شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   روايات أحلام المكتوبة (https://www.rewity.com/forum/f203/)
-   -   316-رجل الثلج -(الجزء الثاني من سلسلة لوسي غوردون) (https://www.rewity.com/forum/t391161.html)

Just Faith 28-09-17 02:16 PM

316-رجل الثلج -(الجزء الثاني من سلسلة لوسي غوردون)
 
https://upload.rewity.com/upfiles/rqF21067.png

الرواية رائعة ومنقولة للعلم ولينال كل حقه
شكرا لمن كتبها

316-رجل الثلج -(الجزء الثاني من سلسلة لوسي غوردون)
المـــلـخص :
كانت هارييت غارقة في الديون , ومتجر التحف الذي تملكه
مهدد بالإقفال النهائي في كل لحظة .
في وسط هذه المحنة جاءها عرض من المليونير الإيطالي
الرائع ماركو كالفاني لإنقاذ متجرها وتسديد ديونها
مقابل أن تصبح زوجته . فهل ستقع ضحية هذا العرض
المغري حتى لو كان ضد مبدئها الأساسي . لا زواج من دون
حب ".
إذا ذهبت مع ماركو إلى روما قد تقتنع بفكرته وتنقذ
متجرها الغالي . لكن هل بإمكانها أن تنقذه هو من ماض
يأسره ويجعله بارداً كالثلج , وهل بإمكانها أن تجد تحت
برودته تلك حبا يدفئ قلبها .
للتذكير فقط السلسلة مكونة من ثلاث روايات رائعة
الجزء الأول بعنوان
الثاني بعنوان
الثالث بعنوان
https://upload.rewity.com/upfiles/f8z12889.png




يجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفي

Just Faith 28-09-17 06:23 PM

عدد الـــفصول :

12

عناوين الـــفصول :

1 ـ خبيرة أم مشاكسة ؟

2 ـ أغسطس قيصر

3 ـ امرأة جديدة

4 ـ رقصة الحب

5 ـ رجل الثلج

6 ـ في عرين الأسد

7 ـ فخور أم غيور ؟

8 ـ منزل العاشقين

9 ـ بين ذراعيك

10 ـ أعراس البندقية

11 ـ لن أعيش بدون حب !

12 ـ كلا ! لم أندم

:::::::::::::::::::::::::::::::::::::

Just Faith 28-09-17 06:23 PM

تمهيد

أنا لست بحاجة إلى زوج , هل تفهمين هذا ؟ أنا لست بحاجة إلى

زوج . ولا أريد ذلك بكل تأكيد .

وهزت هاريـيت كتفيها بنعومة لدى تلفظها بالكلمات الأخيرة فصعقت

المرأة الأخرى لذلك وقالت ضارعة : ( إهدئي يا هارييت )).

ـ زوج ؟ يا إلهي , لقد أمضيت سبعة وعشرين عاماً من مري من دون

أن أزعج نفسي بمخلوق يسبب لي الضيق و . . .

ـ إسمعيني فقط . . . ـ

ـ وعندما أرى أختي تتوسط لي لأتزوج . . . رباه ! حتى أنت لم تتورعي

عن هذا , يا أولمبيا ؟

ـ أنا لم أتوسط للزواج . ظننت فقط أنك قد تجدين ماركو نافعاً .

صدر عن هارييت صوت أشبه بشخير ساخر : (( ما من رجل نافع )).

ـ لا بأس , لن أجادلك .

أولمبيا وهارييت أختان غير شقيقتين , إحداهما إنكليزية والأخرى

إيطالية . شعرهما الكث المائل إلى الاحمرار هو القاسم المشترك الوحيد الذي

يجمعهما , رغم أن الأخت الصغرى أولمبيا تسرح شعرها الطويل بشكل

بديع , بينما تشده هارييت إلى الخلف حول وجهها الجاد .

ملابسهما تكشف أيضاً عن تناقض مزاياهما ؛ فأزياء أولمبيا قمة في

الأناقة الإيطالية , أما هارييت فتختار من الملابس ما هو مريح وبسيط . كما

أن قوام أولمبيا رشيق مغري أما قوام هارييت فأقرب إلى النحافة .

نظرت أولمبيا حولها في ذك المتجر الأنيق في (( ويست إند )) لندن , كان

مليئاً باللوحات الفنية الرائعة والتحف الأثرية . ولفت نظرها عدد منها .

وعندما وقع بصرها على تمثال برونزي هتفت : (( ما أروعه )) . ـ

فقالت هارييت : (( إنه القيصر الروماني أغسطس من القرن الأول )) .

ـ إنه جميل حقاً !

وأخذت تتأمل التمثال عن كثب : (( أنفه رائع وتقاسيم وجهه

أرستقراطية , وفمه جميل , أراهن على أنه كان معبود النساء )) .

فقالت هارييت بحدة : (( أنت دوماً تفكرين فيهم بما يكفي , هذا شيء معيب )).

فهزت كتفيها : (( في الحياة ما هو أهم )). ـ

ـ هراء , لا شيء أهم من ذلك , يا ليتك تهتمين بالرجال الأحياء كما

تهتمين بالأموات منهم . ـ

فقالت هارييت بلهجة لاذعة : (( كنت لتوك تتغزلين برجل مات منذ

ألفي سنة . وعلى كل حال , الأموات أفضل من الأحياء . فهم لا يكذبون ولا

يمهلون أصدقاءهم . ويمكنك أن تتحدثي إليهم من دون أن يقاطعوك )).

