وبكل سهولة

فهل وصل حقده عليهم لذاك الحد !

فلن يكون تعاطفاً معها بالتأكيد ؟.

شعر بتيبس مريع في قدميه وهو يجرهما بصعوبة نحو السيارة

ولا يعلم حقاً كيف تمكنت أصابعه من تشغيلها ولا كيف استطاع

قيادتها مجدداً والطريق من أمامه يشعر بها تلتوي في مكنها

كثعبان ضخم بسبب الدوامة التي بدأت تزداد حدة داخل رأسه حتى

كان يسمع ضجيج التوائها الغاضب في أذنيه تكاد تفقده عقله

وليس تركيزه فقط .. العقل الذي لم يعد يمكنه استيعاب كل ما

يحدث وينكشف أمامه وقد فاق طاقة تحمله كمخلوق بشري .

أغمض عينيه لبرهة قبل أن يفتحهما على اتساعهما وكأنه يتأكد

من سلامة نظره واشدت قبضتاه على المقود وهمس بصوت

خافت مرتجف وهو يديره دورة شبه مكتملة ليدخل الطريق الذي

سيأخذه لوجهته تحديداً

" يا رب ساعدني على كل هذا "


*
*
*

جمعت مذكراتها في حركة سريعة ووضعت حقيبتها على

كتفها واتجهت مسرعة ناحية باب الغرفة ترفع خصلات

شعرها للأعلى بنظارتها السوداء الكبيرة تثبتها فيه تخشى

أن يسبقها والدها وينسى بأنه سيوصلها معه ، وهذا كان

بطلب من أويس احترمه والدها ولم تعترض هي عليه بأن

تتوقف عن استخدام سيارتها الخاصة فكلاهما يعلم جيداً

معنى أن يكون الشخص قد ولد وعاش وتربى في الجنوب

حيث لازالت تحتفظ تلك القرى بأصول حياتها السابقة وإن

كانت الأقرب في البلاد للعاصمة حوران مهما بعدت عنها .


ما أن كانت ستغلق باب الغرفة توقفت فجأة ومقبض الباب

لازال في يدها ما أن علا صوت رنين هاتف لم يكن

الموجود في حقيبتها بل خرج من درج الطاولة قرب

سريرها فهمست باستغراب

" ماريه !! "

فهو الهاتف الذي وضعت فيه تلك الشريحة وأرسلت

الرسائل منه كما طلبت هي منها لكن لما تتصل هذا

الوقت الباكر !

نظرة للساعة في يدها وتذكرت أن الوقت عندهما مختلف

فنظرت خلفها تزم شفتيها وعادت بنظرها لمصدر الصوت

الذي عاد للرنين بإلحاح وضاعت بين أن تلحق بوالدها

أو تجيب ؟

وقررت نهاية الأمر أن تجيب عليها فقد يكون الأمر

ضرورياً فهي طلبت منها أن لا تتصل بها ولم تطلب أن

لا تجيب عليها .

فتحت الدرج بحركة سريعة وأخرجت الهاتف الذي لازال في

رنين مستمر وفتحت الخط ووضعته على اذنها قائلة

" ما... "

وتيبس لسانها قبل أن ينطق باقي الحروف التي علقت في

الهواء ما أن وصلها الصوت الرجولي الغاضب صارخاً

" من تكون أنت ؟ أجب "

واتسعت عيناها بذهول ما أن علمت هوية صاحب ذاك

الصوت .. وكيف لها أن تنساه وإن كانت مكالمة واحدة

تلك التي سمعته فيها سابقاً .. وعاد لضرب طبلة أذنها بقوة

حتى كانت تكاد تُجزم بأنه يصل لكل من في المنزل حين

تابع بذات صراحة الغاضب

" من أنت ومن أين توصلت لهذا الرقم ومن هو سيدك "

زاد ارتجاف يدها وغرست أسنانها في شفتها بخوف فماريه

حذرتها من أن يعرف أحد بما طلبته منها ، شعرت بدرجة

حرارتها ترتفع حتى كانت تشعر بحبة عرق تتسرب من

طرف صدغها ببطء وعيناها تتحركان ناحية باب غرفتها

وللذي دخل منه ولازالت تستمع للصوت الغاضب يكرر

ذات السؤال

" إن كنت رجلاً فتحدث أو أنا من سيعلم كيف يصلك
ويجعلك تنطق "

وعلمت من صمت والدها المفاجئ ينظر لها باستغراب بأنه

يسمع صوت الرجل المزمجر وإن كان لا يفهمه فكان كطوق

نجاة لها كي لا تُفسد ما طلبته منها صديقة طفولتها وإن

كانت لا تفهمه جيداً فلم تخبرها سوى بأنه أمر يخص

حمايتاها وحمايته وعليها أن لا تفشل فيه .


اتجهت ناحيته بخطوات راكضة ومدته له بحركة سريعة

بينما كان ينظر هو له باستغراب في يده ورفع نظره لها ما

أن أشارت له على اذنها تطلب منه أن يتحدث وهمست

تحرك يدها بسرعة

" تحدث معه .. الرقم لماريه "

فانصاع من فوره وإن كان لا يفهم شيئاً بسبب ملامحها

المرتبكة المذعورة وكانت تعلم بأن هذا الرجل لن يُفسد

الأمر ولن يتصرف بعشوائية كما أنه يتميز بصوت أصغر

من سنه بكثير عبر الهاتف ولطالما كانت صديقاتها

يخبرنها بذلك حين كان يجيب على الخط الثابت للمنزل بل

وهي التي تعرفه جيداً وتسمعه كل يوم تقريباً حين يحدثها

لأي أمر .

قضمت طرف ظفر إبهامها بتوتر تراقبه وهو يضعه على

أذنه ويقول بحزم بينما نظراته لم تفارق عينيها

" من أنت وماذا تريد ؟ "

وعلمت من اتساع نظراته المصدومة أي كلمات سيكون

سمعها الآن منه زاده صراخه حين قال

" أنت هو من عليه أن يُعرف بنفسه وأنت تتحدث بهاتف
لا يخصك "

لامست يدها وجنتها تشد شفتها بأسنانها حين علا صراخ

من باتت تسمعه بشكل واضح تماماً بسبب ما قاله والدها

" لآخر مرة أسألك من تكون ومن ورائك ؟ "

فقالت له بسرعة تحرك يدها أمام شفتيها هامسة

" براء هارون .. قل براء هارون "

فتنهد بضيق وقال بحدة وهو يرمقها بنظرات تفهمها جيداً

" براء هارون فمن تكون أنت "

غطت شفتيها بأطراف أناملها ما أن أبعد الهاتف عن أذنه

ونظر له بصدمة قبل أن ينظر لها قائلاً بوجوم

" قال إذاً أنا قاتلك ! "

وتابع بضيق يريها شاشة الهاتف في يده

" هل أفهم من يكون هذا يا زهور وماذا يريد ؟ "

تلعثمت قليلاً قبل أن تقول

" هو تيم زوج ماريه "

غضن جبينه وقال باستغراب

" زوج ماريه ! "

قالت من فورها

" أجل أبي ماريه .. ألم يأتي لأخذها من منزل عمها وسافر
بها خارج البلاد ؟ وهذا الرقم لها فعلاً "

ازداد الاستغراب في نظراته وقال بحزم

" ولما يتصل بك ويهدد ويتوعد ؟ وما علاقة براء هذا
أنتحل أنا شخصيته ! "

حركت يدها قبل أن تقول معترفة باندفاع

" براء هذا ابن عم ماريه كما أن الشريحة في الهاتف له
وماريه من اتصلت بي وطلبت مني هذا "

وعبست ملامحها ما أن قال بضيق يشير بالهاتف في

يده لصدغه

" قولي أمراً يصدقه العقل يا زهور "


وتابع بذات ضيقه يلوح به ناحيتها

" أنا لم أقل ما قلت إلا لتوقعي أن يكون الأمر كما فهمت
وبأنه هاتفك ولا تريدين الإجابة لا أن ألعب دور غيري "


زمت شفتيها قبل أن تحررهما قائلة برجاء

" ماريه من طلب هذا أبي أقسم لك ولا علاقة لي
ولا لك بالأمر "

كانت تأمل أن يتفهم موقفها لكن النتيجة كانت عكسية كما

يبدو ولم يزدد ضيقه إلا شدة وهو يقول مشيراً للهاتف

بعينيه قبل أن ينظر لعينيها مجدداً

" لا أرى الأمر كذلك مطلقاً وهو أمامك يهدد ويتوعد بقتله
ما أن علم أنه هو ويبدو كان يتوقع شخصاً آخر فهلّا
شرحت لي ما يحدث مفصلاً ؟ "


تنهدت قائلة باستسلام

" أنا لا أعلم التفاصيل لأخبرك بها أبي "

عاد بالتلويح نحوها بالهاتف في يده قائلاً باستياء

" جل ما أخشاه وواثق منه أن يجلب هذا الأمر
المشكلات لك "


قوست شفتيها بينما تابع هو توبيخه القاسي

" ولا تنسي يا زهور أنك أصبحت متزوجة الآن ولن أكون
أنا المسؤول عنك لأجد حلاً للأمر حينها دون أن تُعاقبي وقد
يكون عقابك أقسى مما تتوقعين ذاك الوقت "


عبست ملامحها قائلة برجاء

" أبي أنا حقاً لا علاقة لي واويس يعرف زوجها جيداً فهو
من كان يترافع عنه دائماً في قضايا الطلاق التي يرفعها
عمها "


وتابعت وابتسامة تزين شفتيها وبمزاج انقلب فجأة

" ثم أنا لم أوافق عليه إلا حين علمت بأنه مثلك تماماً
يسعى لفعل كل ما أحب وأريد ويقف بجانبي كلما لزم الأمر
وذاك ما جعلني أحبه "


تنهد يحرك رأسه ومد لها الهاتف قائلاً بجمود

" أتمنى بالفعل أن لا تصدق ظنوني "
وما أن أخذته منه قال وهو يتجه نحو الباب

" اتبعيني هيا تأخرنا بما فيه الكفاية "


وغادر من فوره فنظرت للهاتف في يدها في ِحيرة قبل أن

تفتح درج الطاولة وتضعه في مكانه السابق ولا تعلم إن

كان دورها قد انتهى وعليها أن تتوقف عن إرسال تلك

الرسائل أم لا ! ولا يبدو أن الأمر بات يحتاج المزيد .


رفعت كتبها وغادرت جهة باب غرفتها مسرعة وهمست

بحزن وهي تحتضنهم ونظرها على عتبات السلم حيث

خطواتها

" كم أخشى عليك من كل هذا يا صديقتي "


*
*
*



فيتامين سي غير متواجد حالياً  
التوقيع



شكراً منتداي الأول و الغالي ... وسام أعتز به


رد مع اقتباس
قديم 21-07-21, 12:06 AM   #16445

فيتامين سي

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة

alkap ~
 
الصورة الرمزية فيتامين سي

? العضوٌ??? » 12556
?  التسِجيلٌ » Jun 2008
? مشَارَ?اتْي » 42,437
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Saudi Arabia
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » فيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond repute
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي





*
*
*

احتضنت نفسها بقوة وانخفض رأسها وتدلت الخصلات

التي جففها الهواء البارد تتساقط تباعاً على وجهها وعيناها

الدامعة وبكت ..

بكت مجدداً وبكت أيضاً رغم تجمد تلك الأجفان كباقي

جسدها المرتجف تشهق بأنين مع كل عبرة تخرج من

ضلوعها بالرغم من محاولاتها المضنية لكتمانها ، ولم تعد

تعلم ما يمكنها احتضانه نفسها أم جسدها المرتجف ؟

ألمها أم روحها المعذبة أم جميعهم معاً ؟ .

ارتفعت يدها لشفتيها يغطيها قماش منشفة الحمام تخفي

عبرتها الباكية والتصق جسدها أكثر بالحديد البارد لحاوية

القمامة الكبيرة التي وجدتها ملاذاً لها فلم تستطع اجتياز

أكثر من أربع مباني سكنية بعد خروجها من هناك فهي لا

تملك مالاً ولا هاتفاً وحتى إن فكرت في إيقاف سيارة أجرى

فلن تستطيع أن تركبها وهي هكذا لا يغطي جسدها سوى

منشفة الحمام وليس لديها مكان تذهب إليه في كل الأحوال

وانتهت للمكان الذي لن يطردها أحد منه وهو الشارع .

شهقت بقوة ونظرت مفزوعة جانباً حتى شعرت بالحاوية

الثقيلة تهتز مع اصطدام جسدها بها وهي تهرب من اليد

التي أمسكت بكتفها فجأة تنظر بذعر لطيف الشخص الذي

أبعد يده عنها ولا تستطيع رؤيته بسبب ضوء هاتفه القوي

الموجه نحوها وشدت بيدان مرتجفة ياقة المنشفة في

حركة لا شعورية تستر جسدها وتدحرجت دمعتان من

أطراف رموشها ما أن وصلها الصوت المرأة المُسنة والتي

قالت باستغراب

" ما الذي تفعلينه هنا ؟! "

فلم تستطع قول أي شيء ولم يخرج من شفتيها المرتجفة

سوى الشهقات المكتومة وتقطع أنفاسها القوية تتحرك

معها خصلات شعرها المتيبسة أمام وجهها لازالت تنظر

لها من بينها .


وما أن رفعت يدها واخفت عيناها عن الضوء الذي لم تعد

تحتمله المقلتان المجهدتان من البكاء أبعدت حينها الواقفة

فوقها هاتفها وسمعت صوت وضعها لكيس كان في يدها

وسيكون ما جاءت هنا بسببه لترميه حيث باقي أكياس

القمامة بالتأكيد ولم تكن تتخيل بأنها ستجد أحداً مرمياً

في طريقها .. الفارق الوحيد أنه يبكي رميهم له عكس

الذي تحمله معها والموجودات في الحاوية خلفها .

لم تستطع إمساك عبرتها عند تلك الفكرة رغم شدها القوي

على شفتيها بيدها مما جعل التي وضعت هاتفها جانباً تنزل

على قدميها أمامها ومسحت يدها على شعرها تبعده عن

وجهها قائلة بقلق

" لما تبكي وما تفعلينه هنا يا فتاة ! "

وقالت بحزن ما أن لم تجد منها أي استجابة

" يالا الفتاة المسكينة "

ووقفت ومدت يدها نحوها قائلة

" هيا قفي لآخذك لمنزلك بسيارتي "

" لا منزل لدي "

شعرت المرأة المسنة بالتعاسة ما أن سمعت الصوت الرقيق

الباكي ذاك وكأنه لطفلة تائهة ووحيدة وشعرت بالشفقة

اتجاهها وإن كانت لا تعرفها ولا تعلم عن قصتها وقالت

بأسى حزين

" آه يا إلهي .. وأنا ليس لديا في الوقت الحالي غرفة غير
مستأجرة في منزلي لتنامي فيها الليلة "

وتابعت تشدها من ذراعها لتقف

" سأوصلك لأي مكان تريدين إذاً ولا تبقي هنا "

وحين لم تستجب لها وقد شدت ذراعها منها هامسة
ببحة وحزن

" لا أحد لي ولا أريد أحداً "

قالت تحاول رؤية ملامحها المخفية في ظل الحاوية الكبيرة

بينما خرج صوتها جاداً بعض الشيء

" وبقاؤك هنا ليس حلاً يا صغيرتي فما أن يتأخر الليل لن
يبقى هنا سوى الرجال الثملين وتكونين في خطر كبير
حينها "

وعادت تحاول مساعدتها على الوقوف مجدداً قائلة

" هيا عليك الذهاب من هنا الآن ولابد وأنه لك قريب ما
لتقضي الليلة لديه ثم يمكنك أن تقرري ما عليك فعله "

ولم تترك لها أي مجال للاعتراض أو الرفض ولن تستطيع

نكران حقيقة ما قالته وبأن بقاؤها هنا لن يجلب لها أي

حلول بل سيوقعها في مشكلات أكبر حجماً بالرغم من أنها

فعلاً كانت تكره أن تلجأ لأي أحد منهم .


*
*
*


نزلت من سيارتها وضربت بابها تبعد خصلات شعرها

الحمراء اللامعة بعد أن طارت أمام عينيها ونظرت عالياً

لأنوار الشقة التي كانت مضاءة قبل أن تنظر جانباً وزمت

شفتيها بحنق ما أن وقع نظرها على السيارة اللامبرغيني

الذهبية المتوقفة بجانب سيارته تماماً وهذا دليل آخر على

وجوده هنا بل ووجودها أيضاً وكم باتت تشتهي اللحظة

التي لا تجدها ولا سيارتها تلك هنا وتختفي من حياتها

للأبد ، نظرت لوجهتها وهي باب المجمع السكني وتحركت

نحوه متمتمه بحقد

" ستبتعدين عنه ورغماً عنك أيتها الإيطالية الرعناء "

صعدت العتبات بخطوات أنيقة تشبه ثوبها الناري القصير

والمصنوع من الحرير والحذاء المرتفع المشابه له في

اللون تلتف أشرطته الحمراء حول ساقيها شديدة البياض

حتى وصلت باب الشقة الذي نظرت له باستغراب وهي

تلمحه من قبل أن تصل مفتوحاً وتلك ليست عادته إن كان

داخل الشقة أو خارجها ! وتبدلت نظرتها للذهول ما أن

وقفت أمامه تنظر للفوضى والتحف المحطمة وتحركت

خطواتها نحو الداخل واتسعت شفتاها المطلية بأحمر شفاه

لامع بلون الدم وهي تنظر للغرفة التي كان بابها مفتوحاً

على اتساعه .. للزجاج وقطع المرايا المتناثرة على الأرض

ولحطام التلفاز والفوضى العارمة حيث الغرفة التي تعلم

كما تعرف نفسها لمن تكون !

انتقلت نظراتها المصدومة ناحية باب المطبخ قبل أن تنظر

جهة باب غرفته المغلق وكانت ستتحرك ناحيته لولا أوقفها

الجسد الذي لمحته يقف عند باب الشقة خلفها ونظرت

باستغراب ناحيته وكأنها تتأكد من سلامة نظرها وعقلها

وأنه هو فعلاً !

كانت أزرار سترته العلوية مفتوحة بينما كان يعلو صدره

ويهبط بشدة وانتقل نظرها ليده التي كان يمسك بها برميلاً

بلاستيكيا أصفر سميك مع كتابة حمراء صغيرة ومتراصة

وارتجف قلبها لا شعورياً حين ارتفع نظرها لوجهه ولعينيه

تحديداً فقد كان فيهما غضباً كفيلاً بإحراق العالم بأسره لم

تراه ولم تعرفه فيهما من قبل بالرغم من جدية ملامحه

وجموده الدائم !

وعجزت الكلمات عن الخروج من شفتيها المتصلبتان تماماً

ولا لتسأله عمّا جال في خاطرها حين لمحته وأين كان وهي

التي لم تجده في الأسفل بينما كانت سيارته هناك وخالية

منه ! بل ولم تستطع ولا قول ماذا حدث وما بك !

كانت تشعر بنظرته تلك ستحرقها إن هي تكلمت ففكرت

أولاً في أن تبرر سبب وجودها هنا كي لا يغضب من قدومها

من دون إبلاغه ككل مرة لكنها لم تجد فرصة لذلك ونظراتها

الذاهلة تتبعه وقد تحرك من مكانه أخيراً ودخل الشقة

بخطوات واسعة وارتفعت يدها لشفتيها تكتم شهقتها

المصدومة ما أن فتح غطاء ذاك البرميل في يده ورماه

بحركة غاضبة وبدأ يسكب ما فيه في جميع أرجاء الردهة

الواسعة وقفزت بشهقة مصدومة ما أن كاد يصل البنزين

لثوبها وهو يرشه بعشوائية وكأنه لا يهتم أو لا يراها هنا !

ركضت بخطوات مسرعة ومتعثرة خلفه ما أن رمى ما في

يده حين فرغ تماماً وتوجه لباب الشقة مجدداً وخرجت معه

قبل أن يفعل ما تفكر فيه وهي لازالت في الداخل ، وذاك ما

حدث فعلاً حينها فما أن غادرت الباب بخطوة واسعة التفتت

لتلك الشقة تتراجع خطواتها للخلف تنظر بصدمة فاغرة

فاها على اتساعه يتبع نظرها القداحة المشتعلة التي رماها

في الداخل لينتشر لهبها في المكان قبل أن تصل الأرض

وبدأت ألسنة النار تكبر في لمح البصر والدخان يخرج من

الباب بدفعات باتت تكثر وتتسع وبدأ صوت الضجيج

والصراخ في الخارج يصلها مع أصوات فرقعة الأخشاب

التي كانت تتآكلها النيران فهفت بيدها أمام وجهها وسعلت

بقوة ونظرت للذي تحرك ووجهته السلالم ما أن علا

الصراخ في الخارج وتبعته من فورها مناديه له تخترق

بجسدها أجساد من ركضوا يصعدون السلالم ليصلوا لمكان

الحريق وقد تبعته نظرات مستغربة لمن تعرفوا عليه وهو

يغادر دون أن يهتم للنيران التي كانت تلتهم شقته !.

خرجت من باب المبنى تبحث عنه بعينيها بين المزدحمين

في الأسفل ورؤوسهم كما نظرهم للأعلى حيث يرتفع عمود

الدخان الأسود عالياً حتى وجدته أخيراً وكان قد وصل

لسيارته فركضت نحوه مناديه مجدداً لكنه لم يلتفت ناحيتها

أيضاً بل ركبها وأغلق بابها بقوة فوقفت مكانها ما أن

تراجع بها للخلف بحركة قوية علا معها صوت عجلاتها

القوي على الطريق المعبد وتراجعت للخلف مسرعة ما أن

استدار بها بحركة قوية أخرى وكاد يصدمها دون أن يهتم

لذلك ولم يظهر لها سوى يديه الممسكة بالمقود تحركه بقوة

وغضب وغادر من هناك نظراتها لا زالت تتبع السيارة

المبتعدة ورفعت يديها تحرك رأسها بصدمة هامسة

" هل فقد عقله أم ماذا ؟! "


*
*
*

مرت الدقائق متعاقبة وهو يجلس مكانه على السرير بينما يسند

مرفقيه على ركبتيه منحنٍ بجذعه للأمام ينظر للأرض وقد تدلت

يداه بين ساقيه المنفرجتان يفكر في كل ما قالته زوجته تلك ،

والأسوأ أنها لن تتوقف عن ترديد ذات أسطوانتها تلك ولن تكون

المرة الأخيرة ويعرفها جيداً ، هو يثق في وقاص .. يثق في ذكاء

وقدرات ابنه كما نزاهته لكن قول هذا لها لم يزيد الأمر إلا سوءاً

، فإن كان ابنه يملك دليلاً على وجود شخص ثالث معهما كما

قالت رقية فلا يمكنه اتهام الفتاة ولا التسرع في الحكم عليها

فقضايا القتل تحديداً أسرارها شائكة وحين تُكشف قد تنصدم

بأن المدان بريء كما أن البريء هو الفاعل .

حضن رأسه بيديه تتخلل أصابعه شعره يشده بقوة وكأنه يريد

انتزاعه من منابته وأغمض عينيه بقوة أكبر وألمه يشعر به في

مكان مختلف تماماً ..

من قال بأنه لا يتألم لموت ابنه ؟

هو ابنه مهما حدث ويموت مقتولا ً .. جميعها أقدار الله لا ينكر

ذلك لكن أن يموت نائماً في فراشه أو بسبب حادث ما ليس كما

أن يموت بسبب قتل أحدهم له بينما لايزال حراً طليقاً ولم ينل

جزاء فعلته ، كان موته فاجعة عصفت بالجميع ولا يمكنه نكران

ذلك .. بل وجعل مشاكل عدة تطفو للسطح فهذه المرة الأولى

التي تصفه فيها زوجته تلك بأنه يتبع أوامر والده تتهمه بالضعف

أمامه بل وأمام ابنه أيضاً !

رفع رأسه ونظر للتي كانت وكأنها خرجت من أفكاره تلك وقد

دخلت الغرفة مجدداً ووقفت أمامه مباشرة وكتفت ذراعها لصدرها

عيناها كما وجهها قد ازداد وضعهم سوءاً بسبب البكاء فعاد

بنظره للأسفل وقال بجمود

" تعوذي من الشيطان يا أسماء واتركي الليلة تمضي
على خير "

وتنهد بأسى ما أن وصله صوتها الحانق مختلطاً بعبرة مكتومة

" أجل فأنا التي تُفسد حياتك وحياة الجميع "

وتابعت من فورها بصراخ باكي

" أنا المخطئة الوحيدة هنا والجميع على صواب "

وقف على طوله حينها وقال صارخاً

" لا حول ولا قوة إلا بالله "

وتحرك مجتازاً لها ووجهته الباب خلفها فاستدار رأسها معه

قبل جسدها وقالت بغضب

" أين ستذهب ؟ "

كان حينها قد فتح باب الغرفة فالتفت لها وقال بتهديد غاضب

" سأبتعد من هنا قبل أن تفقدي زوجك أيضاً وتعرفينني جيداً
إن طلقت فلا رجوع ولا تراجع "

وغادر المكان بأكمله ضارباً باب الجناح خلفه ولم يسمع أي

تعليق منها ويعلم جيداً بأنها لن تفعلها ، قادته قدماه ناحية الجناح

الأقرب له من هناك والذي كان يخص زوجته الصغرى وما أن

فتح باب الغرفة وجدها تجلس على سريرها تقلب في هاتفها

فاستوت جالسة تنظر له وهو يرتمي جالساً على السرير بتنهيدة

عميقة بعد أن ألقى السلام عليها بهمس خافت فعادت بنظرها

لهاتفها دون اهتمام وذاك أقصى ما كان يتمنى ويريد وقد حققته

له ، ولم تمضي دقائق قليلة حتى نظرت ناحيته وكان يتكئ برأسه

للأعلى مغمضاً عينيه وقالت باستياء

" لما لم يسمح والدك لإبني بحضور جنازة شقيقه ؟ "

تأفف نفساً طويلاً ولازال مغمضاً عينيه وكأنه يتحسر على الثواني

القليلة التي خدعته بصمتها فيها قبل أن يهمس بتملق

" ولما لم تسألي والدي ؟ "

استدارت بكامل جسدها نحوه وقالت بضيق تنظر لوجهه ولازال

على وضعه يغمض عينيه

" لأنك أنت والده أم نسيت ؟ "

فتح عيناه حينها ونظر ناحيتها وصرخ يضرب براحة يده

ناحية صدغه

" حلفتك بالله ارحميني يا سارة فرأسي سينفجر "

لكن تصريحه الغاضب ذاك لم يزد الأمر إلا سوءاً وقد انتقلت

للصراخ الغاضب أيضاً

" سينفجر من حديثي فقط ؟ ألا يحق لإبني أن يحضر جنازة
شقيقه كباقي أشقائه ؟ لما تتعمدون نفيه هكذا بعيداً
عنكم وعني ؟ "

استوى في جلوسه بحركة واحدة غاضبة ونظر ناحيتها

وقال بحدة

" امتحاناته الأسبوع القادم وشقيقه مات ولن يعود للحياة بوجوده
وقت دفنه كما أظن "

وتلقف أنفاساً حادة شعر بها تذبح صدره كنصل سكين حاد حتى

ظهر ذلك على ملامحه وكأنه يصارع المرض لكن الجالسة أمامه

لم تهتم لذلك كما لم تقتنع بما قال ..

بل وجادت عليه بالمزيد وهي تصرخ معترضة

" ما في الأمر إن كان هنا ليومين حتى انتهاء الجنازة ثم غادر ؟
لا أعلم لما لا رأي لك فيما يخص ابنك ؟ "

وقف حينها على طوله خارج السرير يقاوم ارتجاف ساقيه التي

باتت عاجزة عن حمله كما يبدو وصرخت بشدة جعلت أوردة

نحره تنبض بوضوح بينما لوح بيده بغضب

" لو كنت أصررت على مجيئه ما كان والدي ليعترض لكني
أوافقه الرأي فدراسته أهم من تضييع الأسبوع المتبقي له في
السفر هنا وهناك "

صرخت ايضاً تحرك رأسها بقوة

" وهل توقف الأمر عند هذا الحد ؟ "

حدقت فيها العينان المجهدة والمحمرة من قلة النوم والتعب وحتى

الغضب بذهول بينما تابعت هي بغضب محتج

" لقد أخبرني اليوم بأنه لن يكون هنا في الإجازة لأنكم
ارفقتموه بالدورات الصيفية "

وامتلأت عيناها المليئة بالغضب بدموع رقيقة سبحت في فضاءها

المتسع وقالت بحرقة

" لا أفهم لما تبعدوه متعمدين هكذا عني وعن عائلته ؟ "

تنهد بقوة مستغفراً الله يبعد نظره كما وجهه عنها وقد تخللت

أصابعه شعره للخلف قبل أن ينظر لها مجدداً وقال بضيق

" ضرار متفوق كثيراً في دراسته ويحبها فما نفع تركه هنا
تحت رعايتك غير أن يصير عدواً لشقيقيه "

كان رد فعلها الأولي أن حدقت فيه بصدمة قبل ان تصيح

محتجة بغضب

" لما لا تتوقف عن تكرار اتهاماتك الزائفة والتي تتحجج
بها لعجزك عن كسر قرارات والدك بشأن ابنك ؟ "

وكان ذاك ما جعل البركان ينفجر فعلياً وأشار لها بسبابته بقوة

رغم ارتجاف يده صارخاً بغضب

" أجل معك حق ولهذا أطعته وتزوجتك .. ولأجل كل هذا
تخافونه ولا تحترمونني "

اجفلت بشكل واضح بسبب كلماته قبل الغضب الذي لم تعرفه فيه

يوماً مع كل حالات الغضب التي عرفته فيها وكانت ستتحدث لولا

قاطعها بتهديد غاضب وسبابته تلامس شفتيه المرتجفتين

بهمس غاضب

" لازلت أحذرك ولآخر مرة يا سارة وإن تكرر هذا من لسانك
مجدداً فأنتِ طالق ولا مكان لك هنا ولا ... ابن "

وقال آخر كلمة بصراخ رامياً سبابته تلك جانباً وغادر ضارباً باب

الغرفة على اتساعه تلاه باب الجناح الذي صفقه بكل قوته تاركاً

خلفه امرأة اخرى تشتعل في صمت بينما توجه لثالثة قبل أن يقرر

النوم خارج ذاك المكان بأكمله ويرتاح .

ضرب باب جناحها وهو يفتحه وتركه خلفه مفتوحاً وفتح باب

الغرفة بقوة حيث التي كانت مختفية عنه خلف باب الخزانة

المفتوح وظهر رأسها ما أن فتح الباب وقالت باستغراب تنظر

لملامحه المتجهمة المتعبة

" سلطان ما بك ! "

لا يعلم استغربت وجوده هنا أم ملامحه التي جمعت هموم أعوام

طويلة خرجت الآن للسطح ؟

ولم يهتم لفهم ذلك ولا للبحث عن جواب له بل اتجه ناحية السرير

الواسع وقال وهو يبعد اللحاف عنه بحركة قوية غاضبة

" أريد أن أنام فقط وأرتاح يا رقية رجاءً "

نظرت للساعة باستغراب من نومه في هذا الوقت الباكر قبل أن

تتوجه نحوه قائلة بابتسامة

" ما رأيك في أن أدلك لك رأسك ستشعر بالتحسن وتنام "


لم يمانع ذلك واستسلم لها وهي تجلس ووضع رأسه على فخذها

وتنهد بارتياح مغمضاً عينيه ما أن تخللت أصابعها شعره وبدأ

الاسترخاء يزحف ببطء لملامحه كما باقي أطرافه المتشنجة بينما

اكتفت هي بالصمت والتركيز على ما تفعل تنظر لملامحه بحزن

وابتسامة محبة لا تفارق شفتيها .

كان لا يريد غيرها زوجة له كما كانت والدة وقاص قبلها لكن

والده وجنونه بكسر لعنة الابن الواحد جعله يدفع ثمن إطاعته له

وكان الثمن غالياً جداً وهو فقط من يتحمل تبعاته الآن .

انقطع حبل أفكاره تلك ما أن تغلب عليه النوم وسريعاً جداً بسبب

الصمت والهدوء وأصابع التي تتقن جيداً الطريقة التي كانت

تطبقها دائماً في الماضي وكلما عاد من شركتهم متعباً وفي وقت

متأخر تحاول أن تزيل عنه ولو جزء بسيط من كل ذاك التعب .

سحبت فخذها ببطء تدس الوسادة مكانه ما أن تأكدت من تعمقه

في النوم وغطت جسده باللحاف تنظر برحمة لملامحه المتعبة

حتى خلال نومه .. قبّلت جبينه وابتعدت عنه هامسة

" لا حرمنا الله من وجودك "

وغادرت بعدها الغرفة تغلق بابها خلفها بهدوء .

*
*
*

نزل السلالم يصل لمسمعه حديثهما متداخل الكلمات

لانخفاضه فوقف وأمال جسده من فوق السياج الخشبي

كعادته التي لازمته منذ صغره وظهر له ما كانا يشاهدانه

في شاشة الهاتف وقالت عمة والده تشير للصورة بإصبعها

" هذه الأجمل وأفضل من التي اخترتها "

قالت آستريا حينها

" لا هذه ثمنها مبالغ فيه كثيراً وتلك مشابهة لها ولا تختلف
عنها وسعرها أفضل "

مد شفتيه يحرك رأسه بفهم بينما قالت الجالسة ملاصقة لها

" سعرها يكمن في جودة الخشب الذي صنعت منه "

وتابعت بابتسامة

" ثم شراع الصغير لا يستحق إلا الأغلى والأفضل "


اعتدل في وقوفه حينها ونزل باقي عتبات السلم بخطوات

قافزة واستدار حوله ما أن وصل أسفله وتوجه نحوهما

ولازالتا في نقاشهما تشاهدان صوراً أخرى كما يبدو له ،

وما أن مر بجوارهما ومقصده الاريكة قربهما نظر لهما

بطرف عينيه قائلاً ببرود

" لا أعلم لما لم يسموني شراع ؟ "

لم تستطع جويريه إمساك ضحكتها بينما ابتسمت آستريا في

حياء تنظر لهاتفها في يدها تُقلب الصور بأصبعها دون أي

تركيز بينما ارتمى هو بجسده على الأريكة المريحة والتي

غاص فيها باسترخاء فارداً ذراعيه فوق ظهرها وقال

يضرب بأصابعه عليه في حركة متناغمة بينما ينظر متعمداً

للسقف

" حتى الغرفة يشترون له الأغلى ثمناً وهو لا يعلم إن كان
نائماً فيها أم في الشارع "

خرجت ضحكة آستريا المكتومة حين فقدت السيطرة الكلية

عليها بينما قالت عمته تشير له بيدها

" أنت آخر من يتحدث عن الأشياء الأغلى ثمناً فلم أرى
طفلاً حظي بما حظيت أنت به في طفولتك "


وتابعت تشير بيدها بعيداً هذه المرة

" لم تترك والدتك شيئاً يشتريه المال لم تحضره لك ، هذا
غير الذي اشتراه جدك وأعمامك ، وقبو المنزل القديم
يشهد فأغراضك وألعابك حين كنت طفلاً تملأ أكثر من ثلثه
مع كل اتساعه "

وتابعت بضيق ما أن رمقها بطرف عينيه ببرود وقد عادت

تشير له بيدها

" لقد دللوك دلالاً لولا شدة والدتك أحياناً لكنت الآن لا
تستطيع التحكم في لعابك وهو يتسلل من بين فكيك "

كانت الضحكة التي أطلقتها آستريا حينها حقيقية لم تستطع

ولا مجرد التفكير في كتمها أو إمساكها وهي تقهقه بها قبل

أن تمسك فمها بيدها تخفي باقيها حين رمقها بنظرة حانقة

بينما قال بضيق مخاطباً الأخرى

" يعجبك هكذا جعلتِ الثنانية تسخر مني ؟ "

قالت ببرود تبعد نظرها عنه

" أنا لم أقل سيئاً وعليك أن تفخر بهذا لا أن تستاء "

شد شفتيه بضيق وقال

" أنا كنت صغيراً ولا أذكر شيئاً مما تقولين لكني الآن ... "

وشد جفن عينه بسبابته ينزله للأسفل ينظر متعمداً لأستريا

وهو يتابع

" سأرى وأعي كل شيء وهم يشترون له كل ذلك "


ضحكت آستريا بينما رمت الجالسة بجانبها يدها نحوه في

تجاهل له وقالت وهي تنظر للهاتف الذي لازالت تمسكه

" دعينا نرى الخزانة بشكل واضح لنرى ما سنطلب من
تعديلات عليها "

قامت بما طلبت منها على الفور بينما نصب هو ساق على

الأخرى وقال ببرود يرمقهما بنظرة جانبية وقد عادتا

لمناقشة تفاصيل ما تتناقشان فيه

" عليكما اختيار سرير كبير يناسب تلك الغرفة لأنني
سأنتقل إلى هناك لأراقب كل شيء "


ضحكتا معاً هذه المرة وقالت جويرية تكتم ضحكتها ونظرها

لازالت على شاشة الهاتف بينما توجه حديثها للجالسة

ملاصقة لها

" يبدو جدياً فيما يقول وعليكم وضع آلة مراقبة
في غرفته "

نظر لها يضيق عينيه بينما ضحكت آستريا وقالت

" هو أكثر من سيحبه وسترين ذلك بعينيك "

وتابعت مبتسمة بصدق تنظر له

" ثم هو لن يكون في معزة ابن الكاسر رحمه الله
ولدى الجميع "


ابتسم ابتسامة واسعة حينها ونفخ صدره وقال ناظرا لها

" كنت سأبعث برسول لقبيلتك ليأتوا لأخذك من هنا
لكني تراجعت "

ضحكت ونظرت لشاشة هاتفها حين قالت الجالسة بجانبها

" انظري لهذا اللحاف كم هو جميل ويناسبها "

نظرت لها وقالت مبتسمة

" فلنتأكد من جنسه أولاً عمتي فقد تكون أنثى "

قالت مبتسمة

" لا بأس أنثى أنثى لونه غامق وجميل "

" آستريااا "

وقفت المعنية بالأمر ما أن وصلهم الصوت الرجولي الخشن

المرتفع وتحركت بخطوات مسرعة صوت ضربات شبشبها

المنزلي المصنوع من قاعدة خشبية على الأرضية الرخامية

والذي بالكاد تظهر تفاصيله مع قدميها من تحت فستانها

الطويل الواسع وحده ما يُسمع متجهة نحو ممر غرفتهما

ونظرات الكاسر تتبعها قبل أن ينظر للتي تركت لها هاتفها

لازالت تقلب في الصور الموجودة فيه وقال ببرود معلقاً

على صوت عمه المتجهم

" لازال يُزمجر ! "


قالت التي رمت يدها بلامبالاة بينما نظرها لازال على

الهاتف في يدها

" سيعتاد ويرضى بعد أيام فلا حل له غيره "

لكن رد فعله هو كان مغايراً وهو يقول بضيق

" لما لم يتقبل الأمر كعمي رماح أم أنه ليس شقيقها
مثله ! "

