شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   روايات أحلام المكتوبة (https://www.rewity.com/forum/f203/)
-   -   350- سأبقى وحدي - سلسلة لوسي غوردون (الجزء الثالث و الأخير ) (https://www.rewity.com/forum/t391143.html)

Just Faith 28-09-17 01:19 PM

350- سأبقى وحدي - سلسلة لوسي غوردون (الجزء الثالث و الأخير )
 


https://upload.rewity.com/upfiles/pe672740.png

الرواية رائعة ومنقولة للعلم ولينال كل حقه
شكرا لمن كتبها



سأبقى وحدي - سلسلة لوسي غوردون (الجزء الثالث و الأخير)

350

المـــلـخص:
سلينا فتاة قوية ومستقلة , ما تكسبه من مال يغطي
ضروريات حياتها . عندما أحبت ليو كالـﭭـاني كانت تعتقد
أنه إنسان بسيط يعيش في الريف الإيطالي . وأنه مثلها
. . .
وحيـد .
لكن مـا إن وصلت إلى منزله حتى اكتشفت أنه المنزل الأفخم
في المنطقة وأنه يملك قريتين وأن عمه كونت .
ليس هـذا ليو الذي أحبته .
ليو سيصبح يوماً مـا كونتاً
. . إنه أسوأ كابوس بالنسبة إلى
سيلينا . إذ لا يمكنها أبداً أن تصبح كونتيسة
. .




للتذكير فقط السلسلة مكونة من ثلاث روايات رائعة
الجزء الأول بعنوان
الثاني بعنوان
الثالث بعنوان
https://upload.rewity.com/upfiles/uV672740.png
يجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفي

Just Faith 28-09-17 04:17 PM

1 ـ
أنــا هنــا
ـ سيلينا , أنت تحتاجين إما إلى معجزة , وإما إلى مليونير .
خرج بن من تحت السيارة المعطلة , و هو يحمل المفتاح الإنكليزي
في يده , بدا نحيلاً كهلاً , وقد أمضى ثلاثين سنة من عمره في العمل
كميكانيكي للسيارات . وهذه السنوات الثلاثون جعلته يدرك الآن أن
سيلينا غايتس تريد منه إعادة إحياء جثة هامدة .
قال بكآبة وهو يتأمل الشاحنة المقفلة الصغيرة : (( لا , لا جدوى
من هذا الشيء )) .
فراحت سيلينا ترجوه : (( لكن بإمكانك أن تجعلها تعمل مجدداً
أعلم أنك تستطيع ذلك يا بن , فأنت عبقري )) .
ـ كفي عن ذلك .
قال هذا بصرامة غير مقنعة , ثم أضاف : (( لن ينفع هذا الكلام
معي )) .
فردت صادقة : (( لطالما نفع , يمكنك إصلاحها , أليس كذلك يا
بن ؟ )) .
ـ حسناً , لكنها لن تقلك سوى لمسافة قصيرة .
ـ حتى ستيفنقل ؟
ـ ثلاثمائة ميل ؟ لا تكوني متطلبة ! حسناً , قد تصل , لكن ماذا
ستفعلين بعد ذلك .
ـ عندئذ , سأربح بعض المال في الروديو .

ـ أستركبين تلك البهيمة المرهقة ؟
فانفجرت قائلة : (( أليوت ليس مرهقاً , إنه في ريعان شبابه )) .
إن ذكر أليوت الحبيب يمس وتراً حساساً لديهما , و كانت سيلينا على
وشك أن تدافع عنه بشراسة عندما تذكرت أن بن يصلح شاحنتها بكلفة
زهيدة بحكم الصداقة التي تربطهما , فهدأت . إلا أنها قالت بعناد :
(( سأربح أنا و أليوت مبلغاً مـا )) .
ـ سيلينا , ما من مال كافٍ في العالم لإصلاح هذه الخردة لتعود
جديدة . كانت مهترئة عندما اشتريتها , وهي آخذة في التراجع . من
الأفضل أن تجدي مليونيراً وتقنعيه ببعض الكلام المعسول ليشتري ك
شاحنة جديدة .
عبست سيلينا قبل أن تجيب : (( لا فائدة من ملاحقتي لأي مليونير ))
فأنا لا أملك المؤهلات اللازمة لذلك )) .
تأمل قامتها الطويلة و النحيلة , ثم اعترف : (( لعلك تفتقرين إلى
الصدر الممتلئ فقط )) .
ـ بن , إني أفتقر إلى كافة المؤهلات .
ثم كشرت ساخرة من نفسها وأردفت : (( ما من فائدة , فأصحاب
الملايين يحبون النساء الكاملات و الممتلئات الجسم , وأنا لم أكن يوماً
هكذا كما أن شعري ليس جذاباً , إذ يجب أن يكون طويلاً ومتموجـاً
وليس . . . )) .
وأشار إلى شعرها القصير الأشبه بشعر الصبية , فقد بدا شعرها
بلونه الأحمر ملفتاً يتوهج كالنار , وكأنه يصرخ للعالم : (( أنا هنا ! )) . كان
من المستحيل تجاهل سيلينا , فهي ذكية , وقحة , مستقلة , ومتفائلة إلى
حد الجنون . باختصار إنها فريدة من نوعها , ومن يحاول أن يتحداها
سيتعلم من ذات الشعر الأحمر درساً يقول له : احترس !
ثم تابعت سيلينا مقدمة حجتها المفحمة : (( كما أني لا أحب
أصحاب الملايين , فه ليسوا أناساً حقيقيين )) .
حك بين جبينه وسأل : (( ليسوا حقيقيين ؟ )) .
ـ لا , فهم يملكون الكثير من المال .
ـ الكثير من المال هو ما تحتاجينه الآن أو أنك تحتاجين إلى
معجـزة .
فردت : (( المعجزة ستكون أسهل . كن على ثقة يا بن بأن معجزة
رائعة تتجه نحوي من مكان ما وستصل بطريقة ما )) .
* * *
مد ليو كالـﭭـاني ساقيه بقدر ما ستطاع , لكن المسافة لم تكن طويلة .
استغرقت الرحلة من روما إلى أطلنطا اثنتي عشرة ساعة , وقد سافر في
الدرجة الأولى .
ليس ليو من الرجال الذين يختارون (( الدرجة الأولى )) عند السفر ,
مع أنه ثري ويمكنه أن يختار الأفضل من دون أي مشكلة , لكن التكلف
يثير عصبيته , وينطبق هذا أيضاً على المدن و الثياب الأنيقة . لهذا ,
اختار أن يسافر وهو يرتدي بنطلونه الجينز القديم وسترته , وينتعل
حذاء بالياً . فهذه طريقته ليعلن للعالم أن (( الدرجة الأولى )) لن تصبح
عادة لديه .
وأخيراً , حطت الطائرة في أطلنطا . سيتمكن قريباً من مط ساقيه
وإن لبضع ساعات قبل أن يحشر قامته المديدة في الرحلة المتوجهة
إلى دالاس .
* * *
خفض بن الفاتورة إلى أقصى حد ممكن لشدة ولعه بسيلينا , وكان
يعلم أنها ستنفق الدولارات القليلة المتبقية لديها على أليوت . وإذا ما
تبقى معها أي مال فستشتري به الطعام لنفسها , لكن إذا لم يتوفر
لما تذمرت ولاستغنت عن الأكل . ساعدها في تعليق عربة الجواد

بالشاحنة من الخلف , ثم تمنى لها الحظ وراح يراقبها وهي تخرج بحذر
من باحة مرآبه . وعندما اختفت , رفع صلاة إلى الإله الذي يسهر على
الشابات المجنونات اللواتي لا يملكن سوى حصاناً وشاحنة مهترئة ,
وقلباً كقلب الأس والكثير من العناد .
* * *
عندما صعد ليو عل متن الطائرة في مطار أطلنطا , كان التعب قد
تملك منه فنام نوماُ خفيفاً حتى موعد الهبوط . وفيما كان يمط قامته
ـ سيلينا , أنت تحتاجين إما إلى معجزة , وإما إلى مليونير .
خرج بن من تحت السيارة المعطلة , و هو يحمل المفتاح الإنكليزي
في يده , بدا نحيلاً كهلاً , وقد أمضى ثلاثين سنة من عمره في العمل
كميكانيكي للسيارات . وهذه السنوات الثلاثون جعلته يدرك الآن أن
سيلينا غايتس تريد منه إعادة إحياء جثة هامدة .
قال بكآبة وهو يتأمل الشاحنة المقفلة الصغيرة : (( لا , لا جدوى
من هذا الشيء )) .
فراحت سيلينا ترجوه : (( لكن بإمكانك أن تجعلها تعمل مجدداً
أعلم أنك تستطيع ذلك يا بن , فأنت عبقري )) .
ـ كفي عن ذلك .
قال هذا بصرامة غير مقنعة , ثم أضاف : (( لن ينفع هذا الكلام
معي )) .
فردت صادقة : (( لطالما نفع , يمكنك إصلاحها , أليس كذلك يا
بن ؟ )) .
ـ حسناً , لكنها لن تقلك سوى لمسافة قصيرة .
ـ حتى ستيفنقل ؟
ـ ثلاثمائة ميل ؟ لا تكوني متطلبة ! حسناً , قد تصل , لكن ماذا
ستفعلين بعد ذلك .
ـ عندئذ , سأربح بعض المال في الروديو .

ـ أستركبين تلك البهيمة المرهقة ؟
فانفجرت قائلة : (( أليوت ليس مرهقاً , إنه في ريعان شبابه )) .
إن ذكر أليوت الحبيب يمس وتراً حساساً لديهما , و كانت سيلينا على
وشك أن تدافع عنه بشراسة عندما تذكرت أن بن يصلح شاحنتها بكلفة
زهيدة بحكم الصداقة التي تربطهما , فهدأت . إلا أنها قالت بعناد :
(( سأربح أنا و أليوت مبلغاً مـا )) .
ـ سيلينا , ما من مال كافٍ في العالم لإصلاح هذه الخردة لتعود
جديدة . كانت مهترئة عندما اشتريتها , وهي آخذة في التراجع . من
الأفضل أن تجدي مليونيراً وتقنعيه ببعض الكلام المعسول ليشتري ك
شاحنة جديدة .
عبست سيلينا قبل أن تجيب : (( لا فائدة من ملاحقتي لأي مليونير ))
فأنا لا أملك المؤهلات اللازمة لذلك )) .
تأمل قامتها الطويلة و النحيلة , ثم اعترف : (( لعلك تفتقرين إلى
الصدر الممتلئ فقط )) .
ـ بن , إني أفتقر إلى كافة المؤهلات .
ثم كشرت ساخرة من نفسها وأردفت : (( ما من فائدة , فأصحاب
الملايين يحبون النساء الكاملات و الممتلئات الجسم , وأنا لم أكن يوماً
هكذا كما أن شعري ليس جذاباً , إذ يجب أن يكون طويلاً ومتموجـاً
وليس . . . )) .
وأشار إلى شعرها القصير الأشبه بشعر الصبية , فقد بدا شعرها
بلونه الأحمر ملفتاً يتوهج كالنار , وكأنه يصرخ للعالم : (( أنا هنا ! )) . كان
من المستحيل تجاهل سيلينا , فهي ذكية , وقحة , مستقلة , ومتفائلة إلى
حد الجنون . باختصار إنها فريدة من نوعها , ومن يحاول أن يتحداها
سيتعلم من ذات الشعر الأحمر درساً يقول له : احترس !
ثم تابعت سيلينا مقدمة حجتها المفحمة : (( كما أني لا أحب
أصحاب الملايين , فه ليسوا أناساً حقيقيين )) .
حك بين جبينه وسأل : (( ليسوا حقيقيين ؟ )) .
ـ لا , فهم يملكون الكثير من المال .
ـ الكثير من المال هو ما تحتاجينه الآن أو أنك تحتاجين إلى
معجـزة .
فردت : (( المعجزة ستكون أسهل . كن على ثقة يا بن بأن معجزة
رائعة تتجه نحوي من مكان ما وستصل بطريقة ما )) .
* * *
مد ليو كالـﭭـاني ساقيه بقدر ما ستطاع , لكن المسافة لم تكن طويلة .
استغرقت الرحلة من روما إلى أطلنطا اثنتي عشرة ساعة , وقد سافر في
الدرجة الأولى .
ليس ليو من الرجال الذين يختارون (( الدرجة الأولى )) عند السفر ,
مع أنه ثري ويمكنه أن يختار الأفضل من دون أي مشكلة , لكن التكلف
يثير عصبيته , وينطبق هذا أيضاً على المدن و الثياب الأنيقة . لهذا ,
اختار أن يسافر وهو يرتدي بنطلونه الجينز القديم وسترته , وينتعل
حذاء بالياً . فهذه طريقته ليعلن للعالم أن (( الدرجة الأولى )) لن تصبح
عادة لديه .
وأخيراً , حطت الطائرة في أطلنطا . سيتمكن قريباً من مط ساقيه
وإن لبضع ساعات قبل أن يحشر قامته المديدة في الرحلة المتوجهة
إلى دالاس .
* * *
خفض بن الفاتورة إلى أقصى حد ممكن لشدة ولعه بسيلينا , وكان
يعلم أنها ستنفق الدولارات القليلة المتبقية لديها على أليوت . وإذا ما
تبقى معها أي مال فستشتري به الطعام لنفسها , لكن إذا لم يتوفر
لما تذمرت ولاستغنت عن الأكل . ساعدها في تعليق عربة الجواد

بالشاحنة من الخلف , ثم تمنى لها الحظ وراح يراقبها وهي تخرج بحذر
من باحة مرآبه . وعندما اختفت , رفع صلاة إلى الإله الذي يسهر على
الشابات المجنونات اللواتي لا يملكن سوى حصاناً وشاحنة مهترئة ,
وقلباً كقلب الأس والكثير من العناد .
* * *
عندما صعد ليو عل متن الطائرة في مطار أطلنطا , كان التعب قد
تملك منه فنام نوماُ خفيفاً حتى موعد الهبوط . وفيما كان يمط قامته
المديدة , أقسم ألا يركب الطائرة مجدداً في حياته , وهذا ما يفعله بعد
كل رحلة يقوم بها , وما إن تجاوز جهاز الجمارك حتى سمع صوتاً
هادراً: (( ليو , أيها الفتى . . . ! )) .
أضـاء وجه ليو لرؤية صديقه يتقدم نحوه فاتحاً ذراعيه .
ـ بارتون , أيها العجــوز !
وفي اللحظة التالية , كان الاثنان يملكان بعضهما البعض بسعادة .
بارتون هانوورث في الخمسينات من عمره , وهو رجل محب ,
أشيب , يخفي طوله الكرش الصغير الذي بدأ في الظهور أمامه . أما
صوته وضحكته فيتميزان بالضخامة , تماماً كسيارته ومزرعته وقلبه .
حرص ليو على تأمل السيارة بتمعن . ففي الأسابيع الستة الماضية
أي منذ تقررت رحلته , تحدث إلى بارتون مرات عدة عبر الهاتف . ولم
يفوت صديقه فرصة واحدة للتكلم عن (( طفلته المدللة الجديدة )) , فهي
الأحداث والأجمل والأسرع . لم يأتِ على ذكر السعر , لكن ليو تحقق
من الأمر عبر الإنترنيت وتبين له أنها الأغلى ثمناً . لذا , أدرك واجباته
فراح يطري على الجميـلة الفضية اللون والكبيرة الحجم , فكـافأه صديقه
بابتسامة عريضة مشعة .
ولم يتطلب وضع حقائبه القليلة في السيارة سوى دقائق , لينطلقا
بعدئذ في رحلة تستغرق ساعتين إلى المزرعة قرب ستيفنفيل .
سأل بارتون وعيناه على الطريق : (( لِمَ سافرت من روما ؟ ظننت أن
بيزا أقرب إليك )).
فأجاب ليو : (( كنت في روما أحضر حفل خطوبة قريبي ماركو )) .
ـ أتظن أن مصير هذه الخطوبة سيكون كمصير خطوبته السابقة ؟
ـ ربما . إلا إذا أدرك سريعاً أنه متيم بهارييت .
ـ وماذا عن أخيك . ألا يسلك الدرب نفسه ؟
ـ آه , غويدو يملك من الحس السليم ما يجعله يدرك أنه يتصرف
بجنون حين يفعل . إنه بخير ودولسي ممتازة وهي تناسبه .
فقال بارتون ضاحكاً : (( إذن , لم يبقَ سواك حراً ؟ )) .
ـ أنـا حر وسعيد بذلك , ولن تتمك إحداهن من الإمساك بي .
ـ هذا ما يقوله الجميع , لكن انظر من حولك . فالرجال الجيدون
يتساقطون كالثمار الناضجة .
ـ نعم , طبعاً !
وعندئذ , ضحك الإثنان معاً . كانت ضحكة ليو بهيجة , مليئة
بالشمس والحرية , ومفعمة بالحيوية و الحياة إنه رجل يحب الأرض
ويسعى غريزياً إلى الهواء الطلق . يظهر ذلك في عينيه وجسده الضخم
المسترخي , كما يظهر خاصة في ضحكته .
قبيل الوصول إلى ستيفنفيل , راح بارتون يتثاءب , و قال : (( إن
النظر إلى مؤخرة حصان طيلة هذه المدة يصيب عيني المرء بالحول )) .
إذ كانت تتقدمهما قاطرة جياد قديمة مهترئة تعرض كفل فرس
عريضة , وهي تسير أمامهما منذ مدة .
وعاد بارتون يقول : (( المسافة لم تعد طويلة في الواقع . وهذا من
حسن حظنا , فمن يقود هذه الشاحنة لم يتعد سرعة الخمسين .
لنتجاوز ! )) .
وزاد من سرعته لتجاوز الشاحنة . نظر ليو من نافذته فرأى

المقطورة ومن ثم الشاحنة الصغيرة أمامها , ولمح السائق , وهي امرأة
شابة , شعرها أحمر لامع . رفعت نظرها إليه لبرهة , ورأته ينظر إليها .
ما حصل بعد ذلك أصبح موضع خلاف بينهما لاحقاً , فهي
تقول دوماً إنه غمزها , فيما يقسم هو أنه غمزته أولاً , وتقول هي إن
الأمر مستحيل ! ولا بد من أنها خدعة من الضوء , وأن رأسه مليء
بالأوهام . . ولم يتمكنا من حل هذا الخلاف أبداً .
بعدئذ , خفف بارتون من سرعته بعد أن تركاها خلفهما . فسأله
ليو : (( هل رأيت هذا ؟ لقد غمزتني – بارتون ؟ بارتون ! )) .
ـ حسناً , حسناً غني أريح عيني للحظة . لكن , لعل من الأفضل
أن تتحدث إلي , كنوع . . .
ـ لتبقى مستيقظاً ؟ حسناً , لا أظن أن تجاوز الشاحنة تركنا بحــال
أفضل .
قال ليو هذا وهو يراقب شاحنة أخرى كانت تتقدمهما , وهي
تتحرك بشكل غريب , منتقلة من مسارٍ إلى آخر . انحرف بارتون نحو
اليمين ليتجاوزها , لكن الشاحنة انحرفت في الوقت نفسه لتسد أمامه
الطريق ما اضطره إلى العودة إلى الخلف . كرر المحاولة ثانية , ولكن
الشاحنة انحرفت مجدداً ثم أبطأت سرعتها بغتة .
صرخ ليو بسرعة حين لم يقم صديقه بأي رد فعل : (( بارتون ! ))
لكن الأوان قد فات , إذ بم يعد بإمكانه أن يخفف سرعته تدريجياً , ما
اضطره إلى التوقف على الفور , فداس على المكابح ليوقف السيارة في
الوقت المناسب . إلا أن الشاحنة الصغيرة خلفهما لم تكن محظوظة
بقدرهما , وتعالى فجأة صوت مكابح , ثم صوت ضربة تلته هزة أصابت
السيارة , لتنتهي السلسلة أخيراً بصرخة غضب وألم . أما الشاحنة التي
تسبب بالمشكلة فانطلقت في طريقها , وقد بدا سائقها غافلاً عما
جرى . ترجل الرجلان من السيارة و أسرعا إلى الخلف لتفقد الأضرار ,
و ما رأياه روعهما .
رأيا انبعاجاً عظيماً في مؤخرة السيارة مصدر فخر بارتون
وسروره , انعكس على مقدمة الشاحنة الصغيرة . لكن الأمور كانت
أسوأ عند مؤخرة الشاحنة , فالتوقف المفاجئ أدى إلى انحراف المقطورة
واصطدامها بالشاحنة بقوة ألحقت الضرر بهما معاً كانت المقطورة
منقلبة جزئياً وتستند مترنحة إلى الشاحنة , فيما الحيوان المذعور في
داخلها مهتاج يكمل عملية التكسير .
راحت الشابة ذات الشعر الأحمر تكافح لإعادة المقطورة إلى
وضعها الصحيح , وهي مهمة مستحيلة , لكنها استمرت في محاولاتها
بقوة شديدة الاهتياج .
صرخ بها ليو : (( لا تفعلي هذا , فسوف تؤذين نفسك )) .
فالتفتت إليه مجيبة : (( لا تتدخل ! )) .
كانت جبهتها تنزف , فقال : (( أنت مصابة , دعيني أساعدك )) .
ـ قلت لك ألا تتدخل , ألم تفعل ما فيه الكفاية ؟
ـ إسمعي , لست أنا من كان يقود السيارة . على أي حال , لم
تكن . . .
ـ وبم يهمني من كان يقود ؟ فأنتم كلكم متشابهون . تسرعون في
سياراتكم اللامعة كما لو أنكم تملكون الطريق كدتم تقتلون أليوت .
ـ أليوت ؟
وجاءه الرد على شكل تحطم آخر داخل المقطورة . وفي اللحظة
التالية , وقع الباب وخرج الجواد لتنهب حوافره الأرض , ركض ليو
والفتاة خلفه في محاولة منهما للإمساك به , لكنه فر منهما واتجه إلى
وسط الطريق السريع . ومن دون أي تردد , لحقت الفتاة به متجاهلة
حركة السير . قال ليو بعنف وهو يلحق بها بدوره : (( امرأة مجنونة ! )) .
وتعالت أصوات مكابح أخرى وانهالت الشتائم من سائقين
غاضبين على ليو , لكنه تجاهلهم وركض خلفها بجنون . حك بارتون
رأس وتمتم : (( كلاكما مجنون )) .
ثم أخرج هاتفه الخلوي من جيبه .
ومن حسن حظهما , أن إصابة أليوت كانت طفيفة ما جعله غير
قادر على العدو بشكل سريع . لكنه كان مصمماً على عدم السماح لهما
بالإمساك به , وذلك لسوء حظهما . وما لم يستطع أن يحققه بالسرعة
حققه بالمكر , فراح يدور هنا وهناك حتى اختفى بين مجموعة من
الأشجار . وصاح ليو : (( اذهبي في هذا الاتجاه فيما اسلك أنا الاتجاه
الآخر , لنتمكن من الإمساك به )) .
وفي اللحظة التالية , بذل ليو جهداً إضافياً , مصدراً الأمر
لساقيه لكي تسرعا أكثر . وأطاعته ساقاه فنجح في الإمساك بلجام
الجواد على بعد خطوات من الطريق .
نظر إليه أليوت بحذر , لكن يبدو أن كلمات ليو المهدئة الأولى
أحدثت التأثير المطلوب . لم يكن قد سمع هذه الكلمات من قبل لأنها
بالإيطالية , لكن صوت ليو صوت رجل يحب الجياد , ويتكلم لغة المحبة
العالمية , وهدأ هيجان أليوت فوقف مكانه , عصبياً ومرتبكاً إنما
مستعداً للوثوق به .
لاحظت سيلينا كل هذا وهي تقطع المسافة القصيرة المتبقية . و لم
تساعد السيطرة السهلة على جوادها في تحسين مزاجها , كما لم تساعد
الخبرة التي أظهرها الرجل وهو يتفحص حوافر الحيوان ليقول أخيراً :
(( لا أظن أن الأمر أخطر من مجرد التواء بسيط , لكن الطبيب البيطري
سيؤكد ذلك )) .
رددت بلهجة لاذعة : (( مجرد التواء بسيط . ما كان هذا الالتواء
ليحصل لو لم تتوقف سيارتك فجأة )) .
قال ليو وهو يتنفس بصعوبة بعد الجهد الذي بذله : (( عفواً . أنا لم
أفعل شيئاً لأني لم أكن أقود , بل صديقي . كما أن الخطأ لم يكن خطأه
أيضاً , بل خطأ ذلك الرجل الذي خفف سرعته أمامنا , والذي رحل
منذ زمن ؟ لكن لو كان هناك عدل في العالم . . . تباً , ماذا تعرفين أنتِ
عن العدل ؟ )) .
ـ أعرف عن جوادي المصاب وشاحنتي المتضررة . أعرف أن
السبب في ما حصل هو أنني اضطررت إلى الدوس على المكابح في آخر
لحظة . . .
ـ آه , نعم , مكابحك . يهمني جداً أن أتفحص مكابحك , أراهن
على أنها مثيرة للاهتمام .
ـ أتحاول أن تضع اللوم علي الآن !
ـ أنا . . .
ـ أعرف أمثالك , تقول في سرك : (( إنها امرأة وحيدة , ولا بد أنها
ضعيفة وعاجزة . دعنا نحاول لنرى إن كنت ستخاف بسهولة )) .
فرد ليو بصدق تام : (( لم يخطر في بالي للحظة أنك تخافين بسهولة .
أمـا بالنسبة للعجز , فقد رأيت رجالاً شجعاناً أكثر منك عجزاً )) .
وكان بارتون قد قطع الطريق ووصل إلى حيث يقفان : (( انتظر
لحظة ليو . . . )) .
كان ليو عادة من أكثر الرجال هدوءاً , لكن طبعه اللاتيني قد يظهر
بشكل عنيف إذا ما أطلق العنان له .
ـ نحن هنا ألسنا كذلك ؟ لذا , ضعي اللوم علينا و . . . و . . .
وكعادته دوماً عندما تخذله لغته الإنكليزية , استعان ليو بلغته الأم
فاندفعت الكلمات من فمه كالموج الهادر في اللحظات التالية .
وأخيراً , صاح بارتون : (( اللعنة ليو ! هلا توقفت عن التصرف
بحساسية مفرطة و . . عن التكلم بالإيطالية ؟ )) .

