آخر 10 مشاركات
32 - ليلة ثم النسيان - باني جوردان عبير الجديدة (كتابة /كاملة **) (الكاتـب : dalia cool - )           »          202- لن تعيده الاشواق - لي ويلكنسون (الكاتـب : Gege86 - )           »          شيء من الندم ..* متميزه و مكتملة * (الكاتـب : هند صابر - )           »          سارق قلبي (51) -رواية غربية- للكاتبتين: وجع الكلمات & ولقد أنقذني روميو *مكتملة* (الكاتـب : قلوب أحلام - )           »          في قلب الشاعر (5) *مميزة و مكتملة* .. سلسلة للعشق فصول !! (الكاتـب : blue me - )           »          سيدة القصر- سلسلة زواج لأجل الإرث -نوفيلا غربية زائرة-بقلم الجميلة روما-(مكتملة) (الكاتـب : ريهام ماجد جادالله - )           »          عشق من قلـب الصوارم * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : عاشقةديرتها - )           »          ساحرتي (1) *مميزة , مكتملة* .. سلسلة عندما تعشق القلوب (الكاتـب : lossil - )           »          ندوب من الماضي ~زائرة~ || ج2 من وعاد من جديد || للكاتبة: shekinia *كاملة (الكاتـب : shekinia - )           »          1060 - زهرة الربيع - ناتالي فوكس - د ن (الكاتـب : hAmAsAaAt - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree508Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 28-03-20, 08:42 PM   #1

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Icon16e الطاووس الأبيض *مميزة ومكتملة *








غلاف اهداء من اشراف وحي الاعضاء بمناسبة التمييز




بسم الله الرحمن الرحيم


أعود إليكم أحبائي القراء في كل مكان، وخاصة على منتدى روايتي، مع رواية جديدة تحمل عنوان (الطاووس الأبيض) ..


(أحداث تلك الرواية مأخوذة من مواقف أغلبها حدث بالفعل، لكن تختلف البيئات، والأزمان، وحتى الشخصيات.. كقارئ ربما لن تشعر بالغرابة إن صادفك موقف شعرت فيه أنك عايشت تجربة مماثلة، فكل شيء جائز خلال متابعتك لفصول العمل، ما عليك إلا أن تطلق العنان لخيالك، وتستمتع بالتجربة وتتفاعل مع الأبطال.. هنا أنت لست بقارئ فقط، وإنما جزء من الأحداث.)

رواية الطاووس الأبيض ليست حصرية.. وتنشر فصولها تباعًا يومي الجمعة والثلاثاء من كل أسبوع (ما لم يحدث ظرف طارئ) في تمام الحادية عشر مساءً بتوقيت القاهرة، ومنتصف الليل بتوقيت السعودية ..









قراءة ممتعة إن شاء الله مع الأحداث، ودعمكم الإيجابي وتعليقاتكم الناقدة لها دور فعال في إرشادي .. شكرًا مقدمًا



روابط الفصول

المقدمة والفصول 1 - 7 .. بالأسفل
الفصول 8 - 16
الفصول 17 - 20
الفصل 21
الفصل 22
الفصل 23 ج1
الفصول 23 ج2، 24، 25
الفصل 26 ج1
الفصل 26 ج2 و27 و28{نفس الصفحة}
الفصول 29، 30، 31 ج1
الفصل 31 ج2، 32 ج(1، 2)
الفصول 33، 34، 35، 36، 37، 38 نفس الصفحة
الفصل 39
الفصل 40 ، 41 نفس الصفحة
الفصل 42
الفصل 43
الفصل 44
الفصل 45
الفصل 46
الفصل 47 ، 48
الفصل 49
الفصل 50
الفصل 51 ج1
الفصل 51 ج2، 52
الفصل 53
الفصل 54
الفصل 55
الفصل 56
الفصل 57
الفصل 58
الفصل 59
الفصل 60
الفصل 61
الفصل 62
الفصل 63، 64 نفس الصفحة
الفصل 65
الفصل 66
الفصل 67
الفصل 68
الفصل 69
الفصل 70
الفصل 71
الفصل 72
الفصل 73
الفصل 74
الفصل 75
الفصل 76
الفصل 77
الفصل 78، 79 نفس الصفحة
الفصل 80
الفصل 81، 82
الفصل 83
الفصل 84
الفصل 85
الفصل 86
الفصل 87
الفصل 88
الفصل 89
الفصل 90, 91 ج1
الفصل 91 ج2, 92
الفصل 93
الفصل 94
الفصل 95, 96
الفصل 97
الفصل 98
الفصل 99
الفصل 100
الفصول 101, 102, 103 نفس الصفحة
الفصول 104, 105, 106 نفس الصفحة
الفصل 107
الفصل 108, 109
الفصل 110
الفصل 111, 112, 113 نفس الصفحة
الفصل 114

الفصل 115
الفصل 116
الفصول 117, 118, 119 نفس الصفحة
الفصل 120
الفصل 121, 122
الفصول 123, 124, 125
الفصول 126, 127, 128
الفصل 129, 130
الفصل 131
الفصل 132
الفصل 133
الفصل 143
الفصل 135
الفصل 136
الفصل137
الفصل 138

الفصل 139, 140 نفس الصفحة
الفصول 141, 142, 143 نفس الصفحة
الفصل 144, 145 نفس الصفحة
الفصل 146, 147 نفس الصفحة
الفصل 148, 149 نفس الصفحة
الفصول 150, 151, 152 نفس الصفحة
الفصول 153, 154, 155 نفس الصفحة
الفصل 156, 157 نفس الصفحة
الفصل 158, 159 نفس الصفحة
الفصل 160
الفصول 161, 162, 163 نفس الصفحة
الفصول 164, 165, 166 نفس الصفحة
الفصل 167, 168 نفس الصفحة
الفصل 169, 170 نفس الصفحة
الفصل 171, 172 نفس الصفحة
الفصول 173, 174, 175 نفس الصفحة
الفصول 176, 177, 178 ج1 نفس الصفحة
الفصل 178 ج2 , 179 نفس الصفحة
الفصل 180 الأخير ج(1, 2, 3, ,4) نفس الصفحة
الخاتمة




التعديل الأخير تم بواسطة ebti ; 20-11-21 الساعة 09:40 AM
منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 28-03-20, 08:45 PM   #2

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9 المقدمة


-المقدمة-

بلغت ألسنة اللهب عنان السماء في أقل من لحظاتٍ بعد اندلاع النيران في محل بيع الطلاء الكائن بالمنطقة المأهولة بالسكان المحليين من ذوي الطبقة المتوسطة والفقيرة، تعالت الصرخات المفزوعة واختلطت مع الأصوات التحفيزية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه قبل أن يتفاقم الوضع أكثر من ذلك وتطال النيران المستعرة المباني المجاورة ويحدث ما لا يُحمد عقباه. حملقت الصغيرة ذات الجديلتين السوداوتين بعينين متسعتين في رعبٍ في اللافتة المتآكلة والتي أوشكت على السقوط، حاولت تحذير ذلك الصبي الذي جاهد لإطفاء النيران من جهته مستخدمًا دلوًا معدنيًا مملوءًا بالماء، لكن صوتها الضعيف لم يصل إليه وسط الجلبة الصاخبة التي تصم الآذان. انقبض قلبها في هلع أشد حينما وقع جزء خشبي منها على كتفه فطُرح أرضًا، هرولت بشجاعة متهورة تناقض سنوات عمرها الصغيرة نحوه لتهب لنجدته بعد أن سكن جسده كليًا، جثت على ركبتيها تهزه بعنفٍ.. لا استجابة على الإطلاق! تلفتت حولها باحثة عمن يساعدها، الكل مشغولٌ بإخماد الحريق الهائل، نهضت مستندة على كفيها لتقف عند قدميه، انحنت عليه بجسدها الهزيل لتمسك به من عقبيه، حاولت جره بعيدًا عن النيران لكنها لم تستطع، فقد كان وزنه ثقيلاً بالنسبة لها. لهثت وتعرقت وتسارعت أنفاسها، ومع ذلك لم تيأس، استمرت في المحاولة مستنزفة كل قواها، بدأت في السعال المتألم بعد أن ازدادت كثافة سحب الدخان الذي عبأ المكان وملأه. توقفت عن سحبه لتضع يدها على أنفها مانعة نفسها من استنشاق المزيد من الأدخنة الخانقة، جابت بنظراتها المرتاعة المكان الذي تحول لكتلة من الضباب وهي معتقدة أنها النهاية، لا مخرج.. لا نجاة، تهاوت جاثية على ركبتيها وقلبها يكاد ينخلع من عنف دقاته، وضعت يديها المرتعشتين حول عنقها المتيبس تتحسسه في عجزٍ، وكأنها تستجدي بذلك آخر نفسٍ لها في الحياة.







منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 28-03-20, 09:01 PM   #3

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9 الفصل الأول



الفصل الأول



رفع ثقل جسده عن الأرضية الباردة للمرة الثلاثين مستخدمًا مرفقيه دون أدنى شكوى، وكأنه لا يزن إلا مثقال ريشة، صفق السجناء في انبهارٍ وهم يحمسوه على فعل المزيد، وبالرغم من العرق الغزيز الذي ينهمر من خلايا جسده إلا أن أصواتهم التحفيزية حثته على الاستجابة لمطلبهم وزاد العدد حتى بلغ الخمسين رفعة، ثم نهض واقفًا على قدميه يمسح العرق العالق بأصابعه وخاصة حول خاتم خطبته، تلفت حوله والتصفيقات المصحوبة بالصافرات والتهليلات تشجعه، تعلقت الأعين المتباهية بإنجازه بوجهه ذي البشرة القمحية والمخبئ خلف ذقنه التي استطالت، بدا غير متأثرٍ بتفاخرهم به، مرر يده على رأسه الحليق يمسحها، كانت نظراته التي تنبعث من حدقتيه البنيتين تعبر عن قوة واستبسال لا حدود لهما، حتى بنيته الجسمانية ذات لياقةٍ عالية. لكزه أحدهم في جانب ذراعه يمدحه:

-عاش يا وَحَش!

ارتسم على جانب شفتي "تميم" بسمة متهكمة، مسح بظهر كفه عرقه المتصبب على جبينه وعينيه، ثم أردف قائلاً بصوته الأجش:

-خلي الكلاب اللي هنا تعرف من ريس المخروبة دي.

قال وهو يزيد في مدحه:

-هو في حد يقدر يقول غير كده يا كبيرنا؟

ثم ناوله منشفة نظيفة ليمسح بها عرقه قبل أن يتجه لأحد الأسرة التي تنتصف عنبر الحبس، جلس "تميم" على الفراش القديم منكسًا رأسه المشحون قليلاً، ما زال شأن عائلته يشغل باله، ها قد تبقى القليل ليعود إليهم بعد سنواته الخمس التي قضاها هنا في ذلك المكان الكئيب المستنزف للأعمار. ضاقت نظراته بحدة وزميله في محبسه يسأله:

-بتفكر في إيه يا معلم؟

رفع عينيه المحتدتين نحوه ليسأله بخشونةٍ مانعًا إياه من اقتحام خصوصيته:

-هنطفح إيه النهاردة؟

تنحنح قائلاً بصوتٍ مهتز:

-أوامرك يا كبير، أنا هاروح أشوف جاه إيه من الزيارة وأوضبه لجنابك.

تحرك مبتعدًا عنه ليتركه جالسًا بمفرده، فلم يجرؤ أي أحد سواه من السجناء على محادثته دون السماح له أولاً بذلك، كانت له هيبة طاغية ومرعبة وسط عتاة الإجرام، كما اكتسب منذ الليلة الأولى التي قضاها هنا شعبية عظيمة، وذلك لنجاحه في التغلب على واحدٍ من أشد السجناء شراسةً ممن حاولوا التحرش به وإذلاله وكسر كبريائه، قضى عليه وأهانه بشكلٍ مذل ليحتل بعدها مكانته وينال ذلك الشرف العظيم، لم تكن لتضيع سنوات عمره هباءً لولا ما فعله للعائلة، تلك التي تأتي على رأس أولوياته وإن كلفته حياته، لن يتغاضى للحظة عن الدفاع عن أفرادها حتى لو كان مصيره التهلكة. أغلق "تميم" دفتر الماضي بما فيه من أحداث رافضًا الخوض في المزيد من تفاصيله التي تزيده ضيقًا وألمًا، استلقى على الفراش يثني ركبته أمام صدره، ثم فرقع فقرات عنقه بتحريكه للجانبين، انخفضت عيناه نحو خاتم الخطبة الذي يزين إصبعه، أداره بحركة ثابتة لعدة مرات وهو يفكر في أمرها، تلك التي انتظرته لما يقرب من سبعة أعوام متسائلاً في نفسه إن كان لا يزال يكن لها نفس المشاعر أم باتت واجبًا عليه أدائه إكرامًا لإخلاصها معه. تنهيدة ثقيلة خرجت من فمه ليرفع رأسه بعدها للأعلى محدقًا في سقفية العنبر الكئيبة بغير هدفٍ محدد.

.................................................. .........

دارت عيناه الخبيرتان بطول الشارع المعتم نسبيًا فاحصًا بدقة كل زاوية فيه ليتأكد من عدم مراقبة أحدهم له، كان قد درس المنطقة جيدًا وحدد هدفه التالي بعد مراقبة متأنية لوقت معقول في ذلك الحي السكني المعروف عنه بثراء قاطنيه، انتقى البقعة المناسبة للوقوف بها والاختباء إن لزم الأمر دون أن يثير الريبة بين قاطنيها ليظن من يتطلع إليه أنه عامل النظافة المجد في عمله. انتهى "حمص" من تدخين الجزء المتبقي من سيجارته رديئة الصنع ليلقي ببقايا عُقبها أسفل قدمه، دعسها بحذائه القديم مومئًا برأسه لأحدهم يستقل دراجة بخارية على الجهة المقابلة، ثم استدار للخلف متجهًا نحو السور الحجري حيث النقطة التي اختارها ليتسلقه منها، وبخفة واحترافية تتماشى مع جسده النحيف استطاع أن يصعد عليه، حبس أنفاسه ثم وثب للداخل جاثيًا على إحدى ركبتيه وكفيه على الأرضية العشبية للحديقة الخلفية لتلك الفيلا الخالية من سكانها. تلفت حوله في توترٍ وقلق، كان المكان هادئًا إلا من نباح الكلب المزعج، هنا اعتلى ثغره ابتسامة ماكرة، فقد جاء خصيصًا إليه، وسرقته تلك المرة تعتبر من النوع الباهظ، حتمًا من سيشتريه سيدفع لأجله مبلغًا محترمًا من المال، فنوعه معروف للجميع. اقترب منه "حمص" غير مكترثٍ بالمرة بالأنياب الحادة الظاهرة بين فكيه ولا باللعاب المقزز الذي يتناثر من جوفه هامسًا له بلهجة ساخرة:

-تعلالي يا غالي.

ما منع الكلب من الهجوم عليه وربما افتراسه كونه موثوقًا بسلسلة حديدية قوية، تشجع "حمص" للتعامل معه كما اعتاد أن يفعل مع ذوي الأنياب، رفع ذراعه أمام وجهه وكأنه يحتمي به من تهديده الصريح بالعض، ثم دنا بخطواتٍ حذرة حتى أصبحت المسافة خطيرة للغاية، عند تلك اللحظة وثب الكلب قاصدًا قضم ذراعه، منحه صائده فرصته لينهش في لحم ذراعه المحمي نسبيًا بقطع القماش، وما إن تعلق به حتى لف ذراعه الآخر حوله ليحكم قبضته عليه، رفعه للأعلى بعد أن حل وثاق سلسلته ليصبح أسير قبضته، ومثلما جاء خلسة فر هاربًا بنفس الطريقة وأيضًا في سرعة وخفة مستعينًا برفيقه "شيكاغو" الذي ولج للحديقة ليمسك بالكلب معه، وضع القناع الواقعي على فمه ليمنعه من النباح، ثم قام بتقييده وقبل أن يلحظهما أحد. وضعه الاثنان على الدراجة البخارية ثم انطلقا بها في شــارع جانبي غير ذاك الذي جاءا منه، وكلاهما يمني نفسه بمبلغ لا بأس به.

.................................................. ........

بدت كمن ينازع بألم في نومه فانحشرت أنفاسها، وكأن الهواء قد بات ثقيلاً على صدرها فضاعف من إحساسها بالاختناق، أنين خافت خرج من جوفها ليوقظ النائمة إلى جوارها، تأملتها بنظراتٍ قلقة خائفة بعد أن أزاحت الغطاء عنها، فتلك الحالة دومًا تتكرر معها دون تفسيرٍ مفهوم، وبرفقٍ حذر وضعت يدها على كتفها لتهزها منه لتنتشلها من ذلك الكابوس المطبق على الروح، مالت عليها تهمس باسمها:

-"فيروزة"، اصحي! إنتي بتحلمي، مافيش حاجة.

انتفضت مذعورة من نومها وصدرها ينهج بقوة، لهثت محاولة التقاط أنفاسها لتعيد انتظامها بعد أن تمكن ذلك الحلم المزعج منها مجددًا، كانت تعيشه بكل جوارحها، حتى بات مؤلمًا لأقصى الحدود، التفتت إلى جانبها لتتأمل وجه أختها القلق، لم تجرؤ على التفوه بكلمة، حملقت فيها بعينين غائمتين وكأنها تحاول التأكد من عودتها لأرض الواقع. ضغطت "همسة" على شفتيها تسألها:

-نفس الحلم إياه؟

أومــأت شقيقتها بالإيجاب، مسحت توأمتها على وجنتها براحة يدها محاولة تطمئنتها وهي تقول:

-معلش يا حبيبتي، الحمدلله إنه عدى على خير.

استدارت "فيروزة" للجانب الآخر لتمد يدها نحو الكومود حيث كوب الماء المسنود عليه، تناولته وارتشفت ما فيه دفعة واحدة حتى تروي ظمأها، التفتت ناظرة إليها لتقول معتذرة بسعالٍ طفيف:

-أنا أسفة، قلقتك.

ربتت على ظهرها قبل أن تميل عليها لتحتضنها في محبة أخوية صافية لتضيف بعدها:

-متقوليش كده، ده إنتي روحي.

ابتسمت لها "فيروزة" في امتنانٍ وعادت لتستلقي بظهرها على الفراش محاولة نسيان تفاصيل ذلك الكابوس المؤرق لمضجعها. تساءلت بعينين تحدقان في السقفية:

-هي الساعة كام دلوقت؟

أجابتها "همسة" بتثاؤب وهي تتقلب على جانبها:

-لسه النهار مطلعش.

ردت متصنعة الابتسام:

-كويس، فرصة ننام شوية.

كانت تخدع نفسها بتصديق ذلك، فالنوم أبعد ما يكون عن جفنيها وقد ظلت تفاصيل حلمها المزعج حاضرة في ذهنها، أجبرت عقلها على عدم التفكير فيه حتى تستعيد من جديد حالة الاسترخاء التي كانت عليها، مالت برأسها على الوسادة ناحية أختها لتجدها قد غفت بالفعل، ظهرت بوادر ابتسامة متهكمة على جانب شفتيها قبل أن تلفظ تنهيدة طويلة مليئة بالهموم مستسلمة للأرق الذي أصابها كالعادة.

لا تعرف كيف غفت تحديدًا لكنها استيقظت على صوت أمها المرتفع الذي نبه كل حواسها، نظرت لها بنصف عين ووجهها متقلص بدرجةٍ كبيرة، شعرت ببرودة تضرب أطرافها حينما أزاحت عنها الغطاء فجأة ليتلاشى ذلك الدفء المغري، حاول التقاط طرف الغطاء قائلة بتذمر:

-ليه كده بس يا ماما؟ أنا ملحقتش أنام!!

ردت "آمنة" بلهجة الأم الجادة غير المتفاوضة:

-ده احنا داخلين على الضهر وورانا حاجات كتير لازم تتعمل قبل ما خالكم "خليل" يرجع من السفر.

عبست ملامح "فيروزة" وعلقت عليها باستياءٍ:

-هو لازم يعني كل مرة نعمل التشريفة دي؟

رمقتها بنظرة حادة وهي ترد عليها:

-عيب كده يا "فيروزة"! هو أنا ربيتك على كده؟

قالت بنبرة متنمرة:

-يعني يصح يا ماما يطلع عينك من صباحية ربنا عشان تطبخي لمراته وفي الآخر بدل ما تقولك شكرًا نسمع منها كلمتين بايخين مالهومش أي 30 لازمة؟!!

وبالرغم من كونها محقة في طريقة استغلال أخيها وزوجته لها بشكلٍ سافر إلا أنها ردت بحسمٍ:

-أنا بأعمل لوجه الله.

انزعجت "فيروزة" من ردها المحبط فاعترضت بنبرة شبه محتدة:

-بس مش كده!

حاولت والدتها أن تغلق باب المناقشة غير المجدية في ذلك الموضوع فصاحت بها:

-بصي أنا ماليش في الكلام بتاعك ده، قومي يالا امسحي السلم وروقي المدخل وانشري الغسيل، وأختك هتوضب الأوض وتكمل معايا بقية الأكل، مافيش وقت نضيعه.

ضربت الأرض بقدمها بعصبيةٍ كتعبيرٍ عن سخطها وهي تمتم بتهكمٍ:

-دي أخرتها، أشتغل مساحة سلالم!

حذرتها أمها بلهجةٍ أقرب للشدة وهي تشير بعينيها:

-عدي نهارك يا "فيروزة".

نفخت متسائلة في نفاذ صبرٍ:

-ماشي يا ماما، ممكن أغسل وشي الأول ولا هاطلع كده بلبس البيت وبعُماصي؟!

قالت لها بصوتٍ أقرب للين وقد ارتخت نظراتها قليلاً:

-روحي غيري هدومك وافطري وبعد كده اعملي اللي قولتلك عليه

همست ساخرة في امتعاضٍ:

-الحمدلله، ألحق أعمل حاجة لنفسي!

تابعتها والدتها بنظراتٍ مهتمة وهي تتجه إلى خارج الغرفة لتقول بعدها محدثة نفسها:

-ربنا يهديكي يا "فيروزة"، أخدة كل طباع أبوكي العصبية.

ردت عليها "همسة":

-الله يرحمه، بس أنا شبهك صح؟

عادت الابتسامة لتتشكل على وجهه المرهق قبل أن تعلق عليها بحنوٍ ملموسٍ في صوتها ونظراتها:

-إنتي نسخة مني يا حبيبتي.

عفويًا احتضنت "همسة" والدتها لتنعم بحضنها الدافئ، أسندت رأسها على كتفها وأغمضت عينيها تقول لها:

-ربنا يخليكي لينا يا ماما.

ربتت والدتها برفقٍ على ظهرها بعد أن ضمتها إليها، ثم أبعدتها عنها لتبدأ الاثنتان بحماسٍ يناقض "فيروزة" في إعادة ترتيب أغطية الفراش سويًا قبل أن يتشاركا أداء مهام المنزل التي تنتظرهما.

.................................................. ............

وقفت مستندة بمرفقيها على حافة سور المنزل المكون من طابقين، تأملت أمواج البحر الغاضبة بنظراتٍ ضجرة، ففصل الشتاء على الأبواب، موجة أشد قوة تحطمت على الصخور لتتناثر مياهها المالحة بطول الكورنيش، ارتجف بدنها وشعرت بقشعريرة باردة تسري في أوصالها، هي دومًا تخشى الاقتراب منه، ومع ذلك تجبر نفسها على التطلع إليه لتحذر نفسها من قسوته إن فكرت يومًا أن تطأه، ذكرياتها معه تحمل الألم والحزن، ورؤيته في تلك الحالة الهائجة يؤجج من إحساسها بالضيق الممتزج بالخوف، امتد البحر على مرمى بصرها؛ وكأن لا نهاية له، فمنزلها يعتبر معتزل نسبيًا عن باقي المنازل والبنايات بالمنطقة، أو كما تصفه منبوذ عن البقية، لكنه ما ورثته هي وشقيقتها ووالدتها عن أبيها الراحل، تمسكت أمها به ورفضت بيعه رغم المغريات المادية نظرًا لموقعه القريب من الشاطئ، ومساحته المتسعة التي تمنح من به خصوصية لا مثيل لها إن حاوطه بسورٍ مرتفع. لمسة حنون شعرت بها على جانب كتفها الأيسر فأخرجتها من تحديقها فيه، التفتت للجانب لتجد "همسة" تبتسم لها في رقة، وعلى الرغم من كون الاثنتان تتشاركان في كل شيءٍ تقريبًا إلا أن صفاتهما مختلفة؛ فـ "فيروزة" حادة الطباع، متقلبة المزاج أحيانًا، مثابرة، عنيدة، لا تقبل الهزيمة مُطلقًا. أما "همسة" فتمتاز بالرقة، بالطباع اللينة، بالقناعة، والرضا، بالإضافة لنقطة ضعفها أو ما يمكن تسميته مجازًا بعيبها الخطير؛ الخوف من المواجهة مع الآخرين. تساءلت الأخيرة في اهتمامٍ وهي تضم ياقتي بلوزتها معًا:

-مش بردانة يا "فيرو"؟

تطلعت "فيروزة" أمامها قائلة بعدم اكتراثٍ:

-لأ، مش أوي.

اقشعر بدن "همسة" من النسمات الباردة التي ضربت بوجنتيها، ثم قالت وهي تحاول تضم الشال الذي ترتديه حول كتفيها لتستعيد إحساسها بالدفء:

-الجو ساقعة، الشتا شكله السنادي هيبتدي بدري.

قالت "فيروزة" في فتورٍ:

-وإيه الجديد؟ ما احنا متعودين على كده.

ردت بصوتٍ شبه مرتعش تأثرًا بإحساسها بالبرودة:

-أنا بأحبه أوي.

نظرت لها من طرف عينها قبل أن تعلق:

-أنا لأ!

رددت باستغرابٍ:

-إنتي غير الكل، الناس بتحب الشتا والجو ده.

أغمضت عينيها للحظة لتتجنب الذكريات المؤلمة التي تحاول اقتحام عقلها فتنغص عليها نهارها، ثم زفرت بقوة لتتساءل بعدها:

-مقولتليش رأيك في موضوع عربية الأكل

أجابت بترددٍ محسوس في صوتها:

-هي فكرة مش بطالة، بس ماما هانقولها إيه؟

صمتت "فيروزة" للحظة قبل أن تعقب عليها:

-سبيها عليا، أنا هاعرف أقنعها.

حذرتها "همسة" بجدية واهتزازة بؤبؤاها واضحة لشقيقتها:

-أنا مش عاوزة أكدب عليها!

حاولت الأخيرة الابتسام لتمنحها شعور الثقة وهي تقول مؤكدة:

-أنا هاتصرف معاها، اطمني.

عادت "همسة" لتتساءل بتوترٍ لم تخفه:

-بس تفتكري خالك هيوافق؟

احتقن وجه أختها نسبيًا حينما رددت على مسامعها تلك الجملة التي تشير إلى التدخل السافر لخالهما الوحيد في شئون حياتهما، قالت باحتجاجٍ ناقم:

-وخالنا ماله أصلاً؟ دي حاجة تخصنا احنا.

عللت لها:

-ما إنتي عارفاه مش هايعدي الموضوع كده بالساهل.

رفعت "فيروزة" حاجبها تشير لها:

-ما احنا مش هانقوله.

شحب وجهها نسبيًا من جراءتها المتهورة وردت متسائلة:

-طب افرضي عرف؟ أكيد مش هايسكت وهايعملها حكاية ومشكلة كمان.

نفخت هاتفة في ضيق انعكس على قسماتها وكذلك نظراتها:

-أنا مش عارفة هو غاوي يتدخل ليه في حياتنا؟ ده حتى ما بيساعدش بمليم!

بالرغم من موافقتها إياها في الرأي إلا أنها دافعت عنه قليلاً فقالت:

-بس هو خالنا حتى لو مش عاجبنا تصرفاته!

اغتاظت "فيروزة" من اتخاذها لصفه فاسترسلت موضحة لها بحدةٍ طفيفة علها تفيق للواقع المحيط بهما وتدرك حقيقة الأمور:

-"همسة" إنتي شايفة مصاريفنا بقت عاملة إزاي؟ تفتكري مع الحياة الغالية اللي احنا عايشين فيها الكام ملطوش اللي بيديهم لأمك من نصيبها في الأرض هيكفوا؟ ده يدوبك بالعافية احنا مقضينها، طب افرضي حد فكر يتقدم ويخطب واحدة فينا، ساعتها ماما هاتجهزنا منين؟ ولا تكونيش مفكرة إنه هيطلع من جيبه ويدينا، ده "حمدية" ترفعله حواجبها وتقلبها عليه وعلينا.

رمشت أختها بعينيها في قلقٍ حائر، لذا سألتها:

-والعمل؟

أجابتها عن ثقة تامة غير مبالية بتبعات قرارها:

-همشي في المشروع بتاعنا، إنتي عليكي الطبيخ وأنا عليا التسويق والبيع، واحنا لا أول ولا آخر ناس عملوا كده.

شعرت "همسة" بالخوف يضرب عقلها، كانت تخشى من ردة فعل الجميع إن عرفوا بما تنتوي أختها فعله بحثًا عن لقمة العيش بعد أن تعذر على إحداهما العثور على وظسفة مناسبة براتبٍ معقول، لعقت شفتيها بطرف لسانها قبل أن تغمغم بأنفاس عبرت عن ارتعادها:

-ربنا يستر!