ـ كم أنت متهكمة ! أحذرك , إن ماركو متهكم أيضاً , ولولا ذلك

لتزوج منذ زمن بعيد . ـ

ـ إنه عجوز إذاً !

ـ ماركو كالـﭭـاني في الخامسة والثلاثين من العمر , مثقل بالمسؤوليات ,

ووسيم للغاية . ـ

قالت أولمبيا هذا بحماسة , فسألتها هارييت : (( لماذا لم تتزوجيه إذن ؟

قلت إنه طلب منك الزواج أولاً )).

ـ فعل ذلك لأن أمه صديقة لجدتي وترغب بتوحيد الأسرتين .

ـ وهو يفعل ما تقوله له أمه ؟ إنه عديم الشخصية إذاً .

ـ أنت مخطئة . ماركو لا يقتنع إلا برأيه الخاص , وهو يفعل هذا لأسبابه

الخاصة أيضاً . ـ

ـ لعله غريب الأطوار !

ـ إنه يعمل في مصرف ويكرس حياته للعمل الجاد . وهو يفكر الآن في

الزواج , بعيداً عن الحب والغزل والعبث .

ـ لعله شاذ ! ـ

ـ حسب قول أصدقائي , هو ليس كذلك . بل على العكس , معروف

عنه أنه يدمر النساء , فما إن يقيم علاقة مع المرأة حتى يتركها . يبدو أن

عواطفه لا تتدخل في علاقاته , فعلاقاته بالنساء عابرة , ينهيها قبل أن تتعمق

الأمور . ـ

ـ بهذا الوصف , تجعلينه يبدو صعب المقاومة .

ـ من واجبي إطلاعك على ماله وما عليه . ماركو لا يهتم بالورود وضوء

القمر , لذا أريدك أن تفهمي الأمور بوضوح . ستكون علاقتك به اتحاداً أكثر

منها زواجاً , بما أنك أنت أيضاً فتاة جادة . . .

ـ هل ظننت أنني سأكون سعيدة بقبول الزواج بأحد الذين ترفضينهم ؟

شكراً يا أولمبيا . ـ

ـ هل لك أن تتوقفي عن هذه الحساسية ؟ لقد تكبدت كل هذا العناء

لكي أنبهك إلى أنه ربما يأتي إلى هنا الأسبوع القادم . . .

ـ وأنا شاكرة جداً لك . في الواقع , كنت أفكر في السفر ويبدو لي

الأسبوع القادم مناسباً تماماً .

بسطت أولمبيا يديها بسخط وهي تهتف : (( رباه , يستحيل مساعدتك .

ستنهين حياتك عانساً )) .

وابتسمت هارييت بخبث فبدا وجهها حلواً : (( هذا إذا حالفني الحظ )) .

* * *

: : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : :

Just Faith 28-09-17 06:26 PM

1 ـ

خبيرة أممشـاكسة


ـ يا ولدي العزيز , هل فكرت جيداً بالموضوع ؟

كان وجه السنيورا لوشيا كالـﭭـاني مليئاً بالاهتمام وهي تنظر إلى ابنها

الذي كان يقفل حقيبة ثيابه . منحها ابتسامة سريعة حملت من الدفء أكثر مما

تحمل لأي شخص آخر , لكنه لم يتوقف عن العمل : (( وماذا هناك لأفكر

فيه ؟ أنا على أي حال أفعل ما طلبته أنت مني , يا أمي )).

فقالت بتشكك أمومي : (( كلام فارغ , أنت لا تفعل إلا ما يناسبك )).

ـ هذا صحيح , ولكن ما يناسبني كل ما يسرك . أنت تريدين أن أتزوج

حفيدة صديقتك , وأنا رأيت ذلك مناسباً . ـ

ـ إذا كنت تعني أن الفكرة أعجبتك , قل هذا , ولا تخاطب أمك وكأنك

في اجتماع مجلس إدارة . ـ

قالت هذا بحدة فتقدم يقبل خدها : (( آسف ولكن ما دمت أقوم بما

تتمنينه , فلا أدري ما هو سبب قلقك هذا )).

ـ عندما قلت إنني أود أن تتزوج حفيدة إيتا , كنت أعني أولمبيا , كما

تعلم جيداً . إنها أنيقة , رشيقة , محنكة , وتعرف كل الطبقة الراقية في روما ,

ويمكن أن تكون خير زوجة . ـ

ـ لا أوافقك الرأي , فهي فتاة عابثة تفتقر إلى النضوج . أختها أكبر منها

سناً وأكثر رصانة كما فهمت .

ـ لكنها نشأت في إنكلترا , وقد لا تتلكم الإيطالية .

ـ أكدت لي أولمبيا أنها تتحدث الإيطالية . كما أن اهتماماتها ثقافية ,

ويبدو أنها ستناسب متطلباتي .

ـ تناسب متطلباتك ؟

قالت الأم هذا بذعر : (( من تتحدث عنها هي امرأة من لحم ودم وليست

مجموعة أسهم )). ـ

فهز كتفيه : (( إنها مجرد طريقة في الكلام . هل نسيتُ شيئاً لم أضعه في

الحقيبة ؟ )) . ـ

وأخذ ينظر في أرجاء الغرفة السابحة في شمس ذلك الصباح المتألقة التي

كانت تتسرب من نافذة الشرفة . خرج ليتنشق الهواء النقي ويمتع ناظريه

بمشهد (( جادة فيتيتو )) . تطل شقته القائمة في الطابق الخامس من هذه البناية

البديعة على كاتدرائية (( سانت بيتر )) ونهر التيبر . توقف لحظة يتأمل تألق

أشعة الشمس على الماء . كان يفعل هذا كل صباح , مهما كان انشغاله .