فقال ليو : (( أردت أن أعبر عن مشاعري وحسب )) .
ـ حسناً , لقد فعلت . فلما لا نهدأ جميعاً ونتعارف ؟
ثم استدار نحو المرأة الشابة وعرف عن نفسه ببساطة وهدوء :
(( بارتون هانوورث . صاحب مزرعة فورتين , قرب ستيفنفيل , وهي
تبع حوالي خمسة أميال )) .
ـ سيلينا غايتس , في طريقي إل ستينفيل
ـ حسناً , يمكننا أن نضع عربتك في التصليح عندما نصل ,
وسنعرض الحصان على الطبيب البيطري .
شدت سيلينا شعرها : (( لكن , كيف سنصل إلى هناك ؟ هل
سنطير ؟ )) .

ـ أبداً . لقد أجريت اتصالاً هاتفياً , والمساعدة في طريقها إلينا ,
وبانتظار أ تُحل الأمور ستبقين معنا ليوم أو أكثر .
رمقت سيلينا ليو بنظرة مشككة وقالت : (( لكنه يقول إن الذنب لم
يكن ذنبك )) .
فاعترف بارتون من دون أن يجرؤ على مقابلة عيني ليو : (( حسناً ,
لعل رد فعلي جاء متأخراً بعض الشيء . في الواقع , لو أنني أبطأت
سرعتي قبل . . . على أي حال , لا تهتمي بما يقوله صديقي )) .
ثم مال نحوها وأضاف بلهجة لا تخلو من التواطؤ : (( إنه غريب . . .
ويتكلم بشكل مضحك )) .
كشر ليو وقال : (( شكراً يا بارتون )) .
كان اهتمامه لا يزال منصباً على أليوت , فراح يداعب أنف الجواد
ويهمس له بكلمات جعلته يستعيد هدوءه . كانت سيلينا تراقبه من دون
أن تنطق بأي كلمة , لكنها سجلت في ذاكرتها كل ما يجري , ومهما
كانت الأوامر التي أصدرها بارتون إلا أنها بدت محددة , إذ أخذت
الأحداث تتسارع بعد فترة وجيزة , فظهرت شاحنة تجر خلفها مقطورة
تحمل شعار مزرعة وتكفي لثلاثة جياد .
قادت سيلينا أليوت بلطف وجعلته يصعد فوق اللوح المعد
للتحميل , وكان الجواد يعرج بشكل واضح .

وقال بارتون : (( البيطري والطبيب في انتظارنا في المنزل . والآن
اصعدي معنا في السيارة لتنطلق )) .
كانت تشعر بالغضب منه من دون أن تعرف السبب , وقد تأكدت
من أنه لم يكن يقود السيارة , كما أن بارتون هانوورث , السائق ,
عرض عليها تعويضاً مناسباً . إلا أن أعصابها لا زالت ثائرة , فهي لم
تعرف هذا المقدار من الخوف من قبل . ويبدو أن سخطها كله ينصب
على هذا الرجل الذي يجرؤ على إصدار الأوامر إليها , والذي يتحدث
إليها بصوت مهدئ كالذي استخدمه لتهدئة أليوت , وهذه هي الطامة
الكبرى !
ـ سنصل قريباً , وسوف تحصلين على الرعاية المناسبة .
فردت وهي تصرف بأسنانها : (( أنـا لا أحتاج إلى الدلال )) .
ـ لكنك تحتاجين إلى العناية بعد تعرضك لحادث .
فقالت بنكد : (( أظن أن البعض منا أقوى من البعض الآخر )) .
ولم يجبها ليو , فقد بدت مريضة واعترف بأنه يحق لها أن تظهر سوء
طباعها .

للوهلة الأولى , تبدو هي نفسها جميلة , باستثناء عينيها
الواسعتين الخضراوين , وقد عكست بشرتها المتوردة الصحة والحياة في
الهواء الطلق , ولاحظت عينا ليو , اللتان كانتا تراقبانها , حركتها
باستمتاع , فهي نحيلة كلوح من الخشب , ول تكن أنيقة لكنها قوية كما
أنها تتحرك برشاقة راقصة . حاول أن يرى عينيها الرائعتين مجدداً من
دون أن يفضح نفسه , فامرأة لها عينان كهاتين العينين لا تحتاج إلى أي
شيء آخر يثبت جمالها . قال ليو وهو يمد يده : (( اسمي ليو كالـﭭـاني )) .

صافحته فأحس على الفور بقوتها , شد أصابعه قليلاً , سعياً إلى
عرفة المزيد عنها , لكنها سحبت يدها على الفور إذ لم تبقها في يده إلا
بقدر ما تقتضي اللياقة .
بدأت المقطورة تتحرك ببطء كما أصرت سيلينا , وبعد دقائق ,
أدرك أنها تتأمله بحشرية , لم تكن حشرية شهوانية كالتي اعتادها أو
افتتاناً رومنسياً كما صادف غالباً . . إنها حشرية وحسب , كما لو أنه
خطر لها أنه قد لا يكون سيئاً كما اعتقدت في البدء , وهي مستعدة
للتعويض عما بد عنها لكن ليس أكثر . . .

نهاية( الفصل الأول ) . . .

Just Faith 28-09-17 04:31 PM


2 ـ
عالقة بين الحطــام
كانت مزرعة (( فورتين )) عبارة عن أربعين ألف متر مربع من
الأراضي الخصبة , حيث يرعى خمسة آلاف رأس ماشية و مئتا جواد ,
ويعيش خمسة موظفين وعائلة مؤلفة من ستة أفراد .
أدركت سيلينا أنها حضرة ثروة طائلة عندما قفزت على عجل
من المقطورة ورأت الإسطبلات حيث يضع بارتون جيده الممتازة .
كانت الأمور تسير بدقة الساعة . ففيما كانت تقود أليوت , فتح
رجل باب مربط واسع ومريح حيث ينتظر الطبيب البيطري . ورأت
طبيباً آخر , أراد أن يجرها جانباً ليتفحص جرحها لو لم يتدخل ليو
كالـﭭـاني قائلاً بهدوء : (( دعها تهتم بالجواد أولاً , فلن تهدأ حتى تطمئن
إلى أنه بخير )) .

رمقته بنظرة امتنان لتفهمه , وراحت تراقب البيطري وهو يمرر
يدين خبيرتين على جسد أليوت ليعطي بعدئذ التشخيص نفسه الذي
أعطاه ليو , مع بعض التفاصيل الإضافية ليبرر كلفة المعاينة , وقد
أعطى الجواد حقنة مضادة للالتهاب ووضع له بعض الضمادات .
سألته سيلينا بقلق : (( هل سيتمكن من المشاركة في الروديو في
الأسبوع القادم ؟ )) .
ـ سنرى , فهو لم يعد شاباً .
عندئذ , سألها ليو : (( لِمَ لا تدعين الطبيب يفحصك الآن ؟ )) .
أومأت وجلست فيما راح الطبيب يفحص رأسها . تحت ستار

هدوئها الظاهر كانت سيلينا في الواقع تغالب بأسها , فهي تشعر بالألم
في رأسها , وفي قلبها وفي أنحاء جسمها كله .
سأل ليو بارتون : (( كيف حال الجياد التي بعتك إياها منذ سنتين ؟
هل تتحسن ؟ )) .
ـ تعال لتراها بنفسك .
وسار الرجلان معاً يتفقدان المرابط . كانت الجياد الخمسة التي
اشتراها بارتون من ليو في حالة جيدة . وهي حيوانات ضخمة ذات
عراقيب قوية , تُمرن بشكل قاس لكنها تعامل معاملة ممتازة .
قال بارتون حين راحت تمرغ أنفها في كتف ليو : (( أقسم أنها
تتذكرك )) .
فابتسم ليو ورد : (( إنها لا تنسى من يحبها )) .
وفيما كانا يتأملان الجياد بإعجاب , استرق ليو النظر إلى سيلينا ,
فرأى الطبيب يضع لها ضمادة على جبينها وهو يقول : (( استريحي ليوم
أو اثنين . استريحي جيداً )) .
فأصرت : (( إنه مجرد ورم بسيط في الرأس )) .
قال بارتون : (( سأحرص على أن ترتاح , فزوجتي تجهز لها غرفة )) .
تبعتهما رغماً عنها إلى المنزل , وهو أشبه بقصر أبيض اللون جعلها
تشعر بالغرابة . وتساءلت كيف سيتصرف ليو . ففي بنطلونه الجينز
الرث وحذائه البالي بدا وكأنه في غير مكانه , كما شعرت هي بالضبط ,
لم يبدُ عليه أن الوضع يزعجه .
صرخات اللهفة جعلت ليو يرفع عينيه , وما لبث أفراد عائلة
هانوورث أن أحاطوا به .
كانت داليا , زوجة بارتون , مليئة بالحيوية والحماسة والمرح , وقد
بدت أصغر بعشر سنوات من عمرها الحقيقي , أما أولادها فهم :
فتاتان تحملان اسم كاري وبياي , وهما نسخة شابة عن والدتهما ,
وصبي يبدو و كأنه يعيش في عالم الأحلام . بعيداً عن بقية الأسرة .

واكتملت الأسرة بحضور بول أو بولي كما تصر داليا على مناداته ,
وهو ابنها من زواج سابق ونور عينيها , فقد دللته بشكل منافٍ للعقل .
استقبل بولي ليو كفرد من الأسرة , متنبئاً (( بأوقات رائعة ))
سيقضيانها معاً , كان بولي في أواخر العشرينات , ذا وسامة سطحية ,
لكن ملامحه أظهرت أنه يطلق العنان لأهوائه ورغباته , فهو يعتبر نفسه
رجل أعمال , لكن (( عمله )) هو عبارة عن شركة إنترنت , وهي الشركة
الخامسة التي يؤسسها والتي بدا أنها تسير على طريق الفشل السريع ,
كما فشلت الشركات الأربع السابقة .
وقد كفله بارتون مراراً وتكراراً وأخرجه من ورطاته , مقسماً في
كل مرة أن تكون تلك هي المرة الأخيرة التي يساعده فيها , لكنه سرعان
ما يعود ويرضخ لتوسلات داليا .

ساد اللقاء جو أنيس , فبولي يحسن التصرف ويبدو أنه عرف
سيلينا : (( رأيتك في الروديو في . . . )) .
وراح يتلو لائحة من الأسماء ثم أضاف : (( ورأيتك تفوزين أيضاً )) .
استرخت سيلينا وتمكنت من منحه ابتسامة , ثم اعترفت : (( أنا لا
أربح كثيراً , فقط بما يكفي لأستمر )) .
فقال بولي وهو يصافحها : (( أنت نجمة , إنه لفخر أن يلتقيك
المرء )) .
إذا ما ساور سيلينا الشعور نفسه فقد نجحت في إخفائه , فثمة شيء
في بولي يضفي لمعاناً كريهاً حتى على محاولات الإطراء التي يقوم بها .
شكرته وسحبت يدها كابحة رغبتها في حفها على بنطلونها , فقد كانت
يد بولي باردتين و دبقتين .
قالت داليا بلطف : (( غرفتك جاهزة وسترشدك إليها الفتاتان )) .
وتكفلت كاري و بيلي بسيلينا على الفور , فجرتاها على السلالم

الضخمة قبل أن يتسنى لها أن تعترض . فتبعهم بولي , الذي بدا من
الصعب التخلص منه , وعندما وصلن إلى أفضل غرفة للضيوف ,
احتال ليتقدمهن ويدخل من الباب المفتوح ليقول بظرف : (( الأفضل
لأشهر ضيف عندنا )) .
وبما أن سيلينا ليست مشهورة , وهي تعلم ذلك, فقد نظرت إليه
شزراً . كانت ترى فوق رأس بولي إشارة تقول : (( حذر , مصدر
للمشاكل ! )) , وسرت عندما عمدت كاري إلى طرد أخيها من الغرفة .
كانت الغرفة مؤثثة بالأبيض و الزهري و البنفسجي , وهي ألوان
داليا المفضلة , وكان لون السجادة زهرياً ما جعل سيلينا تتحقق من أن
جزمتها لا تحمل وحلاً في نعليها , أما الستائر فزهرية مطرزة باللون
البنفسجي , فيما أحاطت بالسرير الضخم ستائر ناعمة بيضاء اللون .
يمكن للسرير أن يسع أربعة أشخاص , هذا ما خطر لها وهي تتحقق من
الفراش بحذر . وبدا الفراش ناعماً وليناً ما جعلها تتراجع خطوة إلى
الخلف . كيف يمكن للمرء أن ينام فيه من دون تردد ؟
جالت في الغرفة وهي تتساءل عما إذا كانوا قد وضعوها في الغرفة
الخاطئة . فقد تخرج ملكة انكلترا من الخزانة لتقول إن الغرفة غرفتها .

الحمام بدوره بدا مثيراً للاضطراب , إذ بدا متكلفاً , يعكس ذوقاً
أنثوياً , بمغطسه الذي يشبه صدفة بحرية ضخمة , إذا كان ثمة شيء تعرفه
سيلينا عن نفسها , فهو أنها ليست متكلفة ورقيقة كغيرها من الإناث .
كانت تفضل الدوش , لكن قبعة الاستحمام لا تكفي لحماية الضمادة
على جبينها لذا ملأت حوض الاستحمام .
وعندما امتلأ الحوض , نزلت فيه بحذر تتذوق راحة المياه الساخنة
التي هدات كدماتها استعرضت أنواع الصابون المختلفة حتى وجدت
أخفها رائحة وبدأت تفرك بشرتها , وراحت متاعب النهار تزول
تدريجياً .
ما إن وقت في المغطس حتى رأت مجموعة من القوارير الزجاجية
بألوان مختلفة على رف فوق الحوض , شعرت بالفضول , فاختارت
إحداها وفتحتها لتشتم العبير الذي كان أقوى من رائحة الصابون .
سارعت لاهثة إلى لإقفالها , لكن أصابعها كانت زلقة فما استطاعت أن
تمسك بها جيداً وانزلقت القارورة لتتحطم على حافة الحوض مصدرة
صوتاً ينذر بالأسوأ . صرخت سيلينا مذعورة بسبب الاصطدام وبسبب
تناثر قطع الزجاج في كل مكان حولها .

كان ليو في الغرفة المجاورة , يخلع ملابسه ليستحم . وكان بالكاد قد
خلع قميصه حين سمع الصرخة فتوقف وخرج إلى الممر حيث وقف
مجدداً مصغياً . كان الصمت يلف المكان . ثم سمع صوتاً يائساً من خلف
باب سيلينا .
ـ آه , لا ! ماذا سأفعل ؟
وتمكنت من التقاط منشفة كبيرة فلفت بها جسدها دون تحرك
قدميها خوفاً من شظايا الزجاج .
دق بابها : (( مرحباً ؟ هل أنت بخير ؟ )) .
وصل إليه صوتها ضعيفاً : (( في الواقع , لا ))
فتح الباب لكنه لم يرَ أحداً في الغرفة : (( مرحباً ؟ )) .
ـ أنا هنـا .
بات متأكداً من أنها في الحمام , فاقترب من الباب المفتوح بحذر,
محاولاً ألا يلهث بسبب الرائحة القوية التي فاحت وأحاطت برأسه
كغمامة . سألها : (( هل أستطيع الدخول ؟ )) .
ـ سأعلق هنا إلى الأبد إن لم تدخل .
تحرك بحذر ونظر من الباب إلى الصدفة الزهرية اللون الضخمة ,
فوجد سيلينا واقفة في وسطها وهي تحدق إليه بعينين مسعورتين وقد
غطت رغوة الصابون ركبتيها وساقيها . قالت بصوت يائس : (( حطمت

أحدى زجاجات الكريستال )) .
نظر حوله وسألها : (( هل تأذيت ؟ )) .
ـ ليس بعد , كن قطع الزجاج تناثرت في كل مكان تحت الماء ,
وفي أرض الحمام , لذا لا أجرؤ على أن أتحرك .
ـ حسناً , لا تهلعي .
أحكت شد المنشفة على جسمها وهو يتقدم منها .
أخذ ليو نفساً عميقاً . كانت المنشفة تغطي جسمها حتى ركبتيها ,
تمسكت بعنقه وشعرت بيديه على خصرها كانت يداه كبيرتين ,
تكادان تطوقان جذعها , لكنه حاول ألا يركز على قربها الشديد منه .
حملها وهو يسير بحذر فوق شظايا الزجاج المتناثرة على أرض
الحمام إلى أن وصلا إلى غرفتها .
و تجمد دمه لسماع صوت منذ بالسوء , إذ تناهى إايه صوت قهقهة
فتاة , لا بل فتاتين تقفان أمام الباب . وتعالى صوت كاري : (( سيلينا ,
هل بإمكاننا أن ندخل ؟ )) .
ـ لا ! .

جاء صوت سيلينا حاداً وقفزت على الفور , فتمكنت من أن تصل إلى
الباب في الوقت المناسب ومدت يدها لتقفله بالمفتاح , فيما اليد
الأخرى تمسك المنشفة بإحكام على جسمها . لكنها لم تجد مفتاحاً ,
وهكذا لم تتمكن من إقفال الباب
صرخت وهي تسند ظهرها إلى البا بقوة : (( لا تدخلا , فلست
محتشمة . سأنزل بعد دقيقة . اشكرا والدتكما بالنيابة عني )) .
ولحسن حظهما أن الصوتان قد ابتعدا .
تمالك ليو نفسه وهو يتساءل كم سيحتمل أكثر . إذا لم يقض
احتضانها على جهازه العصبي , فرؤيتها وهي تركض في الغرفة كالغزال
المذعور قضت عليه تقريباً . لكنه كان واثقاً من أمر واحد وهو أنه أفلح
إنقاذها , إذ لم يرَ نقطة دم واحدة تسيل منها .

هرعت سيلينا إلى الحمام واستبدلت المنشفة الطويلة بثوب محتشم
يلفها , ثم عادت إلى الغرفة لتقول : (( شكراً , لقد أنقذتني من وضع مؤذٍ
للغاية )) .
وكان قد تمالك نفسه حين رد : (( من الأفضل أن أرحل قبل أن
سمعتانا )) .
ـ ماذا سأقول للسيدة هانوورث )) .
ـ دعي الأمر لي , أظن أن عليك ألا تنزلي إلى الأسفل . اخلدي إلى
النوم , وهذا أمر .
نظر إلى الممر و شعر بالارتياح حين لاحظ أنه خالٍ . لكن , ما إن
خرج من الغرفة حتى ظهرت كاري وبيلي وكأنهما كانتا تختبئان في
الزاوية .

ـ مرحباً ليو ! هل كل شيء على ما يرام ؟
أجاب مدركاً أنه عاري الصدر : (( لا , فقد أوقعت سيلينا إحدى
زجاجات الكريستال في حوض الاستحمام فتحطمت وهي فيه )) .
وتمنى لو أن الأرض تنشق لتبتلعه , فيما أضاف : (( وعدتها أن أخبر
امكما عن الزجاجة , وسأفعل ذلك . . . ما إن أرتدي قميصاً ))
ودخل إلى غرفته مسرعاً , محاولاً ألا يسمع ضحكة المراهقتين
المكبوتة والتي حملت ألف معنى من شأنها أن تجمد دم المرء في عروقه .
* * *
جاء رد فعل داليا كما توقع ليو بالضبط , فأظهرت تعاطفاً ولطفاً
إذ قالت : (( ما قيمة الزجاجة ؟ سأصعد لأتأكد من أنها بخير )) .
ثم عادت بعد دقائق ودخلت إلى المطبخ لتأمر بحمل الطعام إلى
سيلينا في غرفتها . بدا أنها تحدثت إلى ابنتيها في هذه الأثناء , إذ إن
موقفها من ليو حمل بعد ذلك بعض الخبث .

ـ يبدو أنك لعبت دور الفارس . لكن , من يمكنه أن يلومك ؟ فهي
فتاة جميلة .
ـ داليا , أقسم أنني لم أرها قبل اليوم .
وكانت غلطته فادحة , إذ ابتسمت داليا ابتسامة العارف بما
يجري , وقالت : (( أنتم الإيطاليون جريئون و رومنسيون , لا تفوتون أي
فرصة مع النساء )) .
فسألها بيأس : (( ما هذه الروائح الزكية التي تتصاعد من المطبخ ؟
إنني أتضور جوعاً )) .
الحديث عن الطعام قطع الطريق على الأحاديث الأخرى .
الشخص الوحيد الذي أثار المسألة مجدداً كان بولي الذي أعاد تقريباً ما
قالته أمه إلا أن الكلمات من فمه بدت سوقية , كريهة و مزعجة .
وعندما شرح ليو لبولي مبتسماً ما قد يفعله به إذا ما أتى على ذكر
الموضوع مجدداً , انتهت المسألة عند هذا الحد .
وفيما كان يرتدي ثيابه ليشارك في حفل الشواء , حاول ليو أن
يتفهم ردات فعله الخاصة . فبالرغم من موقف سيلينا الدفاعي وسرعة
غضبها , وهو أمر لا يمكن أن يلومها أحد عليه , إلا أنها مغرية بشكل
غريب , لم يفته أي شيء فيها للوهلة الأولى , حتى إن احتضانها ما كان
له أن يثيره , فهي تفتقر إلى امتلاء الجسم الذي يفضله في النساء . لكن
شيئاً ما فيها تمكن منه بشكل غامض , لم يتمكن بعد من تحديده . كما أن
رؤية بولي بتشدق بما يعتقد انه جرى في غرفتها أثار غضبه . وقد كبح
ليو رغبته في ضربه , بعد أن ذكر نفسه بأنه ابن مضيفته .
بدأ الضيوف بالتوافد وتوجهوا إلى الحفل الكبير حيث تقام
الحفلة , وهو الحقل نفسه الذي جرت فيه حفلة البارحة . راقب ليو ما
يجري من نافذته , عابساً متوقعاً ما سيحدث الليلة .
صاح بارتون ما إن نزل ليو السلالم : (( هل أنت مستعد لقضاء يوم
ممتع ؟ )) .
فرد ليو بصدق : (( أنا جاهز لذلك دوماً , لكن هل يمكننا أن نلقي
نظرة على الإسطبلات أولاً ؟ )) .
ـ طبعاً , إذا أردت ذلك . لكن لا تقلق يا ليو , فستكون على ما
يرام .

ـ أليوت ذكر وليس أنثى .
ـ لم أكن أعني أليوت .
قال بارتون ذلك , وقد بدا وكأنه لا يوجه كلامه إلى شخص محدد .
بدا أن الدواء المضاد للالتهاب أخذ مفعوله , كما بدا أليوت
راضياً . الطريق إلى الحقل يمر قرب مرآب بارتون , فرأى ليو عبر الباب
المفتوح شاحنة سيلينا الصغيرة وبقايا مقطورة الجواد .
قال بارتون متأملاً : (( لقد أمل الزمان على هذه الشاحنة وشرب .
أتساءل كيف صمدت كل هذه المدة )) .
صعد ليو إلى المقطورة , وما رآه فيها أصابه بصدمة .
لطالما اعتبر نفسه معتاداً على الحياة القاسية والخشنة , لكن رؤيته
(( لمنزلها )) صدمته , إذ أن محتوياته اقتصرت على الحد الأدنى الضروري .
رأى أريكة بالكاد تكفيها لتنام وموقداً صغيراً , ومكاناً صغيراً جداً
للاغتسال . و أفضل ما يمكن أن يقال عن هذا المكان هو أنه يشع
نظافة .
وأدرك أن تجارب الحياة القاسية التي عاشها , ما هي إلا تجارب
رجل غني , وجد لعبة يلهو بها – إذ مهما كانت الظروف قاسية , كان
بإمكانه دوماً العودة إلى الحياة السهلة المريحة عندما يمل من اللعب . أمـا
هي , فليس لديها مهرب ؛ هذا واقعها وهذه حياتها .
ما الذي دفعها لاختيار حياة التجوال , التي يبدو أنها لا تقدم لها
الكثير ؟

واتضحت له الأمور بشكل مفاجئ ومفزع . لقد سلب منها
الحادث كل ما تملك تقريباً . بعدئذ , لم تعد لديه فرصة ليفكر في أي أمر
كئيب , إذ فتحت الضيافة في تكساس ذراعيها له . فارتمى بينهما
مستمتعاً بكل لحظة , ومذكراً نفسه بأنه سيتمكن من التفكير لاحقاً ,
ومرت ساعات عدة سعيدة .
وعندما كان يستريح ليلتقط أنفاسه , راح يتساءل عن حال سلينا ,
هل أكلت العشاء الذي أرسلته داليا إليها , وهل هي جائعة من جديد .
ملأ صحناُ باللحم المشوي والبطاطا ووضع زجاجة مرطبات تحت
إبطه ثم توجه نحو المنزل . لكن دافعاً ما جعله يغير وجهته نحو
الإسطبلات , وكما توقع , وجد سيلينا هناك , تستند على مربط أليوت
لتراقبه برضا .
سألها ليو : (( كيف حاله ؟ )) .
أجفلت ثم ردت : (( إنه أفضل , وقد هدأ كثيراً )) .
هي أيضاً كانت بحال أفضل كما لاحظ , فقد عاد اللون إلى خديها
والبريق إلى عينيها . رفع الصحن لتراه فراحت تنظر إلى اللحم المشوي
بلهفة تدل على شعورها بالجوع .
ـ أهذا لي ؟
ـ حسناً , من الواضح أنه ليس لأليوت , هيا تعالي .
جلسا سوياً على كومة من القش وقدم لها العصير , فأرجعت
رأسها إلى الخلف وشربت جرعة كبيرة منها , ثم تنهدت : (( آه , هذا
جيد ! ))
أشار إلى الباب برأسه قائلاً : (( لِمَ لا تنضمين إلى الحفلة ؟ )) .
ـ شكراً , لكني لن أفعل .
ـ ألم تزوري قط منزلاً كهذا من قبل ؟
ـ بالطبع , وفي العديد من المرات . لكني لم أدخل من الباب
الرئيسي . قد عملت في أماكن كهذه , ألمع الأرض أنظف المطبخ ,
لكني فضلت العمل في الاسطبل .
ـ متى كان ذلك ؟ تتكلمين وكأنك كبيرة في السن , لكن لا يمكن أن
يكون عمرك أكثر من أربعين سنة .
ـ أكثر من . . . ؟

ورأت بريقاً شريراً في عينيه , فضحكت وقالت : ((كنت لأطعنك
وأتخلص منك لو لم تكن تحمل صحن اللحم المشوي )) .
فرد وهو يناولها الصحن : (( هذا ما أحبه , امرأة تعرف أولوياتها ,
إذن , إن لم يكن أربعين , فكم عمرك ؟ )) .
ـ أنا في السادسة و العشرين .
ـ ومتى حصلت هذه القصة القديمة كلها ؟
ـ بدأت أرعى نفسي منذ كنت في الرابعة عشرة من عمري .
ـ في مثل هذه السن أليس من المفترض أن تكوني في المدرسة ؟
هزت كتفيها بلا مبالاة , وقالت : (( أفترض ذلك )) .
ـ ماذا حصل لوالديك ؟
ـ وبعد صمت استمر للحظات , ردت : (( تربيت في مأوى , في أكثر
من مأوى في الواقع )) .
ـ تعنين أنك يتيمة ؟
ـ نعم , لقد عشت في بيوت الرعاية .
ـ بيوت ؟ بالجمع ؟
ـ الأول كان جيداً , ففيه اكتشفت الجياد . بعدئذ , علمت أن أي
عمل أقوم به يجب أن يكون له علاقة بالجياد . لكن الرجل العجوز توفي
وبيعت الجياد فيما أُرسلت أنـا إلى مكان آخر . هناك , كان الطعام
فاسداً , وكنت أنا يداً عاملة رخيصة . لم يرسلوني إلى المدرسة لأنهم
كانوا بخلاء ولم يرغبوا في دفع أجرة عامل . تشاجرت معهم فطلبوا مني

توضيب أغراضي لأني عصبية ولا يمكن السيطرة علي . وهذا صحيح ,
فلم أكن لأدعهم يسيطرون علي .
سألها مبهوراً : (( ماذا حصل بعدئذ ؟ )) .
ـ ملجأ جديد , لا يختلف عن سواه . هربت وقُبض علي ثم أُعدت
إلى المؤسسة . وبعدئذ , أخذوني إلى ملجأ جديد حيث بقيت ثلاثة
أسابيع .
سألها عندما التزمت الصمت مجدداً : (( ثم ماذا حصل ؟ )) .
ـ هذه المرة حرصت على ألا يقبضوا علي . كنت في الرابعة عشرة
وأبدو في السادسة عشرة . لا أظن أنهم بحثوا عني طويلاً . أتعلم , هذا
اللحم المشوي لذيذ .
قبل تغييرها للموضوع من دون اعتراض , لِمَ قد ترغب في مناقشة
حياتها إذا كانت على هذا الحال ؟

نهاية( الفصل الثاني) . . .