................................................

تنهيدة بطيئة مليئة بالهموم خرجت من صدرها وهي تمسح بأصابعها على زجاج الصورة الفوتغرافية التي تضم أغلى ما في حياتها المليئة بالوحدة والشقاء؛ ابنتيها. هي تذكر تلك اللقطة جيدًا، حينما احتفلت الاثنتان بتخرجهما؛ فـ"فيروزة" خريجة كلية التجارة، و"همسة" الاقتصاد المنزلي. تطايرت خصلات شعرهما الأسود بفعل الهواء وشكلت خلفية مثالية لألوان ثيابهما المبهجة، لامست وجهيهما الضاحكين بإبهامها رامقة الاثنتين بنظراتٍ حزينة ومتحسرة، فابنتاها اقتربتا من منتصف العشرينات ولم يتقدم أحدهم لخطبة أيًا منهما بالرغم من اللمحة الجمالية البسيطة التي تمتلكاها لتزداد قساوة الحياة معهما وتحرمهما من حق التمتع بالزواج والخطبة، ألا يكفي حرمانهما من الأب الحنون الذي يغدق عليهما بمحبته وأمانه؟ ألا يكفي اعتزالها للزواج من بعد وفاته غدرًا في رحلة الصيد المشؤومة لتعكف على تربية الصغيرتين بمفردها دون معيل حقيقي؟ دمعات متسللة ملأت طرفيها ألمًا على حالهما البائس. كفكفتهم "آمنة" سريعًا قبل أن تلمحها إحداهما مصادفة، حاولت إلهاء عقلها عن التفكير في شأنهما بأداء ما تبقى لها من أعمال المنزل، هتفت صائحة بصوت مضطرب حينما سمعت النقر على زجاج الشرَّاع:

-أيوه يا اللي بتخبط، جاية أهوو.

ضبطت عقدة منديل رأسها وهي تسرع الخطا نحو باب المنزل، فتحته راسمة على شفتيها ابتسامة بسيطة وهي ترحب بشقيقها الذي عــاد لتوه قائلة له:

-حمدلله على السلامة يا أخويا، نورت بيتك

قال لها بوجه جاد ونبرة رسمية:

-إزيك يا "آمنة"؟ أنا قولت أعدي عليكي أنولك الأمانة بتاعتك وشوية الحاجات دي قبل ما أطلع شقتي

تأملت ما أحضره لها من شنط بلاستيكية تحوي بعض الخضر والفاكهة، تناولته من يديه مرددة في امتنانٍ:

-تعيش ياخويا، دايمًا فاكرني.

دس "خليل" يده في جيب قميصه، ثم أخرج منه مغلفًا صغيرًا مطويًا، مد يده به نحوها قائلاً بنفس اللهجة الروتينية المملة:

-فلوسك أهي معاكي، كده مش ناقصك حاجة؟

أخذت المغلف منه وأطبقت عليه بأناملها تشكره:

-الحمد لله، دايمًا عامر يا رب

نفخ قائلاً في تعب بعد أن أنهى مهمته المعتادة:

-أنا هاطلع أريح من المشوار الطويل ده

أيدته الرأي:

-وماله يا "خليل"، حقك ترتاح، وأنا شوية وهابعتلك بالبنات بالأكل، ما أكيد "حمدية" تعبانة ومش هاتقدر تطبخ

قال لها بامتعاضٍ:

-العيال قرفوها طول الطريق وطلعوا عينها

حاولت التهوين عليه فقالت:

-الله يقويها عليهم، اطلعلها بدل ما تقلق عليك

هز رأسه بإيماءة صغيرة ليودعها بعدها ويصعد على الدرج متجهًا للطابق العلوي حيث يوجد مسكنه، تابعته "آمنة" بنظراتٍ مهتمة حتى اختفى عن عينيها فأغلقت الباب وانحنت تحمل ما أحضره لتضعه في مكانه بالمطبخ قبل أن يفسد.

.................................................. ......................

بشموخٍ وهامة منتصبة وقف ذاك الرجل الذي قارب عمره على منتصف الخمسينات وسط عماله أمام دكانه الشهير الخاص ببيع الخضروات والفاكهة يدير الأعمال بخبرته العريضة في ذلك المجال، تركزت أنظار "بدير" مع الشاحنة الكبيرة المرابطة عند ناصية الزقاق الضيق والتي تعبئ بصناديق الفاكهة والخضار المنتقاة بعناية فائقة والمعدة خصيصًا لطهاة السفن السياحية حيث رحلاتهم التي تمتد للأشهر وتستلزم وجود كميات كبيرة من الطعام، كان يراقب أداء رجاله ويتفحص الصناديق واحدًا تلو الآخر ليضمن تقديم جودة عالية لزبائنه، استدار برأسه للجانب حينما سمع محامي العائلة يناديه، ترك ما في يده واتجه إليه، التقط المحامي أنفاسه قائلاً في حماسٍ وتفاؤل:

-البشارة جت يا حاج "بدير".

برقت عيناه بلمعانٍ غريب وقد فطن إلى ما يرمي إليه، خفق قلبه واعتلى وجهه المجعد ابتسامة مليئة بالأمل قبل أن يعده:

-لو طلع كلامك صحيح يا سي الأستاذ لأحلي بؤك على الآخر.

رد مؤكدًا وهو يضبط رابطة عنقه غير المهندمة بيده:

-وأنا مش بأجيب غير الأخبار الجد يا حاج.

عبث "بدير" بلحيته البيضاء قائلاً في حبورٍ وبهجة:

-يـــاه، أخيرًا "تميم" هيطلع من السجن، ده أنا كنت خايف أموت قبل ما أشوفه.

قال له محاميه:

-العمر الطويل ليك يا حاج، مافيش حاجة بعيدة عن ربنا

رد عليه بتنهيدة طويلة:

-الحمد لله

ثم ما لبث صوته تحول للحماس من جديد وهو يكمل:

-أما ألحق أبشر أبويا الحاج "سلطان" بالأخبار دي.

تساءل المحامي في اهتمامٍ:

-صحته عاملة إيه دلوقت؟

رد مستخدمًا يده في الإشارة:

-أهوو.. يوم كده، ويوم كده!

أومأ برأسه معقبًا:

-ربنا يباركلنا في عمره، سلميلي عليه يا حاج

قال مجاملاً:

-يوصل، عن إذنك يا أستاذ.

تحرك بعدها "بدير" في اتجاه عماله يأمرهم بمتابعة إكمال تعبئة باقي الشاحنة بالصناديق ريثما يصعد إلى منزله ليطمئن على والده ويبشره بما عرفه من أخبار رائعة.

.................................................. .

سعالٌ مؤذي لحنجرته أصابه لأكثر من دقيقة وهو يحاول استعادة انضباط أنفاسه بعد أن اختنق صدره بالدخان الكثيف لنارجيلته المتقدة، ربت "نوح" الجالس على ميمنته على ظهره بقوة حتى يهدئ، ثم سأله بصوتٍ ثقيل وهو يسحب نفسًا من خاصته:

-إنت كويس؟ مكانش كام نفس خدته ورا بعض!

تطلع إليه "هيثم" بعينيه الحمراوتين من تأثير الدخان عليه ليجيبه بحنقٍ:

-أنا تمام يا عمنا، دي حاجة بس وقفت في زوري.

ورغم عدم اقتناع الأخير برده إلا أنه ادعى تصديقه ليتجنب بوادر مشادة كلامية معه ربما تنتهي بعراكٍ حامٍ تتحطم فيه المقاعد الخشبية ويتكبد صاحب المقهى خسائر فادحة لكون الأول معروفًا برعونته وأفعاله الطائشة. تجرع "هيثم" ما تبقى في كوب الشاي الخاص به ليدس يده في جيب بنطاله باحثًا عن النقود، لم يجد ما يكفيه، فالتفت لصديقه الملازم له يطلب منه بسماجةٍ:

-بأقولك إيه، الحساب عندك المرادي.

اعترض بتذمرٍ:

-هو كل مرة كده؟

رد بنبرة متنمرة:

-معييش فلوس، بكرة أردلك اللي دفعته الطاق عشرة!

حك "نوح" طرف ذقنه معلقًا في تهكمٍ:

-أهوو كلام بنسمعه منك، ومافيش حاجة بتحصل.

استثارت حميته فاحتج بصوتٍ شبه غاضب:

-هو أنا من امتى بأكل فلوس على حد؟

أشاح بوجهه بعيدًا عنه بعد أن رمقه بنظرة مزدرية ليرد بنبرة مزجت بين التهكم والإدانة:

-بقى جوز خالتك يبقى الحاج "بدير سلطان" على سن ورمح وحالك يبقى كده!

قطب جبينه متسائلاً:

-قصدك إيه؟

نفس بطيء مليء بالدخان ارتفع عاليًا من جوفه ليقول موضحًا في مكرٍ:

-تشوفلك مصلحة معاه يطلعلك منها قرشين.

لم يكن حديثه الغامض مفهومًا، ولم تكن حالته المزاجية تسمح له بالمكوث وسؤاله باستفاضة أكبر ليعي غرضه، هب "هيثم" واقفًا ورمقه بنظرة جافة قائلاً له بسخافة منهيًا معه جلسته المضيعة للوقت:

-بأقولك إيه، أنا دماغي مش رايقة السعادي، نتكلم بعدين

لوح له بخرطوم نارجيلته وهو يرد:

-أه وماله .. وأهوو الحساب يجمع

كز "هيثم" على أسنانه في غيظٍ من طريقته التي تستفزه، بصعوبة واضحة على تعابيره حاول كبح جموحه الذي يهدد بالانفجار ليشتبك مع رفيقه، نظرة أخرى مليئة بالحقد تسلطت على "نوح" الذي بدا وكأنه يتجاهله ليستدير متجهًا إلى سيارة النصف نقل المملوكة إليه، استقر خلف عجلة القيادة وأدار المحرك، ثم قام بتشغيل إحدى تلك الأغنيات الشعبية الصاخبة التي ينوح فيها المطرب على ماضيه وحاضره وبدأ في الدندنة معها، تحرك مبتعدًا عن المقهى ليتسكع بلا هدفٍ في الشوارع كنوعٍ من تفريغ شحنته المكبوتة حتى تحط دمائه المحتقنة ويستعيد ثباته الانفعالي ..................................... !!!

.................................................. .............




منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 28-03-20, 09:11 PM   #4

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9 الفصل الثاني

الفصل الثاني

أمسكت بالصينية الدائرية المغطاة جيدًا بعد أن قامت برص الأطباق المليئة بالطعام فيها بشكلٍ مرتب لتقدمها لخالها وزوجته وأبنائه، وبحذرٍ بالغ رفعت يدها للأعلى بعد أن ألصقت حافتها بصدرها لتتمكن من قرع الجرس، تراجعت "همسة" خطوة للخلف راسمة على وجهها البشوش ابتسامة لطيفة وهي تتمنى في نفسها ألا تتشاجر مع تلك المتغطرسة الفظة، رمشت بعينيها حينما فتحت لها "حمدية" الباب، حاولت عدم التحديق في قميصها المنزلي الأحمر ذي فتحة الصدر العريضة والتي تبرز مفاتنها المتهدلة بشكلٍ فجٍ ومقزز، غضت بصرها وبادرت مرحبة بتهذيبٍ وتواضع:
-حمدلله على السلامة يا مرات خالي، نورتوا بيتكم، المكان مكانش ليه حس من غيركم الأيام اللي فاتت...
استطاعت تلك المرأة ذات الملامح الخبيثة والنظرات غير المريحة أن تلاحظ إبعادها لعينيها عنها، ظنت أن في ذلك إساءة لها، لذا تغنجت بجسدها المليء بكتل الشحم ورفعت ذراعها لتستند به على حافة الباب، منحتها نظرة دونية تعبر عن تأففها منها وهي تكمل ببسمتها الرقيقة:
-ماما جهزت الأكل من بدري عشان آ....
عبثت "حمدية" بذيل شعرها الذي يلتف حوله أنشوطة عريضة من اللون الأحمر بشكلٍ صبياني لا يتماشى مع عمرها المتجاوز لمنتصف الأربعينات، ثم رفعت حاجبها الرفيع للأعلى في حركة تعبر عن سخطها، لم تمنحها الفرصة للثرثرة أكثر من ذلك فقاطعتها بسماجة:
-ابلعي لسانك شوية!
تحرجت من ردها غير المقبول واكتست تعبيراتها بالخجل، تحركت زوجة خالها نحوها لتمنعها من الولوج للداخل مشيرة لها بعينيها القاسيتين لتتراجع خطوتين للخلف كتعبير عن رفضها لوجودها، تسمرت قدما "همسة" في مكانها وبقيت متصلبة الجسد محاولة التغلب على الدمعات الخجلة التي تتسلل إلى مقلتيها، فتلك تعد إهانة كبيرة من قبلها وهي لم تفعل ما يسيء، بل على العكس كانت أكثر ذوقًا عنها. أزاحت "حمدية" الغطاء لتنظر إلى ما أحضرته، عبرت تعبيراتها الواجمة، وحركة شفتيها الممتعضة، بالإضافة إلى نظراتها المستاءة عن عدم رضائها، ثم زادت الطين بلة بسؤالها الوقح:
-ده بس اللي أمك طبخته؟
ارتبكت "همسة" وهي تجيبها:
-أيوه..
علقت عليها بأسلوب فظ يبعث على النفس الضيق وهي تلقي بالغطاء على الأرضية:
-يا ريتها ما عملت، إيه القرف ده؟ هو احنا بنشحت منكم؟ ده "خليل" طفحان الدم عشان يجيبلكم حاجتكم!
تغللها شعور متعاظم بالإحباط فور أن سمعت ما تفوهت به، خاصة أنها كانت شاهدة على المجهود المبذول من قبل والدتها لتعد ألذ أنواع الطعام وأكثرها شهية، لذا دافعت عنها بغريزية صادقة:
-يا مرات خالي ماما عملتلك كل اللي بتحبيه، وواقفة على رجلها من صباحية ربنا عشان متتأخرش عليكم، تبقى دي أخرتها؟
مطت شفتيها في ازدراء محتقر غير مبالية بدفاعها البائس، رمقتها بنظرة جافية ثم تناولت الصينية وقالت لها بتهكمٍ فج:
-ياما جاب الغراب لأمه!
شهقة خافتة مستنكرة انطلقت من بين شفتي "همسة"، احتقنت عيناها بدرجة كبيرة وامتلأتا بالعبرات، شعرت وكأنهما ينفثان نيرانًا حامية، كزت على أسنانها مانعة نفسها من التفوه بأي حماقة حتى لا تتسبب في إحداث مشكلة بين خالها ووالدتها، فالمقيتة زوجة خالتها ربما ستدعي الأكاذيب لتفسد ما بين الأم وابنتها وتوغر صدرها نحوها بأسلوبها الملتوي في قلب الحقائق، أفاقت من التفكير في عواقب ردها على انتفاضة جسدها المباغتة حينما سمعت صوت الصفقة العنيفة لباب المنزل لتشير إلى وقاحتها اللا متناهية وانعدام الذوق لديها، انحنت لتلتقط الغطاء الصغير ثم استقامت واقفة واستدارت للخلف لتمسك بالداربزين حتى تهبط للطابق الأول، تجمدت مصدومة حينما تفاجأت بوجود أختها التي حتمًا تابعت ما دار بينهما من حوار، رأت على تعابيرها حمم الغضب متأججة، اعتلت "فيروزة" درجات السلم لتقف في واجهتها تسألها بنبرة مغتاظة:
-عجبك اللي عملته معاكي وإهانتها لينا؟
وضعت "همسة" يدها على ذراعها واستخدمت قوتها لتجذبها للأسفل وهي ترجوها:
-عشان خاطري يا "فيرو"، خلينا نتكلم تحت.
لوحت الأخيرة بيدها صائحة بغضبٍ وعروقها تنتفض من شدة حنقها:
-فكرك أنا خايفة منها العقربة أم أربعة وأربعين دي؟ خليها تطلع وأنا أعرفها مقامها!
توسلتها أختها برجاءٍ أشد وهي تسعى لسحبها معها نحو الأسفل:
-بلاش مشاكل الله يكرمك، بتقلب في الآخر بغم عندنا.
استشاطت "فيروزة" غيظًا من أسلوبها الهروبي والسلبي الذي تتخذه مع واحدة بغيضة كتلك، كزت على أسنانها تلومها بحدةٍ:
-ما هي طول ما شيفاكي كده هتطيح فينا زي ما هي عايزة، ومحدش هيقدر يوقفها.
نكست رأسها خزيًا لكونها متخاذلة بالفعل في تلك النوعية من المواقف وعاجزة عن الإتيان بحقها، بينما أكملت "فيروزة" هجومها قائلة:
-لأ وبتقولولي بلاش إنتي تطلعي، طبعًا ما هو لو كانت بتقول الكلام ده ليا كنت سمعتها ما تكره وعرفتها مقامها
لم تستطع "همسة" منع دمعاتها من الانسياب، فبكت أمام أختها التي تضاعف شعورها بالسوء، مالت عليها تسألها بصوتها المحموم:
-إنتي خايفة منها ليه؟
أجابتها بصوتها الباكي مبررة موقفها:
-مش خايفة، بس أنا مش بأحب المشاكل، غصب عني، دي طبيعتي، وأنا مش هاتغير.
حذرتها أختها بلهجة شديدة وقد قست عيناها:
-جُبنك ده هيوقعك في مشاكل يا "همسة"، خليكي فاكرة ده كويس!
كفكفت عبراتها بظهر كفها لترد عليها بصوتها الحزين:
-أنا راضية بحالي كده، يالا بينا
اضطرت "فيروزة" أن تكتم غضبها المندلع بداخلها حتى لا تزيد من إحساسها بالضيق بحديثها الحاد، هبطت الدرجات بخطواتٍ شبه متعجلة لتقف عند أعتاب منزلهما، التفتت تقول لأختها:
-بلاش تعيطي قصاد ماما عشان متسألكيش وهتضطري ساعتها تجاوبي
هزت رأسها استجابة لنصيحتها الثمينة ومسحت ما علق في أهدابها بأناملها، سألتها في اهتمامٍ:
-كده كويس
ابتسمت لها "فيروزة" وهي تجيبها:
-أيوه..
سحبت "همسة" نفسًا عميقًا أخرجته ببطءٍ من صدرها، ثم نجحت في وضع تلك الابتسامة الزائفة على ثغرها قبل أن تقول كذبًا بنبرة عالية:
-طنط "حمدية" بتشكرك يا ماما على تعبك
تنهدت "آمنة" قائلة بارتياحٍ:
-الحمدلله إن الأكل عجبهم..
ثم أخذت نفسًا ولفظته لتضيف بتعبٍ ملموس عليها:
-هاخش أوضتي أنام شوية، لأحسن مش قادرة من عضمي، الأكل عندكم يا بنات.
قالت "همسة" في امتنانٍ:
-تسلمي يا ماما، ارتاحي إنتي
كتفت "فيروزة" ساعديها وهي تتأمل المشهد المحبط بكافة المقاييس، الكل يدعي رضائه بالوضع وهي وحدها من تقاوم استغلال الآخرين واستغفالهم، لم تتقبل تلك التمثيلية السخيفة وانسحبت لتنزوي في غرفتها وقد فقدت شهيتها لتناول أي شيء.
.................................................. .......
بكل حيوية ونشاط وخفقات قلب غير هادئة لفت تلك الشابة التي تجاوز عمرها منتصف العشرينات بقليل حجابها المزركش حول رأسها، أخفت خصلة متمردة تأبى الانصياع مع مثيلاتها. قامت "خلود" بقرص خديها بإصبعيها لتلهب بشرتها قليلاً فيظن من يتطلع إليها أن وجنتيها يكسوها حمرة طبيعية مغرية، لم تبالغ في وضع مساحيق التجميل أو حتى أحمر الشفاه، اكتفت بمسحة خفيفة من (زبدة الكاكاو) ذات اللون الكريمي لترطب شفتيها. لم تنتبه تلك الشابة ذات العينين العسليتين إلى والدتها "بثينة" التي استندت بكفها على باب الغرفة تتأملها في صمت وضيق، فمن هم في مثل عمرها حظين بزوجٍ وعدة أبناء، أما خاصتها فرفضت الارتباط بغيره رغم سنواته الضائعة في الحبس، بقيت وافية على عهدها معه.