ولربما أثار هذا دهشة العديد من الأشخاص الذين يعتبرونه مجرد آلة

حسابية . ـ

أما بيته من الداخل فيعزز تحاملهم هذا عليه . فرغم أن الأثاث كان

غالياً , إلا أنه يدل على البساطة , ويبدو بامتياز بيت رجل مكتفٍ بنفسه .

اختيار السكن في وسط روما يناسب تماماً شخصية ماركو , لأن قلبه

وعقله وكل وجوده كان رومانياً . كما أن طول قامته ومظهره وسماته

المتغطرسة تجعله منحدراً من سلاسة ملوك . وليس مستبعداً أن يكون واحداً

منهم ! أوليس أصحاب المصارف العالمية هم الملوك الجدد ؟ يبلغ ماركو

الخامسة والثلاثين من العمر , وهو يتفوق على كل معاصريه في دنيا المال

والشراء والبيع والمعاملات . . . فذلك بالنسبة إليه أشبه بالهواء الذي

يتنفسه , وليس من باب المصادفة أن يتحدث عن زواجه المترقب بتلك

الطريقة العملية التي بثت الذعر في نفس أمه . ـ

وما لبث أن منحها أكثر ابتساماته سحراً : (( أمي , أعجب لجرأتك على

تعنيفي بينما أنت التي اقترحت علي هذا الزواج )).

ـ حسناً , على أحدهم أن يتدبر أمر تزويج أفراد هذه الأسرة . عندما

أفكر في ذك العجوز الأحمق في البندقية الذي خطب مدبرة منزله . . .

ـ أظنك تعنين (( بالعجوز الأحمق )) عمي فرانسيسكو , كونت كالـﭭـاني

ورأس أسرتنا .

فقالت باتزان : (( كونه (( كونت )) لا يمنعه من أن يكون عجوزاً أحمق ,

وكون غويدو وريثه لا يمنع من أن يكون شاباً أحمق حين يريد أن يتزوج من

فتاة إنكليزية . . . )) . ـ

فقال ماركو يغيظ أممه مداعباً بطريقته الجافة : (( لكن دولسي من أسرة

ذات لقب , وهذا مناسب جداَ )) .

ـ الأسرة ذات اللقب التي خسرت أموالها بسبب استهتارها . لقد

سمعت أشنع القصص عن اللورد مادوكس , ولا أظن ابنته أفضل منه

كثيراً .

ـ لا تدعي أياً منهما يسمعك تنتقدين حبيبتهما , فهما في حالة من

الهيام قد تدفعهما لفعل أي شيء دفاعاً عنهما .

ـ أنا لا أقصد أن أكون عديمة التهذيب . لكن الحقيقة هي الحقيقة . على

شخص ما أن يقوم بزيجة حسنة , ولا أحد يعرف ماذا سيفعل ذلك الخجول

المرتبك في توسكانيا . ـ

هز ماركو كتفيه وقد أدرك أن أمه تعني بكلامها ابن عمه ليو : (( ربما لن

يتزوج ليو مطلقاً . ما من نقص في الفتيات الراغبات به في المنطقة . وربما

لهذا السبب , يقوم بعلاقات قصيرة عابرة . . . )). ـ

فقاطعته بحزم : (( لا حاجة بك لعدم التهذيب في التعبير . إذا لم يشأ أن

يقوم بواجبه , فهذا يمنحك سبباً أكبر لأن تقوم أنت بواجبك )).

ـ حسناً , أنا ذاهب إلى إنكلترا لأفعل هذا , إذا ناسبتني المرأة .

ـ هذا إذا ناسبتها أنت . هي لن ترتمي على قدميك .

ـ سأعود إليك إذن وأخبرك بفشلي . ـ

لم يبد عليه الانزعاج لهذا الاحتمال . سبق له أن عرف بعض النساء

اللواتي لم يتأثرن به . أولمبيا , طبعاً , رفضته . لكنهما كانا كأخٍ وأخته .

قالت أمه وهي تتأمله محاولة أن تتبين ما يفكر فيه : (( أنا قلقة عليك ,

أريد أن أراك في بيت سعيد , بدلاً من تضييع وقتك سدى في علاقات تافهة .

لو تزوجتما أنت وأليساندرا كما كان ينبغي عليكما , لكان لديكما الآن ثلاثة

أولاد )). ـ

ـ لم نكن ملائمين , ولنترك الكلام في هذا الموضوع .

قال هذا بصوت رقيق لكن نبرة التحذير لم تكن خافية . فقالت لوشيا

على الفور : (( طبعاً )).

فعندما يحسم ماركو أمراً ما , تفضل أمه ألا تلح عليه .

ـ حان وقت ذهابي , لا تقلقي يا أمي . كل ما في الأمر أنني سأقابل

هارييت ديستينو , وأكون عنها فكرة . فإذا لم تعجبني لن أذكر لها شيئاً .

ولن تعلم هي شيئاً عن الأمر .

* * *

عندما هبط بطائرته في لندن , لاحظ ماركو أنه يتصرف على غير

طبيعته . فهو أساساً ممن يمعنون التفكير في الأمور , لكنه الآن يتصرف

باندفاع . هو رجل منظم ويعيش حياة منتظمة , وهذا برأيه سر النجاح

والثبات والاستقرار . فالعمل الصحيح يُنجز في الوقت الصحيح . عندما

كان في الثلاثين من عمره , كان سيتزوج فعلاً لو أن اليساندرا لم تغير رأيها .