Just Faith 28-09-17 04:32 PM

3 ـ
عصر الفرسان
بعد أن خف خوفها على أليوت , استرخت سيلينا أكثر , وبدا
وكأنها تتقبل الحياة كما هي . فسألها : (( هل أنت و أليوت معاً منذ فترة
طويلة ؟ )) .
ـ منذ خمس سنوات , كنت أعمل بشكل غير منتظم في الروديو ,
واشتريته بسعر زهيد كم رجل يدين لي بالمال . كان يدرك أن حياة
أليوت العملية انتهت , لكنني رأيت أنه ما زال بالإمكان الاستفادة منه
إذا ما تمت معاملته بشكل جيد . وأنا أعامله بشكل جيد .
ـ أظن أنه يقدر ذلك .

قال ليو هذا فيما وقفت سيلينا و توجهت نحو أليوت لتداعب أنفه ,
فاقترب منها الجواد برضا و سرور .
وقف ليو بدوره وسار نحوها , ماراً بالمرابط حيث راح يتأمل
الحيوانات التي بادلته النظر بنظرات هادئة , جميلة , بدت وكأنها تشع في
النور الخافت .
انضمت سيلينا إليه وسألته : (( أنت خبير في الجياد , أستطيع أن
أرى ذلك )) .
ـ أربي البعض منها في بلادي .
ـ أين ؟ .
ـ إيطاليا .
ـ إذن , أنت غريب فعلاً .

ـ نعم . معظم الناس لديهم أفكار مسبقة عن الإيطاليين , فلسنا
جميعاُ ممن يتحرشون بالنساء .
ـ لا , أنتم فقط تغمزون النساء على الطريق السريع .
ـ من يفعل هذا ؟
ـ أنت فعلت . عندما تجاوزتني سيارة السيد هانوورث , رأيتك
تنظر إلي ومن ثم غمزتني .
ـ لم أفعل هذا إلا لأنك غمزتني أولاً .
ـ إنها خدعة من الضوء , فأنا لا أغمز الرجال الأغراب .
ـ وأنا لا أغمز النساء الغريبات . . . إلا إذا غمزنني أولاً .
وفجأة , راحت تضحك كما أرادها أن تفعل , فأشرقت الشمس
من جديد . أمسك بيدها وقادها مجدداً إلى كومة القش حيث كانا
يجلسان . فقالت : (( أخبرني عن موطنك , أين تعيش في إيطاليا ؟ )) .
ـ توسكانا , شمال البلاد قرب الساحل . أملك مزرعة حيث أربي
بعض الجياد وأزرع الكرمة وأشارك في الروديو .
ـ روديو في إيطاليا ؟ لا بد أنك تسخر مني .

ـ أبداً ! ثمة مدينة صغيرة تُدعى غروسيتو , يقام
فيها سنوياً روديو
ومهرجان واستعراض يجوب المدينة كلها . وهناك مبنى مغطى بصور
(( رعاة البقر )) المحليين . حتى سن السادسة , كنت أظن أن رعاة البقر
إيطاليون , وعندما أخبرني قريبي ماركو أنهم أمريكيون نعته بالكاذب .
يومها تشاجرنا فتدخل الأهل للتفريق بيننا .
وتوقف عن الكلام إذ راحت سيلينا تقهقه ضاحكة . بعدئذ ,
أضاف : (( في النهاية , كان علي أن آتي إلى هنا لأرى بأم عيني )) .
ـ هل لديك أقارب غير قريبك ماركو ؟
ـ نعم , لدي أقارب عديدون . لكني لست متزوجاً , فأنا أعيش
وحدي إذا ما استثنينا جينا .
ـ هل هي صديقتك الحميمة ؟
ـ لا , جينا تجاوزت الخمسين من العمر , وهي تطبخ وتنظف
وتتنبأ لي بأنني لن أجد زوجة لأن الشابات لن يتحملن ذاك البناء الذي
يعصف فيه الهواء .
ـ هل تيارات الهواء مزعجة وقوية فعلاً ؟
ـ في الشتاء فقط ! فهي تتغلغل في الجدران الحجرية الضخمة .
ـ يبدو لمكان بدائياً .
... ـ أظنه كذلك . فقد بُني منذ ثمانمائة عام , وما أن أُنهي إصلاح جزء
منه حتى يظهر الخراب في مكان آخر . لكنه جميل في الصيف , إذ يبقى
بارداً . وعندما تخرجين في الصباح الباكر وتنظرين إلى الوادي , ترين
نوراً ناعماً لا ترينه في أي وقتٍ آخر . لكن عليك أن تتواجدي هنالك
في الوقت المناسب لأنه لا يدوم سوى دقائق معدودة . بعدئذ , يتغير
الضوء , فيصبح أقوى . و إذا أردت رؤية السحر مجدداً فعليك أن
تعودي في صباح اليم التالي .
توقف عن الكلام , وقد فوجئ لاستخدامه هذا العدد من
الكلمات , ولموجة الأحاسيس الشاعرية التي اجتاحتهما . وأدرك أنها
تنظر إليه باهتمام لطيف .
ـ هل لديك أخوة وأخوات ؟
ـ لدي أخ أصغر مني . . .

وعبس ليو ثم أضاف : (( علماً أن غويدو هو الأكبر بالنسبة
للمجتمع . في الواقع , أكاد أكون غير موجود من الناحية القانونية , إذ
تبين أن زواج والدي لم يكن قانونياً . لكن ما من أحد كان يعلم ذلك
حينها )) .
ـ وهل يهمك الأمر ؟
ـ أبداً .

فقالت برضا : (( وأنا أيضاَ . فهذا الأمر يتركك حراً نوعا ما .
يمكنك أن تذهب حيث تشاء , وأن تفعل ما تشاء , وأن تكون من
تشاء . هل هذا رأيك أيضاً ؟ )) .
وعندما لم تسمع منه أي رد , التفتت سيلينا فوجدته مستلقياً إلى
الخلف , وقد أغمض عينيه وبدا جسمه في حالة من الاسترخاء . يبدو
أنه لم يستطع أن يقاوم سلطان النوم أكثر .
مدت يدها لتوقظه , لكنها توقفت على بعد إنش منه وراحت
تتأمله . فأحداث هذا اليوم المربكة لم تترك لها فرصة لتتأمله . إنه المنقذ
الذي أجاد التعامل مع أليوت , والذي هدأت يداه وصوته الحيوان
الهائج . وإذا ما تقبله محبوبها أليوت , فعليها أن تتقبله هي أيضاً . لقد
أنقذها في الحمام من جروح خطرة . حينذاك لم تسمح لنفسها بأن تفكر
في الأمر أبعد من ذلك . لكن يمكنها أن تفكر فيه الآن . . في شعورها
حين ضمها إلى صدره . . تذكرت كيف أمسك بها بيديه الكبيرتين ,
حاملاً إياها إلى بر الأمان , وكيف أبعدهما عنها ما إن أصبحت سالمة .
لقد تصرف كسيد مهذب , حتى في تلك اللحظات .
كل ما فيه يعجبها , بدءا من جبينه العريض الذي تخفي نصفه الآن
خصلة شعر شاردة , مروراً بحاجبيه الكثيفين وصولاً إلى عينيه البنيتين
الداكنتين . أعجبها أنفه المستقيم وفمه . وتساءلت عن مدى جرأتها في
التعامل معه . في الحياة يمكنها أن تخاطر , وتجرؤ على تحمل أي سقطة ,
وامتطاء أي جواد لم تتآلف معه . لكن الرجال مختلفون , وفهمهم
أصعب من فهم الجياد . إنهم غريبو الأطوار وقد يسببون الأذى أكثر
مما تفعل أي سقطة .

ومع ذلك أرادت أن ترى ليو يبتسم مجدداً . . أرادت أن تتبع
حدسها حتى النهاية .
صهل أليوت بنعومة , لكن الصوت كان كافياً ليوقظ ليو . فتح
عينيه فيما وجهها لا يزال قريباً منه , ابتسم قائلاً : (( لقد مت ودخلت
الجنة , وأنت ملاك )) .
ـ لا أظن أنهم سيرسلوني إلى الجنة . إلا إذا تم تغيير القواعد
و القوانين .
ضحكا معاً , وتوجهت سيلينا نحو أليوت الذي صهل مجدداً .
قال ليو : (( إنه يشعر بالغيرة وحسب لأنك تعيرينني انتباهك )) .
ـ ما من داع للغيرة وهو يعلم ذلك , فهو عائلتي .
ـ أين تعيشين ؟
ـ إقامتي مسجلة في مكان ما حيث أدفع الضرائب , لكني لا أقيم
فيه . أنا أعيش مع أليوت , فهو بيتي وأهلي , وسيبقى كذلك إلى الأبد .
فأشار : (( لا يمكن أن يبقى كذلك (( إلى الأبد )) . لا أعلم كم يبلغ من
العمر , لكن . . . )) .
قالت سيلينا بسرعة : (( إنه ليس عجوزاً . وهو يبدو أكبر من سنه
لأنه تعرض للضرب , وهذا كل ما في الأمر )) .
فرد ليو بلطف : (( نعم , أنا واثق من ذلك . لكن , كم يبلغ من
العمر ؟ )) .

تنهدت : (( لا أعرف بالتحديد , لكن عهده لم ينته بعد )) .
وأشاحت بوجهها سريعاً لئلا يرى الألم الذي غمرها . لكنه رآه
وانفطر قلبه من أجلها , فهذا الحيوان الهزيل , كان كل ما لديها في
العالم . وفجأة , بدا وكأنها فقدت قوتها , فأمسك بها ليو بسرعة وقال :
(( هيا , ستخلدين إلى النوم . ولا تجادلي لأني لن أرضى بالرفض
كجواب )) .
وأبقى ذراعه حول خصرها تحسباً لقيامها بخطوة مشاكسة , لكنها
كانت أكثر إنهاكاً من أن تجادل , وتركته يقودها إلى المنزل ومن ثم إلى
غرفتها . وعندما وصلا إلى الباب , قال : (( عمت مساءً . أتمنى لك نوماً
هنيئاً )) .

كان الفجر على وشك أن يبزغ عندما غادر آخر المدعوين , ملوحاً
بيده وصارخاً : (( أراكم لاحقاً )) , عندئذ , توجهت الأسرة إلى النوم
بعيون غائمة وقلوب سعيدة .
جلس ليو في سريره وقد تملكه شعور غامض سار . هذه الليلة
شهدت الكثير من المسرات , وتخللها الكثير من المرح والضحك
والرقص , لا سيما بعد أن أوصل سيلينا إلى غرفتها وودعها ليعود إلى
الحفل . شعر أنه الآن في سلام مع العالم . لكن وقع الخطى التي توقفت
أمام باب سيلينا لم يفته . وساد الصمت , ثم تعالى صرير الباب وهو
يُفتح . وكان هذا كافياً ليجعل ليو يهب واقفاً , ويخرج إلى الممر في
الوقت المناسب , ليمسك ببولي وهو يهم بالدخول إلى غرفة سيلينا . قال
بصوت جعل بولي يجفل : (( أليس هذا لطيفاً ؟ كلانا منشغل البال على
سيلينا بحيث لم نتمكن من النوم قبل أن نطمئن عليها )) .
منحه بولي ابتسامة باردة ورد : (( لا يمكنني إهمال ضيف )) .
ـ بولي , أنت مثال يحتذى به .
ودخل ليو إلى الغرفة فيما هو يتكلم ثم أضاء النور . عندئذ , توقف
الرجلان وقد باغتتهما رؤية السرير فارغاً . وتمتم ليو : (( تلك المرأة
الحمقاء عادت إلى الإسطبلات )) .
ـ لا , لم أفعل .

تناهى إليه هذا الصوت من كومة على الأرض . فأضاء ليو المصباح
الموضوع بجانب السرير , ورأى كومة تتضمن غطاء ووسادة وامرأة
حمقاء تشعث شعرها الأحمر بفعل الصدمة , سألت وهي تجلس : (( ما
الأمر ؟ هل حصل شيء ما . )) .
ـ لا , أنا وبولي قلقان عليك , لذا جئنا لنطمئن إلى حالك .
فقالت وقد أدركت الحقيقة على الفور : (( هذا لطف بالغ منكما .
أنا بخير )) .
ـ إنها بخير يا بولي . يمكنك أن تخلد إلى النوم الآن وأن تنام
هانئاً .
وجلس ليو على الأرض قرب سيلينا كرجل يعود إلى جذوره .
ـ آ . . . حسناً , أنـا . . .
تكلما بصوت واحد : (( عمت مسا يا بولي )) .
اضطر بولي للاعتراف بالهزيمة , فتراجع نحو الباب ثم خرج . وآخـر
ما رأياه هو تقطيبته . قالت سيلينا : (( أنت تعلم أنه كان بإمكاني أن
أواجه الوضع )) .
ـ بعد ما مر بك اليوم , ألا يحق لك أن تكوني ضعيفة ولو قليلاً ؟
ـ لا يحق لأحد أن يكون ضعيفاً .
ـ آسف !
فقالت بندم جلي : (( لا , أنـا آسفة . لم أقصد أن أكون فظة . أعلم
أنك تحاول أن تكون لطيفاً معي , لكن عمليات الإنقاذ هذه بدأت
تتحول إلى عادة سيئة )) .
ـ أعدك بألا أعيد الكرة . في المرة القادمة , سأتركك لمصيرك ,
أقسم لك .
ثم قالت شاكية : (( حاولت أن أنام على السرير قد المستطاع , لكن
هذا جنون . فكما تقلبت طرت في الهواء ستة أقدام . النوم هنا
أفضل )) .
ـ من الأفضل أن أتركك فبل أن أغفو . اقفلي بابك بالمفتاح بعد
خروجي . أعتقد أن ابن داليا لن يتوانى عن المحاولة ثانية .
لكنه تذكر أن الباب من دون مفتاح , ولم تستطع إقفاله حين
حاولت القيام بذلك من قبل , فتنهد . لم يعد أمامه سوى حل
واحد .
ـ ماذا تفعل ؟

طرحت عليه هذا السؤال حين عاد إلى السرير والتقط غطاءً
ووسادة . فقال وهو يرتمي أرضاً , ساداً الباب : (( ماذا يبدو لك أني
أفعل ؟ إذا استطاع أن يفتح الباب الآن فهو رجل أقوى مما ظننت )) .
وتغلب عليه النعاس , أما آخر فكرة خطرت له فهي أنه سيعاني
الأمرين في الصباح من جراء تصرفه هذا . لكنها ستبقى آمنة على
الأقل .
استيقظ وهو يشعر أنه بحال أفضل بع سهرة البارحة الطويلة .
شعر بالنشاط يدب في المنزل حوله , ورأى أنه يستطيع أن يتركها
بأمان .من الأفضل أن يرحل قبل أن تستيقظ , فهو لا يعرف ما يمكن
أن يقوله لها . وراح يسخر في سره من تصرفاته التي شبهها هازئاً
(( بتصرفات عصر الفرسان )) .

دنا منها ببطء وهدوء متناسياً الفروسية , وراح يتأمل وجهها .
لقد استعاد وجهها بعض اللون منذ الليلة الماضية , واستطاع أن يرى
أنها نامت , كما يفعل هو دوماً , من دون حراك , كحيوان راضٍ .
كانت قد نزعت الضمادة , فظهر الجرح و الكدمة في جبينها . وبدا
لونها متناقضاً مع شحوبها . خطر له أن وجهها صغير وأنها تبدو
الآن غير حصينة كطفل صغير , بعد أن تخلت عن حذرها وحكمتها
لتستسلم للنوم .
ساورته رغبة جامحة في أن ينحني ويعانقها , لكنه سُر لأنه لم يفعل ,
إذ ما لبث أن فتحت عينيها . بدت عينيها رائعتين , واسعتين وعميقتين
عمق البحار , واختفى الطفل الذي كانته منذ قليل .
ـ سألها : (( كيف حالك اليوم ؟ )) .
ـ بألف خير . لم أمضٍ في حياتي ليلة مريحة كهذه .
ـ على الأرض ؟
ـ هذه السجادة سميكة , إنها ممتازة !
ـ تمنى لي الحظ لئلا يراني أحد وأنا أخرج من هنا .
ـ سأتحقق من الممر .

ونظرت إلى الممر ثم أعطته إشارة الانطلاق . وما هي إلا لحظات
حتى وصل إلى غرفته وإلى الأمان . صحيح أنه سمع الفتاتين تضحكان
مجدداً , لكنه كثير الارتياب على الأرجح .
استـحم وارتــدى ملابسه و هــو غـــارق في التــفكـيــر لأنـه أدرك أن
ضميره يؤنبه بعض الشيء . فبالرغم من أنه لم يخبر سيلينا أي كذبة , إلا
أنه ترك لديها انطباعاً بأنه فقير بقدرها تقريباً . لقد رأته في ثياب قديمة
وسمعته يتحدث عن العيش القاسي , واقتنعت بأنه ابن مهمل . لكنه
تغاضى عن إعلامها بأن عمه هو الكونت كالـﭭـاني الذي يملك قصراً في
البندقية , أن عائلته ثرية جداً . و مــا أشــار إليه على أنه مزرعته , هو في
الواقع ملكية رجل ثري . و إذا ما شارك في العمل المضني فهذا نابع م
رغبة لديه . لكنه م يوضح لها هذه الأمور لأنه كان مقتنعاً في أعماقه بأن
فكرتها عنه ستصبح سيئة . فهو يذكر كلامها بعد وقوع الحادث . لقد
قالت : (( أنتم كلكم متشابهون . تسرعون في سياراتكم اللماعة , وكأنكم
تملكون الطريق )) .
أمضى يومه مع بارتون , يجولان في ممتلكات هذا الأخير .
فبارتون يربي الماشية لجني المال , والخيول لأنه يحبها . وكان يسعى إلى
تحسين نسلها ويدربها من أجل الروديو . ولفت نظر ليو جواد كستنائي
اللون , وهو فرس ربعي , قصير , قوي العضلات , تمت تربيته للعدو
السريع على مسافة ربع ميل , إنه حيوان مثالي للسباق .
ـ إنه جميل , أليس كذلك ؟
قال بارتون هذا وهما يتأملانه ثم أضاف : (( أصله من هنا , اشترته
زوجة صديق لي , ثم عدت واشتريته منها بعد أن تخلت عن الروديو
لتنجب أطفالاً )) .

سأله ليو مفكراً : (( هل بإمكاننا أن نأخذه معنا ونضعه في
الإسطبل ؟ )) .
أومأ بارتون إيجاباً , وفي طريق العودة إلى المنزل , علق قائلاً :
(( يبدو أنك غرقت حتى أذنيك يا صديقي )) .
ـ هيا يا بارتون , أنت تعلم ما سيقوله خبراء التأمين , سيلقون
نظرة على أليوت وأخرى على الشاحنة , وعندما يتوقفون عن الضحك ,
سيعرضون عليها عشرة سنتات .
ـ وبِمَ يعنيك هذا ؟ فمـا حصل لم يكن غلطتك أنت .
ـ ستخسر المسكينة كل شيء .
ـ حسناً , لكن ما دخلك أنت ؟
صرف ليو بأسنانه : (( هلا عدنا إلى المنزل وحسب ؟ )) .
وابتسم بارتون ابتسامة عريضة .
وصلا إلى المنزل ليجدا الجو كئيباً . كانت سيلينا جالسة على حافة
شاحنتها تحدق في الأرض , فيما تسعى الفتاتان إلى مواساتها وتعزيتها .
و كان بولي يحوم حولها كما تحوم الدجاجة حول صغارها .
قالت كاري : (( قال البيطري إن أليوت لن يكون بصحة جيدة
للمشاركة في السباق الأسبوع المقبل . وإذا ما حولت أن تمتطيه فقد
يتعرض للإصابة )) .
فقالت سيلينا على الفور : (( بالطبع , لن أفعل . لكنني لن أحظى
بأي فرصة لأكسب أي شيء , ولا بد أني أدين لك بالكثير . . . )) .
ـ لا , لكن يمكنك أن تسدي لي معروفاً .

و أشار بارتون إلى الجــواد الربعي مضيـفـاً : (( اسمه جيبرز , ثمة شخص
يود شراءه , و إذا ما ربح سباقاً أو اثنين فيمكنني أن أرفع سعره , لذا ,
امتطيه واعرضيه و سيكون هذا أكثر من كافٍ لتفي دينك )) .
أخذت سيلينا نفساً عميقاً ومررت يدها بمحبة على الحيوان , قبل
أن تقول : (( إنه جميل )) .
ثم أضافت بسرعة : (( لكنه ليس بجمال أليوت بالطبع )) .
وأطلعها بارتون على قصة المالك السابق , فشعرت سيلينا
بالصدمة : (( تخلت عن المشاركة في الروديو لتبقى في مكانٍ واحد وتنجب
أطفالاً )) ؟
فأشار ليو مكشراً : (( ثمة نساء غريبات )) .
وأظهرت النظرة التي رمقته بها سيلينا رأيها بهذه الفكرة . ثم قالت :
(( هل بإمكاني أن أضع سرجي عليه )) ؟
ـ فكرة جيدة .

خرجت الأسرة كلها لتراقب سيلينا وهو تختبر جيبرز في حلبة
بارتون التجريبية , وضعت البراميل الثلاثة على شكل مثلث . وانطلقت
سيلينا وجيبرز بسرعة من خط الانطلاق وتوجها إلى المثلث ثم دارا
بسرعة حول البرميل الأول ليعودا على المثلث , ومن ثم دارا مجدداً حول
البرميل الثاني واستدارا نحو اليسار متوجهين نحو البرميل الأخير . كل
استدارة هي عبارة عن زاوية من خمس وأربعين درجة , تضع توازن
الجواد رشاقته فضلاً عن سرعته تحت الاختبار . كان جيبرز سريعاً ,
لكنه ثابت كالصخرة , أما سيلينا , فسيطرت عليه بيدين خفيفتين إنما
قويتين . حتى ليو , وهو ليس خبيراً في هذا النوع من السباق , رأى
أنهما متناسبان ومتجانسان .
بعد الاستدارة الأخيرة , توجها مجدداً إلى وسط المثلث ومن ثم إلى
الخارج , فيما تعالى تصفيق العائلة و صراخها .
صرخ بارتون : (( ثماني عشرة ثانية )) .
كانت عينا سيلينا تلمعان : (( بدأنا على مهل . انتظر حتى نعتاد على
بعضنا البعض . سنسجل أربع عشرة ثانية في غمضة عين )) .

وأطلقت صرخة ابتهاج وصلت إلى السماء , فانضم الكل إليها .
وخطر لليو , وهو يتأمل وجهها , أنه لم يرَ قط في حياته شخصاً
بمثل هذه السعادة .

* * *
نهاية( الفصل الثالث) . . .

Just Faith 28-09-17 04:33 PM

يجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفي

Just Faith 28-09-17 04:34 PM



5 ـ
معجزة أم مليونير ؟
لم يكن ليو ينوي حضور الروديو في ستيغنفيل وحسب , بل
المشاركة فيه أيضاً . ومع أسماه بارتون (( جرأة دون إدراك )) كان
مصمماً على ركوب ثور .
راح يجادل بارتون : (( ثور واحد وحسب , ماذا يمكن أن يحصل ؟ ))
ـ قد تدق عنقك , ألا يكفي هذا ؟
كانا يتناولان الفطور مع العائلة , وربما أنهما جلسا على طرفي
المائدة , راح الآخرون ينقلون نظرهم من أحدهما إلى الآخر كمن
يشاهد مباراة في التنس . حتى إن جاك , الذي اعتاد أن يدرس حتى
وهم يتناولون الطعام , رفع رأسه عن كتابه ليتأملهما ويتابع جدالهما .
أصر ليو قائلاً : (( أنا أدرك ما أفعله يا بارتون )) .
رد بارتون : (( أشك في أنك تدرك ما تفعله )) .
ـ احتاج البعض التمرين فقط .
ـ وهل هذا ما كنت تفعله في إيطاليا ؟ أولاً , لديهم ثيران تطرح
راكبيها أرضاً .