تذكرت "بثينة" تلك اللحظة المميزة التي نضج فيها جسد ابنتها وأعلن عن بزوغ فجر أنوثته، حينها اقترن اسمها بزوج المستقبل وابن أختها "تميم"، توقفت عن إكمال تعليمها بحصولها على شهادة التعليم الثانوي بعد رسوبها لعامين متعاقبين، وهيأت نفسها للزواج منه بعد خطوبة استمرت لبضعة أشهر، لكن تلك المشاجرة الدامية في سوق الجملة أفسدت كل شيء وأطاحت بمخططاتها الوردية، حيث زج به في السجن وحكم عليه بالحبس لمدة عشر سنوات، وقضى منهم سبعًا. آنذاك رفضت "خلود" التخلي عنه لتقترب من العنوسة بإصرارها عليه. لم ينتقص حبها له ولو بمقدارٍ ضئيل، بل على العكس حاولت إسعاده بشتى الطرق حينما تذهب لزيارته مع العائلة بالرغم من تذمره وانزعاجه من قدومها لذلك المكان غير الملائم، واليوم فرحتها لا توصف لذهابها معهم لاستقباله بعد السماح بخروجه ضمن المجموعة المُفرج عنهم بعفوٍ مشروط قبل انتهاء مدتهم كاملة، التفتت لتجد أمها مسلطة لبصرها عليها، سألتها في لهفةٍ:
-ها كده شكلي حلو؟
أجابتها بتنهيدة شبه مطولة مبدية اعتراضها:
-أيوه يا "خلود"، بس مكانش ليه لازمة إنك تروحي معاهم، جايز أبوه يضايق ولا......
قاطعتها بعبوسٍ منزعج:
-أنا خطيبة ابنه يا ماما، وكلها كام يوم بعد ما "تميم" يشم نفسه وأبقى مراته، يعني لا أنا غريبة ولا مش من العيلة
أشارت لها والدتها بعينيها تؤكد عليها:
-عمومًا لو حد ضايقك ماتسكتيش، إنتي بنت "بثينة"، وألف مين يتمناكي، ولولا بس أنا شيفاكي متعلقة بيه كنت فركشت الجوازة دي من يوم ما اتحبس
ردت عليها باحتجاجٍ منفعل:
-يا ماما أنا بأحبه، روحي فيه، ماتخيلتش نفسي مع حد تاني غيره.
قالت من بين شفتيها في لمحةٍ تهكمية:
-يا ريت يكون زيك، والسجن مغيروش.
علقت عن ثقةٍ كبيرة:
-أنا عارفة "تميم" كويس، قلبه ميال ناحيتي وبيحبني!
وقبل أن تنغص عليها نهارها بالمزيد من الاعتراضات عادت "خلود" لتبتسم وهي تقول لوالدتها:
-أنا هالحق أروح لجوز خالتي عشان متأخرش عليهم، سلام يا قمر.
رمقتها "بثينة" بنظرة غير راضية من عينيها، لم تسعَ لإخفاء ضيقها عنها، فـ "تميم" بالنسبة لها قد أفسد على ابنتها الكثير من الفرص الرائعة بتمسكها غير المستساغ به.
.................................................. ..
اشرأبت بعنقها وشبت على قدميها لتنظر بتركيز إلى السيارات القادمة من أول الطريق علها تلمح خاصتها، فعلى حسب الميعاد المتفق عليه فإن اليوم هو تاريخ تسلمها لعربة الطعام القابلة للجر، تلك التي ستكون نقطة البداية لانطلاق مشروعها لجني الأموال عن طريق بيع المأكولات البسيطة الجاهزة كالسندوتشات وسلطة الفواكه بأسعارٍ شبه رمزية. استطاعت بعد عناءٍ أن تتدبر النقود اللازمة لشرائها بعد اشتراكها مع شقيقتها في جمعية شهرية مع بعض رفقاء الكلية ممن ما زالوا على صلة بهما. استغلت "فيروزة" فرصة ذهاب والدتها لشراء الخضراوات من السوق القريب -كعادتها في ذلك اليوم من كل أسبوع- ليكون يوم استلامها، وما ساعد على زيادة شعورها بالاطمئنان والارتياح سفر خالها مع زوجته وأبنائه في مأمورية عمل تخص الأول، انتظرت على أحر من الجمر وصول سيارة النقل. تطلعت كل بضعة ثوانٍ لشاشة هاتفها في لزمة متوترة منها لربما يردها الاتصال من مسئول الشحن. كانت أختها تقف إلى جوارها تثرثر بلا توقفٍ، ومع هذا لم تنتبه لها، كان كامل اهتمامها منصبًا على الطريق. صاحت "همسة" عاليًا بعد أن ضجرت من تجاهلها غير المكترث بها:
-يا "فيروزة" إنتي مش سمعاني؟
التفتت نحوها وهي تنفخ في ضيقٍ، ثم ردت بإيجاز:
-أيوه سمعاكي، خير؟
سألتها في قلقٍ وهي تعيد إزاحة خصلات شعرها المتناثرة بفعل الهواء خلف أذنيها:
-دلوقتي ماما هتقول إيه لما تشوف العربية هنا؟ وخالك أكيد هيقلب الدنيا!
ردت بلهجة جافة:
-أنا هاقنعها متقلقيش، وخالك فكك منه، طالما ماما راضية يبقى خلاص.
اقشعر بدنها من البرودة المنتشرة في الأجواء، فشبكت ذراعيها وضمتهما إلى صدرها علها تدفء نفسها، ارتجفت نبرتها قليلاً حينما أضافت بنفس التوجس السائد عليها:
-مش مطمنة يا "فيرو"، حاسة إننا هنفتح على نفسنا فاتوحة إحنا مش أدها.
رمقتها "فيروزة" بنظرة جامدة من طرف عينها دون أن ترد، لم يؤثر بها خوفها ولا نصائحها المبالغ فيها بالتراجع عن ذلك المشروع الذي فكرت فيه عشرات المرات واضعة الخطط اللازمة لدراسته قبل تنفيذه على أرض الواقع، لن تتراجع عنه الآن بعد أن أوشكت على تحقيقه. لمحت إحدى سيارات النقل الصغيرة وهي تنعطف نحو منزلهما فهتفت بحماسٍ لاكزة شقيقتها في جانبها:
-شكل العربية جت.
التفتت "همسة" تنظر في اتجاه السيارة وعيناها متسعتان على الأخير، فعربة الطعام التي تحملها كانت نوعًا ما كبيرة الحجم ولافتة للأنظار بالرغم من لون الطلاء الأسود الطاغي عليها، لوحت "فيروزة" بيدها لسائق السيارة ليتوقف أمام الرصيف المقابل لمدخل المنزل، وترجل منها رجلان ليحلا وثاق العربة المربوطة بالأحبال الغليظة، أنزلاها بحذرٍ على الرصيف، شكرتهما "فيروزة" على تعبهما ومنحتهما المبلغ المتفق عليه لنقلها وتحميلها، انتظرت حتى انصرفا لتدور حول العربة تتفحصها بتلهفٍ واهتمامٍ مضاعفين، رفعت عينيها لتنظر إلى "همسة" متسائلة:
-ها إيه رأيك فيها؟
أجابتها بإعجابٍ بادٍ على تعبيراتها وعينيها:
-شكلها تحفة.
تلمست "فيروزة" كل جزءٍ في العربة وقلبها يخفق في سعادة، ها هي تخطو بثباتٍ نحو تحقيق حلمها بإثبات الذات، شردت لوهلةٍ تتخيل إقبال الناس عليها لشراء الطعام الشهي ومدحهم لمذاقه ونجاحهم في جني الأرباح الكثيرة لتنتقل بعدها لخطوة أخرى هامة وهي امتلاك محل خاص بها كنوعٍ من التوسع في الأعمال، وجدت نفسها تبتسم تلقائيًا مع تعمق أحلامها المثمرة، انتشلتها "همسة" من تحليقها الوردي في سماء الأحلام بسؤالها:
-هنحطها فين؟
حكت طرف ذقنها بيدها قبل أن تجيبها مقترحة:
-إيه رأيك لو سيبناها مؤقتًا ورا البيت.
-ماشي.
بدت فكرة جيدة لوضعها به حتى ترتب كلتاهما أوضاعهما، لذا قامت الاثنتان بدفع العربة ذات العجلات الأربع للأمام وقاما بإدخالها لباحة المنزل الخلفية، حيث تحتفظ العائلة بمعظم الكراكيب القديمة والأدوات غير المستخدمة. نفضت "فيروزة" يديها والتفتت قائلة لأختها بلهجة شبه آمرة:
-مش عاوزين نضيع وقت، هاتي حتة قديمة نلمعها بيها، وأنا هاروح أجهز الحلل والأطباق اللي هنحطها جواها
هزت "همسة" رأسها بالإيجاب وأسرعت ركضًا للمنزل لتنفذ ما أمرتها به، وقفت الأولى تتأمل حلمها الذي بات وشيكًا من التحقيق بحماسٍ واستعدادٍ كبير، هي ستبدأ بإمكانات ضئيلة، لكنها واثقة أن أعمالها ستتسع بمرور الوقت، وأثناء سعيها الدوؤب ستخوض معاركًا جمة مع الأقربين أولاً قبل الغرباء لتثبت كفاءتها في إدارة مشروعها الصغير.
.................................................. .........................
-يا لهوي! إيه اللي أنا شيفاه ده؟!
رددت "آمنة" تلك الكلمات المصدومة وهي تلطم على صدرها في قوةٍ حينما أطلعتها "فيروزة" على ما تنتوي فعله وأبصرت بعينيها تلك العربة لتؤكد لها على عدم عدم تراجعها عن إتمامه، انتابتها حالة من الخوف والانزعاج لجرأتها، وبالرغم من المبررات المنطقية التي حاولت إقناعها بها ومن التسهيلات التي ستقوم بها لتضمن تحقيق النجاح إلا أنها أبت الإصغاء إليها وأصرت على رفضها دون نقاش، انسحبت من باحة المنزل الخلفية مستديرة بجسدها، لحقت بها ابنتها لتعترض طريقها فأجبرتها على التوقف، التقطت أنفاسها وهي ترجوها:
-طب هي مش عجباكي ليه؟
ردت مستنكرة بلهجةٍ يشوبها الانفعال:
-هو في حد عاقل يوافق على الجنان اللي بتقوليه ده؟ بقى على آخر الزمن عاوزة تقفي تبيعي في الشارع يا "فيروزة"، لأ وبتجري أختك معاكي، أل هي ناقصة فضايح وقلة قيمة!
زوت ما بين حاجبيها مرددة في تساؤلٍ متعجبٍ:
-وإيه المانع يا ماما؟
احتدت نظراتها نحوها تلومها:
-المانع؟؟ إنتي مش شايفة نفسك غلطانة؟
ردت ببرودٍ مدافعة عما تريد:
-غلطانة في إيه طيب؟ أنا عاملة مشروع زي أي حد ما بيعمل، فكرته بسيطة، هانطبخ ونبيع الأكل للناس ونكسب منه، وبعدين هنقف هنا على الكورنيش جمب البيت بكام متر، يعني حضرتك يا ماما تقدري تشوفينا من الشباك أو حتى تقفي معانا.
هزت رأسها محتجة وهي تعقب عليها:
-برضوه مش موافقة، وخالك لما هيعرف هيبهدلنا، وأنا مش ناقصاه!!
هنا خرجت "فيروزة" عن حالة الهدوء الزائفة لتقول بتشنجٍ:
-إنتو ليه محسسني إني بأتاجر في المخدرات؟ زمايلي كلهم بيعملوا مشاريع زي كده، ونجحوا وأثبتوا نفسهم ومحدش قالهم لأ، اشمعنى أنا؟
أجابتها ببساطة:
-لأنك بنت.
تشنج جسدها أكثر من ردها الذي بدا من وجهة نظرها مستفزًا، وقبل أن تختنق شرايينها بدمائها الفائرة لطفت والدتها من الأمر علها تتخلى عن فكرتها المتهورة فاستعطفتها:
-يا ماما، عشان خاطري، افهميني، أنا زهقت من أعدة البيت وعاوزة أعمل حاجة مفيدة، وأنا درست الموضوع كويس، وبعدين هنقدر نحوش فلوس عشان لما نتجوز.
ردت عليها أمها تحذرها في عصبيةٍ:
-أنا مقصرتش معاكو في حاجة! بلاش تجروا رجلينا للمشاكل.
قالت بإصرارٍ:
-مافيش مشاكل إن شاء الله
-برضوه راكبة دماغك؟
لجأت لإقناعها أكثر بهدوءٍ ومنطقية موضحة لها:
-احنا عارفين ده كويس، بس الحياة غالية، والمصاريف كل مدى بتزيد، ومعاش بابا الله يرحمه مش مكفي مع الريع اللي بيطلعلك من أرضك، افرضي حصل حاجة وحشة لا قدر الله، هانجيب فلوس منين؟ وخالنا يدوب مكفي بيته وعياله، ولا نسيتي يا ماما اللي حصل أيام موضوع البيت؟!
ضغطت "آمنة" على شفتيها في ضيقٍ ممتعض، فما تتفوه به حقيقة مفروغ منها وإن أنكرتها، هي لا تملك من الأموال ما قد يغطي أي ضائقة مالية طارئة قد تحدث، وأخيها ليس بالخيار الأفضل لتقديم المساعدة، سرحت تفكر في لجوئها له قبل بضعة سنوات، تذكرت مساومته لها في شراء حصة بالمنزل الذي تركه لها زوجها بعد أن تعذر عليها سداد الأقساط الأخيرة لوفاته المفاجئة مقابل تسديده لهم، وبالرغم من التعويض المادي الذي تلقته إلا أنه لم يكن كافيًا لدفع باقي المستحقات. أدركت "فيروزة" من سكوت والدتها أنها ربما تعيد التفكير في الأمر، ظنت أن الفرصة مناسبة للضغط عليها وتليين رأسها المتيبس حتى تحظى بموافقتها، تلمس ذراعها بيدها تتوسلها:
-صدقيني يا ماما، مافيش منها أي ضرر، ولو حصل منها مشكلة أنا بنفسي هالغيها.
زمت أمها شفتيها متسائلة في قلقٍ بائن على تعبيرات وجهها المرهقة:
-طب وخالك؟
تشكلت ابتسامة لطيفة على محياها وهي تقول بنبرة ذات مغزى:
-البركة فيكي إنتي يا حبيبتي.
رددت الأخيرة في استسلامٍ وقد رضخت تقريبًا للأمر الواقع أمام عناد ابنتها:
-أنا مش عارفة إنتي ناوية تعملي فيا إيه؟!
احتضنتها "فيروزة" في عاطفةٍ ومحبة بعد أن فطنت لموافقتها الضمنية، شدت من ضمها لها لتغرق في أحضانها الآمنة قائلة لها:
-كل خير يا ماما.
أغمضت عينيها لتستمتع بانتصارها الذي ظفرت به بعد صعوبة، تبقى لها أن تثبت لوالدتها أنها كانت جديرة بثقتها.
.................................................. ......
تجمدت الأعين المشتاقة على البوابة الحديدية السميكة، خاصة عيناها اللاتين تتوهجان في حبٍ، سيطرت بصعوبة على مشاعرها المتحمسة لرؤيته، فلو كانت بمفردها لأخذته في أحضانها وارتوت من حبه الذي حرمت منه، كم حلمت بتلك اللحظة التي سينال فيها حريته لتكتمل بوجوده سعادتها! همهمات خافتة متداخلة صدرت من أفواههم وقد فتح الباب الصغير الجانبي ليخرج منه الغائب المنتظر، فرحة عامرة سيطرت عليهم وتحركوا مقبلين عليه. رفع "تميم" عينيه للأعلى ليجد والده، وجده، وزوج أخته، بالإضافة إلى "خلود" ينتظرونه بالخارج أمام سيارتين تخص العائلة، على الفور تحرك أباه نحوه فاتحًا ذراعيه له، ارتمى ابنه في أحضانه يضمه بشوقٍ وحب، ردد "بدير" مرحبًا بفلذة كبده الغالي:
-حمدلله على السلامة يا ابني.
رد عليه "تميم" بصوته الأجش وهو يتراجع للخلف دون أن تترك قبضتاه ذراعيه:
-الله يسلمك يا حاج.
حرره ليذهب إلى جده الذي اتكأ على عكازه ليكون حاضرًا في تلك اللحظة الهامة حينما يلتقيه، انحنى عليه يقبل كفه المجعد يشكره في امتنانٍ واضح:
-جاي بنفسك يا جدي؟
ربت "سلطان" على كتفه قائلاً له:
-معندناش أغلى منك يا "تميم".
استقام في وقفته مقبلاً أعلى رأسه في تهذيبٍ، ثم أضاف ببسمة صغيرة:
-الله يديمك فوق راسنا يا كبير العيلة.
ربتة أخرى تلقاها كتفه منه، ثم استدار ليصافح "محرز" الذي صاح يحييه:
-كفارة يا ابن ولاد الأصول، غيبتك طولت عليا والله.
رد مجاملاً:
-تُشكر يا "محرز"، كله بيعدي، وأديني رجعتلكم.
علق مبتسمًا بتكلفٍ:
-تنور مكانك يا "تميم"، والله لا يعودها الأيام الغابرة دي تاني، أكيد إنت عقلت وعرفت إن مافيش حاجة تستاهل.
بدا وجهه جادًا للغاية بعد كلماته الحمقاء، رمقه "تميم" بنظرة نارية وهو يرد عن قصدٍ وبخشونةٍ بائنة:
-لأ تستاهل يا "محرز" وخصوصًا مع الأشكال الضالة وولاد الحرام، أنا فدا الحاج وجدي وأي حد يمس شعرة من عيلتي!
شعر زوج أخته بجفافٍ عنيف يصيب حلقه، اهتزت ابتسامته واضطربت حركة عيناه وهو يرد في حرجٍ كمحاولة بائسة في إصلاح ما أفسده لسانه:
-أكيد طبعًا، كله إلا عيلة الحاج "سلطان".
تحولت عينا "تميم" عنه لتتجه إلى تلك الجميلة التي احتضنت باقة ورد صغيرة بين ذراعيها، رأى في ملامحها بهجة وإشراقة يحسده عليها الرجال، مدت "خلود" يدها بها نحوه وهي تقول باشتياقٍ محسوس في صوتها وظاهر في تعبيراتها ولهفة نظراتها:
-حمدلله على سلامتك، أنا مش مصدقة إن الأيام عدت، الحمدلله إنك رجعتلنا وبقيت في وسطنا.
لم يبادلها نفس النظرات المتلهفة، بل نظر إلى باقة الورد بازدراءٍ، ولم تتحرك يده لأخذه مما أحرجها بشدة، سحبت "خلود" يدها للخلف وقد تسلل إليها إحساسًا مزعجًا بالارتباك الممزوج بالضيق من أسلوب معاملته غير الحميمي معها، شعرت بالإحباط والصدمة حينما سألها بجفاءٍ وجمود:
-جيتي ليه؟
وخزة مؤلمة عصفت بصدرها من قسوة كلماته المثبطة لأي فرحة تبزغ في قلبها، كادت أن تبكي وبدأت العبرات في التجمع في مقلتيها تأثرًا بما انتابها من حزنٍ مباغت، خرج صوتها إلى حد ما مهتزًا وهي تجيبه:
-ده أنا مستنية اليوم ده من زمان.
رد بنفس النبرة الجافية:
-كنتي أعدتي في بيتك أحسن، مش كتر مشاوير والسلام.
باتت قاب قوسين أو أدنى من البكاء علنًا لقسوته غير المفهومة معها، زاد انقباض قلبها كما لو كان قد غرز به سكينًا تلمًا، اغرورقت عيناها بالعبرات الكثيفة، واشتعل وجهها بحمرةٍ حرجة. استياءٌ محبط تغلغل في كيانها مع إشاحته لوجهه بعيدًا عنها وكأنها نكرة مشاعرها لا تعنيه في شيء، تابعته بعينين منكسرتين وهو يلتهي بالحديث مع عائلته لتشعر بكونها ضيفًا غير مرحب به بينهم، تهدل ذراعاها وارتخت أصابعها عن باقة الورد لتسقط على الرصيف، تركتها وسارت بخطواتٍ بطيئة نسبيًا تتبع زوج خالتها حتى وصلت للسيارة، لم تتفوه بكلمة واحدة مبتلعة مرارة الحزن في حلقها، حتى عينيها بقيتا بعيدتين عن وجهه الذي كانت تحترق شوقًا لتأمله، جلست بالمقعد الخلفي مركزة أنظارها على الطريق والشكوك تساورها بشأن استمرار حبه لها ............................... !!
.................................................. ...



منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 28-03-20, 09:12 PM   #5

مارلى
 
الصورة الرمزية مارلى

? العضوٌ??? » 166835
?  التسِجيلٌ » Mar 2011
? مشَارَ?اتْي » 1,467
?  مُ?إني » مصر
?  نُقآطِيْ » مارلى has a reputation beyond reputeمارلى has a reputation beyond reputeمارلى has a reputation beyond reputeمارلى has a reputation beyond reputeمارلى has a reputation beyond reputeمارلى has a reputation beyond reputeمارلى has a reputation beyond reputeمارلى has a reputation beyond reputeمارلى has a reputation beyond reputeمارلى has a reputation beyond reputeمارلى has a reputation beyond repute
افتراضي

الرواية حلوة قوى ومتشوقة لقراءة الاحداث القادمة

مارلى غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-03-20, 09:13 PM   #6

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9 الفصل الثالث

الفصل الثالث

استندت بوجهها على كفها وهي تتطلع بشرودٍ حزين إلى حركة الجيران بمنطقتها الشعبية من خلال نافذتها، وعلى الرغم من الصخب المزعج المنتشر في وقت الظهيرة إلا أنها كانت معزولة عنه بانخراطها في همومها، تركت لدمعاتها المختنقة العنان لتنساب على وجنتيها، كان صدرها مختنقًا على الأخير، ما زال طيف لقائها معه بعد تلك الغيبة يؤلمها، قدم لها الخيال هاجسًا مخيفًا بأنها باتت مفروضة عليه، وحبها له من طرف واحد، بالرغم من كونها لا تعرف سواه، ولم تعشق غيره، لكنه كان منذ الوهلة الأولى بعد ذلك البُعد القاسي غامضًا معها .. نادت عليها والدتها عدة مرات فلم تنتبه لها مما حث الأخيرة على الاقتراب منها وهزها بضيقٍ، اعتدلت "خلود" في وقفتها المنحنية قليلاً لتنظر إلى والدتها باستغرابٍ، مسحت ما علق في أهدابها من عبراتٍ لتسألها:
-في إيه يا ماما؟
أجابتها بوجهٍ مكفهر وصوت يعكس ضيقها:
-بنادي عليكي وإنتي ولا سمعاني!
ردت بزفيرٍ بطيء:
-معلش.. مخدتش بالي.
دققت "بثينة" النظر في وجه ابنتها الذابل، لم تكن بالساذجة لتفهم وجود خطب ما، سألتها بجديةٍ تنم عن قوة وحاجباها معقودان:
-"خلود"، بقالك يومين مش زي تملي، في حد ضايقك؟ قوليلي وأنا أتصرف.
ظهر ترددها وهي تجيبها باقتضابٍ:
-لأ .. مافيش.
سألتها مباشرة وكامل نظراتها مثبتة عليها:
-"تميم" عملك حاجة؟
للحظة توترت من سؤالها الملبك لحواسها، أجابت دون أن تنظر في عينيها حتى لا تلاحظ كذبها:
-لأ.
كانت غير مقتنعة بردها، ومع ذلك قالت لها:
-طب جهزي نفسك عشان تروحي من بدري لخالتك تساعديها في عزومة العشا بتاعة النهاردة.
عبثت "خلود" بأصابع يدها في ارتباكٍ، فكيف ستخبرها أنها غير راغبة في الذهاب إلى هناك وجرح كبريائها أكثر من ذلك بتلقي المزيد من قساوة "تميم"، ما زالت مستاءة منه، ولم يخف حزنها، ضغطت على شفتيها تعتذر بصوتٍ مهتز وعيناها تتحركان في توترٍ:
-أنا أصلي.. مش.. رايحة
علقت مصدومة مما نطقت به:
-نعم؟ بتقولي إيه؟
تعللت مدعية كذبًا:
-جسمي واجعني و.. مش هاقدر أقف كتير، خايفة أدوخ وأتعب.. خليني أروح مرة تانية.
زمت والدتها شفتيها في عدم اقتناعٍ وهي تعقب عليها:
-غريبة! مع إنك كنتي بتزني عليا عشان تروحي.
غامت عيناها وهي ترد:
-مكونتش أعرف إني هاتعب
استدارت "بثينة" برأسها للخلف حينما سمعت صوت الجرس، عادت لتنظر إلى ابنتها وهي تهم بالتحرك:
-أنا هاروح أشوف مين بيخبط.
أومأت برأسها بهزة بسيطة والتفتت تتطلع من نافذتها للزحام المتواجد بالأسفل، سحبت "خلود" أنفاسًا عميقة تخفف بها تلك الغصة المؤلمة الموجودة بصدرها، أتاها صوت والدتها من خلفها وهي تقول لها بابتسامة ماكرة وعيناها تبرقان بوميضٍ غريب:
-في ضيف جايلك برا يا حلوة.
أدارت رأسها ببطءٍ نحوها لتسألها:
-ضيف؟ مين ده؟
هزت "بثينة" كتفيها في دلال مصطنع قبل أن تجيبها بابتسامتها اللئيمة:
-"تميم" يا عين أمك!
خفق قلب "خلود" بقوة لمجرد سماعها اسمه، في لحظة واحدة تلاشت جميع أحزانها ومُحيت كل همومها، أشرقت ملامحها وتوهجت نظراتها بوهج الحب. اضطربت أنفاسها حينما رددت:
-"تـ..تميم"!
قالت في خبث:
-أه ياختي "تميم".
تملكتها حالة من الارتباك والحيرة، دارت حول نفسها غير مصدقة أنه قد جاء إليها، وقفت أمام المرآة لتضبط هيئتها سريعًا وتمسح ما تبقى من دمعاتها، قرصت خديها بأناملها وهي تتساءل في تلهفٍ مضاعف:
-شكلي مظبوط يا ماما؟
علقت عليها ساخرة:
-عجايب! اللي يشوفك من شوية مايشوفكيش دلوقتي!
نثرت "خلود" عطرها على بلوزتها الخضراء، وهندمت ياقتها ثم أرخت طرفي حجابها الأبيض وراء ظهرها، سحبت شهيقًا عميقًا تهدئ به دقات قلبها المتسارعة، وقفت قبالة والدتها ترجوها:
-ادعيلي ياماما.
قالت لها بوجهٍ عابس غير راضٍ عن تصرفاتها:
-بأدعيلك، بس إنتي اركزي كده
وكأنها لم تصغِ لها حيث خرجت من غرفتها مهرولة نحو الصالة، لمحته جالسًا عند الزاوية يحرق صدره بسجائره، رمشت بعينيها غير مصدقة أنه جاء لرؤيتها، أحست بالسعادة تغمرها من جديد فتذيب الأوجاع التي أثقلت قلبها، لكنها أرادت معاتبته على خشونته معها، لذا تباطأت عن عمدٍ في خطواتها وهي تقترب منه. أطفأ "تميم" سيجارته وقد لمحها مقبلة نحوه، نهض لمصافحتها فرفضت مد يدها نحوه وكتفت ساعديها أمام صدرها لترد له ما فعله معها حينما قدمت له باقة الورد، رمقها بنظرة حادة أربكتها، ثم سألها لها:
-دي حمدلله على السلامة بتاعتك؟
على الفور تخلت عن قناع الجمود الزائف الذي ارتدته لتعتذر منه في ندمٍ وقد تهدل كتفاها وارتخى ذراعاها:
-حقك عليا يا "تميم"، أنا مقصدش.
ثم لعقت شفتيها بطرف لسانها قبل أن تضيف بمرارة:
-بس إنت وجعتني باللي عملته معايا قصاد أهلك!
رد عليها دون مراوغةٍ:
-عشان الورد؟
أدمعت عيناها وقد تجسد المشهد في مخيلتها، رأى "تميم" عبراتها تتجمع فشعر بوخزة تؤلم حلقه، لم يحبذ أبدًا تلك النوعية من الرومانسيات العلنية، هو غيرها لا يستطيع التعبير عن مشاعره أمام الآخرين، يحتاج لنوعٍ من الخصوصية ليبوح بمكنونات قلبه، أخرج زفيرًا عميقًا من جوفه ثم جلس على الأريكة ليقول لها:
-بصي يا بنت الناس، خليني أكون واضح معاكي..
قضم باقي حديثه ريثما تجلس، ثم استأنف قائلاً بنفس اللهجة الجادة:
-الأيام السودة اللي أنا عيشتها في السجن غيرتني كتير، طول اليوم مع مجرمين وأشكال بنت .....، فمش بالساهل تلاقيني "تميم" بتاع زمان، أنا محتاج وقت عشان أعرف أتعامل مع الناس عادي، وخصوصًا خطيبتي، تصرفاتي شوية ممكن متعجبكيش، بس اديني وقتي!
امتدت يداها نحوه لتمسك بكفيه، مسحت عليهما برفقٍ وقد حدقت في عينيه بنظراتٍ هائمة، خرج صوتها محملاً بتنهيدات العشق وهي تقول:
-حبيبي، خد كل الوقت اللي إنت عاوزه، أنا مش مستعجلة، بس ماتقساش عليا، أنا بأحبك، وبأموت في التراب اللي بتمشي عليه.
تنحنح بصوتٍ خافت قبل أن يسحب كفيه من بين أناملها الناعمة، استقام في جلسته مرددًا:
-أنا جاي بنفسي أخدك للعزومة
هللت غير مصدقة وهالة سحرية من الحب تحاوط وجهها:
-بجد يا "تميم"؟
رد بغلظةٍ طفيفة:
-أكيد مش بأهزر يعني! قومي جهزي نفسك، مش عاوز أتأخر.
نهضت واقفة وهي ترد في انصياع كامل:
-على طول يا حبيبي..
همَّت بالتحرك لكنها التفتت برأسها نحوه لتضيف في رقةٍ وقد ضج وجهها بتوردٍ دافئ:
-تعرف أنا كنت لسه بأقول لماما إني لازم أروح لخالتي من بدري عشان أساعدها، وهي و"هيثم" يروحوا براحتهم، برضوه هي محتاجة حد يقف معاها.
تقوست شفتاه عن ابتسامة صغيرة ممتنة وهو يدس بينهما سيجارة أخرى يوشك على إشعالها، رمقته "خلود" بنظرات أكثر عشقًا قبل أن توليه ظهرها لتسرع في خطواتها عائدة إلى غرفتها حتى تكمل ارتداء ثيابها. استوقفتها والدتها متسائلة بتهكمٍ:
-التعب راح خلاص؟
انفرج ثغرها عن بسمة متسعة مليئة بالفرحة، مالت نحو والدتها تحتضنها وتقبلها من وجنتيها وهي تهتف في ابتهاج:
-أنا بأحبك أوي يا ماما.
علقت عليها بنبرة ساخرة:
-خلي الحب لناسه ياختي!
.................................................. ...
لا تعرف كيف وافقت ببساطة على جنونها المُسبب للفت الأنظار وجلست على مقعد بلاستيكي إلى جوار عربة الطعام الجاهز لتراقب بقلقٍ غريزي ما تفعله ابنتاها مع الزبائن. في البداية كان الوضع هادئًا بالرغم من اختيار الأختين ليوم الخميس لافتتاح مشروعهما حيث بداية العطلة الأسبوعية وخروج المواطنين للاستمتاع بالأجواء الشتوية، انزعجت قليلاً من شرائط الأنوار الجاذبة للأنظار التي حاوطت مقدمة العربة لتجذب الأعين نحوها، أشاحت ببصرها عن إضاءتها لتضم شالها الصوفي على عنقها حتى تستعيد إحساس الدفء المفقود في ذلك المكان الفسيح.. أعدت "همسة" السندوتشات الخفيفة وأضافت لها نكهات مميزة لتعطيها مذاقًا مختلفًا وأيضًا حريفًا إن طلب أحدهم طعمًا لاذعًا وحارًا، في حين تولت "فيروزة" تلقي الطلبات وتغليف الطعام فور الانتهاء منه. نهضت "آمنة" من مكانها لتذهب إلى ابنتيها بعد أن ضجرت من المكوث مطولاً بمفردها دون أن تقوم بشيءٍ مفيد، ناهيك عن تيار الهواء البارد الذي أرهق جسدها. وقفت تتطلع إلى الاثنتين الواقفتين خلف نافذة موجودة في العربة، كلتاهما ترتدي كنزة سوداء ثقيلة مطبوعٌ عليها نقوشات شتوية، ويرفعان شعرهما للأعلى ويلفان حوله منديلاً للرأس من اللون الأسود يزينه ورودًا ملونة حتى لا تتساقط أيًا من خصلاته في الطعام أثناء إعداده، تأملتهما بابتسامةٍ لطيفة سرعان ما تلاشت لتسألهما بنفاذ صبرٍ:
-هو احنا هنفضل أعدين كده لحد امتى؟
ردت عليها "فيروزة" بملامح جادة:
-لسه بدري يا ماما، الناس بتسهر للصبح.
قالت والدتها بتذمرٍ وهي تسحب شالها على كتفيها المرتعشين:
-بس أنا البرد نخر في عضمي وتعبني.
اقترحت عليها "همسة" بلطفٍ وهي تبتسم لها:
-تقدري يا ماما تطلعي تريحي، كتر خيرك واقفة معانا من بدري، واحنا كمان شوية هنقفل ونرجع البيت.
اعترضت عليها بشدة:
-وأسيبكم لوحدكم في الطل؟
صححت لها "فيروزة" عبارتها مستخدمة يدها وعينيها في الإشارة:
-طل إيه بس، ده الدنيا زحمة أهي.
انكمشت "آمنة" على نفسها من التيارات الهوائية الباردة التي تضرب وجهها، وقالت في ضيقٍ:
-أنا مش مرتاحة.
استندت "فيروزة" بكفيها على حافة النافذة لتتمكن من الانحناء نحوها، ثم ردت عليها بهدوءٍ علها تخفف من وطأة خوفها الزائد:
-يا ماما متخافيش، أديكي موجودة معانا من بدري ومافيش حاجة حصلت، الناس رايحة جاية وكل حاجة تمام التمام.
حركت رأسها للجانب قبل أن ترد عليها:
-قلبي متوغوش، وبعدين كل فين وفين لما حد يجي ناحيتكم
بررت لها عزوف الزبائن عن القدوم قائلة بمنطقية:
-ما هما لسه ميعرفوناش، بكرة لما الكل يدوق أكلنا هنبقى مش ملاحقين على الطلبات ولا الزباين.
-أما نشوف
قالتها وهي تجرجر ساقيها نحو مقعدها الموضوع بجوار العربة، في حين تساءلت "همسة" في اهتمامٍ وهي تحاول أن تطل برأسها من النافذة لتنظر إليها أكثر:
-هاتعملي إيه يا ماما؟
ألقت بثقل جسدها المنهك على المقعد لتجيبها بعدها:
-هاقعد في مكاني، ما أنا مش هاسيبكم لوحدكم.
سألتها مبتسمة:
-طيب أعملك سندوتش؟
ردت بوجهٍ متقلص ونظراتٍ متنمرة:
-لأ مش عاوزة.. ربنا يسهل وتفضوا المولد ده خلينا نرجع بيتنا.
كظمت "فيروزة" غيظها من أسلوبها المنفر والمثبط للعزائم لتقول بصوتٍ خفيض وهي تكز على أسنانها:
-شايفة الإحباط؟
همست لها أختها وهي تسحب السكين من موضعه:
-احمدي ربنا إنها وافقت أصلاً، مش أحسن ما كانت حطتلنا العقدة في المنشار ولا عرفنا نعمل حاجة.
قالت بتكشيرة جانبية على شفتيها:
-على رأيك، الحكاية مش ناقصة عكوسات!
أمرتها "همسة" بجديةٍ وهي ترص قطع اللحم في المقلاة المليئة بالزيت المتأجج على النيران:
-قطعي يالا الطماطم والخس، عشان لو حد جه طلب أوردر ما يقفش كتير.
رفعت "فيروزة" يديها للأعلى مرددة بنبرة عالية:
-ارزقنا من عندك يــــا رب!
.................................................. .......
شمر عن ساعديه وقام بثني كمي جلبابه ليتحرر ذراعاه ويستطيع مدهما بأريحية أثناء تناوله للطعام خلال المأدبة التي دعا إليها أفراد عائلته احتفاءً بخروج حفيده الغالي من محبسه. شطر "سلطان" الدجاجة المطهية أمامه إلى نصفين؛ وضع إحداهما في صحنه واستطال ذراعه ليصل إلى حفيده الجالس على ميمنته بجوار ابنه، أسندها في طبقه قائلاً له بصيغة آمرة:
-عاوزك تخلص الأكل ده كله.
رد عليه "تميم" مازحًا:
-أوامرك يا جدي، هنسفهالك
بادله جده ابتسامة راضية قبل أن تتحول أنظاره نحو "ونيسة" التي أمسكت بالمعلقة الكبيرة لتسكب بها الحساء الذي تُجيد إعداده بوصفة خاصة بها في طبقه وهي تقول:
-دوق يابا الحاج وقولي رأيك.
مد معلقته به وسحب القليل منه ليرتشفه ثم أردف في استحسانٍ:
-تسلم إيدك.
انتفخت عروقها تباهيًا برأيه الذي يضاعف من فخرها بمهاراتها في الطهي، وشرعت توزع على باقي الجالسين مستعينة بابنة أختها لتساعدها في تقديم الطعام لضيوفها، خاصة وأن ابنتها "هاجر" تعاني من آلام الحمل المعتادة في تلك الأشهر المتقدمة منه. استهلت "بثينة" حديثها مادحة عن عمدٍ لتوجه الأنظار نحو ابنتها:
-طول عمرك ست بيت شاطرة يا "ونيسة"، و"خلود" طالعة زيك، مخدتش حاجة مني.
ردت شقيقتها مجاملة:
-تسلمي ياختي، بس بنتك أشطر مني.
قالت لها بابتسامة متسعة بعد ضحكة مفتعلة:
-والله دي أخدة أصول الصنعة كلها منك.
وقفت "خلود" بجوار خطيبها تقدم له الطعام، شكرها بنظراته دون أن ينبس بكلمةٍ، وفهمت هي إشاراته غير المنطوقة واحمرت وجنتاها خجلاً. هتفت "بثينة" فجأة عاليًا وصوت المعالق يضرب في الصحون:
-ما تاكل يا "تميم"، ده إنت هفتان يا حبيبي، هما مكانوش بيأكلوك في السجن؟
بدت جملتها فظة إلى حد ما وأثارت حفيظة ابنتها التي اتسعت عيناها في لومٍ من أسلوبها غير المقبول لطرح مثل تلك الكلمات الصادمة، خشيت من توتر الأجواء لكن فاجأها "تميم" بالرد بسخافةٍ قاصدًا إحراجها وربما مضايقتها:
-كنت بأكل يا خالتي بدل الطقة عشرة، بس أكل أمي لا يُعلى عليه!
اكتسى وجهها بعبوسٍ ملحوظٍ، بينما ضحكت "ونيسة" بنبرة فرحة وهي تقول:
-حبيبي يا ابني، دايمًا كده ناصف أمك.
ثم غمزت له بمكرٍ لتتحول الأنظار من جديد نحو خطيبته المرتبكة:
-بس النهاردة "خلود" اللي عاملة كل حاجة بإيدها، صح يا "هاجر"؟
أيدتها ابنتها "هاجر" في الرأي فقالت بلؤمٍ:
-طبعًا، وكله على يدي.
ردت عليها "بثينة" متسائلة بابتسامتها العريضة:
-إنتي صحتك عاملة إيه دلوقت؟
أشــارت "هاجر" إلى بطنها المنتفخ وأجابت بتنهيدة متعبة:
-الحمدلله، مطلع عيني، بس كله يهون عشانه.
قالت لها مجاملة:
-طبعًا، ده الحفيد المنتظر، ربنا يتمملك على خير، ها الضاكتور قالك النوع إيه؟
همَّت تجيبها:
-هو قالنا ...
لم يرغب "محرز" -زوج "هاجر" وأحد أهم معاوني "بدير"- في اقتحام تلك المرأة الفضولية لشئونه الخاصة، لذا بحزمٍ قاطع حديث النساء ليردد بطريقته اللزجة وبقايا الطعام الممضوغ يتناثر من فمه:
-كل اللي يجيبه ربنا خير، خلونا نشوف الشغل والتوريدات اللي ورانا، جايلنا كام طلبية و....
ظنت "بثينة" أن الفرصة مواتية لتقحم ما تريده مستغلة جملة "محرز" الأخيرة فهتفت متدخلة في الحديث بفظاظة ونظراتها بالكامل تركزت على وجه "بدير" لكونه المسئول عن إدارة الأعمال:
-بمناسبة الشغل يا حاج "بدير"، ما تاخد "هيثم" معاك، أهوو يقف معاكو ويقضيلكم مصالحكم.
رد عليها "بدير" بطريقة سمجة تليق بأسلوبها:
-جربته قبل كده ومانفعش!
احتج "هيثم" على اتهامه بالتقصير فدافع عن نفسه قائلاً وقد توقف عن بلع لقيمات الطعام:
-لا يا جوز خالتي، أنا بأفهم في الشغل.
نظر له بنظرة نفاذة تشير إلى خبرته وسطوته قبل أن يكتسي صوته بطابع رسمي وهو يرد:
-شغلنا مش عاوز فهلوة ولا لوي دراع، دي مصالح ناس بألوفات، وسمعتنا قبل كل ده فوق أي اعتبار.
علق الطعام في حلق "هيثم" فسعل بشدةٍ، ناولت "بثينة" كوب الماء لابنها وربتت على ظهره حتى يلفظ ما سد مجرى الهواء، التفتت لتعاتب زوج أختها:
-وأنا ابني قصر في حاجة؟
أجابها ببساطةٍ وهو يلوك الطعام:
-ابنك معندوش مخ.
اشتعل وجهها بحمرة غاضبة من إهانته غير المقبولة لابنها فصاحت تدافع عنه باستماتةٍ:
-نعم، أنا ابني مخه يوزن بلد باللي فيها، إنتو بس اللي مش مقدرين قيمته ولا مدينه حقه هنا.
تدخل "سلطان" قائلاً بلهجة الآمر الناهي:
-خلاص يا "بثينة"، قفلوا على السيرة دي، مش وقته الكلام ده، نبقى نشوف موضوع ابنك بعدين
ردت على مضضٍ وعيناها تشعان شررًا مغتاظًا:
-ماشي يا حاج "سلطان".
رن هاتف "تميم" فأخرجه من جيب بنطاله الجينز الخلفي لينظر إلى شاشته، فمنذ أن علم رفاقه بعودته وهاتفه لم يتوقف، نهض دافعًا مقعده للخلف وهو يستأذن بلباقةٍ احترامًا لضيوفه:
-لا مؤاخذة، هرد على التليفون وأرجعلكم
قالت له "ونيسة" بابتسامة عريضة وبكلمات موحية:
-بسرعة يا ابني، لأحسن الشوربة اللي عملاها بنت خالتك تبرد.. طعمها مابيبقاش حلو إلا وهي سخنة موهوجة.
تلقائيًا تحركت حدقتاه نحو وجه "خلود" المتشرب بحمرته الخجلة، بدت أكثر توترًا من نظرات المحدقين بها، رمقها "تميم" بنظرة غير مفهومة التقطتها خلسة، ثم عاد ليحدق في والدته قائلاً باقتضاب:
-إن شاءالله..
انسحب من مائدة الطعام ليتحدث مع المتصل وصوته المرح كان نوعًا ما مسموعًا وهو يقول:
-حبيبي يا "ناجي"، أهوو بنتعلم منك الأدب والأخلاق!
لم يدرك أن عينا "خلود" ما زالت تتبعه أينما ذهب وقلبها يدق بسرعة فائقة، وبالرغم من تحرجها من الأسلوب غير المستساغ في التحدث عنها بسبب أو بدونه إلا أنها كانت سعيدة بكونها محط اهتمامه. لاحقًا عاد "تميم" إلى الطاولة ووقف مستندًا بذراعه على مقعده ليعتذر بجدية:
-معلش يا جماعة، أنا مضطر استأذن وأنزل أشوف أصحابي، كلهم متجمعين ومستنيني على القهوة.
سقطت كلماته على رأس "خلود" كالصدمة، وهي التي كانت تمني نفسها بسهرة لطيفة تتمتع فيها بالتطلع إلى وجهه وتغرق في نظراته الساهمة، وربما يتجرأ ويداعب مشاعرها بتغزله فيها، تبخرت أحلامها كليًا وامتعضت ملامحها كتعبيرٍ عن ضيقها، في حين رد عليه "بدير" بصوتٍ هادئ:
-وماله اخرج يا "تميم"، بس بلاش مشاكل.
قال ممازحًا بابتسامةٍ ساخرة:
-اطمن يا حاج، أنا مبطل شقاوة بقالي يومين.
ودَّع الجالسين ملوحًا بيده.. حانت منه التفاتة سريعة نحو "خلود" رمقها بنظرةٍ ذات مغزى ابتسمت لها وأسبلت عينيها نحوه قبل أن تثبت نظراتها على صحن طعامها محاولة تهدئة قلبها الراقص طربًا لاهتمامه بها وإن كان صغيرًا ومتواريًا.
................................................
أوشك زيت القلية المستخدم في طهي قطع (الهامبورجر) على النفاذ بعد أن تكاثرت الطلبات الخاصة بتجهيز السندوتشات، حاولت "همسة" التعامل مع ما هو متاح حتى يتسنى لها توفير بعض الوقت للذهاب إلى المنزل لإحضار واحدة جديدة والعودة إلى عربة الطعام. أوكلت مهمة مراقبة تحمير وجهه لـ "فيروزة"، لكن خشيت الأخيرة من إفساد مجهود أختها المبذول لقلة خبرتها فقالت حاسمة رأيها:
-أنا اللي هاروح أجيب الزيت، وخليكي إنتي تابعي الأكل
ردت عليها رافضة:
-يا "فيرو" أنا مش هتأخر، والموضوع بسيط مش مستاهل، إنتي بس ....
قاطعتها بعنادٍ:
-خلاص يا "همسة"، أنا عارفة مكان الحاجة، وبالمرة هاجيب لماما شال تقيل بدل اللي لبساه عشان البرد.
ابتسمت تشكرها:
-تسلميلي، خدي بالك من نفسك.
ردت ساخرة:
-هو أنا ههاجر، ده البيت آخر الشارع!
ثم انتزعت مريلتها عن خصرها لتتركها على الجانب وتهبط عن العربة، سألتها "آمنة" مستفهمة:
-رايحة فين يا "فيروزة"؟
أجابتها على الفور:
-هاجيب زيت من البيت وراجعة على طول.
أمرتها بنبرتها الجادة:
-متتأخريش.
-حاضر.
قالتها وهي تسير على عجالة بخطواتٍ أقرب للركض لتعبر النصف الأول من الطريق، وقفت عند المنتصف على الرصيف الفاصل بين الجهتين تنتظر تباطؤ حركة السيارات حتى تتمكن من العبور. كان الهواء عاصف نسبيًا فضرب وجنتيها وتسبب في بعثرة خصلات شعرها بشكلٍ شبه فوضوي على وجهها مما اضطرها لإعادة ما تناثر منه أسفل منديل رأسها دون أن تكترث أنها حررت مشبك الشعر الفضي المصمم على هيئة زهرة الأوركيد والذي كان ممسكًا به. فركت "فيروزة" كفي يدها معًا عل الدفء يتسرب إلى أطرافها التي ارتعشت كليًا، لم تتخيل أن يكون الطقس باردًا بسبب حرارة الموقد بداخل العربة فبدا الجو بها على النقيض من الحقيقي.
في تلك الأثناء، كان "تميم" في خضم اتصالٍ هاتفي مع رفيقه، كامل حواسه مركزة مع حواره الشيق فيما عدا بصره المنتبه للحركة المرورية، قال لرفيقه "ناجي" عاليًا بصوته الأجش:
-هاشوف فين القهوة دي وأجيلك عندها.
مـر بجوار "فيروزة" ولم ينتبه لها لكونها شخص عابر بالنسبة له متابعًا حديثه ببسمة جانبية شبه متهكمة وعيناه تجوبان بفضولٍ على عربة الطعام الوحيدة المرابطة بجوار الكورنيش:
-ده الدنيا اتغيرت خالص، وشايف حاجات غريبة هنا.
لفتت أنظاره فتوقف عن السير ليتأملها بنظرات أكثر تدقيقًا وتفحصًا. هدأت سرعة السيارات نوعًا ما فهرولت "فيروزة" عدوًا للناحية الأخرى مقاومة قدر استطاعتها تيار الهواء الشديد، لم تشعر بمنديلها الذي حرره الهواء وطــار في اتجاه الريح ليصطدم بذاك الشخص الغريب عنها، أحس "تميم" بألم طفيف يضرب مؤخرة عنقه وكأن أحدهم قذفه بطوبة صغيرة، تحسسه بيده وهو يلتفت برأسه للخلف باحثًا عمن ارتكب تلك الفعلة الحمقاء التي حتمًا لن يمررها مرور الكرام، لم يجد أحدهم في الجوار، لكن أصابعه التقطت المنديل والمشبك. حملق فيهما باستغرابٍ حائر متسائلاً مع نفسه:
-بتوع مين دول ................................ ؟!
.................................................. ..................



منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 28-03-20, 09:14 PM   #7

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9 الفصل الرابع

الفصل الرابع
مسحة رقيقة بأناملها على تلك الصورة الصغيرة الوحيدة التي تمتلكها له قبل أن ترفعها إلى شفتيها لتطبع قبلة مطولة عليها، كانت تشتاق إليه حد الجنون بالرغم من وجوده معها، جفائه وخشونته غير المنقوصين معها كان أكثر ما يرعبها منه، تنهيدة أخرى خافتة انبعثت من بين شفتيها ونظراتها الساهمة حملقت في وجهه الجاد.. تذكرت "خلود" حينما ألحت على "تميم" ليعطيها صورته، كان ذلك قبيل إعلان خطبتهما، وافق بصعوبة على طلبها، وأهداها واحدة له وهو في عمر صغير، فرحت آنذاك بهديته الغالية واعتبرتها أثمن من أغلى مجوهرات العالم، خبأتها سريعًا في محفظة يدها قبل أن يراها أحدهم ويستغل الفرصة في إحراجها بالسخرية من حبها المتيم به. لمسة حذرة على جانب ذراعها كانت كفيلة بجعل جسدها ينتفض، التفتت كالملسوعة لجانبها لتجد خالتها تحدق بها بنظراتٍ ذكية، مالت عليها لتهمس لها بنبرة ذات مغزى:
-ربنا يكملكم على خير يا حبيبتي، إنتي صبرتي كتير، وعن قريب هانسمع الأخبار الحلوة.
قفز قلبها بين ضلوعها فرحًا، أشرقت ملامحها وهي تسألها بتلهفٍ مفضوحٍ:
-بجد يا خالتي؟
ردت عليها "ونيسة" مؤكدة بثباتٍ:
-أيوه، أنا هفاتح جوز خالتك عشان نتمم الجوازة، كفاية كده عليكم.
عفويًا احتضنتها "خلود" وهي تكاد تبكي من فرط سعادتها، شكرتها بأنفاسٍ مبهورة:
-ربنا ما يحرمني منك يا خالتي، دايمًا واقفة في صفي.
ربتت الأخيرة على ظهرها لتأمرها بلطافةٍ:
-طب يالا يا عين خالتك عشان نجهز القهوة والشاي لجدك وباقي العيلة.
هزت رأسها في إذعانٍ راضٍ واستدارت متجهة نحو أحد أدراج المطبخ العلوية لتفتحها وتخرج الفناجين وترصها بشكلٍ منمق في الصينية ريثما تكمل خالتها إعداد القهوة وغلي الماء.
.................................................. ...........
نظرة حائرة متشككة ارتكزت على منديل الرأس والمشبك المعلق به، للحظة شــرد عن مكالمة رفيقه وتركزت كامل حواسه مع ما في يده، ارتفعت عيناه لتحدقان في الطريق من جديد، لا شيء يدعو للاسترابة، أنفار متباعدون يسيرون على عجل في العتمة المسيطرة على المكان بسبب خفوت الإضاءة وقلة أعمدة الإنارة، نظر أمامه ليجد البعض ما بين جالس على الكورنيش وواقف على مطلع الرصيف ينتظر سيارة أجرة شاغرة ليستقلها.. الحياة تسير بشكلٍ طبيعي ومتلائم مع طبيعة الأجواء الباردة. أطبق "تميم" كفه عليهما وهو يفكر في إلقائهما في أقرب سلة للقمامة للتخلص منهما، وبالفعل دنا من واحدة بلاستيكية معلقة على عمود الإنارة المظلم، رفع يده للأعلى ليصل إلى فتحتها العلوية، لكن أعاقه صوت "ناجي" المتسائل باستغراب:
-إنت روحت فين يا باشا؟
أجابه باقتضابٍ بعد نحنحة خفيفة وقد تهدل ذراعه:
-معاك...
عفويًا دسهما في جيب بنطاله الخلفي ريثما يفكر بهدوء فيما سيفعله بهما بعد أن أُثيرت حفيظته، همَّ باجتياز الطريق وعيناه تبصران عربة الطعام المضيئة بالأنوار البراقة، توقف على مقربة منها يفحصها بعيني المحقق المشكك والباحث عن أجوبة تفصيلية لأسئلته الدائرة في عقله، اقتضب جبينه وانزوى ما بين حاجبيه بقوةٍ وقد لمح فتاة تُخدم على الزبائن المرابطين أمام العربة وابتسامتها المجاملة ظاهرة على محياها، أردف "تميم" متسائلاً باهتمامٍ فضولي ينم على كونه لن يدع الأمر هكذا يمر ببساطة:
-هو مين في الحتة بتاعتنا شغال على عربية؟
سأله "ناجي" مستفهمًا، فقد بدا حديثه غامضًا مبهمًا:
-عربية إيه؟
أجابه دون أن يرمش:
-عربية أكل..
عاد ليسأله حتى تتضح الصورة له:
-تقصد عربية فول؟
رد نافيًا:
-لأ، سندوتشات وحاجات تانية.
-طب مكانها فين؟
أجاب بجديةٍ:
-على الكورنيش قرب البحر.
تنحنح "ناجي" بخفوت قبل أن يعقب عليه:
-مش عارف بصراحة، بقالي كام يوم مامشتش من الناحية دي.. بس بيتهيألي مافيش حاجة هناك.
رد مؤكدًا بما لا يدع مجالاً للشك:
-بأقولك أنا واقف قصادها وفيها باين بنت شغالة عليها.
ردد "ناجي" متعجبًا:
-بنت؟ غريبة أوي!
حك الأخير جبهته مضيفًا بنبرة تميل للانضباط:
-نكمل كلامنا في الحكاية دي لما أشوفك الأول، قولي إنت فين بالظبط؟
حاول رفيقه أن يوصف له الطريق المختصر المؤدي للمقهى حديث الطراز الذي يجلس به بعد أن تغيرت معالم المنطقة كثيرًا واختلفت عما اعتاد عليها قبل أن يُسجن. ظل باله مشغولاً بما رأه على طريق الكورنيش وتغاضى مؤقتًا عنه حتى يستعلم عن الأمر برمته.. لكن الأكيد أن السكوت عليه أمرٌ مستبعدٌ.
ســار "تميم" بضعة خطوات نحو وجهته، لكن لشيء داخلي لا يعلم سببه قرر فجأة الالتفاف والعودة إلى العربة، تخلى عن حذره واقترب من النافذة التي تطل منها تلك الشابة الجميلة، رمقها بنظرة مطولة محاولاً تفحصها بها.. توقف عن التحديق بها حينما باغتته متسائلة بشكلٍ روتينيٍ بحت:
-إيه طلبات حضرتك؟
بدا وكأنه قد أتى من كوكب أخرى وهو يرمقها بتلك النظرات الغريبة، تقلصت تعابير وجهه واشتد اقتضاب جبينه، حرك رأسه للجانبين في حيرة باحثًا عن قائمة الطعام أو المشروبات، فهو لا يعرف ماهية ما يقدم بالعربة، سكونٌ حائر ساد في الأجواء قاطعته "همسة" بلطافةٍ لبقة وكأنها أدركت سبب تردده:
-في عندنا سندوتشات برجر حلوة، وكمان آ....
رفع يده ليسكتها بقوله الفظ:
-مش عاوز.. شكرًا
تراجعت "همسة" برأسها للخلف في اندهاشٍ مصدوم من رده المستفز، اربد وجهها من الضيق والغضب. لم تكن تجيد التصرف في تلك المواقف المحرجة، خُيل إليها أنه لو كانت "فيروزة" حاضرة لما كانت مررت الأمر على خير وللقنت أمثاله من الوقحين درسًا يليق به، تجاوزت مضطرة عن وقاحته لتلتفت إلى عملها الذي يحتاج كامل تركيزها الآن.
.................................................. .........
بسرعةٍ وهمة أنجزت ما هو مطلوب منها في أقل وقت ممكن؛ حيث أحضرت زجاجتي زيت حتى لا تضطر للعودة إن نفذت الأولى، كما عبثت بدولاب والدتها لتأتي لها بالشال الصوفي الثقيل لتضعه على جسدها فلا تشكو من برودة الطقس، وقبل أن تغلق "فيروزة" باب المنزل خلفها، ألقت نظرة خاطفة على هيئتها، دهشة عجيبة اكتست ملامحها وقد أدركت فقدانها لمنديل رأسها، عفويًا تحسست بيدها الأخرى التي لا تحمل شيئًا خصلاتها النافرة، انزعجت قائلة لنفسها:
-أكيد طار وأنا مخدتش بالي.
رتبت بيدها ما تبعثر من شعرها عله يثبت في مكانه، كانت "فيروزة" مدركة لضيق الوقت، وبالتالي تجاوزت عن ضيقها لتخرج من المنزل لتلحق بالزبائن المنتظرين عند العربة. اتجهت للسلم وأمسكت بالدرابزين لتهبط درجاته.. توقفت قدماها عند منتصفه وقد أبصرت خالها وزوجته المستفزة يلجان من المدخل، انتابتها ربكة مفاجأة، تطلع لها الأول في استغرابٍ مندهش، ثم سألها بشكلٍ آلي كأنه يحقق معها:
-رايحة فين السعادي يا "فيروزة"؟
توترت ملامحها بشكلٍ ملحوظ وخرج صوتها مترددًا وهي تجيبه:
-كنت.. آ.. بأجيب حاجة لـ.. ماما و...
تأملتها "حمدية" بنظرات جابت عليها من رأسها لأخمص قدميها، ثم تدخلت في الحوار متسائلة في استنكار وعلامات النفور ظاهرة على خلجاتها:
-في نص الليل؟
ثم انخفضت نظراتها نحو زجاجتي الزيت اللاتين تحملهما لتسألها والريبة تعتريها:
-والزيت ده بيعمل معاكي إيه؟
انتبه "خليل" لحديث زوجته ونظر إلى حيث قالت، وسألها مستفهمًا:
-صحيح، بتعملي إيه بدول؟
رفعت "فيروزة" يدها قليلاً لتحدق في حيرة بالغة فيما معها، أحست بجفافٍ كبير يجتاح حلقها، ازدردت ريقها ولعقت شفتيها قبل أن تجيبه بارتباكٍ يدعو للشك:
-أصل الحكاية... يعني آ... كنت هوديهم..
لوحت "حمدية" بيدها مضيفة بنبرة ذات مغزى:
-شكلها بتدور على كدبة تبلفنا بيها!
عبارتها الأخيرة أشعلت حنق زوجها فتساءل بلهجته الصارمة:
-انطقي يا "فيروزة"، إنتي بتعملي إيه من ورايا؟
ترددت في البوح بحقيقة ما تفعله، خشيت إفساده للأمر قبل أن تتمتع بنجاحه، لذا أجابته بشجاعة تفتقد لها:
-ولا حاجة يا خالي.
رمقتها "حمدية" بنظرة مزدرية قبل أن تتهمها بالباطل:
-تلاقيها مصدقت إنك مش موجود فخارجة تدور على حل شعرها..
هنا تجهمت تعابير ابنة أخته وكشرت عن أنيابها لتهاجهما بشراسةٍ حتى تدافع عن نفسها:
-أنا محترمة غصب عن عين الكل، وينقطع لسان أي حد يقول غير كده
احتقنت نظرات زوجة خالها فصاحت تعنفها:
-قصدك إني بأتبلى عليكي؟
ردت غير مبالية:
-والله إنتي أدرى!
التفتت "حمدية" نحو زوجها تهتف فيه بغضبٍ استعر بداخلها:
-شايف بنت أختك المؤدبة بتقولي إيه؟ بدل ما تشوف الصايعة دي خارجة فين في أنصاص الليالي جاية تعلمني الأدب؟!!!!
حفزت حميته الرجولية بكلماتها المستفزة والمثيرة للأعصاب، اندفع "خليل نحوها ليقبض على ذراعها، أمسك بها بقسوة آلمتها بضغطه الشديد عليها، ثم هزها بعنف وهو يسألها بزمجرة بائنة في صوته:
-انطقي يا بنت الـ ......! رايحة فين السعادي؟
احتقنت عيناها تأثرًا بإهانته غير المقبولة ولعناته المسيئة، ومع ذلك ضبطت انفعالاتها قبل أن تهتاج لترد بقوةٍ:
-رايحة أشوف شغلي وأكل عيشي
انزوى ما بين حاجبيه مرددًا في اندهاشٍ أكبر:
-شغلك؟
ردت باستبسالٍ يعبر عن شخصيتها غير الضعيفة:
-أيوه، أنا فتحت عربية أكل وبأشتغل دلوقتي يا خالي، ورايحة أشوف الزباين اللي مستنين طلباتهم.
لطمة على الصدر مصحوبة باستنكارٍ قالتها "حمدية":
-يادي النصيبة اللي كانت على البال ولا على الخاطر!
هزها "خليل" بعصبيةٍ لاستفزازها له صارخًا بها:
-إنتي اتجننتي؟ من ورايا؟ ومن غير ما تقوليلي؟
ردت مدافعة باستماتةٍ عن حلمها:
-أنا معملتش حاجة غلط ولا حرام، وماما عارفة بده وموافقة كمان.
زمت "حمدية" شفتيها لتعلق بتهكمٍ محتقر ونظراتها الساخطة مثبتة عليها:
-بلا خيبة! هي أمك دي بتفهم!
استشاطت "فيروزة" غضبًا من إساءتها غير المقبولة عن والدتها، رفعت رأسها نحوها لتقول بنبرة مشحونة بالحقد:
-ماتغلطيش فيها، أمي على راس الكل بما فيهم إنتي!
شهقة مغلولة انفلتت من بين شفتيها، كزت على أسنانها في ضيق متعاظمٍ من جراءتها معها، ثم وضعت يدها أعلى خاصرتها لتقول بحدةٍ:
-شايف البت بتغلط فيا إزاي؟ هاتسكتلها؟ أنا مش هستنى أما أسمع شتمتي بودني، أنا طالعة، واصطفل إنت معاها، بت ناقصة رباية!
وقبل أن تبادر "فيروزة" بالرد أخرسها تحذير "خليل" الصارم وعينان تطقان شررًا:
-اسكتي خالص، ولا حرف واحد زيادة!!
كظمت غضبها في نفسها مضطرة، ثم عادت لتحدق في وجه خالها وهو يتابع بوعيدٍ:
-هنتحاسب على ده بعدين، بس الأول وريني أمك فين.
تنفست بعمقٍ لتضيف بعدها بعنادٍ استفزه:
-ماشي، بس أنا مش هابطل شغلي!
لكزها بخشونةٍ في كتفها وهو يوبخها:
-أما إنتي بجحة صحيح؟ ليكي عين تتكلمي؟ انجري قدامي.
هبطت ما تبقى من درجات وهي بالكاد تسيطر على ضيقها النامي بداخلها، لكنها عقدت العزم على ألا تتخلى عن حلمها مهما حدث.
.................................................. ..........
انتهت من توزيع فناجين القهوة وأكواب الشاي المصحوبة بقطع (البسبوسة) الشهية لتجلس بجوار والدتها ونظراتها القلقة تدور على أوجه الحاضرين منتظرة بترقبٍ الشروع في الحديث عن موضوع زواجها من "تميم"، كم تلهفت لتلك اللحظة التي يجتمع فيها أفراد العائلتين من أجلها! حلمت بها مرارًا وتكرارًا، وتخيلت حبيبها يُلقي كلمات البداية الداعية لإتمام الزيجة، تلقائيًا تشبع وجه "خلود" بحمرة ساخنة فور تلميح "بثينة" الصريح بكل ثقة:
-مش كفاية تأخير بقى يا حاج "بدير"؟ الحمدلله "تميم" رجع بالسلامة، واحنا عروستنا جاهزة
قال لها بتعابيره الجافة:
-أنا معنديش أي مشكلة، اتفقوا مع "تميم" وحددوا الميعاد المناسب.
دق قلب "خلود" في اضطرابٍ فرح، أخيرًا ستجتمع به في منزلٍ مستقل لتنعم بحياةٍ وردية تحاوطها طيور الحب، تحاشت النظر في أعين المحدقين بها، وركزت حاسة سمعها مع والدتها وهي تقول بنية عازمة:
-خير، واحنا هنبدأ نجهز فرش الشقة من دلوقتي.
رد عليها "بدير" بهدوئه الجاد:
-على بركة الله
أطلقت "ونيسة" زغرودة عالية مهللة، ثم بررت ما فعلته وهي تضحك في ابتهاجٍ عظيم:
-ماينفعش الأخبار الحلوة دي تتقال على السُكيتي.
ضحكت "هاجر" بسعادة وهي تؤيدها:
-معاكي حق يا ماما، كله إلا "تميم" و"خلود"، دول الغاليين.
خجلت "خلود" من مدحها اللبق لها وعجزت عن الرد بصوت مسموع، لكنها كانت ممتنة لدعمها الكامل لها. تنحنح الحاج "سلطان" عاليًا ليزيح تلك الحشرجة المغلفة لأحبال صوته قبل أن يضيف حاسمًا:
-نقوط العرسان عندي، عفش كامل من مجاميعه هايكون عندهم في بحر أسبوع.
لم يجادل "بدير" والده في قراره، فحينما يبوح بشيءٍ تكون واجبة النفاذ، لذا ابتسم له وشكره بتهذيبٍ يحمل التقدير:
-تعيش وتجيب يا أبا.
على الجانب الآخر، مالت "ونيسة" على ابن أختها لتهمس له بعينين تلمعان بوميض غريب:
-بأقولك إيه يا "هيثم"، تعالى معايا عاوزاك في كلمتين.
أومأ برأسه في خفة وهو يرد:
-حاضر يا خالتي.
استند بمرفقيه على مسندي الأريكة لينهض، ثم تبعها ليسير خلفها في الرُدهة الطويلة -ذات الإضاءة البرتقالية الخافتة- والتي تنتهي بغرفة متسعة، تردد في الدخول لغرفة نوم زوج خالته، فهو من النوع المتشدد الذي يعتبر الأماكن الداخلية في منزله محرابًا لا يجوز وطئه، لكنها شجعته على الدخول. جاب "هيثم" بنظراتٍ فضولية أثاث الغرفة العتيق، ابتسامة تهكمية اعتلت ثغره، فبالرغم من المكاسب المادية التي تحصل عليها العائلة من تجارتهم الرابحة إلا أنهم لم يفكروا في تبديل أثاث المنزل الذي خطا الزمن أثاره عليه، أو حتى ينتقلوا من تلك المنطقة السكنية المليئة بالسكان محدودي الدخل، وكأن قوتهم وغرورهم مستمدين من بقائهم فيها، توقفت حدقتاه عن الحركة عند تلك الشُفونيرة القديمة المكونة من أربعة أدراج، فتحت خالته الدرج الأول لتخرج منه شيء ما، اشرأب بعنقه للأعلى لينظر بفضولٍ إلى ما تفعل، سال لعابه وقد لمح ما يزيد عن أربعة رزم من النقود المعقودة بشريط بنكي مرصوصة فيه، على الفور أدار رأسه للجانب الآخر قبل أن تلتقطه مدعيًا التهائه بالتحديق أسفل قدميه، اقتربت منه "ونيسة" وأمسكت بكف يده ثم دست في راحته النقود المطوية وهي تقول له:
-خد يا حبيبي القرشين دول مشي بيهم حالك.
اعترض بكرامةٍ زائفة:
-كتر خيرك يا خالتي، بس مستورة والحمدلله.
أصرت عليه ببسمتها البشوش:
-يا واد ماتتكسفش، ده إنت معزتك عندي زي "تميم" بالظبط.
هز رأسه في استسلام مصطنع ولسانه يلهج بالشكر:
-ربنا يخليكي ليا يا "خالتي"
ثم ربتت على ظهره تشد من أزره وهي تضيف:
-ومتزعلش من عمك "بدير"، إنت عارفه شديد حتى معايا
خرجت تنهيدة بطيئة من صدره كتعبير عن عدم رضائه عن قساوته معه، ثم قال متملقًا:
-والله يا خالتي إنتي الوحيدة اللي نصفاني هنا.
مسحت بنعومة على ذقنه النابتة وابتسامتها اللطيفة لا تزال مرسومة على وجهها،
تقلصت يدها فجأة وقد أتاها صوت "بدير" من خلفها متسائلاً في عصبيةٍ:
-الواد بيعمل إيه هنا؟
ابتلعت ريقها وأجابته بوجهٍ متوترٍ:
-كنت بأخد بخاطره، مافيهاش حاجة يا حاج.
تحرج "هيثم" وانزعج من نظرات "بدير" الحانقة نحوه، رمقه بنظرات قاتمة غريبة وهو يرد ببرود:
-لا مؤاخذة يا جوز خالتي، بس خالتي كانت عاوزاني، وأنا مبأخرلهاش طلب!
امتعاضٍ متأفف غطى ملامحه قبل أن يتمتم "بدير" من بين شفتيه بخفوتٍ:
-عيل سمج ورزل..
انتظره حتى خرج من الغرفة ليلتفت نحو زوجته يحذرها مستخدمًا سبابته في الإشارة ونظراته في التأكيد:
-اسمعي يا ولية، تاني مرة ملاقيش الواد هنا في أوضة نومي.
هزت رأسها في انصياعٍ:
-حاضر
نفخ "بدير" في ضيقٍ أكبر وهو ينتزع جلبابه الفضفاض من عليه ليتابع بنفس النبرة المزعوجة:
-هي نقصاه على آخر اليوم!!!
.................................................. .......
انقضت السهرة على خير وعاد الجميع إلى منازلهم ليستريحوا بعد عناء يومٍ شاق، انتهت "هاجر" من غسل جسدها بالماء الدافئ وارتدت قميصها الأحمر الواسع ذي الحمالات الرفيعة، بدت بطنها بارزة بشكلٍ ملفت، تحسستها برفقٍ وكأنها تدلل جنينها بذلك، ثم خرجت من الحمام منتزعة المنشفة التي تلف بها شعرها المصفف حتى لا يبتل. ألقت نظرة سريعة على زوجها المستلقي على الفراش، أولته ظهرها وجلست على مقعد المرآة لتضع القليل من مساحيق التجميل على وجهها المنتفخ بفعل تأثير الحمل، توقفت عما تفعل لتدير رأسها في اتجاهه حينما قال بازدراءٍ:
-من ساعة ما أخوكي رجع وأبوكي معاملته ليا اتغيرت.
دافعت عن أبيها قائلة بلهجة أظهرت ضيقها:
-الكلام ده مش مظبوط يا "محرز"، طول عمرك دراعه اليمين و...
قاطعها ملوحًا بذراعه في حركة مستنكرة:
-كان زمان، دلوقتي جه اللي سحب البساط من تحت رجلي!
تعقدت ملامحها وهي تسأله مستوضحة:
-تقصد إيه؟
أجابها بوجهٍ مقلوب:
-أنا يطلع عيني ليل نهار، وأطفح الدم مع الرجالة في السوق، والمحروس أخوكي يجي على الجاهز يُقش كل حاجة.
ردت مهاجمة سوء ظنه:
-هو كان سايب أبويا بمزاجه؟ ما إنت عارف اللي حصل!
علق بتكشيرة جانبية ونظراته الحاقدة ترتكز على نقطة في الفراغ:
-واهوو رجع ياختي.
تركت "هاجر" المشط من يدها لتحذره بلهجة آل "سلطان" الصارمة:
-بأقولك إيه، أبويا حر في ماله، يعمل ما بداله، إن شاء الله يولع فيه، محدش ليه عنده حاجة، ماشي؟ وكفاية اللي بيعمله معانا..
أشاح بوجهه للناحية الأخرى ليرد عليها بزفيرٍ مستاءٍ:
-ماشي يا بنت أبوكي، أما نشوف هترسى على إيه معاكم!
.................................................. ..
لف تلك الحقيبة النسائية السوداء المصنوعة من الجلد -والمقلدة لماركة عالمية شهيرة- بين كفيه بعد أن أخرج محتوياتها لينظر إن كانت تحوي مبلغًا ثمينًا أو قطعة من الذهب يبيعها وينفق مالها على مزاجه الخاص. رفع "حمص" عينيه ليتطلع إلى شريكه "شيكاغو" الذي كان يتحدث في الهاتف مع أحدهم، راقبه وهو ينفث دخان سيجارته من فمه قبل أن يرد:
-أوامرك يا كبير، اعتبره حصل.
كلمات وداع مقتضبة رددها بعد ذلك لينهي معه المكالمة، ثم اتجه نحو "حمص" الذي هم بسؤاله:
-مين كان بيتكلم؟
أجابه وهو يلقي بجسده على الوسائد الأرضية:
-ده الريس "ناجي" كان عاوزنا نتقابل عشان مصلحة كده
قذف "حمص" الحقيبة الخاوية عند قدميه بعد أن مزقها ليرد بتأفف:
-كويس، بدل ما الحال مأشفر معانا على الآخر، أهوو نطلعلنا بسبوبة حلوة نمشي بيها حالنا.
تساءل "شيكاغو" باهتمامٍ ونظراته مثبتة على محفظة جلدية، وبعض مساحيق التجميل الرخيصة، وعلبة مناديل ورقية:
-إنت إيه اللي معاك ده؟
أجابه بشفاه ملتوية:
-شنطة سرقتها من ولية ماشية في الشارع، بس طلعت شبهها فقر، مافيهاش ولا مليم.
أشعل الأخير سيجارة أخرى ملفوفة يدويًا، سحب منها نفسًا عميقًا كتمه في صدره لثوانٍ حتى ظهر احتقان بشرته، لفظ الدخان دفعة واحدة قبل أن يسعل بخشونة، رفع يده المرتعشة قليلاً نحو رفيقه يدعوه:
-طب خد عفر.
تناولها منه وهو يرد مبتسمًا ابتسامة صفراء أظهرت اتساخ أسنانه:
-من يد ما نعدمها.
.................................................. ...........
خلال بضعة دقائق كانت العربة مدفوعة بيديها ويدي أختها نحو مدخل المنزل، اعتصر الحزن قلبها لإفســاد خالها نهاية يومها بصراخه في الزبائن وإبعادهم بعد رد المال المدفوع لهم، بكت "فيروزة" بحرقةٍ طوال سيرها حتى وصلت للباحة الخلفية، كانت تشعر بالهزيمة والضعف، وذلك الشعور كان مرفوضًا بالنسبة لها، غطت العربة بملاءة قديمة وهي تكفكف بظهر يدها دمعاتها الساخنة على بشرتها الباردة، صعدت إلى والدتها التي كانت تتلقى جزائها بالتوبيخ القاسي، فالأخيرة قد أضعفتها الحاجة إلى مُعيل ذكر تُلقي إليه بهمومها، وتستند عليه في وهنها. احترقت أحشائها من تعنيفه الحاد لتلك المسكينة التي لا تملك من حيل الدنيا شيئًا، وأختها "همسة" تبكي في صمتٍ عاجز كعادتها المستسلمة، كورت قبضة يدها وضغطت على أصابعها بقوةٍ حتى ابيضت مفاصلها، احمرت عيناها غضبًا وهو يلومها بصياحها الهادر:
-بقى إنتي يا "آمنة" توافقي على جنان بنتك ده؟!! لأ وبتساعديها كمان؟
بكت أخته تستعطفه:
-والله ما عملوا حاجة غلطت، دول بيسلوا وقتهم، وأنا أعدة على إيدهم.
علقت "حمدية" ببسمة ساخرة لم تبذل أي مجهود في إخفائها:
-ما هو باين التسالي والشباب حوالين البنات أد كده!
ردت عليها "آمنة" تحذرها:
-بناتي أشرف من الشرف يا "حمدية"، خدي بالك من اللي بيقوله لسانك!
وضعت الأخيرة إصبعيها على طرف ذقنها تقول لها باستعلاءٍ:
-ما هو واضح، وبالأمارة مستغليين غياب خالهم عشان يعملوا ما بدالهم!
لم تستطع "فيروزة" التحكم في أعصابها المستثارة، خاصة مع وجود تلك المقيتة التي تتلذذ بإشعال المواقف المتأزمة والرقص على أطلالها المحترقة، فقالت لها بتشنجٍ:
-بلاش تحشري نفسك، مش لازم تولعيها.
زجرتها "حمدية" تعاتبها بقساوةٍ شديدة:
-قصدك إيه يا مفعوصة إنتي؟ هو اللي يقول كلمة الحق يبقى غلطان؟ بكرة كل من هب ودب يجيب في سيرتنا ومش هيبقلنا عين نرد!
صرخت بها بوجهها المحتقن:
-يا شيخة بطلي تولعي فيها، ارحمينا بقى.
حدجتها "حمدية" بنظرة مميتة قبل أن تلتفت نحو زوجها تعنفه لتخاذله في الثأر لكرامتها:
-شايف المحروسة بتكلم معايا ازاي؟ مش عملالي أي اعتبار، لأ وأنا مش عاوزة أجيبها تحت رجلي واقطم رقبتها.
ردت عليها "فيروزة" تتحداها:
-ولا تقدري تعمليلي حاجة أصلاً.
أمسكت بها "همسة" من ذراعها وهمست لها بخوفٍ:
-بلاش تشتبكي معاها عشان خاطري.
صاحت "حمدية" عاليًا لتستفز زوجها وتخرجه عن هدوئه الذي يغيظها:
-شايف بتقول إيه؟ دي ناقص تمد إيدها عليا
لم يكن منه بعد كلماتها المحفزة لحقن النفوس ووغر الصدور إلا التحرك نحو ابنة أخته، حيث هجم "خليل"على "فيروزة" قاصدًا الاعتداء عليها بالضرب، ما منعه من الاقتراب منها جسد "آمنة" الذي حال بينه وبينها مما منحها فرصة لتنأى بنفسها عن بطشه الأعمى. رفع خالها صوته يصرخ بها:
-ما تتعدلي في كلامك مع مرات خالك، محدش عاجبك فينا ولا إيه؟ ولا الظاهر عيارك فلت!!
ردت "فيروزة" بصوتها المختنق رافضة الرضوخ أمام صرامته:
-أنا مجتش ناحيتها، بس هي اللي بتدخل في اللي مالهاش فيه.
وضعت "حمدية" يدها أعلى منتصف خاصرتها ترمق "آمنة" وابنتيها بنظرات احتقارية مغلولة، هزت جسدها في حركة مستنكرة، ثم قالت:
-ده اللي ربنا قدرك عليه يا سبعي؟ ده بدل ما تديها جوز أقلام يفوقوها!
حملقت فيها "آمنة" بنظرة حادة، وأعقبها رجاءٌ يحمل التهديد:
-اهدي على نفسك شوية يا "حمدية"، الموضوع مش مستاهل
بادلتها بنظرات كارهة لثلاثتهن ثم ردت عليها:
-أنا أحسن حاجة أعملها أطلع بيتي بدل ما تتفقع مرارتي، بس أديني بأحذرك يا "خليل"، لو البنات دول ماجبوهاش لبر مش هانشوف طيب!!
نظرة وضيعة منحتها للفتاتين ووالدتهما، وانحنت تسحب شالها الموضوع على حافة الأريكة لتسير في اتجاه باب المنزل تاركة من فيه يشتعل غضبًا. استدار "خليل" موجهًا لومه المهدد نحو "آمنة":
-قسمًا بالله لو المسخرة دي اتكررت تاني محدش فيكو هايشوف طيب...
ثم تحولت أنظاره نحو "فيروزة" مكملاً كلامه:
-سمعاني إنتي بالذات؟!
ردت عليه ابنة أخته مُعاندة إياه:
-وأنا مش هافضل أعدة في البيت يا خالي، هاشغل العربية.
أغاظه عنادها فما كان منه إلا أن هوى بكف يده القاسي على وجهها ليصفعها وهو يقول لها:
-إنتي يا بت مالكيش كبير؟ إيه كلامي مش مالي عينك؟!!
شهقت "آمنة" تعاتبه في صدمة:
-"خليل"!
في حين احتضنت "همسة" أختها وهي بالكاد تسيطر على دموعها الغزيرة:
-"فيرو"!
وضعت "فيروزة" يدها على وجنتها المتألمة، قاومت بشراسةٍ تلك الرغبة العارمة التي تحثها على البكاء كمدًا، وردت بكرامة شامخة، وهامة منتصبة:
-إنت على عيني وراسي يا خالي حتى لو ضربتني مليون قلم!
بذلت مجهودًا مضاعفًا لتخفي أوجاعها، وأضافت بنفس الثبات العجيب:
-بس أنا ماتعلمتش عشان أبقى أعدة في البيت مستنية صاحب النصيب، ولا اللي يحن عليا عشان يتجوزني ومابقاش عانس.. أنا ليالي كيان، وعندي طموح هاحققه.
رد ساخرًا بنبرة ناقمة:
-طموح إيه ده اللي هيتحقق في الشارع؟
قالت بإصرارٍ متجاوزة إحساسها بالألم والقهر:
-مش عيب إني أبدأ كده، بكرة شغلي هيكبر والكل هيعرفني.
صاح بها بصوته الجهوري المتزمت:
-إنتي عاوزانا نتفضح؟
ثم قبض على كومة من شعرها يجذبها منه بعنفٍ ليقسو عليها أكثر فترتدع وتتخلى عن عنادها البائس، صرخت "فيروزة" عاليًا بمرارةٍ:
-آآه، سيب شعري يا خالي، كفاية بقى!
حاولت "آمنة" تخليص ابنتها من براثنه قبل أن يصم جام غضبه المشحون على فلذة كبدها، توسلته بعينين دامعتين:
-يا "خليل" اسمع البت للآخر.
رد عليها بخشونةٍ وقد أرخى أصابعه عن ابنتها:
-طبعًا ما إنتي موالسة معاها على المسخرة دي، ما هو لو كان ليها أب يربيها مكانش ده حصل
تبين على وجهها علامات الحنق من جملته الأخيرة، فردت عليه بقوةٍ لم يعهدها فيها:
-المرحوم عرف يربي بناته كويس، وأنا مش هاقبل بأي حد يقول عنهم غير كده
شعر "خليل" بالحرج لمحاولتها ذبذبة هيمنته على الفتاتين، انتصب في وقفته يُخيرها بحسمٍ:
-هي بقت كده؟ طيب يا "آمنة"، يا أنا يا بنتك، اختاري.. ودلوقتي!!
وضعها عن عمدٍ في خيارٍ عسير؛ إما أن تخذل ابنتيها وتدعمه، وإما أن تخسر مساندته لهاويتخاصم معها. التفتت تنظر إلى صغيرتيها بعينين حائرتين، رأت فيهما الأمل والرجاء، ثم عادت لتحدق في وجه أخيها المتجهم، كانت القساوة متجسدة على كل ذرة فيه. عفويًا امتدت ذراعاها لتحتضن ابنتيها، ضمتهما إليها وشعرت بذراعيهما تلتفان حول جسدها ثم قالت له:
-أنا ماليش إلا هما بعد ربنا.
صدمة غير متوقعة هبطت على رأسه فأصابته بالحنق والغل، رمقها بنظرات نارية ثم أشار لها بإصبعه ينذرها:
-إنتي اللي اختارتي يا "آمنة"!
نكست رأسها حتى لا ترى نظراته المشبعة باللوم، يكفيها أن تشعر بسعادة ابنتيها ليتخللها إحساس الرضا، انتفض جسدها مع صفقه العنيف لباب المنزل، شددت من ضمها لابنتيها وهي تقول لهما بنحيبٍ:
-أنا ماليش إلا إنتم، مش مستعدة أخسركم .............................................. !!
.................................................. .....


منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 28-03-20, 09:16 PM   #8

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9 الفصل الخامس

الفصل الخامس

تلفت حوله في حلقت دائرية باحثًا عنها، كانت هنا قبل قليل، وهو لم يغب كثيرًا .. فقط ما يقرب من نصف الساعة، أيعقل أن تختفي هكذا فجأة وكأنها لم تكن موجودة مطلقًا؟ ما زالت الحياة سائدة بالمكان، بل ربما زادت قليلاً بالرغم من الغيوم المتجمعة، إذًا أين اختفت؟ حك شعر رأسه الذي استطال قليلاً بيده وأزاح زخات المطر الخفيفة المتساقطة عليه .. اقترب أكثر ليدقق النظر فيما تبقى من آثارها، لا شيء أبدًا يدل على احتلال تلك البقعة في الكورنيش، وكأنها قد خلت من سواها، سدد نظرة متفحصة للعربات المصطفة على مسافات متباعدة، كلها تعمل تقريبًا والشباب متجمهر أسفل مظلاتها الجلدية ليحتمي من المطر المتساقط. استنشق "تميم" الهواء البارد عله يرطب على صدره الحانق دون سببٍ معلوم، نفخ مجددًا بضيقٍ غير مفهوم وهو يردد لنفسه:
-أنا متأكد إنها كانت هنا!
تطلع إليه "ناجي" باستغرابٍ، ثم قال مُلطفًا:
-جايز يكون حد من برا منطقتنا بيجرب رزقه هنا.
رد عليه بنفس النبرة المدهوشة وقد ازداد انهمار المطر:
-بس دي كانت بنت اللي واقفة.
أزاح "ناجي" بكف يده المياه التي احتلت وجهه، ثم سأله مستوضحًا:
-بنت؟ ومين نعرفه هنا هيسمح لبنته تقف وسط الشارع تبيع نص الليل؟ ..
ثم تلفت حوله وهو يكمل بنبرة ذات مغزى:
-لأ وكمان أغلب الموجودين شباب!!
عبث بذقنه النابتة قبل أن يرد في حيرةٍ:
-ما هو دي اللي مستغربه.
علق عليه "ناجي" مقتنعًا:
-أكيد حد مش من عندنا.
لاذ "تميم" بالصمت وحملق في الفراغ أمامه يفكر مليًا في تلك العربة المريبة التي ظهرت من العدم واختفت بعدها لتثير فضوله وريبته، ربما لم تكن لتلفت انتباهه لو لم يرَ بنفسه الشابة التي تعمل بها في تحدٍ صارخ للأعراف والتقاليد المتبعة هنا، وضع رفيقه يده على كتفه لينتبه له، ابتسم مضيفًا:
-عمومًا ماتشغلش بالك، هما تلاقيهم مشيوا عشان الجو وبكرة هيرجعوا.
تنهيدة متعبة خرجت من جوفه قبل أن يستطرد:
-أما نشوف..
لكن ما لبث أن اكتست نبرته بالجدية الآمرة وهو يكمل:
-بس عاوزك تجبلي أرارهم، وتعرفلي تبع مين.
رد محركًا رأسه بالإيجاب:
-تمام يا كبير.
ربتة خفيفة من "تميم" على ظهر رفيقه حثته على التحرك في الاتجاه المقابل لعبور الطريق، وبقي البال مشغولاً بتلك الأمور الغريبة التي حدثت معه وإن كانت مصادفة وبسيطة، لكنها استحوذت على تفكيره بشكلٍ يدعو للريبة، ناهيك عن انشغاله بما يخص أعمال الأسرة الهامة.
.................................................. ...........
دس المفتاح في القفل الخاص به ليفتح باب المنزل بعد أن انقضت سهرته مع رفيقه، لم يكن بحالة مزاجية رائقة تمكنه من قضاء المزيد من الوقت مع أصدقائه القدامى .. لم يتوقع "تميم" أن يجد والدته في انتظاره، كانت متكأة على مرفقها وبالكاد مستيقظة، اقترب منها حتى أصبح بجوارها، انحنى نحوها يقبلها أعلى رأسها في حنوٍ، ثم هزها برفقٍ قبل أن يناديها هامسًا:
-يامه!
انتفضت في خفة على إثر صوته الخافت رافعة عينيها إليه، سألته بصوتٍ ثقيل ناعس:
-إنت رجعت من بدري يا "تميم"؟
هز رأسه بالإيجاب وهو يرد متسائلاً:
-أيوه يا أمي، إنتي إيه اللي مسهرك في البرد ده؟
أجابته بغريزة أمومية صافية وعيناها تعبران عن حبها الفطري له:
-مستنياك يا ضنايا، قولت تكون عايز حاجة كده ولا كده.
أحنى رأسه على جبينها يقبله في امتنانٍ شاكر، ثم ضمها إليه وقال:
-حبيبتي يا أمي، ربنا يباركلي في عمرك، قومي ارتاحي إنتي
ربتت على كتفه في رفقٍ متابعة باهتمامٍ:
-يعني مش عاوز حاجة أعملهالك؟
رد نافيًا:
-لأ، أنا تمام، يدوب أخش أنام.
ابتسمت قائلة له في ودٍ:
-ماشي يا غالي، تصبح على خير.
مسح برفقٍ على كف يدها الذي رفعه إلى فمه ليقبله، وتطلع إليها مرددًا:
-وإنتي من أهله..
سارت "ونيسة" بضعة خطوات في اتجاه الردهة قبل أن تدير رأسها ناحيته تسأله:
-إنت كلمت "خلود"؟
أجابها بوجهٍ فاتر التعبيرات:
-لأ لسه .. أفوق كده وأكلمها
ردت مبتسمة:
-ماشي يا حبيبي، عمومًا أبوك اتفق مع جدك على جوازكم قريب، مالهاش لازمة تطولوا أكتر من كده
علق بدبلوماسية لم تفهمها:
-اللي عايزه ربنا هايكون
لوحت له بيدها واستدارت مكملة سيرها نحو غرفة نومها، في حين تلكأ "تميم" في خطواته حتى تأكد من ولوجها وإغلاق الباب خلفها لتنقلب ملامح وجهه بامتعاضٍ مُحبط، لم يكن مستعدًا بعد لخطوة الزواج الجادة، هو ما زال يتعافي من آثار حبسه والذي انعكس بشكلٍ سيء على طباعه وأكسبه صفات الجمود والقسوة، عزز ذلك الشعور لديه إحساسه المحايد نحو "خلود"، لم يكن بالعاشق المتيم بها، القرابة فقط ما حتمت عليه موقفه من الزواج منها .. أخرج زفيرًا مطولاً من صدره واتجه إلى غرفته، أغلق الباب بهدوءٍ بعد أن ضغط على زر الإنارة، ثم استلقى على الفراش دون أن يبدل ثيابه، شعر بشيء مزعج في جيبه الخلفي يعوقه عن التمدد بأريحية، فرفع جسده ليعتدل في نومته ثم أخرج منه المنديل والمشبك .. كان قد نسيهما تمامًا في خضم ما رأه، تلك المرة تطلع إليهما بتفحصٍ مدقق، ابتسامة متهكمة لاحت على زاوية فمه، أسندهما على الكومود الملاصق لفراشه، وبتباطؤ وكسل نهض من مكانه ليتجه إلى دولاب ملابسه، أخرج من ضلفته اليسرى منامة من تلك المجموعة التي رتبتها له والدته بعنايةٍ، وبهمة منخفضة وتثاؤبٍ متواصل انتزع ثيابه وألقاها بإهمالٍ على الأرضية ليرتدي منامته المريحة ويعود إلى فراشه، تمدد عليه وسرعان ما انخرط في نومٍ عميق أفسده اتصالٌ مزعج من "خلود"، بنبرة ثقيلة أجاب عليها متسائلاً بفظاظة:
-خير في حاجة؟
ورغم أسلوبه الجافي معها إلا أنها قالت برقةٍ:
-وحشتني..
رد عليها يلومها بجمودٍ ودون أن يحاول إزاحة آثار النوم عن صوته:
-وده وقت تتصلي فيه بردك يا "خلود"؟
أجابته ببساطة أظهرت عشقها له:
-ما هو إنت اتأخرت كتير برا، وأنا كان نفسي أشوفك قبل ما أمشي..
نفخ قائلاً بضيقٍ:
-وأنا هاروح منك فين؟ احنا هنشوف بعض كل يوم
ســاد للحظة الصمت بينهما قبل أن تسأله بترددٍ بنبرة تستطيع أن تتبين اهتزازها:
-"تميم" إنت لسه بتحبني؟
رد متسائلاً بغموضٍ ضاعف من حيرتها:
-تفتكري إيه؟
أجابته بخوفٍ محسوس:
-أنا خايفة تكون اتغيرت و...
قاطعها بنفاذ صبرٍ فلم يملك الطاقة الكافية لتحمل المزيد منها:
-أنا فهمتك على وضعي، وإنتي براحتك بقى.
استطاع "تميم" أن يسمع صوت نهنهة خافتة حاولت إخفائها، اعتدل في نومته وتمتم مستغفرًا بصوتٍ خفيض ليعتذر منها بهدوءٍ:
-معلش يا حبيبتي أنا تعبان ومش قادر أتكلم دلوقتي، حقك عليا.
وكأنه بكلماته المعتذرة تلك قد نجح في تبديد كل أحزانها فعادت الحيوية إلى صوتها وهي ترد بحماسٍ:
-حبيبتي.. الله! وحشاني الكلمة دي منك، دي كفاية عليا
رد ضاغطًا على شفتيه وكأنه مجبرٌ على الحديث معه:
-ماشي يا "خلود"، خدي بالك من نفسك.
قالت في سعادة:
-حاضر يا قلبي، تصبح على هنا
ودعها باقتضابٍ ودون أي إطالة:
-وإنتي من أهل الخير، باي.
ثم قــام بإغلاق هاتفه نهائيًا حتى لا تزعجه هي أو غيرها خلال ساعات نومه القليلة.
.................................................. ..........
هداها تفكيرها البسيط غير المدنس بالنوايا الخبيثة بإعداد صينية فطار شهية بكل ما لذ وطاب لتكون بادرة صلح طيبة بينها وبين أخيها، هي اتخذت جانب ابنتيها، لكنها غير راضية عن خسارة دعمه .. تأكدت "آمنة" من رص الأطباق وملأها بما يحبذه، ثم صعدت متهادية على الدرج حتى لا تفسد الشكل الجمالي لترتيب الطعام، وبحذرٍ مبالغ فيه رفعت يدها بعد أن ألصقت الصينية بصدرها لتتمكن من قرع الجرس، انتظرت بابتسامة بشوشة فتح الباب لها، استقبلتها "حمدية" بعبوسٍ مستنكر، رمقتها بنظرة احتقارية جابتها من رأسها لأخمص قدميها، تجاوزت "آمنة" عن نظراتها الوقحة لتستهل حديثها بودٍ:
-صباح الخير عليكي يا مرات أخويا.
زمت شفتيها مغمغمة بصوتٍ خفيض لكنه وصل لمسامعها:
-يادي القرف اللي على الصبح!
ثم منحتها نظرة دونية متعالية قبل أن تشيح بوجهها عنها وكأنها نكرة لتصيح عاليًا:
-تعالى كلم يا "خليل".
خرج الأخير من الحمام وبيده منشفته يجفف بها وجهه متسائلاً:
-في إيه؟
لم تجبه بل تغنجت بجسدها المتهدل لتظهر عدم ترحيبها بضيفتها ثم اقتربت من زوجها ولكزت كتفه تحذره:
-أختك يا سبع الرجالة.. اوعى تضحك عليك بمُحنها!
كانت كلماتها تحمل تلميحًا بالإهانة، وعفويًا تتطلع إلى "آمنة" باندهاشٍ متعجب، لكن ما لبث أن تحولت كامل تعابيره للتجهم، وقف قبالتها يسألها بجمودٍ ونظراتٍ قاسية:
-خير؟ عاوزة إيه يا "آمنة"؟
أجابته بوديةٍ وصفاء وهي تضع الصينية على طاولة السفرة:
-أنا عملتلك يا خويا كل الأكل اللي إنت بتحبه.
نظر لها شزرًا قبل أن يقول بوقاحةٍ:
-مش عاوز منك حاجة.
ابتلعت غصة مريرة في حلقها متغاضية عن جفائه معها، تنهدت ترجوه:
-يا "خليل" متخليش الشيطان يدخل بينا، احنا إخوات وسند لبعض
أولاها ظهره قائلاً لها بحسمٍ:
-إنتي اللي اختارتي.
بررت له موقفها بنبرة أقرب للتوسل:
-ما هو غصب عني برضوه، أنا مقدرش أكسر بخاطر بناتي، هما مالهومش غيري!
التفت نحوها يسألها في حدة:
-لكن يجيبولنا العار عادي؟!
ردت بتمهلٍ علها تمتص انفعاله الظاهر على محياه
-إن شاءالله مافيش حاجة وحشة هتحصل، وبعدين لو إنت في ضهرهم هـ .....
قاطعها قبل أن تكمل جملتها رافعًا يده أمام وجهها:
-ماليش دعوة بحد، أنا علاقتي اتقطعت بكل اللي يخصكم، اصرفوا بعيد عني
بدت وكأن الدمعات تتجمع في طرفيها لتغرقهما، انخلع قلبها وهي تستعطفه:
-بس آ...
استدار بعيدًا عنها ليقول بجمودٍ قاسٍ أشعرها بالمذلة:
-شرفتي يا "آمنة"، وخدي أكلك معاكي.
-بقى كده يا خويا؟
وكأنها تُحادث الفراغ، لم يأخذه بها شفقة أو أدنى عاطفة، اختفى بالداخل غير عابئ بمشاعرها ورجاواتها المستمرة .. أطرقت رأسها في حزنٍ آسف وحملت الصينية من مكانها لتخرج من المنزل مفطورة القلب.
.................................................. ...
لم تدخر وسعها في إظهار بأن عودته تعني الكثير لها من خلال الاهتمام بكافة التفاصيل المتعلقة به، دقت على باب غرفته بهدوءٍ حتى لا توقظه إن كان لا يزال نائمًا، أطلت "ونيسة" برأسها من الباب فلم تجد ابنها على الفراش، دفعته بيدها لتزداد فرجته ودارت بعينيها في أرجاء الغرفة، كانت خالية منه، اعتقدت بوجوده في الحمام، ولجت للداخل وتلقائيًا انحنت على الفراش لترتبه .. ابتسمت لكون ابنها ما زال محتفظًا بعادته في الاستيقاظ باكرًا وإن تأخر في عودته للمنزل مساءً. التقطت عيناها دون قصدٍ منديل الرأس النسائي المسنود على الكومود، مدت يدها لتمسك به فرأت المشبك المثبت به، انعقد حاجباها في استغرابٍ سائلة نفسها:
-بتوع مين دول؟
سرعان ما تلاشى اندهاشها مع ظنها أنه يخص "خلود"، ربما أهدته إياه خلسة ليحتفظ بشيءٍ يخصها فتحرك المياه الراكدة في علاقتهما .. ابتسامة عبثية لاحت على ثغرها وهي تعيد وضعه في مكانه، اعتدلت في وقفتها مكملة حديث نفسها:
-ربنا يقرب ما بينكم.
التفتت لتجد "تميم" واقفًا عند أعتاب الغرفة، منح والدته نظرة مليئة بالحب وهو يلقي عليها التحية ليمرح بعدها معها قائلاً:
-إيه الدلع ده كله، بنفسك بتروقيلي الفرش.
قالت له في عتابٍ رقيق:
-هو أنا عندي أغلى منك؟ الظاهر السجن نساك كنت بأعلم إيه عشانك!
احتضنها وأحست بذراعيه تطوقان جسدها المسن، قبَّل أعلى رأسها يشكرها:
-ولا لحظة نسيت يامه، ده مكانش في حاجة بتهون عليا بُعدك عني يا ست الكل
ربتت على كتفه بحبٍ مضاعف، ثم رددت بابتسامتها الودودة:
-حبيبي يا ابني، ربنا ما يحرمني منك أبدًا، الحمدلله إن ربنا مد في عمري وشوفتك قصادي تاني..
وما لبثت أن تحولت نبرتها للجدية وهي تنذره:
-بس بالله عليك بلاش أمور اللبش دي تاني! أنا مش ناقصة يا ابني، العمر معدتش فيه باقية.
رد بإجابة محايدة:
-كله على الله.
سألته في اهتمامٍ:
-أعملك تفطر؟
رد نافيًا بهدوءٍ:
-لأ، ده أنا يدوب أنزل ألحق الحاج في الدكان، ورانا طلبية بحر لازم تخلص قبل الضهر.
دعت له بصدقٍ:
-ربنا يعينك يا ابني ويفتحها في وشك من وسع
لف "تميم" وشاحًا رفيعًا من الصوف حول عنقه حتى لا يلفحه الهواء الشمالي البارد الآتي من البحر، مشط شعره بمشطه ليتركه بعدها على التسريحة، ثم هذب ذقنه بيده ملقيًا نظرة أخيرة على هيئته، التفت متجهًا نحو باب غرفته لكن استوقفه طلب والدته القائل:
-ماتنساش تاخد "خلود" تفسحها، بنت خالتك صبرت كتير، حاسسها إنك رجعت، وأجبر بخاطرها بكلمتين.
استدار برأسه نصف استدارة وقد بدا الوجوم واضحًا على ملامحه، سألها في ضيقٍ معتقدًا أنها ربما قد تكون استفاضت في الحديث مع خالتها:
-هي اشتكتلك يامه ولا حاجة؟
نفت كليًا وبجدية تامة:
-قسمًا بالله ما حصل، بس أنا ست وأفهم في دماغ البنات، وهي صعبانة عليا، لا لحقت تفرح بيك ولا تتهنى بخطوبتها.
زفيرٌ بطيءٌ خرج من جوفه قبل أن يتصنع الابتسام وهو يعدها:
-حاضر، هاخلص اللي ورايا وأرتب معاها خروجة.
رفعت كفيها للسماء تدعو له:
-ربنا يراضيك زي ما بتراضيني كده على طول.
قال في إيجازٍ:
-يا رب، سلامو عليكم.
أســرع في خطاه خارجًا من الغرفة وكلمات والدته تلحق به قائلة له:
-وعليكم السلام يا "تميم"، ربنا يبعد عنك شر الطريق
.................................................. ....................
ملأها الحماس لتنزل باكرًا إلى الأسفل وتحديدًا باحة المنزل الخلفية بعد تناول الإفطار حتى تتفقد عربتها، كانت على عكس طبيعتها كلها حيوية وإقبال على الحياة، صدمة مروعة أصابت أطرافها بالشلل مؤقتًا فتجمدت في مكانها وقد رأت التخريب المتعمد الذي أصاب حلمها، تدلى فكها السفلي في ذهولٍ وارتعاب، أحست بقلبها ينخلع في صدرها من قوة المفاجأة المحطمة لآمالها .. رمشت "فيروزة" بعينيها وهي بالكاد لا تصدق مدى الضرر الذي لحق بالعربة، تساءلت مع نفسها في استنكارٍ تام:
-إزاي ده حصل؟
أجبرت ساقيها على التحرك في اتجاهها، تلمست بيدٍ مرتعشة النافذة التي انتزعت بشراسةٍ وتركت ملاقاة على الأرضية، وارتفع ذراعها ليمسك بالمظلة الجلدية التي تمزقت إربًا، ناهيك عن تلطيخ جسم العربة بالزيت وألوان بشعة ليفسد مظهرها الخارجي، وبالتالي ستحتاج لطلاء جديد لإعادتها لهيئتها الأولى .. في أقل من ثوانٍ كانت عيناها تسبحان في أبحر من العبرات الحارقة، حلمها انتهى قبل أن يبدأ، أصيب ذهنها بالتشوش فلم تستطع في البداية أن تفكر بعقلانية، انهارت جاثية على ركبتيها تبكي في ألمٍ، حانت منها التفاتة تلقائية للأعلى لتجده محدقًا بها من النافذة في تشفٍ صارخ، أكدت تعابيره المرسوم عليها ابتسامة انتصار عريضة ونظراته المزهوة أنه من يقف وراء ذلك، رددت بذهولٍ محاولة استيعاب أنه الفاعل:
-خالي؟
اتسعت ضحكة "خليل" اللئيمة وهو يستعيد المشهد في عقله منذ البداية، انتظر صلاة الفجر وهبط من منزله متجهًا للباحة الخلفية وهو يضمر سوءًا نحو ابنتي أخته، لن يتركهما يحققان مآربهما، سينتقم منهما بقسوة ليعرفا جيدًا مع من يتعاملان، وخاصة بعد شحن زوجته له وإوغار صدره نحوهما، أمسك بعَتلةٍ قديمة لينتزع النافذة المعدنية من مفصلاتها، ثم قام بشق جلد المظلة بطرفها الحاد وخلعه من مكانه ليلقيه أرضًا، تمكن من الصعود إلى بدن العربة، وبداخلها عاث فيها الفساد، خرب كل شيءٍ تقريبًا فباتت لا تصلح للاستخدام، ترجل منها ومسح العرق الساحن الذي غطى جسده بالكامل بالرغم من برودة الطقس، أحس بنيرانه المشتعلة تهدئ بعد أن حاز على انتقامه .. عاد "خليل" لأرض الواقع مبتسمًا بشكلٍ استفز "فيروزة" على الأخير، جفت دموعها ونهضت واقفة على قدميها تصيح به:
-ليه كده يا خالي؟
أجابها ببرودٍ ونظراته الشامتة تنعكس عليه:
-مشكلة وحلتها!
صرخت به بحرقةٍ شديدة:
-حرام عليك! ضيعت تعبي كله، أنا عملتلك إيه؟
قال غير مبالٍ قاصدًا أن يصل إليها مغزى ما فعل:
-محدش بيتعلم ببلاش، ففوقي لنفسك يا بنت "أبو المكارم"!
أتت "همسة" على صوت شقيقتها الصارخ والمنفعل لتتفاجئ هي الأخرى بالكارثة التي حلت بالعربة، وضعت يدها على فمها كرد فعل طبيعي كاتمة شهقة مصدومة تقاتل للخروج من جوفها وتعبر عن حسرتها، التفتت ناظرة إلى أختها التي تحترق حية من فرط انفعالها، وقفت إلى جوارها وحاوطتها من كتفيها، نظرت إليها بعينين حزينتين فرأتها محدقة بالأعلى، ارتفعت رأسها لتتطلع إلى من تتركز عيناها عليه، سددت "همسة" نظرة لائمة لخالها الذي كان يرقص محتفلاً بانتصاره الرخيص، أوصد الأخير النافذة في وجهي كلتيهما ليزداد حنق "فيروزة" ويندلع غضبها أكثر، أخفضت رأسها تصيح في وجه أختها:
-شايفة خالك المفتري عمل فينا إيه؟
توسلتها بصوتٍ يعبر عن قرب بكائها:
-اهدي طيب يا "فيرو"
توعدت "فيروزة" خالها بعدائية جمة:
-أنا مش هاسكتله، والله ما هاسيب حقي.
رجتها "همسة" من جديد:
-عشان خاطري اهدي الأول، هيجرالك حاجة من العصبية.
ردت عليها بحرقةٍ:
-ربنا يقهره زي ما قهرني..
أضافت عليها مؤكدة:
-ماما لازم تعرف باللي عمله
-ده أنا هافضحه، مش هاعديها على خير، هو ده اللي خايف على مصلحتنا؟ بدل ما ياخدنا تحت جناحه ويتفاهم معانا بالعقل؟
ثم كزت على أسنانها مضيفة بحنقٍ أشد:
-أكيد الحيزبونة مراته ورا اللي حصل
أيدتها في رأسها قائلة:
-ماتستبعديش ده
ضاقت نظراتها بعزيمة أكبر وهي تعد أختها بما لا يدع مجالاً للشك أو التراجع:
-فكره إنه بكده هيمنعني أعمل اللي في دماغي؟ يبقى غلطان، أنا مش هاستسلم!
عادت لتحملق بالأعلى من جديد وصدرها الناهج يضج بغضبٍ أشد قوة، لن ينجح في تثبيط همتها أو تدمير أحلامها، ستقف له الند بالند إلى أن يرضخ بالأمر الواقع.
........................................
تأنقت بعباءةٍ جديدة سوداء اللون تنتهي أكمامها بشرائط مرصعة بالترتر قامت بتضييقها من عند الخصر ليظهر تناسق جسدها وامتلائه بشكلٍ مغرٍ، أما فتحة صدرها فمنقوشٌ عليها رسمة لقرص الشمس وأشعتها المتشعبة لتبدو لافتة للأنظار، تأبطت ذراعه في تفاخر وزهو، وكأنها ملكت الدنيا بأسرها بسيرها معه وسط العامة خلال ساعات الليل الأولى، تهادت في مشيتها بثقةٍ ودلال مستشعرة باكتمال أنوثتها في حضرته، كم ادعت تعثرها لأكثر من مرة لتشعر بقوة قبضته حينما يمسك بها! كذلك كانت تثرثر بلا توقف، تحكي له عن توافه الأمور لتشعره بأهمية مشاطرته لها في كل ما يخصها، أما هو فقد اكتفى بهز رأسه من آن لآخر ليوحي لها بأنه متابع جيد للغوها الذي لم يلتقط منه إلا جملاً معدودة .. تنهدت "خلود" مرددة في بهجة محسوسة:
-أنا خلاص هاجيب مفرش العرايس بتاع أوضة نومنا، وأبقى بكده قفلت كل حاجتي.
قال باقتضابٍ وبوجهٍ خالٍ من التعبيرات:
-كويس.
-إنت لو ناقصك حاجة قول لخالتي عشان تجيبهالك، مش عايزين نضيع وقت
-ربنا يسهل
-بأفكر كمان لما العفش يجي أعمل الستاير لونين
نظر لها بفتورٍ وقد بدا نوعًا ما منزعجًا من تلك التفاصيل المملة عن تأسيس منزل الزوجية، سألته "خلود" من جديد وعيناها تدوران في الطريق المتسع:
-هانروح فين يا "تميم"؟
للحظة انتبه لسؤالها الأخير بعد أن كان شاردًا عنها نسبيًا، حتى سيره معها كان بلا وجهةٍ محددة .. احتدت نظراته في الطريق وهو يفكر مليًا في المكان الذي سيصطحبها فيه ليقضي سهرته الروتينية معها، جال بخاطره فجأة أن يتجه لمنطقة الكورنيش، ولما لا فهي فرصة مناسبة للتأكد من وجود العربة، استدار برأسه نحوها يقول ببسمة بدت متكلفة:
-هانقعد على الكورنيش شوية.
استغربت من اقتراحه ورددت متسائلة:
-في السقعة دي؟
أجابها بحماسٍ عجيب:
-ده أحسن وقت يا "خلود" ..
نظرت له باسترابةٍ فأوضح لها:
-قصدي يعني هوا البحر مع أعدتنا سوا.
ورغم حالة التعجب المسيطرة عليها إلا أنها لم تعترض على فكرته، ظنت أنه يريد التودد إليها بشكلٍ حميمي ويحتاج لحجة زائفة لفعل ذلك والاقتراب منها مستغلاً برودة الجو، هكذا انطلقت في ذهنها الهواجس الوردية وتدفقت لتغزي عروقها. عضت على شفتها السفلى في استحياءٍ مستنكرة جموح خواطرها، وأطرقت رأسها لتنظر إلى موضع قدميها وهي تكمل فسحتها الترويحية معه. دارت عينا "تميم" على مدى البصر في الكورنيش بحثًا عن تلك العربة، لم تكن موجودة مما أصابه بإحباطٍ عجيب، جاهد بصعوبة ليبدو طبيعيًا في تصرفاته مع خطيبته التي لو كانت منتبهة جيدًا له للاحظت التغيير الذي طرأ عليه وتملك منه، استنشق بعمقٍ الهواء الجليدي الذي اقتحم رئتيه فأنعشهما، أشار بعينيه إلى بقعة ما شبه خالية قائلاً:
-تعالي نقعد هناك.
-ماشي
قالتها وهي ترفع طرف عباءتها الملامس للطريق قليلاً حتى تتمكن من صعود الرصيف والاتجاه إلى المنطقة الحجرية المخصصة لجلوس الأفراد، وقبل أن تجلس أخرجت من حقيبتها منديلاً ورقيًا مسحت به مكانها، ثم أعطت "تميم" واحدًا ليفعل مثلها، جلست معتقدة أنه سيحاول الالتصاق بها ليشعرها بحرارة جسده المضطرم فيه نيران الحب والغرام، لكنه ترك مسافة تتخطى السنتيمترات كفاصل بينهما مما أزعجها للغاية، سألها بصوته الأجش وقد نهض فجأة ليشعل سيجارته:
-عاوزة تأكلي إيه؟
أجابته في تردد وهي تهز كتفيها:
-مش عارفة
أومأ بعينيه نحو عربة قريبة منهما نسبيًا قائلاً لها:
-هاجيبلك شاورمة..
تطلعت إليه وقد أكمل جملته متسائلاً:
-مش إنتي لسه بتحبيها؟
ردت بقلب يدق في عنفٍ لكلماته التي أشعلت أكثر جذوة الحب المتقدة بداخلها:
-أيوه
-تمام..
بخفةٍ وسرعة تحرك "تميم" نحو العربة التي تبعد عدة أمتار ليقف أمام نافذتها، أملى على العامل الواقف بها طلبه ومنحه بقشيشًا إضافيًا ليعد له السندوتشات سريعًا، التفت نحو "خلود" ليراقبها عن كثب ليتأكد من عدم تعرضها للمضايقة من قِبل أحدهم، ولكن لكونه ذائع الصيت ومعروف لدى أغلب سكان المنطقة فلم يجرؤ أي شخص على الاقتراب منها، بل على العكس كان الترحيب الجلي به واضحًا طوال سيره .. أخذ "تميم" السندوتشات ذات الرائحة الشهية والمحفزة للمعدة من البائع وعاد بها إلى خطيبته، ناولها خاصتها وجلس إلى جوارها يقضم قطعة كبيرة وراء الأخرى، سكونٌ هادئ ساد بينهما لبعض الوقت، حاولت "خلود" استدراجه للحديث معها حينما طال صمته فقالت:
-فكرت في الميعاد اللي هنتجوز فيه؟
صدمها وجعل الطعام يعلق بحلقها فأصبح كالزقوم الحارق في جوفها حينما أجاب دون تفكيرٍ وكأنه يبوح بما يدور في مكنونات نفسه:
-لأ ............................................. !!
.................................................. ............


منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 28-03-20, 09:21 PM   #9

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9 الفصل السادس

الفصل السادس

غصة جارحة مؤلمة آلمت حلقها وجعلت لقمة الطعام تشق طريقها شقًا كما يجرف المحراث الزراعي الأرض الجافة الجرداء إلى أن ابتلعتها بعد كلمته المقتضبة التي حطمت سور الأحلام الوردية وهدمته على رأسها لتشعر بمدى قساوة واقعها المحيط .. كان الهواء قارصًا، لكنه لا يقارن ببرودته المميتة للقلوب في تعامله الجاف معها، سبحت عينا "خلود" سريعًا في أبحر من العبرات الدافئة، تركتها تنساب في قهرٍ وبؤس، فقدت قدرتها على منعها أو الصمود أمامه، بدا صدرها وكأنه ينهج من اجتهادها لكتم ألمها، عجزت عن تجاوز الأمر وتخطيه، فلملمت أشيائها، ودست ما تبقى من السندوتش في حقيبة يدها، كانت عازمة على تصعيد الخلاف غير المقصود لمداه، فإن كان لا يريدها فلن تذل نفسها من أجله، لينفصلا في هدوء، وتجتر وحدها مرارة الانتظار .. هبت ناهضة من مكانها قائلة له ببقايا كرامةٍ وبصوتٍ مجروح:
-أنا عاوزة أمشي!
تطلع إليها "تميم" في ندمٍ، كان غبيًا بدرجة كبيرة لينطق برعونة بذلك الرد الفظ الذي أفسد الليلة وأنهاها فجأة لتكون عبارتها التى تعكس ألمها مؤثرة على سمعه ووجدانه، أي حماقةٍ دفعته للتصرف هكذا معها دون تفكيرٍ مسبق! وهو المشهود عنه ببراعته في إدارة أعمال التجارة وإنهاء الصفقات الكبيرة بمعسول الكلام .. تحرك ليقف قبالتها حتى يعترض طريقها بعد أن بدأت بالسير بعيدًا عنه، نظر لها بعينين غائمتين وهو يعتذر منها:
-أنا أسف يا "خلود"، مقصدش المعنى اللي في دماغك!
رفعت وجهها الباكي إليه لتشعره بالمزيد من الندم، ثم قالت بإصرارٍ وصوتها المتقطع يعبر عن حالها:
-تقصدش ولا متقصدش إنت حر! خلينا نروح...
ما لبث أن تحولت نبرتها للرجاء الشديد:
-لو سمحت، أنا عاوزة أرجع البيت، كفاية كده!
أدرك أنه دفعها لتعيش حزنًا جديدًا بسبب طريقته الجافة في التعامل معها بالرغم من سعيه لإثبات اهتمامه بها، لكن محاولته كانت فاشلة بشكلٍ ذريع .. لم يكن منه إلا أن سايرها وتحرك معها بخطواتٍ تميل للركض حتى يجتازا الطريق، سعى لاجتذاب أطراف الحديث مبتسمًا، فلم يجد منها إلا سكونًا ضاعف من إحساسه بالضيق، فالتزم الصمت أيضًا عله بذلك يفكر بعمقٍ في طريقة لاسترضائها.
.................................................. ........................
بضعة دقائق وكان الاثنان يقتربان من البناية التي تسكن بها "خلود" والصمت سائد بينهما، لم تودعه وأسرعت هاربة منه متجهة ناحية المدخل، وضعت يدها على الدرابزين وبدأت تصعد الدرجات الأولية، أردات أن تختلي بنفسها لتنخرط في تعاستها البائسة بمفردها، شهقة خافتة خرجت من بين شفتيها وقد جذبتها قبضة رجولية بقوةٍ فأعادتها مجبرة للخلف، التفتت كالملسوعة للجانب وقد استندت بظهرها على الحائط لتجد معشوقها قريبًا منها حد إتلاف الأعصاب، كانت الإضاءة خافتة، فبعثت نوعًا من التوتر اللطيف، اهتز صوتها وهي تتوسله:
-سيبني يا "تميم".
رنت في أذنيه نبرتها الجريحة فاعتذر منها بأسفٍ أكبر وقد امتدت يده لترفع وجهها إلى عينيه:
-حقك عليا، أنا فعلاً كنت غبي في كلامي.
قالت له بصعوبةٍ ظهرت في نبرتها وهي تنظر له عن قربٍ خطير، لكنها أرادت أن تزيح ذلك الثقل الجاثم على قلبها وتترك له حرية الاختيار:
-لو إنت معنتش بتحبني.. فبلاش تربط نفسك بيا و..
رفع "تميم" يده عنها ليستند على الحائط فأصبحت شبه محاصرة من ذراعه، تهدجت أنفاسها اللاهثة أكثر، وتوقعت منه عصبية شديدة لكنه قال بعتابٍ رقيق مبددًا شكوكها التي ساورتها بالفعل:
-يا ستي أنا بأحبك، فبلاش تقولي كلام يزعلني.
انخرطت في بكاءٍ مرير امتزج مع شهقاتها، تمنت لو تدفس رأسها في صدره فتسمع خفقات قلبه ليشعر بصدق حبها العميق له، نظر لها في ضيقٍ وهو يغمغم متسائلاً:
-لا حول ولا قوة إلا بالله، بتعيطي ليه دلوقتي يا بنت الناس؟
أجابته بنهنهة وهي تحاول استعادة هدوئها بعد أن سيطرة عليها نوبة المشاعر المتأثرة:
-صعبان عليا نفسي.
تعقدت تعابيره متابعًا رجائه حتى تغفر له زلة لسانه وهو يتراجع عنها خطوة للخلف:
-يا ستي أنا غلطان ومحقوقلك، كلامي دبش ومبعرفش أعبر، ها مبسوطة؟
حملقت فيه من جديد مكفكفة دمعاتها بظهر كفها، وشردت متأملة نظراته التي تهواها حينما تكون مرتكزة عليها فقط، ومع ذلك لا تزال تشعر بالرهبة والقلق، لذا عبرت بصراحةٍ عن مخاوفها التي تنتابها منذ لحظة لقائه بها:
-أنا مش حابة أحس إني مفروضة عليك، أنا أقل حاجة منك بترضيني، وبرضوه أقل كلمة بتجرحني، متخلنيش في يوم أحس إني عبء عليك.
نفخ مطولاً كتعبير عن ضيقه من لومها المبرر، كيف يقنعها أنه لم يكن ينعم بحياة الرخاء في محبسٍ عفن الرائحة مع عتاة الإجرام؟ يقضي نهاره الطويل بصحبة لا تدعو للخير، أما ليله فكان ثقيلاً مليئًا بالأوجاع والحنين .. حاول أن يرد عليها بتمهلٍ عقلاني علها تزيح أفكارها السوداوية عن مخيلتها فتفكر بصفاءٍ وحكمة:
-يا "خلود" ما أنا مفهمك على الوضع، لسه مبقاليش كتير طالع من المخروب السجن، وطبيعي تلاقيني مدب معاكي، إنتي وشطارتك بقى تنسيني الغم ده كله.
سألته بقلبٍ مرتعش من تأثير كلماته الأخيرة التي لامست كيانها وداعبت مشاعرها المرهفة:
-يعني إنت لسه بتحبني وعاوز تتجوزني؟
أجابها بابتسامةٍ صغيرة وهو يومئ:
-أيوه يا ستي، وهتنيل على عيني أتجوزك.
عبست تعاتبه من جديد:
-شوف بتكلم إزاي؟!!!
ضرب "تميم" كفًا بالآخر في استنكارٍ مزعوج من تصيدها الدائم لأخطائه وإن كان يتحدث عفويًا، لوح لها بيده وقد تراجع هابطًا على الدرج خطوتين:
-لا إله إلا الله! اطلعي فوق عند أمك الله يرضى عليكي!
ســاد بينهما جوًا من المرح اللطيف الذي أذاب ما كان في القلب من أحزانٍ وأعاد البسمة والضحكة الصافية للوجدان، لم ينتبه كلاهما ذاك الذي يتابعهما خلسة من الدور العلوي .. كان "هيثم" في طريقه للخروج لقضاء سهرة متأخرة كعادته يعود منها قبيل الفجر بقليل، لمحهما وهما يتبادلان عتاب المحبين، فوسوس له شيطان رأسه بفكرة جهنمية مدهشة لكنها في نفس الوقت هشة إن لم يوظفها بالطريقة التي تؤتي بنتائجها الوهمية، تحفز وشحن حواسه مستدعيًا انفعالات هائجة وهمية تعبر عن رفضه الناقم لاختلاء أخته مع ابن خالته في تلك البقعة المعتمة على السلم، هدر صائحًا بصوتٍ أجش وخشن:
-بتعمل إيه عندك يا "تميم"، ومع أختي يا ابن الأصول؟!!!!
لطمت "خلود" على خديها كردة فعلٍ طبيعية لظنه السوء بها، ارتعدت وتلبك بدنها وهي تهتف شاهقة:
-يا نصيبتي!
زوى "تميم" ما بين حاجبيه في دهشة مستنكرة متلفظًا باسمه بسخرية مقصودة:
-"هيثم"!
هبط الأخير الدرجات ركضًا وأوداجه منتفخة جدًا، وقف قبالة ابن خالته يرمقها بنظرات شريرة، ثم سأله بكلمات موحية تحمل إهانة جمة:
-حد قالك عني إني مركب قرون؟ ولا رافع الإريال؟!
اِربد وجه "تميم" بالغضب من أسلوبه المرفوض شكلاً وموضوعًا لإتهامه بالتجاوز في علاقته العفيفة بـ "خلود"، استشاط حنقًا وهو ينهره بلهجته الخشنة:
-اتكلم عدل يا "هيثم"، مافيش حاجة من اللي في دماغك دي، احنا أنضف من تفكيرك الوسخ ده!!!
تجاهله عن عمدٍ موجهًا حديثه المسيء إلى أخته وذراعه ترتفع عاليًا في الهواء مهددة بصفعها:
-ليكي حساب معايا يا بنت الـ ...... !!
وقبل أن تحط على وجهها كانت قبضة "تميم" ممسكة به من معصمه، شده ناحيته في شراسةٍ وعيناه تطقان شررًا، ثم استطردت ينذره بقساوة عدوانية:
-قسمًا عظمًا لو إيدك اتمدت عليها لأقطعهالك!
ثم أشــار لـ "خلود" بعينيه لتهرب صاعدة للأعلى قبل أن يتطاول عليها أخيها باليد وتثور ثائرته دون داعٍ، احتقن وجه "هيثم" بشدة، وبدا وكأن ما رسمه من خطة ماكرة قد ضاع هباءً، والأسوأ من ذلك أنه استصغره أمام شقيقته فربما تتمرد عليه .. انتزع يده من قبضته ونظر له شزرًا يصيح فيه:
-إنت هتعرفني ألم أهل بيتي إزاي؟
عاجله بنظرة مستهجنة كادت تجمده في مكانه، ثم رد عليه بصوته القوي الذي ينم عن شخصية مليئة بالبَأْس:
-هي مغلطتش...
وما لبث أن تحولت نبرته للتحذير الشديد حينما أكلم:
-وبلاش أحسنلك تعمل نَمرة عليا، عشان الكلام ده مايكولش معايا.
كز "هيثم" على أسنانه في غيظٍ وقال:
-إنت بـ ...
أطبق "تميم" على فكه بغتةً ضاغطًا بكل قوته عليه حتى كاد أن يحطمه ليجبره على ابتلاع تهديداته الفارغة متابعًا إنذاره شديد اللهجة:
-"تميم سلطان" مش عيل كَوِرك يتاكل على قفاه، فخد بالك مني!
تلبك من أسلوبه العدائي ونظراته المليئة بالشر فبدا كما لو كان قد تراجع عن موقفه الرجولي المصطنع، فضحته نظراته المهتزة وإيماءاته المذعورة. أرخى "تميم" يده عنه ليقف مزهوًا بنفسه، منتصبًا بشموخٍ يُحسد عليه، تنحنح "هيثم" متسائلاً بحدةٍ أخف:
-أنا .. خايف على أختي، إيه مش من حقي؟
قال له بحزمٍ دون أن يرتد له جفن:
-وأختك على عيني وراسي ومتصانة، وكلها كام يوم وهتبقى مراتي!
رد عليه بوجهٍ متجهمٍ للغاية عله بذلك يظهر حرصه الزائف على سمعتها:
-ماشي .. بس لحد ما تبقى في بيتك هي رجلها مش هتخطي الشارع ولا هتخرج معاك، مفهوم؟!
أطلق "تميم" ضحكة عالية مستهزأة بكلماته تلك مما استفز ابن خالته، هدأ قليلاً وربت على كتفه يسخر منه:
-لأ حِمش يا "هيثم"! شنبك على راجل بصحيح!
احتقنت نظراته من أسلوبه التهكمي المتحقر فصاح يسأله بانفعالٍ:
-إنت بتتريق عليا؟
ابتسامة جانبية مقتضبة على زاوية فم "تميم" لاحت بشكل استثار أعصابه، أولاه ظهره قائلاً له بما يحمل في مضمونه الازدراء لشخصه التافه:
-سلامي لأمك!
تكورت قبضة "هيثم" من غيظه المحتدم وضرب بها على الحائط كطريقة سريعة للتنفيس عن غضبه المحموم، تهدجت أنفاسه وهو يتوعده بقلبٍ يضمر الشر:
-ماشي يا "تميم"، بكرة "هيثم" اللي مش عاجبك ده يوريك مقامك ويرجع البُرش تاني!
.................................................. .......
يومًا بأكمله قضته باكية معتكفة في غرفتها رافضة تناول الطعام أو حتى الجلوس مع أسرتها، لم يكن من السهل عليها أن ترى حلمها مُحطم، عادت المشاهد المستفزة لوجه خالها بقوة إلى مخيلتها فزادت من حالتها سوءًا، بكت بقلبٍ مفطور مرة أخرى، فكرت في إعادة إصلاح العربة وتجهيزها من جديد، لكن سيكلفها ذلك مبلغًا من المال، وهي لا تملكه من الأساس .. بالكاد استطاعت أن تدخر ما أعانها على شراء العربة، وتدبرت الباقي من تلك الجمعية التي اشتركت فيها مع رفاقها.
وجدت "فيروزة" نفسها واقعة في ضائقة مالية؛ فمن ناحية عليها سداد الاشتراك الشهري للجميع، ومن ناحية أخرى تحتاج لتشغيل العربة .. تجدد إحساسها بالقهر العاجز وازداد احتراقها خاصة مع سطوع طيف ابتسامة خالها المقيتة في عقلها، لم تستمع إلى دقات الباب ودفنت رأسها في الوسادة ضاربة بيدها في عصبية عليها، استطاعت أن تلمح توأمتها من بين رؤيتها الضبابية وهي تطل عليها، تقلبت على جانبها لتتجنب نظرات الشفقة منها، وإن كانت شريكتها فهي لم تكن متعلقة مثلها بذلك الحلم الضائع.
حاولت "همسة" مواساتها فجلست إلى جوارها على الفراش تربت على ذراعها برفقٍ، ثم قالت لها بما يبعث على النفس الملتاعة القليل من التفاؤل:
-إن شاء الله كل حاجة هترجع زي الأول وأحسن.
كانت فاقدة لرغبتها في تقبل مثل تلك النوعية من المواساة، أدارت رأسها قليلاً نحوها وقالت لها بصوتها المتشنج بنبرة عبرت عن يأسها الشديد:
-إزاي؟ مافيش حاجة بترجع يا "همسة"، كل حاجة ضاعت!
كانت متفهمة لانفعالها والإحباط المسيطر عليها، حاولت أن تبدو متماسكة أمامها، فادعت زيفًا:
-متقوليش كده، مشكلة وهتعدي.
-فوقي من الوهم ده!
قالتها "فيروزة" بنبرة أقرب للصراخ وهي تعتدل في رقدتها قبل أن تبدأ من جديد بفاصلٍ من العويل والنواح الممتزج بالندب، أشفقت عليها "همسة" وضمتها إلى صدرها لتبكي على كتفها دون أن تطلب منها ذلك، تأثرت أيضًا بحالها الملكوم وشاركتها حزنها بقلبٍ مفطورٍ .. على أعتاب الغرفة تطلعت إليهما "آمنة" بحرقة واضحة في نظراتها لهما، تضرج وجهها وتقلصت تعابيرها بما يعبر عن حنقها الرافض لما فعله أخيها، أيحق له تدمير أحلامهما لمجرد نزعة رجولية فارغة؟ فإن كان لا يقبل أن يمس أبنائه بسوءٍ فهي مثله، أم أنه مباحٌ له فعل ما يريد دون مراجعة أو اعتراض؟ لن تسمح له بفعل ذلك بهما، لن تقف مكتوفة الأيدي تشاهد تدمير ابنتيها دون أن تتخذ موقفًا مغايرًا له ينصفهما، هكذا قررت في قرارة نفسها، وبكل ثباتٍ اقتربت منهما تقول بصوتٍ اكتسب إيقاعًا مختلفًا لا ينم أبدًا عن الانهزام أو الكَسرة:
-ما تعيطيش يا "فيروزة"، لا عاش ولا كان اللي يقهر بناتي وأنا لسه حية وعلى وش الأرض!
نظرت الاثنتان إلى أمهما في حيرة، بينما تابعت "آمنة" مرددة بنفس النبرة العازمة:
-بكرة الصبح مشكلتك هتتحل..
تساءلت "فيروزة" في تلهفٍ وكأنها تبحث عن طوقٍ للنجاة:
-إزاي يا ماما؟
وضعت والدتها يدها على الأساور الذهبية التي تزين معصمها، انتزعت بقليلٍ من الجهد تلك التي تشبه الثعبان من رسغها لترفعها نصب عينيهما وهي تضيف:
-بكرة هنروح محل الصاغة نبيعها، وبفلوسها يا بنات هترجعوا عربيتكم زي ما كانت وأحسن.
انفرجت شفتا "فيروزة" عن تعبيرٍ مذهول، ثم ازدردت ريقها ولعقت شفتيها متسائلة في عدم تصديق:
-هتبيعيها يا ماما؟!
أجابتها بكلمة واحدة ناهية لأي نقاش:
-أيوه.
تساءلت "همسة" في استغرابٍ حائر:
-بس يا ماما دول دهبك اللي طلعتي بيه، وإنتي سيباهم عشان لا قدر الله لو حصل حاجة، هتفرطي فيهم كده بسهولة؟
ثبتت عينيها عليها وأجابتها مبتسمة في حنوٍ:
-مافيش حاجة تغلى على بناتي، إنتو عندي أغلى من أي دهب!
انتفضت "فيروزة" ناهضة من على الفراش لتركض نحو والدتها، ارتمت في أحضانها تضمها بقوةٍ، حاوطتها "آمنة" بذراعها ومسحت برفقٍ على رأسها، ثم تابعت حديثها الدافئ فقالت لها:
-مش عاوزة أشوفك مكسورة تاني
ردت عليها بصوت متقطعٍ وقد امتزجت عبراتها بامتنانها لها:
-ربنا يخليكي ليا يا ماما.
انضمت إليهما "همسة" وقد فاض الدمع من عينيها تأثرًا بذلك المشهد العاطفي الملامس للقلوب، ثم جلست "آمنة" على الفراش أولاً، وعلى جانبيها استقرت الفتاتان يتحدثن في مرحٍ وتفاؤل عن مخططات المستقبل الناجحة .. لكن عاد الخوف يتسلل إلى "همسة" فتساءلت وكأنها تفكر بصوتٍ مسموع:
-طب افرضي خالنا بوظ العربية تاني، هنتصرف ساعتها إزاي؟
التفتت والدتها نحوها وأجابتها على مهلٍ وبثقة واضحة تحمل الغموض في نبرتها:
-ماتشيلوش هم، أنا فكرت في حل للحكاية دي..
سألتها "فيروزة" بتلهفٍ أكبر وقد تلاشى الكدر من ملامحها تدريجيًا:
-حل إيه ده؟
تابعت موضحة بعد أن أخرجت تنهيدة بطيئة من صدرها:
-عارفين أوضة البدروم المقفولة اللي جمب السلم؟
رددت الاثنتان معًا:
-أيوه.
أكملت توضيحها بابتسامة مشرقة:
-احنا بقى هنضفها ونوضبها ونخليها زي الفل عشان نعملها مخزن تحطوا العربية فيه، ده غير الأدوات والحاجة اللي بتستخدموها، وهنقفلها بالمفتاح وقفل نحطه على الباب من برا، وبكده خالكم مش هايقدر يقرب منها.
كانت فكرة عظيمة أشعلت الحماس في نفس كلتيهما، عفويًا احتضنت كلتاهما "آمنة" وهما تنهالان على وجهها بالقبلات الممتنة، أحس ثلاثتهن بدبيب السعادة يطرق بابهن من جديد ليعلن عن بدء مرحلة استقلالية مليئة بالإنجازات .. ربما لن تخلو من بعض الصعوبات والمشاكل، لكن معًا سيتخطونها.
.................................................. ..............
اهتزت ساقه بعصبيةٍ واضحة والدخان الكثيف يخرج من جوفه ليشكل غمامة خانقة أعلى رأسه، ومع ذلك لم يكن راضيًا، ألقى بخرطوم نارجيلته على طاولة القهوة المعدنية الرفيعة لتصدر جلبة مزعجة، تبعها مغمغمًا بسبة نابية .. تلفت "هيثم" حوله باحثًا عمن يفرغ فيه غضبه المكبوت، لم يكن أمامه سوى عامل المقهى البائس لينال النصيب الأكبر من توبيخه اللاذع بالرغم من كونه لم يخطئ في شيء، بل على العكس كان ملبيًا لكافة أوامر زبونه الدائم، وتلك الليلة كان متقلب المزاج بشكلٍ لا يحتمل، تطلع إليه "نوح" في تعجبٍ وقد بدا إلى جواره باردًا كلوح الثلج، تنحنح بصوتٍ متحشرجٍ ثم سأله مستفسرًا:
-مالك؟ مزاجك متعكر ليه؟
أجابه بحشرجة واضحة في أحبال صوته جراء سعاله المتصل:
-هباب البرك جايبلي تعميرة أي كلام، مش عارف أظبط دماغي.
بدا غير مقتنع بإجابته فغمز له كتعبيرٍ عن رفضه تصديق تلك الحجة الفارغة، واستطرد متسائلاً في مكرٍ:
-لأ التعميرة زي الفل، إنت اللي مش طبيعي من أول ما أعدنا على القهوة، هو أنا مش حافظك، في حاجة حصلت؟
قال مقتضبًا وعبوسًا مريبًا يغطي وجهه:
-مافيش.
عمق من نظراته المستريبة وهو يلح عليه بإصرارٍ ماكر مستدرجًا إياه في الحديث:
-شكلك بيقول غير كده، إيه الحاج "بدير سلطان" سمعك كلمتين مالهومش لازمة زي تملي؟ ما هو إنت ميقلبش البونديرة معاك غير هو!
هتف محتجًا بوجهٍ اربد غضبًا:
-ولا يقدر يبُخ معايا، ده أنا أقفله هو وابنه اللي عامل فيها دكر!
غمزة أخرى لئيمة صدرت من عينه اليمنى معلقًا عليه:
-"تميم"، شكلك ملبخ معاه!
صاح فيه بعصبيةٍ مرئية للعيان:
-بأقولك إيه قفل على سيرة العكننة دي، أنا مش ناقص حرقة دم.
تدارك الأمر وسحب ناعمًا معه حتى يمتص ثورته المتأججة، فقال ملطفًا:
-يا سيدي بكرة تحلو معاك وتعرف تعلم عليهم بطريقتك.
لاذ "هيثم" بالصمت، بينما استمر "نوح" في وسوسته مضيفًا بنبرة أقرب لفحيح الأفعى:
-ما هو اللي زي دول يجوز فيهم أي حاجة، وخصوصًا فلوسهم اللي زي الرز دي، وكل مدى عمالة بتزيد..
نجح بأسلوبه الملتوي في الحديث في استسقاء المعلومات منه، فنطق بغموضٍ وعيناه تبرقان بوهجٍ متحمسٍ:
-أنا في دماغي فوكيرة (فكرة) إنما إيه، لو ظبطت هتروق على الآخر!
سأله في فضولٍ وتلك النظرة المتشككة تعلو تعابيره:
-قولي اللي بيدور في دماغك.
رد بابتسامة تهكمية مقتضبة على جانب شفتيه:
-بعدين، أنا بس سايبها تخمر شويتين تلاتة
صفق "نوح" بيديه ليستدعي عامل المقهى وهو يضيف بانتشاءٍ مريب:
-وأنا دايس معاك في أي مصلحة!
ابتسم له "هيثم" دون أن يضيف المزيد، لكن خياله جسد له مشاهدًا مُركبة لخطته التي ستصير قابلة للتنفيذ على أرض الواقع عما قريب.
.................................................. .........
ســارت والفرحة تملأ صدرها في الطريق مع والدتها لتتجه كلتاهما نحو امتداد منطقتهما الشعبية القريبة من منزلهما المنعزل عمن حوله، حيث تتزاحم البيوت وتتلاصق جدرانها، بالإضافة إلى الحركة اليومية الروتينية في الشوارع والطرقات الضيقة .. جلبة صاخبة سيطرت على الأجواء في ساعة الظهيرة، خاصة أن الطقس كان إلى حد ما يميل للاعتدال مما شجع الناس على الخروج. حانت من "فيروزة" نظرة عابرة على الوجوه الكادحة المنهمكة إما في البيع أو الشراء أمام المحال التجارية المجاورة لبعضها البعض، كم لوحت والدتها معتذرة بيدها تارة وبلسانها تارة أخرى لأكثر من بائع يعرض عليها الدخول لآخذ نظرة سريعة على معروضاته فربما تشتري منه! انتبهت لها وهي تقول بصوتٍ أقرب للهاث من المجهود المبذول لتسير على عجالةٍ حتى تستثمر الوقت ولا تضيعه هباءً:
-محل الصاغة آخر الشارع ده، إن شاء يكون فاتح دلوقتي.
ردت بهدوءٍ ونظراتها تجول حولها:
-إن شاء الله، ويا رب الفلوس تكفي!
قالت لها:
-هتكفي بإذن الله، ولو نقص حاجة ربك هيدبرها.
تأبطت في ذراع والدتها لتميل عليها تهمسها في امتنانٍ:
-ربنا ما يحرمني منك أبدًا
اكتفت "آمنة" بالابتسام لابنتها وتابعت السير نحو وجهتها المحددة، لكن استوقفهما شخصًا مهيب الطلة تبدو من هيئته الوقار والاحترام. تحولت عينا "فيروزة" ناحيته حيث حركته المتهادية التي تنم عن ثقة غريبة، كان وجهه مألوفًا رغم عدم تذكرها له، وجدت نفسها تطالع والدتها حينما بادرت مرحبة به بودٍ وألفة:
-إزيك يا حاج "بدير"؟
في البداية نظر لها بعينين ضيقتين وكأنه يعصر ذهنه ليتذكر هويتها، ما لبث أن ارتخت تعابيره ليقول بابتسامةٍ وقورة:
-يا أهلاً بيكي يا حاجة، فينك؟ مش بنشوفك خالص نواحينا؟!
أجابته متعللةٍ بنفس النبرة الودودة:
-مشاغل الحياة يا حاج، والحاج "سلطان" عامل إيه؟
أومأ برأسه يجيبها في رضا:
-نحمد ربنا .. في أحسن حال
-يدوم يا رب
قالت له معتذرة وقد أطرق رأسها خجلاً منه:
-حمدلله على سلامة ابنك ولو إنها متأخرة، كان المفروض أروح أبارك للحاجة "ونيسة" لما عرفت بالأخبار الحلوة دي من حبايبنا في السوق، بس ملحوءة إن شاءالله!
حرك عكازه بيده القابضة على رأسه وهو يقول مجاملاً:
-كتر خيرك، اعتبري المباركة وصلت
أضافت في حرجٍ خجل:
-كلك ذوق يا حاج، ربنا ما يضركم فيه أبدًا ويفرحكم بيه عن قريب.
هز رأسه قائلاً:
-يا رب .. واحنا قريب هنجوزه، وأكيد هنتشرف بيكي إنتي والبنات
ردت على الفور دون أن تمنح نفسها فرصة للتفكير:
-طبعًا يا حاج "بدير"، هانكون أول الموجودين إن شاء الله.
اتسعت ابتسامته يُجاملها:
-تسلمي يا حاجة، دعواتك بقى.
قالت في تضرعٍ:
-والله بأدعيله وبأدعي لبناتي ربنا يجبر بخاطرهم ويراضيهم.
أطبقت "فيروزة" على شفتيها مكتفية بمتابعة حوارهما دون أن تعلق بكلمة واحدة وإن كانت مجاملة لتتخذ موقف المشاهد الصامت، انتظرت حتى استأذنت والدتها وهمت بالانصراف لتتحرك على خطوتها البطيئة وعيناها ترتكزان على لافتات المحال تبحث بينهم عن ضالتها المنشودة.
.................................................. ................
في تلك الأثناء، كانت إحدى الشاحنات الضخمة تسد الزقاق الجانبي المؤدي لمحل الصاغة بشكلٍ عرضي مما جعل الطريق ضيقًا للغاية ويتعذر السير فيه، كذلك وضعت عشرات الأقفاص المليئة بالخضراوات والفاكهة الطازجة في تلك المساحة المحدودة فأجبر السائرون على المشي بحذر لتفادي الاصطدام بهم .. بينما انقسم العاملون ما بين واقفًا أعلاها وأسفلها ينقلون الأقفاص الثقيلة فيما بينهم عن طريق إلقائها عاليًا بطريقة يدوية تنم عن خبرة مهارية واحترافية ليلتقطها الآخر بنفس البراعة والقدرة. ومن بين المتواجدين بالأعلى كان يقف "تميم" ليشرف بنفسه على سير العمل بدقةٍ وإتقان حتى ينتهي تجهيز الشحنة المطلوبة وتسليمها في أقرب وقت، صفق بيده محفزًا رجاله بصوته الجهوري:
-شهلوا يا رجالة، عاوزين نرص العدايات دي كلها.
رد عليه أحدهم بلهاثٍ:
-قربنا نقفل النقلة التانية يا معلم، ربعاية وكله هيكون خلصان
قال بتحمسٍ ظاهر على محياه:
-قول يا رب!
جالت عيناه عفويًا على السائرتين في مطلع الزقاق بحكم وقفته العالية، لاحظ انشغال الشابة المجاورة لوالدتها بالتطلع على ما حولها على عكس الأخيرة المنتبهة جيدًا لخطواتها، خُيل إليه أنها لو لم تحتط لربما فزعت من إلقاء القفص أعلى رأسها وتعثرت في مشيتها وانكفأت على الوحل المتراكم بسبب سقوط الأمطار وتلطخت ثيابها، لذا بكل مروءةٍ جلجل صوته يحذرها:
-خدي بالك يا أبلة وإنتي ماشية.
تحركت رأس "فيروزة" ونظراتها نحو مصدر الصوت الرجولي الأجش، تقلصت تعابيرها وضاقت عيناها مع رؤيتها لذلك الشاب ذو الملامح الجادة، تيقنت أنه يخاطبها من عينيه المثبتة عليها، قرأت فيهما صرامة ممتزجة بالقوة، عاد ليشير لها برأسه لتتجه عيناها تلقائيًا -وكأنها واقعة تحت تأثير تعويذة سحرية- نحو الأقفاص الطائرة، اشتدت قسماتها توترًا وتحفزت حواسها بالكامل وقد فطنت لمقصده، ســارت على حذرٍ تام، ثم تطلعت إليه مجددًا وابتسامة صغير متكلفة تلوح على شفتيها مع نظرة أخيرة عابرة لتتجاوزه بصحبة والدتها وتختفي بداخل المحل وصوته المشجع لرجاله يتردد صداه بين جدران البيوت .............................................. !!
.................................................. ..............


منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 28-03-20, 09:26 PM   #10

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9 الفصل السابع

الفصل السابع





بوجهٍ متورد، ونظراتٍ خجلة مرتبكة تطلعت إلى ما تحويه ضلفته الخاصة من ثياب جديدة مرصوصة على الرف السفلي تم فرزها مسبقًا لنقلها دون عناء، تلمستها برفقٍ ناعم وكأنها أشياء ثمينة هشة وقابلة للكسر لذا تحتاج لعناية من نوعٍ خاص .. لجأت "ونيسة" لطلب مساعدتها فقط لتمنحها الفرصة لخلق المزيد من الذكريات السعيدة واللحظات المميزة جزاءً لصبرها الطويل وانتظارها غير المشروط ليحصل على حريته من خلال قيامها شخصيًا بتوضيب ما يحتاج إليه "تميم" استعدادًا لنقله لاحقًا لمنزل الزوجية الكائن بعد بنايتين من هنا، لم تصدق "خلود" نفسها وهي تقف في غرفته تتأمل متعلقاته الخاصة، صارت الآن تتحرك فيها بحريةٍ أكبر بعد أن كانت تختلس الدقائق وتختلق الحجج لتدخلها، لفتة خاطفة حانت منها في اتجاه خالتها والتي كانت منحنية قليلاً على الفراش وهي تطوي الثياب بشكلٍ منظم في حقيبة السفر الجلدية الكبيرة (ذات اللون البني الداكن) والموضوعة على الفراش، عادت لتحدق في ضلفته بنظراتٍ ساهمة والهة إلى أن أخرجتها "ونيسة" من حالة التأمل لتقول مسترسلة بسجيتها:

-عارفة يا بت يا "خلود"...

ردت الأخيرة متسائلة في اهتمامٍ:

-أيوه يا خالتي.

تابعت بابتسامة عريضة وقد تركزت عيناها على ابنة أختها:

-من يوم ما اتولدتي وشيلتك بين إيديا وإنتي في اللفة، وأنا ندراها في نفسي .. أجوزك لابني لما يكبر!

تضرج وجهها وتوهجت بحمرته الخجلة، أحست بالسخونة تنبعث من وجنتيها، بالحرج الشديد ينتابها، في حين ازدادت ابتسامة "ونيسة" اتساعًا بعد تلك الضحكة العفوية المرحة التي أطلقتها لتكمل بنفس الود المتحمس:

-عمري ما شوفت واحدة تانية غيرك تنفع مرات ابني، هو مايلقش عليه إلا إنتي، بتحبيه، وهتصوني العشرة، ودايمًا معاه على المُرة قبل الحلوة.

لم تعرف بماذا تعلق عليها، نطقت بارتباكٍ يشوبه الحياء:

-الله يخليكي يا خالتي.

اقتربت منها "ونيسة" لتقول بعبثية وهي تغمز له بطرف عينها:

-بس عجبتيني لما إديتي "تميم" التوكة بتاعك!

تطلعت إليها بعينين زائغتين، فجأة اكتسى تعبيراتها حيرة عجيبة وكأن صاعقة ضربت برأسها، حاولت أن تتماسك قبل أن تسألها بصوتها المندهش:

-توكة؟!!!

لم تلحظ خالتها التغيير الذي غطا ملامحها فاستفاضت تنصحها:

-أنا عاوزاكي تتلحلحي معاه يا "خلود"، الراجل يحب الست اللي تشاغله وتملى دماغه، خليه دايمًا يفكر فيكي.

وكأنها تُحادث الفراغ، شــردت تفكر فيما قالته، هي لم تمنح "تميم" أي هدية مميزة، وما تبوح به خالتها يوحي بشدة أنه حدث قريبًا، إذًا عن أي شيء تتحدث؟ هل تعرف إلى إحداهن مؤخرًا ويخفي عنها تلك الحقيقة كي لا يصدمها؟ تخلل عقلها سؤالاً بعينه لم تكن لتسمح لنفسها أبدًا بتصديقه، لكن شيطان رأسها قوى ذلك الهاجس بداخلها، أيخونها "تميم"؟ انقباضة مؤلمة اعتصرت قلبها وكادت تقبض على روحها، حاولت أن تخفي ضيقها الظاهر على قسماتها لترسم ابتسامة ثقيلة متكلفة وهي تطلب منها بنبرة جاهدت لتجعلها ثابتة حتى لا ترتاب في أمرها:

-هو.. "تميم" حاطط التوكة.. دي فين؟

-هناك!

أجابتها وهي تتجه نحو الكومود لتفتح الدرج العلوي وتخرج منها منديل الرأس والمشبك، فقد وضعتهما به بعد أن تركهما "تميم" عليه، في تلك اللحظة اشتعلت عينا "خلود" بشكلٍ حانق وقد تجمدت نظراتها عليهما، أحست بالدماء الثائرة تتدفق بقوة في عروقها لتندفع بلا توقف نحو عقلها فأصابها بصداعٍ غريب، لمن إذًا تلك الأشياء الأنثوية؟ ولماذا يحتفظ بها في درجه الخاص؟ بدأت نيران الغيرة تنهش فيها .. تأملتها "ونيسة" لوهلةٍ معتقدة أنها انزعجت لكشف ذلك، حاولت أن تهون الأمر عليها فقالت بلطافةٍ لتبرر موقفها قبل أن تسيء فهمه:

-اوعي تزعلي مني يا حبيبتي، أنا مش النوع ده من الحماوات اللي بتفتش ورا ولادها!

جفاف مرير كالعلقم اجتاح جوفها، قاومت باستماتة تلك الغصة التي أصابت صوتها، بدت متهدجة الأنفاس وهي ترد:

-لا يا خالتي، مافيش أي حاجة.

مسحت "ونيسة" بكف يدها على وجنتها الملتهبة دون أن ينتقص من ابتسامتها الصافية شيء، ثم أضافت بتنهيدة أشارت لتعبها:

-طيب يا قلب خالتك، أنا هاروح أشأر على الأكل اللي على النار ورجعالك، إنتي عارفة مافيش حاجة في البيت مش بتخلص.

غيم القهر على وجدانها فلم تعد تملك من القدرة ما يجعلها تظل راسخة هكذا، قالت فجأة بوجهٍ تحول للوح جليدي ونظراتٍ عكست مزيجًا من الغضب المكتوم والحسرة المؤلمة:

-أنا لازم أمشي.

تقطب جبينها متسائلة بدهشةٍ:

-الله، ده احنا متفقين تقضي النهار كله معايا! وأمك عارفة بده، يعني هنقعد براحتنا.

تعللت بإرهاقٍ مفاجئ ونبرتها قد تحولت للقتامة:

-معلش يا خالتي، حاسة إني دايخة شوية، ده غير أني وعدت أمي متأخرش، وهاجيلك تاني.

رضخت "ونيسة" أمام إصرارها فهتفت مستسلمة:

-ماشي يا حبيبتي، إنتي بردك مهدود حيلك في الفرش واللذي منه، خدي بالك من نفسك

حاولت أن تبتسم فظهرت ابتسامتها مبتورة منقوصة يشوبها عيبًا مريبًا للشك حينما ردت باقتضابٍ

-طيب، مع السلامة.

بيدٍ مرتعشة سحب حقيبة يدها وهي تكاد تسيطر على اتزانها، انتاب الفضول "ونيسة" وهي تتبعها نحو الخارج، ظلت دهشتها مرسومة على محياها، فقد اندفعت ابنة أختها كالطلقة وكأنها وضعت مكوكًا في قدميها لتخرج من المنزل، صفقت "خلود" الباب خلفها بعصبية ملحوظة، فقدت السيطرة على أعصابها بعد اكتشافها لما أسمته خيانة لعهد الحب الوفي، انسابت دمعاتها بحرقةٍ، شعرت بوخزات ألم الحب تفتك بقلبها، غلت الدماء في عروقها وزاد اضطراب أنفاسها، كانت كمن خرج من معركة قتالية مهزومًا هزيمة نكراء، رددت مع نفسها بحنق يتعاظم أضعافًا مضاعفة كلما هبطت درجة من درجات السلم:

-بتخوني يا "تميم"! طب ليه؟ وبعد الحب ده كله؟!