رفعت نظرها وأمسكت الهاتف بين يديها تنزله لحجرها

ونظرت للفراغ وتنهدت قائلة بوجوم

" ومن قال أن حديث رماح يعني تقبله أو رضاه بالأمر ؟ "


رمقها باستغراب قبل أن يقول بضيق

" وإن يكن فهو لم يقل شيئاً سيئاً ولم ينفث نيران
غضبه بنا "

وتابع ببرود مستاء وهو يبعد نظره ووجهه جانباً

" كلٌ له من اسمه نصيب بالفعل "

قالت التي نظرت له بضيق

" لو سمعك لجعلك تؤمن بها أكثر "

نظر لها وقال بضيق مماثل يشير بيده لنفسه ثم للبعيد

" هل وحده من يشعر وله قلب ؟ جميعنا تأثرنا بما حدث
لكن هذا لا يعني أن نلقي باللوم عليها أو نغضب ممن
يجهلون الأمر مثله "


زمت شفتيها وكأنها تمنعها من موافقته فيما قال قبل أن

تقول بجدية

" هو ليس غاضب منا ولا منها "

" لا أفهم لما تدافعين عنه عمتي ! "

نظرت له مصدومة من تصريحه واتهامه وقالت بحزم

" أنا لا أدافع عنه بل أتفهم بأنه لكل واحد منا شخصيته
التي تختلف عن الآخر في ردود أفعالها "

رمى يده بلامبالاة نحوها متمتماً

" أعتذر عن هذه الكلمة عمتي فهي حجة سخيفة للغاية "


تنفست بنفاذ صبر تحرك رأسها يأساً منه قبل أن تقول

بحزم تشير له بيدها

" هل سأحكم عليك إذاً بأنك لا تهتم بأمرها لهذا تمزح
وتضحك ؟ "

نظر لها بصدمة وكأن حشرة ما لسعته وقال بضيق

" لا أهتم ! "

وتابع من فوره وبكآبة

" إن ضحك الوجه فلا يعني أن القلب لا يبكي "

نظرت له بحزن ازداد أكثر ما أن لمعت عيناه ببريق حزين

بالرغم من أن صوته خرج متضايقاً

" ما جئت هنا وغادرت غرفتي إلا لأبحث عمّا ينسيني
قليلاً ما حدث "


وضرب على صدره واحمر جفناه فجأة مع امتلاء عيناه

بالدموع وهو يقول بحرقة تغلبت على صوته

" قسماً لو كنت تحت العاشرة ما نام أحد منكم ليلة
البارحة بسبب نواحي الباكي فلن يستطيع أحد لومي
على ذلك حينها "

نظرت له بعينين دامعة وعجزت عن قول أي شيء بينما

أنزل هو رأسه يتكئ بمرفقيه على ركبتيه منحني الظهر

ومسح عينها بحركة قوية من كفيه تحركت معها أصابعه

اتجاه صدغيه وأمسك رأسه تتخلل تلك الأصابع خصلات

شعره مما جعلها تغمض عينيها بحزن وأسى قبل أن تنظر

له تمسح عيناها أيضاً وخرجت عن صمتها قائلة بحزن

" جميعنا لم ننم البارحة ولا عمك رماح الذي بقي نور
غرفته مضاءً حتى الفجر لكن ما بيدنا نفعله ؟ وقول
أي شيء لن يأتي بنتيجة سوى شجارات جديدة بين
بقايا عائلة شقيقي "

ومسحت دموعاً ملأت عينيها مجدداً ودون أن تنزل ونظرت

له ما أن قال بأسى ولازال يحضن رأسه بيديه ونظره

للأرض تحته

" لولا أنه منعنا جميعنا من الوصول لها لكنت عندها
منذ البارحة "


قالت حينها بحزم خالف جميع مشاعرها السابقة ورغم

الحزن في عينيها

" أنت لم تعد طفلاً يا كاسر وذهابك لن يغير في
الأمر شيئاً "

رفع رأسه واستوى في جلوسه ونظر لها وقال بجدية وإن

كان الحزن لازال يسيطر على العينان التي لم تجف الدموع

من رموشها بعد

" أنا ما كنت لأحاول تغيير ما قررت هي وتريد وأثق بها

وبأنه من حقها أن تقرر مصيرها كأي شخص في هذه البلاد

ومتأكد تماماً وبعد علمنا بما حدث هناك بأنه ثمة سبب ما

وكبير جداً دفعها لكل ذلك "

وتابع بذات نبرته الجادة يشير ناحية ممر غرفة عمه هناك

" ثم كلام عمي رماح كان واقعياً حين قال بأنها لجأت لمن
كانت موقنة بأنه سينصفها عكس عائلتيها "

تنهدت في حيرة وعجز متمتمه

" أراح الله قلبها وقلوبنا جميعاً عليها "

وتابعت بحزن وشرود

" كل ما أخشاه أن تُضيف خسارة جديدة لكتاب حياتها
المليء بالحزن والألم "


تبدلت نظراته للأسى محدقاً بها يفكر في أن تكون النتيجة

كما قالت ورغم ذلك قال وباقتناع تام

" سيكون خيارها وعلينا فعلاً أن نحترمه فهي ابنة هذه
العائلة وليس مطر شاهين .. وعمي عقبة كان هو وجدي
شراع كالشقيقين طوال حياتهما "

تنهدت بأسى تحرك رأسها قبل أن ترفع نظرها له وقالت

تغير مجرى الحديث بأكمله

"هل جهزت نفسك للمدرسة فغداً يومك الأول ؟ "

أشاح بوجهه جانباً وتمتم ببرود

" لا شيء يمكن تجهيزه لليوم الأول عمتي "


قالت متجاهلة تعليقه ذاك

" سيكون لك أصدقاء جدد سريعاً كما أن وجود شقيقتك
معك هناك سيجعلها تتميز عن العمران كثيراً "

حرك رأسه هامسا دون اهتمام

"أجل "

سألت ونظراتها تتنقل في ملامحه بترقب

" هل اتصلت بك البارحة ؟ "

وانتظرت بفضول جوابه الذي كان مغايراً لتوقعاتها ما أن

تنهد قائلاً بشرود واجم

" لا وتمنيتها لو فعلت ولم أستطع فعلها أنا ، وحتى قاسم
اتصلت به وسألته وقال بأنها لم تحدثه ولم يفعل هو ذلك "


تنهدت بأسى وحزن فقد مر يومان لم تعرف أسوأ منهما

من قبل إلا موت الكاسر وشقيقها شراع ولازالت ترى أن

المصائب لم تأتي بعد بما أن ذاك الرجل لازال يتمسك

بصمته كما يُمسك يده وتلك المحاكمة لم تأتي بعد ، نظرت

له وقالت بهدوء حزين

" قد يكون ذلك أفضل وجيداً فعلتما فإن كانت تريد اجتياز ما
حدث وحيدة فهذا من حقها ولن تزيد مكالمتك تلك وضعها
إلا سوءاً "


اومأ برأسه دون أن يتحدث ونظر لجيب سترته الرياضية ما

أن علا صوت رنين هاتفه منها وفتح السّحاب الخاص به

وأخرجه ونظر لشاشته وقال وهو يقف

" هذا عمي رماح سأرى ما يريد "

وغادر بخطوات واسعة باتجاه ممر غرفته نظراتها تتبعه

وتنهدت بحزن على حال ابن شقيقها ذاك فهي لم تراه يغادر

غرفته منذ شجاره الاخير مع رعد كما الكاسر أيضاً وحتى

آستريا كانت هي من اقترحت عليها مُصرّة أن تختارا غرفة

طفلها رغم أن الوقت ما يزال مبكراً وكل ذلك لكي تسليها

قليلاً وتسلي نفسها معها فما حدث غلّف ذاك المنزل كاملاً

بالكآبة والحزن .


تنهدت مستغفره الله ووضعت هاتف آستريا على الطاولة

المجاورة للأريكة التي كانتا تجلسان عليها لتجده هنا فيما

بعد وما أن وقفت حتى نظرت مصدومة للكاسر الذي ظهر

راكضاً من الممر الذي غادر منه قبل أن يقف ويقول صارخاً

" تعالي عمتي بسرعة "


فلم تشعر بنفسها ولا تعب ساقيها ولا ظهرها وهي تركض

نحو المكان الذي اختفى منه مجدداً تشعر بقلبها سيخرج من

مكانه محطماً أضلعها حتى وصلت باب الغرفة المفتوح

ووقفت وضربت بكفها على صدرها في شهقة مصدومة

تنظر لجسد رماح الملقى على وجهه فوق أرضية الغرفة

وقد جثى الكاسر على ركبتيه قربه يحاول رفعه من ذراعه

ونظر لها وقال صائحاً

" عمتي تعالي ساعديني لا تقفي هكذا "


فأسرعت نحوه تسمي بالله بهمس مرتجف تمسك دموعها

مرغمة بسبب توصيات الأطباء وتحذيرات الجميع وساعدته

في أن يعيداه لسريره مجدداً وأجلساه عليه ونظرت لكرسيه

الذي كان في الجانب الآخر مما يعني بأنه لم يسقط وهو

يحاول الجلوس عليه فهو لم يسقط من قبل أبداً ولا في

انتقاله منه للسرير وللحمام فهل حاول الوقوف والمشي !

وتأكد لها ذلك ما أن نظرت له حين ضرب بقبضته على

فخذيه بشكل عشوائي فشهقت بصدمة ونزلت دموعها

رغماً عنها ما أن رأت دموعه لحظتها وهو يشتمهما مع

كل ضربة من قبضته بقوة وشعرت بكل شيء في جسدها

انتفض نحوه لكن وما أن اقتربا منه حتى صرخ ملوحاً بيده

دون أن ينظر لهما

" أريد أن أكون لوحدي "


وحين لم يستجب ايّا منهما لكلامه وقد تحرك الكاسر مجدداً

ناحيته صرخ بعنف أكبر

" غادرا لا أريد أحداً "


فأمسكت به وسحبته معها مجبراً وخرجت مغلقة الباب بقوة

كي لا يعود للداخل كما تُجزم أنه يريد أن يفعل واكتشف

حينها فقط بأن دموعه كانت تملأ وجهه ما أن نظر لها وقال

بضيق وصوت مبحوح من حبس البكاء

" لما أخرجتني عمتي فهو يحتاجنا الآن وإن رفض ذلك "


امتلأت عيناها بالدموع مجدداً بالرغم من أن صوتها خرج

حازماً تنظر لعينيه الباكية

" لن نفيده في شيء وهو يرفضنا .. رماح وأعرفه جيداً
منذ صغره فكيف بوضعه هذا "


تركها والتفت جهة جدار الغرفة التي تركاه فيها واتكأ عليه

بجبينه وكفيه وضرب رأسه به ضربات خفيفة متتالية يبكي

بصمت فنزلت دموعها تسقي وجنتيها ولامست كفها كتفه

وقالت ببؤس وبحة بكاء

" أخبرتك بأن ألمهما واحد وأن كل واحد منهما يُحمل نفسه
ذنب عجزه عن فعل شيء من أجلها فرعد أيضاً يلوم نفسه
أكثر مما هو غاضب منها "


وراقبته بحزن وهو يتركها ويغادر يمسح عيناه ودموعه

بأكمام سترته الربيعية الخفيفة واستندت بيدها على الجدار

بجانبها وملأت الدموع عيناها تنظر له حتى اختفى من

هناك ونظرت حينها لباب الغرفة المغلق قبل أن تتحرك حيث

اختفى الكاسر قبل قليل تتمنى من الله أن يحفظ ما تبقى من

هذه العائلة ويُخفف كرباتها وأوجاعها .

*
*
*



فيتامين سي غير متواجد حالياً  
التوقيع



شكراً منتداي الأول و الغالي ... وسام أعتز به


رد مع اقتباس
قديم 21-07-21, 12:10 AM   #16446

فيتامين سي

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة

alkap ~
 
الصورة الرمزية فيتامين سي

? العضوٌ??? » 12556
?  التسِجيلٌ » Jun 2008
? مشَارَ?اتْي » 42,437
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Saudi Arabia
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » فيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond repute
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي




*
*
*

دخل بخطوات مسرعة يدفع كل من يعترض طريقه بقوة وغضب

بل وطريقة مهينة تجعل النظرات والهمهمات الغاضبة تتبعه حتى

وصل الممر المقصود وظهر له شقيقه الواقف يستند بظهره على

الجدار خلفه مكتفاً ذراعيه القويان لصدره بينما نظره تركز تحديداً

على الواقف قريباً منه وتحرك بخطوات شبه راكضة نحوه وهجم

عليه يمسك بقميصه بسرعة لم يستطع ولا شعيب تداركها إلا

متأخراً وهو يمسكه من ذراعيه ويبعده عنه صارخاً

" توقف يا عيسى "

لكنه كان كالثور الهائج يريد الافلات منه بأي طريقة لينقض على

فريسته مجدداً ونظراته الغاضبة لا تفارق الذي كان يحاول ترتيب

قميصه بينما يتجنب النظر له وها هو ما فر منه جميع من كانوا

هناك يتحقق وأصبح هو المتهم الأول بمحاولة قتله ، وبالرغم من

أن شقيقه الأكبر لم يبدي ذات العداء والاتهام نحوه لكنه أيضاً لم

يعلق بشيء حين حكا له ما حدث وبطلب منه تحديداً وتجنب ذكر

الرجل المسؤول عن المستشفى بالطبع ، لكن صمته لا يعني أنه

يصدقه تصديقاً مطلقاً لأنه يراه عكس شقيقه هذا الذي يصرخ

ويثور أكثر مما يفعل بل يفعل دون حديث وهو من يجب الخوف

منه فالرجال أفعال كما يقولون وليس أقوالاً وفي الشر أيضاً

على ما يبد .

تراجع خطوة للوراء حين عاد لمهاجمته وقد دفعه شعيب بعيداً

وقال صارخاً

" قلت توقف أو أمرت رجالي برميك خارجاً "

صرخ حينها وهو يشير ليمان الذي كان ينظر له بصمت

" أتركني أقتله فلن ينجو بفعلته "

صرخ فيه شعيب مجدداً

" توقف يا عيسى حتى نعلم من وراء الأمر "

قال بانفعال غاضب

" ومن غيره وهو من جلبه إلى هنا ؟ "


تأفف شعيب بقوة قبل أن يقول بحدة

" يقول بأنه ليس هو وعلينا التأكد أولاً "

شخر بسخرية ممزوجة بغضب حارق قبل أن يقول

" وقل أنك صدقته يا شعيب ؟ "

أشار بيده لباب غرفة العناية المزدوج وقال بجدية

" سنعلم الحقيقة من نوح نفسه ولن يفلت الفاعل من العقاب
حينها فتريث "

ونظر ليمان وقال مشيراً برأسه نظراته كما ملامحه عابسة
عبوساً مخيفاً

" يمكنك المغادرة "


فتحرك من فوره لم تفته نظرات عيسى الحارقة له حتى اختفى

من أمامه ونظر حينها لشقيقه وقال بغضب يشير ورائه

" أُنظر لعجرفة ذاك الصعلوك ؟ كيف تركته يغادر ؟
! حتى أنه لا يهتم بتهديدي ! "

انفتح الباب قربهما حينها وخرجت منه الممرضة التي نظرت لهما

بضيق ولم يترك لها شعيب المجال لتقول ما يعلمه جيداً وأشار لها

بيده في علامة اعتذار صامت وأمسك بذراع شقيقه وابتعد به من

هناك حتى نهاية الممر حيث انتهى بباب حديدي مزدوج وكبير

غطا الجدار بأكمله وتركه حينها بحركة غاضبة وقال من

بين أسنانه

" ما لديه قاله لي ولن يجدي شجارك معه في شيء "

لكن الواقف أمامه كان له رأي مختلف تماماً وقال بضيق

" كان عليك سَجنه حتى نعلم من الفاعل أولاً "

أشار برأسه بعيداً قائلاً بحزم

" لن يستطيع الفرار منا بالرغم من أني أستبعد أن يكون هو "

وارتسمت السخرية على ملامحه وطرف شفتيه وأشار له هو هذه

المرة وقال

" ثم أنا أراك غاضب منه أكثر من قلقك على شقيقك الذي لم
تفكر أن تسأل عن حالته ! "


حدق فيه عيسى بصدمة قبل أن يقول مستنكراً

" ماذا تقصد بهذا ! "

أشارت يده جانباً حيث الباب الذي تركاه بعيداً خلفهما وقال بجدية

" أقصد بأن الطبيب قال لا نزيف في الدماغ وخلال الساعات
القادمة سيتم إخراجه من العناية إن استمر وضعه مستقراً "

قال عيسى من فوره

" علينا نقله لمكان آخر أو السفر به للخارج إن احتاج الأمر ولا
تثق فيما يقوله هؤلاء الأطباء المبتدئين "

حرك رأسه رافضاً قبل يقول وهو يدس يديه في جيبي بنطلونه

وقد أشار برأسه بعيداً

" أفضل وأمهر الأطباء يمكننا جلبهم إلى هنا بالمال لما نخاطر
بنقله من مكان لآخر ؟ ثم لا تنسى بأنه ينتظرنا ما هو أهم
والانشغال عنه سيضيع الفرصة منا "

حدق فيه باستغراب قبل أن يهمس

" عن ماذا تتحدث ! "

أخرج حينها يديه وكتفهما لصدره ومد وجهه نحوه قائلاً بتملق

ممزوج ببعض الضيق

" عن دجى الحالك وقضية الثأر والمحكمة يا أحمق أتحدث "

وتابع بجدية ظهرت جلية في صوته الخشن العميق

" فأنا لازالت أجمع أكابر كل عائلة في القبيلة والبعض
من مشايخ قبائل الجنوب لموعد محدد لن نكون الغائبين
عنه بالتأكيد "


نظر له الواقف أمامه بصمت لبرهة وقبل أن يقول عاقداً حاجبيه

" وماذا إن مات شقيقك هل ستترك عزائه ! "

واتسعت عيناه بصدمة ما أن أشار بيده قائلاً بحدة

" وإن متم جميعكم ولم يبقى غيري سأترك دفنكم وأكون هناك "

ففغر فاه وتحول الأمر لابتسامة ساخرة سريعاً وصفق بيديه

لمرتين متباعدتين وقال متملقاً

" أجل يا شعيب غيلوان .. من هذا الذي كان يعايرني
قبل قليل ؟ "

فشد شعيب على فكيه بقوة وغضب قبل أن يهمس ونظراته

المشتعلة لا تفارق العينان الساخرة أمامه

" إن كنت لا تعلم ما يعنيه الأمر لنا جميعاً لكنت عذرتك "

قال بضحكة ساخرة

" وبما سيفيدني إن كنتُ ميتاً "

تمتم شعيب بجمود

" سيفيد كل فرد من الجنوب حين يعلمون "

كان رد فعله على كلام شقيقه الأكبر سناً ذاك أن قهقه ضاحكاً

قبل أن يتحول الأمر لضحكات مكتومة يخفيها بقبضته الملاصقة

لشفتيه ما أن كانت نظرات الواقف أمامه ستلتهمه حياً ولا يستبعد

أن ينهال عليه ضرباً وقال يمسك ضحكته الساخرة

" هل ستقنعني الآن بأن كل ما يعنيك في الأمر الجنوب
وقبائله ؟ "

كشر حينها شعيب عن أنيابه كحيوان مفترس وقال بهمس غاضب

وإصرار وهو يرفع سبابته بينهما

" بل كل شيء وسأقتل تلك العائلة فرداً فرداً إن استلزم الأمر
وليتحقق ما أريد "

تنهد الواقف أمامه بضيق وقال يبعد وجهه ونظره عنه

" لا أرى الأمر مجدياً "

قال شعيب بحزم

" سيجدي وسترى بعينيك "


عاد بنظره له وحدق في عينيه بتفكير قبل أن يقول بجمود

" أراكما كلاكما تهذيان بما لن تنالاه مستقبلاً "

وتابع من فوره وبجدية يلوح بسبابته نحو وجهه

" وعليك أن تعلم يا شعيب بأن كل عام يمضي ليس في صالحك
وسنجلس حينها نندب حظنا جميعاً "

اشار له بيده وقال بضيق

" إن كان لديك حل غيره فأدلي بدلوك وأرحنا "

فرد ذراعيه جانباً وقال بحدة وغضب

" وما الحل مع شخص تريد أن تخنقه بيديك ولا تستطيع
أن تقتله ولا تريده أن يموت "


وأنزل يديه بقوة ما أن أنهى حديثه ذاك ونظر جانباً وتأفف

بغضب ووصله صوت الواقف أمامه والذي قال بحزم

" إذاً تصمت وتترك ذلك لغيرك "

نظر له سريعاً وقال بضيق

" لا أرى أننا نفعل شيئاً ذو نفع "

حرك رأسه بقوة يشير به للبعيد وقال بضيق أشد

" قل هذا لنفسك ولهما "

ونظر له باستغراب ما أن تبدلت ملامحه فجأة وقد ابتسم وقال

" نسيت أن أخبرك أن زكريا اتصل بي لأنه لم يستطع الاتصال
بك ولديه أخبار تسر القلب "


حدق فيه بصمت لبرهة قبل أن يهمس

" ماذا هناك ؟ "

وراقبه بفضول وقد أشار بإبهامه خلف كتفه قائلاً بحماس باسم

" الفتاة المجنونة باتت تقترب من حبل المشنقة ولن تخرج
منها هذه المرة وبتهمة قتل جديدة "

عاد للتحديق في عينيه بصمت قبل أن يقول بجمود

" وماذا عن شقيقها ؟ لا فائدة من كل ما يفعله هناك إن لم
يصل له خاصة وأنه بات يعلم أمراً مهماً سيفسد كل ما بنيناه "

قال عيسى محركاً كتفيه بلامبالاة

" وما في الأمر إن رأى زكريا معنا ؟ قد لا يكون سمع ما قلناه "

لكنه قابل لامبالاته تلك بالغضب قائلاً

" كيف لم يسمع ونحن كنا نتشاجر بأصوات عالية حينها ؟ "

شد شفتيه بضيق وقال يغير مجرى الحديث

" هو قال بأنه لم يستطع الوصول لمكانه حتى الآن "

وعاد لتحريك كتفه بلامبالاة متمتماً

" ثم قد لا يعيش أساساً "

لكن شعيب يبدو لم يعجبه الموضوع الجديد أيضاً وهو

يقول بضيق

" مؤكد لن يعرف مكانه لأن الأحمق أضاع الفرصة
الأولى والأخيرة "


وتابع بحدة يشير بسبابته بعيداً

" ثم أنا قلت وبشكل واضح تماماً بأنه عليه أن يصل له عن
طريق شقيقته تلك لا أن يلف حبل المشنقة حول عنقها من الآن
فهو يتصرف على هواه .. ذاك فقط ما يفعله "

واولاه ظهره ما أن أنهى حديثه ذاك مواجهاً للنافذة المغلقة أمامه

يمسك وسطه بيده وأنفاسه الغاضبة تظهر له بوضوح من خلفه

فلوى شفتيه بضيق .. يكره تلقيه للتوبيخ الدائم عن أي تقصير

يحدث منهما وكأنه هو الفاعل وليس هما ! قال يغير مجرى

الحديث بأكمله هذه المرة

" إن مات عيسى بسبب ما حدث فهي فرصتنا لرمي المدعو
يمان في السجن "

وانتظر للحظات تعليق الذي كتف ذراعيه لصدره ونظر جانباً

ولازال يوليه ظهره وقد همس بصوت منخفض

" وهذا ما كنت أفكر فيه "

ضحك حينها قائلاً

" حقاً ! "

وتابع يراقب نصف وجهه المقابل له والابتسامة المتسعة لازالت

تزين شفتيه

" لهذا كنت هادئاً حينها وكأن شيئاً لم يكن ؟! "

استدار له بكامل جسده وقال عاقداً حاجبيه بضيق

" أجل ومن دون تسرع ومشاجرات كما كنت تفعل "

حدق فيه بصمت للبرهة قبل أن يقول بنظرة تفكير

" لكنه أيضاً من يأوي ابنة الإيرلندية لديه "

أبعد شعيب نظره عنه وهو يهمس ببرود

" سنجد لها حلاً ما ليست مشكلة "

فابتسم الواقف أمامه بشر وقال ناظراً لعينيه

" وإن نجا منها علينا إيجاد مصيبة ما قانونية لتدميره بما أنه
ملتصق بنا أما شقيقته تلك فكل ما أنتظره أن تخرج من حصن
ابنة شاهين "

أومأ برأسه موافقاً ورفع نظره له وقال بجدية

"المهم الآن أريدك أن تبقى هنا قريباً منه حتى نرى ما سيكون
وضعه وأنا عليا الذهاب لمدن السويداء فوراً أريد مقابلتهم جميعاً
وجهاً لوجه والتحدث معهم "

قال عيسى سريعاً

"وماذا إن علم ابن شاهين من خلالهم عمّا تنوي فعله ؟ "

قال بجمود يشير بسبابته لرأسه

" وهل جننت لأخبرهم ماذا سنفعل هناك ؟ لن يعلموا شيئاً
حتى نكون أمام القاضي في المحكمة "


وربتت يده على كتفه وقال مغادراً

" لا تتركه حتى يغادر من هذه الغرفة أنا أعتمد عليك "

وغادر مبتعداً عنه ونظراته تتبعه حتى اختفى وتحرك من مكانه

حينها ناحية الباب الذي كانا أمامه قبل قليل وارتمى بجسده على

أحد الكراسي المصفوفة بجانبه وتأفف متذمراً فهو لم ينقله ولا

لأحد مستشفيات حوران الخاصة ليجد مكاناً أفضل من هذا

يجلس فيه .


نصب ساق فوق الأخرى واتكأ بظهره للخلف وكتف ذراعيه

لصدره فكلها ساعات قليلة ويخرجوه من هنا ويتحرر .

ابتسم بسخرية من أفكاره تلك فعن أي حرية يتحدث فسيجد

نفسه يتلقى أوامر اخرى عليه تنفيذها ودون رفض أو تذمّر .


هب واقفاً ما أن انفتح الباب بجانبه على مصراعيه ونظر

للممرضة التي خرجت أولاً تسير للوراء تسحب شيء ما بيديها

اكتشف سريعاً بأنه السرير الذي يضعون شقيقه فوقه والغائب

عمّا حوله تماماً ملفوف الرأس بضمادة كبيرة قبل أن تخرج

الممرضة الأخرى والتي كانت تدفع السرير معها ونقل نظره

منهما للطبيب الذي خرج خلفهما فترك كل شيء وتوجه

نحوه قائلاً

" ما وضعه ولما أخرجتموه من هنا !؟ "

وابتسم بارتياح ما أن قال الذي وقف مقابلاً له

" وضعه أصبح جيداً وفتح عينيه وتحدث معنا منذ قليل لذلك
سيتم نقله لغرفة اخرى "

حدق خلفه باستغراب حيث السرير الذي تدفعه الممرضتان بعيداً

قبل أن يعود بنظره له وقال

" لكنه لم يكن في وعيه ! "

قال الذي ابتسم من فوره

" هذا لأننا حقناه بالمسكن قبل قليل فهو لازال يتألم بسبب
الجرح البليغ في رأسه "

وتركه وسار في ذات الاتجاه قائلاً

" يمكنك رؤيته والتحدث معه ما أن يفيق .. حمداً لله
على سلامته "

*
*
*

كان الصمت رفيقاً لطريقهما خلال شوارع بريستول كما كانت

رحلتهما السابقة ، ورغم تحرك كل شيء من حوله في المدينة

الصاخبة إلا أن أفكاره كانت لا تترك له إلا حيزاً ضيقاً ليركز على

طريقه .. أفكار باتت كحلقات سلسلة ضخمة من الفولاذ كلما

غادر حلقة منها جذبته الأخرى لها ولا يعلم متى تنتهي وكم

سيتحمل هذا العقل البشري الموجود في رأسه قبل أن يفقده

وللأبد فلم يعرف يوماً معنى ما وجد فيه نفسه الآن فإن فر من

التفكير في الجريمة المعقدة التي تنتظره بسبب اعتراف المتهمة

بها بارتكابها تلقفته مسألة مرض شقيقه المتوفى واحتمالية نقل

المرض لها فليس ثمة رجل عاقل تكون كهذه زوجة له ولا

يقربها .. وذاك ما كان يرعبه في الأمر ويجعله يفر من التفكير

فيه لتعاود مأساته طريقها ويختطفه لغز آخر ينتظر بشغف حيزاً

له في العقل المشوش بالأفكار وتعود التساؤلات التي لا يجد لها

أجوبة تامة شافية آخرها ظهور شقيقها أمامه ومعرفة جده

بمكانه ! ولن يكون هو من وضعه في ذاك المكان بالتأكيد لما كان

قال بأنهم قد يسمحوا له بالدخول بل كان سيأمرهم وهم يطيعون

فقط ! فمن وراء هذا إن لم يكن جده ؟

هو ذات الشخص القوي الذي كان يحميها وتكفل بشفائها بالتأكيد

لكن من يكون إن لم يكن مطر شاهين !

وهل منع جده من رؤية حفيده ذاك !.

تنفس عميقاً يستغفر الله بهمس أجش كئيب يشبه كل ما يجتاح

دواخله وها هو قذف بنفسه خارج الحلقة الجديدة ليكون فريسة

للتي تليها بلا شك .

وكم حمد الله حين وجد أن الخارطة الإلكترونية في شاشة السيارة

أمامه تشير بوميض أحمر أنه وصل الوجهة التي حددها لها ،

وما أن رفع نظره للبناء الذي انكشف له من خلف أشجار الزينة

وأوراقها اللامعة تحت الأضواء المنتشرة بكثرة ظهرت بوضوح

اللافتة التي استقرت أعلاه كُتب اسمه عليها وكما كان يتوقع

تماماً كان مصحاً خاصاً ومن حجم مبناه لا يبدو أنه يشمل

تخصصات متنوعة .. وهو ما أكده له ظهور لافتته بشكل أوضع

مع استدارة سيارته لدخول المرآب الخاص به حيث كان متخصصاً

بالأمراض العصبية وجراحة المخ والأعصاب ومؤكد سيكون هذا

مكانه بما أنه في غيبوبة دماغية لا يعلم أحد غير الله متى قد يفيق

منها .. وهذا إن شاءت أقداره وحدث ذلك فعلاً .

كان الطريق الحجري المخصص والذي سلكاه بين المرآب

والمشفى متعرجاً قليلاً وكأنهم يتعمدون جولة كئيبة في الحديقة

الجميلة التي تحيط بواجهته ! بينما تجنب مجرد النظر ناحية

رفيقته الصامتة تماماً والتي لا يُسمع سوى صوت خطواتهما

وكأنه يحترم كل شيء يخص لحظاتها هذه وهو من يعلم جيداً

الارتباط الروحي قبل الغريزي الذي يربطها بشقيقها التوأم ذاك

كما يجزم بأنه الخيط الرفيع الذي يربط بينها وبين الموت إن

كانت تتنفس أم لا .

ما أن اجتازا الباب الزجاجي الواسع المفتوح على مصراعيه كانا

أمام ردهة واسعة جداً حوت ثلاث طاولات استقبال في أماكن

متفرقة وصالونات جلدية جلس القليلون على بعضها وعلم

فوراً أي مشفى ذاك وبأنه وجهة أغنياء تلك المدينة فقط .

وقف عند طاولة الاستقبال الرئيسية في الأسفل وما أن نظرت له

الشقراء الجالسة خلفها مبتسمة تنتظر ما يريد قوله لم يعرف

حقاً ما عليه التفوه به ومن أجل من هو هنا وبأي اسم تم تسجيله

كنزيل لديهم بإسمه الحقيقي أم اسم مزور كشقيقته ؟

وهل قول اسمه الذي يعرفه سيشكل خطراً عليه بما أنه تعرض

لحادث مدبر ؟

تمنى لحظتها لو أنه اتصل بجده وسأله عن هذا لكنه لم

يذكره له !

فقام بأمر واحد ذكره في رسالته تلك ما أن قالت التي تبدلت

ابتسامتها لأخرى مستفهمة

" تفضل سيدي .. بما يمكنني مساعدتكما ؟ "

فمد لها بالبطاقة التي أخرجها من محفظته الجلدية وما أن

استلمتها منه ونظرت لبياناتها رفعت نظرها له وقالت وهي تقف

" مرحبا بك سيدي كيف يمكننا تقديم خدماتنا لك ؟ "

وعلم حينها أن وضيفته المدونة فيها السبب قبل اسم عائلته فقال

ما أمره عقله سريعاً بقوله أو لم يجد لديه غيره

" ثمة مريض هنا لديكم عليا رؤيته "

انحنت لشاشة الحاسوب أمامها سريعاً وهي تقول

" ما هو اسمه ؟ "

فتنهد بعجز ونظر للأسفل بينما تخللت أصابعه خصلات شعر

قفا عنقه وما أن رفع نظره لها كانت تنظر له رغم انحناء

جسدها بميلان جانبي خفيف بسبب يدها التي لازالت أصابعها

تقف منتظرة على لوحة المفاتيح تنتظر جوابه الذي لا يعرفه

أساساً ! فنظر يميناً ناحية الباب الواسع في حركة لا إرادية

قبل أن يعود بنظره لها وقال بابتسامة محرجة

" لا أعلم "

فخرجت منها ضحكة صغيرة وهي تستوي واقفة وقالت

" وكيف سنوصلك له وأنت لا تعرف اسمه ! "

نظر يساراً حيث الواقفة خلف كتفه بخطوة واحدة والتي وجدها

تنظر للفتاة وقد نظرت له حينها ودون أن تتحدث تنظر لعينيه فقط

وفهم أنها أيضاً ترفض قول اسمه الحقيقي ولا تملك غيره فزم

شفتيه بقوة ونظر للتي لازالت واقفة تنتظره وقال

" هو في غيبوبة مؤكد لا يوجد الكثير من المرضى في حالته "

وما أن طال تحديقها في عينيه لثوانٍ معدودة دون حديث علم أنه

أصاب الحقيقة ولا نزيل غيره بتلك الحالة هنا حالياً وهو من يعلم

جيداً تكلفة الليلة الواحدة التي ينامها المريض هنا ومثل هذه

الحالات لا تتكرر لديهم كثيراً خاصة ولندن لا تبعد عنهم سوى

مسافة ساعتين كحد أقصى .

وتأكد له ذلك حين رفعت سماعة الهاتف وتحدثت سريعاً ولازالت

تنظر لعينيه بينما تعمدت خفض صوتها بشكل واضح عمن حولها

" النزيل سمحاق السلطان لديه زوار "

فحدق فيها باستغراب وهي تضع السماعة ولم تترك له مجالاً ولا

للتفكير وهي تشير بيدها يساراً قائلة

" من هناك .. ستكون ثمة ممرضة في انتظارك عند الممر
رقم ثلاثة "

فشكرها هامساً وتحرك في ذاك الاتجاه تستشعر أذناه حذاء التي

تبعته فوراً وفي صمت وتمنى لو تشاركا الأفكار معاً وإن كانت

مثله لم تتوقع أن يتم استخدام اسمه الحقيقي أم لا ؟ لكنه لن

يحاول فعلها بالتأكيد فثمة طريق طويل جداً أمامه ليجعل منها

امرأة يمكنه تبادل الأحاديث الكثيرة معها ولتغادر صمتها الطويل

وانزوائها عن الجميع والذي لم تترك لها مصائبها المتوالية مجالاً

للتحرر منه .

كان بالفعل ثمة ممرضة بثياب زهرية مخصصة تنتظرهما عند

تشعب نهاية الممر القصير الذي سلكاه والتي طلبت بطاقته قبل أن

تسير أمامهما دون أن تسلمها له وسارا خلفها في منحنيات ثلاث

وكأنهم يدورون حول المكان وهم بداخله ! حتى أصبحوا أخيراً

في ردهة صغيرة بها طاولة استقبال مدمجة مع جدرانها وكأنها

لغرفة خلفها يجلس فوق المقعد الوحيد هناك شاب بثياب زرقاء

غامقة تخص الممرضين الذكور كما يبدو ، ووقفا خلف رفيقتهم

التي سلمته البطاقة دون تتبادل أي حديث معه وغادرت ونظراته

تبعتها بحركة سريعة منه قبل أن ينحني لحاسوبه ودوّن

المعلومات منها ونظره ينتقل بينها وبين شاشته ثم استوى واقفاً

ونظر لوقاص ومد يده له ببطاقته بينما كانت الأخرى ترفع

سماعة هاتف وضع بجانب جهاز الحاسوب اللوحي فأخذها منه

بينما نظراته تراقب شفتيه حين قال لمن انتظره بعض الوقت

" ثمة زوار "


كان هذا فقط ما قاله ورفع نظره بهم بعد أن لامست أصابعه زراً

ما في لوحة الحاسوب قائلاً بجدية وكأنه رجل مخابرات

وليس ممرضاً !

" عليكما أن تعلما أن المكان مراقب بالكامل بعد اجتيازكما الباب
الأخضر وثمة جهاز يكشف عن المعادن فيه وإن كان رأس
دبوس سيكتشفه "

وما أن أنهى حديثه ذاك عاد للنظر لشاشة حاسوبه فتحرك وقاص

بعد نظرة سريعة للتي سارت خلفه ولم يستغرب كل تلك الحماية

حوله فيبدو أن ذاك الرجل يعلم أي خطر يحدق به وبات مقتنعاً

أكثر بأنه ليس جده من فعلها ووضعه هنا ليضيف له لغزاً جديداً

حوله وحول هذان التوأمان وأشباح مطارديهما !.

ما أن وصلا الباب الذي قال عنه وجد هناك ما استغرب تغيبه

حتى الآن وهم رجال أمن بأسلحة مثبتة في أحزمتهم وكان

عددهم ثلاثة ، ولم يكن يمكنه وصفهم مطلقاً برجال أمن فلباسهم

لم يكن يشبه ملابس الموجودين عند باب المشفى في الخارج

لتوفير الحماية عند حدوث أي شغب بل كانت ثيابهم سوداء كما

أجسادهم وعضلاتهم التي برزت من ملابسهم تلك وكأنهم

قوات خاصة !

والأغرب من ذلك ملامحهم الأقرب للعرب منها للإنجليز !

وهذا دليل آخر أنه ذاك الرجل وليس جده ، بينما لم يجتز أيّا

منهم ذاك الباب وكأنه يُخشى حتى من خيانتهم !

توجه أحدهم نحوه وطلب بطاقته وبطاقة زيزفون ولأول مرة منذ

دخولهما فأخرجها له وكانت بإسمها الحقيقي وهو الاسم الذي تم

إضافته لجميع أوراق جريمة مقتل نجيب وبطلب من جده ويوافقه

هو على ذلك تماماً فوجودها أمام القضاء البريطاني باسم مزور

قد تكون عواقبه وخيمة جداً ولن يصعب عليهم كشفه وبكل

سهولة بمجرد التحري عنه .. وبالرغم من أن هذا الاسم له جرائم

سابقة في بلادها هناك لكن لا حل أمامهم غيره .