ـ احتاج لبعض التمرين على الآلة التي تملكها فقط .
ـ ليصبح الذنب ذنبي ؟ مستحيل !
تنهد ليو : (( حسناً . علي أن أشارك من دون أي تمرين . وعندما
أدق عنقي , يصبح الذنب ذنبك فعلاً )) .
فصاح بارتون : (( هذه ضربة تحت الحزام )) .
وإذا بكاري تتدخل متوسلة : (( دعه يحاول يا أبي )) .
ـ أتريدينه أن يتأذى ؟ ظننت أنك مولعة به .
فهمست الفتاة وقد تملكها الإحراج : (( أبي ! )) .
كانت سيلينا مستمتعة بما يجري حتى تلك اللحظة . لكنها أشفقت
على الفتاة التي أُعلن حب مراهقتها على الملأ , وتضاعف بؤسها بازدياد
احمرار وجهها , كانت واثقة من أن ليو سيدعي أن شيئاً لم يحصل .
لكنه فاجأها حين فعل العكس , إذ أعلن مشيراً إلى كاري : (( أترى ,
لدي شخص يساندني . أتعتقدين أني أستطيع القيام بذلك يا كاري ؟ )) .
فقالت بتحد : (( نعم )) .
ـ ولا تعتقدين أني سأدق عنقي , أليس كذلك ؟
ـ أظن أنك ستبرع .
ـ أسمعت يا بارتون ؟ استمع إلى صديقتي هناك , فهي تعرف ما
تقوله .

اضطرت سيلينا للاعتراف بأنه أجاد التصرف, إذا اختفى احمرار
كاري وعادت البسمة للظهور على وجهها . في غضون ثوانٍ قليلة ,
حول ليو ولعها به إلى صداقة قدرها علناً . كان تصرفاً ذكياً ولطيفاً منه .
غمرها الدفء والسعادة . ولم تفهم لما أثار لطف ليو حيال شخص
آخر هذا الشعور لديها . لكن الأمر كان أشبه بتلقي هدية شخصية .
وكلما كان ألطف من أي رجل آخر , كلما شعرت بسعادة أكبر .
تذمر بارتون إلا أنه استسلم أخيراً . وبعد الفطور , توجهوا إلى
حيث الثور الآلي , وهي آلة كهربائية , صُممت ليتم امتطاؤها , تهتاج
وتتمايل ليتمرن راكبها على التمسك بمطيته . كانت الآلة ذات سرعات
متعددة , تبدأ بسرعة خفيفة للمبتدئين , و أصر بارتون على وضعها على
السرعة الأخف رغماً عن ليو .

وقفت سيلينا مع بقية أفراد الأسرة تتفرج بشغف على ليو الذي

تمكن من اجتياز الاختبار الأول . وبعد أن تلقى التشجيع , قرر وزيادة
السرعة وتمكن من البقاء على ظهر الآلة .
الصرخة التي صدرت عن بيلي جعلتهم يديرون رؤوسهم في الوقت
المناسب ليروا ليو وهو يطير في الجو , ليحط على الأرض حيث بقي
ممدداً من دون حراك . دفنت كاري وجهها بين يديها : (( لا أستطيع أن
أنظر . هل هو بخير ؟ )) .
أما سيلينا فقد ساورها شعور بأن المن توقف فيما كانت تركض
إلى حيث وقع ليو . وعندما وصلت إليه , صدرت عنه شهقة قوية .
أصدر هذا الصوت المفزع مرة بعد أخرى , وشعرت بأن xxxxب
الساعة عادت تدور مجدداً حين لاحظت تقطع أنفاسه .
عندما مرت الأزمة , بدا منهكاً فاستند إليها و هو يتنهد . ثم رفع
نظره نحو الآخرين الذي التفوا حوله وابتسم لهم ابتسامته العريضة التي
لا تقاوم . وقال : (( قلت لكم إني قادر على ذلك )) .

اعتباراً من تلك اللحظة بدأ العد العكسي للروديو . وراحت
المدينة تمتلئ بالزائرين فيما تردد إلى مزرعة بارتون عدد كبير من المشترين
الذين كانوا يتفحصون جياده الممتازة ثم يفتحون محافظهم . وبدت داليا
في محيطها الطبيعي , فكانت تقيم الحفلات وتشرف على مخزون ملابس
رعاة البقر وعلى سجل الأشياء التي تحتاجها للكشك الـذي ستقيمه .
كان ليو وسيلينا يتمرنان معاً في بعض الأحيان , وهو مصمم على
امتطاء ذاك الثور حتى لو كان هذا آخر شيء قد يفعله في حياته .
تمرنت سيلينا بقوة , وخاضت سباقات حول البرميل على صهوة
جيبرز بغية الحفاظ على الوقت الذي سجلته وهو أربع عشرة ثانية أو
حتى خفضه . وفي إحدى المرات حاولت أن تلتف من زاوية ضيقة
جداً , فانتهى بها الأمر مرمية عللا الأرض .
ركض ليو نحوها وكان يشاهدها من خلف السياج , لكنها نهضت
على الفور وقفزت على السرج مجدداً , لتعاود المحاولة بحذر أكبر هذه
المرة , فتراجع ليو وانسحب .

قال لها عندما ترجلت : (( ظننت أنك تأذيت )) .
فسألته جذلة : (( أنا ؟ بسبب هذه السقطة الصغيرة ؟ مررت بما هو
أسوأ , ولعل ما ينتظرني في المستقبل أسوأ , المسألة ليست هامة )) .
تنهد : (( ألا يمكنك أن تكوني ضعيفة وحساسة أحياناً , كباقـي
النساء ؟ )) .
صاحت ضاحكة : (( ليو , على أي كوكب تعيش ؟ فالنساء لم يعدن
ضعيفات و حساسات في هذه الأيام )) .
وضربته على كتفه فرنت على كل عظمة في جسمه المرضوض . وتساءل
عما يمكن أن يفعله مع امرأة كهذه , فهو لا يستطيع أن يواسيها
بالكلام , لأنها ستظنه مجنوناً وقد تدوس على قدمه لتعيده إلى صوابه .
كل ما يمكنه القيام به هو الانتظار والتمسك بالأمل , وهو على ثقة بأن
الجوهر العذب واللطيف سيظهر يوماً ما تحت جلدها الشائك , وبأن ما
هو مقدر سيحصل في الوقت المناسب عندما تصبح مستعدة , أو . .
ربما لن يحصل أبداً .
ذاك المساء , كان بارتون في مكتبه ينتظر عودتها . وعند إشارته ,
استوقف ليو سيلينا قائلاً : (( عودي معي إلى الخارج . أريد أن أريك
شيئاً )) .
ورأت في الباحة منزلاً صغيراً متنقلاً , ومع أنه لم يكن فخماً , لكنه
بدا كالقصر مقارنة مع ما كانت سيلينا تقوده في الأصل . كما رأت
خلفه مقطورة عادية إنما مصممة بشكل جيد .
قال بارتون : (( إنهما لك , بدلاً مما فقدته )) .
أخذت نفساً عميقاً : (( هل أتى مسؤولو شركة التأمين ؟ )) .
رد بارتون بشيء من الارتباك : (( في الواقع , لا أريد اللجوء إلى
شركة التأمين من أجل هذا الأمر . لم أتقدم بأي مطالبة منذ
سنوات . . . في الواقع , من الأوفر أن أستبدل ما حطمت )) .

قالت سيلينا : (( لكنني . . . لا أفهم , فالضرر الذي للحق
بسيارتك . . . لا يمكن أن يكون أرخص من . . . )) .
قاطعها بارتون : (( اتركي هذا الأمر لي , إنه أرخص الآن . . .
هكذا تحل المسألة )) .
ـ لكن بارتون . . .
فقال براتون يائساً : (( النساء لا يفهمن هذه الأمور )) .
ـ أنا افهم .
ـ لا , أنت لا تفهمين شيئاً . لقد فكرت في الأمر ملياً و . . . , لا
أريد أي جدال . ستأخذين جيبرز والعربتين فنصبح متعادلين .
سألته سيلينا وقد شعرت بدوار : (( أتعطيني كل هذا ؟ لكنني لا
أستطيع أن أقبل . فشاحنتي ومقطورتي بالكاد كانتا جيدتين . . . )) .
فقال بارتون : (( لكنهما كنتا تنقلانك من مكان إلى آخر . حسناً ,
هذه الشاحنة ستقلك من مكان إلى آخر أيضاً )) .

ختم بارتون كلامه بهذه الجملة وقد بدت في عينيه نظرة ضياع , إذ
بدأ يفقد الإلهام ويفتقر إلى حجج مقنعة .
ـ لكن جيبرز . . .
ـ إنه يحبك ويتجاوب جيداً معك . والمقطورة تتسع لحصانين , لذا
عندما يتعافى أليوت , يمكنك أن تأخذي الإثنين .
فقالت سيلينا بحزم : (( لن يطول الأمر الآن )) .
ـ طبعاً , لن يطول . لكن جيبرز سيساعدك حتى ذاك الحين .
راقبهما ليو بصمت . ثمة أمر يعرفه الجميع , إلا أنها غير مستعدة
للاعتراف به , وهو أن أيام أليوت في الروديو ولت . ترك سيلينا تتأمل
منزلها الجديد , ولحق ببارتون الذي كان في منتصف الطريق إلى البيت .
دمدم قائلاً : (( ظننت أنك ستفسد المسألة كلها )) .
ـ لم يكن الذنب ذنبي . من الطبيعي أن تشك بالأمر . لذا ,
اضطررت لأن أرتجل .

فقال ليو ساخراً : (( النساء لا يفهمن هذه الأمور . ما من رجل
يجرؤ على قول مثل هذا الكلام في هذه الأيام , لا سيما إذا أراد أن يبقى
حياً )) .
التفت بارتون إليه : (( حسناً , أظن أن أداءك سيكون أفضل .
حاول أن تخبرها الحقيقة . أخبرها أنك من يدفع التكاليف لنرى
رد فعلها )) .
فقال ليو باهتياج شديد : (( اصمت ! يجب ألا تعرف , هل ستبقى
هنا طوال الليل أم ستنضم إلي في المنزل ؟
ـ سأرافقك إلى المنزل .
أستيقظ الجميع باكراً في أول أيام الرودو . وحملت داليا وابنتاها
كومات من البضائع الجديدة في الشاحنة , فيما راح بارتون يراجع
لائحة أعدها باسماء الأشخاص الذين ينوي عقد صفقات معهم في جو
مرح . وتم تنظيف جيبرز والاعتناء به حتى بدا وبره لامعاً , ثم عن سيلينا ,
فوجدها كما توقع تماماً , في مربط أليوت , تداعب أنف الجواد وتهمس
له بحنان : (( الأمر ليس نهائياً , عليك أن تفهم ذلك , جيبرز جواد جيد ,
لكنه ليس أنت . لن تكون علاقتي به كما كانت العلاقة بيننا , سنصبح
سوياً من جديد . هذا وعد )) .

أراحت خدها على انفه , وقالت : (( أحبك أيها الحيوان العجوز
أكثر من أي شخص آخر في العالم , أسمعت ؟ )) .
حاول ليو أن ينسحب بهدوء , لكنه لم يفلح في ذلك . ورفعت
سيلينا نظرها إليه , فقال بلطف : (( أعتقد أنه يعرف كل ما تفكرين فيه ))
استدارت نحوه وفي عينيها نظرة حادة ثم سألته : (( ليو , أتظن أني
سأربح ؟ )) .
ـ حسناً , إن لم تكسبي فيمكنني . .
وتوقف عن الكلام بعد أن وضعت إصبعها على فمه .
ـ لا تكمل . فأنا لا أقبل الصدقة , ولن آخذ أي مال منك .

بقي صامتاً فالوقت غير مناسب ليعلمها كم أعطاها حتى
الساعة . وتابعت تقول : (( على أي حال , لِمَ تخاطر بمالك من أجلي ؟ لو
أني عجزت عن تسديد المبلغ , فماذا ستفعل ؟ )) .
ـ سيلينا , أنا لست في حالة مادية سيئة بقدرك . وما العيب في أن
يساعدك صديق ؟ ما من قانون ينص على أن تبقي مستقلة دوماً .
ـ بلى , إنه قانوني . وأنا أعيش بمقتضاه و لا يمكن أن أتغير . سأنجز
أموري بنفسي وأكسب مالي بنفسي .
ـ سيلينا , قبول المساعدة ليس ضعفاً .
ـ لا , لكن الاعتماد على المساعدة ضعف . تصبح ضعيفاً عندما
تعتقد أن شخصاً ما سيبقى دوماً إلى جانبك , ليساندك , إذ عاجلاً أم
آجلاً سيرحل ويتركك
عبس وقال : (( إن كنت تؤمنين حقاً بما تقولينه , فليساعدك
الرب )).
ـ لِمَ نتجادل ونتشاجر يا ليو ؟ إنه يوم رائع . سنمضي وقتاً رائعاً
و سوف أفوز . لا يمكنني أن أخسر .
نظر إليها وقد أمال رأسه جانباً : (( لِمَ لا يمكنك أن تخسري ؟ )) .
ـ لآني حصلت على معجزتي . أتذكر حين التقينا على الطريق
السريع ؟

ـ ما كنت لاختار كلمة (( التقينا )) إنما تابعي حديثك .
ـ قبل ذاك , كنت مع بن وهو صديق قديم يصلح لي شاحنتي . قال
لي إني أحتاج معجزة أو مليونيراً , لكني قلت له أن ينسى أصحاب
الملايين , فما من جدوى منهم .
فسألها ليو الذي شعر بابتسامته تشرق في داخله : (( إذن , اخترت
المعجزة ؟ )) .
ـ هذا صحيح . قلت له إني أشعر بأن معجزتي في طريقها إلي .
وابتسم أكثر : (( وهل كانت فعلاً في طريقها إليك ؟ )) .
ـ أنت تعلم الرد . كان بارتون على الطريق السريع وقد قُدر لنا أن
نلتقي .
وذوت الابتسامة : (( بارتون ؟ )) .
ـ حسناً , أليست معجزة ؟ إنه رجل صالح , صاحب ضمير , لم
يتملص من واجباته والتزاماته , كما كان ليفعل الكثيرون .
فقال ليو بصوت أجوف : (( هذا صحيح )) .
ـ إذن , فقد حصلت المعجزة . والآن سوف أربح .
ـ وأنا أيضاً . اسمعي , كفي عن الضحك .
لكن سيلينا استمرت في الضحك , فأضاف : (( أنت بذلك تجرحين
مشاعري . لقد ظننت أننا أصدقاء )) .
وعلى الفور , تمالكت نفسها ووضعت يديها حول وجهه , والندم
بادٍ عليها .
ـ ليو , أنا آسفة . لم أقصد أن أجرحك بعد أن كنت طيباً معي ,
كنت أمازحك وحسب . . .
ـ أعلم ذلك .

ـ هل أنت واثق ؟ فأنا مؤذية أحياناً . لا أتعمد القيام بذلك , لكن
هذا لا يمنعني من الأذى .
أومأ ليو برأسه متفهماً , فهو يدرك تماماً ما معنى أن يقوم المرء بأمر
لم يكن ينوي قبل عشر ثوان القيام به . وناشدته سيلينا قائلة : (( قل إني لم
أجرحك فعلاً فأنت أفضل صديق لي . وإن غضبت مني فلن أكون
سعيدة ومرتاحة )) .
ترك ليو يديه تلتفان حول خصرها . لم تكن مشاعره مجروحة , لكنه
تمكن من النظر إليها بتعاسة , بعد أن أسكت ضميره , لا يمكن لومه
لأنه يحاول أن يستفيد من الموقف إلى أقصى حد , أليس كذلك ؟
قال بشجاعة : (( أنا لست غاضباً )) .

فسألته وقد تمكنت من قراءة أفكاره بسهولة : (( ولست مجروحاً
أيضاً , أليس كذلك ؟ )) .
لكنها لم تُبعد يديها بل أنزلتهما لتضعهما خلف عنقه , كما لم تقاوم
حين شدها لتدنو منه أكثر . ثم قال : (( جرحتني في الصميم )) .
لم تجب بل وقفت جامدة تتأمل وجهه , فيما الإثارة تتراقص على
وجهها وشفتيها المبتسمتين وفي عينيها .
قال بصوت غير ثابت : (( سيلينا , قربك مني يجعلني أشعر بالتوتر )) .
ـ أتظن أن علي أن أفعل شيئاً بهذا الخصوص ؟
ـ نعم . هذا ما أظنه .
أمالت رأسها بطريقة جعلت قلبه يتخبط بين ضلوعه . ثم قالت
وهي تدنو منه : (( حسناً , تعبت وأنا أنتظر منك القيام بالخطوة
الأولى )) .
كان عناقهما كما تخيله بالضبط , لذيذاً و مغوياً إنما يخفي خلفه
الكثير من التحدي والإثارة . لم تكن فتاة ساذجة , بل امرأة صاحبة
تصميم .
راح رأس سيلينا يدور , لم تتقصد القيام بذلك , لكنها كانت
تحتاج لمعرفة شيء ما , فاقت لهفتها قدرتها على التحمل , فمعانقته
اكتشاف وتحد في الوقت عينيه . وأدركت على الفور أنه كان عليها أن
تنتظر , فما من امرأة ينتظرها يوم حافل , يمكن أن تتحمل هذا النوع
من الإلهاء . وما عليها أن تلوم سوى نفسها لأنها لطالما علمت أن هذا
الرجل يستحوذ على انتباه المرأة كله . ما كان عليها أن تستعجل
الأمور .

بدا أن شعوره يماثل شعورها , إذ لف يديه حولها بلطف لم يخفِ
قوتهما . أرادت أن تكتشف هذه القوة , فوجدتها في عناقه , هذا العناق
الذي سعى من خلاله إلى اكتشاف جوهرها الحقيقي .
خطر لها وهي مشوشة الذهن بأن عليها أن تتوقف , فالتوقيت غير
مناسب أبداً .
ـ ليو . . .
ـ نعم . . .
وتعالى صوت بارتون من الخارج : (( هل من أحدٍ هنا ؟ نحن
جاهزون للانطلاق )) .
أطلقها ليو متذمراً : (( مع أني أحب بارتون , لكن . . . )) .
عادت سيلينا إلى أرض الواقع وأدركت أنها تخلت تقريباً عن كل
شيء من أجل هذا الرجل . واستجمعت شتات نفسها بعد جهد جهيد
وقالت على عجل : (( لا , إنه محق . علينا أن نتوقف )) .
ـ هل علينا ذلك ؟
ـ سيتاح لنا الوقت لاحقاً . أما حالياً , فعلينا أن نحضر أنفسنا لهذا
اليوم . أرجع كتفيك إلى الخلف وارفع رأسك . ثق بنفسك وبقدرتك .
ـ أجد أن من الأسهل أن أؤمن بك , فسوف تفوزين . لقد
سجلت أربع عشرة ثانية على صهوة جيبرز , وما كنت أظنك قادرة على
ذلك .
رقصت لفرط إثارتها : (( كنت أعلم أن بإمكانه القيام بذلك , فهو
جواد رائع , سريع وقوي للغاية . . . )) .

ـ حذار ! فأنت تتكلمين أمام أليوت ! وقد يُصاب بعقدة نفسية .
ـ آه . . . منك !
وضربته , فأحاط كتفيها بذراعه وخرجا معاً وهما يضحكان .

* * *

نهاية الفصل( الخامس) . . .

Just Faith 28-09-17 04:34 PM


6 ـ
وداع أم لقاء . . .

الوصول إلى موقع الروديو أشبه بالدخول إلى قرية . ينقسم الموقع
إلى حلبة حيث تجري المباريات , ومكان مخصص لتسليم الجياد
وتجهيزها , ومركز للتسوق حيث تعرض داليا والعشرات غيرها نختلف
أنواع البضائع .
سعى ليو إلى امتطاء الثور في اليوم الأول , (( لتنتهي الكارثة
سريعاً )) , بحسب تعليق سيلينا . وكما توقع , وجد فرقاً شاسعاً بين الثور
الذي تمرن على امتطائه و الثور الضخم الهائج الذي قابله الآن . ما من
شيء في الأيام القليلة الماضية , بما في ذلك تمارينه على الآلة , حضرة لما
يواجه . بدا وكأن الثور قرر شخصياً أن يسحق عظامه كعقاب له على
محاولته الغبية هذه .
عليه أن يحاول تحمل هذا مدة ثماني ثوانٍ , كما خطر له فيما كان
دماغه يرتطم يميناً و يساراً بجمجمته .

لكنه ثور ضخم . وتمكن من رميه خلال ثلاث ثوانٍ , حط ليو على
الأرض بقسوة لكنه نجا , فقد أصبح يجيد الوقوع أرضاً , بعد كل
التمارين التي مر بها .
وفيما كان يخرج من الحلبة , سمع تصفيق الحشود , تعبيراً عن
تقديرهم وإعجابهم بجسارته لأنه حاول الصمود على ظهر ذاك الثور .
ورأى آل هانوورث يصفقون له بحرارة الأصدقاء , باستثناء بولي الذي
بدت السخرية على وجهه بشكل فاضح .

أما سيلينا فلم تكن تسخر منه , كانت عيناها تلمعان من المتعة لأنه
نجح في محاولته , وحملت ابتسامتها وعداً وتذكيراً . ابتسم ها ليو ابتسامة
عريضة , ابتسامة سعادة ورضا . وليذهب بولي إلى الجحيم !
خلف ابتسامتها , كانت سيلينا تلوى . فعندما طار ليو من فوق
رأس الثور غرزت أظافرها في راحة يدها ترقباً حتى استقام مجدداً . لم
يدق عنقه . . . إنه حي . . . يمكن للأرض أن تدور من جديد . وبخت
نفسها لأنها بالغت في رد فعلها وقلقت حيث لا ينبغي ذلك , فكم من
رجل رأته يُرمى عن ظهر الثور ؟ لكن أياً منهم لم يكن ليو .
انسحبت لتتحضر بدورها , كان جيبرز ينتظرها بهدوء . لقد سجلا
معاً نتائج طيبة في حلبة التمرين , لكن الأمر مختلف الآن , إنها ليلة
الافتتاح . أحكمت وضع قبعتها الطويلة على رأسها , ففقدانها قد
يجعلها تخسر نقاطاً قيمة .
سبقها إلى الحلبة خمسة متبارين , وسجلوا كلهم نتائج طيبة . قالت
لجيبرز : (( حسناً , المهم ألا تدعهم يخيفونك . أنت لا بل نحن جيدان
بقدرهم . هيا يا فتى ! لنثبت لهم ذلك )) .
وما إن قُرع الجرس حتى طارت فوق خط البداية متوجهة نحو أول
برميل داخل المثلث ثم انعطفت بشكل حاد لكنها تركت لجيبرز مكاناً
كافياً ليتحرك , دار حول البرميل ثم حول البرميل الثاني وتوجها نحو
الأخير ومنه إلى خط النهاية وشعرت بالبهجة حين أظهرت الساعة أنها
في الطليعة .

كان ليو بانتظارها خارج الحلبة فوقفا معاً يشاهدان المتسابق
التالي . قال لها بصدق : (( لا مجال لمقارنتها بك , لا أحد من المتبارين
يضاهيك )) .
المتباريتان التاليتان كانتا بطيئتين . وبقيت سيلينا في الطليعة .
وأخيراً تعالى الهتاف مع دخول المتبارية الأخيرة إلى الحلبة .
ـ لا أستطيع أن أنتظر .
قالت سيلينا هذا وهي تدفن وجهها في صدر ليو , فما كان منه إلا
أن طوقها بذراعيه , فيما سألته : (( ماذا يحصل ؟ )) .
ـ البرميل الأول , إنها سريعة لكنك لا تزالين متقدمة , البرميل
الثاني . . . والآن الثالث . . .
أصبح هتاف الجمهور الآن يصم الآذان . وتنهد ليو وهو يشد
ذراعيه حولها , ويريح رأسه على رأسها .
صرخت : (( آه , لا ! لا , لا , لا! )) .
قال ليو : (( بعُشر الثانية , أنا آسف حبيبتي )) .
قال الكلمة الأخيرة بالإيطالية , فرفعت رأسها وسألته : (( ماذا
دعوتني ؟ )) .
ـ كانت كلمة إيطالية .
ـ أعلم , لكن ماذا تعني ؟
ـ حسناً . . .
لكن , وفيما راح يتساءل عما إذا كان عليه أن يخاطر ويخبرها
بمعنى الكلمة , سمعا صوت بارتون العالي والعميق يهنئها ويواسيها في
الوقت عينه . ومرت تلك اللحظة , وبقي ليو يفكر في أن تردده أضاع
عليه الفرصة , وإن لم تضع فقد تأجلت إلى وقت لاحق .
عاد الجميع مسرورين إلى البيت تلك الليلة , فقد حققت داليا
أرباحاً جيدة , وفازت سيلينا ببعض الجوائز النقدية لحلولها في المرتبة
الثانية , كما بقي ليو على ظهر الثور مدة ثلاث ثوانٍ , كل هذه الأسباب
دفعتهم للاحتفال حتى وقت متأخر من الليل .

وبالرغم من هزيمتها , شعرت سيلينا بالسعادة , فالمبلغ المخصص
للمرتبة الثانية أفضل مما تجنيه عادة , وجدها ليو جالسة على الشرفة
تتأمل المال بسعادة لا متناهية .
ـ أنا غنية , غنية !
سألها ساخراً : (( تعتبرين نفسك غنية لأنك كسبت مئة دولار )) .
ـ إنها فدية ملك حسناً , ربما ملك صغير جداً . ومن يرغب في
دفع فدية ملك , على أي حال ؟ فليذهب الملوك إلى الجحيم !
كان النجاح قد أثمها , فراحت تضحك وهي تتكلم , مهاجمة
مجتمع النخبة بجسارة ومرح . وعلق ليو : (( هذا كثير على الأسرة المالكة .
يبدو أنك لا تؤمنين بهم )) .

وسألته : (( لديكم منهم في إيطاليا , أليس كذلك ؟ )) .
ـ ماذا ؟
ـ الأرستقراطيون .
فاجأته كلمة أرستقراطيون , فقال بحذر : (( إيطاليا جمهورية . . . إنما
لا يزال لدينـا بعضاً منهم )) .
ـ هل التقيتهم يوماً , أعني هل تحدثت إليهم وجهاً لوجه ؟
ـ ليسو نوعاً من أنواع الزواحف يا سيلينا .
ـ هذا ما هم عليه . يجب أن يوضعوا في قفص في حديقة
الحيوانات .
ـ لكنك لا تعرفين شيئاً عنهم .
ـ حسناً , وهل تعرف أنت ؟
ـ أعرف أنهم ليسوا جميعاً سيئين .
ـ لِمَ تدافع عنهم ؟ ينبغي أن تكون إلى جانبي . . . فليسقط
الأرستقراطيون , وليحيا العمال .
ـ أتودين إرسالهم جميعاً إلى المقصلة ؟
هزت رأسها : (( لا , سأجعلهم يوسخون أيديهم في الحقول , مع
العمال , مثلنا )) .
فقال : (( أنت لا تعرفين أني عامل , من يعلم ماذا أفعل عندمـا أعود
إلى إيطاليا ؟ )) .