لكنه سرعان ما أخمد هذا التفكير . فقد انتهى كل ما يتعلق بخطبته

العقيمة , وكونه جعل من نفسه شاعرياً أحمق , أصبح من الماضي . والرجل

الحكيم تعلمه التجارب , لــذا لن يكشف عن مشـــاعره مــرة أخرى أبــداً بذلك

الشكـــل . لقد راقه اقتراح أمه بالزواج , إذ سيــجــد لنفسه أسرة من دون أن

يورط قلبه في ذلك . ـ

وصل إلى لندن عند العصر فنزل في الجناح الذي حجزه في فندق الريتز ,

ثم أمضى بقية النهار أمام الهاتف , يراجع المعاملات التي تحتاج إلى تدخله

الشخصي . ظل يعمل حتى الثالثة صباحاً . ثم ذهب إلى فراشه ونام حوالي

خمس ساعات أفادته كثيراً . ـ

وهكذا أمضى ليلته قبل أن يقابل المرأة التي ينوي أن يتزوجها .

* * *

تناول فطوره قبل أن يتجه سيراً على الأقدام إلى (( غاليري ديستينو )). وإذ

عين الوقت بالضبط , فقد وصل عند التاسعة إلا ربعاً , قبل بدء دوام

العمل , ما سيمنحه فرصة يكون فيها فكرة عن المكان قبل أن يقابل

صاحبته . ـ

وما رآه نال استحسانه , فقد كان المتجر جميلاً . ورغم أنه لم ير سوى

القليل من التحف المعروضة من خلال الشبكه الحديدية على واجهة المحل ,

إلا أن ما رآه بدا له مختاراً بشكل جيد يعكس بشكل واضح صورة هارييت

ديستيتو العاقلة والأنيقة , فابتدأ يشعر نحوها بالدفء .

غير أن ذلك الدفء تبدد قليلاً عندما مرت الساعة التاسعة من دون أن

يطل أحد ليفتح المتجر , يا لانعدام الكفاءة ! واستدار فاصطدم بشخص

صرخ : (( آخ )) .

ـ المعذرة . ـ

والتفت ليرى شابة مرتبكة تقفز على الرصيف ممسكة بقدمها , ثم تقول

مجفلة : (( لا بأس )) .

كانت على وشك أن تفقد توازنها لولا أن أمسك بها .

ـ شكراً . هل كنت تريد الدخول ؟

ـ نعم لكنك تأخرت عن موعد فتح المحل . ـ

ـ آه , نعم . هذا صحيح . انتظر لحظة ! لدي المفتاح .

أخذت تبحث عن المفاتيح , وأخذ هو يتأملها , فلم يعجبه فيها شيء .

كانت ترتدي بنطلون جينز وسترة صوفية عاديين جداً , وعلى رأسها قبعة

صوفية زرقاء تغطي شعرها كلياً , قد تكون شابة , وربما جميلة أيضاً . . .

ولكن من الصعب معرفة ذلك ما دامت تبدو كعامل بناء . لا بد أن هارييت

ديستينو بحاجة ماسة إلى موظفة , لنستخدم هذه المرأة .

وبعد وقت بدا له دهراً , سمحت له بالدخول .

ـ لحظة واحدة , ومن ثم أعود إليك . ـ

قالت هذا وهي تلقي أغراضها جانباً , وتفتح الشبكة الحديدية .

ـ كنت أرجو , في الواقع , أن أقابل صاحبة المتجر .

ـ ألا أنفع أنا ؟

ـ لا مع الآسف .

جمدت الشابة فجأة , ثم رمقته بنظرة متوترة وقد تغير سلوكها بأكمله :

(( طبعاً , كان علي أن أدرك هذا , يا لغبائي ! كل ما في الأمر أنني كنت أرجو

أن تتأخر قليلاً . نعم , كنت أرجو أن تتأخر قليلاً . . . آسفة لأن الآنســة

ديستينو ليست هنا حالياً )).

فسألها بصبر : (( هلا قلت لي متى تكون هنا ؟ )).

ـ ليس في وقت قريب . لكنني أستطيع الاتصال بها . ـ

ـ أيمكنك أن تخبريها بأن ماركو كالـﭭـاني جاء لزيارتها ؟

فقالت متظاهرة بالجهل : (( من ؟ )) .

ـ ماركو كالـﭭـاني , إنها لا تعرفني لكن . . .

ـ أتعني أنك لست مبعوثاً من المحكمة ؟

فأجاب بإيجاز وقد تحولت نظراته غريزياً إلى بذلته الفاخرة : (( لا , لست

من المحكمة )) . ـ

ـ هل أنت واثق ؟

ـ أظنني كنت سأعلم لو أنني كذلك .

فقالت بذهن شارد : (( نعم , طبعاً كنت ستعلم . ثم أنت إيطالي , أليس

كذلك ؟ لكنتك مميزة . لكنها ليست قوية جداً لذا فاتتني في البداية )) .

فقال ببطء ووضوح : (( أنا أفتخر بمهارتي في اللغات الأجنبية . والآن

هلا قلت لي من أنت ؟ )) . ـ

ـ أنا ؟ آه , أنا هارييت ديستينو .