كان عليه هذه المرة ترك هويتيهما معهم لوقت خروجهما

عكس السابق ووقف ما أن وصل الباب الذي كان يبعد عنه بضع

خطوات فقط ونظر للطاولة الخشبية البيضاء بأذرع حديديّة لامعة

مخصصة للمستشفيات موضوعة بجانبه وفهم سبب وجودها

سريعاً وهو ما جعله يخرج مفاتيحه من جيبه كما محفظته التي

كانت تحوي حوافاً معدنية ووضعها فوقها قبل أن ينزع ساعته

أيضاً والتفت وهو يضعها معهم للتي نظرت له بصمت بعد أن

كانت عيناها تتبع حركة يده وانحنت للأسفل ونزعت حذائها

الذي كان يحوي دبوساً حديدياً ووقفت حافية القدمين وارتفعت

يداها بعدها لشعرها ودستهما تحته خلف عنقها ونزعت السلسال

الذهبي الذي جلبه لها سابقاً يحوي خواتم الزواج الخاصة

بوالديها وجدتها ولا يفهم لما كل هذا والمكان مراقب كما

يقولون ! مؤكد يخشون من أمور لا تلتقطها أجهزة المراقبة

ويبدو أن ذاك الرجل يهتم لسلامته أكثر حتى من شقيقته !

وما أن عبرا ذاك الباب تباطأت خطواته القصيرة خلاله حين سمع

حديث من تركهم هناك وقد قال أحدهما

" كيف سُمح لهما ! "

وتابع خطواته مكرهاً ولو كان الأمر بيده لتوقف لسماع أي تعليق

على ما قال رفيقهما بالرغم من أن الأمر لا يحتاج أن يتأكد أكثر

بأنه لا يُسمح لأحد وأيًّا كان باجتياز هذا الباب !.


*
*
*

ابتسمت لنفسها وهي تضع حبة الكرز أعلى الكعكة وتذكرت

السنوات الماضية حين كانت تعدها والدتها في كل مرة وهي

لا تفعل شيئاً سوى هذا ثم تقول بأنها من أعدها .

ضحكت بخفة وهي تبعد يديها عنها وها قد مر العشاء بدون

مشكلات تنتهي بها لتوبيخ معتبر من والدتها ، ولا تنكر أيضاً

بأنها أمسكت لسانها بالقوة حين تطرق ضيفهم لذات الموضوع

على طاولة العشاء و يبدو مستاءً بالفعل من تلك العائلة ومن

ابنة شقيقه أيضاً .. ووالدتها كانت على حق ما ذنب ماريه تتحمل

أفعال تلك البلهاء المدللة ؟

بالرغم من أنها تخشى أن تنتهي لذات نهايتها وهي الانتحار

وبسبب الشخص نفسه .

حملت الكعكة بين يديها واستدارت حيث والدتها التي كانت قد

حملت الأطباق والشوك وقالت بضحكة صغيرة

" ها قد انتهيت أخيراً "

وتحركت من مكانها مبتسمة تتبع التي سارت أمامها

قائلة بضحكة

" يفترض أنك تعلمتها من كثرة ما انتظرت لحظة وضع
الكرزة لسنوات "

اجتازت باب المطبخ تسير خلفها قائلة بابتسامة واسعة

" يكفيني هذا الشرف "

واتبعت كلماتها تلك بضحكة رقيقة اختفت بسرعة البرق حين

قالت التي عبرت غرفة الطعام أمامها

" من حسن حظك أن زوجك ثرياً ولديهم خادمات "

لوت شفتيها متنهدة بضيق وقالت باستياء تنظر لقفاها أمامها

" أمي لما تعشقين تعكير مزاجي وكأنك تكرهين رؤيتي
مبتسمة ؟! "


وكان رد فعلها الوحيد أن حركت رأسها مبتسمة في يأس منها

ولم تعلق لأنهما حينها قد اقتربتا من المكان الذي عادوا للجلوس

فيه بعد العشاء وبعد أن اعتذر ضيفهم بلباقة عن اقتراحها لتناول

الكعك في غرفة الشاي المخصصة والتي تطل على حديقة المنزل

الخلفية ونافورتها الصغيرة الجميلة بسبب الظلام وقد قال

وبكل صراحة

( الشاي بعد العشاء يكون في غرفة الموسيقى أما تلك الغرفة فلقهوة الفطور وللشاي بعد الغذاء )

ولم ينزعج أي منهم من ملاحظته تلك وهم يعلمون طباعه جيداً

واكتفوا بابتسامة ابنه المحرجة وهو يحرك رأسه لهم معتذراً

في صمت بينما ابتسما هما له في تفهم ، وحمدت مضيفتهم

الله لحظتها أن ابنتها لم تكن هناك لأنها تولت مهمة حمل

الأطباق للمطبخ لما كانت لتفوت الفرصة أبداً وتعرفها جيداً .

وضعت الأطباق على الطاولة وكانت قد بدأت بتوزيعها أمامهم

حين وضعت ساندرين الكعكة قائلة بضحكة

" وضعت آخر حبة كرز طازجة للتو فوقها "

فقال فاليريو مبتسماً وهو يرفع شوكته ونظره عليها أمامه

" أنتِ من أعدها ! تبدوا شهية فعلاً "

وسبق والده أي تعليق أو حديث أو حتى ضحكات وهو ينظر له

بضيق ورفع عصاه وكأنه سيضربه بها قائلاً بصرامة

" لما ترفع شوكتك قبل أن يضعوا حصتك في طبقك ؟ كم مرة
سأنبهك للتصرف بلباقة "

وانطلقت حينها الضحكات المؤجلة حتى منه هو نفسه المعني

بالأمر عدا والده الذي كان يتمتم بضيق وهو يعيد عصاه مكانها

ليقطع كل تلك الضحكات جرس باب المنزل والذي جعل رنينه

الصمت يعم المكان بينما تبادل ساكنيه نظرة مستغربة قبل أن

تقول ساندرين وهي تتجه نحوه

" سأفتح أنا "

وتحركت بخطوات شبه راكضة ناحية الباب الخشبي الثقيل الذي

وإن كان يبعد عنهم مسافة لابأس بها إلا أنه لا يفصله عن مكان

جلوسهم أي شيء لذلك تبعت الأحداق جميعها خطواتها نحوه

بينما لم يعاود الواقف خلفه الرنين حتى وصلت خطواتها

المسرعة له وفتحته بيد بينما كانت تمسك يدها الأخرى الجزء

الصغير الثابت منه ممتدة الذراع ووقفت مكانها مصدومة تنظر

للتي كانت تقابلها في ذات هيئة وقوفها وكأنها تسند نفسها به

عن السقوط أرضاً خصلات شعرها وغرتها الجافة تجمعت في

مجموعات بسبب ابتلالها سابقاً وتعرضها للهواء وكانت تتدلى

على جانبي وجهها وجبينها حتى أطراف رموشها وإن لم تستطع

إخفاء العينان المتورمة الحزينة والشفتين المطبقة بقوة وكأنهما

ممنوعتان قسراً عن إصدار أي ردة فعل في لحظات صمت

قصيرة كم كانت طويلة على كلتيهما كما الجالسون هناك ينظر

الجميع بترقب وفضول فطري نحو ظهر التي كانت تخفي كل

شيء عنهم والتي لم تجتز صدمتها بسهولة سامحة لشفتيها

بالهمس في ذهول

" ماريه !! "

فلمعت عينا الواقفة أمامها بشيء لم تكن تجزم بأنه دموع بل

تعبير أقوى من ذلك وأكثر عمقاً وقهراً وقد حررت شفتيها أخيراً

وخرج همسها خافتاً من بينهما وكأنه يخرج من نظرة الانكسار

والضياع في عينيها

" آسفة لا مكان لي غير هذا "

وكان ذاك زر التشغيل الذي جعل الواقفة أمامها تترك الباب

وتوجهت نحوها هامسة

ب ( ياالله )

بحزن ويداها تلامس خصلات شعرها وجانب وجهها انتقالا

لذراعيها قبل أن تعود بهما لوجهها وكأنها فقدت الصلة بينهما

وبين عقلها وقالت بأسى حزين

" ما هذا الذي تقولينه ماريه ! "


وشعرت بالندم على كل ما قالته لها سابقاً حين غادرت معه

بالرغم من غضبها المتأجج منه لكنها تسببت بالأذى لها هي

وليس لذاك المتحجر للأسف ، وازداد ارتباكها حين شعرت بأنها

لم تعد تقوى على التوازن أكثر لازالت يدها تتمسك بطرف الباب

بقوة وكأنه أملها الوحيد للصمود فنظرت للخلف بينما عادت

لتمسك بذراعيها ونادت بوجل ظهر جلياً في ملامحها قبل صوتها

" أمي "

مما جعل الجالسة هناك تثب واقفة وتحركت نحوها بخطوات

مسرعة مخلفة حيرة أكبر لدى الجالسين مكانهم ، وما أن وصلت

حيث تقف ابنتها حتى شهقت تضع يدها فوق صدرها تنظر للتي

لازالت تقاوم بوهن لتبقى واقفة على قدميها ولحالتها المزرية

وقد بدأت تنكس رأسها للأسفل ولا أحد يعلم وهناً منها أم خجلاً

منهم وهي التي كانت تضعهم آخر خياراتها في كل شيء قبل

اليوم ؟ قالت ما أن اجتازت صدمتها

" ماريه ما بك ! "

وعجز لسانها عن قول غير ذلك حين لم تعد تعرف عن ماذا تسأل

تحديداً ! ونظرت سريعاً لزوجها الذي بات يقف بجانبها فقد تبعها

بعدما تغلب عليه ارتيابه للأمر ، ولم يكن وضعه بأفضل حالاً

منهما إلا أنه اجتاز الأمر بسرعة أكبر ونظر لابنته التي كانت

تسندها ما أن خارت قواها تماماً وقد قالت بضيق امتزج بالكثير

من التعاسة

" أُنظر أبي ماذا فعل بها .. أُنظر "

فتشتت نظراته الضائعة بينهما وما أن كانت زوجته ستتحدث رفع

يده المجاورة لها وقال بحزم وإن تعمد خفض صوته

" ليس وقت قول أي شيء وهما هنا .. خذاها لغرفة كين سريعاً
لا نريد أي مشكلات الآن ولا أي تَسرّع "

وتحرك من مكانه عائداً حيث ضيفاه اللذان كانا يراقبان ما يجري

من بعيد باستغراب بينما تنقلت نظراتهما بينه وبين المرأة التي

رافقت ابنته نحو الممر الشرقي لا يظهر لهم من ملامحها شيئاً

تسندها ممسكة بخصرها تساعدها على السير وتولت زوجته

إغلاق الباب ولحقت به حين جلس مكانه ولم تستطع أضلعه أن

تخفي تنهده القوي لحظتها وكأنه ينفس عن كرب عظيم يشعر به

داخله ، وكسر فاليريو حاجز الصمت المشحون حينها قائلاً ينظر

له باستغراب

" من تكون تلك المرأة وما بها ! "

فنقل نظراته المشتتة بينهما وكان سيتحدث لولا أن سبقته التي

وقفت بجانب كرسيه قائلة بسرعة

" هي جارتي وصديقة ساندي "


وتبادلت مع زوجها نظرة خاطفة قبل أن تعود بنظرها للعينين التي

لازالت تحدق فيها باستغراب متابعة

" لقد تشاجرت مع زوجها مجدداً "

واطبقت شفتيها فور أن نطقت بآخر كلمة وكأنها تقنع لسانها بأنه

أجاد صياغة الأكذوبة ولا يحتاج الأمر للمزيد ، ونظرت لفالريو

الذي قال باستغراب عاقداً حاجبيه

" يضربها !! "

فقالت مسرعة تحرك يدها

" لا لا .. "


ونظرت لزوجها نظرة استجداء لأي مساعدة منه فهما لا يعلمان

إن رأيا ملامحها رغم أنهما لم يلتقيا بها منذ أصبحا هنا ولا

يريدان أن يتعرفا عليها مستقبلاً ليعلما الحالة التي جاءت بها هنا

والأب تحديداً مع رأيه المتعصب نحوها ، تحدث غاستوني وخرج

عن صمته قائلاً بضيق

" ولما تغادر منزلها بمنشفة الحمام ! ما سوء التصرف هذا ؟ "

فكورت شفتيها في امتعاض ونظرت لزوجها الذي أشار لها برأسه

ونظرة فهمتها فوراً فتنهدت بقلة حيلة ولحقت بابنتها وضيفتهم

الجديدة الغير متوقعة .


*
*
*


اتكأ برأسه على الجدار خلفه وكتف ذراعيه لصدره لا شيء

يُسمع سوى صوت الطنين المتقطع لأحد الأجهزة والخارج من

الباب المفتوح هناك حيث المكان الذي تركها تدخل له لوحدها

وكأنه يحترم اختلائها بشقيقها وإن كان ذاك الشقيق مُغيب تماماً

عمّا حوله فكان وكأنه احترام لاختلائها هي بمشاعرها وبعيداً عنه

بالرغم من تساؤلات نفسه المتضاربة حول تلك المشاعر مع

الظروف التي تعيشها ! وظهرت صورتها أمام عينيه والهواء

يتلاعب بخصلات الشعر الشقراء رغم ابتعاده عن وجهها وهي

تضع شرطها لمسامحتهم ونسيان كل ما عانته بسببهم .. بل وهي

تقتله مجدداً تذبحه تمزق روحه ولا يمكنه لوم غيرهم على كل

هذا فما من أحد يمكنه تخيل أن يعيش مأساتها تلك ويغفر

بسهولة ، بل وجزء واحد منها كان كافياً لجعل أي واحد منهم

يكرههم ما عاش في هذه الحياة فكيف بموت والدها مقهوراً

منبوذاً بلا هوية وقبل أن تعرفه وتراه ثم تخلي والدتها عنها

لحمايتها من مصير شقيقها المجهول يليه موت جدتها وأمام

عينيها بعد مأساة طويلة مع الفقر والعوز والتهجير في بلاد حرب

وموت وتشرد وحين عادت لحضن والدتها واجتمعت بشقيقها

كانت مأساتها الأعظم من كل تلك الكوارث مجتمعة ورغم عظمها

وهو موت تلك الأم محترقة أمامها وشقيقها ذو العشرة أعوام

يقتل الزوج وفي وجودها أيضاً ولسبب لازال مبهماً حتى في

ملفات القضاء وكأنه ثمة من يخفيه متعمداً !

فما المتوقع منها ؟

وماذا كان ينتظر أن تجيب ؟

وكيف يمكنهم لومها ؟

فلو أن جدها بالفعل اعترف بابنه لكان ووالدته منذ البداية هنا

معهم واستطاع أن يحي حياة كريمة ولكان أبناؤه ترعرعوا معهم

ومثلهم تماماً .


يعلم بأن القدر لا يمسكه ولا يغيره البشر لكن قرارات جده كانت

خاطئة جميعها فيما يخصهم ولا يمكن لأحد الدفاع عنه والتحجج

بالأقدار لتبرئته ، وها هو يراه اليوم يزيد الجروح نزيفاً بدلاً من

شفائها وكأنه يترفع عن الاعتراف بأخطائه !

تنهد بعمق مغمضاً عينيه وكأنه يهرب من صورتها التي لاحقته

حتى في تلك الظلمة القاتمة لأنها تعيش في أماكن أخرى غير تلك

العينان ولا يمكنه إخراجها منها .. لا من عقله الذي يرفض

التفكير في أي أمور لا تخصها ولا القلب الذي فقد السيطرة عليه

تماماً ومنذ وقت .
مرر يده من تحت السترة المفتوحة ناحية ذاك النابض وسط

أضلعه يشعر وكأن حجراً يطرق جداره من الداخل واستوى واقفاً

ما أن علا رنين هاتفه في جيبه وتبدلت تلك الطَرقات المتقطعة

لحوافر خيل تعدو داخله في سباق طويل وكأنه شعر بحقيقة هوية

المتصل بينما عجزت يده عن رفع الهاتف الموجود فيها لأذنه

وكأنها تخدرت بسبب ثقله الذي لا يساوي شيئاً !

فلا يمكنه توقع حجم الفاجعة التي قد تصيبه قبل الجميع إن كان

الخبر الذي يحمله له هو ما يخشاه ويهرب من التفكير فيه منذ

علم بحقيقة مرض شقيقه .. الهروب الذي كان أسوأ وأشد قسوة

من الاستسلام ذاته .

سحب الهواء بقوة لصدره ما أن تكرر الاتصال مجدداً وهمس ب

( يا رب ) وهو يرفعه لأذنه ما أن فتح الخط بأصابع مرتجفة ولم

يستطع النطق بأي كلمة وهو يشعر ببرودته تلامس بشرة وجهه

وتوقف لسانه عن العمل تماماً واصطدمت أنفاسه فقط به لتعلن

عن وجوده للذي كان يقول

" وقاص تسمعني ؟! "

كان يريد قول نعم لكنه عجز عن تحريك فكيه .. أنفاسه اللاهثة

وحدها ما كانت تستطيع العبور مندفعة بقوة وتمنى في قرارة

نفسه أن يتحدث ذاك فقط ولا يستمر في تعذيبه أكثر من هذا لكنه

يبدو كان مصراً على التأكد من أنه يسمعه أولاً حتى كان سيقطع

الاتصال معه لولا أن وصلت رسالته الصامتة له أخيراً وأكد كل

ذلك الصوت الباسم الذي ضرب قلبه قبل اذنيه

" أجب إن كنت تريد سماع أخبار تسرك "

نزلت يده والهاتف فيها لحصنه وسقط ظهره ودون شعور منه

على الجدار خلفه وتحررت أنفاسه لتخرج في نفس واحد طويل

يشعر به خرج من أعماقه وأخفى بكف يده الأخرى عيناه ونزلت

دموعه رغماً عنه وأخفض رأسه وقد اهتز كتفاه يخفي كل ذاك

البكاء الرجولي وسط أضلعه وتمنى أن استطاع فعل أي شيء

آخر .. أن خر لله ساجداً .. أن صرخ بكل ما لديه من قوة حتى

وصل صوته لجميع الجدران في ذاك المكان الواسع وعلم كل من

سمعه بأنه صوت رجل اهتزت دواخله وهو ينتصر على الفاجعة

، لكنه عجز عن كل هذا وانهار الرجل الشبه صامد في داخله

يبكي كطفل صغير بدلاً عن كل ذلك ، ولن يلوم نفسه أو يعاتبها

فوحده من يعلم بحالها ووحده من يفهم وعاش معاناتها القاتلة كل

تلك الساعات .. فقط ما لم يتمناه حينها ويحمد الله عليه أنها

ليست أمامه الآن لما كان استطاع السيطرة على نفسه ليمنعها من

احتضانها بقوة حتى تتحطم عظامها في حضنه ليستطيع استيعاب

كل هذا فلا يمكنه وصفه سوى بعودة الميت للحياة أو نجاته من

الموت أمام عينيك .


مسح عيناه بكفه بقوة وشفتاه لا تتوقف عن حمد الله هامساً ودس

الهاتف في جيبه وأخذته خطواته ناحية تلك الغرفة ولم يعد يريد

سوى ذلك وهو رؤيتها وإن من بعيد ليرى المرأة التي عاش

لساعات وكأنها أعوام طويلة في كابوس مرعب وهو فقدانها

وللأبد وبقدرة الله وحده عادت له وبمعجزة ما انتهى كل ذلك

وكأنه لم يكن .

وقف حيث الفاصل الزجاجي الموجود في جدار الغرفة تمسك يده

بحافة إطاره الخشبي العريض بينما نظراته الحزينة من بين

الرموش التي لازالت مبللة بالدموع تركزت عليها .. بل عليهما

معاً على الجسد النحيل النائم فوق السرير والأجهزة تتصل به من

كل جانب والجالسة على الكرسي الوحيد قرب سريره تمسح يدها

على شعره ببطء ودون توقف بينما كان ما يظهر له من رموشها

المنسدلة يؤكد أنها تنظر للوجه الذي لم يظهر له بوضوح سوى

من عظام بارزة تغطيها بشرة بيضاء شاحبة واتكأ بجبينه على

برودة الزجاج السميك أمامه وغشت عيناه سحابة رقيقة ولامعة

من الدموع ما أن انحنت نحوه وحضنته بذراعها تدفن وجهها بين

ذقنه وصدره وبكت ، بكت بعبرة حارقة موجعة لم يعرفها سوى

في بكائها عليه سابقاً وكأنها تُحرر صراخاً عاش في داخلها

أعوام طويلة وتُخرج ألماً لم يعد يمكنها الاحتفاظ به في قلبها أكثر

من ذلك وهمس بأسى حزين وغصة سجينة ينظر لجسدها

المرتجف الباكي من بين دموعه

" أجل ... أخرجي كل ما يمكنك إخراجه يا زيزفون أرجوك "


*
*
*



فيتامين سي غير متواجد حالياً  
التوقيع



شكراً منتداي الأول و الغالي ... وسام أعتز به


رد مع اقتباس
قديم 21-07-21, 12:13 AM   #16447

فيتامين سي

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة

alkap ~
 
الصورة الرمزية فيتامين سي

? العضوٌ??? » 12556
?  التسِجيلٌ » Jun 2008
? مشَارَ?اتْي » 42,437
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Saudi Arabia
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » فيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond repute
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي




*
*
*

نظرت لها بأسى حين رفضت مساعدتها وجلست بنفسها على

السرير وشدت لحافه فوق ساقيها وهي تحضنهما وتدفن ملامحها

في ركبتيها وقد تساقطت على ذراعيها خصلات شعرها المتيبس

وكأن أمطاراً قوية اصابته قبل أن يجف بسبب رياحٍ باردة لم

تعرف معنى تجفيف المياه بل تجميدها حد الجفاف !.

شدت على أسنانها بقوة وكأنهما فكي وحش عملاق تسحق ذاك

الرجل بينهما يعلو صدرها ويهبط بشدة تمنع نفسها بالقوة عن

قول ما يكاد يقتلها كتمانه وهو شتمه دون توقف فها قد حدث ما

تعرفه جيداً وتوقعته وقالته عنه سابقاً وهذا أكثر ما يشعرها

بالقهر لصمتها مجبرة عن قوله مجدداً لأنه ليس وقته ولن يكون

أبداً ولن تجرحها بكلماتها تلك بعد ما سمعته منها عند الباب لتظن

بأنه غير مرحب بها هنا وأنه لا عائلة لها فوالدها يُعد الآن

قريبها الوحيد .

جلست أمامها برفق وتبدلت نظراتها لها للحزن ولها أن تتخيل ما

تشعر به الآن وهي أكثر من يعلم ما يعنيه لها ذاك التمثال

الفرعوني المتحجر ولن تستطيع أن تتوقع ما فعله هذه المرة لكن

ما هي أكيدة منه أنه من طردها للشارع بهذه الهيئة لما كانت

لتخرج هكذا أبداً وفي منتصف الليل ! وسيكون قد فقد مرؤته

ودماءه العربية من عروقه بالتأكيد ليسمح بهذا وهي زوجته !.

ارتفعت يدها نحوها حين لم يصدر عنها أي رد فعل ولا صوت

نحيب أو عبرة مكتومة سببها البكاء في صمت !

لامست أصابعها خصلات شعرها وقالت بهدوء حزين

" ماريه هيا لتستحمي وسأحضر لك ثوباً تنامين فيه
وشراب دافئ "

وارتدت يدها لصدرها وتجمعت دموع رقيقة في مقلتيها الزرقاء

حين خرج همسها الحزين بوجع قاسي

" أريد والدي فقط "

واختنق صوتها عند نطقها لتلك الكلمة ( والدي ) الشخص الوحيد

الذي تحتاجه الآن وتريده وتعلم بأن كلمته لن يثنيها أحد ومهما

كان ، كانت الكلمة التي أصابتها في قلبها تتخيل نفسها من دون

أحد .. لا والداها لا شقيقها ولا حتى والدتها .. لا أحد لها سوى

زوجها ذاك فكيف كانت ستكون حالها وما سيفعله بها وهي

وحيدة مقطوعة الجناحين ؟

تجمعت الدموع أكثر في عينيها ومدت يدها ليدها وأمسكت

بأصابعها بقوة وتكسر صوتها الحزين وإن كانت تدّعي القوة

وهي تقول ونظرها على الملامح التي لا تراها أساساً

" الله الذي أخذه لديه لن ينساك ماريه ويرى كل شيء "

وازداد شدها على يدها وإن كانت لازلت تحضن بها ساقيها بينما

ارتفعت يدها الأخرى تمسح بها عيناها الدامعة وإن لم تفارقها

تلك الدموع ولا تعلم حقاً ما يمكنها قوله غير ذلك ؟

لن تقول بأن والدها لن يسكت له عن هذا ولا والده أيضاً فهي

باتت تشك في مقدرتهما على فعل أي شيء له بعدما شهدته سابقاً

بنفسها وهو يأخذها من أمامهم لم يوقفه أحد أو يفرضَ عليه

قراراً كان مخالفاً لقراراته وفي كل مرة .

لكن هذه لا يجب الصمت عنها أو لن تثق هي أيضاً في مقدرة

والدها على الدفاع عنها إن احتاجته يوماً وكانت في موقفها الآن

فهل سينصف ابنته حينها بينما ترك هذه اليتيمة الآن ؟

إن كان لشاهر كنعان ابنة هل كان ليرضى لها بكل هذا ؟

تركت يدها أصابعها ووقفت ووجهتها باب الغرفة المفتوح

تشعر بالأبخرة تتصاعد من رأسها بل ومن جميع مسامات

بشرتها بسبب الغضب المشتعل داخلها وقد وجدت والدتها

أمامها ما أن وصلت الباب والتي وقفت متفاجئة بخروجها

العاصف وقالت بقلق تحاول النظر لداخل الغرفة من خلف كتفها

" كيف أصبحت الآن ؟ "

قالت بحدة تنفث أولى نيران غضبها بها

" على ماذا ستصبح أمي وهي وصلت للتو ؟ "

حدقت فيها الواقفة أمامها بصدمة قبل أن تقول بضيق

" وما بك تصرخين بي هكذا وكأنني الفاعل ؟ "

فهمست لها بغضب من بين أسنانها لتخفض صوتها واستدارت

للباب واغلقته قبل أن تنظر لها مجدداً قائلة بضيق وصوت

منخفض قدر استطاعتها وما سمح به غضبها

" تطلب والدها أمي وتعتذر عن مجيئها لأنه لا أحد لها غيرنا ..

أتعين معنى هذا ؟ "

وازداد اشتعالها وهي ترى الصدمة على ملامحها وقد ارتفعت

أناملها لشفتيها فالتمعت عيناها بدموع الغضب والقهر ولوحت

بيدها في حركة غاضبة وهي تهمس

" لن يكون والدي بعد اليوم إن لم يأخذ بحقها منه ولا شاهر
كنعان رجلاً يستحق تلك الكلمة "

وشهقت بصدمة تمسك وجنتها بينما عيناها الدامعة تنظر بصدمة

للتي شدت أصابعها في قبضة واحدة بعد صفعها لها ولأول مرة

تفعلها في حياتها بالرغم من كل طباعها التي لا تعجبها وقالت

بحدة بينما أشارت سبابة يدها الأخرى ناحية نهاية الممر الذي

جاءت منه

" فخر لك أن يكون والدك وها هو أمامك غيرك يتمناه "

نظرت لها بغضب وإن لم تنفس عنه بينما كانت عيناها تلمعان

بدموع القهر وإن كان الغضب في عيني والدتها لم يخف وكأنها

تتحداها أن تقول كلمة أخرى لتصفعها مجدداً بل وقد تفعل أكثر

من هذا مع نظراتها تلك ، ولم يدم ذاك طويلاً وهي تجتازها

مغادرة باتجاه غرفتها بينما خرجت كلماتها باردة كالصقيع تعاكس

جميع مشاعرها تلك اللحظة

" وها هي اليتيمة التي لا أحد لها غيره هنا ... "

وكانت حينها قد وصلت باب غرفتها والذي ضربته بقوة وقت

دخولها وصرخت حينها تنظر له متابعة باقي حديثها وكأنها هي

من تقف أمامها صارخة

" ولنرى ما سيفعل من أجلها باعتبارها ابنته "

بينما من تركتها واقفة مكانها هناك وصل لمسمعها كل كلمة

قالتها لازالت تنظر ناحية باب غرفتها المغلق بغضب من سلوكها

وهي تعلم جيداً بأنها ستسمعها ، مشاعر تبدلت لأخرى لا تفهمها

ما أن نظرت لباب غرفة ابنها سابقاً والقابع أمامها تفكر في كل

كلمة قالتها ابتداءً بنقلها لكلمات ماريه التي آلمتها حد الألم ذاته

انتقالاً للكلمات التي صفعتها ولأول مرة في حياتها بسببها وباتت

لا تعلم كان غضباً من إهانتها لوالدها ووالده معه وبكل وقاحة أم

قوة مزعومة لموقفهم السابق والذي يعلم الجميع بأنه انتهى

بالصمت والرضوخ التام لقرارته بشأنها خاصة وهو قد خطب فتاة

أخرى بينما هي زوجته ؟ ولم تكن هذه الأولى التي تغادر فيها

شقته وتدخل منزلهم بحال يشفق لها الجدران ، لكنهما لم

يستسلما دون محاولة وإن كانت فاشلة وما كان عليها أن تخطئ

في حق والدها وهي نفسها لا تعلم ما يمكن أن يصير إليه حالهم

إن هم فقدوه فجأة ، ولن تنسى له أنه من أنقذ ابنها من الضياع

ورباه تربية لم ينلها أمثاله في هذه البلاد ليكون رجلاً تفتخر به ،

وواثقة من أن تركه لماريه تقرر بنفسها سابقاً ليس لأنه لا

يعتبرها ابنة له بل لأنه يريدها سيدة قراراتها في أمر

يخصها وحدها .

تنهدت بعمق حين وجدت نفسها تعود لذات المنعطف وعقلها

يسأل نفسه

( هل كان يمكنه الاعتراض حين جاء لأخذها من هنا بعدما كانت
آثار صفعه لها تركت علامتها على وجهها حتى أدمت شفتيها ؟
هل كان يستطيع أن يمنعه إن طلبت هي ذلك منه ؟ )

استغفرت الله بهمس خرج معه الهواء من شفتيها كتأفف خفيف

فبالفعل لم ولن يستطيع أحد ردع ذاك المحارب العنيد عمّا يقرره

ويريده ، ولتنجوا بنفسها من كل تلك الأفكار أمسكت مقبض الباب

وأدارته ودفعته للداخل لتنهي كل ذاك الحديث المتلف للأعصاب

ولدماغها قبلها .

وما أن ظهر لها جسد التي لازالت تحضن ركبتيها وتخفي وجهها

فيهما حتى تبدلت ملامحها للحزن واعتصر الألم قلبها فكم عانت

هذه الفتاة وما يفوق سنوات عمرها بكثير إن كان قبل أو بعد

مجيئها إلى هنا ليقتل كل ما هو جميل فيها ابتداءً من ابتسامتها

التي النظر لها وحده يكفيك لتنسى كل هموم حياتك وترى الجميع

يسلبها إياها بقسوة حتى تموت نهاية الأمر من شفتيها الجميلة

ووجهها البريء وإلى الأبد .. وانتهاءً بقلبها المُحب النقي الذي لا

يعرف الكره والحقد يواجه طعنات الخذلان الواحدة عقب الأخرى .

تحركت خطواتها نحوها حتى جلست بجوارها وأحاطت يدها

برأسها وأجبرتها على النوم في حضنها حتى انصاعت لها

وأحاطتها بذراعيها تشعر بدموعها ستخونها .. وفعلتها فعلاً

لحظة أن سمعت بكائها المكتوم والذي يبدو كانت تحبسه لوقت

طويل داخلها وها قد تحرر ورغماً عنها .

مسحت يدها على شعرها بحنان وتركتها تبكي في حضنها وإن

كانت تجزم بأنها تقاوم تلك الدموع والعبرات بكل ما تبقى لديها

من قوة ولم تجد كلمات تواسيها بها ، لم تستطع أن تقول لها بأن

عمها الحارثة لن يصمت عمّا حدث وإن كانوا يجهلونه فيكفي

خروجها ووصولها بهذه الهيئة ! ولا والده ولا أيّا كان وبدأت

تتساءل إن كانت ابنتها على حق ؟ حركت رأسها بعنف فالتفكير

بتلك الطريقة مجرد جنون وإن سمعتها تتبرأ منه مجدداً

ستقطع لسانها .

عادت لاحتضانها بكلتا يديها فهذا ما تراها تريده الآن وليس

مواعظ أو تذكيراً بما مضى فهي قوية من الداخل وإن كانت أكثر

فتاة رقة وهشاشة عرفتها في حياتها وموقنة من أن لها قلباً

يمكنه تحمل ما تعجز عنه الكثيرات .

لكن كل ذلك تلاشى وانقشع حين سمعت همسها الباكي يضرب

قلبها قبل أذنيها

" أريد والدي أرجوكم "

فملأت الدموع عينيها وباستماته تمكنت من حبس عبرتها مكانها

كي لا تخرج ومسحت يدها على شعرها وقالت بحزن بينما

نظراتها الدامعة تهيم في الفراغ

" وأنا مثلك تماماً ناديت والدي أياماً طويلة حين كنت مع طفلي

وحيدان نجوب شوارع لندن لا شيء لدينا نأكله وأرسل إلينا الله

عمك الحارثة لينقذنا مما وحده سبحانه يعلم ما سيكون لأنه كان

يرانا ولم ينسانا يوماً "

وقبلت رأسها قبل أن تتابع بحزن وأسى وعينان دامعة

" عليك أن تكوني فخورة به ماريه فهو لم يتركك للجوع

وللشارع .. ذاك هو عمره وما كان ليزيد يوماً عمّا قدره الله له

لكنه ترك لك ثروة لم ولن تضامي بعدها "

مسحت بعدها بطرف كم قميصها عيناها الباكية لكن كلماتها تلك

لم تراها إلا زادت بكائها حدة وكأنها غرست سكينها في جرحها

بدلاً من أن تواسيها !

وانتبهت حينها لباب الغرفة وقد سمعت طرقاً خفيفاً عليه وعلمت

هوية الطارق من فورها ولِما لم يدخل فسيكون الحارثة وضيفاهما

ينويان المغادرة بالتأكيد وعليها توديعهما ، وكم حمدت الله أنهما

لم يريا وجهها لأن ذاك العجوز لن يعجبه ما يحدث بالتأكيد حين

سيعلم هويتها مستقبلاً خاصة بعدما أبدى استيائه من تهميشهم

كعائلة لها فلعل الأمور تُحل بطريقة أقل ضرراً على الجميع .

وقفت سريعاً وتوجهت ناحية الباب وغادرت مغلقة إياه خلفها

ببطء وبعد أن قبّلت رأس التي ابتعدت عنها مجبرة وتركتها تتكئ

بهمومها على الخشب المصقول لظهر السرير وحضنت نفسها

بينما نظراتها الكسيرة الحزينة تراقب الاوراق المتراقصة أمام

زجاج النافذة المغلقة يظهر بريق لونها الأخضر ويختفي مع

حركتها المتناغمة تحت الأضواء في الخارج وابتسمت بمرارة

تمتلئ عيناها بالدموع وهي تتذكر كلماتها

( مال !! )

كل لعنة في حياتها كان سببها تلك الكلمة .. بسببه عاشت طفولة

قاسية مع عمها وبسببه تزوجت طفلة بينما طُرد ذاك الزوج من

حياتها وللأبد .. وبسببه أيضاً عاشت ذليلة مهانة محرومة من

أغلى ما تملكه كل امرأة في الوجود وهو شرفها أمام الناس فهي

لم تعرف إلا التعاسة منه وبسببه ، وحتى حين أصبحت هنا لم

يغير في واقعها شيئاً ، لم تستطع أن تشتري به سعادتها وأي

سعادة تلك التي تُشترى بالمال !

بلى هي اشترتها يوماً كان بعيداً جداً بينما ثمنه علمت عنه قريباً

ولكنه لم يكن من ذاك المال أبداً ، انسابت دمعة يتيمة على

وجنتها المشتعلة بشدة تشعر بها كجمرة ساخنة أحرقتها وجفنها

قبلها وهي تتذكر تلك اللحظات وكأنها الآن تُعرض أمامها .

" ماذا تفعلين هنا ! "

أجفلت وفي قفزة واحدة أصبحت مقابلة له بينما الدرج الذي

أغلقته دون شعور والخزانة كاملة باتت خلفها فهي لم تترك مكاناً

لم تبحث فيه عنهم ولأيام وحين وجدتهم يمسك بها !

ما هذا الحظ الرائع الذي تمتلكه ؟ ظهرت على شفتيها ابتسامة

واسعة كمن وقع في مأزق لا مخرج منه ودست يدها خلف ظهرها

تنظر لعينيه التي كانت تخفي ابتسامة ماكرة وقد ظهرت واضحة

على شفتيه وسند يده على الخزانة بجانب رأسها بينما مد

الأخرى أمامها وهمس

" هات ما تخبئينه "

فالتصق جسدها بالخزانة أكثر حتى شعرت ببرودتها تتسلل عبر

قماش بلوزتها البيضاء الخفيفة والتي كانت بدون أكمام وبقصة

قصيرة عند بداية خصرها كاشفة عن بنطلون جينز غامق وصل

طوله لنصف ساقيها تزينه فصوص بيضاء تأخذ شكل مفتاح

موسيقي كبير عند فخذها الأيسر ، أمسكت ابتسامتها بأسنانها

تغرسها في شفتها دون أن تتحدث بينما كانت ترسلها عيناها

أيضاً لعينيه التي ابتعد نظرها عنهما وتستغرب من ضربات قلبها

التي لازالت تفقد سيطرتها عليها كلما كان قريباً منها هكذا !

خاصة وقد سند يده الأخرى بجانب رأسها ليحاصرها بين ذراعيه

كالفرسية ، وكانت فريسة بالفعل وقعت في غرام سجانها ..

وكيف لا تغرم بتلك الملامح الرجولية بالغة الوسامة القريبة منها

ولا تتوتر أطرافها جميعها وليس قلبها فقط فهي رأت الكثيرين

ممن تتغير نظرتها لهم ما أن تراهم عن قرب إلا هذا الوجه وسيماً

حد الوسامة عن بعد وكلما اقتربت منه اكتشفت بأنه أجمل

مما رأت .