تركت ما كانت تفعله وأخذت إحدى يديه بين راحتيها . بدت يده
كبيرة وخشنة . فقالت : (( طبعاً أنا أعرف , فهذه يد عامل , لقد تعرضت
للأذى مرات عدة , فيدك تحمل ندوباً )) .
وكان هذا صحيحاً , لكن الحقول كانت حقوله و هي تدر عليه
ثروة أكبر من ثروة بارتون . خدعته الصغيرة باتت تثقل كاهله , وفجأة
لم يعد قادراً على التحمل
ـ سيلينا . . .
بدا وكأنها لم تسمعه , كانت تقلب يده , حاملة إياها بنعومة
ولطف . ثم رفعت عينيها إليه فصدمته نظرتها البريئة , كان في عينيها
بريق خطف أنفاسه وبهره فأشاح بنظره عنه . سألته بهدوء بعد أن تركت
يده : (( ما الأمر ؟ )) .
ـ لا شيء , أنـا . . .
وابتسم لها ابتسامة عريضة , مصطنعة ثم أضاف على عجل :
(( جسدي كله يؤلمني . سـأزور مجبر العظام غداً . والآن , حان وقت
دخولنا نحن الاثنين إلى المنزل , كان يومك شاقاً وطويلاً )) .
فهمست بكآبة : (( نعم , كان يومي شاقاً للغاية )) .

في الليلة الأخيرة للروديو , تقرر أن يقيم بارتون إحدى حفلات
الشواء التي اعتاد إقامتها . فما من ضيافة تضاهي تلك التي تتميز بها
مزرعة فورتين . تبعتهم مجموعة كبيرة من السيارات والشاحنات وهم
في طريقهم إلى المنزل .
ساور ليو شعور بعدم الرضا , إذ تذكر أنه سيغادر في اليوم التالي ,
لكنه لم يكن مستعداً لذلك . شيء ما بدأ هنا لكنه لم ينتهِ , ولم يكن
باستطاعته تسريع الأحداث لأنه لا يعرف طبيعة مشاعره بما يكفي .
لقد انطبعت سيلينا في قلبه كما لم تفعل أي امرأة من قبل , إنما ثمة
هوة سحيقة بينهما , تباين في أسلوب الحياة والبلاد واللغة . كما أنهما
لا يؤمنان بالمستقبل نفسه , وحده حب كبير يمكنه أن يتغلب على مثل
هذه المشاكل و يتجاوزها . وكيف ه أن يأمل أن امرأة لا تؤمن بالحب
سوف تحبه حباً كهذا ؟

فكرة الوداع آلمته للغاية , وأمل أن تكره ذلك بقدره , لكن كان من
المستحيل معرفة ذلك . و لعل هذا هو الجواب الذي يحتاجه . لم يريا
بعضهما كثيراً منذ ليلة الروديو , وكان شوقه إليها يعذبه كما يغمره
شعور بأنه يسير على حبل رفيع .
في اليوم التالي , ارتدى ثيابه على عجل واستعد للأمسية . وتعالت
من الطابق السفلي أصوات الموسيقى و الضحكات , فوقف يتأمل المشهد
السار . تصاعدت رائحة لذيذة من الشواء , فيما راحت الأضواء تلمع
بين الأشجار , وبدا وكأن الموسيقى تستدعيه بإغراء . لقد سبقته سيلينا
إلى الحفل . استطاع أن يراها وسط مجموعة صغيرة من الناس . لا بد
أن أداءها الحيوي لفت الأنظار . سيصبح مستقبلها أفضل الآن ,
وستأتي المساعدة التي قدمها بثمار جيدة , حتى وإن لم تعلم هي بذلك ,
حتى لو نسيته كلياً ولم يخطر في بالها مجدداً لبقية حياتها , وعند هذه
الفكر الكئيب , نزل إلى الأسفل لينضم إلى الحفل .
كان الحفل يعج بما يمكن أن يلهيه : نساء باسمات , طعام لذيذ ,
أحاديث مضحكة ومشوقة , لكنه فقد شهيته فجأة , وراح يراقبها
والغيرة تتآكله . رقص عندما اضطر ذلك لكنه سعى دوماً لئلا تغيب
عن ناظريه .

عندما تفرقت الجموع لتبدأ رقصة جديدة , شق طريقه نحوها ورأى
أن عينيها تلمعان . قالت بسعادة : (( أشعر أني بأحسن حال . آه , ليو ,
لو أنك تدرك شعوري هذا ! )) .
فقال بحنان : (( هذا رائع , أريدك أن تكوني هكذا على الدوام )) .
ـ لقد أجرت مع الصحيفة المحلية مقابلة للتو , وسألتني عن
نجاحي . . .
بعد أن هُزمت بفارق ضئيل في السباق الأول , كسبت في اليوم
الثاني وحققت انتصاراً آخر في اليوم الذي تلاه , وفي اليوم الأخير , تم
تنظيم حدث كبير لأفضل عشرة متسابقين من المباريات السابقة , وقد
حصدت النصر .
سألته بتعجب : (( هل تعلم كم كسبت من المال )) ؟
ـ نعم , لقد أخبرتني .
ـ لقد جنيت أكثر مما حصلت عليه يوماً .
ـ وماذا ستفعلين بهذا المال ؟
ـ سـأشارك في مسابقات أخرى , سيكفيني هذا المال للأشهر الستة
القادمة .
ـ وبعدئذ ؟
ـ حتى ذاك الحين , أكون قد كسبت ما يكفي للسنة القادمة . أنا
على الطريق الصحيح .
لم يبد من كلامها أنها ستشتاق إليه شوقاً شديداً , تأملها قليلاً ثم
ابتعد ليجر كاري إلى حلقة الرقص . رقصا حتى انقطعت أنفاسهما , ثم
سارا معاً إلى المقصف وهما يضحكان .
سألته كاري : (( هل سويت الأمر ؟ )) .
ـ الأمر ؟
ـ مع سيلينا . هل هي مولعة بك بقدر ما أنت مفتون بها ؟
منذ أن استنجد بها ليو في النقاش حول ركوب الثور , اتخذت
كاري لنفسها دور الشقيقة المتفهمة .
ـ من الواضح أنها ليست مولعة بي .
ـ لكنك مولع بها .
ـ كاري , أرجوك !
ـ حسناً أعتقد أني رأيتها تبحث عنك , وكنت أخط
للانسحاب , لكن إذا . . .
ـ أنت فتاة رائعة .

والتفت ليرى سيلينا تتأمله وقد علت شفتيها ابتسامة صغيرة
غريبة . اقتربت منه وقالت : (( لم ترقص معي بعد )) .
وانسحبت كاري كما وعدت , لكن ليس قبل أن تلقي نظرة لترى
ليو وسيلينا في أحضان بعضهما البعض كنصفين يتكاملان .
رقصا صامتين لفترة , وكل منهما يفكر في أنهما سيفترقان
وسيرحل كل منهما في طريقه في الغد . شعرت سيلينا بإرباك شديد ,
فقد ودعت الكثيرين من قبل , لكن الأمر مختلف هذه المرة . حاولت أن
تكون عملية . كل ما عليها أن تفعله هو أن تتماسك حتى يرحل ثم
تنساه . لا بد أنه من السهل نسيان رجل يعيش في النصف الآخر من
العالم . لكن قلبها ينبئها بأن لن يكون يعيداً مجدداً , لأنها ستحمله
معها في كل لحظة ولبقية حياتها .
وفجأة تغيرت الموسيقى , وتعالى عزف كمان منفرد راح يعزف لحناً
كئيباً . لحن توق ووداع . لن تراه مرة أخرى , فدنت منه أكثر فيما
اعتصر الألم قلبها .
أغمضت عينيها , فلم ترَ إلى أين كان يقودها . كل ما عرفته هو
أنهما يرقصان , يدوران ويدوران , فيما الأصوات تخفت من حولهما .
تابعت الرقص كأنها في حلم حيث لم يكن هناك سواهما , يدوران
ويدوران .
ـ سيلينا . . .
صوته وهو يهمس اسمها جعل تفتح عينيها لتجد جهه قريباً من
وجهها .
ـ سيلينا . . .
وداعبت أنفاسه وجهها , فهمست بسرعة : (( نعم )) .

وعانقها بعنف نابع من يأسه , شعر أنها تنساب من بين أصابعه ,
وبدا الإمساك بها أشبه بمحاولة الإمساك بالزئبق . بادلته العناق
بالشغف نفسه . شيء ما ينمو منها الآن . ستستفيد من قربه منها إلى أقصى
حد مهما كلف الأمر , وستعيش بعدئذ على مجد هذه اللحظات .
لم تعلمها حياتها الكثير عن الحب والحنان , وما تعرفه اكتشفته
بنفسها . لكن ما يحصل في داخلها الآن تجربة جديدة لم تعشها من قبل .

لم تكن تعلم أن عناق رجل قد يجعلها تتألم من فرط السعادة و التعاسة في
آنٍ معاً , بحيث لم تعد تعرف أيهما أقوى . لكن هذا لا يهم . كانت تعي
مشاعرها وأحاسيسها وتدرك أنها لن تندم عليها أبداً مهما كلفتها من
ألم . وسوف تتألم , هذا ما علمتها إياه حياتها .
إن حياة هذا الرجل مليئة بالنساء من دون شك , لكن لمسته تبدو
بريئة وكأنه يختبر شيئاً ما لأول مرة في حياته . ورغم اللهفة التي تسيره
ما زالت تشعر بحنانه , وكأن الحرص عليها يهمه أكثر من أي شيء
آخـر .
إلا أنه يريدها إلى حد يقوده إلى الجنون . كانت تشعر بارتجاف
جسده الضخم والقوي وبحركة تنفسه المتسارعة . وأثارتها فكرة أنها
تؤثر فيه إلى هذا الحد , أرادته أن يؤخذ بها بقدر ما هي مأخوذة به .
كان هو من وضع حداً للعناق , فأمسك بها من كتفيها وأبعدها
عنه قليلاً كي يتمكن من النظر إلى وجهها . بدا وجهه عاصفاً . وقال
لاهثاً : (( اخترنا وقتاً غير مناسب , ربما علينا . . . ))
ـ ربما علينا ماذا ؟ أن تكون أكثر عقلانية ؟ من يريد أن يكون
كذلك ؟
ـ حسناً , أنا بالطبع لا أريد , لكن أنت . . . سيلينا , غداً . . .
وتوقف عن الكلام , وسحبت الكلمات المتعقلة الحكيمة في الهواء
وماتت قبل أن ينطق بها .

همست : (( نعم , نعم . . . )) .
واقتربت منهما أصوات تتعالى من مكان ما . مزاح , ضحك ,
غناء , ضيوف يصيحون ويهتفون فرحاً قبل أن تنتهي الحفلة . نظر ليو
يائساً إلى الضوء و الضجيج اللذين تدفقا نحوه ليغمراه ثم سمعا أصواتاً .
ـ انظروا من يختبئ بين الأشجار !
ـ من هذه , ليو ؟
ضحك بصوت عالٍ , محاولاً التخلص من السؤال . وقدم له
أحدهم كأس عصير فأخذه . وعندما التفت بحثاً عن سيلينا , لم يجدها .
* * *
بدا وكأن دهراً مر قبل أن يرحل الضيوف . وأخيراً عاد المكان
هادئاً واستطاع ليو أن يتنفس الصعداء , فقد يتمكنان من الاختلاء
ببعضهما البعض للحظات , ليحلا المسائل التي أثاراها بين الأشجار .
لكنه لم يجد أثراً لسيلينا , لقد حمل عناقها الكثير من الوعود , وها هي
تتركه الآن .
صعد إلى غرفته مقطب الجبين , وهو يحاول أن يفهم ما يجري .
يمكن للنار أن تتجمد قبل أن يفكر في قرع بابها , فعليها أن تقوم هي
بالخطوة التالية . هذا ما قاله لنفسه , وعلى الرغم من ذلك , توجه إلى
بابها وقرعه بنعومة . أما أن يفعل هذا وإما أن يمضي حياته وهو يتساءل
عما إذا كان قد قام بالخيار الصحيح . وعندما لم يسمع أي رد , طرق
الباب بقوة أكبر ثم انتظر . لكن ما من رد .
توجه إلى غرفته , وقف قرب النافذة يتـأمل الأراضي المظلمة , وقد
أدرك أن من الغباء الاستغراق في الأحلام في حين أنه سيرحل غداً . لقد
فات الأوان الآن . وقف هناك محاولاً أن يقنع نفسه بأن من الأفضل أن
يتحلى بالوعي .

لم يعلم ما الذي جعله يعي أنه ليس وحيداً في الغرفة . لم يسمع صوت
تنفس واضحاً , لكن شيئاً ما تغير في الجو . وعندما مد يده إلى المصباح ,
همس صوت في العتمة : (( لا تضئ النور )) .
قال : (( أين أنت ؟ )) .
لم تجب , لكنه ما لبث أن أحس بذراعين ناعمتين تلتفان حول عنقه .
سألها : (( كنت هنا طوال الوقت ؟ لقد عدت للتو من . . . )) .
ـ أعلم , فقد سمعتك .
وسرته ضحكتها . راحت أصابعها تداعب شعره , لتنزلق إلى عنقه
وخده , فيما راحت دقات قلبه تتسارع وقد أثارت فيه لمستها مشاعر
عارمة .
سألته : (( هل تتذكر لقاءنا الأول )) .
ـ أتعنين حين أنقذتك من الزجاج المتحطم في أول يوم لك هنا ؟
كيف لي أن أنسى ؟
ـ كان بإمكانك أن تستغل الوضع حينذاك وتعانقني .
ـ خفت من رد فعلك , فبالكاد كنت أعرفك .
ضحكت وعانقته عناقاً أثار فيه مشاعر لم يعهدها من قبل . بدا
وكأنها تعرفه جيداً وتعرف نقاط ضعفه .
دمدم : (( أيتها الساحرة )) .

ـ هممم !
ـ لقد شغلت فكري منذ التقينا , كاد يقودني ذلك إلى الجنون .
همست بصوت صدمه كتيار كهربائي : (( لِمَ أضعنا كل هذا الوقت ؟ ))
فقال : (( ومن يأبه ؟ ما دمنا لا نضيع المزيد منه )) .
كان عناقه مثله , قوياً ونابعاً من القلب , بعيداً عن الحذاقة , إنما
مفعماً بالدفء والكرم والعطاء . بدا لها فريداً من نوعه , لا يشبه أي
شيء حصل في العالم أو قد يحصل . وعلمت أنها ستحلم به طيلة
حياتها .

تبادلا النظرات بعيون لمعت في الظلام . ضحكا معاً وكأنهما
يسخران من نفسيهما ومن غدهما , فما يجمعهما جميل ويشعرهما
بالرضا , لكنهما سيودعان بعضهما البعض غداً .
كانت تعلم أن ليو رجل يمكن للمرأة أن تقع في حبه بسهولة ,
لكنها تأكدت من ذلك الآن . فقد ضمها بين ذراعيه بحنان ودفء ,
وكأنه يريد منها أكثر من المتعة الآتية الجسدية .
كيف يمكن لفتاة أن تحافظ على استقلاليتها وحريتها مع رجل
يتصرف على هذا النحو ؟
وضعت ذراعيها حوله وضمته هي أيـضـاً بشغف حنون , في وداع
أخير قبل الرحيل .

* * *
نهاية الفصل( السادس) . . .

Just Faith 28-09-17 04:35 PM


7 ـ
لـن أنساك



أسوأ ما في المطارات هو أنه يتوجب عليك الوصول باكراً , فيطول
الوداع إلى ما لا نهاية , ما يزيد الألم . وخطر لسيلينا أن الأمر يصبح
أسوأ إذا ما كنت تنتظر من الآخر أن يقول شيئاً , أنت نفسك لا تعرف
ما هو . لكن مهما كان هذا الشيء فإنه لم يقله .
أوصلته إلى مطار دالاس , فتحققا من موعد إقلاع الرحلة المتوجهة
إلى أطلنطا , وسجلا حقائبه ثم بحثا عن مقهى حيث جلسا يشربان
القهوة . لكن ليو قفز فجأة من مكانه وقال : (( تعالي معي )) .
سألته فيما كان يمسك بيدها ويجرها على عجل : (( إلى أين )) .
ـ أريد أن أشتري لك هدية قبل أن أرحل , وقد أدركت الآن ما
هي .
قادها إلى متجر يبيع الهواتف الخلوية , وقال : (( شخص مثلك ,
ينتقل بقدر ما تنتقلين , يحتاج إلى مثل هذه الأجهزة )) .
ـ لم يكن بإمكاني شراء هاتف من قبل .
شعرت بسعادة قصيرة الأمد حين أدركت أنه يريد البقاء على
اتصال بها . لكن سعادتها لم تدم عندما تذكرت أنه سيرحل , وأنها قد
لا تراه ثانية .
اختارا الهاتف معاً واشترى لها بطاقة الساعات الثلاثين الأولى .
كتبت له الرقم على ورقة صغيرة وراقبته وهو يخفيه في محفظته .
ـ حان الوقت لأمر على دائرة الجوازات .

فقالت على عجل : (( ليس بعد . لدينا الوقت لتشرب فنجاناً آخر
من القهوة )) .
تملكها شعور مروع بأن الأمور تتسارع وتسر بها نحو حافة هوة
سحيقة . إنها الوحيدة القادرة على وضع حد لهذا , لكنها لا تعرف
السبيل إلى ذلك ؟ لم تستطع أن تجد الكلمات المناسبة , فهي لم تنطق بها
قط , وبالكاد تعرفها . لقد حاولت جهدها الليلة الماضية لتكشف له
حقيقة شعورها . والآن , هاهو قلبها ينفطر فيما يبدو هو غافلاً عما
يجري .
أمضت الدقائق القليلة الأخيرة جالسة قبالته , تحاول أن تتذكر كل
حركة من حركاته وكل تفصيل من ملامحه وكل نبرة من نبرات صوته . .
سوف يرحل وينساها .
لم تبتسم يوماً ابتسامة متألقة بقدر ابتسامتها اليوم . ومن ثم سمعا
النداء (( إلى المسافرين . . . )) .
فقال ليو وهو يهب واقفاً : (( أظن أن الوقت حان . . . ))
رافقته تقريباً إلى البوابة , حيث توقف ولمس وجهها بلطف , قال :
(( ما كنت لأفوت هذا لقاء كنوز العالم بأسره )) .
فقالت بخفة وهي سدد لكمة خفيفة إلى ذراعه : (( أحقـاً ؟ ستنساني
ما إن تبدأ المضيفات بإغرائك بأهدابهن الطويلة )) .
لكنه لم يبادلها الابتسام بل قال : (( لن أنساك أبداً يا سيلينا )) .
بدا وجهه منقبضاً وظنت للحظة أنه سيضيف شيئاً ما إلى ما قاله .
انتظرت فيما راح قلبها يخفق بأمل جامح , لكنه اكتفى بأن عانقها عناقاً
سريعاً .
ـ لا تنسيني .
ـ من الأفضل لك أن تتصل بهذا الرقم لتحرص على ألا أنساك .
ـ سأفعل .
وعانقها مجدداً قبل أن يتركها ويرحل . حاولت جاهدة أن تجد في
عناقه الأخير صدى لعناق الليلة الماضية , لكنها لم تفلح , فلم يكن ليو
سوى رجل يرغب في العودة إلى موطنه وبيته , عندما وصل إلى البوابة ,
التفت ولوح لها . بادلته التلويح , وقد حافظت على الابتسامة التي تعلو
وجهها بفضل إرادتها الحديدية . . . ثم رحل . .
لم تغادر على الفور , كما كانت تنوي أن تفعل , بل انتظرت عند
النافذة حتى أقلعت الطائرة , ثمر راقبتها إلى أن غابت عن ناظريها بين
الغمام . عندئذ , قفلت راجعة إلى المرآب , حيث جلست خلف المقود
وراحت تحدث نفسها . ما الأمر ! أنها كمثل مركبين التقيا في بحر الحياة
ثم سار كل منهما في طريقه . هذا كل ما في الأمر . أمامها يمتد مستقبل
واعد أفضل مما عرفت يوماً , وهذا ما عليها أن تفكر فيه , ضربت
يدها بقوة على المقود , فهي لم تحاول يوماً أن تخدع نفسها بالأكاذيب ,
لكنها تحتاج الآن إلى كذبة تعزيها وتواسيها لتتغلب على ما تمر به .
قالت بغضب : (( كان علي أن أقول شيئاً , أي شيء يجعله يدرك .
ربما كان ليطلب مني أن أرافقه . آه , من أحاول أن أخدع ؟ كان
بإمكانه أن يطلب مني مرافقته , لكنه لم يفكر في ذلك قط . لن يتصل بي .
و الهاتف لم يكن سوى هدية وداع . كفي عن التصرف بغباء يا سيلينا ,
لا يمكنك أن تبكي في مرآب )) .
بدا وكأن الرحلة بين أطلنطا و بيزا ستستمر إلى الأبد , وليس إلى
يوم جديد وحسب , بل إلى بُعد آخر وعالم آخر . حاول ليو أن ينام لكنه
عجز عن ذلك . غادر الطائرة وقد أصابه دوار من شدة الإرهاق ,
وشق طريقه عبر دائرة الجوازات والجمارك . وشعر بالغرابة مع أنه عاد
إلى موطنه .
توجه نحو صف سيارات الأجرة , وهو مستغرق في احتساب
الوقت الذي يتطلبه وصوله إلى منزله بحيث لم ينتبه إلى صوت شخص .

خلفه , لم يرَ من ضربه أو عدد الذين اعتدوا عليه , علماً أن الشهود
أشاروا لاحقاً إلى أنهم كانوا أربعة . كل ما عرفه هو أنه سقط أرضاً
فجأة بعد أن دفعه أشخاص أغراب . سمع صراخاً وصوت خطى تفر .
جلس يتحسس رأسه متسائلاً عن سبب وجود هذا العدد من رجال
الشرطة حوله . وامتدت الأيدي لتساعده على الوقوف على قديمه .
وسأل : (( ماذا حدث ؟ )) .
ـ تعرضت للسرقة سيدي .
عبس ومد يده إلى حيث يضع محفظته , فلم يجدها . كان رأسه يؤلمه
إلى حد أنه لم يستطع أن يفكر أكثر . واستدعى أحدهم سيارة إسعاف
فتم نقله إلى مستشفى محلي .
استفاق في اليوم التالي ليجد شرطياً يقف قرب سريره , ويحمل
محفظته المفقودة . قال الرجل : (( وجدناها في أحد الأزقة )) .
وكما هو متوقع , كانت محفظته فارغة . لقد اختفى المال وبطاقات
الاعتماد . لكن ما روع ليو هو اختفاء الورقة الصغيرة التي تحمل رقم
سيلينا .
أخذه رينزو , المشرف على مزرعته , من المستشفى وقطع معه
الخمسين ميلاً التي تفصله عن منزله بيللا بودينا . وما إن وجد ليو نفسه
وسط تلال توسكانا حتى بدأ يسترخي . مهما كانت حياته مضطربة ,
فإن غرائزه تشير عليه بأن ما يهم فعلاً هو أنه عاد إلى موطنه , حيث
تنمو الكرمة وتمتد حقول القمح تحت أشعة شمس ساطعة .
كان يتمتع بشعبية بين العمال لأنه يدفع لهم بسخاء , ويثق بهم
ويتركهم يهتمون بأعمالهم . راحوا يلوحون له وينادونه سعيدين بعودته
لدى مروره بالقرب منهم .
كانت أراضي أسرة كالـﭭـاني شاسعة . وخلال اجتيازهما الأميال
القليلة الأخيرة , راح يتأمل حقول قريته الخاصة . مورينزا , تجمع
صغير من الأبنية تعود إلى القرون الوسطى , يقوم على أراضي أسرة
كالـﭭـاني يلتف حول الكنسية وحول بركة صغيرة يسبح فيها البط , قبل
أن يقود إلى خارج القرية , من ثم عبر حقول الكرمة المزروعة على
المنحدر لتداعبها الشمس .
في الأعلى , يقع المنزل الذي بني في القرون الوسطى أيضاً , والذي
يطل على منظر رائع في الوادي . دخل إلى المنزل بتنهيدة ارتياح ورضا ,
ورمى حقائبه على الأرض ثم التفت من حوله يتأمل الأثاث المألوف
الذي يحبه . ها هي جينا قد حضرت له طبقه المفضل , وجهزت له
عصيره المفضل , فيما راحت كلابه المفضلة تحوم حول قدميه .
تناول وجبة ضخمة وطبع قبلة امتنان وشكر على خد جينا ثم توجه
إلى الغرفة التي يستخدمها كمكتب والتي يدير منها ملكيته . وبعد
ساعتين أمضاهما مع أنريكو , مساعده الذي أشرف على الأعمال
المكتبية خلال غيابه , تبين له أن هذا الأخير قادر على إدارة هذه
الأعمال بشكل ممتاز ومن دون مساعدته . لم يكن يحتاج إلى المزيد .
غداً , سيجول على ممتلكاته مع رجال قريبين من الأرض بقدره .
أمضى الساعات التالية وهو يتحدث إلى عائلته عبر الهاتف , ليسمع
آخر الأخبار . وأخيراً , خرج ووقف يتأمل القرية التي تلألأت
بالأنوار . وقف هناك طويلاً , يستمع إلى النسيم الذي تغلغل في
الأشجار وإلى صوت الأجراس التي تردد صداها في الوادي . وفكر في
أنه لم يعرف يوماً مثل هذا السلام والجمال . ولكن . . .
إنها العودة الممتازة إلى المكان الممتاز . لكنه شعر فجأة بالوحدة كما
لم يفعل قط في حياته .
استلقى في سريره وحاول أن ينام , إنما من دون جدوى , فما كان
منه إلا أن نهض ونزل إلى مكتبه . إنه الصباح في تكساس , وكان بارتون