ـ أنت ؟

ولم يستطع أن يخفي نبرة الخيبة التي بدت في صوته .

ـ نعم , ولم لا ؟

ـ لأنك سبق وأخبرتني بأنك لست هنا .

ـ أحقاً ؟ آه , لا بد أنني أخطأت فهمك . ـ

قالت هذا بنبرة غامضة فحدق إليها متسائلاً إن كانت مجنونة أو مجرد

مختلة . خلعت قبعتها الصوفية , تاركة شعرها الطويل ينسدل على كتفيها ,

وعند ذلك أدرك أنها تقول الحقيقة لأن شعرها كان شبيهاً بشعر أولمبيا بكثافته

ولونه . إنها المرأة التي يفكر في اتخاذها زوجة له . تنفس بعمق وحذر ,

وكانت هارييت تراقبه مقطبة الجبين : (( هل تعارفنا من قبل ؟ )) .

ـ لا أعتقد ذلك . ـ

ـ وجهك يبدو لي مألوفــاً .

ـ لم نتعارف قط من قبل .

أكد لها ذلك وهو يفكر في أنه لو رأي هذا الوجه لتذكره حتماً .

ـ سأعد القهوة .

دخلت إلى مؤخرة المتجر ووضعت الإبريق على النار مغتاظة من نفسها

لهذه الفوضى التي أحدثتها بالرغم من تحذير أولمبيا لها . لكنها كانت شبه

مقتنعة بأن ماركو لن يعبأ بالحضور ليراها , ثم أنها كانت منشغلة بدائنيها

بحيث لم تجد وقتاً لتفكر في أشياء أخرى . ـ

لم يكن لهارييت مثيل في خبرتها بالتحف الأثرية , فـــذوقــها رفيع تأخذ به

المؤسسات الإجتماعية المهيبة . لكنها , بشكل ما , لم تستطع أن تحول مهارتها

هذه إلى فوائد تجارية تفي بها الديون المتراكمة . ـ

انتهت القهوة فعــادت إلى الواقع . لم تكن تريد بأي شكل أن تكشف عن

ضائقتها المادية لهذا الرجل . وإذا به يظهر فجأة بجانبها فشرد ذهنها

للتشابه , أين رأته قبل الآن يا ترى ؟ ـ

لقد وعدت أولمبيا بألا تدع ماركو يشتبه في أنها على علم بحضوره , لذا

كان التظاهر بالغباء الطريق الأسلم . فقد اكتشفت مؤخراً أن الناس

يصدقون دائماً من يتظاهر بالغباء .

ـ لماذا تريد أن تراني يا سيد . . . كالـﭭـاني , أليس كذلك ؟

ـ ألا يعني اسمي شيئاً ؟ ـ

ـ آسفة , ولكن هل من المفترض أن يعني شيئاً ؟

ـ أنا صديق أختك أولمبيا . ظننتها قد ذكرت لك اسمي .

ـ نجن أختان غير شقيقتين , ولا نرى بعضنا كثيراً . كيف حالها هذه

الأيام ؟ ـ

قالت هذا بشكل عفوي , فأجاب : (( مازالت اجتماعية ورائعة الجمال ,

أخبرتها بأنني أريد أن أتعرف إليك عندما أحضر إلى لندن . وإذا كنت توافقين

يمكننا أن نمضي هذه السهرة معاً وقد نذهب لحضور مسرحية ما ونتناول

العشاء معاً فيما بعد )) .

ـ هذا جيد .

ـ أي نوع من المسرحيات تحبين ؟

ـ كنت أحاول أن أحصل على تذكرة لمسرحية (( الرقص على الخط )) لكن

المقاعد قد نفذت , والليلة هو العرض الأخير .

ـ أظن أن بإمكاني الحصول على تذكرتين .

فقالت بذعر وقد أنبها ضميرها : (( إذا كنت تفكر في شرائهما من السوق

السوداء , فإن ثمن التذكرة مرتفع جداً )) .

فقال باسماً : (( لن أحتاج إلى اللجوء إلى السوق السوداء )) .

نظرت إليه بما يشبه الرهبة : (( أيمكنك أن تحصل على مقعدين لهذه

المسرحية بظرف دقيقة ؟ )) . ـ

فقال بشي من السخرية : (( لا يمكنني أن أعرض نفسي للفشل الآن ,

لكن دعي الأمر لي , سأمر لاصطحابك عند الساعة السابعة )) .

ـ حسناً . يمكننا أن نذهب إلى مسرحية أخرى . ليس لدي مانع .

فقال بحزم : (( بل سنذهب إلى هذه المسرحية بالذات . أراك الليلة )) .

فقالت بشبه ذهول : (( إلى اللقاء )) .

استدار نحو الباب ثم عاد فتوقف وكأنه تذكر شيئاً : (( بالمناسبة , هل

لك أن تثمني هذه لي )) .

ثم أخرج من جيبه لفافة قماش فتحها أمام عينيها المتشوقتين , كاشفاً

عن قلادة رائعة فريدة من نوعها أخذتها برفق وحملتها إلى مكتبها حيث

أضاءت مصباحاً قوياً . ـ

قال ماركو : (( لدي صديق في روما خبير في هذه الأشياء . برأيه أن هذه

إحدى أفضل القطع الأثرية الإغريقية التي رآها في حياته )) .

فقالت من دون أن ترفع عينيها : (( إغريقية ؟ كلا . إنها (( أترورية )) من

بلاد (( أتروريا )) القديمة غرب إيطاليا )) .