اتسعت ابتسامتها وهي تحرر شفتها ببطء من قبضة أسنانها حين

همس ببرود وهو يدنوا برأسه منها

" هيا أقري بجريمتك قبل أن يصدر الحكم بدون استماع "

فأمالت رأسها بحركة طفولية وقالت بابتسامة رقيقة أعادتها

جميعها طفلة حجور بجسد امرأة وثياب نظيفة

" لا أصدق أن تكون قاضٍ ظالم "

واتسعت ابتسامتها أكثر حتى كانت تكاد تتحول لضحكة حين رفع

رأسه عالياً ترتسم ابتسامة حقيقة على شفتيه بينما لازال

يحاصرها بيديه وعلمت بأنه رآها تلك الطفلة لحظتها بالفعل كما

كانت متيقنة بأنه سيقاوم سلاحها ذاك وذلك ما حدث فعلاً حين

أنزل رأسه ونظر لعينيها ولازالت آثار تلك الابتسامة ترتسم على

شفتيه وملامحه بينما لمعت عيناه بمكر وقال ويداه تبتعد

عن الخزانة

" عليك قول ما لديك إذاً ثم نرى ما الذي يمكن الحكم به "

لوت شفتيها بامتعاض فها هو كما توقعت لن تنجوا منه كما لن

تتنازل عمّا بحثت عنه كثيراً وقالت بابتسامة مرتبكة

" وما عقوبة السرقة أيها القاضي ؟ "


واتسعت عيناها بصدمة ما أن همس بمكر مكتفاً يداه لصدره

" قطع يدك بالتأكيد "

ورمشت بعينيها عدة مرات قبل أن تخرج يدها المقبوضة

وقالت باعتراض

" لا ليس عدلاً فهي لي "

مد يده وقال

" حسناً دعينا نرى ونحكم "

فتهدت بضيق وفتحتها متأففة وغرضها أن يراها فقط وكانت

القطع النقدية التي أعادتها له سابقاً مع خاتم الزواج حين كانت

غاضبة منه لكنه ألبسها الخاتم مجدداً ولم يعدهم لها وهو من

أرسلهم أول مرة وقت وصولها لمنزل عمها الحارثة وكانت

القطعتان النقديتان اللتان أعطتهما له في صغرها وكل ظنها أنها

ستكفي لشراء دواء والدته عندما ذهب لعمها يطلبه منه وهو

رفض ، بينما كانت الثالثة العملة الرومانية التي لم تكن تفارقه

في طفولته وكان يرميها عالياً في الهواء ويعود ويلتقطها في

حركات متتالية وهو يراقب الشارع أمامه بينما كانت هي تراها

اعجوبة لا يستطيع فعلها غيره تراقبه بانبهار .

كانت ثوان فاصلة بين فتحها ليدها وقبضها عليهم مجدداً كي لا

تخسرهم لكنها كانت كافية للذي تحركت يده كالبرق الخاطف

خلال تلك الثواني المعدودة حتى اعتقدت بأنها لم ترها ولم تشعر

بها لولا أكد لها ذلك العملة الوحيدة التي تبقت في يدها فصاحت

معترضة تضرب الهواء بقبضتها التي حوت العملة الرومانية فقط

فقد كان من السرعة أن اختار العملتين وأخذهما في لمح البصر !

ضربت الأرض بقدمها وقالت محتجة بضيق

" هذا ليس عدلاً فأنت من أعطاني إياها "

اعاد يده اليسرى بجانب رأسها يسندها على باب الخزانة ومال

برأسه نحوها هامساً بسخرية

" أخطأتْ ... "


وتابع بذات نبرته الساخرة وهو يشير لقبضتها بعينيه

" ثم ها نحن متعادلان وكلٌ أخذ نصيبه "

فنظرت ليدها وهي تفتحها وللقطعة النقدية النحاسية القديمة التي

تآكلت حوافها تقبع وسط كفها وأمالت شفتيها بعبوس ورفعت

رأسها له وقالت محتجة

" بل هذه لك ... "

وتابعت تشير بسبابتها ليده المقبوضة على باقي العملات

" وتلك لي "

وما أن مدت يدها لها رفع قبضته عالياً وقال بمكر وهو ينظر

لعينيها المعلقتان بيده عالياً ترمقها بضيق

" بل هذه لي لأنك قبضتِ ثمنها من خمسة عشر عاماً مضت "

فنظرت حينها لعينيه باستغراب وهمست ببلاهة

" قبضتُ ثمنها !! "

التوت شفتيه بابتسامة جانبية وقال

" أجل ووقت الدفع "

رمشت بعينيها باستغراب جعل ابتسامته تتبدل سريعاً لتلك التي

تعشق وتجعل ملامحه تزداد وسامة فحبست أنفاسها بصعوبة

وقالت تنظر لعينيه المحدقتان بها

" وماذا كان !! "
" تيم "

كان همسه خافتاً متأنياً وعميقاً لامس قلبها كفراشة وقفت فوقه

بنعومة حتى كانت تشعر بالأرض تختفي تحتها وكأنها تطير عالياً

وأسرت عيناه حدقتاها الذهبيتان اللتان التمعتا بالدموع سريعاً

وانفرجت شفتاها ببطء وهمست دون شعور منها

" أنت !! "

أنزل يده حينها وقال بملامح هادئة ساكنة بينما لم تفارق نظراته

عيناها التي برقت كقطعة ذهب نقي تبلل تحت اشعة الشمس

" أجل "

وتحولت ابتسامته لضحكة صغيرة كتمتها شفتاها حين قفزت

متعلقة بعنقه وقبّلته .. كانت قبلة طويلة لم يستطع قطعاً إلا

الاستلام لها وأنزل يده من الخزانة لخصرها يشد جسدها نحوه

وما أن اشتدت ذراعاها حول عنقه حتى شاركت يده الأخرى في

احتضانها بعد أن وضع القطع النقدية على السطح الرخامي

للأرفف السفلية من خزانة المطبخ بجانب الجزء الطويل منه

والموجود خلفها ، وكان ذاك الرنين الخفيف الذي صدر عنهما ما

جعلها تدفع جسدها من بين ذراعيه فجأة محررة لشفتيه وابتعدت

عنه وبحركة خاطفة واحدة نظرت نحوهما خلفها واختطفتهما

سريعاً وهي تركض مجتازة له ليوقفها بعد ركضها بخطوات

صوت رنين إحداهما خلفها لتكتشف حينها بأنها تمتلك واحدة

منهما فقط بينما سقطت الأخرى أرضاً تحت قدمي الذي كان يقف

مكانه ينظر ناحيتها ممسكاً لخصره بيديه وقال يرمقها بنظرات

عابسة وحاجبان معقودان

" يالك من مخادعة "

حركت كتفها وقالت مبتسمة بمكر

" لم تكن نيتي الخداع قطعاً لكنك من أتاح الفرصة لي أيها
القناص الأول "

همس بكلمة يونانية لم تسمعها جيداً ولن تفهمها وإن سمعتها

ومن ملامحه تدرك جيداً أنها لن تكون غزلاً ولا مديحاً وتراجعت

خطوة للوراء حين انحنى يرفع القطعة النقدية من الأرض تحته

وارتسمت الدهشة على ملاحها حين رماها نحوها ما أن استوى

واقفاً والتقطتها بسهولة ولن تستغرب هذا وأن يستطيع تقدير

المسافة بينهما ونظرت له حين اتكأ بظهره على الخزانة خلفه

وكتف ذراعيه لصدره لتتسع عيناها حين قال ببرود

" ألغينا اتفاق البيع إذاً "

" ماذا تقصد ؟! "

خرجت الكلمات مندفعة منها بسرعة تحدق فيه بذهول وكان

جوابه سريعاً أيضاً وهو يرفع حاجباً واحداً وينزله متمتماً

" أقصد أن نقودك لديك ولا مقابل لك لدي "

حركت رأسها برفض وقالت محتجة

" أنت أهم من ذلك بكثير .. لن تُقدّر بدرهمين لم يعد لهما قيمة
ولا في البلاد التي كانت تستخدمهما "

وكان رد فعله الوحيد أن حرك كتفيه بعدم اكتراث وتحرك من

مكانه يدس يديه في جيبي بنطلونه الجينز ومر بجوارها ونظر

لعينيها وهو يجتاز بينما همست شفتاه

" لديك نعم أنا لا "

فتبعته بنظراتها العابسة وهو يجتاز باب المطبخ بخطوات كسولة

بالرغم من أنه لا يمكن وصفها بهذه الكلمة مع تلك الهيئة

والشخصية المتفردة ومدت شفتيها في عبوس تعلن هزيمتها

رغماً عنها .. أو لا تعلم هل تسعد بكلماته تلك رغم إعلان

خسارتها ؟ فأن تكون تلك القطع النقدية مهمة لديه هكذا وأن

يبيعها نفسه بها أمر يجعلها التفكير فيه فقط تُجن به أكثر .

نفضت يدها مستسلمة وركضت نحوه وأوقفته تمسك بيده قبل أن

يصل لغرفته وأدارته نحوها ووضعت القطعتان فيها قائلة بضيق

" ولتعلم فقط بأنك أهم من أموالنا مجتمعة "

ورفعت نظرها له وقد تبدل كل ذاك الضيق لابتسامة غريبة مزجت

الحزن والحب والسعادة جميعها معاً يمكن قراءتها على صفحات

وجهها دفعة واحدة وفي العينان التي التمعت ببريق دافىء

واشارت لقلبها هامسة

" هذا فقط يمكنه تقدير ذلك "

فابتسم تلك الابتسامة الرقيقة التي تعشق مجدداً وقفرت للخلف

بضحكة صغيرة ما أن امتدت يده لها تعلم نيته جيداً وتراجعت

للوراء ما أن تقدم بخطوة نحوها ورمت القطعة النقدية الموجودة

في يدها والتي التقطها بسهولة قائلة

" وخذ هذه أيضاً لا أريد أن أدخل السجن بتهمة تهريب الآثار " .

تدلت دمعة جديدة من رموشها لتسقط في حضنها مباشرة

وانقبضت أصابع يدها بقوة حتى آلمتها ورفعتها لصدرها لا تعلم

تحضنها أم تحضن نفسها بها ولازالت العينان الدامعة تراقب

الظلام في الخارج تشعر بتعاستها تتعاظم وبأن تلك الذكريات التي

تجتاحها رغماً عنها لا تزيد حالها إلا سوءاً ، وتساءلت بمرارة

لما يفعل بها ذاك الرجل كل هذا ؟ لما لا يعتبرها زوجته وهو

يحرمها منه ونفسه منها هكذا ويقتلها بحجة أنه يحميهما !

رفعت قبضتها لشفتيها حين تغلبت عليها عبرتها أيضاً وكأنها

تمنعها بها وهمست بوجع ودموع عادت لكسر القيود مجدداً

تتقاطر من عينيها تباعاً

" لما لا يضعها مكان ماريه للحظة واحدة فقط ؟ "


*
*
*

ابتسمت ولازالت مغمضة العينين وهي تشعر بملمس يده أسفل

معدتها وصوت همسه بتمتمات مرتبة متتالية بينما كانت تضطجع

على جانبها الأيمن تتوسد ذراعها العاري ويتكئ هو خلفها تماماً

ملاصقاً لها ويسند نفسه بمرفقه مرفوع الجذع ، وببطء فتحت

عينيها لتواجها الأنوار الموزعة في الخارج كقناديل تتأرجح في

الفضاء بريق يخطف القلوب قبل الأبصار حيث الشرفة الموجودة

كواجهة زجاجية مقابلة للبحر وللجسر الممتد منه تمتد الأضواء

مع امتداد جانبيه الخشبيان في انحناء جعلها كموجة تزين الأنوار

المصطفة في أعمدة على امتداد الشاطئ المظلم قبلها وقاومت

ضحكة مكتومة وهي تهمس له

" لا يُتعبني و يبدو نائماً فدعه وشأنه "

وعادت لإغماض عينيها ببطء وانحبست أنفاسها حين شعرت

بنعومة ملمس شفتيه على عنقها والتفت ذراعه حول خصرها

يحضن جسدها فلازالت قبلاته كما لمساته في كل مرة تشعر

وكأنها الأولى وهمس قرب أذنها

" لم أكن احاول تهدئته بل أتحدث معه "


استدار رأسها له حينها ورفعت ذراعها وأحاطت عنقه به ونظرت

لعينيه وقالت باسمة

" وماذا كنت تخبره ؟ "

انتقلت يده لوجهها ولامست أصابعه نعومة خصلات غرتها

المتدرجة جانباً وقال مبتسماً

" كنت أوصيه على والدته وشقيقته "

فماتت ابتسامتها وظهر جلياً على ملامحها ما كان يصرخ به قلبها

حينها في ضربات مجنونة ، وفي تبدل استطاع ملاحظته بكل

سهولة عبّرت عنه كلماتها التي خرجت مرتجفة وكأنها

تجبرها بالقوة

" ماذا يحدث معك يا مطر ؟! "

ولم تستطع نظرة الاستفهام التي رأتها تكتسي ملامحه حينها أن

تجعل قلبها المضطرب بشدة يهدأ ولا أفكارها المشوشة حد

الشعور بالألم في رأسها بل وكافة أطرافها ولا ترقرق الدموع

الدافئة في عينيها وهي تهمس ببحة ونبرة مستجدية حزينة

" لن تموت أو تسافر مجدداً وتتركني وابنتك يا مطر لن
أسمح لك "

ارتسمت حينها ابتسامة تسللت ببطء لملامحه تعاكس كلياً الحزن

والفزع المرتسم على الملامح الفاتنة المقابلة له وقبّل كتفها

العاري صعوداً لوجنتها ثم طرف رأسها قبل أن يعود وينظر

لعينيها وقال مبتسماً

" لن أسافر وأترككم يا غسق .. "

واخترق طيف ضحكة صغيرة بحة صوته الرجولي وهو يتابع

" لكن أن لا أموت هذه ليست بيدي قطعاً فكيف أعد بها ؟ "

عادت الدموع للتكدس في عينيها وهمست ببحة

" تفهم جيداً ما أعنيه يا مطر "

تنهد مبتسماً ولامست أصابعه ذقنها ممرر إبهامه على نعومة

شفتيها المتوردة وقال بتأني ينظر لعينيها

" لقد عشت في خطر الموت طيلة الأعوام الطويلة الماضية ومنذ
وضعت على عاتقي حلم توحيد أقطار البلاد وكنت أخوض المعارك
بسلاحي مع رجالي وها أنا أمامك لم أمت فما الذي سأخفيه عنك
الآن قد يكون فيه هلاكي ؟ "

وانتقلت أصابعه لعينيها التي أغمضتهما ببطء ومسح الدموع

برفق ورقة عن رموشها وتابع بنبرة رجولية عميقة شابها طيف

حزن خفي

" أنا والموت لم نفترق أعواماً طويلة ولن نفترق لأنه قدرنا
وينتظر فقط أمراً منه سبحانه فهل يمكنك أنتِ أن تعديني بألا
تموتي ! "

وأبعد يده لطرف وجهها ففتحت عيناها وهمست بعتاب رقيق تنظر

لعينيه بحزن

" أجل هو قدرنا لكن هذا لا يعني أن نُفزع غيرنا بذكره وتذكره فقد لا يموت الإنسان حتى يكون هرماً "

تخللت أصابعه شعرها يلامس إبهامه وجنتها وقال ببعض الجدية

محدقاً في عينيها

" بل هو حقيقة علينا أن لا نتجاهل التفكير فيها كي تكون الدافع
لردعنا عن الخطأ "

تحركت شفتاها المطبقة في صمت قبل أن تتحرر الكلمات منها

قائلة بهمس حزين

" وإن يكن لا توصيه علينا فأنت من عليه رعايتنا جميعاً وهو
معنا حتى يكون رجلاً "

ابتسم واتكأ بجانب رأسه على ظهر السرير وقال ونظره لم

يفارق عينيها

" قد لا يعجبك نوع رعايتي له حينها "

تمتمت من فورها ببرود

" حينما يكبر يقرر بنفسه "

خرجت منه ضحكة صغيرة ولامست أصابعه حمالة قميصها

الرقيقة ينزلها من كتفها لذراعها وقال ونظره يتبع حركة يده

" وماذا إن اختار أن يكون كوالده "

أبعدت يدها عنه بحركة غاضبة وقالت

" عليه أن لا يتزوج مطلقاً حينها "

همس بضحكة خافتة

" إهانة مقبولة من والدته "


وارتفع نظره لعينيها مجدداً وما أن قالت ببرود

" ثم قد يكون أنثى "

حرك عينيه بتفكير لبرهة وقال ما أن عاد ونظر لعينيها وابتسامة

جانبية تزين شفتيه

" قلبي يقول عكس ذلك "

لكمت بقبضتها صدره العاري ناحية قلبه وتمتمت بعبوس

" لو أستطيع فقط أن أفهم قلبك هذا "

أمسك يدها ووضعها عليه يحضنها جهته وقال بتأني ينظر لعينيها

" وحدك من يستطيع التنقل عبر حجراته لكنك تصابين بالصمم ما
أن تدخليه محاولة فعلها "

زمت شفتيها بقوة في ضيق ودفعته بضربة من قبضتها وزحفت

مبتعدة عنه وعن السرير بأكمله وجلست أسفله تتكئ بظهرها

عليه وتحضن ركبتيها وفخذيها التي انكشفت بنزول قماش

القميص القصير عنها وشعرت بحركته واهتزاز السرير خلفها

حتى جلس على الأرض بجوارها وأمسكت يده بإحدى يديها

وشدها نحوه بينما لازالت تتجنب النظر له وتحضن ركبتيها

بذراعها ويدها الأخرى ، ولم تستطع منع رأسها من الاستدارة

نحوه ولا النظر له حين مرر سبابته في كفها قائلاً

" ما رأيك أن نلعب لعبة "


وحدقت في عينيه بفضول لازالت تقابل بعبوس الابتسامة التي

ارتسمت على شفتيه لتعطي معانٍ لا يمكن وصفها للوسامة

المتجلية في ذاك الشارب واللحية المشذبة بعناية يعكسها بياض

البشرة النقية والملامح الرجولية الحادة والعينان السوداء

الواسعة فكيف لها أن تلوم نفسها في عشق هذا المحيا !

ورغم كل ذلك تمسكت بضيقها منه تراقب عيناه التي تحولت

للنظر لكفها بين يديه وهو يقول

" إن خسرتِ فعليك أن تضحكي "

وختم كلماته بضربة خفيفة من يده اليمنى لكفها الذي لازال

يمسكه بالأخرى فغضنت جبينها باستغراب واقترب حاجباها

الرقيقان ونظرت لعينيه التي رفعهما لها مجدداً لازالت تلك

الابتسامة تزين شفتيه وكورت شفتيها الجميلة قبل أن تقول ببرود

" وكيف هذا أكون خاسرة وأضحك ! "

وارتفع حاجباها ما أن ضحك وضرب كفها بيده مجدداً لكن ضربة

أقوى هذه المرة وقال بضحكة

" ضحكك معناه خسارتك يا غبية "

فلم تستطع إمساك الضحكة التي تغلبت عليها مما جعله يفرقع

أصبعيه قبل أن يشير لها بسبابته قائلاً بضحكة

" قا قد خسرتِ "

ولم يزدها ذلك سوى ضحكاً ترفع رأسها تسنده على السرير

خلفها ونظرت ناحيته ودفعته من كتفه قائلة بضحكة

" تباً لك من محتال "

وعادت بنظرها للأعلى مبتسمة وأغمضت عينيها تستمع لصوت

الأمواج خلفها رغم هدوء البحر وتشعر بملمس أصابعه

المحتضنة لكفها وقالت مبتسمة

" كم أتمنى أن يتوقف الزمن "

وملأت صدرها بالهواء في تنهيدة عميقة أعربت عن كل

مشاعرها تلك تتمنى بالفعل أن لا تنتهي اللحظات التي جعلتهما

يجتازا كل تلك الجراح وكل الألم وتراكمات الماضي والحاضر

وكأنهما يلتقيان الآن فقط وتزوجا من لحظات قليلة فهذا المكان

تشعر معه بسحر ما غريب وكأن ما ينقصهما كان الابتعاد عن

كل شيء ! .

فتحت عيناها ونظرت ناحيته ما أن وصلها صوته العميق

الرجولي ببحته المميزة وهو ينظر عالياً متكئاً برأسه للخلف

مثلها بينما اكتسى الهدوء ملامحه

" أنا لا أريده أن يتوقف بل أن يركض سريعاً وسريعاً جداً "

وأدار رأسه ونظر لعينيها وتابع مبتسماً

" أريد أن اراه وهو فتي ... "

وافلتت ضحكة صغيرة من شفتيه تخللت صوته العميق وهو يتابع

" وأنتِ تسيرين خلفه غاضبة تهددينه بي وهو يتابع طريقه رأسه
كالصخر مثلك تماماً "

وضحك حين لكمته بقبضتها على صدره ضاحكة ولم تستطع

مقاومة الدموع التي ملأت عيناها رغم ابتسامتها فهذه المرة

الأولى التي يتحدث عن أحلامه وأن تحوي تلك الأحلام عائلته

فخرجت كلماتها متأثرة ببحة واضحة

" بل سيكون عظيماً مطيعاً لوالديه مثلك تماماً من صلبك
وتربيتك "


واغمضت عينيها وانصاعت له ما أن جذبها لحضنه تحيط ذراعه

بعنقها وقبّل رأسها والتفت ذراعها حول خصره تنام على صدره

وحيث تريد أن تبقى وتعيش للأبد .

فتحت عيناها ما أن شعرت بالقطرة المالحة تفارق رموشها نزولاً

ووقع نظرها على أثرها كبقعة متسعة بين أسطر الكلمات في

المصحف الكبير بين يديها فسارعت بمسحها بطرف كمها القطني

الطويل من عليه تخشى أن تتشربها أنسجة الورق موبخة لنفسها

ولا تعلم كيف انساقت مع ذكرياتها تلك حتى انفصلت عن العالم

تماماً !

وباتت رؤية الأحرف أكثر صعوبة وعيناها تمتلئ بالدموع مجدداً

لازالت تحاول تجفيف الورقة برفق ودون أي ضرر مهما كان

بسيطاً تلعن نفسها وفشلها ولا تعلم كم من عمر وأعوام تحتاجها

لتشفى من مرض ذكرياتها معه وهي تعود بها من حيث بدأت في

كل مرة .

أغلقت المصحف ووضعته جانباً وحضنت رأسها بيديها تسند

مرفقيها بالوسادة تحتهما وحيث كانت تضع مصحفها وتخللت

أصابعها خصلات غرتها الطويلة الناعمة التي انسابت من بينها

ورفعتها عالياً مع ارتفاع رأسها تهمس متعوذة بالله من الشيطان

ولا تفهم لما يزداد توترها كلما اقترب وقت المحاكمة التي سعت

لها رغم كل المخاطر والمعوقات ! تشعر بضيق مريع تعزي

نفسها في كل حين بأنه سيختفي ما أن ينتهي الأمر بطلاقها .

لا تريد أن تتراجع مجدداً ولا أن تضعف ويضيع كل ما فعلته

وأقحمت غيرها فيه معها لكنها أيضاً لا تفهم سبب القلق الذي

ينتابها في نوبات قوية متفرقة ! ومؤكد سببه توترها الغير

خاضع لسيطرتها ولازالت تعزي نفسها في كل مرة بأنه أمر

طبيعي بسبب ما هم مقدمون عليه وهي خصوصاً فأمامها الكثير

مما ستواجهه ويحتاج كل ذرة صمود منها وأمام جميع من لهم

صلة مباشرة بها ، فتشجع نفسها في كل مرة بأن الأمر سيكون

سرياً للغاية سيقتصر على السيد عقبة وقائد وابن جوزاء الحالك

وعليها أن تطمئن أكثر لهذا لا أن تغضب منه فعدم حضوره

سيكون في صالحها كما اختياره لذاك المحامي المبتدئ والأدلة

القوية الموجودة لديها بالرغم من أنها تمنت للحظات أن يكون

موجوداً ويقدم بنفسه تبريراته لا محاميه ..

لكنها تعود وتؤكد لنفسها بأن هذا سيكون الأفضل كي لا تعود

غسق الحمقاء في وجوده والتي تفقد كل قوتها أمامه .

مسحت عيناها بقوة من أثر الدمعة التي لم تفارقهما ما أن ارتفع

صوت الطرق الخفيف للباب مخترقاً الصمت الموحش وأفكارها

المتزاحمة بضجيج مزعج ودست خصلات غرتها خلف أذنيها

وحمحمت قبل أن تقول

" تفضل "

فهي تعلم هوية الطارق والزائر الوحيد لها هنا والتي تراها

ترفض حتى أن تكون إحدى الخادمات من تطرق بابها بينما

زوجها لا يقترب من هنا أبداً ويرسلها هي لها إن اراد التحدث

معها وفي مكتبه .

اغتصبت ابتسامة أجبرت شفتيها عليها وإن لم تخفي حزن عينيها

المرهقة امتناناً للتي دخلت مبتسمة تمسك في يدها صينية تحوي

الكوب الكبير ذاته والممتلئ بالحليب الأبيض النقي بينما أغلقت

الباب بيدها الأخرى وتوجهت نحوها قائلة بابتسامة جميلة

تشبه قلبها

" لابد وأنه ينتظرني بشغف وبات يحبني "

وضحكت وهي تضع الصينية على الطاولة بقرب الاريكة التي

كانت تجلس عليها فقالت محرجة

" بل كلينا علينا الاعتذار منك "

ورفعت يديها تأخذ الكوب منها ما أن ناولتها إياه بنفسها ككل مرة

وقد لامست أصابعها كفاها قائلة بحان ظهر رائعاً في عينيها

الباسمة

" تشعرينني بأني ضيف ثقيل كلما سمعت هذا "


فاتسعت عيناها بصدمة وكانت ستبرر لولا سبقتها وهي تجلس

بجانبها بينما يستدير جسدها نحوها قائلة بابتسامة

" أعلم ما تريدين قوله وأفهمك بنيتي ... "

وتابعت بابتسامة متسعة ويدها تربت على فخذها

" هيا اشربيه بأكمله أريده أن يعلم أن جدته لم تنساه "

فالتمعت عيناها بحزن وامتنان وهمست ببحة

" ما أسعده بهذه الجدة "

ورفعته لشفتيها تشرب منه بينما قالت تلك باسمة

" أجل فلولاها كانت والدته ستقتله جوعاً "


أبعدت الكوب وقالت تبادلها الابتسامة وإن لم تصل لعمق

ابتسامتها تلك

" كيف يموت جوعاً وأنتِ لا تغادري إلا وصينية الطعام معك ؟ "

تنهدت حينها وقالت بعتب بينما تابعت هي الشرب على دفعات

صغيرة متتالية

" وتُسمين تلك اللقيمات التي أجبرك عليها طعاماً ! "

وتابعت حين لم تعلق سوى بأن أخفضت نظرها بحزن

" ألا ترين بهوت بشرتك والتعب الواضح في العينين
الجميلتين ؟ "



ووضعت يدها على كتفها وتابعت بحزن

" أنتِ تقسين على نفسك وعليه هكذا يا غسق "

أبعدت حينها الكوب الذي أصبح نصفه فقط مملوءاً بالحليب

وانزلته لحجرها تحضنه بكلتا يديها وقالت بحزن مماثل ونظرها

شارد للفراغ

" مرحلة وسنجتازها معاً ويتغير كل شيء حينها "

" متأكدة ؟ "

نظرت لها سريعاً بينما تابعت التي قالت بجدية تنظر لعينيها

" عليك أن تكوني واثقة يا غسق أو ستكون تلك المرحلة
مجرد موت بطيء لن ينتهي أبداً "


أنهت عبارتها تلك بعزم قوي بالرغم من أنها شعرت بتأنيب

الضمير للحظات وهي ترى الحزن والكثير من الوجع في عينيها

بسبب كلماتها لا إقراراً منها بحقيقتها لكنها عازمة على المتابعة

مهما كانت قاسية عليها فمسحت يدها على ظهرها بحنان قائلة

" تابعي شرب ما في الكوب لأحكي لك عن صديقة قديمة لي
كانت تتحدث معي قبل قليل "

وضعت الكوب في الصينية قائلة

" لا يمكنني شرب المزيد حقاً "

فقالت بضحكة تراقبها وهي تسحب منديلاً ورقياً وتمسح

شفتيها برفق

" لم أستطع ولا لمرة واحدة إقناعك بشرب كل ما فيه "

نظرت لها وقالت

" أنا لست من عشاق الحليب ويعد هذا إنجازاً حقيقياً "

وتابعت بابتسامة صغيرة وهي تضع المنديل في الصينية

" ثم لا تنسي بأنه ليس الوحيد يومياً "

واستوت في جلوسها مقابلة لها تنظر لعينيها تنتظر بأدب أن تقول

ما كانت تريد قوله وشعرت بألم غريب حين خرجت تنهيدتها

الحزينة مع شرود عينيها بحزن بعيداً عنها وكأنها تسترجع ذكرى

قديمة قاسية وقالت

" إنها صديقة قديمة لي كانت ابنة جار لنا حين كنت وأهلي نسكن
الهازان وكانت تكبرني بعامين أحبت شاباً وأحبها وكانت متعلقة
به كثيراً ، لم تكن علاقة طويلة تلك التي ربطتهما قبل أن يصبحا
زوجين بل عظمت وتوطدت بعد زواجهما لكن العائق في حياتهما
كانت عائلته خاصة وأنهما يعيشان في غرفة معهم في ذات
المنزل لظروف البلاد ذاك الحين وصعوبة توفير لقمة العيش
فكيف بمنزل مستقل "

تنهدت بعمق وحزن مجدداً وتابعت

" لم نكن على تواصل دائم بعد أن تزوجت لعيشها بعيداً عني بعد زواجها منه وكانت زياراتها لعائلتها نادرة جداً قبل طلاقها منه "

تنقلت نظراتها الحزينة في ملامحها وشعرت بغصة في حلقها وهي تهمس

" تطلقا ! "

اومأت لها إيجاباً وتابعت بذات النبرة الحزينة كما الشرود الحزين

" كانت تحبه كثيراً وجعلها بالفعل تتعلق به بسبب تعامله معها
وهذا ما كان يجعلها تستحمل كل ما كانت تعانيه من قسوة من
والدته وشقيقته على أمل أن يتمكنا يوماً من الاستقلال في منزل
يخصهما لتكمل حياتها معه دون أن تخسره ، وبعد أن حملت
وأجهضت لأكثر من مرة والسبب واحد وهو أعمال المنزل الشاقة
التي كانت تقوم بها لوحدها مع تحذيرات الطبيبة لها بأن حملها
لا يمكن أن ينجح إلا بالراحة والأعمال الخفيفة جداً لمشاكل في
رحمها حينها أصبحت تفكر وبجدية في أنه عليهما الخروج من
هناك فلا جسدها ولا نفسيتها ولا أجنتها يمكنهم استحمال كل ذلك
ولم تعد عبارات زوجها الممتنة ولا حبه لها أو مشاعرها نحوه
تساعدها على الصمود أكثر "

لاذت بالصمت للحظة قبل أن تنظر ليديها وتابعت

" حتى كانت المرة التي اتصل فيها بها شقيقها ووجدها تبكي
وكانت تلي إجهاضها الأخير وكانت عائدة من عيادة الطبيبة للتو
متعبة نفسياً قبل التعب الجسدي وتشاجرت مع والدة زوجها فور
وصولها ولأول مرة تتحدث منذ أعوام عاشتها معهم خادمة
مطيعة تسمع دون أن تعلق ولا بكلمة فلم تراعي تلك المرأة أنها
أجهضت للتو ومتعبة ولا تحتاج توبيخاً لأعمال كان الأولى
بابنتها أن تفعلها ، وما أن سألها شقيقها عن حالها حتى انهارت
باكية وهي التي لم تشتكي لعائلتها يوماً خاصة وأنهم يحبون
زوجها كإبن لهم لحسن تعامله معهم وحين ألح عليها شقيقها
لتحكي له عمّا يضايقها تحدثت لأنه كان غاضباً ويظن أن زوجها
السبب وهو الذي لم يجرحها بكلمة يوماً ، ولم تكن تتخيل أن
تنهي تلك المكالمة معه وهي تبتسم بسعادة بعد كل ذاك البكاء فقد
أخبرها بأن صديق له مسافر هو وعائلته ومنزله قريب من منزل
عائلة زوجها هناك وبأنه ألح عليه كثيراً كي يتزوج ويعيش فيه
ليحفظه له خاصة مع ظروف البلاد وأنه تعرض للسرقة مرتين
ولأن شقيقها بحكم عمله يزور المنطقة التي تعيش فيها هناك من
حين لآخر لكنه لم يستطع لأنه وحيد أبويه ، كانت ليلتها تنتظر
بلهفة عودة زوجها لتخبره بأنه يمكنهما العيش في ذاك المنزل
وأن حلمها بالاستقلال وإنجاب أبناء لتكون لهما عائلة وحياة
سعيدة قد تحقق أخيراً لكنها لم تتوقع قط التبدل الذي رأته في
ملامحه فور إخباره وكان وجود والدته وشقيقته وحيدتان بعد
وفاة والده حجته الأولى والتي لم يجدي معها محاولاتها لإقناعه

بأنه سيكون قريباً منهما فالمنزل لا يبعد كثيراً عن منزلهم
يفصلهم شارع واحد فقط ، وكانت المرة الأولى التي يرفض لها
فيها طلباً وهو الذي لا تسمع منه كلمة لا في أمر وبدأت علاقتهما
تتخذ منحى آخر منذ ذاك اليوم وحين علمت بأن حلمها لا يمكن
تحقيقه مهما طال الوقت ، واعترفت لي بنفسها أنها باتت
عصبية معه بشكل خاص وبدلاً من صبرها وكتمانها عن أفعال
عائلته كما كانت تفعل سابقاً بات هو متنفسها بينما لم يكن يقابل
هو كل ذلك سوى بالصبر وكل ما يفعله بعد أن تنتهي ثورة
غضبها والذي كان يشتعل لأتفه سبب وكأنها تبحث له عن الزلة
الصغيرة فور وصوله منهكاً من عمله أن يمسك رأسها ويقبله ولا
يقول سوى كلمة واحدة ( أحبك ) قبل أن يتركها وينام دون حتى
عشاء لأنها لم تحضره له فلا يخرج للمطبخ لتناول أي شيء ،
لكنها لم تعد ترى ذلك إلا استغلالاً منه لعاطفتها نحوه ومحاولة
تحريكها بها كيف يشاء بأفعاله تلك وباتت تقيس كل فعل له بتلك
النظرة حتى علمت والدته بما كانت تخطط له وازدادت معاملتها
لها سوءاً فقررت القرار الذي أصرت بأنه لا تراجع لها عنه
وغادرت منزل زوجها وعادت لمنزل أهلها واشترطت عليه أن
يوافق على الانتقال لذاك المنزل أو أن يفترقا وبشكل نهائي
وساندتها عائلتها في قرارها ذاك بعد علمهم بكل ما كانت تخفيه
عنهم طوال تلك الفترة ورغم مجيئه لمنزل عائلتها عدة مرات
لتعود معه إلا أنها كانت مصرة على رأيها ورفضت حتى طلبه
المتكرر لأن يتحدث معها ووضعته في خيار حقيقي بينها وبين
عائلته واختارهم هم نهاية الأمر "

وابتسمت بمرارة وهي تتابع دون أن تنظر للتي امتلأت عيناها

بالدموع تأثراً بكل ذلك

" كانت ورقة طلاقها صدمة كبيرة بالنسبة لها وعندما أعطاها
إياها شقيقها أغمي عليها ودخلت المستشفى فهي توقعت بأن حبه
لها أكبر من أن يتخذ قراراً كذاك وبأنه لن يتخلى عنها وهي التي
تحملت كل ما رأته من ظلم من عائلته وصبرت من أجله ، لقد
توقعت جميع السيناريوهات إلا ذاك وعانت كثيراً فترة الثلاثة
أشهر التالية وبتهور وافقت على الخاطب الذي تقدم لها فور
انتهاء عدتها وكأنها تنتقم منه بذلك لكنها كانت تنتقم من
نفسها فقط "


تنهدت بأسى ومسحت وجهها بكفاها والدموع التي لم تفارق

عينيها ونظرت لها وقالت بحزن

" حتى اليوم واللحظة يا غسق لازالت نادمة وكلما اتصلت بي
بكت وهي تتحسر على قرارها ذاك "

وتابعت بأسى حزين وهي تشير لنفسها

" في عمري هذا وهي تكبرني بعامين لم تستطع نسيانه مهما
حاولت وتبكي حتى مقاومتها لنفسها كي لا تخون زوجها الحالي
ولا بقلبها بينها وبين نفسها وعاشت التعاسة باقي سنوات حياتها
ومن دونه "

وعادت بنظرها للفراغ متابعة بحزن عميق

" قالت لي مرة قبل أعوام : لقد عشت تعيسة في جميع الأحوال
فليتني عشتها معه ولا تضاعفت من دونه "


وابتسمت بمرارة هي أقرب لضحكة متألمة وقالت

" ولغرابة القدر أن شقيقته تلك تزوجت بعد طلاقها منه بعام
رغم كبر سنها ووالدته مرضت مرضاً لم يستطع جسدها تحمله
أكثر من عامين وتوفيت "


شهقت حينها غسق وهمست بحسرة وألم

" ليتها انتظرت قليلاً "

نظرت لعينيها الدامعة وقالت بجمود وإن لم يفارق الحزن عيناها

" بل ليتها استطاعت أن تكون سعيدة بعيداً عنه فزوجها الآخر
بالرغم من أنه لم يكن قاسياً معها فقد كان جافاً للغاية جعل
حسرتها على تلك الأيام تزداد أكثر "


وسحبت نفساً عميقاً قبل أن تتابع بحزن وقد عادت للنظر لعينيها

" تصوري أن زوجها السابق لم يتزوج حتى اليوم ؟ يعيش وحيداً
في منزل عائلته القديم ذاته رغم مقدرته على شراء غيره وأفضل
منه ألف مرة وأغلب الناس قد تركت تلك البيوت القديمة منذ
زمن أو رممتها ! حتى أنه لم يغير أو يجدد فيه شيئاً لا أعلم
يعاقب نفسه أم يرفض الابتعاد عن ذكرياتهما فيه ؟! "


وحركت رأسها متحسرة وهي تتابع

" كان قراراً متسرعاً من كليهما فرفضت هي التنازل ورفض هو
جرح كرامته ودفعا ثمن ذلك تعاسة أبدية سبهها كان ورقة تم
إمضاؤها في المحكمة مجاناً بينما كان ثمنها فيما بعد غالياً جداً "

ولامست يدها ذراعها بحنان وقالت تنظر لرموشها المنسدلة
في حزن

" أنا لا أريد بما قلت يا غسق أن أشبهك بها ، صحيح قصتكما
مختلفة لكني أخشى أن تنتهي لنهايتها لأنها اتخذت قراراً تجاهلت
فيه عواطفها كما فعل هو تماماً وكان الثمن قاسياً جداً .. أقسى
من جرح الكرامة ومن التنازلات "


وأبعدت يدها عنها ما أن أنزلت رأسها ونظرت ليديها التي كانت

تشدها ببعضهما بقوة وكأنها تفرغ مشاعرها فيهما حتى احمرت

مفاصل الأصابع شديدة البياض والنعومة فامتدت يدها نحوهما

وأمسكتهما وقالت بهدوء حزين تنظر لما يظهر لها من وجهها

" ليس كل رجل يمكن نسيانه يا غسق فكيف إن كان ذاك الرجل
مطر شاهين ؟ شعب بلاد كاملة وأغلبهم لم يروه سوى على
شاشات التلفاز لا يستطيعون انتزاع حبه من قلوبهم فكيف بامرأة
هي زوجة له عرفت حضنه وقربه ؟ "


رفعت رأسها حينها ونظرت لها وقالت بعبرة مكتومة وأسى حزين
عيناها تمتلئ بالدموع مجدداً

" أنا أحتاج أن أكون قوية في هذا لا أن أتراجع عنه أرجوك
يا خالة "

حركت رأسها وتنهدت في حيرة وقالت ويدها ترتفع لجانب وجهها

حتى لامست خصلات غرتها الناعمة

" وأنا أريدك قوية في قرارك كما في اتخاذه أيضاً وأن تكون قوتك
في التفكير في عواقبه متساوية أيضاً "

وأبعدت يدها عنها ما أن أشارت لنفسها وقالت والبكاء يخنق
صوتها لأول مرة

" وكرامتي ؟ هل ترضى امرأة بكل ما فعله بي وإن كان مطر
شاهين ؟ "
وضربت بسبابتها على صدرها وهي تتابع بحرقة

" أترضى امرأة بأن يستغل الرجل مشاعرها اتجاهه لتغفر أخطاءه
في كل مرة دون أن يهتم لجراحها المتراكمة منه ؟ "

وسالت أول دمعة من عينيها وقالت بعبرة

" ليته أنصفني لمرة واحدة فقط لأجدها لكبريائي المكسور حجة
وأقدمها لكرامتي المذبوحة عذراً "

وغطت شفتيها بظهر كفها وأصابعها ما أن ارتجفتا وبكائها يزداد

تدريجياً وقالت التي امتلأت عيناها بالدموع ومسحت
على ذراعها

" إن لم تكوني واثقة من تجاوز مشاعرك لكل هذا فلن تداوي
كرامتك التي ضحيت من أجلها جراح ابتعادك عنه ووجوده
بعيداً عنك يا غسق "


سالت الدموع مجدداً من عينيها وصرخت بحرقة تضرب بقبضتها
ناحية قلبها

" أعلم بأني أضعف من أن أنتصر على حبه في داخلي لكني
سأنتزعه من مكانه وأقتله إن هو أثناني عن فعل ما أنا
عازمة عليه "

واشارت لنفسها وهي تتابع ببكاء

" كان اعتبرني كأي فرد من شعبه الذي لم يظلمه يوماً .. كان
اعتبرني غريبة عنه وأنصفني لمرة واحدة في الخمسة عشر
عاماً التي مضت يقتل فيها غسق في كل ثانية "

وسحبت الهواء لصدرها في عبرة متقطعة قبل أن تعود
وتقول ببكاء

" لم أشعر يوماً بأنني أنتمي لأحد عشت غريبة كل حياتي مع
عائلة اكتشفت بأنها ليست عائلتي ثم مع عائلة عشت غريبة
بينهم لأكتشف بعد أعوام طويلة أنهم هم عائلتي الحقيقية !
بينما كان هو يعلم كل ذلك ويخفيه عني "


وبدأت تعد على أصابعها بينما نظراتها الدامعة على عيني
الجالسة أمامها متابعة بوجع

" والد يموت ووالد ميت يعود للحياة وطفلة أنجبها من رحمي
قطعة مني تؤخذ مني وأول وآخر ما سمعته هو صرختها
وقت ولادتها "

وتقاطعت عبراتها وهي تحكي عن أكثر ما يؤلمها ويبكيها بوجع
تشير بيدها لنفسها

" ثم تعود شابة تحاول لملمة عائلة تشتت بسببه وتبحث عن
حضن أم تشعر بالضياع فيه لأنها لم تستطع أن تهبها ما حرمت
منه معها مهما حاولت "


كانت الجالسة مقابلة لها تمسح دمعاتها المتسربة كل حين تنظر
لها بحزن وقد عادت للعد بأصابعها مجدداً وبحركة غاضبة ونبرة
باكية بألم


" خيانة تلو الخيانة و امرأة تتحول بسبب ذلك وباعتراف منه
لمقالات في الصحف وسخرية في أعين الناس وأحاديث تسلية
لشعب دولة بأكمله "

وحركت رأسها بقوة ونبرتها تتبدل للجمود فجأة وإن لم تتوقف
عيناها عن سكب دمعتها بالتتابع قائلة ببحة

" أنا لا أشبه صديقتك تلك لأن زوجها احترمها وأحبها وإن لم
يكن عادلاً بينها وبين أهله لكنه لم يجرح كرامتها يوماً وبكافة
الطرق وعلى الملأ كي لا يجد له قلبها سبباً تكرهه به مستقبلاً
وتواجهه به "


وخانتها عبرتها الموجعة لتلحق بدموعها بينما يدها تضرب
على قلبها "

سحقاً لهذا سحقاً إن أجبرني على الغفران مجدداً .. لا أريده فليمت
وأموت معه أشرف لي وله "


ودخلت في نوبة بكاء موجع تحضن وجهها بيديها فحضنتها فوراً

وضمتها لصدرها تمسح بيدها على شعرها تشعر بقلبها ينفطر مع

كل شهقة وعبرة تخرج من بين أضلعها فيبدو أن قصة صديقتها

تلك لم تجدي في شيء غير زيادة أوجاعها لذلك قررت أن لا

تخبرها بأقسى جزء منها وما جعلها ترويها لها الآن وهو سبب

اتصال تلك الصديقة بها اليوم وهي تخبرها باكية بأنها علمت قبل

ساعات بموته وحيداً في منزله ذاك وقد وجده أحد الجيران ميتاً
في غرفته وفوق سريره والناس تتناقل هناك ما وجدوه حينها

وهي الغرفة القديمة التي كان ينام فيها عمرها أعوام طويلة وهي

ذاتها غرفتهما في الماضي ، وكان هذا ما جعلها تتشجع وتتحدث

معها في الأمر ولأول مرة منذ أصبحت هنا ويبدو عليها أن لا

تفكر في فعلها مجدداً .