من أجاب على الهاتف , فسأله آملاً : (( هل سيلينا لا تزال عندكم ؟ ))
ـ لا , فقد غادرت فور رحيلك . عادت إلى هنا لتأخذ جيبرز ثم
رحلت . ألم تكن رائعة ؟ جيبرز هو الجواد الذي تحتاجه . ستصبح نجمة
مع هذا الجواد .
ـ عظيم , عظيم !
حاول ليو أن يبدو سعيداً ومرحاً , لكن , ولسبب لم يشأ أن يتعمق
فيه , لم يسر لسماع أخبار نجاحها في الجهة الأخرى من العالم .
ـ هل اتصلت بكم ؟
ـ اتصلت بالأمس لتسأل عن أليوت , فقلت لها إنه بخير .
ـ هل سألت عني ؟
كان قد وعد نفسه بألا يطرح هذا السؤال , لكنه خرج من بين
شفتيه رغماً عنه .
ـ لا , لم تأتِ على ذكرك . لكن إذا ما اتصلت بها فأنا واثق . . .
لِمَ علي أن أتصل بها في حين أنها لم تهتم حتى لتسأل عني ؟ هذا ما
خطر له .
ـ بارتون , لا يمكنني أن أتصل بها . تعرضت للسلب وفقدت
الورقة التي كتبت عليها رقم هاتفها الخلوي . هل لي أن أحصل عليه ؟
ـ كنت لأعطيك إياه لو أني أملكه . لكنني لا أعرف كيف أتصل
بها .
ـ عندما تتصل في المرة القادمة , هلا شرحت لها ما حصل وطلبت
منها أن تتصل بي ؟
ـ طبعاً .
ـ هل قالت لك إلى أين تتوجه ؟
ـ رينو , على ما أعتقد .
ـ ســأترك لها رسالة هناك .
حاول أن يركز على زيارته القادمة إلى البندقية , حيث سيحضر
زفاف شقيقه الأصغر غويدو , من خطيبته الإنكليزية دولسي . وسيقام
زفاف آخر قبل زفاف شقيقه بيوم , إذ سيتزوج عمه , الكونت
فرانشيسكو كالـﭭـاني , من ليزا , مدبرة منزله السابقة وحب حياته .
سيكون هذا الزفاف خاصاً ومختصراً .
كان ليو ينتظر بشوق مناسبة عائلية مفرحة , لكنه شعر الآن ,
وبشكل مفاجئ , بأنه لا يرغب في حضور أي عرس .
أين هي ؟ ولِمَ لم تتصل به ؟ هل نسيته بهذه السهولة ؟
أرسل أكثر من رسالة إلكترونية على موقع الروديو في رينو , فصل
فيها تحركاته في الأيام القادمة , كما ترك رقم هاتف عمه في البندقية ,
ورقم هاتفه الخلوي , وذكرها برقم هاتف منزله على سبيل الاحتياط .
بقي حتى اللحظة الأخيرة متعلقاً بأمل أن تتصل به , لكن الهاتف ظل
صامتاً . وأخيراً , غادر منزله متوجهاً إلى البندقية .
لم يكن ليو يوماً رجلاً كئيباً . وكان من النادر أن تخرج امرأة من
حياته رغماً عنه , لكنه يتصرف عادة بشكل إيجابي إذا ما حصل هذا .
والعالم مليء بالنساء الضاحكات , السهلات المعشر على غراره ,
واللواتي يسعدهن أن يمضي الوقت معهن . لكن هذه الفكرة لم تفرحه .
استقل القطار من فلورنسا إلى البندقية حيث ينتظره مركب العائلة
لينقله إلى قصر كالـﭭـاني الواقع على القناة الكبرى , وعندما وصل , وجد
العائلة تتناول طعام العشاء . عانق ليزا ومن ثم عمه , ودولسي ,
وهارييت ولوسيا , والدة ماركو . كان غويدو وابن عمه ماركو
موجودين أيضاً . وبعد أن تصافحوا , انتهى الترحيب .
حاول أن يبدو كعادته أثناء تناول الطعام , ولعله خدع أقاربه من
الرجال . لكن عيون النساء أكثر حدة في هذه المسائل , وما إن انتهت
الوجبة حتى أحاطت به دولسي وهارييت وقادتاه إلى الأريكة كزوج من

كلاب الرعاة يسوق أسداً , ثم أجلستاه بينهما .
قالت هارييت : (( وأخيراً وجدتها )) .
سألها براتباك : (( هي ؟ )) .
ـ تعرف من أعني . هي ! المرأة المناسبة . لقد علقت في الشباك .
سألته دولسي : (( ما اسمها ؟ ))
توقف عن المواربة إذ لن يتمكن من خداعهما . واعترف : (( اسمها
سيلينا , التقينا في تكساس , وقد شاركنا معاً في الروديو )) .
وصمت . فسألتاه بشوق : (( ومن ثم ؟ ومن ثم ؟ ))
ـ رحلت كما رحلت أنـا .
فقالت دولسي : (( إذن , ثمة قاسم مشترك بينكما )) .
وافقت هارييت : (( تزاوج عقلين متماثلين )) .
فاقترحت دولسي : (( لا أظن أن للعقل علاقة بذلك )) .
ـ فعلاً .
قال ليو هذا , وهو يتذكر نعومة سيلينا بين ذراعيه . وللحظة شعر
وكأن أنفاسها الحارة تلفح بشرته وتدعوه إلى شغف وحنان عظيمين .
واضاف بشكل مفاجئ : (( كان الأمر رائعاً )) .
فقالت له هارييت : (( كان عليك أن تصطحبها معك لتقابلنا )) .
وسألته دولسي : (( لكن ألم تتبادلا رقمي هاتفيكما وعنوانيكما )) .
ـ ليس لديها عنوان , فهي تجول من روديو إلى آخر وتعيش حيثما
تصل . كنت أملك رقم هاتفها الخلوي , لكن . . . لا بد أنكما تعلمان
أن محفظتي سرقت مني , وكانت الورقة في داخلها . حاولت أن أتعقبها
عبر الإنترنت , لكن يبدو أني , ولسبب ما , أفقد أثرها في كل مرة . وقد
لا أراها ثانية .
أصدرت الشابتان أصوات تعاطف . لكن ليو شك في أنهما تجدان
الأمـر مسلياً في سرهما . ولعله كذلك . ليو كالـﭭـاني , الرجل الحر , فقد
شهيته لأن امرأة شابة , ذات طبع متقد , اختفت من حياته , يا له من
أمر مضحك ! وبعد حين , انضم إلى الرجال الآخرين , لكن حتى
رفقتهم لم تنجح في تسكين ألمه . عريسان سعيدان وخطيب ليسوا ما
يحتاجه في مزاجه الحالي التعيس .
وبدأ الجمع يتفكك تدرجياً , فاختفى غويدو ودولسي معاً ليضعا
اللمسات الأخيرة على تحضيرات عرسهما الوشيك . وغادر ماركو
و هارييت ليتنزها في شوارع البندقية . خرج ليو إلى الحديقة حيث وجد
الخالة لوسيا جالسة بهدوء , تتأمل النجوم في السماء .
قال ليو وهو يجلس قربها : (( أظن أن ماركو و هارييت سيحددان
موعد زفافهما في أي لحظة )) .
فقالت لوسيا بلهفة : (( أرجو ذلك . أعلم أنهما خرجا معاً الآن ,
وآمل أن يعودا وقد اتفقا على التفاصيل )) .
سألها بفضول : (( أنت متحمسة جداً لهذا الزواج , أليس كذلك ؟
علماً . . . حسناً , أنه ليس زواج جب , أليس كذلك ؟ )) .
ـ أتعني أني دبرته ؟ نعم , لقد فعلت وأنا لا أنكر ذلك .
ـ ألم يكن من الأفضل تركه يختار عروسه بنفسه ؟
ـ أخشى أني كنت لأنتظر طويلاً . يجب أن يكون في حياة ماركو
امرأة , وإلا سينتهي به الأمر وحيداً , وهذا فظيع .
ـ ثمة أمور أسوأ من الوحدة يا خالة .
ـ لا يا عزيزي , ما من شيء أسوأ .
لم يتمكن من أن يجيبها . ولأول مرة في حياته , شعر بأن ما تقوله
صحيح . واستفهمت بلطف : (( أظنك بدأت تكتشف ذلك للتو , أليس
كذلك ؟ )) .
هز كتفيه بلا مبالاة وأجاب : (( إنها حالة نفسية وحسب . لقد
أطلت الغياب . وبعد أن عدت وجدت الكثير من العمل

بانتظاري . . . )) .
واختفى صوته .
ـ صفها لي .
أخبرها قصته مجدداً , أطـال هذه المرة في وصف سيلينا . ولأول مرة
راحت الكلمات تنساب من فمه بسهولة , فاستطاع أن يتكلم عن
الحلاوة واللطف خلف القشرة الشائكة , وكيف استطاع اكتشاف هذه
الطبيعية بلطف , كيف أسرته .
سألته لوسيا : (( أنت تحبها كثيراً , أليس كذلك ؟ )) .
فسارع يدافع عن نفسه : (( لا , لا أظن أني . . . في الواقع , لا
أستطيع منع نفسي من أن أقلق عليها . فليس لديها من يهتم بها . لم يكن
لديها أحد يوماً . لم تعرف سوى أناس حاولوا استغلالها . عائلتها
الوحيدة هي أليوت . ولهذا , انفطر قلبها حين أدركت أن أيامه
ولت . . . إنها وحيدة من دونه )) .
ـ وفقاً لما قلته , فهي تستطيع العناية بنفسها , وقبضتاها قويتان .
ـ يمكنها أن تعتني بنفسها من هذه الناحية , لكنها وحيدة في
داخلها . لا أظن أني قابلت يوماً شخصاً وحيداً بقدرها . إنها تعتقد أنها
أكثر سعادة هكذا .
ـ لعلها كذلك . فقد قلت للتو إن ثمة أموراً أسوأ .
ـ كنت مخطئاً . عندما أفكر في أنها ستستمر بحياتها على هذا النحو
لسنوات . . . وهي تخدع نفسها مدعية أنها سعيدة , فيما هي تنعزل عن
العالم أكثر وأكثر . . .
ـ قد لا يحصل هذا . ستلتقي شاباً لطيفاً وتتزوجه . وبعد سنوات
قليلة , قد تلقاها صدفة فتكتشف أنها رزقت بطفلين وتنتظر الثالث .
عبس ليو وقال : (( أنت ذكية يا خالة . تعلمين أني لا أريد ذلك )) .
ـ أتساءل ما الذي تريده فعلاً .
ـ مهما كان ما أريده , أظن أني لن أناله .
راحت الأضواء تخف تدريجياً على طول القناة . وخلفهما , بدأت
الساحة الكبرى تقفل محالها ومقاهيها . وقف ليو وساعد لوسيا على
النهوض يدورها . و قال : (( أشكرك لأنك أصغيت إلي . أخشى أن
دولسي و هارييت تسخران مني وتعتقدان أني مهرج بعض الشيء )) .
فقالت لوسيا وهي تضغط على يده : (( حسناً , كانت حياتك مليئة
بالورطات والأشراك القصيرة الأمد . لكن , إن كانت سيلينا هي المرأة
المناسبة لك فستجدها مجدداً . علماً أني أظنها مجنونة إن لم تأتِ للبحث
عنك )) .
رد ليو بكآبة : (( لعلها لا ترغب في أن تجدني . حتى وإن فعلت , فما
الفائدة بالنسبة إلي ؟ فهي لا يرغب في حياة عادية , في مكان واحد , مع
زوج وأولاد )) .
ـ لم أكن أعم أن أفكارك وصلت إلى هذا الحد .
فقال على الفور : (( لم تصل . كنت أتحدث بشكل عام )) .
ـ حسناً , حسنـاً .
ـ إنها تحب الترحال , الانتقال من مكان إلى آخر , عدم معرفة مـا
بحمله الغد . لذا , لن أتمكن من إسعادها على الأرجح .
ـ كف عن هذا الكلام . إذا قُدر لحبك أن يكون , فسيكون .
والآن , لدينا حفل زفاف في الغد , وسنستمع بوقتنا جميعاً .
وصلت سيلينا في وقت متأخر إلى باحة مزرعة فورتين حيث
توقفت لترتاح . وكان بارتون في انتظارها .
ـ سمعت أنك أبليت حسناً في رينو .
فردت : (( ســأصبح مليونيرة قريباً . بارتون , هل من خطب ؟ )) .
ـ اتصل بي ليو .
ـ أحقاً ؟

ـ لا تدعي أنك لا تهتمين للأمر . أظنك في حالة سيئة كحاله .
ـ و لِمَ هو في حالة سيئة ؟
ـ لأنه أضاع رقم هاتفك . كاد يجن وراح يتصل بك هنا وهناك ,
ويترك لك الرسائل كي تعاودي الاتصال به .
ـ لكني لم أكن أعلم بذلك . . .
ـ لا , اضطررت للتغيب فترة , لذا تركت خبراً بأن يعلموك بما
يجري إذا ما اتصلت . لسوء الحظ , تركت الرسالة مع بولي . لا أدري
إن كان كثير النسيان , أو أن الأمر يتعدى ذلك . . .
ونظر إلى وجهها ثم أردف : (( هل ذلك علاقة بالحادثة التي تعرض
لها بولي حين " داس على المذراة ؟ " )) .
ـ حسناً , لم أشأ أن أخبرك , بعد أن كنت لطيفاً للغاية معي . . .
ـ اعلمي أني رغبت دائماً في لكمه بنفسي .
ـ لقد تصرف بشيء من الوقاحة , فقمت . . . حسناً . . .
ـ أنت من فعل ذلك , وليس ليو ؟
ـ لا , لم يكن ليو . فقد وصل بعد أن انتهى الشجار . لكن , لعلي
تماديت .
فقال بارتون مستمتعاً : (( لا , لم تتمادي . لكنك أحسنت فعلاً حين
لم تخبري والدته , فهي تبالغ في ردات فعلها على هذه المسائل . حسناً ,
حسناً , لقد تمكن من الثأر منك )) .
ـ ربما علي أن أتصل بليو .
لكن سيلينا بدت غامضة وشاردة الذهن .
ـ ألا ترغبين في ذلك ؟
ـ بالطبع أرغب في ذلك , لكنه بعيداً جداً . وسيكون شخصاً آخـر
في بلاده .
ـ ما عليك إلا أن تذهبي وتعثري عليه في بلاده . اكتشف ما إذا
كان بإمكان تلك البلاد أن تصبح بلادك . سيلينا , عندما يستمر رجل
ما في الاتصال , ويبدو عليه الاضطراب كهذا الرجل , فهذا يعني أن
لديه ما يقوله للمرأة التي يبحث عنها . وهذا الكلام لا يقال عبر
الهاتف .
ـ أتعني أن . . . أذهب أنــا إلى إيطاليــا ؟
ـ إنها ليست الجهة الأخرى من القمر , تعرفين أني سأعتني بجيبرز
و أليوت أثناء غيابك . لديك مال الجوائز , فما الذي يمنعك من السفر ؟
وعندما لم تجبه , راح بارتون يقلد صوت الدجاجة وحركاتها .
ـ أنـا لست جبانة كالدجاج .
ـ لست جبانة في الحلبة وهذا أمر أكيد , فـأنـا لم أر يوماً من هو
أشجع منك . لكن هذا الأمر سهل . أمـا العالم فمخيف أكثر , ربما
عليك أن تفكري في ذلك .
* * *
في طريق عودته إلى منزله , كـان ليو يحاول أن يقنع نفسه بأن الأمور
ستتحسن . فهذه طريقة القدر في إعلامه بأنه وسيلينا لن يجتمعا .
كان الزفاف رائعاً , لكن رؤية شقيقه سعيداً للغاية بعد أن أصبح
زوج دولسي جعلته غير راضٍ عن نصيبه . وهذا لا يعني أنه كان يفكر
في الزواج . لكن مجرد تخيل سيلينا في الثوب الأبيض الناصع والمخرم
الذي اختارت دولسي أن ترتديه , أعاد هذه الفكرة إلى الواجهة . على
الأرجح , ستفضل سيلينا أن تتزوج وهي تعتمر قبعة طويلة وتنتعل
حذاء رعاة البقر .
عندما وصل إلى منزله , كان قد حسم المسألة في فكره , لقد أمضيا
وقتاً ممتعاً معاً , لكن كل هذا انتهى , كمـا ينبغي له . لن يفكر بها ثانية .
كانت جينا قد انتهت لتوها من ترتيب سريره . حيته واتجهت نحو
النافذة حيث تركت منفضة الغبار . وشرعت تقول : (( أراد رينزو أن
يراك بعد الظهر , لكي يتمكن . . . من هذا يا ترى ؟ ))

ـ من ؟
وتقدم ليقف قريباً عند النافذة المطلة على الطريق الذي يصل من
مورنزا .
شخص طويل ونحيف , يرتدي بنطلوناً من الجينز وقميصاً ويحمل
حقيبتين , كان يتجه نحو المنزل . كانت المرأة تتوقف أحياناً لتنظر إلى
الأعلى , ويدها تظلل عينيها . بدت بعيدة جداً فلم يتمكن ليو من رؤية
وجهها , لكنه عرف التفاصيل الأخرى كلها , من مشيتها المتمايلة إلى
جانب رأسها حين تميل به إلى الخلف . قالت جينا : (( لا بد أنها غريبة
عن هذه البلاد , لأنها . . . سيدي ؟ ))
لم تجد مستخدمها إلى جانبها . لكنها سمعت وقع خطاه السريعة
وهو ينزل السلالم , ثم رأته في الأسفل يركض بسرعة جعلت جينا تظن
أنه سيقع في الوادي . رمت الشابة حقيبتيها وبدأت تركض أيضاً . وفي
اللحظة التالية , ارتميا في أحضان بعضهما البعض وقد نسيا بقية العالم .
نادت جينا إحدى الخادمات : (( سيلينا , لدينا ضيفة . اتركي مـا
تفعلينه وجهزي لها غرفة )) .
وأضــافت وهي تتأمل الشكلين المتعانقين : (( وأظنها ستطيل
الإقامة )) .

* * *

نهاية الفصل(( السابع)) . . .

Just Faith 28-09-17 04:37 PM


8 ـ
اعترافات رجــل



ـ أخبريني أني لا أحلم . أنت فعلاً هنـا !
ـ أنـا هنا , أنـا هنا ! المسني .
راحت سيلينا تبكي وتضحك في آن معاً . بذل قصارى جهده
لطمأنتها فسحقها في عناق قوي وتشبث بها .
ـ لطالما تخيلتك وأنت تسلكين هذا الطريق , ليتبين لي لاحقاً أنها
مجرد خدعة من الضوء .
ـ ليس هذه المرة . لو هل أنت سعيد حقاً لرؤيتي ؟
وفجأة , خذلته الكلمات ولم يعد يجد تلك التي تعبر عن مشاعره .
هل هو سعيد لرؤيتها ؟ كل ما يعرفه هو أن الغصة في حلقه جعلت من
الصعب عيه أن يتكلم . وقالت سيلينا مذهولة : (( أنت تبكي )) .
ـ لا , أنا لا ابكي . وحدهم الضعفاء يبكون .
ذكرها بكلماتها الخاصة , لكن عينيه بدتا رطبتين , ولم يحاول
تجفيفهما . إنه لاتيني , وقد تربى عل ألا يخجل من مشاعره وانفعالاته .
كما لم يكن يرغب في إخفاء هذه المشاعر عن هذه المرأة .
أمسك بوجهها بين راحتيه , وراح يتأملها بشوق وحنان قبل أن
يعانقها عناقاً طويلاً . تجاوبت سيلينا مع عناقه من كل قلبها , مدركة
أنها قطعت هذه المسافة كلها لهذا السبب , وأن ما من شيء يمكن أن
يبعدها عنه .

حمل إحدى حقيبتي سيلينا تحت إبطه والأخرى في يده , ثم وضع
يده الحرة حول خصرها , وعندئذ , صعدا التلة معاً متوجهين إلى
المنزل . سألته سيلينا بعد أن رأت بعض الوجوه عند النوافذ : (( هل
أسرتك هنا لتزورك ؟ )) .
ـ لا , إنهن . . .
ومنع نفسه من أن يقول الخادمات , فقال : (( بنات أخوة جينا )) .
وكان هذا صحيحاً , فعندما يحتاج لاستخدام شخص جديد ,
يكتفي بأن يعلم جينا فتأتي له بشخص مناسب من أسرتها الكبيرة .
وبعد قليل اختفت الوجوه , وعندما وصلا إلى الباب لم يجدا في
استقبالهما سوى جينا التي ابتسمت مرحبة وأعلنت أن غرفة الآنسة
تُجهز وأن المرطبات ستُقدم على الفور .
تركتهما جينا , فأخذ ليو سيلينا بين ذراعيه مجدداً , وأدناها منه
ليريح رأسه على شعرها . وسألته سيلينا : (( كيف علمت بقدومي لتحضر
لي الغرفة ؟ )) .
ـ رأتك وأنت تصعدين التلة , وعندما قمت . . . وعندما قمنا . . .
حسناً , أظن أن الجميع يعرف بقصتنا الآن .
كادت تسأله ما هي " قصتهما " برأيه , لكنها عدلت عن رأيها ,
فهي نفسها لا تعرف الجواب و هذا ما جاءت لاكتشافه هنا . وفي هذه
اللحظة , ما من شيء يهم بقدر السعادة التي غمرتها لوجودها معه . في
هذا البلد الغريب الذي لا تعرفه لغته , شعرت بأنها وصت إلى بيتها
وموطنها , لأنه هنـا ولأنه جزء منه .
سألها ليو : (( لِمَ لم تستلقي سيارة أجرة إلى هنا ؟ )) .
ـ لم أعرف كيف أقول له عنوانك . وجدت باصاً , على مقدمته
لافتة كُتب عليها مورنزا , لكني لم أكن أعلم أن علي شراء التذكرة من
محل السكاكر أولاً . وعندما فعلت , كـان الباص قد رحل . حسنـاً ,
اسخـر مني بقدر ما تشاء .
كان يضحك لطريقتها في الكلام , لكنه سيطر على نفسه وقال :
(( أنا آسف عزيزتي , لم أستطع منع نفسي . إنها طريقتك في رواية ما
حدث . نحن مجانين بعض الشيء في إيطاليا , ونشتري التذاكر من محال
السكاكر )) .
ـ وماذا يحصل لو كانت محال السكاكر مقفلة ؟
ـ نسير .
ضحكت ضحكة رنانة . وأنزل رأسه حتى أراح جبهته على
جبهتها , وهو يبتسم برضا و سعادة لوجودها معه هنا . ثم قالت :
(( وهكذا , انتظرت الباص التالي , ثم عرفت منزلك من وصفك له )) .
ـ لكن , لِمَ لم تتصلي بي لآتي و أستقبلك ؟
ـ حسناً . . . أنت تعلم . . .
طوال الرحلة , عذبتها فكرة ألا يرغب في وجودها هنا , وأن
تسمع الحيرة والارتباك في صوته إذا مـا اتصلت . لعله اتصل بها في
تكساس ليقول ألا تتصل به لأن ما حصل بينهما مجرد غلطة . وحده
وجودها فوق الأطلسي منعها من التراجع و الترجل من الطائرة .
ووعدت نفسها بأن تعود على الفور بعد أن تحط الطائرة , أو أن
تسمع كلمات بارتون حين نعتها بالجبن , فأجبرت نفسها على المضي
قدماً .
رافقها إلى الغرفة التي أنهت الخادمات تجهزيها للتو , فراحت
تتأمل المنزل بجدرانه الحجرية الضخمة وهما يصعدان إلى الطابق
العلوي . إنه كما وصفه بالضبط , باستثناء أنه أكبر بكثير مما تخيلت .
غرفتها أيضاً كبيرة جداً , و أرضيتها من الخشب الملمع . أمـا السرير
فهو أكبر سرير رأته في حياتها , مع ظهر من خشب الجوز المحفور .
وتحمي النوافذ مصاريع من الخشب السميك التي تمنع دخول الحر .