لقد نجحت في اختبارها الأول , لكنه أخفى سروره وعاد يضغط

عليها : (( هل أنت واثقة ؟ صديقي خبير حقيقي )) .

فقالت متنازلة : (( قد يكون التفريق بينهما صعباً , لكنها من صنع صاغة

(( أتروريا )) في العهود القديمة )) . ـ

انطلقت في الحديث إلى حد لم يعد يستطيع إيقافها , وكانت الكلمات

تتفق من فمها كسيل دافئ فأصغى إليها بإعجاب متزايد . قد تكون غريبة

الأطوار نوعاً ما , لكنها السيدة المثقفة التي يتمناها , هذه التحفة الأسطورية

ملك لأسرته منذ مئتي سنة , وهي (( أترورية )) فعلاً , وقد ميزتها هي تماماً .

ثم نسفت إعجابه بقولها بأسف : (( ولكن ليتها كانت أصلية ! )) .

فحدق إليها : (( بل إنها أصلية )) .

ـ لا , مع الأسف , إنها نسخة ممتازة عن الأصل . من أفضل النسخ التي

رأيتها . ويمكنني أن أفهم لماذا انخدع بها صديقك . . .

ـ لكنك لم تخدعي أنت بها . ـ

قال هذا شاعراً بانزعاج غير منطقي لتشويهها سمعة ( صديقه ) الذي لا

وجود له أصلاً .

ـ لطالما تملكني اهتمام غير عادي في صناعات (( اتروريا )) .

قالت هذا مسمية المقاطعة التي أصبحت فيما بعد مدينة روما والأرياف

المحيطة بها : لقد زرت الحفريات هناك منذ سنتين , فكـــانت من

أروع . . . )) . ـ

ـ وهل هذا يؤهلك لإبداء رأيك بهذه القطعة ؟

قاطعها بقوله هذا وقد هزم غيظه تهذيبه .

ـ إسمع , أنا أعلم ما اتحدث عنه وبصراحة , ( خبيرك ) هذا لا يحسن

التفرقة بين (( الإغريقي )) و (( الأتروري )) .

ـ لكنها حسب قولك , زائفة . وهذا غير ممكن . ـ

ـ إنها نسخة . وصانعها نسخها عن قطعة أترورية , وليس إغريقية .

أذهله التحول الذي بدا في عينيها . فقد ذهبت تلك الشابة الغريبة

الأطوار التي اصطدمت به عند الباب , لتحل مكانها امرأة منتقدة فولاذية

واثقة لا تتساهل في آرائها . وكان سيعجب بذلك لو أنها لم تكن تحاول أن

تمحو مليون دولار من ثروته . ـ

ـ أتقولين إن هذه لا تساوي شيئاً ؟

ـ آه , ليس تماماً . لا بد أن الذهب يساوي شيئاً .

كانت تتكلم كأنها راشد يسترضي طفلاً خائب الأمل . فصرف بأسنانه

وقال ببرودة : (( هل لك أن تشرحي رأيك ؟ )) .

ـ يُنبئني حدسي بأن هذه القطعة ليست أصلية .

ـ أتعنين حدس المرأة ؟

ـ كلا طبعاً . لا شيء من ذلك . حدسي مبني على المعرفة والخبرة .

ـ وهذا يبدو لي اسماً آخر لحدس المرأة , لم لا تكونين صادقة وتعترفين

بذلك .

التهبت عيناها بشكل رائع : (( يا سيد . . . مهما كان اسمك , إذا كان

حضورك إلى هنا هو فقط لكي تحرجني , فأنت تضيع وقتك سدى . وزن هذه

القلادة خفيف . والقلادة (( الأترورية )) الحقيقية أثقل منها وزناً و . . . )) .

لقد شردت مرة أخرى وأخذت الحقائق والأرقام تتدفق من فمها بسرعة

وثقة وتحكم في الموضوع . ما عدا أنها كانت مخطئة تماماً , كما أخذ يفكر

عابساً . إذا كان هذا مستوى خبرتها فلا عجب في أن عملها فاشل .

وقـــال محـــاولاً إرضــاءهـــا : (( حسناً , حسناً أنا واثق من أنك على

صواب )) . ـ

ـ أرجوك لا تسايرني .

وعندما هم بالجواب , راجع نفسه , متسائلاً أين ذهب ذكاؤه . لم يكن

في نيته أن يدعها تفقده أعصابه .

الهدوء هو درعه الأفضل , وبه يصل إلى النصر . لقد قام بمعاملاته ,

ونظم حياته تبعاً لمصلحته . وإذا بها تنسف كل ذلك في خمس دقائق .

قال بشيء من الجهد : (( سامحيني . لم أقصد أن أكون غير مهذب )) .

ـ لا بأس فأنا أفهمك نظراً إلى حالة الفقر التي تركتك فيها .

ـ لم تتركيني في حالة فقر ما دمت لم أوافق على تثمينك للتحفة .

مدت إليه القلادة وهي تقول بلطف كاد يثير سخطه : (( أفهم ذلك .

عندما تعود إلى روما , لم لا تسأل صديقك أن يعيد النظر إلى هذه ؟ ولكن إياك

أن تصدق كلمة مما يقول لأنه لا يفرق بين (( بلاد الإغريق )) و (( أتروريا )) )) .

ـ سأمر لاصطحابك من هنا عند السابعة .

قال لها هذا بابتسامة متوترة . ـ

* * *

نهاية الفصل (( الأول )) . . .


: : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : :

Just Faith 28-09-17 06:27 PM



2 ـ

أغسطس قيصر


عند الساعة السابعة , وقفت هارييت تنظر من واجهة متجرها إلى

العاصفة في الخارج . كانت قد ذهبت إلى بيتها وغيرت ملابسها وعادت

بسرعة لئلا تجعله ينتظر طويلاً . ـ

لكن يبدو أنه ليس دقيقاً في مواعيده فقد مضت الساعة السابعة منذ

عشر دقائق ولم يظهر بعد أي أثر له . وعند السابعة والربع تمتمت بشتيمة لا

تتلفظ بها سيدة مهذبة , ثم استعدت لمغادرة المتجر باستياء .

أقفلت المتجر وأخذت تحدق ساخطة إلى المطر المنهمر عندما توقفت

سيارة عند المنعطف وامتدت من بابها يد أمسكت بها , وأطبقت عليها قبضة

جبارة سحبتها إلى الداخل بسرعة .

ـ أعتذر لتأخري . لقد أعاقني المطر . المسرحية , لحسن الحظ , لا تبدأ

قبل الثامنة , لذا أظننا سنصل في الوقت المناسب .

سألته غير مصدقة : (( أنت حتماً لا تعني أنك وجدت تذكرتين ؟ )) .

ـ بلى طبعاً . لمــــاذا تشكين بي ؟

ـ ومن رشوت ؟

فقال ضاحكاً : (( كان الأمر أكثر نزاهة من ذلك بقليل )) .

ـ أعجبني هذا .

وأعجبها أكثر عندما اكتشفت أنه حجز أفضل مقصورة في المسرح . لا

شك في أن لهذا الرجل علاقات جيدة .

قدم ماركو إليها الكرسي الأقرب إلى خشبة المسرح , ما مكنه من النظر

إليها وإلى العرض في الوقت نفسه . لم يجدها رائعة الجمال , فقد كانت أكثر

نحافة مما ينبغي بقليل , لكنها بليونة عارضات الأزياء , كما أنها أنيقة , أو

على الأقل يمكنها أن تكون كذلك إذا اهتمت بمظهرها . ـ

ثوب السهرة الذي ارتدته لم يكن سيئاً جداً , كان طوله يصل إلى

الكاحل , ويظهر رشاقة حركاتها . بدا لونه الأحمر القاتم رائعاً مع أنه لا

يتناسب مع شعرها البني المائل للاحمرار , وكان شعرها منسدلاً على كتفيها .

لو أنها ترفعه لكي يكشف عن وجهها وعنقها الطويل لكان ذلك أفضل ـ

بكثير . أليس هناك من يخبرها بهذه الأشياء ؟

حليها القليلة لم تكن جميلة ولا متلائمة مع بعضها البعض . فقد يلائمها

أن تتزين بالذهب , وأن تختار حلياً كبيرة تتناسب مع شخصيتها القوية

الهادئة .

التفكير بالذهب ذكره بالقلادة , لكن مزاجه الآن جيد ولا يحمل لها أي

نية سيئة . وعلى أي حال محاورتهما الغاضبة كانت مفيدة لكسر الجليد

بينهما .

كان العرض المسرحي عبارة عن موسيقى عصرية بالغة الظرف حلوة

الأنغام . بدا الراقصون سريعي الحركة وبالغي الحيوية , وقد استمتعتا بذلك

معاً , وغادرا المسرح مسرورين . كان المطر قد توقف والسيارة تنتظرهما في

الخارج . ـ

قال ماركو : (( أعرف مطعماً صغيراً يقدم ألذ الأطباق في لندن )) .

ثم أخذها إلى مكان لم تسمع به من قبل رغم أنها من سكان لندن ,

ودهشت قليلاً عن دخولها مطعماً فرنسياً لكنها ما لبثت أن أدركت بالضبط

ما يريه . . . فإذا كان ينوي حقاً أن يعبث معها ويوقعها في شباكه عليه أن

يثير دهشتها في البداية . ـ

ـ ربما كان علي أن أسألك إذا كنت تحبين الطعام الفرنسي .

ألقى عليها هذا السؤال بعد أن جلسا معاً إلى مائدة هادئة .

ـ أحبه بقدر ما أحب الطعام الإيطالي تقريباً .

قالت هذا بالفرنسية . وقد يكون هذا زهواً منها , لكنها شعرت بأن

عرض مواهبها كلها قد يكون فكرة حسنة .

ـ أنت طبعاً غير متعصبة قومياً . عليك أن تكوني كذلك نظراً إلى نوع

عملك . هل تتكلمين الإسبانية ؟

ـ نعم , واليونانية واللاتينية أيضاً .

ـ اليونانية الحديثة أم القديمة ؟

ـ كلاهما .

وتجنبت أن تبدو في صوتها نبرة الاضطراب .

ـ طبعاً .

قال هذا بابتسامة خفيفة وهو يميل برأسه احتراماً .

كان الطعام لذيذاً حقاً . وكان ماركو خير مضيف , إذ بقي يسألها عما

ترغب بع من دون أن يضغط عليها بما يقترحه . وناسبها ذوقه تماماً .