لكنها ليست نادمة أيضاً فها هي دفعتها للتحدث على الأقل بدلاً من

الكتمان في داخلها فمنذ أصبحت هنا لم تراها بكت ولم تتكلم أبداً

وتعلم جيداً بأنه مثلما ترفض معدتها الطعام تأبى عيناها النوم

والراحة بالتأكيد .


همست تسمي الله بحزن وهي تمسح على شعرها وقبلت رأسها

تدفن شفتيها في نعومة الشعر الحريري المجموع في الخلف

تتذكر كلماتها الباكية وهمست بوجع

" كسر الله قلب كل امرأة تحاول كسر أخرى "


*
*
*



فيتامين سي غير متواجد حالياً  
التوقيع



شكراً منتداي الأول و الغالي ... وسام أعتز به


رد مع اقتباس
قديم 21-07-21, 12:16 AM   #16448

فيتامين سي

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة

alkap ~
 
الصورة الرمزية فيتامين سي

? العضوٌ??? » 12556
?  التسِجيلٌ » Jun 2008
? مشَارَ?اتْي » 42,437
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Saudi Arabia
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » فيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond repute
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي




*
*
*

استمرت في تقطيع الصور التي لا تفعل شيئاً سوى العودة لها

وتمزيق قطعها لقطع أصغر منها في كل مرة تفرغ فيها كل ما

تكبته وكل ما زلزلها انكشافه لها دفعة واحدة والفاجعة تلو

الأخرى فلا العائلة التي كانت تكره هي عائلتها ولا عائلة لها

لتصب جام غضبها عليها مستقبلاً .

لم تستطع ولساعات أن تقنع نفسها بما علمته وكأنها في حلم أو

كابوس كل ما تريده الاستيقاظ منه أو أن يخبرها أحدهم بأن كل ما

حدث مجرد أكذوبة ومزاح كان الغرض منه اختبار قوة تحملها ،

لكن الساعات مرت الواحدة تلو الأخرى ولم يحدث شيء من

ذلك .. لم تستيقظ ولم يطرق باب غرفتها أحد يحمل آلة تصوير

على كتفه ضاحكاً لتعلم بأنها دعابة فكل ما قاله إذاً كان حقيقة

عليها فقط تصديقها ومهما طال الوقت وتهربت منها .

والحقيقة المفجعة أضعاف ذلك أن من عبّرت عن كرهها لهم

لأعوام طويلة وطوال الوقت ليسوا سوى غرباء عنها وأكذوبة

باتت الآن تتمنى العيش فيها مجدداً .

رمت قصاصات الصور المكومة أمامها بغضب صارخة

" هذه غيسانة خذوا .. خذوها "

واستمرت ترميهم بعيداً عن سريرها تصرخ وتردد ذات الكلمات

حتى خارت قواها وتهاوى جسدها على ظهر السرير صدرها يعلو

ويهبط بقوة بسبب تعاقب أنفاسها وسالت الدموع من عينيها في

خطان مستقيمان تنظر ناحية السماء المطلة عليها من باب

الشرفة المفتوح حتى الآن وحيث كان يقف من رمى تلك القنبلة

المدمرة في وجهها ، وعادت بها الذكريات للوراء لصرختها

الهستيرية ما أن استوعبت ما قاله حتى كانت موقنة أن كل من

في هذه البلاد قد سمعها حينها ولم تعد ترى ولا تعلم شيئاً بعدها

ولم تفهم بسبب الصدمة فقدت الوعي أم بسبب الأدوية التي كانت

تأخذها وتتسبب في نومها أغلب الوقت !

فكل ما تذكره أنها حين أفاقت كان باب الشرفة مفتوحاً فعلمت

على الفور بأنه لازال هنا ولم يغادر كما لم تكن تعلم كم نامت من

الوقت الذي بقي فيه هو واقفاً هناك ؟

وحينها فقط علمت لما كان يفعل هذا دائماً ولا غرفة تجمعهما معاً

لوحدهما يتجنبها طوال الوقت مكتفياً بإرسال المال لها فقط

وتلقي مكالماتها الغاضبة .

فغادرت السرير وسارت بصعوبة ناحيتها فلازالت تعاني من

مضاعفات كل تلك الحبوب التي حاولت الانتحار بتناولها

وأمسكت بطرف إطار الباب الزجاجي ما أن وصلته وكما توقعت

كان يقف هناك يستند بمرفقيه على حافة الشرفة يشبك أصابعه

وينظر للأسفل وحيث كان المكان يرتفع عدة طوابق عن الأرض

كما يبدو واضحاً من المباني الكثيرة المرتفعة والطرقات

المتقاطعة والمليئة بالسيارات على مد النظر .

ملأت صدرها بالهواء قبل أن تزفره قائلة

" من هو والدي ؟ "

" لا أعلم "

لم يتأخر رده وكأنه يستعجل قتلها بباقي الحقائق المخفية عنها

وارتجف جسدها لا تعلم بسبب ثقل ما قال عليها أم البرود في

صوته فهي لم تنسى قطعاً ما قاله قبل أن يكشف لها حقيقتها

واكتشافه لكل ما فعلته انتقاماً منهم جميعاً وهو أولهم بسبب ما

كانت تراه جرماً في حقها .

اشتدت أصابعها على خشب إطار الباب وقالت بضيق وإن

بنبرة ضعيفة

" ما معنى أنك لا تعلم ! "

واشتدت نبرتها تلك وهي تتابع بضيق أشد

" من يعلم إذاً ؟ "

وكانت نبرته أكثر بروداً من سابقتها وهو يقول ودون أن

ينظر ناحيتها

" لأني لا أعلم فعلاً قلت لا أعلم .. لست مجبراً على
الكذب عليك "

زمت شفتيها بضيق وتخللت أصابع يدها الحرة خصلات شعرها

بجانب وجهها تشده بها للخلف بقوة وحركة غاضبة حين تحركت

خصلاته المموجة مع الهواء تمسكه بعيداً وكأنها تفرغ انفعالها

فيه أكثر من فكرة إبعاده وقالت ولم يغادر الضيق صوتها كما

ملامحها تذكره بكلماته

" وكنت تخفي الأمر عني لأعوام طويلة !

أكنت مجبراً مثلاً ؟ "


وتعالت أنفاسها بحدة حين لم يعلق ويبدو لم تنتظر ذلك وهي

تتابع بينما نزعت أصابعها من شعرها بحركة أخرى عنيفة

" وكيف تمنحني اسم عائلتك وأنت لا تعلم من أكون ابنته ؟ "

واتسعت عيناها فجأة حين أدرك عقلها حقيقة كانت غائبة عنها

وقالت بصدمة

" أم أني أحمل فقط اسمك المزور في إنجلترا ! "

" أجل "

كانت ثالث قذيفة مدمرة يرميها بها مباشرة في وجهها وإن كانت

تقف خلفه تقريباً لازال يتجنب النظر لها كما لايزال يُخرج كل

كلمة ببرود أشد من سابقتها حتى شعرت بأطرافها تتجمد بسبب

ما قال أكثر من طريقة قوله له وخرجت الكلمات منها لا تعلم من

أين تحديداً من شفتيها أم عقلها المشوش أو قلبها المحطم

وكأنها تخرج من عمق تمثال مجوف لازالت تنظر لما يظهر لها

من جانب وجهه

" من هو والدي الحقيقي إذاً فمن حقي أن أعلم أم سأكمل بقية
حياتي بدون هوية ؟ "

وتبعت نظراتها حركته وهو يخفض رأسه أكثر وكأنه ينظر لشيء

ما في الأسفل وبالتأكيد رجاله الذين سيكونون مطوقين المكان

كاملاً لحمايته فكما عرفته أعواماً طوال هناك لديه رجال يفدونه

بأرواحهم ويحمونه حتى من أنفسهم فكيف بالأمر هنا ؟

شعرت بالثواني أعواماً تمضي وهي تنتظر كلماته التي لم

ترحمها لا من جمودها ولا معناها حين رفع رأسه قائلاً "

ما لديا قلته لك "

فضربت الإطار بيدها بغضب صارخة في أول انفعال لها

قائلة بحدة

" كيف لا تعلم ؟ لابد وأن والدتي كانت تعلم وأخبرتك "

تمتم ببرود

" ولا هي تعلم "

فغرت فاها بصدمة وشعرت بأنفاسها توقفت تماماً قبل أن تتحرك

خطوة اخرى لتصبح في الخارج معه ولازال نظرها معلق بالجزء

الصغير من ملامحه الظاهر لها وقالت بحرقة تلوح بيدها في

حركة محتجة

" كيف لا تعلم أقنعني بهذا ! هل نامت واستيقظت ووجدت
نفسها حاملاً بي ؟! "

وامتلأت عيناها بدموع القهر وهي تصرخ بانفعال بينما بدأت

خصلات شعرها المتطايرة مع الهواء تحول بينها وبين النظر له

" وهل صدّقت فعلاً بأنها لا تعلم ! لا أراك بهذا الغباء مطلقاً "

استوى في وقوفه حينها واستدار نحوها ونظر لعينيها لأول مرة

منذ وقوفها هناك وقال بحزم ينطق جدّية

" بلى صدقتها وهي كانت صادقة بالفعل فهي لا تعرف من يكون
وهو لا يعلم عنك لكان قتلك دون أدنى تراجع "

علت الصدمة ملامحها وتطايرت خصلات شعرها بعيداً عن وجهها

كشعاع شمس مموج وحدقت فيه العينان الممتلئة بالدموع بعدم

تصديق وهمست بصعوبة

" قتلني !! "

ولم يرحمها قط وهو يرمي بالفاجعة الجديدة نحوها قائلاً بجمود

" أجل لأنك الشيء الذي سيأخذه لحبل مشنقته "

فكان رد فعلها الوحيد أن حدقت فيه بصدمة لم تغادر ملامحها بعد

بينما تابع هو وكأنه لا ينتظر تعليقاً منها وبنبرته الجامدة ذاتها

" لقد تعرفت عليه والدتك وحملت بك وهي لا تعرف هويته
الحقيقية التي ماتت وهي تجهلها "


وارتفع رأسه قليلاً وكأنه ينظر لها من عليائه وهو يتابع بصوت

عميق يشبه شخصيته كما البحة المميزة فيه

" كنتِ تحملين اسم عائلة والدتك التي قامت بنسبك لها وتم
تغييره للعائلة التي حمل عمي دجى اسمها وقت هجرته هناك
وهو اللقب ذاته الذي حملته أنا فيما بعد ولم يتم تسجيلك قَط بإسم عائلتي الحقيقي "


وسكت بعدها لبرهة بينما هبّ النسيم مجدداً وتراقصت معه

خصلات شعرها الطويل المموج وتحركت شفتاها المتصلبتان

وقالت بصعوبة

" ولماذا يقتلني إن علم بوجودي ! وكيف أكون السبب
في مشنقته ! "


وانتظرت بأعصاب مشدودة شفتاه لتتحرك وترحمها حتى قال

" لأن والدتك حملت سراً خطيراً يخصه وما جعله يحاول قتلها قبل
تغيير هويتكما وأنتِ فقط الدليل بأنه الشخص ذاته لأن دمائكما
واحدة "


دارت الأفكار في رأسها كالإعصار حتى شعرت بالألم يتضاعف

في صدغيها يحاول تحليل وفهم ما قال قبل أن تقول بعدم استيعاب

" أتقصد بأنني الدليل على هوية صاحب السر الذي تحصلت
عليه والدتي "


قال من فوره

" أجل "

فشعرت بالأرض تدور تحتها وسندت ظهرها بالجزء الثابت من

الباب الزجاجي خلفها وقالت بكلمات لاهثة وكأنها كانت تركض

لأميال طويلة

" وموتي معناه موت سره ؟ "

لم يعلق ولم يتحدث مما أكد لها صحة تحليلها فصرخت فيه بقوة

" لما أخبرتني بكل هذا الآن ! "

وامتلأت عيناها بدموع القهر وهي تشير لنفسها صارخة
" أي عقاب قاسٍ هذا الذي اخترته للانتقام مني يا مطر ؟ "

قال بضيق عاقداً حاجبيه بشده

" ظننتك أصبحتِ تفهمين مطر شاهين لا أن تزدادي غباءً "

ابتلعت إهانته مع كل فاجعة سبقت واحتجت بضيق غاضب

تلوح بيدها

" لما أخبرتني الآن إذاً ولما أخفيتم الأمر عني ؟ "

وتخلى هو أيضاً عن جموده حينها صارخاً بحدة

" لأن الأمر لا يحتمل المزيد من التهور منك يا غيسانة فأنتِ
المتضرر الوحيد إن علم ذاك الرجل بوجودك فأنا لم أتخذك
وسيلة لكشفه طوال الأعوام الماضية ورغم اقتراح العديدين لي
بفعل ذلك كي لا أعرضك للخطر بدون ذنب "


اتسعت عيناها تحدق فيه بتفكير للحظات قبل أن تهمس

" ولما تريدون اكتشاف هويته ! "


وراقبت يده التي مررها على قفا عنقه يتجنب النظر لها أنفاسه

القوية تخرج متعاقبة قبل أن ينظر لعينيها ويقول بجدية مبعداً يده

بحركة غاضبة

" لأنه السبب الأول في كل ما تمر ومرت به البلاد "

انفرجت شفتاها وكأنها تحاول قول شيء تعجز عن إخراجه

أو صياغة عبارات له بينما انتقلت نظراتها الضائعة في ملامحه

ما أن تابع بنبرة قوية تشبهه في كل شيء

" كانت الأوراق الموجودة لدى والدتك تحمل أسراراً خطيرة
بسببها ضاعت بلاد كاملة ودفع شعب دماءً كانت ولازالت تنزف "


وارتفع صوته بحدة وهو يرمي بيده جانباً

" كان السبب في دمار كل ما فعلته من أجل هذه البلاد لأعوام
ولم أتوقع حينها قط أن يكون السبب في السعي لتدمير كل ذلك "


فالتصقت بالباب خلفها تنظر له بذهول وقد اشتد فكاه بقوة

وخرجت الكلمات من بين أسنانه المطبقة بغضب يشير

بسبابته لنفسه

" ولعب لعبته الحقيرة وبسببها أضعت اربعة عشر عاماً خارج
وطني أحميه من المجهول ودفع مطر شاهين ثمناً أغلى من كل تلك الأعوام "

واشاح بوجهه بحركة قوية وهو يهمس بغضب وكراهية

" تباً له من رجل "

تجمعت الدموع في عينيها مجدداً وإن لم تغادر مكانها وتحركت

شفتاها لتقول شيئاً منعه نظره لها وكلماته الغاضبة وهو يشير

لها بسبابته بحركة قوية

" ولن أسمح لابنته أن تشاركه كل ذلك وبجهل منها لذلك عليك
أن تعلمي يا غيسانة بأن تصرفاتك ستكون السبب في دمارك قبل دمار هذه الأرض "

وتابع بلهجة قوية وكأنه يلقي خطاباً يشير بسبابته للأسف بعيداً

حيث المدينة بمعالمها العمرانية وأبراجها العالية وطرقاتها
المتداخلة

" كل ما تريه هنا أمامك كان مجرد خِرب وخراب .. طرقات
ترابية ومنازل طينية لا كهرباء فيها ولا ماء ينتظر الناس فيها
كل يوم أن تسقط قذيفة ما فوق بيوتهم أو تتلقى خبر مفجع من
الحدود عن موت أحد أحبائها "


واشتدت حدة صوته الغاضب وهو يضرب على صدره

" كل هذا بنيته بسنوات شبابي بدماء رجالي بحرماني من
عائلتي .. دفعت ثمنه غالياً ولازلت أدفع المزيد ولن أسمح لأيّاً
كان أن يعيده كما كان عليه لتضيع تضحياتي وتضحيات رجالي
وللأبد وليضيع وطن عرف شعبه معنى الأمان والراحة بعد
عناء طويل "


حركت رأسها بقوة قائلة بأسىى غاضب

" وما الذي فعلته أنا يدمر ما تتحدث عنه ! "

وكان الجواب في انتظارها وأقسى مما توقعته وهو يقول بضيق

وشده لقبضتيه بجانب جسده يعبر عن كل ما يشعر به حينها

" منذ أن غامرتِ بنفسك ثم بابنتي من أجل ذاك القرص اللعين
فتحتِ أعيناً كانت غافلة عنا ، ووصول والدك ذاك لهويتك
ولهوية رجالي هناك قبل أن نصل إليه معناه دماراً لا يمكنك تخيله
وفقدي لشبّان هناك أهم ما لدي أن يكونوا أحياء "


وعلا الغضب ملامحه وصرخ وسبابته تشير لها

" تحملت من أذاك الكثير يا غيسانة وعلى مر أعوام وكل ما
فعلته أني وفرت لك فيها ما يجعلك تعيشين في أفضل حال ولم
أُخلف وعدي لوالدتك قط لكن ذلك لم يجعل منك امرأة تُقدر
كل هذا "


عادت الكلمات لخيانتها وهي تحرك شفتيها كالغريق تحدق فيه

بضياع بينما تابع هو ودون انتظار عاقداً حاجبيه بقوة

" أتعلمين ما قالته وآخر طلب طلبته مني قبل وفاتها ؟ "

تعالت أنفاسها وآخر ما تفكر فيه هو الفضول لمعرفة ذلك لكنها

لن تستطيع منع هذا أيضاً وتقوست شفتاها وهي تحدق فيه بأسى

وهو يحرك سبابته نحوها قائلاً بحزم


" طلبت أن لا تعلمي بحقيقة أنك لستِ شقيقتي وقالت بالحرف
الواحد إن شعرتَ يوماً بأنها تحمل دماء والدها النجسة في
عروقها وبأنها نسخة أخرى عنه فلا تتوانى لحظة واحدة
عن قتلها ودفنها "


تجمعت الدموع في عينيها وشدت شفتها بأسنانها وكأنها تمنعها

من الارتجاف باكية تنظر له من خلف تلك المياه المالحة وقد قال

بجدية وإن بنبرة أقل ارتفاعاً من سابقاتها

" وأنا لازلت أرى أنك تستحقين فرصة أخيرة بعدما أضعتِ
الكثير وبالرغم من تدميرك لزواجي وعائلتي نهائياً .. إكراماً
لوالدتك أولاً وما فعلته لنا ولأنك كنت تعلمين حقيقتي طيلة
الأعوام الماضية ولم تفكري في إيذائي يوماً "


خانتها كل قوتها تلك وانسابت الدموع من عينيها والتي لم يفعلها

كل ما علمته رغم عظمه وعادت تقول مجدداً وبصوت مرتجف

" وما ذنبي أنا فيما فعل والدي ؟ "


أشاح بوجهه جانباً ومسحت يده على لحيته بحركة بطيئة مع

سحبه لنفس قوي وتحريره سريعاً ونظر لها وقال بجمود

" لم يحملك أحد ذنب أفعاله ولن أفعل أبداً بل تحدثت عمّا
فعلته أنتِ "


لم تتحدث ولم تستطع قول أي شيء ولا إيجاد أي تبرير لفعلتها

تلك بعد كل ما علمته ، بل ولم ترفع ولا يدها لمسح الدموع عن

وجنتيها وتجمدت نظراتها عليه وقد تحرك من مكانه ووقف

أمامها مباشرة ورفع سبابته قائلاً بجدية

" أمر واحد فقط عليك معرفته بأن التهور وكشفه لهويتك لن
يضر أحداً غيرك وثمنه سيكون موتك بينما سيكشف هويته لنا "


ابتلعت عبرتها حتى انتفض صدرها بقوة تمنعها من الخروج

مكتفيه بتحرر تلك الدموع من قيودها وهي تعاود النزول مجدداً

فوق الوجنتان ناصعة البياض بينما تابع الواقف أمامها بجدية

وقد أبعد نظره عنها

" يمكنك البقاء هنا في بلادك محمية منه إن أردتِ ذلك أو العودة
هناك وسأحميك كما كنت دائماً ما لم تتهوري بما سيكون ثمنه
حياتك "


وغادر بعدها بخطوات واسعة ثابتة تشبه شخصيته وتركها

لعبراتها التي تحررت ما أن سمعت صوت الباب وهو يغلقه خلفه

ونزل جسدها للأرض ببطء لازالت تبكي بنحيب مرتفع تنظر

عالياً للسماء .


وقفت وغادرت سريرها تحاول الهرب من الذكريات التي لا مفر

لها من تكرارها حتى تموت وبدأت بتحطيم كل شيء وجدته

أمامها بغضب تصرخ رافضة لكل ذلك فها هي الأكاذيب التي كانت

تحيكها حول ذاك الوالد وبأنه كان يضرب والدتها ويؤذيها تبين

أنها صحيحة فهي ابنت رجل نجس خان بلاده وتلاعب بمشاعر

والدتها وهجرها وحاول قتلها ومستعد لقتل ابنته الآن إن علم

أين تكون وبدم بارد ، وعلمت الآن لما كانت خالة والدتها تنعت


دمائها بالنجسة دائماً وهي التي كانت تعتقد بأنها تعني

العرب إجمالاً .


صرخت بعنف هستيري في الممرضتين اللتان دخلتا مسرعتين

ناحيتها وحاولت تجاوزهما والفرار لكنهما سرعان ما أحكمتا

إمساكها من ذراعيها حتى غرز الذي دخل بعدهما رأس الحقنة

أعلى ذراعها مما جعل جسدها يتهاوى ببطء مع تخدر لسانها

وتحول كل شيء أمامها لظلام قاتم .


*
*
*

سار معهما وهو يعدهما بزيارة قريبة كما طلبا منهم وعبارات

التوديع تتكرر بين شفتيه كآلة تسجيل مبرمجة حتى بات المكان

ساكناً تماماً بعد رحيلهما فأغلق الباب خلفهما ونظر سريعاً للتي

كانت تقف خلفه تلتزم الصمت التام حتى أنها لاحظت نظرات

فاليريو الواضحة لها وفهمت بأنه انتبه للتغير الذي طرأ عليها

فعقلها كما قلبها وحواسها جميعاً تركتها في تلك الغرفة هناك

وخرجت مرغمة لتوديعهما .

حركت رأسها بعجز ما أن قرأت نظراته المتسائلة وكأن الكلمات

غادرت عقله وبجميع اللغات التي يتقنها وعجزت هي أيضاً عن

التعبير بغير ذلك ومؤكد فهم من نظرتها وحركتها تلك إجابة

سؤاله دون حديث فخرجت الكلمات المتشنجة من حنجرته نهاية

الأمر قائلاً بتوجس ظهر جليا على ملامحه قبل صوته

" ماذا حدث ؟! "

حركت رأسها بذات الحركة المشتتة وهي تهمس

" لا أعلم "


تنقلت نظراته بين عينيها باستغراب وهمس أيضاً وكأنه أُصيب

بالعدوى منها

" هل علمتما منها السبب ؟ "

قالت ببحة وحزن

" لم تقل شيئاً "

والتمعت عيناها بحرقة دموع لا وجود لها وتحجرش همسها

ببحة غريبة

" قالت فقط أريد والدي "

وتبعت نظراتها الحزينة الذي تلقى كلماتها كما توقعت تماماً وهو

يضرب كفيه ببعضهما قبل أن يوليها ظهره وغرس أصابعه في

شعره يشده للخلف وتعلم جيداً بما يشعر وما تأثير الكلمة عليه

وعلى أي شخص تربطه بها صلة فكيف إن كان رجلاً مما يعني

أنها لا تجد منصفاً لها ولا أحد يمكنه تخفيف ألمها ولا تشتيت

حزنها .. لا سند ولا ظهر ولا منصف مما جعلها تطلب من لو أنه

كان موجوداً الآن لكان له تصرف مختلف تماماً بالتأكيد بل ومنذ

زمن طويل وليس هذا اليوم فقط .

استدار جسدها معه ما أن تحرك مجتازاً لها دون أن يقول شيئاً

وتبعته وهي تعلم أين وجهته وما أن وصل باب الغرفة وأمسك

مقبضه بيده وضعت يدها على كفه تمنعه وهمست ما أن

نظر لعينيها

" علينا تركها لترتاح وتكون نفسيتها في وضع أفضل "

حرك رأسه بإيماءة خفيفة موافقاً وهمس وهو يعود بنظره ليده

ويدير المقبض ببطء ويفتحه

" سأطمئن عليها فقط "

وما أن اتسع الباب قليلاً حتى شعر بقلبه ينقبض بشدة آلمت

أضلعه وكأنه انفجر بالداخل لحظة أن وقع نظره على جسدها

المنكمش نائمة فوق السرير بدون غطاء تخفي وجهها في

ذراعيها تضم ساعديها فوق رأسها ولا يعلم إن كانت نائمة بالفعل

أم لا ؟ كل ما يعلمه حينها أنها جثة ميتة تتنفس وشعر بالقهر

والغضب من نفسه ومن كل شيء وكلمات زوجته ترن في أذنيه

وكأنه يسمعها منها هي الآن

( أريد والدي )

اشتدت أصابعه على مقبض الباب بقوة لازال نظره على الجسد

الذي احتضنه قماش بيجامة ابنته وعلى الشعر البني المتناثر

بنعومته خلف رأسها المحاط بذراعيها البيضاء وشعر بالألم مع

كل انتقال لنظراته على الجسد الملقى هناك وحتى القدمان

البيضاء الصغيرة وكأنه جثة مرمية وسط ساحة حرب انتهت للتو

تاركة جثة وحيدة خلفها لم يكلف أحد نفسه بدفنها أو أخذها معه .


مسح وجهه بكفه وأمسك عيناه بأصابعه بقوة لا يعلم مما يهرب

تحديداً منها أم نفسه ؟ من ضعفهم أم من تخاذلهم حيالها ؟

أغلق الباب بهدوء ما أن شعر بيد الواقفة خلفه على كتفه مجدداً

وتحرك من هناك وحملته خطواته للمكان الذي جاء منه والتفت

لها ما أن قالت وقد وصلا بهو المنزل

" ماذا ستفعل ؟ "

حرك رأسه مطبقاً شفتيه وتنهد قائلاً

" علينا أن نعلم منها ما حدث أولاً ثم سأ... "


قاطعته تغضن جبينها بقوة

" ما الذي تريد معرفته يا حارثة والفتاة أمامك دخلت بمنشفة
الحمام وحالها يتحدث دون شرح ولا سؤال ! "

قال من فوره وبجدية

" وإن يكن فعلينا أن نعلم أولاً وعليا التحدث صباحاً مع والده "

أمالت شفتيها بعدم رضا قبل أن تشير بيدها جهة الممر قائلة

" وما الذي فعله والده في المرات الماضية ؟ "

رفع سبابته وقال بحزم

" يبقى والده وعليه أن يعلم ، وإن لم يتصرف حيال الأمر
فلكل حادثٍ حديث "

وغادر باتجاه ممر غرفتهما نظراتها تتبعه حتى اختفى عنها

فتنهدت بعمق وكانت ستغادر ناحية المطبخ لتنهي تنظيف

ما تبقى من عشاءهم الذي انتهى بأن لم يمس كعكتهم تلك أحد

غير ضيفاهما لولا أوقفها الخيال الواقف ناحية الممر الذي

غادرته قبل قليل وما أن تقدمت نحوه خطوتين ظهرت لها ملامح

وجه ابنتها والتي جمعت الغضب والحزن معاً في انسجام غريب لا

يتقنه سوى أمثالها ممن لا يُظهرون تلك المشاعر إلا نادراً ، وما

لفت نظرها كان العينان المحمرتان فانقبضت أصابع يدها اليمنى

دون شعور منها وهي تنقل نظرها لأثارهم على وجنتها البيضاء

فلن يكون صفعها لها السبب في البكاء الذي لا يظهر سوى في

تلك العينين فقط فهي تعرف ابنتها جيداً فما يؤلمها ليس رد فعلها

بل ما قالت هي عن والدها ولازال راسخاً في عقلها .

تحركت من مكانها وتقدمت نحوها حتى كانت تقف أمامها تماماً

وقالت بكل ما استطاعت من هدوء تنظر لعينيها

" ساندرين الحكم دون معرفة أمر خاطئ جداً وعواقبه ستكون
سيئة عليك وعلى والدك أيضاً فمن الحكمة التروي حتى ... "

" ماذا قال ؟ "

قاطعتها هامسة بتلك الكلمات دون أن تهتم لما كانت تقول أو

لمتابعته فتنهدت تحرك رأسها بأسى ويأس منها لكنها لم تعلن

استسلامها بعد وقالت بحزم هذه المرة تنظر لعينيها

" الندم على قول ما لم يسمعه منك سيكون أهون كثيراً من أن
يعلم بما تفكرين نحوه وتقولين ثم يتبين لك عكس ذلك "

قالت التي ارتسمت السخرية على شفتيها ممزوجة بالكثير

من المرارة

" أتعلمين أمراً أمي ؟ الأمر سيء في الحالتين "

نظرت لها باستغراب تظنها تعلق على ما قالت هي لكن تبين لها

العكس حين تابعت بضيق ممزوج بحرقة

" إن كنت يوماً في موقف مشابه لها الآن وكان له موقفاً قوياً
معي فسأحزن .. وإن لم يفعل ذلك فسأموت قهراً "

ولم تنتظر منها أي تعليق وهي تتابع بحدة وعينان دامعة بقهر

" أتعلمين لما أمي ؟ "


وأجابت عن نفسها أيضاً وصوتها يرتفع بحرقة

" لأنه أنصف ابنته ولم يفعلها مع قريبته اليتيمة أمي أو سيكون
متخاذلاً مع كلينا .. وكل واحدة منهما أقسى من الأخرى "

خرجت حينها الواقفة أمامها عن صمتها وقالت بحزم تحاول أن لا

ينتهي الأمر كالمرة السابقة

" لا تيم يشبه رواح ولا أنتِ تشبهين ماريه ساندي فلا تجعلي
الشيطان صديقاً لك "

رمت يدها بقوة صارخة

" وفيما سيختلف عنه ؟ كلاهما رجلان أم تعتقدين أن ابن
السلطان سيكون مختلفاً عن ابن خاله ؟ "


وحركت سبابتها أمام وجهها متابعة بلهجة قوية

" لا أمي مخطئة كثيراً فنحن من جعلنا لذاك الجليدي حجماً أكبر
منه وما أن يرى ابن عمته تخاذلكم اتجاه ماريه سيفعل مثله
وأكثر بكثير مع ابنتكم "

قالت الواقفة أمامها بضيق

" ساندرين والدك قال بأنه سيتحدث مع والده غداً وأعلم جيداً
بأنه لن يقف مكتوف اليدين هذه المرة فلنتروى قبل أن نطلق
أحكاماً "

شخرت بسخرية ممزوجة بالغضب وقالت

" وما الذي سيفعله والده ؟ كان هو دائماً من يقرر ويفعل كما
يريد ويحلو له "

تنهدت بيأس منها وقالت تحاول تغيير الحديث الذي لا طائل

منه الآن

" ماذا قالت لك عمّا حدث بينهما فهو الأمر الأهم الآن "

ضربت كفاها ببعضهما قائلة بحدة

" لم تقل شيئاً .. لا شيء .. ولم أسألها فلست من الوقاحة أن
أجرؤ على فعل ذلك الآن وهي التي اعتذرت عن لجوئها لنا "

وما أن أنهت قصفها المباشر لها أولتها ظهرها مغادرة لكنها

توقفت فجأة بعد خطوات قليلة والتفت لها مجدداً وكأنها نسيت

شيئاً ، وكانت بالفعل نسيت أهم ما عليها قوله وهي ترفع سبابتها

مهددة تلمع دموع القهر في عينيها تراها من بعيد

" لكن قسماً أمي هذه المرة إن لم يكن لأحد موقفاً اتجاهها أن
أفعلها أنا وليقتلني ذاك الكنعاني المتحجر إن أراد فأنا لا أخافه "

وغادرت وتركتها تنظر بذهول للمكان المظلم الخالي منها .


*
*
*

حين اقتربت خطواتها الحافية من الباب الخشبي المؤمن

بالحراسة كان هو يقف خارجه ينتظرها هناك فقد انتصر على

نفسه نهاية الأمر وأقنعها بالابتعاد عن ذاك المكان بأكمله وعن

صوت بكائها الذي كان يعلم بأنها في زمان ومكان آخرين ما كانت

لتشاركه أحد بل وما كان ليصدر عنها فوقف هنا ينتظرها عيناه

لا تفارق الباب الذي عبرته الآن وكأنه يخشى فقدانها وأن لا

تخرج منه .

إبتعد عن الجدار خطوة يقف على استقامته حيث كانت هي حينها

تلبس حذائها منحنية بجسدها قليلاً تلبسه بيد واحدة ورفعت

سلسالها وقبضت أصابعها عليه لم ترفع نظرها به ولا بأي شيء

أو أحد حولها وتحركت من هناك وسارا معاً ما أن مرت بجانبه

لم يتحدث ولم تفعل هي ولن تفعل بالتأكيد حتى غادرا مبنى

المستشفى وأحياء المدينة أيضاً وكان كامل تركيزه مع القيادة

بالرغم من أن تلك العينان جمحت عنه في مرات قليلة لتلمحها

وهي تنظر للخواتم المعلقة في سلسالها تنظر لها بين أصابعها

منذ خروجهم من هناك وكم تمنى لو يعلم ما كانت تفكر فيه

حينها ! لكن هيهات لعقل المحامي الذكي الموجود في رأسه أن

يصل لذلك فقد آمن تماماً بأنها المرأة التي سمع عنها كثيراً

ولم يراها سابقاً

( المرأة التي يعجز عن فهمها الرجال ) .