عندما فتحتها جينا , تمكنت سيلينا من الخروج إلى شرفة صغيرة لتتأمل
الوادي فكان أجمل مشهد ريفي رأته يوماً , إذ تمتد التلال على مدى
النظر , خضراء و زرقاء , فيما تخفي أشجــار الصنوبر الحدود .
كان الطقس لا يزال دافئاً بما يكفي لتناول العشاء في الخارج ,
وهما يشاهدان غروب الشمس . وقدمت لهما جينا حساء السمك ,
وهو خليط من الحبار والقريدس ويلح البحر والثوم و البصل
و الطماطم . شعرت سيلينا وكأنها ماتت وصعدت إلى الجنة . قالت
وهي ترتشف العصير : (( عدت لأجد بارتون قلقاً ومضطرباً , فقد ترك
الرسالة مع بولي الذي " نسيها " )) .
فغامر ليو قائلاً : (( لكن جاذبيتي التي لا تقاوم شدتك رغم
ذلك ؟ )) .
فرت بحزم : (( جئت لأشاهد الروديو في غروستو , هذا كل ما في
الأمر )) .
ـ ولا علاقة للأمر بي ؟
ـ لا علاقة للأمر بك , فلا تتباهى .
ـ حسناً سيدتي .
ـ و توقف عن الابتسام , هكذا !
ـ لم أكن أبتسم .
ـ بل فعلت , كالقطة التي أكلت الجبن . اجتيازي نصف العالم بحثاً
عنك لا يعني شيئاً , هل تفهم هذا ؟
ـ طبعاً , وتمضيتي الأسابيع القليلة الماضية وأنا أبحث كالمجنون عبر
الانترنت لأحاول الوصول إليك ومعرفة أخبارك , لا تعني شيئاً أيضاً .
ـ حسناً , اتفقنا !
ـ اتفقنا !
وجلسا صامتين يتأملان بعضهما البعض بسعادة .
قالت : (( فعلتها مجدداً , عندما وصلت إلى هنا ناديتني بالإيطالية ,
لكنك لم تقل لي ما تعنيه الكلمة )) .
كانت تنظر إليه , فقال وهو يمسك بيدها : (( عندما ينادي رجل
امرأة بهذه الكلمة ومعناها . . . )) .
وفجأة , وجد صعوبة في الكلام . فقد اعتاد في الماضي أن يستخدم
الكلمة بشكل عشوائي , من دون أن يعنيها . لكن الوضع تغير الآن ولم
يبق لديه سوى الكلام القديم الذي لطالما أثار الجدال و النقاش .
قال : (( هذا يعني أنها أكثر من عزيزة عليه , هذا يعني . . . )) .
وتوقف عن الكلام مع وصول جينا لترفع الأطباق قائلة : (( الطبق
الرئيسي سيدي )) .
ابتسم ليو وترك الحديث عند هذا الحد , ستتاح لاحقاً فرصة
قول كل ما يرغب في قوله .
أنهيا الوجبة بالعسل والكيك بالجوز . وكانت عينا سلينا تكادان
تطبقان لشدة تعبها . وأخيراً , أمسك ليو بيدها و قادها إلى الطابق
العلوي ليتوقفا عند بابها , ثم قال بصوت ناعم : (( تصبحين على خير ,
عزيزتي )) .
ـ تصبح على خير .
وداعب خدها قبل أن يتركها .
استقى في سرير من دون أن يغمض له جفن طيلة الليل تقريباً .
وجودها في بيته , تنام في الغرفة المجاوزة , جعله يشعر كرجل يخبئ كنزاً
تحت سقفه . كان الكنز كنزه وسيحتفظ به , وسيحارب العالم بأسره من
أجله إذا ما اضطره الأمر .
استيقظ مع بزوغ الفجر وتوجه إلى النافذة ففتح مصراعيها ووقف
على الشرفة الصغيرة . شعوره بالذهول لقدومها المفاجئ لم يفارقه بعد ,
فأراد أن يتأمل مجدداً الطريق المؤدي إلى القرية , الطريق الذي طالما نظر

إليه , وقد تملكه الشوق إليه , حتى ظهرت في أحد الأيام .
ظل في النافذة المجاورة جعله يلتفت . رآها تقف هناك , لكنها لم
تكن تنظر إليه بل إلى الوادي , وقد بجا وجهها هادئاً ومأخوذاً , وكأنها
في عالم آخر . وفيما كان يتأملها , رفعت رأسها بما يكفي لتمنحه
ابتسامة قصيرة , ثم عادت كرة أخرى تتأمل الوادي .
لقد فهم الآن !
وضع عباءته على كتفيه وخرج من غرفته متوجهاً إلى غرفتها . وقف
خلفها عند النافذة ووضع يديه على كتفها بنعومة . عندما استندت
إليه , أحاطها بذراعيه , فرفعت ذراعها بدورها لتضعهما على
ساعديه . وفقا هناك في أحضان بعضهما البعض , وقد تملكهما شعور
بالرضا , شعور لا يشبه كل ما عرفه في حياته من قبل .
في الأسفل , لاحظا الوهج الناعم الذي راح يزحف نحو الوادي .
في البدء , كان باهتاً , ثم راح يزداد قوة . بدا الضوء سحرياً , وكأنه من
عالم آخر , واستمر لدقائق معدودة مباركة . بعدئذ , تغير وأصبح أكثر
حدة وقوة , أصبح عادياً , جاهزاً ليوم عمل كبقية الأيام . ولم يبق منه
سوى الذكرى . تنهدت سيلينا تنهيدة رضا واكتفاء , تنهيدة هادئة بحيث
شعرت بها حواسه بدلاً من أن يسمعها . ثم قالت : (( هذا ما أردته . منذ
أن أخبرتني عن الضوء , و أنا أتوق لرؤيته )) .
ـ وما رأيك ؟
ـ إنه جميل كما وصفته . أجمل ما رأت عيناي يوماً .
قال : (( يمكنك أن تريه في الغد أيضاً . أمـا الآن . . . )) .
وشدها بنعومة إلى الخلف , وأخذها بين ذراعيه حيث اكتشفا نوعاً
آخر من الجمال في عناق لم يرغبا في أن ينتهي .
لطالما تخيل ليو اللحظة التي يعرف فيها سيلينا على باري , الفرس
التي أصبحت جاهزة للبيع منذ أشهر , لكن أناقتها وحيويتها منعتاه من
بيعها بانتظار الشخص المناسب . وسيلينا هي هذا الشخص المناسب .
كان يشتبه في ذلك وقد تأكدت ظنونه بعد أن شهد حبهما من النظرة
الأولى , وهو يعرف الآن الكثير عن الحب من النظرة الأولى . وخطر له
أن يقدم باري لسيلينا كهدية زفاف . وهو لم يعد يتهرب من هذه
الأفكار , فعل الرجل أن يعرف كيف يتقبل الأمر حين تنقلب حياته
رأساً على عقب بسبب امرأة .
أمضيا أيامهما في التجوال على ظهري جواديهما بين حقوله
وكرومه , وأمسياتهما في التسامر تحت ضوء القمر , ليفترقا على مضض
بعد عناق طويل يحملانه مشاعرهما التواقة كلها . وفي إحدى
الأمسيات , قال لها : (( تولي الاهتمام بالجياد , تولي الاهتمام بي , بأحدنا
أو بكلينا , كما تشائين )) .
رفعت رأسها وراحت تنظر إلى وجهه , كان ضوء القمر ينير
الشرفة , رامياً الظلال في وجهها , فلم يسمع سؤالها لشدة استغراقه
في تأملها .
همس : (( ماذا قلت ؟ )) .
ـ قلت إن الوقت حان لتنهي شرح معنى تلك الكلمة الإيطالية التي
لا تنفك تستعملها .
ابتسم لها ابتسامة حنون وقال : (( هذه الكلمة تعني أنك أغلى عندي
من العالم بأسره , فأنت حبي ومحبوبتي الوحيدة )) .
بعد أسبوع , قصدا ماريما , وهي منطقة جنون توسكانا , تقع على
الشاطئ . وهذه المنطقة معروفة غالباً باسم (( الغرب التوسكاني )) , إذ
تربي المواشي فيها بأعداد كبيرة , ولا تزال تستخدم فيها كفاءات رعاة
البقر التقليدية .

ويحتفل بكل هذا سنوياً عبر إقامة روديو , يتألف من استعراض
يخترق شوارع مدينة غروستو المجاورة كلها , وعرض يستمر طيلة بعد
الظهر . اصطحب ليو سيلينا إلى المدينة ليلتقيا المنظمين , واصفاً إنجازاتها
بتعابير حارة .
عندئذ , فاجأته سيلينا بدورها . فطيلة الطريق على المدينة , كانت
متمسكة بغرض عريض مسطح , رافضة أن يراه ليو . وتبين لاحقاً
أنها صور له وهو راكب على ظهر الثور .
قالت : (( أعرف الرجل الذي يلتقط الصور في الروديو , حتى
للأشخاص الذين لا يربحون . بحثت عنه فوجدت معه هذه الصورة
لك . تبدو رائعاً , أليس كذلك ؟ )) .
بدا مذهلاً , كان قد رفع إحدى ذراعيه في الهواء , كما رفع رأسه ,
فيما ارتسمت على وجهه ابتسامة عريضة تعكس شعوره بالسرور
والانتصار .
قال : (( لا يمكن للمرء أن يعرف أني سقطت أرضاً في اللحظة
التالية )) .
تأمل أحد المنظمين الصورة ثم سعل باحترام , وقال : (( ربما
بإمكانك يا سيدي أن تقدم عرضاً مشابهاً على ظهر الثور في هذا
الروديو )) .
فرد ليو على عجل : (( لا أظن ذلك . فلديهم في تكساس ثيران
خاص , تربى لهذه الغاية وتتميز بشراستها )) .
ـ أظن أننا لن نخيب أملك يا سيدي . لدينا هنا ثور تمكن حتى
الآن من جرح رجلين حتى الموت . . .
جاهد ليو حوالي عشر دقائق ليتخلص من هذا المأزق الذي ازداد
صعوبة بسبب ضحكة سيلينا .
قال لها وهما يخرجان : ؛؛قلت له إنك ستقدمين عرضاً لسباق
البراميل )) .
ـ جيد , لكن الأمر لن يكون مماثلاً إن لم تمتطِ أنت ذاك الثور .
ـ أغربي عن وجهي !
لم تقم عائلة ليو بالرحلة من قبل . لكنهم قادمون هذه السن
وبقوة , لأن الأخبار الجديدة وصلتهم , وهي أن ليو الذي يحب
السيدات الممتلئات الجسم , وقع (( ضحية )) امرأة بارزة العظام , ذات
قامة نحيلة ورأس أشبه بكتلة نار .
وهكذا , قرر غالبية أفراد أسرة كالـﭭـاني أن يتوجهوا إلى المزرعة
لقضاء الليل قبل التوجه إلى غروستو . لم يكن ينقص سوى ماركو .
وسيأتي الكونت والكنتيسة كالـﭭـاني , برفقة غويدو ودولسي , من
البندقية .
عندما علم ليو بما يخططون له وبأن مشاريعهم جاري على قدم
وساق , أدرك أن يوم الاعتراف لا يمكن أن يؤجل أكثر . عليه أن
يعترف قريباً لسيلينا بكل ما أخفاه عنها , من ثروته التي تستحق
الشجب إلى ارتباط اسمه الفظيع بلقب . ويبقى أن ينتظر ليرى أي من
الخبرين سيروعها أكثر .
وفيما كان لا يزال يحاول أن يتطرق إلى الموضوع , باغتته
الأحداث . فقد دخلت سيلينا إلى مكتبه في أحد الأيام بحثاُ عنه : (( ليو ,
هل أنت هنـا ؟ )) .
دفعت الباب لتفتحه أكثر . لم تجد أثراً لليو لكنها استطاعت أن
تسمع صوته آتياً من الممر الخلفي , فدخلت إلى الغرفة لتنتظره . عندئذ ,
لفت نظرها شيء ما . رأت العديد من الصور على المكتب , فدفعتها
حشريتها إلى التقدم والنظر إليها . ما رأته جعلها تعبس في البدء , ثم
راحت تحدق بارتباك .
إنها صور زواج , ما ذكرها بأن ليو حضر مؤخراً زواج شقيقه
غويدو . ها هما العريس والعروس التي بدت رائعة في الثوب البيض
المخرم , فيما بدا وجه العريس خطراً وفاتناً . وإلى جانبيها , وقف ليو ,
وقد تأنق كما لم تره من قبل , يا لها من أناقة . إنها ثياب مكلفة , ومع
قبعة على رأسه ! وماذا في ذلك ؟ جميع الناس يتأنقون في الأعراس .
لكن خلفية الصورة لا يمكن تجاهلها . ثريات , صور قديمة , مرايا
ذات أطر مذهبة . كانت الثياب ملائمة بامتياز , وهذا ما لا تفعله
الثياب المستأجرة . كما تبدو على هؤلاء الأشخاص الثقة الرهيبة التي
تترافق مع المال و المركز الرفيع .

شعور غريب , أشبه بالرعب , بدأ يسيطر على معدتها , ويهدد
باكتساحها .
ـ لقد وصلت للتو .
كان ليو واقفاً عند العتبة , يبتسم لها بطريقة يمكن أن تجعلها تنسى
أي شيء آخر . قال لها وهو يتقدم ليأخذ الصور : (( دعيني أعرفك إلى
عائلتي . هذا أخي غويدو ودولسي . هذان الشخصان التافهان هنا هما
والدها وشقيقها , و إن لم أرهما مجدداً فهذا أفضل . وهذا قريبي ماركو
وخطيبته هارييت . وهذا الرجل عمي فرانشيسكو وزوجته ليزا )) .
ـ ما هذا المكان خلفكم جميعاً ؟ هل استأجرتم قاعة البلدية أو شيئاً
من هذا القبيل ؟
فقال بنبرة متقطعة : (( لا . . . إنه منزل عمي )) .
ـ هذا ؟ أيعيش هناك ؟ إنه أشبه بالقصر .
أصبحت نبرة ليو أكثر تقطعاً : (( أفترض . . أن هذا هو ما عليه . .
في الواقع )) .
ـ ماذا تعني ؟
ـ يُدعى قصر كالـﭭـاني ويقع على القناة الكبرى في البندقية .
ـ عمك يعيش في قص ؟ هل هو من الأسرة المالكة ؟
ـ لا , لا , ليس إلى هذا الحد . إنه مجرد كونت .
ـ لم أسمع ما قلته . فقد غمغمت الكلمة الأخيرة .
فكرر ليو رغماً عنه : (( إنه كونت )) .
حملقت فيه : (( أنت قريب كونت حقيقي ؟ )) .
فأكد لها ما قاله كرجل يحاول أن يجد ظروفاً مخففة لجريمة ما :
(( نعم , إنما من الجهة الخاطئة )) .
اتهمته : (( لكنهم يعرفونك , أليس كذلك ؟ أنت فرد من الأسرة )) .
تنهد و أقر بذلك : (( أبي كان شقيق العم فرانشيسكو . ولو أن
زواجه من أمي قانوني , لكنت . . . حسناً . . . الوريث )) .
عندئذ , التفتت إليه وعلى وجهها نظرة رعب . لكن ليو استرضاها
بقوله : (( لكن الزواج لم يكن قانونياً . وبالتالي , لست الوريث . إنها
مشكلة غويدو وليست مشكلتي , وهو غاضب مني لهذا السبب , وكأن
الذنب ذنبي , فهو لا يريد هذا اللقب بقدر ما لا أرغب فيه أنا . كل ما
أردته يوماً هو هذه المزرعة والحياة التي أعيشها هنا . يجب أن تصدقيني
سيلينا )) .
ـ أعطني سبباً واحداً يجعلني أصدق كلمة مما تقوله .
ـ هيا , أنـا لم أكذب عليك يوماً .
ـ كما لم تخبرني الحقيقة يوماً .
ـ حسناً , هل أخبرتني قصة حياتك كلها منذ البدء ؟
ـ نعم .
لقد نالت منه في هذه النقطة , فقرر أن يعدل أسلوبه , فقال : (( أنت
لا تتصرفين بشك منطقي . لو كنت فقيراً , فكيف كنت لأتعرف إلى
بارتون وأذهب لزيارته ؟ )) .
ـ لقد أخبرتني أنك بعته بعض الجياد . كما يمكنك أن تشتري
تذكرة سفر بسعر زهيد في هذه الأيام . وثمة شيء آخر . . . هذا المنزل ,
هؤلاء الناس , وهذه الأرض . . . عندما تكلمت عن المكان , ظننت
أنك تستأجر قطعة أرض صغيرة في مكان ناءٍ , لكنك تمتلك كل هذا ,
أليس كذلك ؟
ـ لم أدعِ يوماً خلاف ذلك .

ـ وكم تملك ؟ أنت المالك , أليس كذلك ؟ ليس هنا وحسب , بل
في القرية ونصف المسافة إلى فلورنسيا أيضاً , على حد علمي .
فاعترف ببؤس : (( بل أكثر من ذلك , في الواقع )) .
ـ يمكنك أن تشتري بارتون , أليس كذلك ؟
هز كتفيه باستسلام : (( لا أعلم , عل الأرجح )) .
ـ ظننت أنك مجرد فتى من الريف . . . تركتني أظن ذلك . لكنك
ملك من ملوك المال .
ـ أنا فتى ريفي .
ـ أنت ملك ريفي , هذا ما أنت عليه .
بدت شاحبة من شدة صدمتها .
ـ ليو , كن صادقاً معي لأول مرة منذ تعارفنا . أنت بالغ الثراء
أليس كذلك ؟
ـ تباً سيلينا , هل ستتزوجيني من أجل مالي وحسب ؟
ـ لن أتزوجك على الإطلاق , لقد توهمت . . .
ـ لم أتقصد ذلك , وأنت تعرفين هذا .
ـ كل ما قلته لك , عن أصحاب الملايين وعن أنهم ليسوا
أشخاصاً حقيقيين . . .
ـ حسناً , تعلمين الآن أنك كنت مخطئة .
ـ بالطبع أعلم ! أظنك أثبت أني كنت محقه في ما يتعلق بالأسوأ .
ما كنت لأعتقد أن بإمكانك أن تفعل هذا بي !
قال مناشداً فضاء الغرفة : (( ماذا فعلت ؟ هلا قلتم لي ماذا
فعلت ؟ )).
ـ ادعيت أنك شيء , في حين أنك شيء آخر .
فصاح بصوت عالٍ : (( بالطبع فعلت . ما كنت لأخاطر بفقدانك .
أتظنين أني لا أعلم ؟ بالطبع , أعلم . ما إن التقينا حتى عرفت أنك
امرأة غير منطقية , غريبة الأطوار , وتفتقرين إلى الحس السليم . لم أشأ
أن أخيفك فترحلي ؛ لذا , لعبت بحسب قواعدك و شروطك . حتى
إني لم أتمكن من أن أخبرك أني قمت . . . )) .
توقف عن الكلام قد وصل إلى حافة الهاوية .
ـ تخبرني أنك قمت بماذا ؟
ـ نسيت .
لكن , عندما التقت عيونهما أدرك أن من الأسهل أن يُعلق
كالخروف المعد للسلخ .
ـ حسناً , الشاحنة , ومقطورة الجياد . . . مني .
ـ أنت . . . اشتريت الشاحنة . . . ومقطورة الجياد ؟
ـ وجيبرز . . . سيلينا , كان خبراء شركة التأمين ليسخروا منك .
كنت تعلمين ذلك . إنها الطريقة الوحيدة لتتمكني من السفر مجدداً .
أملت ألا تكتشفي ذلك , أو على الأقل ألا تغضبي مني كثيراً إذا ما
عرفته .
راح يتأمل وجهها , وهو بالكاد يجرؤ على تصديق ما يراه .
ـ لِمَ تضحكين ؟
قهقهت : (( تعني . . . أنك كنت المعجزة ؟ وليس بارتون ؟ )) .
ـ نعم , أنا وليس بارتون .
ـ لا عجب في انك بدوت غاضباً للغاية عندما قلت ذلك .
فاعترف ليو : (( كنت لأقتله . أردت أن أخبرك الحقيقة لكني لم
أستطع , لأني علمت أنك لن ترغبي في أن تديني لي . لذا , فكرت في
طريقة أخرى . يمكننا أن نتزوج , فتصبح هذه الأشياء هدية زفافنا ,
وتعود الأمور إلى نصابها )) .

حملقت فيه : (( أنت جاد , أليس كذلك ؟ )) .
ـ حسناً , بحسب رأيي , إذا ما تزوجتني , فكل هذا المال المثير
للاشمئزاز سيصبح لك . عندئذ , ستضطرين للسكوت عنه .
فكرت في كلامه ثم قالت : (( حسناً اتفقنا )) .
حينذاك , لم تقل له إنها تحبه , قالتها لاحقاً تلك الليلة بعد أن
عانقها , مطلقاً العنان لمشاعره الجامحة , وبعد أن تركها لتخلد إلى
النوم . ولم يسمع همسها وكلماتها سوى وسادتها التي أخفت السر على
غرارها .
و في أمسية أخرى , أحضر طبقاً من الفواكه وجلسا يأكلان
ويتحدثان , وسألته : (( كيف حصل أن عائلتك تملك أراضٍ هنا ؟ إذا
كنتم من نبلاء البندقية , فماذا تفعلون في توسكانا ؟ )) .
ـ كيف يمكنك أن تسألي ؟ الكل يعرف أن الأرستقراطيين الملاعين
يصادرون الأراضي أينما استطاعوا . وبهذه الطريق , نبقى مسيطرين
على رقاب الفقراء .

ـ آه , أنت مضحك للغاية ! ماذا تفعلون هنا ؟
ـ جدي , الكونت أنجلو , وقع في حب امرأة من توسكانا , تدعى
ماريا رينوتشي . وهذا . . .
وأشار إلى الوادي مضيفاً : (( . . . كان مهرها , بما أن عليه أن
يورث ملكيته في البندقية لابنه البكر ووريثه . . . وهو عمي
فرانشيسكو . أما الأراضي هنا فاستخدمت لتأمين إرث لأخوي
فرانشيسكو الصغيرين , برتراندو وسيلفيو . أخذ سيلفيو نصيبه نقداً
وتزوج من ابنة مصرفي في روما . ابنهما هو ماركو , لكنك لن تلتقيه في
الأسبوع القادم لأن مشكلة وقعت بينه وبين خطيبته الإنكليزية ,
هارييت . لقد عادت إلى إنكلترا فتبعها إلى هناك , ليحاول استرضاءها .
وأرجو أن يعيدها ليحضرا معاً زفافنا )) .
داعب وجهها , محاولاً أن يلهيها بفكرة زواجهما . تقبلت مداعبته
وعانقته بحماس , لكنه لم يتمكن من إلهائها , إذ أصرت : (( ومن ثم ؟ )) .
ـ أحب برتواندو العيش في الريف , فأتى إلى هنا وتزوج من أرملة
تدعى أليسا , التي أصبحت والدتي . وقد توفيت بعد ولادتي بفترة
قصيرة , فتزوج مجدداً من دونا , والدة غويدو . لكن تبين لاحقاً أن
والدي لم يسجل زواجها الأول في الدوائر الرسمية المختصة لأن أمي
كانت لا تزال متزوجة من زوجها الأول . وبالتالي , ام أكن أنا من
حصل على اللقب وإنما أخي , لأن الأوان على تصحيح وضع زواجها
من والدي قد فات . وتقايضنا أنا وغويدو الإرث نوعاً ما . ولا يمكن
أن أقول لك كم يسرني أننا فعلنا . وإلا , فأنـا و أنت . . .
ـ لا . . .
قالت هذا كما توقع , ثم أضافت : (( ما كنت لأتزوجك لو كنت
تحمل لقباً , فهذا مخالف لمبادئي , وفضلاً عن ذلك . . . على أي حال ,
لا يهم . لكن عائلتك ما كانت لتتقبلني ككونتيسة )) .
ـ أنت لا تعرفين شيئاً عنهم . إنسي الأفكـار المسبقة التي تحملينها
في رأسك . نحن لا نأكل في أطباق من ذهب . . .
ـ يا للعار ! كنت أتشوق لذلك .
ـ هلا صمت وتركتني أكمل حديثي ؟ و لا تنظري إلي بهذه الطريقة
وإلا نسيت ما سأقوله .
ـ حسناً , ثمة أمور مثيرة للاهتمام يمكننا أن نقوم بها بدلاً من . . .
فقال وهو يمسك بأصابعها التي حامت على وجهه : (( عندما أنهي
حديثي , عائلتي ليست كما تظنين . كل ما سيهمهم هو أننا نحب بعضنا
البعض . لقد تزوج غويدو ودولسي مؤخراً بعد قصة حب جمعتهما ,

وكذلك فعل عمي فرانشيسكو الذي انتظر أربعين عاماً حتى وافقت
المرأة التي يحبها على الزواج به , ورفض الزواج من امرأة أخرى . كان
لديها بعض الأفكار الغريبة , وكان هــو رجلاً صبوراً , لكني لست مثله .
وإذا خطر لك أني سأنتظر أربعين عاماً لتدركي ما عليك فعله , فأنت
مجنونة . والآن , كنت تتحدثين عن أمور أكثر إثارة للاهتمام . . . )) .

* * *
نهاية الفصل(( الثامن)) . . .

Just Faith 28-09-17 04:38 PM

9 ـ
لن يفهمني !


حاولت سيلينا أن تأخذ الأمور ببساطة , لكن فكرة لقاء أسرة ليو
جعلها تشعر بالتوتر ولم تستطع أن تسترخي . لقد قال إن رأسها مليء
بالأفكـار المسبقة , وهذا صحيح جزئياً . كان خوفها كله مركزاً على
فكرة الإتيان بتصرف أو النطق بكلمة قد تحرج ليو وتجعلهم يرمقونها
بنظرات جليدية . إنها تفضل أن تركب ثوراً على أن تخاطر بأن تبدو
حمقاء أمامهم .

وقبيل الموعد بأيام قليلة , تغير المنزل رأساً على عقب . فقد بدل ليو
وسيلينا غرفتيهما , وانسحبا إلى غرفتين أصغر حجماً في الجهة الخلفية
من المنزل , لكي يتمكن عمه وزوجته من الحصول على أفضل غرفة ,
فيما ينزل غويدو و دولسي في الغرفة المجاورة .
وراحت سيلينا تحدق مدهوشة إلى جينا وهي تحضر المنزل
للاحتفال , بمساعدة خادمتين وطاهٍ وفتاتين إضافيتين من القرية . كما
أثار أعصابها أن يقوم بخدمتها عدد من الخدم .
قال ليو : (( حسناً , أنت سيدة المنزل الآن , يمكنك أن تصرفي
العديد منهم . اجعلي البيت بيئتك فعلياً )) .
فسألته محبطة : (( أحقـاً ؟ )) .
وكانت عينا ليو مليئتين بمرح شرير و هو يقترح : (( كما يمكنك أن
تتولي مهام الطبخ )) .
ـ وهل تذوقت يوماً طهوي ؟

ـ أكلت منذ بضعة أيام سندويشاً أعددته , وما زلت أستيقظ ليلاً
بسببه . دعيهم يقومون بعملهم يا عزيزتي , واهتمي أنت بعملك , وهو
الجياد .
كانت قد بدأت فعلياً بإدارة هذه الناحية من الأعمال , فالأمور
أسهل مع الجياد إذ أنك تعلم ما هو متوقع منك . عملها هذا جعلها
تفكر في أليوت , فتملكها شعور بالحنين إلى الوطن . كان أليوت
صديقها الوفي الذي عاش معها في ظروفها الصعبة , والذي قد لا تراه
مجدداً .

بعد نوبة الحنين الأولى , وجدت أن هذا الشعور قد يباغت المرء في
أي لحظة ومن دون سابق إنذار . فخامة المنزل المطلقة بعد أن انتهت
جينا من تغييره , تركت في فسها الأثر نفسه , إذ جعلتها تفكر في
شاحنتها الصغيرة التي تجر خلفها مقطورة , وفي أليوت وفي نفسها وهما
يطاردان الآفاق البعيد مع مال بالكاد يكفي ليصلا إلى المحطة التالية ,
ثم يتكلان على بعضهما البعض ليربحا بعض المال للمرحلة التالية . ثمة
آفاق بعيدة هنا , هذا ما خطر لها وهي تتأمل تلال توسكانا , لكنها
بدت لها الآن خالية من المتعة بعد أن عرفت أنها ملك ليو , وبالتالي
ملكها , فما من ألغاو وأسرار في أفق تملكه , و ما من إثارة أيضاً . لكنها
دفعت هذه الأفكار جانباً . كانت تعلم أن هذه الزيارة مهمة لليو .

ومهما قال لينتقص من خلفيته الأرستقراطية , فهؤلاء الأشخاص هم
العائلة التي يحب , وهي تشك في أنه يشاركهم قيمهم أكثر مما يدرك .
هذه الفكرة جعلته يبدو بعيداً بعض الشيء .
مع اقتراب اليوم المنشود , راحت معنوياتها تضعف وازداد
ارتباكها بحيث إنها لم تبدِ أي معارضة حين اقترح عليها ليو أن تشتري
بعض الفساتين . اختارت أثواباً غير ملفتة قدر الإمكان لأنـها لم تعد
واثقة من نفسها , ولم تشأ أن تلفت الأنظـار إليها .