طاردتها الهواجس وسيطرت على ما تبقى مما تملكه من تفكير منطقي .. جُرحت أنوثتها، وطُعن حبها في مقتل بغدره الخائن لعهد الوفاء بينهما، قررت "خلود" أن تهاتفه لتنهي الأمر بينهما، فإن كان لا يريد حبها فليذهب للجحيم، لكنها لن تحيا كظلٍ مهمش في حياته تقتات على ما يمنحه لها من اهتمام حذر، ارتجفت يدها وهي تضغط على الأزرار باحثة عن اسمه، بدت الرؤية صعبة بسبب دمعاتها الفائضة، كانت خيانته لها مدمرة لكل أحلامها، استندت على الحائط حتى لا تسقط، فقدماها عجزتا عن حملها، اهتز صوتها بألم معنوي مميت وهي تستطرد منادية باسمه:

-"تميم"

بدا صوه جافًا جادًا مكتسبًا طابعه الرسمي وهو يرد:

-خير يا "خلود"؟

ارتفعت شهقتها التي استماتت لتكبحها فخرجت من بين شفتيها وهي تلومه بقلبٍ مفطور:

-ليه خنتني؟ ليه؟

لم يظهر التأثر على صوته، لكنه سألها بما يشبه الضيق:

-إيه الكلام الغريب ده يا "خلود"؟ هو إنتي طبيعية

ردت بحرقةٍ وعبراتها تزداد انهمارًا:

-إنت وجعتني أوي يا "تميم"، أنا محبتش حد إلا إنت، كنت قولي إنك مش عاوزني..

أتاها صوته المزعوج مرددًا:

-أنا مش فاهم حاجة!!

تابعت كالمغيبة وصوتها بات واهنًا موجوعًا:

-أنا عرفت الحقيقة، بس كرامتي فوق أي اعتبار.

صرخ بها في نفاذ صبر:

-إنتي مجنونة يا بت؟

تمالكت نفسها لترد ببقايا كبرياءٍ محطم:

-المرادي أنا اللي مش عاوزاك!

استطاعت أن تسمع صراخه يرن بقوة في أذنها:

-يا "خلود" استني آ....

لكنها أغلقت الخط لتنهي المكالمة وقد ذبحها ذلك الإحساس الفتاك بالغدر،

انفجرت باكية بمرارةٍ وحسرة، تهاوت جاثية على ركبتيها عند بداية السلم، حركت جسدها للجانبين وهي تنوح بشدةٍ ليظن من يتطلع إليها أنها فُجعت في أحدٍ عزيزٍ للغاية.

.................................................. ........

حمولة جديدة كان عليه تجهيزها قبل حلول المساء وفقًا للعقد المبرم مع تلك السفينة السياحية، ولكن لانشغال أغلب العاملين في تعبئة ورص الأقفاص الخاصة بسفينة أخرى اضطر "تميم" للاستعانة برفيقه "ناجي" ومن هم على صلة به للذهاب إلى سوق الجملة الشهير لإحضار المطلوب. تلك المكالمة العجيبة التي تلقاها من خطيبته أزعجته قليلاً وانعكست على تعابيره المشدودة، لم يفهم سبب توترها المفاجئ ورغبتها في إنهاء الزيجة دون تفسير مقنع، ثم تساءل في نفسه عن اتهامها له بالخيانة، عن أي خيانة تتحدث؟ هو لم يكن على صلة بأنثى غيرها، إذًا فكيف يخونها؟ حيرة في غير وقتها سيطرت على عقله مما جعله يرجئ التفكير مؤقتًا في الأمر ريثما ينهي أعماله التي تنتظره .. ترجل من الشاحنة وســار مهمومًا ونظراته إلى حد ما غائمة، لاحظ "ناجي" تبدل ملامحه للعبوس فتلكأ عن السير ليسأله:

-في إيه يا "تميم"؟

رد باقتضابٍ وهو ينظر له:

-مافيش.

فطن لكونه لا يحبذ الحديث عن أمر يخصه فأشار بيده يدعوه:

-طب بينا عشان نلحق نجمع البضاعة

أومأ برأسه وخطا نحو البوابة المتسعة، كان السوق مزدحمًا مليئًا بالتجارِ من كل حدبٍ وصوب، الشاحنات من كافة الأحجام تدخل وتخرج معبأة بما تشتهيه الأنفس، الكل يبتاع ويُزايد ليحصل على الأفضل، ومهمته هنا تقتضي شراء الأجود من الخضراوات والفاكهة بسعر جيد لضمان تحقيق الربح في الأخير. سـار بشموخٍ وعظمة بين المزاحمين في المكان، يلوح بيده تارة، ويلقي التحية مبتسمًا تارة أخرى، لكن ذلك الصوت الكئيب الساخر المنادي عاليًا استوقفه فجأة:

-محدش قالي إنك خرجت من السجن

استدار "تميم" بجسده للخلف ليجد كائنًا لزجًا يطالعه بنظراته الحقودة، ما زال يحتفظ بملامحه السمجة وجسده المتهدل المتراخي في بعض أجزائه والذي يبرزه جلبابه المتسخ قليلاً، عرفه على الفور؛ إنه "سراج" أحد أهم تجار سوق الجملة حاليًا، وتحديدًا من أحدث به عاهة مستديمة وكاد ينحره لتجرأه قديمًا على والده ونعته بألفاظ قذرة نابية مست شرف العائلة، حينها تناسى إنسانيته وأوشك على سفك دمائه لولا مشيئة القدر وتدخل الجميع لمنعه من مذبحة خطيرة، آنذاك أُلقي القبض عليه، ولم ينكر التهم الموجهة إليه وصدر الحكم ضده بالحبس، اعتبر "تميم" ما حدث وسامًا على صدره يدعو للتفاخر والزهو، وبات الكل يخشى اندلاع غضبه .. وبالرغم من مرور السنوات إلا أن غضبه يتجدد ويصل لذروته كلما تذكر جريرته، وها هو اليوم يقف أمامه يستفزه ليخرج الوحش الكامن بداخله، تكورت قبضة يده كنوع من كظم الغضب -مؤقتًا- خاصة حينما تابع "سراج" وصلته المتهكمة:

-ده أنا فكرتك هتعفن هناك.

بكل هيبةٍ وقوة رد عليه وعيناه تتوهجان بشكل مخيف:

-طلعك نأبك على شونة، ولسه زي ما أنا، وبعدين السجن للرجالة!

غمز له ساخرًا بنبرة تعمد أن تكون مسموعة للجميع:

-وللنسوان كمان، ولا إيه؟

انتصب "تميم" في وقفته فبدا أكثر مهابًا ورهبة، هدر يحذره بنبرة لا تبشر بأي خير:

-شكلك نسيت اللي حصلك زمان، كنت زي الدبيحة، مرمي تحت رجلي، وجزمتي فوق رقبتك، وكل اللي هنا شِهدوا على جُرستك!

امتلأ وجه "سراج" بتعابير حانقة، وتحول وجهه للقتامة عندما تابع غريمه إهانته القاسية له:

-ها قولي، لو عاوزني أمسح بيك أسفلت السوق من تاني، فأنا جاهز!

دس الأول يده في جيب جلبابه البيج ليخرج منه مدية يحتفظ بها دومًا لاستخدامها في قطع الثمار، أشهرها في وجهه وبدلها بين قبضتيه كنوعٍ من الاستعراض، ثم صاح يهدده علنًا:

-وإنت الصادق مطوتي جاهزة تسيب تذكار للمدام تشوفه ليلة دخلتها...

إنها تلك اللحظة التي لا يعود فيها للعقل أي وجود، كلمات كالقنابل الموقوتة أشعلت فتيل هياجه الجامح، اربد وجهه وأطلق الشرر من عينيه، لم يرتدع "سراج" وتجرأ متابعًا بما لا يمكن السكوت عليه دون عقاب مهلك:

-ألا بصحيح نويت تتجوز ولا عملوا عليك حفلة في السجن وخلوك تترهبن؟!!!

تهدج صدره بشكل مخيف وقد بات محملاً بمشاعر غاضبة، ناقمة، عدائية، ساخطة، جلجل صوت "تميم" متوعدًا بلهجة مرعبة:

-آه يا ابن الـ .....، المرادي هاجيب أجلك!!

رد غير مبالٍ وابتسامة مستفزة تعلو ثغره، ويده تلوح بالمطواة عاليًا:

-وريني يا ابن "ونيسة"!

اندفع نحوه صارخًا به:

-أمي أشرف من إن اسمها يجي على لسان واحد "....." زيك!

كانت حركته المفاجئة ناحيته -بكامل غضبه- قد أذهلته، لكمة تعرف الطريق جيدًا إلى فك "سراج" أطاحت به وقذفت بعمامته التي تلتف حول رأسه بعيدًا، ترنح من شدتها وحاول التماسك، ثم ما لبث أن وجه واحدة مماثلة لها في القوة تلقاها "تميم" أسفل عينه اليسرى، لكن الأخير تغاضى عن ألمه ليشرع في الهجوم عليه، نزف الدماء فورًا من جرح عميق أحدثته المطواة في صدره، استشاط غضبًا واندفع كالثور الهائج مسددًا لكمة أخرى أشد قوة وأعظم شراسة في عنق "سراج" فأشعرته بأن أنفاسه قد قطعت مما جعله يفقد زمام الأمور في لحظة فمنحت الأسبقية للأول .. فرد "تميم" ذراعه ليكمل اعتدائه على كتلة اللحم الكائنة أمامه، طرحه أرضًا مستخدمًا كل قوته، ثم جثا فوقه يكيل له اللكمات يمينًا ويسارًا على وجهه الذي بات كالعجين .. أقام رجال "سراج" الدنيا ولم يقعدوها اندفعوا للتشاجر مع "تميم" وأتباعه، وتحولت ساحة السوق في ثوانٍ معدودة لساحة حرب مميتة، الكل يتراشق بالألفاظ وما تطاله الأيدي من أسلحة بيضاء، وسلاسل حديدية .. الأقفاص تطايرت في الهواء بشكلٍ مرعب واستخدمت في الضرب على الأجساد والإطاحة بالرؤوس، حالة من الفوضى الصاخبة عمت المكان واختلطت مع الصيحات المجلجلة.

نزف "سراج" الدماء من بين أسنانه، كذلك تحطمت سنتين من فكه السفلي جراء العنف المفرط لـ "تميم"، أوشك الأخير على إزهاق روحه لولا تدخل كبار التجار للفصل بينهما، أبعدوه من فوقه وأحدهم يرجوه بشدة:

-اهدوا يا رجالة، مايصحش كده!

اخشوشن صوته المحتقن وتشنجد وهو يرد حاسمًا أمره:

-الكلب ده مالوش دية عندي، هايموت النهاردة!

تعلق الحاج "لطفي" أحد أهم كبار تجار السوق -ممن يمتازون بالسمعة والصيت والكلمة المسموعة عند الآخرين- بكتفه ليضمن بقائه في مكانه، ثبت وجهه عليه ونظر في عينيه يتوسط عنده بنبرة أقرب للرجاء:

-هو غلط في حقك، وكلنا شاهدين، بس إنت اهدى، واللي عاوزه هيتعمل!

زجره قائلاً بإصرارٍ مخيف:

-أنا مش هاسكت، رجالتي هيدبحوه، وكل اللي من طرفه هيتصفى النهاردة!

استند "سراج" على مرفقه ليعتدل في رقدته، حاول أحدهم مساعدته على النهوض لكن ثقل جسده الكبير لم يسعفه في شيء، ومع ذلك رد متحديًا دون خوفٍ أو ارتعاب:

-ده لو فضلت عايش يا ابن "ونيسة"!

على الفور استدار نحوه "لطفي" يحذره بصوته الأجش المرتفع قبل أن تتفاقم الأمور مجددًا ويحدث ما لا يُحمد عقباه:

-اتلم يا "سراج"، من امتى بنجيب سيرة الحريم؟ ولا إنت قلبت مَرَة وبقيت بتغلط زيهم؟ قولي عشان أبقى عارف لما أتعامل معاك بعد كده!

إهانة غير مقبولة، بل سَبَّة على الجبين، تلقاها من معلمه ذو الشأن الرفيع، تطايرت شرارات الحنق المختلطة بالحقد من عينيه ولم يجرؤ على التفوه ليدرأ إهانته، نكس رأسه في ضيقٍ وإن ظل غضبه مستعرًا، التفت "لطفي" لينظر إلى "تميم" موجهًا حديثه بشكلٍ عام:

-الكلام ده ماينفعش، كبارات السوق هيتلموا النهاردة ونشوف حل لده، مش هانستنى أما تحصل جناية قتل هنا!

كان كلامه نافذًا لا يجوز مناقشته، سحب نفسًا سريعًا لفظه وهو يكمل بصرامةٍ:

-ارجع يا "تميم" عند الحاج "بدير"، وطلباتك هتوصل لحد عندك

عانده بوجهه المتجهم رافضًا الإصغاء له:

-مش ماشي من هنا!

ضاقت عينا "لطفي" وهو يعنفه بحذرٍ:

-هو أنا ماليش كلمة عندك ولا إيه؟

تنحنح قائلاً بتذمرٍ:

-إنت على عيني وراسي، بس ...

قاطعه منهيًا الأمر:

-خلاص يبقى تسمع الكلام، اتوكل على الله وبضاعتك هتوصلك!

نظرة نارية تركزت من "تميم" على وجه "سراج" وهو يرد بنبرته التي اكتسبت قوة:

-ماشي كلامك!

شكره بامتنانٍ عظيم:

-أهوو ده كلام الرجالة!

استبد الغيظ بـ "سراج" الذي لم ينل نفس القدر من الاحترام والتبجيل وكأنه نكرة بالرغم من مكانته المرتفعة بين باقي التجار، اضطر أن يكظمه حتى تحين اللحظة المناسبة، حينئذ سيدعسه تحت قدميه ويظفر بانتقامه الدامي منه.

.................................................. ........................

ندبٌ وعتابٌ لا بأس به ناله منها بعد أن رأت بأم عينيها ما أصاب وجهه من كدمات وجرحٍ قطعي في يده، حاول إخبارها بأن ما حدث له أمر معتاد نتيجة بعد الشجارات المفتعلة في تلك الأسواق المزدحمة بأربابها، تركها تعاتبه حتى أفرغت ما في جعبتها، ثم دخل إلى الحمام ليغتسل ويبدل ثيابه، فلديه زياؤة طارئة لخطيبته ليفهم منها ما الذي حدث بعد أن تجاهلت طوال النهار رسائله واتصالاته المتكررة بها .. وقف "تميم" أمام المرآة يمشط شعره، لم يستغرب بقاء والدته بالغرفة، فدومًا حينما يتسبب في المشاكل تجلس على طرف فراشه تلومه، وتوبخه، وتحذره من عواقب طيشه. التقت عيناه بانعكاس وجهها في المرآة راقبته عندما سألته كأنها تحقق معه:

-هاتروح فين تاني يا "تميم"؟ ناوي تضارب مع اللي ما يتسمى؟

لف الشال حول عنقه ثم استدار ناحيتها ليجيب بهدوء ضاعف من ريبتها:

-لأ يامه، مش ناوي أتخانق النهاردة..

قطبت جبينها متسائلة بتوجسٍ ونظراتها القلقة مرتكزة على ملامحه الباردة:

-أومال رايح فين؟

أخرج زفيرًا بطيئًا قبل أن يجيبها على مضضٍ:

-لبنت أختك، قالبة عليا من الصبح وأنا مش عارف ليه!

رددت عفويًا وقد بدت مندهشة:

-"خلود"!

-أيوه

سألته مستوضحة:

-مالها؟ ما هي كانت زي الفل من الصبح..

رد بنفس النبرة الممتعضة:

-معرفش، اسأليها، ده لو ردت عليكي أصلاً!

لطمت على صدرها بشكلٍ عفوي قبل أن تلومه:

-اوعى تكون زعلتها؟ أنا عارفاك لما مخك يقفل و...

قاطعها مدافعًا عن نفسه:

-هو أنا لحقت أصلاً أكلمها؟! ده أنا في هم كبير من طلعة النهار

زمت شفتيها بطريقة مستنكرة، وشردت تستعيد مشاهد ما دار ظهيرة اليوم في المنزل، أخرجها "تميم" من سرحانها السريع بسؤالها:

-قوليلي هي مكانش باين عليها حاجة؟

نفت قائلة:

-لأ يا ابني، كانت تمام.

عاد ليسألها بإلحاح أكبر علها تعتصر ذهنها وتتذكر تفصيلة ما ربما تكون قد غابت عنها:

-يعني مشيت من هنا مبسوطة؟ ماشتكتش من حاجة؟ أومال القلبة السودة دي جت منين؟!

تطلعت إليه متسائلة:

-هي قالتلك إيه؟

أجابها باستنكارٍ كبير وتعبيرات ناقمة:

-مفكرة إني عارف عليها واحدة!

شهقت "ونيسة" بصوتٍ مرتفع قبل أن تؤيده:

-وده كلام يتصدق بردك؟

قال في تهكمٍ:

-قوليلها، الواحد أصله مش فاضي للهري ده، وهي عاملة حوارات

-كبدي يا ضنايا

ران الصمت بينهما لعدة لحظات انشغل فيها "تميم" بارتداء حذائه، لاح في باله سؤال بعينه فنطق به:

-طب هي "هاجر" جت النهاردة وهزرت معاها بكلام بايخ ولا حاجة؟

أجابته والدته مؤكدة:

-لأ مجاتش، بس أختك بتحبها أكتر من روحها ..

أطبق على شفتيه مانعًا سبة تعبر عن استياءه من الخروج من جوفه، ولكن تبدلت تعابيره فجأة للاندهاش الحائر حينما رددت أمه عفويًا:

-لا يكونش ده حصل بسبب التوكة؟!

تعابير واجمة غطت كامل وجهه وهو يسألها:

-توكة إيه؟

أشارت بيدها وهي تجاوبه:

-اللي كانت في درج الكومودينو..

على الفور تحرك في اتجاه الكومود وفتح الدرج العلوي ليجد منديل الرأس والمشبك به، أخرجهما منه ورفعهما نصب عينيه للحظة قبل أن يتركهما من أصابعه ليسقطا بالداخل، التفت ناحيتها متسائلاً بانزعاجٍ كبير:

-هو إنتي قولتلها إيه بالظبط؟

قصت عليه ما دار بالتفصيل لتتضح الصورة كاملة في ذهنه، وضع يده أعلى رأسه في حركة مستاءة من تصرف والدته الأحمق الذي فتح عليه بابًا من المشاكل بدون داعٍ، زمجر قائلاً في غضب:

-دول مش بتوعها يامه، ليها حق تفكر إني بأخونها!

سألته في فضولٍ:

-أومال بتوع مين طيب؟

هتف بعصبيةٍ اتضحت في صوته وحركته بداخل الغرفة:

-أنا لاقيتهم في الشارع وأنا ماشي، يا ريتني كنت رميتهم بدل وجع القلب ده!

شعرت "ونيسة" بالذنب وسوء تصرفها بالإيحاء لـ "خلود" بأنها تشجعها على التودد من ابنها لتخلق نوع من الألفة بين الثنائي المقبل على الزواج بعد بضعة أيامٍ، ومع ذلك ألقت باللوم عليه، فقالت:

-وأنا هاعرف منين يا ابني؟ ما إنت مابتقولش حاجة!

استمر على عتابه لها قائلاً:

-حتى لو كده، برضوه مكانش ليه لازمة البؤين بتوعك دول!

تنهدت معقبة بقلة حيلة:

-أهوو اللي حصل بقى.

سألها وكأن عقله قد توقف عن إيجاد الحلول المنطقية:

-وهنحلها إزاي دي؟ يعني كنت ناقص خوتة!

اقترحت على استحياءٍ:

-حاول كده تضحك عليها بكلمتين، جايز ربنا يهديها وتعدي الحكاية على خير.

كان غير مقتنع بما تفوهت به، وقال موجزًا كتعبيرٍ عن عدم رضائه:

-ربنا يسهل.

همَّ بالخروج من الغرفة لكن استبقته والدته بالصياح عاليًا وكأن عقلها قد أضاء بفكرة ما:

-استنى يا "تميم"...

استدار ناحيتها فتابعت:

-إنت تقولها إنهم بتوع "هاجر"، وكانت نسياهم عندنا، فإنت خدتهم منها وعنتهم معاك لحد ما تشوفها

بدا حلاً جيدًا، لكن شكوكه جعلته يتساءل:

-وده هايخيل عليها؟

رد مبتسمة ابتسامة عريضة لتشير إلى استعادتها لضوابط الأمور:

-ملكش دعوة، أنا هأكد على "هاجر" تقول نفس الكلام، وإن شاء الله تصدق، وأمك مش هينة بردك

بادلها ابتسامة صغيرة على محياه أضاف بعدها:

-خلاص هاجرب..

نظرت لها بعينين متفائلتين ثم هتفت متضرعة:

-ربنا يهدي سركم يا ابني

-يارب

تبعته في سيره إلى الخارج وهي تكمل على سجيتها الفطرية:

-وربنا احنا اتحسدنا، ده شيطان ودخل بينكم..

غمغم "تمتم" ساخرًا في نفسه وهو يمسك بمقبض باب المنزل ليديره:

-هو أنا لحقت أعمل حاجة عشان الشيطان يدخل، ولا هو بيتلكك!

.................................................. .......

فـتح الورقة المطوية التي تشربت الكثير من الزيت والبخار المنبعث من الطعام الساخن، ثم فردها على الطاولة القصيرة المستديرة لتظهر وجبة شهية من (الكباب والكفتة)، هبط "حمص" من على مصطبته القديمة ليجلس على الأرضية فور أن اقتحمت الرائحة الزكية أنفه، وبيده المتسخة اختطف قطعة كبيرة دسها في فمه، وتلذذ بمذاقها الذي اشتهاه للغاية، ظهرت علامات الاستمتاع واضحة على تعابيره، نظر له "شيكاغو" بتأملٍ ثم سحب قطعة يلكوها في فمه، تملكه نفس الإحساس الرائع بتناول أحد أشهر الوجبات وأغلاها على المعدمين من أمثالهم .. تناثرت البقايا من جوف "حمص" وهو يستطرد:

-بس تصدق الشغل مع المعلم "تميم" حاجة تانية

رد عليه "شيكاغو" يؤيده في كلامه:

-ده حاجة أخر نغنغة، مصلحتين تلاتة معاه وهنبطل سرقة!

رمقه بنظرة نارية رافضة قبل أن يوبخه بحدةٍ:

-نبطل، إنت عبيط، حد يقول للرزق لأ؟!

سأله بفمٍ ممتلئ على آخره:

-ليه في حاجة جديدة؟

أجابه بعد أن تجرع رشفة كبيرة من مشروبه المسكر الذي أحضره:

-وقعتلك على حتة ألماني إنما إيه، هتريحنا بتاع شهرين تلاتة.

تساءل في اهتمامٍ:

-دي فين دي؟

تجشأ موضحًا:

-عند الفلل القديمة، مدير أمن سابق، على المعاش دلوقتي وعايش لوحده.

توقف "شيكاغو" عن ابتلاع الطعام ليحدق فيه مصدومًا، ثم صاح محتجًا:

-إنت جاي تودينا عش الدبابير؟!!!!

قال غير مكترثٍ وقد بدا متحمسًا لتلك السرقة:

-يا عم ده راجل مكحكح، مش هيستحمل زقة مننا، وبعدين أغلب الوقت مش موجود في فيلته.

حذره بلهجة جادة ربما يتراجع عن فكرته المتهورة تلك:

-بلاش منها.

أصر على رأيه قائلاً:

-صدقني هنسترزق، وزبونها جاهز هيدفع على طول.

وضع قطعة أخرى من اللحم الشهي في جوفه، ابتلعها ورد عليه بعبوسٍ:

-مش مرتاح

ظهرت على تعابير "حمص" علامات الارتياح، استرخى في جلسته وأمسك بزجاجة مشروبه يرفعها نحو فمه، ثم قال عن ثقة تامة وقد عكست نظراته قتامة مريبة:

-يا عم حط في بطنك بطيخة صيفي، هتعدي زي اللي قبلهم!

.................................................. ........

-تسلم إيدكم يا بنات، رجعت زي الأول وأحسن.

قالتها "آمنة" بابتسامة بشوشة على تعبيراتها الهادئة وهي تتأمل بعينين مشرقتين العربة بعد تجديدها بالأموال التي حصلت عليها جراء بيع أسورتها الذهبية، لم يذهب مالها سدى، هكذا رددت في نفسها! كنت ابنتاها قد توليتا نقل العربة إلى تلك الغرفة بعد تنظيفها لتصبح مكانًا آمنًا للاحتفاظ بها دون الخوف من تكرار تخريبها، التفتت "همسة" ناحية والدتها لتأخذ منها صينية السندوتشات التي أعدتها لهما، بينما احتضنتها "فيروزة" وشددت من ضمها لها وهي تشكرها معترفة بجميلها الكبير:

-الحمدلله يا ماما، كله بفضل ربنا ومساعدتك لينا، لولاكي كان زمانا حاطين إيدنا على خدنا

ردت بحنوٍ:

-ربنا يفرحكم دايمًا..

ثم أشارت بعينيها للأعلى مكملة جملتها:

-هاطلع أنا فوق ولو عوزتم حاجة نادوا عليا.

هزت "همسة" رأسها ترد عليها:

-ماشي يا ماما

تابعتها الاثنتان بعينيهما إلى أن صعدت على الدرج واختفت بالأعلى، ثم تحركت "همسة" نحو أحد الصناديق الخشبية الموضوعة جانب الحائط لتسند الصينية عليها، حملقت في العربة قائلة:

-تعرفي كده شكلها بقى أحلى

تنهدت "فيروزة" قائلة في سعادة ممتزجة بالارتياح:

-الحمدلله، أنا كنت هاموت بحسرتي لو المشروع ده باظ.

-ربنا كريم، والتوسيعات اللي اتعملت من جواها بقت أحسن

-مظبوط، هنعرف نقف براحتنا، وكمان عندنا مخزن نعين فيه حاجتنا

-صح كلامك

لفتة عادية برأسها نحو جانب العربة جعلتها تلمح "حمدية" وهي تتلصص عليهما من الخارج من خلال انعكاس صورتها في المعدن، انقبض قلبها وشعرت بإحساس مزعج يتخللها، لذا مالت "همسة" نحو أختها تقول لها بصوتٍ يكاد يكون مسموعًا:

-الحقي مرات خالك بتبص علينا!

امتقع وجه "فيروزة" وتغيرات نظراتها للضيق، كزت على أسنانها هامسة في توعدٍ صريح ينم عن بغضها لها:

-بجد، ليها نصيب تتهزأ!!

اقتربت من الباب مدعية حديثها مع أختها، فقالت بنبرة عالية متعمدة أن تصل إليها:

-الجو جايب هوا بارد، بـــارد أوي، مش كده يا "همسة"؟

في البداية لم يتفقه ذهن "همسة" إلى ما تفعله، وبالتالي لم تستطع مجاراتها فتساءلت بقليل من الحيرة:

-فين ده؟

أجابتها بنبرة موحية ونظرات ذات مغزى:

-من بــرا، مش حاسة ولا إيه؟

انتبهت "حمدية" المرابطة بالخارج لكونها المعنية بذلك الحديث غير المباشر، استرقت السمع وتحفزت للرد لكنها منعت نفسها قبل أن تتهور حتى لا تكشف أمرها، في حين وضعت "فيروزة" إصبعيها على أنفها لتسده مكملة استخفافها بها بشكلٍ مهين:

-لأ ومليان ريحة زفرة، يا ساتر، هانتخنق من الريحة المعفنة دي، في إيه كده برا، فسيخ ولا تنضيف سمك؟!

كادت "حمدية" أن تخرج عن طور سكونها المضطر لترد عليها، بدت كمن تتصاعد ينفث دخانًا من أذنيه حينما تابعت "فيروزة" تمثيليتها المتهكمة عليها:

-أحسن حاجة أعملها أقفل الباب، خلي القذارة تفضل بعيد عننا!

وبكل قوة صفقت الباب في وجه "حمدية" التي انتفض جسدها تلقائيًا من الصوت المرتفع، استشاطت غضبًا من إهانتها القاسية لها، احمر وجهها غيظًا واشتعلت نظراتها في حنق، ثم تمتمت من بين أسنانها المضغوطة بنبرة مغلولة:

-يا بنت الـ .....! بقى أنا تلأحي عليا بالكلام؟

كورت قبضة يدها وضربت بها على الدرابزين، ثم ما لبثت أن أمسكت بخصلة من شعرها لفتها حول إصبعها متوعدة "فيروزة" بحقدٍ مضاعف عكس قدرًا محدودًا من نواياها الخبيثة:

ماشي يا بنت "آمنة"، وحياة مقاصيصي دول لهفرجك ................................... !!

.................................................. ..........




منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:52 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.