ما أن عبرت سيارته بوابة قصرهم أبطأ في سرعتها حتى توقفت

على مبعدة قليلاً عن بابه الداخلي ونظر ناحيتها حينها يسند

ساعده على المقود وقال ينظر لجانب وجهها المقابل له

" كنتُ تركت رمز الباب لوالدة رواح فقط ولا أعلم كيف
استطاعت جمانة الدخول ! "

تنهد بقلة حيلة حين لم تعلق ولازالت على وضعها ذاته تنظر

للخواتم والماسات اللامعة بين أصابعها وقال بهدوء

" ماذا كانت تريد منك يا زيزفون ؟ "

ارتفع نظرها للأمام وتحركت شفتاها حينها متمتمه ببرود

" لما لا تسألها إن كانت تجرؤ على قولها "

حدق فيها باستغراب وأدارت هي رأسها ونظرت لعينيه

وقالت باشمئزاز

" لما لا تخبرني كيف رضيت بالزواج بواحدة مثلها ؟ "

لم يستطع التحكم في ابتسامته التي تحولت لضحكة صغيرة وهو

يسند جانب رأسه بمسند الكرسي خلفه ولازال ينظر لعينيها

فها هي عادت زيزفون التي يعرف والتي ما كان ليتخيل أن

ينتظر عودتها حين ستتخلى عن معاملتها الباردة الجافة ولسانها

اللاذع إلا اليوم !

وفهم الآن لما طلب منه جده أخذها إلى هناك لأنه كان سيفقدها

وللأبد حين سترجع لحالتها السابقة وهو ما نوه عنه طبيبها في

الملف الذي تركه وأن عودتها لحالة الانهيار القديمة معناه عدم

شفائها نهائياً ولا مكان لها حينها سوى مستشفى الأمراض

العقلية .

كان يرى الضيق واضحاً وهو يرتسم في عيناها الجميلتان بسبب

رد فعله ذاك ولن يستغرب هذا ، وتبدلت الشفاه الزهرية لخط

رفيع تشدهما حانقة قبل أن يتحررا وقالت بضيق

" لا أفهم لما لا تُحسن الاختيار وأنت تستبدل شيء بآخر ليكون مكانه ... "

وتركت نظراته تنتقل للاستغراب وهي تتابع بضيق بينما قد

استدارت للباب تفتحه

" يالك من مدعاة للشفقة "

ونزلت ضاربة الباب خلفها ففتح بابه ونزل ولحق بها بخطوات

مسرعة وأمسك بذراعها وأدارها نحوه وقال باستغراب محدقاً

في عينيها

" ماذا تعنين باستبدال شيء بآخر ! "

" لا شيء "
همست بها بجمود وهي تستدير متابعة طريقها بينما وقف هو
ينظر لها حتى اختفت خلف ظِلال الأشجار ومرر أصابعه في

شعره للخلف حتى اجتمعت أيداه عند قفا عنقه وتنهد يحرك رأسه

في حيرة فستصيبه هذه المرأة بالجنون لا محالة !.

تحرك بخطوات ثابتة نحو الطريق الذي سلكته حتى دخل للبهو

الواسع والساكن لا أحد يتحرك فيه بالرغم من أن الوقت لم يتأخر

بعد لينام الجميع ! سار باتجاه المطبخ ووجد مبتغاه هناك ومن

قبل أن يدخل ونظر بضيق للتي تبدلت نظرتها المحبة له

وابتسامتها الصادقة للاستغراب وقال

" خالتي أهكذا تكون الأمانة لديك ؟ "

رمشت عيناها قليلاً تحاول ترجمة وفهم ما يعنيه فسبقها قبل أن

تفكر في طرح أي سؤال قائلاً بضيق

" هل تركت رمز الباب لديك لأجد جمانة في الداخل ! "


" جمانة ! "

همست بها باستغراب فقال من فوره وبضيق أشد

" أجل خالتي ولا تنظري لي هكذا وكأنك لا تعلمين شيئاً فوحدك
من يملك رمزه السري "

قالت بذهول

" لم أفتح لها أقسم لك بني "

كان هو من حدق فيها باستغراب حينها قبل أن يشير لصدغه

بأصابعه قائلاً بحنق

" كيف دخلت إذاً اشرحي لي هذا الآن ؟ "

تحركت عيناها في الفراغ بتفكير شارد قبل أن تنظر له قائلة

" تركت إحدى الخادمات هناك حين طلبني رواح لتنزل بصينية
الطعام وكان ذلك قبل مجيئك ومغادرتكما "


قال بضيق

" خالتي تركت رمز الباب لك لتدخلي وتخرجي وحدك فقط "


حركت رأسها وقالت مقرة

" كان عليا النزول يا وقاص ولم أرد ترك الصينية والسكين فيها
بجانبها لذلك طلبت ... "
قاطعها قائلاً بحزم

" سأغير الرمز مجدداً ولن تأكل حتى أكون هنا "


حدقت فيه بصدمة وقالت

" ما هذا يا وقاص ! ماذا إن حدث لها مكروه وأنت بعيد ؟ "


لم يعق وقد أشاح بوجهه جانباً فحركت رأسها في حيرة قائلة

" ثم لما تخشى عليها منا وهي كانت هنا لأشهر ولم يقربها
أحد بسوء ! "


أدار ظهره لها وقال بجمود مغادراً

" انتهى الحديث في الأمر خالتي "


فحركت رأسها بعجز وعادت للداخل متمتمه

" هذا ولم يعلم من وجدت أيضاً حين صعدت ! "

بينما صعد من تركها خلفه عتبات السلم بخطوات واسعة سريعة

وسار عبر الممر الطويل الساكن كسكون التُحف واللوحات الزيتية

المنتشرة فيه وفتح باب جناحه ما أن وصله ودخل ووقف مكانه

وسط ردهته ونظر ناحية باب الغرفة المحاذية لغرفتهما هناك

لبعض الوقت قبل أن يتخذ قراره ويتوجه نحوه وفتحه مباشرة

ودون أن يطرقه فقفز الجسد الأنثوي الشبه مستلقي على السرير

لينساب القماش الحريري الأبيض الناعم على كامل جسدها بعد

أن كان يرتفع فوق ركبتيها ووقفت دون أن تنتبه للهاتف الذي

سقط من يدها وابتسمت بتوتر لكن نظراته القاسية جعلتها تتخذ

موقفاً دفاعياً وهي تبادر بالهجوم قائلة بانفعال

" لا تنظر لي هكذا وتصدق أكاذيبها وأني أريد قتلها "

حدق فيها باستغراب قبل أن يهمس بشك

" ومن أخبرك بأن هذا ما قالته لي ! "

نظرت له بصدمة وتمنت أن قتلت نفسها بسبب غبائها الذي

لا يفارقها فقد نسيت تماماً بأنه محامٍ وليس أي محامي يمكنها

التلاعب بأفكاره ، وإن كانت تلك أخبرته حقيقة ما حدث فهي

الآن وبكل غباء أكدت له صدقها وكان عليها أن تنكر حين يخبرها

وليس العكس ، قالت في محاولة جديدة منها لتقديم نفسها

كضحية

" ومؤكد لم تخبرك بأنها هددتني باتهامي في مقتل نجيب "

" ماذا !! "

كانت عيناه متسعة بصدمة وهو يهمس بتلك الكلمة وشك بأنها

هددتها بقتلها وقت دخولها هناك بينما تابعت الواقفة قرب

سريرها تشد يديها كي لا يظهر ارتجافهما قائلة بضيق

" أجل وقالت بأنه لا دليل لدي لتغيبي وقت الجريمة "

حرك رأسه بعدم استيعاب قبل أن يقول بضيق

" ما هذا الهذيان يا جمانة ؟ "

فوجدتها فرصة مواتية تماماً ففكت يديها من بعضهما قائلة
بانفعال


" هي الحقيقة وأعلم بأنها ستنكرها وتتهمني أنا بقتله
ومحاولة قتلها "


لكنه خان توقعاتها وهو يصرخ فيها بحدة

" هي لم تخبرني بشيء يا جمانة "

حدقت فيه بصدمة قبل أن تهمس بارتجاف جمع الغضب

والذهول معاً

" مستحيل أنت تدافع عنها فقط لأنك ... "


قاطعها سريعاً وبحزم

" لا شيء يجبرني على فعلها "


فتحت فمها لتقول مسرعة باقي ما خططت له سابقاً في حال

سألها عن الأمر لكنه أمات محاولتها تلك وهو يرفع سبابته مهدداً

وخرجت الكلمات من بين أسنانه

" ولعلمك فقط يا جمانة فثمة شخص ثالث كان موجوداً وقت

الجريمة بالفعل وبالأدلة القاطعة فاحتفظي بلسانك في حلقك

ولا تقدمي نفسك للقانون وأنت لست الفاعلة "
وغادر وتركها جسدها يرتجف من هول ما سمعت للتو وتعلم جيداً

بنزاهته كمحامٍ ومن ثقته مما يقول لما كان حذرها وتركها تُقدم

كبديلة عنها في جريمتها تلك .. وما جعل ارتجافها ذاك يتبدل

للغضب هو احتمالية نجاة تلك المرأة من السجن بالفعل وهي التي

باتت تشيد أمالاً كثيرة على ذلك وبأنها ستنتهي لمصيرين لا ثالث

لهما إمّا السجن أو المصح النفسي وستبتعد عن حياتهما نهائياً

لتستعيد هي الزوج الذي اكتشفت الآن وبعد التحاقها بكل تلك

الدورات عبر الانترنت بأنها كانت وحدها فقط المسؤول عن

خسرانها له لذلك عليها أن تُبعد تلك المرأة عن حياته قبل أن تفكر

في استعادته ، وكما قدمته لها هي على طبق من فضة عليها

أن تسلمها إياه على واحد من ذهب إن بالطيب أو الإكراه .

تحركت خطواتها يتبعها صوت حفيف القماش الفاخر لقميص

النوم الذي لبسته للفت نظره فقط وطعنها مجدداً حين لم يُكلف

نفسه ولا عناء النظر له على جسدها بل ولا ما انكشف من ذاك

الجسد بسبب تفاصيله المغرية ولم تشعر أبداً بلذة حصولها على

الجسد الذي طالما حلمت به وإن لم تصل به للجسد المثالي بعد

إلا أنه بات متناسقاً وأقل بشاعة بكثير عن السابق حتى أنها

اكتسبت أنفاً أجمل وشفاه باتت متعادلة في الحجم وجميعه

طار أدراج الرياح .


ما أن وصلت باب الغرفة وقفت تنظر باستغراب تبدل للاحتراق

سريعاً تراقبه وهو يغادر باب الجناح ضارباً إياه خلفه يحمل في

يده حاسوبه الشخصي وفي الأخرى ملف يحوي الكثير من

الأوراق وارتجف جسدها غضباً وتأكد لها ما قالت والدة نجيب

عن الليلة السابقة فاتجهت للقطعة الخارجية من قميصها لبستها

وربطت الحزام حول جسدها وغادرت بخطوات مسرعة غاضبة

ذات الوقت لتتأكد بنفسها هذه المرة .

وما أن وصلت أسفل السلالم الذي صعده وقفت تنظر للأعلى

بعينين امتلأت سريعاً بالدموع وغطت شفتيها المرتجفة بيدها

ونظرت لطيف المرأة الذي اقترب منها عبر الظلام الجزئي وسالت

دمعاتها والكحل الأسود معهما في خطان مستقيمان وهي تنظر

لعينيها حتى وقفت أمامها وهمست بصوت باكي مرتجف

" ذهب لها "

همست الواقفة أمامها بجمود

" أجل رأيت هذا "

لم يزدها تأكيدها ذاك سوى بكاءً وألماً وأشارت لنفسها

قائلة بعبرة

" أنا زوجته يتركني ويذهب لها ! "

وازداد نحيبها بالرغم من خروج صوتها في همس مبحوح

" لقد قالتها سابقاً بأنها تتركه لي بإرادتها وستأخذه متى
أرادت ذاك "

قالت المقابلة لها بنبرة جادة يغلفها الكثير من الجمود كملامحها

تلك اللحظات

" لن ينفعك البكاء ولا التحسر في شيء وعلينا أن نتحرك "

تتابعت أنفاسها المختلطة بعبرتها وحركت رأسها هامسة

" أجل قبل أن يُثبت وقاص براءتها "

" براءتها !! "

همست أسماء بذلك في صدمة وقالت المقابلة لها تؤكد كل ذلك

" أجل فهو يقول بأنه ثمة شخص ثالث كان موجوداً وقت

الجريمة بالأدلة الثابتة وأعرف وقاص جيداً إنه محامٍ ماهر

ولن يتوقف حتى يحدث ما يريد

" خرجت تلك من جمودها الذي تبدل لغضب مكبوت هامسة

من بين أسنانها

" بل لأنهم يريدون تبرأتها لأنها ابنتهم ليس لأنها ليست الفاعل
فما أعلمه أنها اعترفت بفعلتها تلك لكنهم يرفضون الاعتراف بهذا
وجميعهم "


همست جمانة بحماس غاضب

" ماذا سنفعل إذاً "

رفعت تلك يدها والهاتف فيها تقبض عليه بقوة وقالت بحقد

" ما أن يكون رمز ذاك الباب لدينا سنتحرك فوراً والليل موعدنا
مع تلك القاتلة "

همست الواقفة أمامها بتساؤل

" وماذا إن لم يقم بتغييره ؟ "

قالت متأكدة

" سيفعل بما أنه وجدك في الغرفة "

قالت التي يتغلب خوفها على كل ما تفعل كالعادة

" وكيف سندخل ليلاً وهو سيكون هنا ! "

همست تلك من فورها

" سننتظر الفرصة المواتية وإن لم يحدث خلال يومان سنتخذ
خطة بديلة "


وأمسكت كتفها وقالت تشجعها بإصرار

" عليك أن لا تترددي يا جمانة وأن لا تكوني جبانة إن كنتِ
تريدين استعادة زوجك بالفعل "


حدقت فيها بصمت لبرهة وهمست بإصرار

" بلى أريد "

ابتسمت لها وقالت

" عودي لغرفتك إذاً ولا تقتربي من هنا مجدداً حتى نكون معاً
وننفذ مخططنا "

اومأت لها برأسها موافقة وغادرت عائدة أدراجها ونظرات من

تركتها هناك تراقبها حتى اختفت ونظرت حينها لأعلى السلالم

المظلم وهمست من بين أسنانها بحقد اشتعل وميضه بقوة

في عينيها

" أنا من سيقتص لإبني منك يا قاتلة "


*
*
*



فيتامين سي غير متواجد حالياً  
التوقيع



شكراً منتداي الأول و الغالي ... وسام أعتز به


رد مع اقتباس
قديم 21-07-21, 12:20 AM   #16449

فيتامين سي

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة

alkap ~
 
الصورة الرمزية فيتامين سي

? العضوٌ??? » 12556
?  التسِجيلٌ » Jun 2008
? مشَارَ?اتْي » 42,437
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Saudi Arabia
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » فيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond repute
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي




*
*
*

ما أن وصل للردهة المشتركة بين أروقة الطابق الثلاثة توقفت

خطواته ينظر للتي كانت تجلس على الأريكة المقوسة حيث

الضوء الخافت تحيطها هالة نور صفراء مصدرها المصباح

المعلق في الأعلى وكأنها لوحة فنان تنبض بالحياة لوقوفها ما أن

رأته .. وانحرف نظره فوراً ناحية الممر الغربي وباب جناحها

المغلق ونسي تماماً بأنها لن تستطيع الدخول له وهو مقفل بالرمز

السري ويبدو كانت تتوقع قدومه لكانت نزلت بحثاً عنه أو عن

والدة رواح والتي تعلم طريقة فتحه أيضاً ؟ .


سار في ذاك الاتجاه قائلاً

" أعتذر لقد نسيت بأنه لا يمكنك فتحه "


بينما سارت هي خلفه دون أن تعلق بأي كلمة وما أن وصل الباب

فتحه سريعاً ودخلت قبله وفور تحركه الآلي فتحرك خلفها منادياً

" زيزفون "

كانت أمام باب غرفتها حين استدارت بجسدها له بينما رمى هو

الملف من يده على الطاولة الزجاجية قربه واقترب منها يدس يده

في جيب سترته وأخرج علبة دواء أسطوانية الشكل ومدها لها

قائلاً

" هذا سيساعدك لتنامي بشكل أفضل "

كانت عيناه تراقب نظراتها وهي تحدق بالعلبة في يده وتوقع أن

ترفض هذا بل وأن يكون لها تعليق قاسٍ على الأمر فهي لم تقبل

مساعدته يوماً ولا نصائحه لكنها خانت توقعاته وهي تأخذها من

يده فابتسم ينظر للحرير البني المائل للشقار والذي التف كموجة

خلفها ما أن استدارت بحركة واحدة للباب وفتحته ودخلت مغلقة

إياه خلفها فتحرك من مكانه ووضع حاسوبه على الطاولة أيضاً

وتوجه نحو الباب .. بل الصندوق المثبت بجانبه وقام بتغيير كلمة

السر فيه أولاً فإن كان الطعام السبب فهي لا تأكل إلا بالإكراه في

جميع الأحوال ومتأكد من أنها لن تؤذي نفسها وتفكر في

الانتحار .. ليس وشقيقها على قيد الحياة على الأقل لكنه لن

يطمئن على سلامتها في مكان دون حماية والقاتل لازال حراً

طليقاً ولم يصل لهويته بعد .


ما أن انتهى مما كان يفعل ترك باب الجناح مفتوحاً وعاد نحو

الداخل فهو لن يغادر من هنا حتى وقت ذهابه للنيابة العامة

صباحاً فجلس أمام الطاولة وفتح حاسوبه وأدار الملف الذي

احضره معه حتى أصبح مقابلاً له وفتحه وبدأ من أول ورقة فيه

وسرق كامل تركيزه ونظره ينتقل منه لحاسوبه كل حين فهو

يريده ملفاً لا ثغر قانونية فيه يستغلها أي أحد ، وتنهد مغمضاً

عينيه عند تلك الفكرة وتسائل هل ستوكل عائلته محامٍ ليقف ضده

في المحكمة ؟ أم سيكون في موضع اختيار بينهما يوماً ؟

إن أجبروه على فعلها فلن يتّبع إلا مبادئه ويقدم ما لديه للقضاء

ولن يتركهم يسلموها لهم ومهما كان ذاك الحكم وإن فر بها

وخالف القانون الذي يطبقه .

كانت الدقائق تمضي الواحدة تلحق الأخرى وهو على حاله ذاك

يتفحص جميع الأدلة المجموعة ويكتب التقارير المبدئية عنها

حتى شعر بالنعاس بدأ يُثقل جفنيه ويشتت تركيزه فأغلقهما

كلاهما ودفعهما جانباً واستلقى فوق الأريكة بينما نظره يراقب

زخارف السقف بشرود إحدى ساعديه يرتاح فوق جبينه ويده

الأخرى فوق صدره وتنهد بعمق مغمضاً عينيه لا يصدق أن ذاك

الكابوس المرعب الذي عاشه لساعات وكأنها أعوام طويلة

تلاشى وانتهى وهي بخير فعلاً ولم تتلقى العدوى منه .

وعادت التساؤلات تتقافز أمام ذهنه فصورة التقرير الذي أرسله

له آنسون كان موضحاً فيه التقدير الزمني لوجود المرض في

جسد شقيقه فهل كان نجيب يعلم وتجنب معاشرتها كزوجة أم كان

عاجز عن فعل ذلك أساساً ؟ أم أنها من منعته لذلك ضربها تلك

المرة ضرباً مميتاً !


عاد وأغلق باب تلك الأفكار فما يهمه في الأمر أنها بخير وهذا ما

كان يستبعد حدوثه لساعات .


أبعد ساعده عن جبينه وشد بأصابعه على عينيه المغمضتان

وتذكر شقيقه ذاك فجأة وكيف كان الهزال والتعب واضحاً على

جسده وملامحه مؤخراً حتى أنه في آخر مرة تشاجرا فيها لم يكن

الند القوي له كالسابق لكنه لم يلحظ ذلك ولم يكن ليتخيل أن ذاك

سبب تعبه وشحوب وجهه مرجحاً أن تكون السموم التي يتعاطاها

هي السبب ! وكم تمنى لو كانت علاقتهما مختلفة عن كل ذلك وإن

الفترة القصيرة قبل موته فهو ومنذ صغرهما يكرهه وبدون أي

سبب منطقي ! وكره رواح أيضاً لأنه كان مقرباً منه فهل اللوم

يكون على جدهم بالفعل أم والدته تلك ؟

قفز جالساً حين سمع صوت شيء ما تحرك من مكانه ونظر

باستغراب للجهة التي وصله منها الصوت فلا أحد ولا شيء هنا

غيره ! وقف وتحرك نحو تلك الجهة ونظر للأرض يتفحصها

بعينيه ولم يكن ثمة ولا فأر قد يكون سبب ذلك بالرغم من تأكده

من خلو القصر كاملاً من تلك المخلوقات وغيرها وبأن الحركة

التي سمعها لم تكن لشيء مماثل لما تفعله الفئران ولا باب هنا

ويبدو أنه كان يتخيل ليس إلا !


عاد للجلوس على الأريكة بينما نظره لم يفاق ذاك الجانب وكأنه

ينتظر أن يتكرر الصوت ليتأكد من حقيقة وجوده من عدمها .

وانتقل نظره للجانب الآخر ما أن تحرك مقبض باب غرفتها قبل

أن يُفتح ويندفع نحو الداخل ببطء وارتفعت نظراته من السيقان

البيضاء الناعمة للفستان القطني بلون القرفة والذراعان العاريان

يكاد يخفيهما شعرها الناعم المسترسل عليهما بنعومة فالوجه

والعينان النصف مفتوحة أو الذابلة بمعنى أصح ووقف دون

تفكير ولا قرار منه وتحركت خطواته نحوها واقترب منها

قائلاً بهدوء

" هل هي الكوابيس مجدداً ؟ "

كان جوابها إيماءة خفيفة من رأسها تؤكد شكوكه بينما جفناها

المسدلان ورموشها الطويلة كانت تخفي أي تعبير قد يراه في

عينيها واشتدت أصابع يمناه بقوة وهو يمنعها عمّا كانت ستتغلب

عليه فيه وهي تنوي فعلها وملامسة تلك البشرة النقية والوجنة

المشوهة بحمرة طبيعية سببها نومها الذي لم يدم طويلاً كما يبدو

وقال ولم يزح نظره عنها

" هل تناولتِ الدواء ؟ "

وتنهد بضيق يبعد نظره عنها ما أن حركت رأسها نافيه وفي

حركة وحيدة صدرت عنها ولم يستطع منع نفسه من أن يقول

وما أن عاد بنظره لها

" هل هو الرجل ذاته الذي كان يزور نومك سابقاً ؟ "

وتعجب من أنها لم تجب ولا بحركة من رأسها كسابقاتها وعلم

فوراً بأن جوابها النفي وهو ما شك به فسيكون شخص آخر

تماماً ! تركها وعاد ناحية الطاولة فتح الملف وأخرج منه

الصورة المطبوعة التي قاموا بسحبها من الفيلم الموجود في

القرص وعاد بها نحوها ووضعها أمام عيناها وقال بجدية

" هل سبق ورأيتِ هذا الخاتم يا زيزفون ؟ "

وراقبت عيناه حدقتاها اللتان جمدتا عليه تحديداً قبل أن تشيح

بوجهها هامسة ببحة رقيقة

" لم أره "

فتند بضيق يبعد الورقة بحركة عنيفة وقال

" متأكد من أنك تعرفين صاحب هذا الخاتم يا زيزفون "

رفعت نظرها له مجدداً وقالت بحدة

" قلت بأنني لا أعرفه .. ثم لما تسأل إن كنت واثقاً
من ظنونك ؟ "


عاد ورفع الورقة أمام وجهها وقال بضيق أشد

" زيزفون عليك مساعدتي لنقدم المذنب الحقيقي للعدالة "


ضربتها بيدها بحركة غاضبة وإن لم تتمكن من رميها بعيداً عنها

وصاحت بغضب

" أخبرتك أن تتوقف عن هذا يا وقاص فلن أقول غير ما قلت

سابقاً وأنا من قتله "


نفض يده والورقة فيها ولازال يرفعها أمامها وصرخ أيضاً

" توقفي عن التستر عن أفعال الغير فلن يكون شقيقك هذه
المرة بالتأكيد "

أدارت ظهرها له تنوي الدخول للغرفة ودون أن تعلق ولا تهتم لما

قال فأمسك بيدها قبل أن تجتاز الباب وأدارها نحوه بحركة قوية

فسحبت يدها منه بالقوة صارخة

" إبتعد عنا يا وقاص أنا لازلت أحذرك فلن أسمح لك بتقديم شقيقي لحبل المشنقة "

كانت لحظات صمت تلت كلماتها الصارخة تلك قبل أن يتحدث

الواقف أمامها بتساؤل ناظراً لعينيها

" وما علاقة الأمر بشقيقك ؟ "

فعلمت فوراً ومن نظرته تلك بأنه يحاول تفسير الأمر فقالت

بضيق تقطع حبل أفكاره

" وأنكر أنك لن تفتح الدفاتر جميعها "

" نحن في مقتل نجيب الآن "


كانت كلماته سريعة بمقدار جمودها وكأنه ضابط تحقيقات يمارس

وظيقته معها فقالت بالسرعة وبالجمود ذاته

" أنا من قتله "

قال مباشرة وبإصرار

" ليس صحيحاً "

انفعلت مجدداً تهدده بعينيها قبل كلماتها

" لن تُقنع القضاء والفاعل يعترف .. أنت تعلم ذلك جيداً "

قال بضيق يشير بيده جانباً والورقة فيها

" وما نفع تضحياتك إن تلقيتِ حكم الإعدام عنه ثم مات ؟ "

" لن يموت "

قالتها مباشرة وبنبرة قوية تحدق في عينيه التي تبدلت نظرات

الحنق فيها للاستغراب فجأة وتابعت مباشرة وبجدية

" هو لازال يتشبث بالحياة وبقوة لأنه يريد إيصال شيء ما لنا
ولن يموت "


همس ما أن وجد القدرة على فعل ذلك

" هو من أخبرك بهذا ؟! "

" أجل "


كان همساً مماثلاً منها ولازالت تحدق في عينيه ونظراته التائهة

تتنقل بين عيناها بضياع وسأل مجدداً

" وما يكون ذلك ! "

أبعدت نظرها عنه حينها بل وأشاحت بوجهها جانباً متمتمه

" لا أعلم "

تنقلت نظراته في جانب وجهها يحاول استيعاب كل ذلك وتذكر

معرفتها السابقة بالحادثة التي تعرض لها ومن خلف كل هذه

الأميال وامتدت يده لذقنها وأدار وجهها ناحيته وقال ينظر لعينيها

ويده تبتعد عنها

" لكنك استطعت معرفة كل هذا "


وظهر كل ما كانت تخفيه عنه في تلك الأحداق سمائية اللون

وهو بريق الألم وهمست بصعوبة

" لم أستطع .. حاولت ولم أستطع فعلها "

وحركت رأسها بأسى وتابعت بحرقة لا يعرفها أبداً في صوتها ولا

تلك العينان القوية دائماً

" كنت أسمع فقط رجاءه يطلب أن أساعده لكني لم أستطع معرفة
ما يكون ذلك "

وسحبت نفساً عميقاً لصدرها وكأنها تنعشه كي لا يفارق الحياة

ولمعت عيناها بدموع خفية وهمست بحسرة

" عجزت عن مساعدته ليفتح عينيه أو يوصل لي ما يريد "


كان يشعر بكلماتها جميعها طعنات توجه لقلبة الواحدة أقسى من

سابقتها ولا شيء يملكه ويقدمه سوى النظر والتحسر حتى كانت

الطعنة الأشد ألماً منهم جميعاً وهي تشيح بوجهها بعيداً عنه

متمتمه بكآبة

" لهذا عليا حماية مستقبله هو لا أنا "

استمرت تبعد وجهها كما نظرها عنه ولم ترى الدمعة اليتيمة التي

احتضنها كبريائه الرجولي يسجنها بين رموشه دون حراك بينما

خرجت الكلمات الحزينة من بين أنفاسها المتلاحقة وعيناها

السابحة بالدموع تنظر للأرض

" لأني أريده أن يعيش مستقبلاً مختلفاً عن ماضيه وحاضره ..
أريده أن يكون رجلاً يفتخر بنفسه وإن لم أكن موجودة
لأفتخر به "

فأغمض عينيه ببطء يشعر باحتراق جفنيه وبألم أقسى من ذلك

بكثير يعتصر الموجود وسط أضلعه قبل أن يكشف الجفنان

المحمران عن الأحداق المليئة بالألم وهمس بعزيمة وإصرار ينظر

للعينان التي لازالت تهرب بها بعيداً عنه

" سيكون كذلك يا زيزفون وستكونان معاً .. أعدك "

وزادت من ذبحها له ودون رحمة وهي تحرك رأسها نفياً دون أن

ترفعه ولا أن تنظر له وقد عادت الدموع للمعان في عينيها وأولته

ظهرها ودخلت الغرفة مغلقة بابها خلفها وتركته للحسرة والألم ..

لعجزه عن اللحاق بها واحتواء حزنها ووحدتها فرفع قبضته

ولكم بها الجدار بقوة يشد على فكيه وأسنانه وعاد وضربها

مجدداً متجاهلاً المه هامساً بقهر

" سحقاً لحظك يا وقاص .. سحقا ..ً سحقاً "


*
*
*

وضعت قطع اللحم في الطبق الخزفي البيضاوي الجميل وسكبت

بعض الحساء فوقها واكتملت قائمة طعام الغذاء بهذا وامتلأت

طاولة الطعام التي توسطت المطبخ الجميل المجهز بكل ما قد

تحتاجه امرأة في منزلها فبعد ساعتين من الجلوس في غرفته

حتى نخر الملل عظامها قررت الدخول هنا وإعداد غداء لن

تتناوله إلا وحدها بالتأكيد بالرغم من أنه لا رغبة لها في هذا فذاك

الزوج لن يكون هنا قبل المساء ولم تدفعها سوى الوحدة لفعل

كل هذا خصوصاً مع الأشياء التي تدفع المرأة للطبخ دون شعور

منها تملأ الثلاجة الواسعة فوجدت نفسها متحمسة وتطبخ وكأنها

في منزل والدها هناك فحتى الكمية التي أعدتها تكفي ثلاث

أشخاص كما كانوا تماماً واعتادت لسنوات .

توجهت لستائر النافذة الزهرية الجميلة وفتحتها على اتساعها

وغمر المكان نور طبيعي قوي لمع معه شعرها البني المجموع

في ظفيره على كتفها الأيمن تزين غرتها المقصوصة ذات الجانب

من وجهها بينما ترفع الخصلات القليلة في الجانب الآخر خلف

أذنها اليسرى يزينها قرط من العقيق الطبيعي المجموع باللون

الأزرق يشبه لون فستانها المنزلي الطويل قصير الأكمام .

نظرت خلفها وحيث هاتفها الذي ارتفع صوت رنينه وتوجهت

نحوه وابتسمت بحزن ما أن رأت اسم والدتها يزين شاشته

المضاءة وكأنها علمت بأنهم ما ينقصها الآن ليجلسوا كعادتهم

يتناولون الطعام تستمع لحديثهما الروتيني الذي لا يكتشف المرء

أهميته حتى يفقده في تفاصيل يومه .

رفعته وجلست أمام الأطباق التي كانت تخرج منها الأبخرة

ورائحتها الشهية ملأت المكان ووضعته على أذنها قائلة

بابتسامة صغيرة

" مرحباً أمي "

وصلها صوتها الحنون الباسم فوراً

" مرحباً جليلة كيف حالك بنيتي "

شدت شفتيها بين أسنانها ولمعت عيناها بحزن فيبدو أنها لم تعلم

بأمر قائد بعد وتراه من الجيد أنه لم يخبرهم أحد حتى تنتهي هذه

الأزمة ، قالت تستجمع قوتها مجدداً

" بخير أمي كيف حالك ووالدي ؟ "

وصلها صوتها الباسم سريعاً

" بخير جميعنا وها هي سعاد بجانبي وتسلم عليك "

مدت شفتيها بعبوس قبل أن تتمتم بنبرة باردة

" ألا يمكنها الاتصال وحدها ؟ "

قالت والدتها مبتسمة

" أنا من نبهت عليهن لأنك عروس جديدة وليس ثمة داعٍ من
إزعاجهن لك فلسن واحدة أو اثنتين "


تبدلت ملامحها للضيق قائلة

" وإن كنت عروساً هل ستأكل الخمس دقائق من
يومي الطويل ؟ "

وعمّ الصمت من الجانب الآخر للحظات قبل أن يصلها صوت

والدتها المعاتب

" جليلة ما بك باتت أعصابك مشتعلة دائماً ! فليس من العادة
أن يتصلن بك بل بي غالباً ولم تكن واحدة منهن تسكن العمران
أو تزورنا بشكل دائم !! "

أخفضت رأسها وفركت جبينها بيدها الحرة فهي بالفعل بات

توترها بسبب كل ما حدث يسيطر على انفعالاتها ، وكم سيتحمل

القلب البشري الموجود بداخلها فلا شيء منذ باتت هنا لا

يزعجها أو يقلقها ، همست تبعد غرتها عن وجهها

" أجل أمي أعتذر وبلغيهم سلامي "

سمعت صوت ضحكتها مع اختلاط بعض الأصوات قربها قبل

أن تقول مبتسمة

" هذه ناريمان تريد محادثتك "

وما هي إلا لحظات ووصلها صوت ابنة شقيقتها ذات التسعة

عشر عاماً بنبرة صوتها الرقيقة وبروحها الجميلة مثلها

" مرحباً خالتي جليلة "

ابتسمت بحب فهي المقربة لها من بنات شقيقاتها وقالت تمازحها

رغم الحزن في عينيها

" مرحباً بالقاطعة "

وصلها صوتها المتأسي سريعاً

" كان رغماً عني بسبب تحذيرات جدتي .. ولا تنسي بأنك أيضاً
نسيتني فجأة بسبب وجود أناس آخرين "

وضحكت بمكر وهي تقول كلماتها الأخيرة فتمتمت ببرود

تحرك رأسها

" أجل فكرة جيدة للهرب "

وكان رد فعل محدثتها ضحكة صغيرة قبل أن تقول

بسعادة وحماس

" في قلبي دائماً أقسم لك وما أن أتزوج سأكون معك قلباً وقالباً "

واختلطت آخر كلماتها بضحكة رقيقة جميلة بينما كان رد فعلها

هي التواء طرف شفتيها جانباً مما أبرز غمازتها في تلك الوجنة

قبل أن تقول ببرود

" ينتابني شك مريع حيال ذلك "

قالت تلك بحزن

" لما هذا التشاؤم ؟! "

لوحت بيدها قائلة بضيق

" لأنك منذ عامين تنتظرين الشهر القادم الذي لم يأتي حتى الآن
وحتى يضيع المزيد من سنوات عمرك "


وسحبت نفساً عميقاً لصدرها وسيطرت عليها فكرة أن ترى أي

امرأة أمامها تمر بذات تجربتها فكيف أن تكون من عائلتها ؟

فهي كانت في ذات عمرها حين اتبعت قلبها وقرارته التي جعلتها

تخسر ما هو أكثر من العمر بكثير ، وزاد كل ذلك صوتها الذي

وصلها بعد تنهيدة عميقة

" وما سأفعل مع قلبي وحظي ؟ "

فحركت رأسها بأسى حانق وكانت ستذكرها مجدداً بأن شقيقتها

التي تكبرها بعام أنجبت طفلها الأول للتو لولا أن سبقتها

قائلة بضحكة

" لو يجد له زوجك عملاً فسأكون في حوران مطلع
الشهر القادم "

لم تستطع هي إمساك ضحكتها حينها .. الضحكة التي افتقدتها

حقاً ومنذ متى لم تعد تذكر ! وفردت يدها قائلة ما أن انتهت بينما

لازالت الابتسامة تزين شفتيها

" هل يوجد أمر آخر تريدون لمارد المصباح أن يحققه لكم ؟ "

وصلها الصوت المتحمس الباسم سريعاً

" وثمة من يكون لديه فجأة مارد مصباح كزوجك ولا يتمنى ؟
ثم هو عمل بسيط لابن عم وخطيب ابنة شقيقة زوجته "

خرجت منها ضحكة أخرى وقالت

" أجل يالها من متاهة "


وحركت رأسها قائلة

" ثم ما الذي يعمله من لا شهادة لديه ؟ ليستمر في عمله
الحالي أفضل له وللجميع "


وصلها الصوت الرقيق المستاء

" ووثاب لا شهادة لديه وسيباشر عمله في شركة الكهرباء
في الأسبوع القادم "

اتسعت عيناها بذهول وقالت

" ومن أين له بهذا ! "

قالت التي اختلطت كلماتها بضحكتها

" من مارد المصباح بالطبع "

هبت واقفة على طولها وقالت بصدمة

" ماذا !؟ "

واشتدت أصابعها على الهاتف فيها بغضب بينما وصلها صوت

التي قالت باستغراب

" ظننت زوجك أخبرك "

قالت بصوت غاضب

" لو أخبرني ما تركته فعلها "

" لكن لماذا ! "


قالتها تلك بأسى بينما خرجت الكلمات منها هي حانقة تشد قبضة

يدها الأخرى بجانب جسدها بغضب

" لأن هذا كان غرض خالك ذاك منذ البداية ولن تكون
الأخيرة بالطبع "

همست محدثتها بحزن

" لكن ... "

وقاطعت نفسها لبرهة قبل أن تتابع قائلة

" هو لم ينجح في أي عمل سابقاً لذلك تفاءلنا بما أنه لا يشبه
أعماله القديمة "

قالت من فورها وبضيق

"ولن يُفلح في أي شيء ولن يتوقف عن فعل هذا أبداً "


ولوحت بيدها وهي تتابع بغضب وكأنها تحدث نفسها

" ولما الاستغراب فهو لم يهتم لكرامته فكيف أستغرب أن لا يهتم
لكرامة شقيقته "

وسحبت أنفاسها بغضب ووصلها صوت ابنة شقيقتها الهادئ

" ليس ثمة من لديهم نسيب مثل زوجك ولا يستافدون من
سلطته ، هذا أمر لا نقاش فيه يا جليلة "


قالت من فورها وبحدة

" لا بالطبع فلن يفعلها قائد أو وسام وإن ناما في الشارع لكن
وثاب فعليه قبض ثمن ما فعله بالتأكيد "


تنهدت التي قالت بحزن

" ما كنت أعلم بأن الأمر سيغضبك لما كنت تكلمت "

" ليتك لم تفعليها حقاً "

كانت كلماتها سريعة وخرجت من عمق شعورها بالألم والمهانة

وقالت من بين أسنانها

" إن كانت والدتي بقربك الآن أريد التحدث معها "

قالت التي وجدت مسلكاً لم تفوته

" نعم ها هي "

وما أن علمت من حديثهما البعيد أن الهاتف أصبح لديها

قالت بضيق
" أمي ما هذا الذي فعله ابنك ؟ ألا يستحي من نفسه أبداً "

قالت التي تنهدت باستسلام وقلة حيلة

" كنت أعلم بأن الأمر سيغضبك لكنك تعرفين شقيقك جيداً "

شدت على فكيها بغضب تشعر به يُحرق جميع أوردتها وكانت

ستنفس عنه في الحال لكنها لم تستطع قول أي شيء لتجمد

أطرافها كما لسانها بسبب صوت رنين المفاتيح من خلفها والذي

لن يكون له سوى مصدر واحد بالتأكيد فقالت بصوت بالكاد

استطاعت هي سماعه

" عذراً أمي سنتحدث فيما بعد "

وأنهت المكالمة معها ووضعت هاتفها على الطاولة أمامها تسمع

الآن جيداً خطوات الذي تحرك من خلفها وارتفعت نظراتها له ما

أن اجتازها وسحب الكرسي يمين الطاولة وفتح زر سترته

السوداء وهو يجلس والتصقت نظراتها المستغربة بملامحه

المسترخية بل والتي ارتسمت عليها ابتسامة رجولية صادقة

حين قال وهو ينقل نظره بين أطباق الطعام

" وصلت في الوقت المناسب إذاً "

ابعدت نظرها عنه ما أن نظر ناحيتها وغادرت مكانها ناحية

الخزانة المُعلقة وفتحت بابها تخرج طبقاً منها

( بلى وقت مناسب جداً )

همست بذلك لنفسها وهي تتحرك من خلفه ناحية الدرج الذي

أخرجت منه ملعقة له أيضاً وأراحها أنه كما يبدو لم يكن واقفاً

منذ وقت طويل خلفها ولم يسمع أو لم يفهم ما كان فحو المكالمة

بالرغم من أنها تمنت لو علم برفضها للأمر من قبل أن يفعله

لكن حالها كما وضعهما معاكس لكل ما يتوقع ويتخيل الجميع .