قرر الكونت فرانشيسكو كالـﭭـاني أن يقطع المسافة من البندقية إلى
المزرعة في سيارته الليموزين الخاصة , لأنه شعر أنها ستكون مريحة أكثر
لحبيبته ليزا التي لا تحب السفر في القطار . وسافر غويدو ودولسي في
سيارتهما الرياضية الأنيقة . توقفا في فلورنسيا لتناول الغداء , فوصلا
إلى بيللا بودينا في وقت متأخر من بعد الظهر . لقد انطلقا قبل الكونت
ووصلا إلى مقصدهما قبله . قال غويدو وهو يصافح سيلينا : (( لم نعد
قادرين على الانتظار لنلقاك )) .
أحبته على الفور , لم يكن يشبه أخاه , لكن عينيه تلمعان بالمرح
نفسه . ولعل الوميض في عيني ليو أكثر دفئاً فيما هو أكثر عبثاً في عيني
غويدو .

كانت دولسي نحيفة بقدر سيلينا نفسها , لكنها تتميز بشعر طويل
أشقر متموج , حسدتها عليه سيلينا في سرها . احتضنتها المرأة , وقالت
بشوق كم يسرها أن يصبح لديها أخت جديدة قريباً . وبدأت سيلينا
تسترخي . . .
وبعد دقائق قليلة , اجتمعوا في الخــارج لاستقبال الكونت
و الكونتيسة كالـﭭـاني . انزلقت السيارة اللماعة السوداء حتى توقفت
تماماً , ثم خرج منها السائق وعمد إلى فتح أحد أبوابها , ترجلت منها
امرأة صغيرة البنية , ذات وجه نحيل وعينين مخيفتين . ساور سيلينا
شعور غريب بأنها كانت متوترة للغاية وهي تتأمل ما حولها .
وفكرت في أنها تنظر بازدراء لأنها وجدت نفسها في مزرعة ,
وهي التي اعتادت أن تعيش في قصر . . . ثم رأت الكونت يترجل من
جهته ويبتسم لزوجته التي بادلته الابتسام ووضعت يدها على ذراعه .
دخلا المنزل معاً وتم التعارف .

كان الكونت كالـﭭـاني يتمتع بسحر العائلة الموروث . صافح سيلينا
وكأنها ابنة طال غيابها , وراح يحدثها بإنكليزية ممتازة . ابتسمت ليزا
لها وصافحتها , ثم ألقت خطاب ترحيب قصيراً و رسمياً , توجب ترجمته
إلى الإنكليزية . شكرتها سيلينا بتعابير متكلفة أيضاً , تعابير ترجمها
الكونت إلى الإيطالية .

وبصفتها سيدة المنزل , رافقت سيلينا ليزا إلى غرفتها , وشكرت
دولسي التي رافقتهما وترجمت لهما . وأخيراً , فرت شاكرة الرب على
خلاصها الرحيم , وتملكها شعور رهيب بأن رد فعل الكونتيسة مماثل
لرد فعلها .
بدا ثوبها مزرياً إلى جانب أناقة الكونتيسة الهادئة وجمال دولسي
المتوهج . وعندما سحبتها جينا إلى غرفة الطعام لتلقي نظرة على الطاولة
الأنيقة , رغبت في أن تختفي عن الأنظار لاقتناعها بأن جينا تعرف أن
العشاء الأنيق سر ولغز بالنسبة إليها , وأنها تستخف بها لهذا السبب .
قال بيأس : (( عظيم , الطاولة تبدو رائعة يا جينا )) .
ـ الطعام جاهز سيدتي .

ـ في هذه الحالة . . . أفترض أن علي أن أدعوهم للدخول .
قامت بذلك عبر إعلام ليو الذي أعلن الأمر بنفسه . علمت أن
عليها أن تقوم بذلك بنفسها , لكنها تفضل أن تمتطي ثوراً على أن تقف
أمام هذا الجمع وتدعوهم إلى غرفة طعامها . وبدأت تتساءل عن موعد
الرحلات إلى تكساس .
تحسنت الأمور بعض الشيء حين وجدت نفسها تتحدث إلى
دولسي . تبادلت المرأتان القصص عن (( الحياة قبل لقاء احد أفراد أسرة
كالـﭭـاني )) , على حد تعبير دولسي , التي أثارتها خلفية سيلينا . وقالت
بتوق : (( لطالما أحببت أفلام الغرب الأميركي . أكنت تقومين بأعمال
الغرب الحقيقية فعلاً ؟ كاستخدام الحبال وامتطاء الجياد وما شابه ؟ )) .
ـ أنا أمتطي الجياد . لكنني لا أستخدم الحبال . . . إلا أنني
أستطيع ذلك . فقد علمني أحد الشبان , وقال إني أجيد ذلك .

ـ هل ستقدمين عرضاً بالحبال غداً في غروستو ؟
هزت سيلينا رأسها وردت : (( النساء لا يقدمن عروضاً بالحبال في
الروديو , بل يشاركن في ساق البراميل )) .
كانت عينا دولسي تلمعان وهي تقول : (( أتظنين أن منظمي الروديو
في غروستو يعلمون ذلك ؟ )) .
كشرت سيلينا وقالت بتقدير : (( أنت خطيرة )) .
فأومــأت دولسي برأسها .
ومن الجهة الأخرى من الطاولة , راح غويدو وليو يراقبان
شريكتيهما برضا . وعلق غويدو : (( نحن نفعل ذلك دوماً )) .
فسأله أخوه : (( ماذا نفعل ؟ )) .

ـ يقول العم فرانشيسكو إن أفراد أسرة كالـﭭـاني يختارون الأفضل
دوماً : أفضل طعام , أفضل شراب , وأفضل النساء . لقد أحسنا
الاختيار , يا أخي , كلانا .
كانت الوجبة رائعة , هنا الكونت طاهي ليو وأصبح الجو ممتازاً .
واستمر هذا الجو حتى أثير موضوع الزفاف , فأعلن الكونت على الفور
أنه سيُعقد بالطبع في كاتدارئية القديس مارك في البندقية .
قال ليو : (( رأينا وسيلينا أن كنيسة الأبرشية في مورنزا تناسبنا )) .
ـ الأبرشية . . . ؟
بدا وكـأن الكونت لا يجد الكلمات المناسبة . لكنه عاد وسأل
باستهجان : (( أحد أفراد أسرة كالـﭭاني يتزوج في قرية ؟ )) .
فرد ليو بثبات : (( هذا موطننا , وهذا ما نريده أنـا وسيلينا )) .
ـ لكن . . .
كن ليجادل أكثر , لكن الكونتيسة وضعت يدها على ذراعه وقالت
شيئاً لم تفهم سيلينا منه سوى اسمها .
قال يسترضيها : (( حسناً , حسناً , لن أضيف أكثر )) .

وغطى يد زوجته براحته وأجابها باللغة نفسها التي استخدمتها .
لا يحتاج المرء لأن يكون نابغة ليعرف ما قالاه , هذا ما رأته
سيلينا . فالكونتيسة لا ترى ضرورة لهذا الهرج والمرج حول الموضوع .
وكاتدرائية القديس مارك أهم وأفخم من أنت تتزوج فيها سيلينا
غايتس , وقد وافقها الكونت الرأي .
ولحسن الحظ , رغب الجميع في الخلود إلى النوم باكراً , استعداداً
لمسرات اليوم التالي . وقد اعتادت سيلينا أن تنام بسهولة , لكنها بقيت
الليلة مستلقية في فراشها لساعات وقد جفاها النوم , تتساءل عما تفعله
هنا .

عند الصباح , غادروا المنزل باكراً وتوجهوا إلى غروستو , لتتمركز
العائلة في غرفة الفندق التي حجزها لهم ليو , والتي تشرف على
الاستعراض . أما ليو وسيلينا , فتوجها مباشرة إلى نقطة انطلاق
المركب . كانا اليوم مجهزين بأفضل ما وجداه عند داليا , قميصا رعاة
بقر مقفلان حتى العنق , حذاءان ملونان وحزامان بإبزيم فضي . وعندما
ثبت ليو القبعة الطويلة بشكل زاوية على رأسه , واعتمرت سيلينا قبعتها
بأناقة , أصبحا جاهزين للمشاركة في الاستعراض .
بعد الاستعراض , انتقل الجميع إل حقل مجاور حيث ستجرى
المسابقات بعد الظهر . وأول المسابقات , كانت ركوب الجياد غير
المروضة , وقد شارك ليو فيها , وجاءت نتيجته مشرفة وإن لم يربح .
بعدئذ , وُضعت البراميل , وتعالى صوت عبر المكبرات يخبر الحشود عن
إنجازات سيلينا , و يشير إلى أنها ستقطع الجولة في أربع عشرة ثانية كحد
أقصى .

شكل هذا الأمر تحدياً حقيقياً لها , إذ وُضعت البراميل بعيدة عن
بعضها البعض , كما أن باري تفتقر إلى الخبرة و التمرين . أعطى الاثنان
أفضل ما عندهما , وسجلا أرع عشرة ثانية ونصف , لكن هذا لم يمنع
المعلق من أن يصرخ (( أربع عشرة ثانية )) فور انتهائها . وقد سلم
الجمهور السعيد بصحة كلامه .

إذا ما ظنت سيلينا أن اليوم انتهى , فقد أخطأت , إذ إن الصدمة
كانت بانتظارها لاحقاً . المسابقة التالية هي مسابقة إمساك العجل
بواسطة الحبال , وقد سجل شخص مؤذٍ و شرير اسمها للمشاركة في هذه
المسابقة . وقد أقسم غويدو إنه ليس الفاعل . إلا أنها تمكنت , على غرار
ليو , من أن تشارك بشكل مشرف , لم تفقد معه ماء الوجه , وانتهت
فترة بعد الظهر في جو صاخب ومرح . هللت لها أسرة كالـﭭاني طويلاً ,
باستثناء الكونتيسة التي صفقت لها , إنما بهدوء , وتركت سيلينا تتساءل
عما تفكر فيه حقاً . وخطر لها أن الكونتيسة تقول في سرها إنها متهورة ,
لا تتصرف كسيدة ولا يمكن تغييرها .

انتشرت في المكان عشرات المنصات التي تبيع الأطباق والأطعمة
المحلية , فتناول الكل الطعام بحرية بما في ذلك الكونتيسة التي أكلت
بنهم واستمتاع . وشرح لها ليو : (( إنها من هذه الأنحاء , ولا تتاح لها
غالباً فرصة تناول الطعام التوسكاني )) .
وقالت لها دولسي لاحقاً فيما كانوا يشربون القهوة : (( أتعلمين ,
أنت كما توقعت تماماً )) .
نظرت إليها سيلينا بدهشة : (( أكنت تعلمين بشأني ؟ )) .
ـ عندما عاد ليو من تكساس , لم يكن بإمكانه أن يتكلم سوى
عنك . أخبرنا كيف التقاك , وأنك رائعة وأنه فقد رقم هاتفك . كاد
يجن . ولو لم تأتي إلى هنا , لسافر بحثاً عنك , وأنا واثقة من ذلك .
رفعت سيلينا نظرها لتجد أن عيني ليو عليهما , وكان يبتسم
ابتسامة عريضة محرجاً , لكن طبيعته الطبية متعته من الاعتراض على
سخريتهما منه . وقال لسيلينا : (( بت تعرفين الآن ! )) .
سخرت منه : (( هيا الآن , على أي حال , كنت أعلم . لطالما
علمت أنك لا تستطيع مقاومة سحري )) .
وضع يداً حنوناً حول كتفيها , وقال متأملاً : (( من جهة أخرى ,
أنت التي جئت إلي هنا بحثاً عني )) .

ـ لم آتِ بحثاً عنك , بل جئت من أجل الروديو .
فقال : (( حسناً , لقد انتهى الروديو الآن ويمكنك أن تعودي إلى
ديارك )) .
لكن ذراعيه اشتدت حول كتفيها فيما كان يتكلم . وكان الآخرون
يراقبونهما مبتسمين . قالت له بتحد : (( سأرحل إذن )) .
اشتدت ذراعه : (( حسناً , إرحلي )) .
ـ ســأرحل .
ـ حسنـاً .
ـ حسنـاً .
فقال غويدو بسخط : (( هيا , كفا عن ذلك وتعانقا )) .
بعدئذ , سهروا حتى وقت متأخر , غير راغبين في ترك هذه المناسبة
السعيدة تنتهي .
وفي الصباح التالي , تفرقوا بعد أن تواعدوا على اللقاء قريباً ,
عندما يعقد ليو و سيلينا العزم على الزواج . حتى إن الكونتيسة ابتسمت
وقبلت وجنة سيلينا , ما جعلها تشعر بأنها كانت قلقة من دون داعٍ .
وقفت هي وليو , متشابكي الذراعين , حتى اختفت آخر سيارة عن
الأنظار . بعدئذ , عادا مسرعين إلى عملهما .

كان موسم الحصاد قد حل الآن . وكان على ليو أن يهتم بقاف
العنب والزيتون ؛ لذا لن يتسنى لهما أن يتزوجا حتى ينهي عمله هذا .
أصبحت سيلينا مأخوذة بهذا الجانب من حياتهما , فراحت تمضي
ساعات طويلة على سرج جوادها تجول في الأراضي معه . كانا يعودان
إلى المنزل كل مساء , مرهقين إنما راضيين وقانعين بما تثمر به
الأراضي . وخف قلقها وتململها تدريجياً . ما من شيء تقلق بشأنه ,
ويمكن لهذه الحياة السعيدة أن تستمر إلى الأبد .
وفي الصباح أحد الأيام , أتى الاتصال الهاتفي من العدم . خرجت
سيلينا من غرفتها بعد أن استحمت لتجد ليو متضايقاً .
ـ اتصل العم فرانشيسكو للتو , وهو يريدنا أن نترك كل شيء وأن
نتوجه إلى البندقية على الفور , في هذه اللحظة .
ـ هل هو مجنون . نحن عل وشك أن نبدأ بجمع غلة العنب .
ـ هذا ما قلته له . قال إن الأمر طارئ .
ـ أتظن أنه يريد فتح موضوع الزفاف مجدداً ؟
ـ أرجو ألا يكون هذا سبب استدعائه لنا . قلت له مراراً وتكراراً
إننا سنتزوج في مورانزا , وهذا قرار نهائي , إذا ما جرنا إلى البندقية
ليناقش الموضوع مجدداً , فسوف . . .
وراح يبحث عن كلمات يمكن لطبعه المحب أن يتلفظها , ثم
أضاف : (( فسأقول له إنه ما كان عليه أن يفعل ذلك )) ,
ـ إذن , سنذهب ؟

ـ بل سنذهب , علي أن أتحدث إلى رينزو ومن ثم ســأخرج السيارة .
وتنهد قبل أن يردف : (( لمَ لم يقل لي ما حدث على الأقل ؟ حسناً ,
كلما أبكرنا في الوصول كلما عرفنا أسرع ما يحصل , وكلما تمكنا من
العودة باكراً )) .
سألته سيلينا مع اقرابهما من المدينة : (( إذا كانت شوارع البندقية
من ماء , فأين سنركن السيارة ؟ )) .
ـ ثمة ممر يمتد من البر الرئيسي إلى البندقية , ويمر فوق البحيرة
الضحلة . وعند الوصول إلى البندقية , ثمة محطة تدعى بيازا لا روما ,
حيث يمكننا أن نترك السيارة ونستقل المركب لنقطع المسافة المتبقية .
ـ سنستقل الغندول ؟
ـ لا , فهذه المراكب ليست كسيارات الأجرة . إنها تقوم بجولات
للسياح في المدينة. سيرسل لنا عمي مركبه .

لكن , عند وصولهما كانت بانتظارهما مفاجأة , إذ وجدا غويدو
هناك يرحب بهما , وقد حضر لهما غندولاً وليس مركباً عادياً .
هناك ليو مكشراً : (( نسيت أنك تظن نفسك سائق غندول )) .
وأضاف موجهاً كلامه إلى سيلينا : (( الغويدو بعض الأصدقاء من
أصحاب الغندولات , فيستعير مراكبهم عندما يحلو له ذلك , وهو يرى
الكدح الشريف بهذه الطريقة )) .
قال لها غويدو وهو يساعدها على الركوب : (( تجاهليه )) .
حمل حقائبهما , ثم التفت إلى ليو وأشار إلى المركب بانحناءة
مسرحية : (( سيدي )) .
فقال ليو مكشراً : (( أنت تخطط لشيء ما يا أخي الصغير )) .
ـ من , أنــا ؟
ـ لا ترمقني بهذه النظرة البريئة , فأنت تبدو دوماً بريئاً عندما تقوم
بعمل ما يجعل الكل يعبس . أتعرف شيئاً لا أعرفه ؟
مازحه غويدو : (( ما أعرفه أنا ولا تعرفه يمكن أن يملأ كتاباً . لكن
لا تلمني في ذلك , فهذه هي الحياة , وهذا هو القدر )) .

وانطلق , فتحول انتباه سيلينا عنهما لبعض الوقت ليرتكز على أول
رحلة لها في الغندول وأول زيارة لها إلى البندقية . بدا لها أنهم وصلوا سريعاً
إلى القناة الكبرى , الطريق الرئيسي العريض الذي يمر وسط المدينة .
قال ليو . وهو يشير إلى مبنى إلى يمينهم : (( هنا يعيش عمي )) .
كان قصر كالـﭭاني مبنى ضخماً , زُينت واجهته بزخرفات حجرية
أشبه بالمخرمات , وتكاد تخفي حجمه . وأدركت سيلنا أنه قصــر
حقيقي , فالثقة و الجمال ينضحان منه على حد سواء . لا بد أنه كان
مسكناً للوردات عظام على امتداد قرون , وعظمته لا تذعن وتنحني
لأي رجل . ومع أنها استطاعت أن تقدر الجمال و الثقة , لكنها شعرت
في الوقت عينه بسرور عميق لأنها ليست مضطرة إلى العيش فيه .
وتعاظم إعجاباً عند وصولهم إلى مرحلة الرسو حيث سارع الخدم إلى
مساعدتهم , إذ بدا وكأن المنزل الضخم , الساحر , مد يديه ليحتضنهم
أيضاً . همس ليو في أذنها : (( أعلم ما تفكرين فيه , إذ يخطر لي أحياناً أني
لن أخرج حياً من هنا )) .

جعلها كلامه تشعر بالتحسن فضحكت . إن كان شعوره مماثلاً
لشعورها , فلا بأس . واتسعت عيناها دهشة عندما رأت غرفتها , إذ
حتى الغرفة التي نزلت فيها في مزرعة فورتين لم تكن خيالية كهذه .
وهمست لليو : (( إنها كبيرة كملعب كرة مضرب , سأضيع فيها )) .
ـ لا تخافي , غرفتي في الطرف الآخر من الممر .
ورأت سيلينا ما جعلها تقفز من مكانها .
ـ ليو , من هذه وماذا تفعل بحقيبتي ؟
فقالت دولسي التي ظهرت فجأة خلفهما : (( إنها خادمـة ليزا ,
وقد أرسلتها لمساعدتك )) .
ـ تعنين أنها تظن أن لا فائدة مني ؟
فقالت دولسي : (( لا تكوني حساسة بهذا الشكل ! هذا مجرد إطراء ,
لأنك ضيف مبجل )) .

وفكرت سيلينا في أن المرء يمكن أن ينظر إلى هذا الأمر بهذه
الطريقة كما يمكنه أن يعتبره إهانة مبطنة , طريقة لتقول لها الكونتيسة إنها
تعرف أنه لن يكون لها خادمة خاصة بها يوماً . هذه مشكلة هؤلاء
الناس , لا يعرف المرء كيف يفسـر كلامهم وتصرفاتهم .
اعتمدت على ليو ليدعمها , لكنها أدركت سريعاً أنه لا يفهمها
سوى جزئياً . ومهما قال عن عدم ارتياحه في هذا المكان , تبقى حقيقة
أن هذه الأسرة أسرته , وأنه يحبها . وهو يشارك أفرادها تاريخاً وأفكاراً
لا يحتاجون لحديث عنها . كانوا يدعونه (( الريفي الشديد الارتباك ))
بنبرة محبة , ساخرة نسبياً , لكنه واحد منهم كما لن تكون سيلينا . . كما
لن تكون سيلينا أبداً !
واعتباراً من تلك اللحظة , شعرت أن كل شيء يحمل معنى
مزدوجاً . عندما أتت الكونتيسة شخصياً إلى غرفتها ورافقتها إلى
الأسفل لتناول العشاء , هل كان هذا إطراء أم طريقتها في أن تقول لها
إنها أغبى من أن تجد طريقها ؟ وعندما وقف الكونت ليأخذ بيدها ,
وهمس مديحاً على أناقة ثوبها ثم قادها للطاولة , ألم يكن يشير إلى أنها
اشترت ثوبها من سوق مورنزا ؟
حسناً , لن يفلحوا في تخويفها .

أخذت نفساً عميقاً وجلست في المقعد الذي اختاروه لها , إلى يمين
الكونت . بعدئذ , أبلت بلاء حسناً . كانت تخشى أن توقع إحدى
كؤوس الكريستال الباهظة الثمن وتحطمها , لكن اللمسة الخفيفة
و الماهرة التي اكتسبتها بفضل السباقات العديدة التي خاضتها ,
ساعدتها . عليها أن تتعامل مع هذه الأغراض كما تتعامل مع أي
جواد , ببراعة تتميز بالخفة لا بالقوة .
كان الطعام رائعاً , حتى إن حساسيتها المفرطة و المرضية لم تفلح في
أن تحوله إلى إهانة . وكانت قد بدأت تسترخي حين تعالت فوضى خفيفة
من خارج غرفة الطعام . وفي اللحظة التالية , هبت أسرة كالـﭭـاني كلها
واقفة لترحب برجل وامرأة دخلا إلى الغرفة .
صرخ الكونت فرحاً : (( ماركو ! هارييت ! )).
ورأت رجلاً وسيماً , أنيقاً وطويل القامة ترافقه امرأة شابة ذات
جمال كلاسيكي .

قال الكونت : (( أملت أن تنضما إلينا )) .
وتقدم بشوق ليصافحهما . وقال ماركو : (( بالكاد تمكنا من العثور
على تذكرتي سفر . لم نكن لنفوت المناسبة العظيمة إذا ما استطعنا
المساعدة . هل . . . ؟ )) .
فقاطعه الكونت على عجل : (( لا , لا , ليس بعد . تعالا لتتعرفا إلى
الفرد الجديد في أسرتنا )) .
التفت عينا سيلينا بعيني ليو عبر الطاولة , وقد بدا الارتباك
و التشوش على كليهما . المناسبة العظيمة ؟
إذن ماركو ! القريب الذي ذكره ليو , الشخص الذي لم يظهر
يوماً مشاعره , لكنه مع ذلك سافر إلى إنكلترا , مهملاً عمله كمصرفي في
روما , بغية استرجاع المرأة التي يحب . بدت تصرفاته الآن باردة
ومتكلفة , وكأن تصرفه العاطفي الانفعالي ذاك انتهى إلى غير رجعة .
لكنها لاحظت كيف تعود عيناه دوماً تتأملا هارييت , وكأنه لا
يستطيع أن يصدق أنها معه .

لقد أحبت دولسي على الفور , ووجدت نفسها الآن تحب هارييت
التي جلست إلى جانبها و تبادلت معها أطراف الحديث بين اللقمة
و الأخرى , فيما كانت تتناول الطعام بسرعة لتدرك المرحلة التي وصلت
إليها الوجبة .
قالت : (( أنـا سعيدة للغاية لأنكمـا , أنت وليو , تمكنتما من
الاجتماع . هذا ما أملناه , أنـا و دولسي )) .
تدخلت دولسي في الحديث : (( لقد أخبرتها كم تحدث عنها )) .
فأومـأت هارييت : (( أتذكر ذلك )) .
عندئذ , قال ليو : (( في الواقع , وجدتما الأمر مسلياً للغاية أنتما
الاثنتان )) .

ثم وجه ابتسامة عريضة لهارييت وتابع : (( لكننا سنسخر من ماركو
الآن . قلا بد أنك تغلغلت في مسام جلده حتى جعلته يلحق بك إلى
لندن و يبقى هناك لأسابيع . متى ستجعلين منه رجلاً شريفاً ؟ )) .
قالت هارييت ضاحكة : (( حسناً ’ لا بد أن يحصل ذلك قريباً ,
سيعطيني المتجر كهدية زفاف )) .
ثم وجهت الكلام إلى سيلينا : (( لدي متجر لبيع القطع الأثرية ,
لكن المشكلة أني فاشلة في إدارته . لذا , يحاول ماركو أن يعلمني (( الحس
المالي السليم )) , أي أبسط القواعد المالية )) .

فسألتها سيلينا بصوت مكتوم : (( أثريات ؟ أتعنين . . . ؟ )) .
والتفتت من حولها تتام ثريات الكريستال و اللوحات الثمينة , ثم
أردفت : (( أتعنين . . . هذا النوع من الأشياء ؟ )) .
فقالت هارييت بلهفة : (( نعم . هذا المكان يثير إعجابي , فهو مليء
بالجمال و التاريخ . يمكنك قراءة تاريخ البندقية في هذا المنزل , الناس ,
المناسبات . . . )) .
لم تسمع سيلينا المزيد , فقد غمرت قلبها الكآبة وأثقلته . أملت
للحظة أن تجد في هارييت توأم روحها , أملت أن تشعر مثلها وكأنها
سمكة خارج المياه في هذا المحيط الثري , ولكن تبين لها أنها تنتمي إلى
هذا المكان , كـأي فرد من أفرد أسرة كالـﭭـاني . يمكنها أن تنسجم مع
الأسرة بسهولة وتشكل جزءاً منها , ما يظهر بوضوح أن سيلينا نفسها
تبرز بينهم كإبهام متقرح .
لكن , يبقى هناك دولسي , التحري الخاص , الفتاة العاملة التي
عرفت معنى الكفاح من أجـل كسب لقمة العيش .
عليها أن تتمسك بهذه الفكرة , لأنها أدركت أن ثمة أفكــار لا
يمكنها أن تطلع عليها ليو . فبكل بساطة , هو لن يفهمها .
وهذا أسوأ ما في الأمــر !

* * *

نهاية(( الفصل التاسع)) . . .


الساعة الآن 06:12 AM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.