وقفت خلفه وامتدت يدها أمامه تضع الطبق والملعقة وشعرت

بتوتر حقيقي من اقترابها حتى بات عطره القوي مختلطاً مع

ذرات الهواء في رئتيها ووضعت المنديل بجانبه وابتعدت مسرعة

وكأنها تنتظر فقط أن تنتهي فكم هو غريب أمر المرأة حين

تجمعها الحياة مع رجل في مكان واحد وثمة حاجز بينهما يمنع

عيشهما كزوجين طبيعيين ! لم تكن تستطيع وصف ذاك الشعور

سوى بأنه كقراءة كتاب بدون عنوان تبدأ صفحاته لا تفهم منه

شيئاً تبحث بين أسطره عمّا قد يوصلك لنهايته دون أن تضعه

جانباً بملل .

كانت تريد مغادرة المكان لكنها لم تستطع التصرف بلا لباقة هذه

المرة وعليها تأدية الدور الذي وجدت نفسها فيه ، جلست مكانها

ورفعت ملعقتها وخطفت نظرها ناحيته فكان قد بدأ الأكل وبشهية

واضحة جداً ! لا تعلم ما الذي جاء به هكذا فجأة وهو لا يعلم

بأنها أعدّت طعاماً للغذاء ! بل ولم تراه يعتاد المجيء هنا في هذا

الوقت من الأيام القلية جداً لها هنا ! كان حظها جيداً أن فكرت

في إعداد الطعام إذاً لأنه لن يكون تناول غدائه في مكان
آخر بالتأكيد .
كانت تقلب الأرز في طبقها ولا تأكل إلا القليل بين الحين والآخر

لازالت تشعر بالغضب كلما تذكرت ما فعله شقيقها ذاك عكس

الذي كان يأكل قربها بشهية مفتوحة وقد وقف لمرة واحدة

ليجلب علبة مشروب غازي من الثلاجة فتحها على الفور وتابع

أكله ولم تستطع هي فعلها مجدداً وترفع نظرها ناحيته تنتظر فقط

اللحظة المناسبة التي تغادر فيها المكان أو يفعلها هو فحتى هاتفه

علا رنينه ثلاث مرات متفرقة ولم يهتم ولا لإخراجه ورؤية اسم

المتصل وقد باتت تشعر بأن أنفاسها ذاتها مقيدة ، ولأنها تعيش

غموض علاقتهما وكل شيء يخص هذا الرجل باتت تحبذ فعلاً

فترات تغيبه لأنه يشعرها بالسير في أرض ملغمة تخشى

المفاجآت المدوية في أي وقت .

" فعلت ذلك من أجلك فقط يا جليلة "

رفعت نظرها المصدوم له سريعاً وكان ينظر ليديه وهو يمسحهما

بالمنديل البني الناعم بحواف بيضاء مطرزة فها هو سمع أو فهم

ما كانت تتحدث عنه ، تنقلت نظراتها في جانب وجهه وملامحه

المسترخية والتي لم تدل أبداً عن ضيقه أو استياءه بالرغم من

أنها لم تُظهر شيئاً آخر أيضاً كتقبله لرأيها مثلاً ؟ نظرت ليديها

التي شدتهما بقوة في حجرها وقالت بصوت خفيض

" لو أنك سألتني ما تركتك فعلتها من أجلي "

وصلها صوته الجاد سريعاً

" سأكون أنا من قلل من شأنك أمام عائلتك حينها "

جعلتها كلماته تلك ترفع رأسها وتنظر له والتقت عيناهما وتابع

بذات النبرة الجادة ودون أن ينتظر أي تعليق منها

" لو كان زوجاً لإحدى شقيقاتك مكاني ورفض مساعدة عائلتك
ووالدك بأي أمر فما كانت ستكون نظرتك له ولحبه واحترامه
لها هي ؟ "


علا صدرها ونزل مع حركة أنفاسها وهمست بجمود

" عائلتي لم تحتج بل طلب منك بنفسه "

قال من فوره ولم يبعد نظره عن عيناها

" الأمر سيان "

حركت رأسها في رفض وهمست

" لو فعلها وسام ما غضبت "

" لأنه لن يفعلها وإن نام في الشارع ؟ "

قالها سريعاً وبحزم فعلمت حينها بأنه استمع لأكثر من نهاية

حديثها ذاك وقالت بضيق

" بل لأنه ... "


وضاعت الكلمات من عقلها قبل لسانها ولم تستطع إنهاء عبارتها

بما يغاير الحقيقة التي كان سيزل بها لسانها ، وحدث ما توقعته

ما أن قال بجدية

" أفهم بأن وثاب من أجبرك على الموافقة للزواج مني ؟ "

أخفضت نظرها كما رأسها وأخفت غرتها ملامحها عنه ولم

تستطع نكران الحقيقة التي جعلت قلبها يتحطم حينها وأرادت

فعلاً أن لا يرى القهر والمرارة في عينيها التي أخفتها عنه ،

وارتجف جسدها بشكل خفيف لم تستطع إخفائه ما أن شعرت

بملمس إبهامه على بشرة وجنتها وقد اخترقت أصابعه ذاك

الحاجز الذي رسمته نعومة خصلات غرتها بلون القهوة بينهما

وأغمضت عينيها وهو يبعد يده بينما وقف قائلاً وابتسامة

تخللت صوته الرجولي العميق

" سأعتبرها كعربون شكر له إذاً "

وتحركت خطواته التي شعرت بها تتحرك في داخلها ولم تستطع

رفع رأسها ولا النظر له وهو يسير من خلفها قائلاً بهدوء

" وأعدك أن لا أفعلها مجدداً بما أنك لا تريدين ذلك "

وغادر مبتعداً خارج المطبخ بأكمله فوقفت من فورها وخرجت

خلفه سائرة نحو باب الغرفة الذي تركه مفتوحاً بعده حتى وقفت

داخلها تنظر له وقد رمى للتو سترته على السرير وشعرت

بقدميها علقتا مكانهما بعد أن تحكمتا في خطواتها ودون إذن منها

في رسالة مررها لهما عقلها مباشرة .. لا بل هي أرادت أن

تعرف ما مصيرها هنا بعد أن علم المزيد عن طريقة زواجها به

وموافقتها ، لكن تقبله للأمر وكلماته عن احترام رغباتها فيما

يخص علاقته بعائلتها جعل لسانها يعلق حيث أصبح حذائها

المنزلي الأنيق الجامد مكانه يحملها فوقه وخشيت أن يسألها ماذا

تريد ولا تجد جواباً يترجم ما في عقلها بل ويبرر قول ما لم تعد

قادرة على قوله .

" جليلة "

التفتت خلفها ما أن وصلها الصوت المنادي من الخارج وكان

صوت عمته ميّزته سريعاً فنظرت ناحيته تستغرب أن نادتها هي

وهو هنا ! لكنها لم تترك لعقلها المجال ليحجز قدماها مكانهما

أكثر من ذلك فتحركت خطواتها ناحيته واقتربت منه بينما تجنبت

النظر لعينيه ما أن كانت قريبة منه وهمست ونظرها على باب

الغرفة المفتوح

" تعالى خلفي "

وسارت باتجاه الباب بخطوات مسرعة ما أن تكرر النداء في

الخارج بينما نظراته كانت تتبعها مبتسماً يشعر بالرضا التام عن

نفسه وعن اختياره لها رغم كل ما تمر به علاقتهما حالياً

وباختيار منه لأنه يريد أن يكسبها بأكملها .. يريدها بجمال جميع

تفاصيلها دون أن يشوه أي شيء منها ، فها هي يبدو أنها لا تريد

أن يعلم أحد من عائلته كما عائلتها عمّا يحدث بينهما .

تحركت خطواته خلفها كما طلبت وخرج ووجد عمته وحفيدتها

الصغيرة فابتسم لها رغم أنها قابلته بنظرة متفاجئة بينما ركضت

الطفلة نحوه مسرعة واستقبلها هو من فوره ورفعها من الأرض

وتمسكت ذراعها الصغيرة بعنقه فضحكت عمته وقالت تنظر لها

" أنتِ هنا لرؤية العروس أم العريس ؟ "

فضحك وقال يقرص خدها الصغير

" للضرورة أحكام بالتأكيد "


فضحكت وقالت محرجة

" المعذرة منك بني فلم أسمع صوت سيارتك وظننت أن جليلة
هنا لوحدها والطفلة تصر منذ وصولها هنا أن ترى العروس "

نظر لها وقال بعتب

" ولما الاعتذار عمتي ! أثمة من تعتذر من ابنها
لدخول منزله ؟ "


ابتسمت له بحب وقالت

" لا حرمني الله منك وأراني ابنك تحمله هكذا قريباً "

فهمس مبتسماً وهو ينزل الطفلة

" عليك بالدعاء المكثف إذاً "

ونظر للتي لم يكن ينقصها إلا ذلك حينها تشعر بوهج حرارة

وجنتيها تصل للجميع ، وزاد الأمر سوءاً ضحكة عمته فضربته

بمرفقها دون أن تنظر له قائلة بضيق

" لما لا تذهب لتستحم وتغادر لعملك "

فارتفعت ضحكته الرجولية العميقة في المكان وهو يدخل الغرفة

كما طلبت وتركها لابتسامة عمته التي قالت بحب

" أسعد الله قلبيكما "

فشكرتها هامسة بابتسامة مرتبكة بينما نظرها على يدها التي
لاعبت أصابعها الشعر الحريري للطفلة الواقفة قربها والتي قالت

لها جدتها تشير لها بيدها ناحية السلام

" هيا بسرعة ننزل فها قد رأيتها "

لكن الطفلة كان لها رأي آخر ويداها تمسكان بثوب جليلة ونظرت

لجدتها قائلة بعبوس

" أريد أن أبقى قليلاً فقط "

وما أن مدت يدها ناحيتها وكانت ستتحدث والحزم بادٍ على

ملامحها بوضوح سبقتها جليلة وهي تمسك بكتف الصغيرة

الممسكة بها

" لا بأس عمتي أتركيها معي قليلاً "

وما أن كانت ستتحدث سبقتها مجدداً قائلة

" عمير سيغادر ما أن يستحم فاتركيها "

تنهدت حينها مستسلمة ونظرت للصغيرة وهي تقول بحزم

تحرك سبابتها

" قليلاً فقط وتنزلي أو لن تصعدي هنا مجدداً مفهوم ؟ "

وغادرت ما أن همست حفيدتها بحسناً وإن كان بعدم رضا فنظرت

لها جليلة وقالت مبتسمة

" هل تذهب الجميلتان للمطبخ الآن فثمة الكثير من العمل
في انتظاري هناك "

اومأت لها الواقفة تحتها برأسها مبتسمة بحماس فأمسكت بيدها

وأخذتها معها من هناك لطوق نجاتها لأنه عليها أن تبتعد فعلياً

عن هنا فلا زالت تشعر بضربات قلبها تتسابق راكضة ولم

تنتظم بعد بسبب ما حدث وقيل .

ابتسمت بمرارة وانحنت للطفلة ورفعتها من خصرها النحيل

وأجلستها فوق المساحة الرخامية من الخزانة وقالت مبتسمة

" ستجلسين هنا ونتحدث حسناً ؟ "

حركت الطفلة رأسها بحماس موافقة وقالت بصوتها

الطفولي الرقيق

" كنت أريد الصعود هنا دائماً لكن والدتي لا تريد "

تنهدت بضيق وهي تجمع الطعام من الأطباق ولم تستطع ولا

التبرير لتلك الأم أمام صغيرتها بأنها ترفض إزعاجها فلا يبدو لها

البتة أنها تهتم بمشاعرها ولا إن كانت ستنزعج أم لا ، بل وترى

بوضوح نظرات الحقد التي ترسلها عينيها نحوها ومنذ أول مرة

رأتها فيها وكأنها من قتل والدها أو من كانت السبب في طلاقها !

وتذكرت فجأة النظرة التي كانت تودعه بها صباحاً والتي تبدلت

فجأة ما أن اكتشفت وجودها !!

همست مستغفره الله وهي تفتح باب آلة غسيل الأطباق وارتفع

نظرها للطفلة التي بدأت تلعب بقدميها في الهواء تنظر لكل شيء

حولها فتركت ما في يدها وتوجهت ناحية الثلاجة وفتحت بابها

وقالت مبتسمة

" ما رأيك في أن نتناول بعض الشكولاته والعصير ؟ "

" ملااااد "

ماتت ابتسامتها كما اختفت ضحكة الطفلة المتحمسة بسبب

الصوت الصارخ الغاضب باسمها في الخارج وكانت ستنزل

بنفسها وكادت تقع لولا أدركتها وأنزلتها ونظرها يتبعها وهي

تركض خارج المطبخ حتى سمعت صرختها الباكية فخرجت

أيضاً ووقفت تنظر للتي كانت تمسكها من ذراعها بقوة وهي

تبكي بينما كان نظرها هي على مكان آخر تماماً ! كان موجهاً

ناحية باب غرفته المفتوح والذي كانوا يقفون أمامه قبل أن يدخل

هو وتغادر عمته وتدخلا هما للمطبخ ..! نظرة مطولة درجة أنها

لم تراها وكأنها تنتظر خروج شخص ما من هناك !

اشتدت قبضتاها بقوة وشعرت بغضب لم تفهم سوى بأنه بسبب

التعدي على خصوصياتها هنا وبكل وقاحة وقلة تهذيب ، وبات

عليها تتغير أفكارها تلك كما فعلت مع والدتها قبل قليل وإن كان

واضحاً أن نواياهما تختلف كل الاختلاف فهذه لا يمكنها تفسير

تصرفاتها إلا بأمر واحد فقط واضح وجلي لازالت تتهرب من

التفكير فيه واتهام امرأة تجهلها في أخلاقها وإن كان بينها

وبين نفسها .


تحركت خطواتها ناحية الغرفة ذاتها تتعمد إظهار صوت حذائها

وهي تمر من أمامها متجاهلة لها تماماً حتى دخلت الغرفة

وأغلقت الباب خلفها ووقفت عليه تكتف ذراعيها لصدرها باستياء

بينما تركت خلفها تماماً امرأة واقفة مكانها بنظرات مصدومة قد

أصابت فيها هدفها تماماً وكما تريد وإن كانت تجهل كل ذلك

فلازال جسدها يرتجف من انفعالها وسئمت الحياة المكشوفة

للجميع هكذا وكأنها تعيش معهم في الأسفل .

حين سمعت صوت بكاء الصغيرة ورفضها الباكي للنزول يبتعد

علمت بأنها غادرت بها من هنا فتأففت نفساً طويلاً خرج من

عمق شعورها بالاستياء ، وابتعدت عن الباب كالملسوعة تنظر

ناحية باب الحمام حين توقف صوت المياه فجأة وخشيت أن

يخرج ويجدها هنا فبما ستبرر هذه المرة ولن تنقذها عمته

مجدداً .

ولم تمهلها مخاوفها وقتاً إضافياً لتهرب منها ومن تحققها وذاك

الباب يُفتح قبل أن تتحرك خطوة من مكانها وعلت شهقتها دون

شعور منها ما أن وقع نظرها على الخارج منه بمنشفة صغيرة

تغطي وسطه فقط وسقط جسدها للأرض دون انتظار دقيقة واحدة

وتبدلت الصورة أمامها لسواد قاتم قبل أن تفكر في تحريك

جفنيها .. سواد دام للحظات صغيرة فقط قبل أن تشعر بضيق في

صدرها ثم بشيء بارد يضرب على وجنتها واسمها يصلها بعيداً

وخضع جفناها لسلطتها أخيراً وهي تفتحهما ببطء ووقع نظرها

المشوش على الذي أبعد يده عن وجهها وتوقف عن مناداتها

والقلق بادٍ في عينيه التي هربت منها سريعاً لازالت تشعر

بجسدها يرتجف بسبب ما حدث وهي التي كانت طوال حياتها

تخجل من مجرد النظر في عيني رجل بخاطرها .. وحتى من

أحبته سابقاً كانت تتعامل معه بطبعها ذاته ترفض حتى لقاءتهما

وذاك ما كان يحبه فيها قبل سفره ذاك وما كان يجعلها تتعلق به

أكثر وهو احترامه لطباعها تلك ولم تتعرض لموقف مشابه من

قبل ولا مع أشقائها لتعتاده .

أغمضت عينيها بقوة ما أن وصلها صوته

" هذا كله بسبب إهمالك لطعامك "

كان في صوته ابتسامة واضحة وكأنه يستغل الموقف للتسلي بها

وتمنت لحظتها أن ماتت أو أن بقيت في المطبخ ولم تفكر بغباء

في تحدي تلك المرأة ، جمدت مكانها كالجثة الميتة حين ابتعدت

خطواته عن السرير بينما فتحت عين واحدة ونظرت لجسده ما أن

كان عند الخزانة التي فتح بابها وكان يلبس بنطلون بدلة

رصاصي غامق اللون وقميص داخلي وعلمت حينها بأن وقت

اغمائها كان أطول مما توقعت !

أخرج قميص أسود اللون وبدأ بارتدائه ولم تستطع انتهاز

الفرصة للمغادرة خشية أن تقع بسبب الارتجاف الذي لم يفارق

ساقيها بعد ، وبدلاً عن ذلك غطت وجهها باللحاف الأحمر تختبئ

منه تحته كطفلة حمقاء تتمنى فقط أن يغادر من هنا في أسرع

وقت فأقل ما يمكن أن تصف به شعورها حينها هو الرغبة

الملحة في البكاء .

وما أن سمعت صوت حذائه على الأرضية علمت بأنه بات مستعداً

للمغادرة أخيراً وكانت تنتظر تلك اللحظة التي يفتح فيها الباب

بفارغ الصبر لكن ما حدث أمر آخر تماماً وهي تشعر بثقل كبير

يسقط على رأسها كان سببه الوسادة الأخرى الموجودة على

السرير تلاه صوته المختلط بضحكة رجولية عميقة وهو يغادر

" اختبئي تحتها أيضاً "

رمتها كما اللحاف بعيداً عنها بغضب وهي تجلس تنظر بضيق

للباب الذي غادر وتركه مفتوحاً بعده .. ما الذي يتوقعه منها مثلاً

أن تقف مشدوهة تتمتع بالنظر له ؟!

غادرت السرير تشتم نفسها بتمتمات غير مفهومة وتوجهت نحو

غرفتها من فورها وضربت بابها خلفها واختبأت تحت لحاف

السرير مجدداً لازالت تشتمه ونفسها بغضب مثلما لازالت تشعر

بجسدها يرتجف وساقاها لا تقوى على حملها لتقف

بشكل طبيعي .


*
*
*

كان الوقت قد تجاوز الخامسة مساءً حين وصلت سيارته شوارع

البلدة وكانت وجهته ذاك المشفى القروي مجدداً فهو يعلم قليلاً

عن نظام عمل أمثالها وبما أنها كانت هنا صباحاً فأقل وقت قد

تغادر فيه هو مغيب الشمس نظراً لأن عادات القرى لا تشبه

المدن التي يكون مفروضاً على أمثالها دوام يوم كامل .

أوقف سيارته بعيداً هذه المرة كي لا يجد نفسه متورطاً في دماء

رجل آخر باستغلال منهم فيبدو أن ذعر الناس هنا من فزاعة

غيلوان تجعل منهم أجبن من مبادئهم ولن يتوانوا عن إلصاق أي

جرم به دون خوف من انتقام عائلته منهم لأنه غريب عن المكان

سينتهي وجوده من بينهم فقط وانتهى كل شيء .

وصل الباب ودخله بعزم فاق زيارته الأولى التي تردد فيها كثيراً

فعليه أن يُخلص عقله من التناقضات التي أرهقته بين تصديق

واستحالة ما سمعته أذناه بوضوح لا شك فيه ، عبر الرواق

الطويل ووجهته الغرفة ذاتها التي أشارت له الممرضة صباحاً

عليها ومؤكد لن تكون جالسة مكانها ذاته لكنه إن لم يجدها سيجد

غيرها هناك ليدله على مكانها هنا .

وما أن وقف أمام الباب المفتوح والذي طرقه بمفصل سبابته نظر

بعدم رضا رافعاً حاجبه للذي كان يجلس خلف طاولة مكتب حيث

كرسي جلدي أسود طويل الظهر بينما ابتسم ذاك وكأن شيئاً مما

حدث صباحاً لم يكن ! والأسوأ من كل ذلك وما جعله يزم شفتيه

غضباً خروجه من خلف مكتبه وتوجهه نحوه قائلاً وذات

الابتسامة تزين شفتيه العريضتان

" مؤكد ستنال مكافئة مجزية من عائلته "


ابتسم بسخرية قبل أن يقول

" علمتَ إذاً بأنه لم يمت ؟ لم أكن أتصور مقدار الجُبن الذي
يعتمر قلوبكم والذي انتم فقط السبب فيه "

قال الذي وقف أمامه وبابتسامة مائلة

" من اتقى شرار الناس حفظ نفسه "

خرج عن أدبه المعتاد والذي يراه لا يجدي مع البعض وقال

بضيق يشير برأسه للبعيد

" بأن تورطوا الغرباء لتحمل نتائج أفعالكم لهم ؟ "

وازداد غضبه ما أن قال ببرود

" الغريب ينصفه القانون هنا أكثر من القبيلة التي لا ترحم
قوانينها أبنائها "

فصرخ من فوره

" ما هذا الهراء ؟ أنا لم آتي من بلد آخر لتقنعني بهذا بل
من نسيج قبلي مثلكم وإن كانت مدينة أخرى "

وكان ذاك ما جعل الواقف أمامه يشتاط غضباً وهو يقول

" لا تقارن فأنت لا تعلم الجنوب وقبائله فالحالك لا تشبه الهازان
ولا صنوان وتوحيد البلاد لا يعني أنهم باتو سواء فعلياً "

فغر فاه في اندهاش غاضب قبل أن يقول بضيق

" لكني موقن تماماً أن القانون لن يظلم أحداً تحت مسمى
القبيلة فهو لا يعترف سوى بأن المذنب عليه أن يأخذ
جزائه وكائناً من يكون "

وكان الواقف أمامه من ابتسم بسخرية حينها وقال
" ليس حين تسلمك قبيلتك بنفسها لقبيلة أو عائلة من قبيلة
أخرى وحتى سلالتك معك إن اقتضى حكمها بذلك فقط لتتجنب
شرهم الذي لن يمنعه القانون عنك "

حدق فيه بصدمة لم يستطع معها قول شيء فقال الذي

يفهم ذلك جيداً

" من يعيش في الحالك لا يستغرب هذا مثلك لأنهم تربوا عليه
وألفته نفوسهم حتى باتت مخالفته تعني نبذ القبائل لك
لخيانتك أعرافها "

حرك رأسه بعدم استيعاب وهمس

" هذا جنون ! "

قال ساخراً

" لن يفهم هازاني معنى هذا مهما شرحت "


لم يعجبه ما قال فعلق بضيق

" ظننت أننا تخطينا هذه المسميات من أعوام طويلة كشعب
واعي مثقف "

واستقبل ذاك إهانته برحابة صدر أيضاً وقالت بابتسامة مائلة

" تتخطى البلدان ذات النسيج القبلي كل شيء إلا أعرافها تضل
بقاياها مهما تخلت عن البعض منها ، والمثقفون الذين تتحدث
عنهم يتركون هذه القرى لأنهم يرفضون الخضوع لقوانينها كما
ترفض قبائلها الأفكار التي يحاولون غرسها فيهم تحت مسمى
تفكيك القبيلة "


حرك يمان رأسه بعدم اقتناع لما سمع وقال

" الاعتراف بوجود القبيلة لا يعني الخضوع لقوانينها الجائرة فلا
أحد يمكنه تفكيك نسيج القبيلة مهما فعل لكننا لسنا مجبرين
على أن نعيش في جور قوانينها بينما يحكمنا قانون موحد ! "

أشار له الواقف أمامه بسبابته قبل أن يشير بإبهامه بعيداً

وهو يقول

" هذا تقوله أنت أما من يعيشون هنا فأفكارهم مختلفة تماماً "

شد على أسنانه بغضب قائلاً من بينها

" تباً لها من أفكار إن كانت ستجعلهم جبناء هكذا "

تمتم الذي ابتسم ساخراً

" عندما تكون في مواجهة قبيلة كغيلوان فالجبن أفضل مئة مرة
مما سينتظرك "

وتابع بجدية أمام نظرات عدم الاقتناع التي كان يرميه بها

" قانون قبائل الجنوب في مسألة القتل والثأر لا يرحم يا صديقي
ولم يستطع شراع صنوان سابقاً إخضاعه ولن يستطيع أي رئيس
بعده ولا أي بلاد مشابهة لنا .. إنه مادة في دستورها يتم تنفيذها
ولم تكتب فيه "

حرك رأسه بعدم استيعاب بينما تابع الواقف أمامه بجدية

" إن قتلت شخصاً هنا وقتلتك عائلته وجردت عائلتك من كل ما
تملك فلن ينصفهم أي قانون ولن يُسجن قاتلك ، وفي أفضل
الحالات كانت الحكومة تعوض أهله مادياً عمّا فقدوه بسبب عائلة
أو قبيلة القتيل بقيمة رمزية لا تعادل خسارة تلك العائلة أبداً "

ورفع سبابته متمتماً بسخرية

" هذا إن قتلت واحداً .. أما إن كان حظك سيئاً وقتلت أكثر
فمصاب عائلتك من بعدك لا يمكنك تخيله "

نظر له بصمت لبرهة وقبل أن يقول بضيق

" هذا حين تكون قاتلاً وليس متهماً بذنب لم ترتكبه "

تنهد حينها الواقف أمامه وقال معترفاً

" لم يكن الغرض إلباسك القضية بل أخذه للمستشفى بالفعل "

حرك رأسه مبتسماً بسخرية وقال مغيراً مجرى الحديث الذي

لا طائل من التحدث فيه يسأل عمّا هو هنا من أجله

" ثمة ممرضة هنا اسمها فجر كانت موجودة صباحاً مؤكد
لم تغادر بعد "

واستغرب من ضحكته ينظر له بتعجب قبل أن يقول ضارباً

يديه ببعضهما

" عن مثل هذا كنا نتحدث "
ازدادت علامات الاستغراب على ملامحه قبل أن تتحول لصدمة

حين قال

" لو كنت هنا قبل أكثر من ساعة لوجدتها أما الآن فعليك
شق الأرض والبحث عنها فيها "

" كيف !! "

همس بذلك بصدمة فقال الواقف أمامه ولازالت على ملامحه آثار

ضحكته تلك

" والدها هو من ضرب إبن غيلوان ذاك وحين شاع خبر أنه
لم يمت بات يعرف مصيره جيداً "

فتح فمه وأغلقه ولم يعد يعرف ما يريد قوله أو السؤال عنه وهل

ثمة ما يُقال ؟ بينما استلم الواقف أمامه الأمر وقال ساخراً

" كان يكرهه كثيراً لأنه من سلبهم أرض والده قديماً لكن أحداً
لم يكن يتخيل أنّ تلك المشكلة ستنتهي لهذا وأن يُقدم أحد على
فعلها أساساً "

لم يكن كل ما يقول سينفعه في شيء فقال في استعجال

" ما هو اسمه وأين يقع منزله ؟ "

حدق فيه باستغراب قبل أن يقول

" لن تجدهم فيه بالتأكيد "

فحرك رأسه وقال يحثه

" أنت فقط أعطني عنوانه في أي طرف من القرية "

حرك ذاك كتفيه باستسلام وشرح له كيف يصله فتركه مسرعاً ما

أن انتهى كلامه ودون أن يعلق بشيء وركب سيارته وتحرك بها

مسرعاً الغبار يشكل سحابة خلفها بسبب سرعة عجلاتها فوق

الطريق الترابي على أمل أن يجدهم يجمعون أغراضهم ولم

يغادروا بعد ، وما أن وصل المكان الذي وصفه له تحديداً والذي

عرفه من وقوف البعض أمام أبواب منازلهم وحركتهم في الحي

الطويل بمنازله القديمة أوقف سيارته ونزل منها وسأل شخصاً

كان يقف عند باب منزله المغلق عن طريق اسم والدها فأشار له

برأسه على باب كان خلفه تحديداً وظهرت أسنانه السوداء

المعوجة حين ابتسم وقال

" لو أنك كنت هنا قبل ساعة لوجدته "


التفت حينها ونظر بغضب للباب المغلق بقفل كبير وعلم بأنهم

غادروا من دون أن يأخذوا شيئاً معهم وبالتأكيد لن يضيعوا الوقت

في جمع أغراض منزل كامل وجلب سيارة كبيرة لفعل ذلك

ليمسك به أبناء تلك القبيلة ويحاكم في محكمتهم الجائرة تلك دون

النظر للسبب الذي جعله يضربه .


عاد ونظر للواقف مكانه يراقبه وقال

" هل تعرف أين ذهب ؟ هل أخبر أحداً عن وجهتهم ؟ "

حرك ذاك كتفه وقال
" لم أكن هنا وقت رحيلهم وأعتقد بأنه سيكون من الغباء
أن يُعلم أحداً بذلك "

انفتح حينها باب ملاصق لباب بيتهم المغلق وخرج منه فتى في

الرابعة عشرة تقريباً فسأله ودون يأس

" أكنت هنا حين غادروا ؟ "

وحين أومأ له برأسه إيجاباً قال سريعاً

" ألم تسمع أحداً منهم تحدث عن وجهتهم أو شخص قريب
لهم تعرف مكانه ؟ "

حرك ذاك رأسه وقال

" لا أعلم عنهم شيئاً فنحن من خارج القرية ..."

وتابع يشير برأسه للمنزل الذي خرج منه خلفه

" اشترينا منزل جسار غيلوان من وقت قريب ولا نعرف
الكثيرين هنا "

انفتحت حينها عيناه من الصدمة وهمس بغير تصديق
" كان يعيش هنا في منزلكم ! "

قال من لم يعطه فرصة ليستوعب الفاجعة

" نعم واشتريناه منه منذ أشهر لكننا سكناه من أسابيع قليلة لأننا
أجرينا عليه بعض التعديلات "

تركه حينها وركب سيارته وضرب بابها بقوة قبل أن تدور

عجلاتها بقوة فوق التراب تحتها ويغادر من هناك أسنانه تكاد

تتحطم من شده عليها غضباً ، وما أن غادر الأحياء الشمالية لتلك

القرية سلك بسيارته الطريق المؤدي للجبل المسمى هناك بجبل

الزعفران يريد الابتعاد عن كل شيء الآن والبقاء وحيداً ..

لا يريد أن يرى أحداً وخصوصاً هي كي لا يتصرف تصرفاً

هو نفسه لا يعرفه في نفسه .


*
*
*



فيتامين سي غير متواجد حالياً  
التوقيع



شكراً منتداي الأول و الغالي ... وسام أعتز به


رد مع اقتباس
قديم 21-07-21, 12:23 AM   #16450

فيتامين سي

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة

alkap ~
 
الصورة الرمزية فيتامين سي

? العضوٌ??? » 12556
?  التسِجيلٌ » Jun 2008
? مشَارَ?اتْي » 42,437
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Saudi Arabia
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » فيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond reputeفيتامين سي has a reputation beyond repute
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي




*
*
*

فتحت عيناها وغطتهما بكفها ما أن واجهتها أضواء السقف

القوية تشعر بصداع خفيف يهاجم صدغيها في نوبات متفرقة

جعلها تمسكهما بقوة مغمضة عينيها تتذكر الحلم أو الكابوس

الذي أزعج نومها المضطرب أساساً وكل ما رأته هو ابنة عمته

تلك في صور مختلفة ولا تفهم لما تراها في منامها !

ألا يكفي يقظتها ؟ كانت المرة الأولى بعد قدومها إلى هنا التي

ترى في نومها صورة لغير شقيقها قائد !.

جلست مستغفره الله بهمس وغادرت السرير تدس خصلات غرتها

خلف أذنيها وتوجهت للحمام من فورها على أمل أن يخفف الماء

المنعش من شعورها بالصداع ، وبعد حمام قصير صلت العصر

وغادرت الغرفة يغطي جسدها فستان من قماش الشيفون باللون

الأصفر طبعت عليه ازهار بيضاء كبيرة تجاوز طوله ركبتيها

بقليل له أكمام تصل لمرفقيها بقصة دائرية تجمع شعرها الرطب

بمشبك بلاستيكي كبير دون أن تجففه ولا تشعر مع الصداع القوي

بأي رغبة لفعل أي شيء وستجرب شرب بعض القهوة لعلها

تكون مجدية .

وتوجهت ناحية المطبخ من فورها ووقفت أمام بابه تنظر له

بتعاسة فهي نسيت بأنها لم تنهي عملها هنا بعد وشعرت

بصداعها يزداد سوءاً وهي تمسك جانب رأسها بيدها لكن ورغم

كل ذلك توجهت لآلة غسيل الأطباق أولاً وضعت فيها باقي

الأواني المتسخة وقامت بتشغيلها وملأت آلة إعداد القهوة

وبصعوبة أكملت تنظيف الطاولة وجلست تمسك رأسها بكلتا يديها

تسند مرفقيها عليها مغمضة العينين فكل حركة تفعلها تشعر بها

تضرب في رأسها وشعور خفيف بالدوار يصاحبها .

" جليلة !! "

رفعت رأسها ونظرت سريعاً للتي كانت تقف عند الباب دون أن

تشعر بها والتي اقتربت منها تنظر باستغراب لعينيها المتعبة قائلة

" طرقت باب الغرفة ولم تجيبي حتى سمعت الصوت فعلمت
أنك هنا "

ابتسمت بشحوب وقالت بنبرة اعتذار

" آسفة عمتي لم أسمع بسبب ضجيج آلة الغسيل "

قالت مبتسمة بإحراج
" لا عليك بنيتي وأنا من عليه أن يعتذر لأن عمير من طلب
مني الصعود لك "

تبدلت نظرتها للاستغراب بينما قالت التي فتشت بنظرها وكأنها
تبحث عن شيء ما

" قال بأنه يتصل بك منذ وقت ولا تجيبين "

انتقلت العدوى لها ونظرت حولها قبل أن تقول

" هاتفي في الغرفة وكنت نائمة ولم أنتبه له "

حركت رأسها وقالت وهي تجلس على الكرسي بقربها بينما

نظراتها القلقة لم تفارقها

" صحيح أنه أغمى عليك اليوم ؟ تبدوا ملامحك متعبة فعلاً "



أخفضت رأسها حينها تغرس أصابعها في غرتها الرطبة تفرغ

انفعالها فيها فها هو مجدداً يرسلها للأعلى دون أن يهتم بأن تعلم

بأنه لكل واحد منهما غرفة ! رفعت رأسها تمرر يديها للخلف

تجمع غرتها عالياً وقالت وهي تقف

" هو صداع خفيف فقط عمتي وسأكون بخير ما أن
أشرب القهوة "

قالت التي تبعتها بنظراتها وهي تتحرك نحو الآلة التي علا

صفيرها مرتفعاً

" أي صداع هذا ووجهك شاحب هكذا !! "

واستمرت تتابع حركتها وهي توقفها وتسكب القهوة منها بينما لم

تعلق وظنت أنها لم تسمع بسبب ذاك الصفير المرتفع حتى عادت

للجلوس مكانها وقالت

" أنا لا أنام هذا الوقت في العادة لذلك هاجمني الصداع "

نظرت لها بعدم اقتناع بينما كانت هي تشغل نفسها بكوب القهوة

في يديها وكان صوت رنين هاتفها ما منعها من قول ما تريد فما

أن نظرت للإسم على شاشته حتى أجابت من فورها

" نعم بني "

فعلمت الجالسة بجانبها فوراً هوية محدثها فلا ابن لها غيره

واتكأت بجانب وجهها على راحة يدها تنظر للجانب الآخر ما أن

قالت الجالسة بقربها

" نعم وكانت في المطبخ وهاتفها في الغرفة لذلك لم تسمعه "

واستمعت لباقي المكالمة أحادية الجانب والصوت القلق

للجالسة قربها

" قالت بأنها تشعر ببعض الصداع لكن وجهها لا يعجبني ..
لا يبدو أنها تأكل جيداً ! "

" وبما سأقنعها أنا ! أنت زوجها وتعيش معها "

اغمضت عينيها وتنفست بقوة تشعر بأنها طفلة يتناقشان في

طعامها ونومها وذاك الأحمق يؤدي الدور كاملاً وكأنه لا يعلم

شيئاً ؟ نظرت لها ما أن أنهت مكالمتها تلك وقالت تنظر لها

" قال بأنه سيرسل مع أحدهم دواءً للصداع وأراه أفضل من
هذه القهوة التي ضررها أكثر من نفعها "

وتابعت من فورها وقبل أن تعلق بأي شيء

" وستتناولين طعام العشاء معنا ولا عذر لك "

كانت ستتحدث لكنها سبقتها مجدداً وبإصرار

" لا نقاش في هذا يا جليلة ولن ترديني خائبة بالتأكيد "

قالت مباشرة

" حاشا لله عمتي لكني حقاً لا أريد أن تتعبي ولا أن أزعجكم
سآكل هنا أعدك بذلك "

كانت تريد فقط أن تهرب من مقابلة ابنتها تلك أكثر من تهربها

من تناول الطعام فنظراتها وكلماتها التي تصوبها كالرصاص

نحوها كفيلة بجعلها تكره الطعام لأسابيع ، ولن تمنعها تربيتها

فقط من الرد عليها بل وطيبة وكرم هذه المرأة التي لا تصلح

مطلقاً أن تكون ابنه لها .

شعرت براحة غامرة حين قالت التي طبطبت بيدها على كفها الذي

كانت تريحه على الطاولة وقالت وهي تقف

" سأجلب لك الطعام هنا إذاً ولا عذر لك "

وابتسمت وهي تتابع ونظرها على عينيها التي تعلقت بها

مع وقوفها

" لو أنكما متزوجان من أسابيع لأقمت احتفالاً اليوم بقرب
مجيء ابنكما "


وضحكت ما أن سعلت التي أخفضت رأسها وغصت بريقها من

الصدمة ومسحت يدها على ظهرها قائلة بضحكة

" أطال الله في عمري لأرى ذاك اليوم "

وغادرت وتركتها لحرجها الشديد ونزلت السلام مبتسمة تتذكر

وجهها الجميل المصدوم ورد فعلها وهمست بسعادة وهي تنزل

آخر العتبات بصعوبة

" لازال ثمة نساء يعرفن الحياء والحمد لله "

توجهت من فورها للمطبخ وحيث تركت ابنتها وحفيدتها هناك

وقالت وهي تجلس مكانها السابق

" سنعد الطعام لنا ولجليلة الليلة "

وكما توقعت قالت التي لم يعجبها ذلك وبضيق

" ولما ! ألا يدين لها ؟ "

سحبت طبق الخضار الذي كانت تقطعه قبل صعودها وقالت ببرود

وهي تأخذ حبة فلفل حلو كبيرة

" بل لأنها متعبة وأغمي عليها اليوم وفعلاً وجدتها متعبة "

ونظرت لها بحزم لتنفيذ أوامرها دون جدال أكبر فتأففت بغضب

تنفض يدها وأدارت ظهرها لها وعادت لتحريك القدر بحركة

غاضبة وها قد علمت لما اتصل بها عمير فهي منذ اللحظة التي

رأتها فيها تدخل الغرفة وهو هناك تشعر بالنيران تأكل جوفها زاد

عليها اتصاله لتصعد عمته لها وكأنهم خدم لديها ، ثم عليها إعداد

الطعام لتأكل سيدة المنزل لأنه أغمي عليها .

حركت الملعقة بقوة متمتمه بغضب مكتوم

" ليتها تموت وليس يغمى عليها فقط "

التفتت برأسها للخلف حين غادرت والدتها تتحدث مع ابنتها

تريدها أن تأخذها للحمام ورمت الملعقة من يدها في حوض

الغسل وتوجهت للثلاجة وفتحتها بحركة غاضبة متمتمه

" أنا من تعرف كيف تتخلص من وجودك نهائياً "

أخرجت علبة حبوب مسكنة ومنومة ونظرت للباب أولاً ثم

أخرجت منها أربع حبات وتوجهت ناحية الباب بنفسها هذه المرة

ونظرت للخارج تتأكد من أن والدتها لازالت بعيدة عن هنا وعادت

مسرعة ووضعت الحبوب فوق الطاولة الرخامية وطحنتها

بمقبض السكين قبل أن تجمع القطع الصغيرة في كفها ووضعتها

في كوب زجاجي كبير سكبت عليه من العصير الطبيعي الذي

أعدتاه معاً وخبأته أسفل الثلاجة ليكون جاهزاً وقت أخذ العشاء

لها ، أغلقت باب الثلاجة بقوة وهمست مبتسمة بسخرية

" سنرى كم من الوقت تحتاجين لتغادري من هنا
يا ابنة الفلاّحة "

*
*
*



كتف ذراعيه لصدره يتكئ بظهره على النافذة الطويلة خلفه بينما

نظره على الجالسين بعيداً عنه وقال موجهاً حديثه تحديداً للذي

كان يوقع بعض الأوراق بالتتابع ونظره عليها

" عليك أن تقرر بشأن اولئك المتمردين يا مطر فصمتك عنهم
سيزيد من عددهم وعدتهم أيضاً "

قال أحد الجالسين أمامه

" بِشر معه حق فأنت كنت قادراً وبأمر واحد وقوة صغيرة على
ضربهم في معاقلهم وإنهاء تلك المشكلة "

وقال آخر وهم خمس رجال ملتفين حول مكتبه

" أنت بحاجة للقسوة على شعبك وليس العدل فقط فأنت لم تغير
ولا الوزارات السابقة وتركت كل واحد في المنصب الذي اختاره
له شراع صنوان عدا من حمل ملفه أي نوع من الفساد ولم
يعجبهم ذلك ! "

كان جوابه الصمت التام ويده تكتب على الورقة تحته في حركة

سريعة من اليسار لليمين ففرد تميم يديه وقال بضيق

" أدخلوا عناصر متطرفة ثم كانوا يريدون إغراق البلاد بالسلاح
وكان المقابل تدمير اليرموك أكبر ثكنة عسكرية لدينا وأكبر مخزن
سلاح في غرب البلاد وأنذرتهم قبل ضربها لتنقذ حياتهم بالرغم
من أنهم لا يستحقون إلا الموت "

جمع حينها الأوراق وسلمها لقاسم الذي كان يقف عند الجدار

المحاذي لطاولة مكتبه فأخذها منه فوراً وأمسكها بعد أن ادارها

في شكل اسطواني وعاد لتكتيف ذراعيه لصدره ووقف وقد علت

الأنظار جميعها أمامه مع وقوفه وقال بحزم بعد حركة خفيفة من

رأسه وكأنه يشير للبعيد

" وكأنكم لم تكونوا معي هناك وتعلمون خطورة ما نواجه "

لم يعلق أحد منهم بينما تابع هو بلهجة قوية ينقل نظره بينهم

"ما الذي سنستفيد منه حين نحقق غرض عدونا وعدو البلاد؟ "

كان الصمت جوابهم أيضاً أعينهم تحدق فيه بكل إنصات فضربت

يده على الطاولة تحته وقال بحدة

" هل يملك أحدكم جواباً ؟ "

وحرك رأسه مجدداً وقال بضيق هذه المرة

" أم أنساكم العيش هناك أن عبارة انتهاء القبيلة مجرد كذب
على الإعلام "

وأشار بيده بعيداً وهو يتابع بغضب

" أم لا تعلمون أن التهور ثمنه غالٍ جداً وأن العالم بأسره
سيتحرك ضدنا وينتهزون الفرصة إن نحن آذينا تلك المدن ؟ "

قال تميم ما أن فهم من صمته أن حديثه انتهى وبنبرة تنطق

احتراماً وتقديراً

" وصمتنا عنهم معناه أن يصبح لديهم في الغد مجلس تسييري ثم
برلمان ثم رئيساً مؤقتاً وبعدها سيطالبون بالإنفصال وتجزئة البلاد
من جديد وبحدود فعلية وموافقة دولية هذه المرة "

نظر له وقال بجدية

" وحربهم معناه الوصول لهذا في وقت أسرع وبحماقة لا يمكن
إصلاحها أبداً "

وعاد ونقل نظراته الصقرية الحادة بينهم وقال بجمود

" مهلتي لمشايخ صنوان لم تنتهي بعد وإن لم يفعلوا شيئاً
فسيصلهم ردي حينها وتحت غطاء من قبائلهم ذاتها "

حرك الجالس يميناً رأسه موافقاً وقال معترفاً

" حين يكون الشعب في صفك ليس لقوة أن تغير شيئاً
فيما تريد "


وانتقلت الأنظار جميعها منه للواقف خلف طاولة مكتبه والذي

سند يديه للطاولة تحته منحني الظهر قليلاً وقال بحزم

القائد الواثق

" قد يسخر قادة العالم من قدرة الشعوب على فرض ما تريد
لأنهم لم يواجهوا رفضهم يوماً والأحمق فقط من يظن بأنه
قادر على هزيمة شعب كامل أو أنهم ليسوا بقادرين على
فرض ما يريدون "

وأشار برأسه موافقاً للأفكار التي يراها في أعينهم وإن لم ينطقوا

بها وقال

" نعم كما فرضتكم الحالك والهازان على صنوان وقت عودتنا ولو
اتخذت الهازان موقفاً مشابهاً لهم لعادت الحرب ولن نستطيع
السيطرة عليها أبداً "

تحرك بِشر من مكانه واقترب منه خطوتين وقال وكأنه يتمم

حديثه بل وكأنهم عقل رجل واحد يتحدث

" لهذا على صنوان أن توقف أولئك الشرذمة عند حدهم أو
سترضى بما سينالها وهم يدركون ذلك جيداً لَما طلبوا المهلة
قبل الحرب "

وكان قاسم من تحدث بعده مباشرة وقال بجدية

" وأعيننا وسطهم هناك أي خيانة منهم سنعلم بها على الفور "

قال تميم الذي لم يتنازل بسهولة عن رأيه المتخوف

" أخشى أن تحمل صنوان السلاح جميعها حينها سيدعمها
الأعداء في الخارج بسهولة وبكل أنواع أسلحة الحرب "

صرخ حينها مطر ضارباً بيده على الطاولة تحتها

" لن أرضى بأن تخون صنوان المواثيق بعد موت شراع ، هذه
خيانة سيكون ثمنها كل سنوات اغترابنا وتعبنا من أجل
هذا الوطن "

تبادلوا النظرات جميعهم دون أن يتلفظ أي منهم بالسؤال الذي

عاشرهم لأعوام طويلة لا يجدون أي جواب له واحترموا جميعهم

صمته عنه ، ولم يتوقع أي منهم لحظتها ذاك الصوت الذي

تحدث وكان لتميم حين قال ناظراً له

" أكان موت شراع صنوان الأمر الذي سمح برجوعنا ؟ "

كان جواب مطر الصمت والأحداق جميعها معلقة به والمكان قد

تحول لسكون تام قبل أن يكسره قاسم قائلاً

" أما كان الأوان قد آن حينها لنعلم عن تلك الاتفاقية ؟ "

وازداد الترقب في الأعين المتوجسة تنتظر جواب سؤال عجزت

السنين المتعاقبة عن جعلهم ينسوه وإن لم يتلفظوا به ولا بين

بعضهم في غيابه ثقة عمياء به واحتراماً له حتى قال بجمود

ونظراته القاسية تحدق في الفراغ

" لو علمتم عنها ما انتظرتم أوامري لضربهم "

علت حينها الدهشة وجوههم جميعاً ودفعة واحدة وإن كانت بنسب

متفاوتة وتبادلوا النظرات المتسائلة رغم يقينهم من عدم امتلاك

أي واحد منهم للجواب عدا قاسم الذي تنقلت نظراته بينهم

بفضول فقط فهو لم يغادر معهم .

فُتح الباب حينها مانعاً أي سؤال آخر ممن استغربوا أساساً أن

يقول قائدهم كل ذلك وإن القليل الذي تحدث به وانتقلت الأنظار

جميعها لعمير الذي دخل ولم يصدر عنه سوى إيماءة بسيطة

ليوصل للواقف خلف مكتبه بأنه فعل ما طلب منه وأضاف أيضاً

ينظر لعينيه

" رعد شراع هنا ويريد رؤيتك "

جلس حينها والأنظار جميعها قد عادت للتحديق به بينما كان

نظره مركزاً على القلم الذي كان يحركه بين أصابعه وكأنه

يستقطع لنفسه لحظة صمت قصيرة قبل أن يرميه من يده

وقال بجمود

" اتركه يدخل واتركونا لوحدنا "

فتحرك الجميع حينها بالتتابع مغادرين في صمت وكأنهم يخشون

وحشة المكان الواسع بعد خروج أجسادهم الكفيلة بملئه بقوة

حضورها مهما اتسع حتى لم يعد موجوداً فيه سوى الجالس خلف

المكتب الفخم وكأن كل واحد منهما يُكمل الآخر يفرد ذراعيه

بينما ترتاح ساعديه على طاولته كأسد لا يليق غيره بعرينه

ونظره مُرتكز على الباب المفتوح وعلى الذي أصبح يقف أمامه

ما أن غادر آخر رجاله وأشار له بيده إشارة فهمها فوراً فأغلقت

يده الباب دون أن يلتفت له وتجمد مكانه ما أن قال الذي قست

نظرته الحادة وقد ملأ صوته الجهوري المبحوح صمت

المكان الواسع

" إن كنت هنا لطلب رؤيتها فلا تتعب نفسك يا رعد "


شد على فكيه بقوة وتقدم خطوتين للأمام وقال بجمود

" أعلم بأنك لن توافق على هذا وما جئت لأجله ولن أفعلها "

وتنفس بعمق حين طال صمته وكأنه ينتظر فقط أن يقول ما لديه

ويغادر ، إن كان عليه تهنئة شقيقته على أمر فسيكون إرجاعها

لمطر شاهين الماضي بكل صفاته فإن كان قد أصبح يبتسم أحياناً

فها قد صار ذلك من الماضي ايضاً ، قال بعد صمت لحظة

" جئت أسالك عن أمر واحد أريد جوابه "

وتابع حين لم يعلق بأي شيء أيضاً

" والدي قبل وفاته بدقائق فقط طلب رؤيتها ولا أحد يعلم لليوم ما
دار بينهما ولا يعلم أحد أيضاً بأني كنت آخر من رآه قبل موته
وليس هي "

شعر باهتمامه لما يقول من اقتراب حاجباه الطويلان شديدا

السواد فتنفس بعمق مجدداً وقال

" طلب أمراً لم أفهمه حتى اليوم .. لا سببه ولا الغرض منه "

واشتدت قبضتاه بجانب جسده وكأنه يفرغ أي انفعال فيهما

وكلماته تخرج بجمود بينما نظراته لم تفارق العينان

السوداء الحادة

" قال سيعود ابن شاهين الآن وعليك أن تعدني بأن ترجعها له
ولا تسمح بطلاقها منه ومهما كانت الأسباب "

ونظر بترقب وضربات قلبه تتعالى للذي أدار مقلتيه جانباً يبعد

نظره عنه دون أن يحرك رأسه ودون أن تتحرك شفتاه بكلمة

واحدة فعلم بأنه يتوقع ذلك أو يعلمه ! أو لم يستغربه ويهتم له ؟

فسحب نفساً عميقاً آخر لصدره وقال

" لا أفهم لما أراد ذلك وأخذ مني عهداً به ! وموقن من أن ما
دار بينها وبينه يشبه الأمر ذاته "

تحركت حينها يد الجالس أمامه وطرقت أصابعه على الأوراق

تحتها في حركة متناغمة ونظره عليها وكأنه لا يسمعه أو لا يهتم

بما يقول أو لا يريد القول كما يُجزم ؟ وذاك ما جعل نبرته تنتقل

للجدية وقال

" ما الذي حدث وكان يحدث في الخفاء ويعلمه والدي ولا نعلمه
نحن عنه يا مطر ؟ "


" رحمة الله عليه "

كان ذاك فقط ما همست به الشفتان الجادة ولازال يبعد نظره عنه

فاشتدت قبضتاه بجانب جسده بقوة وعلم حينها بأنه لن يجيب لأنه

رجل لا يغير قراراته كما عرفه دائماً فقال بضيق خرج

عن سيطرته

" من حقنا أن نعلم فهي شقيقتنا وإن لم تجري دماؤنا في
عروقها "

نظر له حينها صارخاً

" هي من باعت هذا وأنكرته ولست أنا "


جعلته كلماته تلك يتجمد بصمت وليس بسببها فقط بل وكلماته

التي خرجت بعدها بغضب يرمي بسبابته جانباً

" وليس وحدكم بل ومن تجري دماؤهم في عروقها أيضاً "

عاد لشد قبضتيه بقوة كما فكاه اللذان برزا بوضوح وخرجت

الكلمات منه جامدة جمود الصخر

" ما الذي حدث جعلها تتصرف هكذا ؟ ثمة سبب بالتأكيد "

" لأنها حمقاء وبلا عقل "

أبعد نظره عنه ما أن وصلته تلك الكلمات الصارخة وشعر بها

كصفعات قوية لوجهه ، وكما توقع لم ينتهي الأمر عند ذلك وقد

تابع بحدة وبعد أن ضرب الطاولة تحته بقبضة يده

" تحكم فقط ودون أن تسأل ورفضت في كل مرة أن أتحدث
لأتحول لأحمق مثلها وبسببها "

وتلى كلماته تلك صمت وسكون مريب وكأن أحدهما ترك لنفسه

مجالاً ليحرر أنفاسه الغاضبة وترك له الآخر مساحة ليستقبل

سؤاله التالي وهو يرفع نظره به مجدداً وقال بجمود

" ما الذي سيحدث الآن "

وحدقت عيناه بفضول في الذي قال مباشرة وبجمود

" ما أرادته بالطبع "

اتسعت عينا رعد بذهول للحظات وكأنه يتوقع غير ذلك

وهمس بصعوبة

" هل وافقت على القضية ! "

وقف حينها ورفع رأسه بشموخ وقال ببرود وكلمات متأنية

" نعم وإن حكم القاضي بما تريد فهي طالق "

اتسعت عينا رعد حينها وخرج عن هدوئه مجدداً وصرخ بانفعال

" ما هذا يا مطر ! أنت تسبقها بالطلاق هكذا "

قال بحزم ونظرة قاسية

" لم أفعل "

وكان صراخ رعد مصاحباً لرده الغاضب يشير له بسبابته

" بل فعلت وحين سيحكم هو بطلاقها ستكون طلقتها حسب
كلامك هذا "

وتلقف أنفاسه الغاضبة بوجه محمر ولازال ينظر للعينان الحادة

والنظرة المشتعلة في جمود وتناسق غريب ! وخرجت الكلمات

من بين أنفاسه

" متى ستكون تلك الجلسة يا مطر ؟ "

وحين لم يصدر عنه أي رد وقد اكتفى بالنظر لعينيه بجمود بينما

تمسك يده اليمنى ساعد اليسرى خلف ظهره صرخ

مجدداً وبانفعال

" لا تكن مجحفاً في حقها هكذا يا ابن شاهين فهي لها حقوق
كباقي شعبك تماماً "

" ما هو الإجحاف في نظرك يا رعد ؟ "

كانت صرخته مماثلة وإن لم يتغير في وقوفه ولا ملاحه شيئاً

وكأنه يخرج من قلب صخرة صماء وقد عاد للصراخ في

وجهه مجدداً

" تحدث ما يكون ؟ "

وكان جواب رعد الصمت بينما لازالت أنفاسه المتسارعة تعبث

بتفاصيل صدره العريض من تحت السترة السوداء المفتوحة

واحمر جفناه وعيناه تتسع ما أن قال الذي ضرب بقبضته على

صدره وكأنه درع من فولاذ وصوته الغاضب يملأ المكان

" إن كان غرضها بما فعلت إصابتي في مقتل فقد فعلتها وأصابت
هدفها بدقة "

ازداد ارتجاف جفنيه كما احمرارهما وارتفعت قبضته أمامه ودون

شعور منه وكأنه ينوي تحطيم نفسه بها فلم يشعر بأنه ثمة عبارة

قاسية قد يسمعها من رجل كتلك ! وما كان سيكون لها التأثير

ذاته لو سمعها من غيره فهو اعتراف يأبى رجال الحروب الإدلاء

به فكيف إن كان زعيم تلك الفئة من الرجال ؟

تحركت مقلتاه مع حركة الذي غادر طاولته وتحركت خطواته

الثابتة نحوه نظراته القوية كصقر محلق في السماء لم تفارق

عينيه بينما أصابت كلماته عمق قلبه ما أن قال بجمود

وهو يجتازه

" سنترك القضاء يقول كلمته كما أرادت وسيسري كامل حكمه
على الجميع وهي أولهم "

وأغمض عينيه ما أن ضرب الباب الموجود خلفه بقوة وتركه

وحيداً في مكان بدأ يشعر به يضيق رغم اتساعه وارتفعت أصابعه

المرتجفة لربطة عنقه وأبعدها عن مجرى تنفسه بحركة غاضبة

وانهار جسده عند أول كرسي استطاع الوصول له وحضن رأسه

بيديه بينما استند مرفقاه على ركبتيه ينظر للأرض تحته وآخر

كلماته تلك لازالت تضرب أذنيه حتى اللحظة واغمض عيناه ببطء

وهو يهمس

" ليرحمك الله يا غسق إن كان سيعاقبك بالقانون ذاته "


*
*
*

شد خصره بيديه يراقب العمال الذين يحملون قطع الحجارة من

الأرض ليرموا بها لآخرين أعلى شاحنة كبيرة لوضعها هناك بعد

أن اختفت تلك البئر الحجرية القديمة من مكانها وأصبحت أرض

منبسطة تغطيها أتربة رطبة لا دليل على وجوده السابق سوى

تلك القطع الكبيرة من الحجارة المكومة في المكان والتي ستختفي

أيضاً بعد لحظات .

نظر ناحية الذي وقف بجانبه وقال ببرود يراقب ما يفعلون

" أخشى أن اختفائه هو ما سيجلب الشبهات "

أشار شعيب بيده نحوهم وقال بضيق

" بئر قديمة وأزلناها لما ستكون هناك شبهات ؟ "

حرك عيسى رأسه ولازال نظره عليهم متمتماً

" اتمنى هذا فعلاً "

فحرك الواقف بجانبه رأسه متأففاً قبل أن ينظر لجانب وجهه

وهمس بكلمات حادة

" بقاؤها هو ما بات خطراً الآن وأنا طلبت فعل هذا منذ أشهر
لكن شقيقك ذاك لا يفعل إلا ما يريد "

وكان تعليقه الصمت التام لازال نظره على ما يفعل عمالهم

بالتتابع قبل ان يقول بجمود

" متى قال الطبيب بأنه يمكنه مغادرة المستشفى ؟ "

تمتم شعيب ببرود تراقب نظرته الضيقة وجهه

" عليه البقاء ليومين آخرين "

أدار وجهه حينها ونظر له وقال يشير برأسه جانباً

" تفاهم مع والدتك إذاً فهي لا تتوقف عن مطالبتي بأخذها له
كلما رأتني "

كان شعيب من نظر لما يحدث أمامه حينها وقال بجمود

" ستراه حين يكون هنا وأخبر أنت شقيقتاك بأمر الضيوف
وسيحمل العمال الذبائح للمنزل لإعداد الطعام لهم منذ الليلة "

ونظر له وهو يتابع بأمر

" وقم بالإشراف عليهم بنفسك والتأكد من جلبهم لكل ما تحتاجان
من السوق "

شد شفتيه بعدم رضا واشار بيده جانباً وقال بضيق

" وحتى متى سيأكلون وينامون هنا ؟ كيف ستعلم متى يكون
وقت تلك المحاكمة ؟ "

ابتسم بسخرية وهمس ينظر لعينيه

" وضعت من يراقب مبنى المحكمة كما منزل وزير العدل ولن
يكون ثمة ما هو أسهل من معرفة وقتها ولا تنسى بأنها ليست
أي جلسة عادية ليتم وضع وقت بعيد لها أو تأجيلها "


وعاد بنظره للحجارة التي بدأ يقل عددها بشكل ملحوظ وقال

بجدية يرفع حاجبه الأيسر

" وساعتان فقط سيكون وقتاً كافياً لنكون هناك "

حرك عيسى رأسه موافقاً وقال ينظر لجانب وجهه

" لا تنسى إذاً بأنه ليس لتلك المحكمة باب واحد فقط "

وراقبته نظراته وهو يتحرك من مكانه ويسير أمامه متمتماً

" أعلم .. افعل أنت فقط ما طلبت منك "

وغادر مبتعداً نظراته تتبعه وحرك رأسه بإيماءة خفيفة هامساً

" إن فوتنا هذه الفرصة فلن نحصل على مثيل لها يا شعيب ..
لابد وأنك واثق تماماً من هذا "



*
*
*

رمى حجر آخر من يده بحركة كسولة فتدحرج لأسفل الجبل

مصدراً صوتاً خفيفاً في السكون حوله سوى من صوت الريح

وبعض العصافير التي بدأت بالعودة لأعشاشها بينما نظره يهيم

في الفضاء الواسع بشرود لا شيء حوله وأمامه سوى الوديان

الرطبة والتلال المغطاة بالحشائش الخضراء والقليل من الأزهار

البرية تتراقص مع الريح قد امتدت في مجموعات متفرقة حتى

أرض الجبل الصغير تحت قدمية .

رمى حجراً آخر تبع العشرات قبله بذات الحركة الآلية وكأنه رجل

آلي مبرمج لا يفارق التجهم ملامحه كما حدقتاه الرمادية الجامدة

جمود الصخور حوله وذات الأحداث تدور وتكرر نفسها في رأسه

لكن بحركة عكسية منتظمة .. ما حدث معه اليوم وأهمه اختفاء

تلك الممرضة وللأبد واكتشافه القاسي بأنهما جارتان أيضاً ..

موت زوجة والده وسجن والده وانضمام شقيقيه لقائمة

مسؤولياته .. قدومه للجنوب وزواجه الغريب وفرحته المبتورة

بأنه سيؤسس عائلة له أخيراً زوجة تتفهم ظروفه وأبناء يربهم

ليكونوا ما يريدون هم عكس ماضيه تماماً .. وعاد لسبب قدومه

للجنوب أساساً لمنزلهم القديم لشقيقته لمعاناتهما والتي هيئت له

أمنياته الحمقاء بأنها مرحلة عذاب طويلة وانتهت أخيراً بالرغم

من كل ما خلفته في نفسيهما ليكتشف أنه والهموم والخذلان لا

يفترقان أبداً .

رفع حجر آخر ورماه بعيداً بطول يده وكأنه يرجم كل تلك

الذكريات والمآسي المتتابعة والتي لا يمكنه نسيانها ولا إخراجها

من قلبه لأنها السبب في كل ما وصل له وما سيصير إليه كرجل

فاشل لا يعرف من الحياة سوى الحُمق وحسن النية ولا يُفلح

لشيء غير أعمال من لا شهادة لديهم .


استغفر الله بهمس أجش ونظر لساعته قبل أن ينظر غرباً حيث

توارت الشمس الباهتة خلف الجبال البعيدة وبدأ لون الشفق

يتسلل واضحاً للسماء فوقف ونزل بخطوات سريعة لجذب

الأرض لجسده وتوجه ناحية سيارته أخرج السجادة التي يحتفظ

بها فيها وصلى المغرب أولاً لا يُسمع في ذاك الصمت الشديد

الواسع سوى صوته الجهوري لتلاوته للآيات بتأني وتكبيراته مع

كل حركة خلال الركعات الثلاث التي ما أن سلم منها غادر من

هناك يقود سيارته بشيء من السرعة عكس وقت قدومه لهذا

المكان تردد شفتاه تسابيح ما بعد الفروغ من الصلاة متوجهاً

ناحية البلدة المتكونة من قسمين قسم للمباني القديمة المتراصة

تنتهي بأحياء أفضل منها حالاً وقسم للمزارع التي اتخذت مساحة

واسعة لا يمكن للنظر إدراكها ولا من مكان مرتفع تتوسطها

منازل مالكيها متفرقة وبعيدة .

توجه بسيارته لتلك الناحية وبدأت عجلاتها العالية تخترق

طرقاتها الترابية حتى ظهر له المنزل الواسع الذي يمثل منزله

جزءاً منه .. المنزل الطيني الذي تم تجديده بشكل كامل عدا

الجزء الذي يخصه منه وإن كان خضع للصيانة أيضاً لما استطاع

العيش فيه وكل ما يخشاه أن يفقده يوماً ما ليصبح بلا مأوى

يمكنه تحمل تكاليف أجرته .

ضرب بكفه على جبينه يوبخ نفسه على نسيانه التام لمكالمة

أويس والذي أخبره منذ الصباح بأنه ينتظره هنا قبل مغادرته

لحوران لكن انشغاله بنقل ابن غيلوان ثم خبر فرار تلك الممرضة

مع عائلتها أنساه كل ما كان يريد فعله .

أوقف سيارته أمام باب المنزل وأخرج هاتفه واتصل به فوراً

فهو لم يرى سيارته أمام باب منزله وهو قادم ، وبعد رنين دام

لعدة ثواني فُتح الخط وكما توقع وصله صوته البارد مباشرة

" لما لا تضبط ساعتك جيداً أو تنظر لمغرب الشمس "


لم يستطع منع الابتسامة الخفيفة التي تسللت لملامحه المتجهمة

وقال معتذراً

" أنا آسف حقاً يا أويس وقسماً أني غادرت في استعجال ونسيت
الأمر تماماً ... المعذرة منك "

وصله صوت تنهده الواضح قبل أن يقول

" حسناً لابأس سنتحدث صباح الغد "

فتح باب السيارة وقال وهو ينزل منها

" هل ستبيت الليلة في حوران ؟ "

قال ذاك من فوره

" لا .. أنا في الطريق الآن نصف ساعة تقريباً وأصل "


قال وهو يغلق باب السيارة

" سأنتظرك إذاً ونتحدث عمّا كنت تريد أن نناقشه "

وتنهد بعمق ما أن وصله صوته الهادئ

" اترك الأمر للغد فسأكون موجوداً في أباجير .. كلانا متعب الآن
وبحاجة للأكل والراحة "

حرك رأسه موافقاً وهمس

" حسناً كما تشاء "

وتابع من فوره محرجاً

" وأعتذر مجدداً يا أويس "


وشعر بالارتياح ما أن وصله صوته مختلطاً بابتسامة صادقة

" لا تهتم للأمر يا صديقي .. نلتقي في الغد "

همس مودعاً له قبل أن تتجمد أطرفه وتتسع عيناه ونظراته

المستغربة تنتقل غرباً وأرهف سمعه وكأنه يريد التأكد من

سماعه لتلك الخطوات وكان سيتحرك في ذاك الاتجاه لكنه تراجع

في قراره لازالت نظراته الغائمة تحدق في تلك الجهة تحديداً حيث

صهريج المياه والساقية تحفها أشجار السرو المتراصة من

الخلف في صف طويل والتي يتم استخدامها لصد الرياح القوية

المغبرة عن المزروعات والأراضي الزراعية ينتظر أن يتكرر

الصوت مجدداً لكن لا شيء سوى صوت حفيف أوراق

الأشجار العالية !.

وقف مكانه للحظات ولم يدخل منزله يريد التأكد من شكوكه

ومرت الدقائق متعاقبة ولا شيء يُسمع حوله حتى كان سيستدير

متجهاً لباب المنزل لكنه توقف مكانه وغضن جبينه باستغراب

ينظر لذات الجهة قبل أن تتسع عيناه بصدمة حين تكرر صوت

الخطوات مجدداً وكانت وكأنها تبتعد على فترات متقطعة

فاضطرب قلبه وعادت خطواته لحثه على التحرك هناك والتأكد

من هوية ذاك المتسلل فلا وجود لأي حيوانات هنا ولن تكون

الأقدام إلا لبشري ! لكن عقله رفض مجدداً ففي تلك الجهة

خمسون متراً فقط ما يفصل أرض أويس عن أراضي أولئكَ

الوحوش وهو وعده منذ استأجر لديه وعمل معه هنا بأنه لن

يقترب من اراضيهم أو يدخلها وهذا حال عمّاله أيضاً تلك الجهة

محرمة تماماً عليهم تجنباً لأي مشكلات معهم ولكي لا يعطوهم

الفرصة لسلب أرضه منه كما فعلوا مع الكثيرين بحجة يقدموها

لمشايخ القرى ولا أحد يمكنه معارضتهم حينها .

شد قبضتاه بقوة ولازال ينظر لتلك الجهة بنظرات تبدلت للغضب

بسبب عجزه عن الركض هناك والإمساك بعنق ذاك الشخص ،

وانتقلت نظراته لباب منزله وتعالت أنفاسه وهو يتذكر حديث

أويس هنا سابقاً وحرك رأسه بعنف مستغفراً الله بهمس فيكفيه

حتى هذه النقطة لا ينقصه المزيد لليوم .

فتح باب منزله ونظر مرة أخيرة لتلك الجهة الساكنة تماماً ثم دخل

مغلقاً إياه خلفه وتقدمت خطواته نحو الداخل .. كان السكون يعم

المكان لا صوت كرة لا صراخ وضحكات وعلم فوراً بأنهما نائمان

ونظر لساعته فهذا ليس وقت نوم !.

نظر ناحية المطبخ ما أن صدر من تلك الجهة صوت حركة خفيفة

ووقع نظره فوراً على التي وقفت أمام بابه ، كانت تنظر له

بصمت بينما أشاح هو بوجهه ونظره عنها سريعاً وكأنه يخفي أي

مشاعر تظهر فيهما .. أي غضب وكراهية منها قبل نفسه وتمنى

أن وجدها نائمة أيضاً ولم تستيقظ حتى الصباح .

" تأخرت يا يمان !! "

كان صوتها حزيناً قلقاً كما نظراتها له بينما لازال هو يتجنب

النظر لها أصابعه تشتد على المفتاح فيها بقوة وملامحه لا يكسر

جمودها سوى الحدة في حاجبيه المعقودان فوصله تبريرها

بصوت حزين

" شقيقاك لم يتوقفا عن السؤال عنك وبكى جاد كثيراً يظنك

رحلت أيضاً وتركتهم حتى غلبه النعاس ونام "

عم الصمت المكان حتى يئست العينان الخضراء الحزينة من

انتظار أي تعليق منه ليناقض توقعاتها وهو يرفع نظره لعينيها

وإن كانت نظرة قاسية تعبر عمّا كان يريد قوله حينها بجمود

" نقلت نوح غيلوان لمستشفى إحليل بعدما حاول أحد سكان
البلدة قتله "

ارتفعت يدها لصدرها وشهقت مصدومة فلم تكن تتخيل يوماً أن

يتجرأ أحد على التفكير في فعلها ! وتجاوزت استغرابها في أن

يكون هو من أسعفه بصدمتها الأخرى فأن يحكي لها ما حدث معه

وفعل أمر اختفى وانتهى منذ تلك الليلة ! لكنها لم تكن تعلم بأن

لهذا سبب أيضاً وبأنه كان سبيلاً لكلماتها التالية حين

قالت بترقب

" ومن هذا الذي يفعلها ! "


فاستدار ناحيتها بكامل جسده حينها وارتسمت ابتسامة ساخرة

على شفتيه وقال ينظر لعينيها تحديداً

" والد ممرضة في مشفى القرية تدعى فجر "

ولم يستغرب الشهقة التي كتمتها حينها بين اضلعها كي لا تخرج

وقال بابتسامة مائلة لم تعبر عن النار المشتعلة داخله كما

نبرته الباردة

" تعرفينها بالتأكيد فهي التي عاينتك وقت الحادث "

تلعثمت وانعقد لسانها للحظات قبل أن تحرك رأسها كالمنومة

تومئ بنعم فلن تستطيع نكران ذلك بينما انتظر هو أكثر منه وبأن

تعترف بأنها كانت تسكن بالمنزل الملاصق لمنزلهم لكنه يعلم

أيضاً بأنه عبثاً ينتظر وبدأت خيالات صوت الخطوات في الخارج

تهاجمه مجدداً ولم يكن يعلم بأن نظراته كانت تتحدث نيابة عنه

وبأنها أوصلتها للهاوية تصرخ وهي تهوي ولا أحد يسمعها ،

وتدلت الدمعة اليتيمة من رموشها ما أن استدار مولياً ظهره لها

وتحرك باتجاه الغرفة التي دخلها ضارباً بابها خلفه بقوة أرتجف

جسدها الذي انتفض بأكمله ودخلت المطبخ راكضة كجريان

دموعها فوق وجنتيها حتى التصقت بجداره وتركت العنان

لعبراتها تلصق وجهها به بينما تضربه بكفها وكأنها تستجديه

النطق وإخبارها بما عليها فعله فها هي شكوكه أخذته لتلك

الحادثة والتقرير الذي أخبرته به فجر وزورته وبالتأكيد ستنتابه

الشكوك حول الأمر وبأن الحادث لم يكن السبب بل أمر قبله

تخفيه عنه .

كتمت عبراتها تشهق في صمت ومسحت عيناها بطرف أكمام

فستانها ما أن سمعت باب الغرفة يُفتح ثم صوت خطواته تلاه

صوت باب الحمام الحديدي فتوجهت نحو قدر الطعام وأشعلت

النار تحته وبدأت تعد الصينية وتضع الزيتون والخبز فيها تمسح

عيناها كل حين تمنع تسلل أي دمعة أخرى منهما ، وما أن سخُن

الحساء سكبته في طبق عميق ووضعته في الصينية وحملته

برفق وتوجهت ناحية الغرفة بخطوات حرصت لتكون سريعة

ومتزنة ذات الوقت كي لا يقع طعام عشاءهم من يديها وكي

تغادر الغرفة قبل خروجه فحين وصلتها كان بابها مفتوحاً كما

أن شقيقاه جالسان كليهما فتلك الضربة القوية للباب كانت

ستحيي ميت وليس توقظ طفلاً من نومه .

كانا منشغلان بهاتف بسيط الشكل والذي علمت سريعاً بأنه

اشتراه لنفسه بينما استثناها هي وتراجع عن كلامه السابق

بشراء واحد لها أيضاً ولن يفعلها بالتأكيد بعد أن أصبحت مشوهة

وامرأة مشبوهة في نظره .


ملأت الدموع عيناها ووضعت الصينية قربهما وحيث سيجلس

بالتأكيد وهمست ببحة وهي توزع الخبز فيها بحركة سريعة

" لا تقربا الحساء فهو ساخن حتى يعود يمان "

وغادرت من فورها دون أن تسمع أي تعليق منهما ولن تتوقع

ذلك مع انشغالهما الفضولي مع الهاتف وإن كان بسيطاً

ومختصراً ، عادت للمطبخ وجلست مكانها عند نهاية الجدار

تحضن ركبتيها لصدرها وتنظر للفراغ بشرود حزين تستمع

لصوت الباب ثم خطواته ثم إغلاقه للباب الآخر فرفعت رأسها

عالياً تتكئ به على الجدار خلفها وامتلأت عيناها بالدموع تشعر

بها وكأنها عشرات الأبواب تُغلق بينهما ولا يمكن فتحها مجدداً ،

وكم تمنت لحظتها أن كان لها مكان تذهب إليه فشهامة هذا الرجل

وحدها التي منعته من طردها للشارع حتى الآن ومؤكد لن تسمح

له كرامته كرجل بأن يغفر لها ما فعلت إن علم بالحقيقة كاملة

وباعتراف منها لكنها كحيوان شريد لا أصل ولا عائلة لها ..

لا هي ابنة من تحمل اسمه ليكونوا عائلتها ولا هي

ابنة من اعترف بأنها من صلبه لتجدهم سنداً لها فلا شعيب

وإخوانه يريدونها أو يعترفون بها ولا أويس الذي يكرهها

أضعاف كرههم لها ، أما والدتها فلا تنتمي لهذه البلاد بأكملها

وتركوها هكذا كريشة تتقاذفها الرياح حيث تشاء .


دفنت وجهها في ركبتيها وساعديها وهمست باكية بحرقة

" يا رب إن كنت تعلم أن موتي خيراً لي فخذني إليك فلا مكان
يقبل بي غير قبري "


*
*
*



فيتامين سي غير متواجد حالياً  
التوقيع



شكراً منتداي الأول و الغالي ... وسام أعتز به


رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:52 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.