بدا الضوء خافتاً عند مائدتهما , فهو عبارة عن شمعتين يتراقص لهبهما

على وجهيهما . بدا لها وسيماً للغاية وأنيقاً ببذلته الرسمية وقميصه الأبيض

الذي أبرز لون بشرته البرونزي . أما شفتاه الرقيقتان . فكانتا تبرزان ابتسامته

النادرة وتمنحانها مظهراً ساخراً كان يسرها . ـ

لفتت عيناه انتباهها , فهما بنيتان داكنتان إلى حد السواد , تظللهما

جبهة عالية وحاجبان سميكان , ما أضفى على وجهه لمحة من الغموض

أثارت فضولها . من حسن الحظ أن ألومبيا نبهتها إلى ما سيجري , وإلا

لفوجئت تماماً , و لربما وجدته جذاباً إلى حد خطير . انتهزت الفرصة

وقررت أن تربكه قليلاً لمجرد الهزل .

فسألته ببراءة : (( ما الذي جاء بك إلى لندن ؟ العمل ؟ )) .

لعل السؤال فاجأه , لكنه لم يظهر ذلك : (( قليلاً , كما يجب أن أزور

اللايدي دولسي مادوكس التي أصبحت خطيبة ابن عمي غويدو منذ أسابيع

قليلة )) . ـ

ـ هل هي ابنة اللورد مادوكس ؟

ـ نعم , أتعرفينها ؟

ـ جاءت إلى المتجر مرتين .

ـ شارية أم بائعة ؟

ـ بائعة .

وسكتت فجأة وقد أحست بأنها تدوس في حقل ألغام . فقال ماركو :

(( ربما كانت تبيع تحفاً من منزل أسلافها لكي تسدد ديون أبيها . فقد عرفت

أنه مقامر كبير )) .

ـ نعم , لكنني لا أحب أن أتكلم عن الآخرين . ـ

ـ هذا شيء معروف . دلوسي مضطرة للعمل لتعيش . وكانت تعمل

وكيلة لمؤسسة استعلامات خاصة عندما جاءت إلى فينيسيا وتعرفت إلى

غويدو . ما رأيك فيها ؟

فقالت بحسد : (( إنها رائعة الجمال , بشعرها الطويل الأشقر ذاك , هل

مازال على حاله ؟ )) . ـ

ـ نعم هي رائعة الجمال , وستبقي غويدو منضبطاً .

فضحكت : (( هل هو بحاجة إلى ذلك ؟ )) .

ـ بكل تأكيد , فغويدو ليس لديه أي حس بالمسؤولية . هذا قول عمي

فرانسيسكو بالمناسبة , الكونت كالـﭭـاني . كان متلهفاً ليتزوج غويدو وينجب

له وريثاُ .

ـ أليس لديه أبناء ؟

ـ لا . واللقب سيكون من نصيب أحد أبناء إخوته , والمفروض أن

يكون ليو , الأخ الأكبر غير الشقيق لغويدو . ولكن لأسباب قانونية , حُرم

من اللقب . ـ

ـ هذا فظيع !

ـ ليو لا يظن هذا . فهو لا يريد أن يكون كونت , المشكلة أن غويدو

أيضاً لا يريد , لكن ذلك سيصبح قدره , وهكذا حاول عمي أن يجد له

عروساً مناسبة , ثم تخلى عن ذلك بائساً عندما وقع غويدو في غرام دولسي .

وعمي أيضاً , وقع في غرام مدبرة منزله منذ سنوات , وقد استطاع أخيراً

إقناعها بأن تتزوجه . إنه في السبعينات , وهي في الستينات , وهما الآن أشبه

بعصافير الحب .

فهتفت هارييت : (( كم هذا جميل ! )) .

ـ هذا صحيح , لكنه ليس رأي الجميع . فأمي مشمئزة لأنه تزوج

(( خادمة )) , كما تسميها .

ـ هل يهتم الناس بأمور كهذه هذه الأيام ؟

ـ البعض فقط . أمي رقيقة القلب , لكن نظرتها إلى هذا الأمر قديمة

الطراز .

ـ ماذا عنك أنت ؟

ـ أنا لا اتخذ دوماَ الطرق العصرية . أنا أتخذ قراراتي بعد طول تفكير .

ـ مدير أو صاحب مصرف مضطر إلى هذا , بطبيعة الحال .

ـ ليس دوماً , لدي سمعة بأنني أنجرف أحياناً .

فسألته بشكل غير إرادي : (( أنت ؟ )) .

فقال بجد : (( كنت معروفاً بتهوري أحياناً )) .

ـ لما فيه المصلحة طبعاً .

ـ طبعاً . ـ

أخذت تتأمله لترى إن كان جاداً أم لا . وتكهن هو بما تفعل , فنظر

إليها بجفاء رافعاً حاجبيه وكأنه يسألها إن كانت تحققت من الأمر الآن .

طالت اللحظة فازداد شعوراً بالضيق وهو ينتبه إلى أن شيئاً في سلوكها قد

تغير . ـ

سألها ليعيدها إلى الواقع : (( أتريدين مزيداً من العصير ؟ )) .

ـ آسفة , ماذا قلت ؟

ـ العصير ؟

ـ آه , لا . شكراً . سبق وقلت إن وجهك مألوف . يا ليتني أستطيع أن

أتذكـــر . . .

ـ ربما أذكرك حبيب سابق .

ـ آه , لا , منذ دهر وأنا وحيدة .

تمتمت بذلك وما زالت نظراتها شاخصة إليه .

لقد حيرته فهي تارة محنكة , وتارة خرقاء , ومع ذلك أصبح لديه

فكرة جيدة عنها .

سألها أثنــاء تنــاولها الطعــام : (( لِمَ أنت وأولمبيا من جنسيتين

مختلفتين ؟ )) .

فقالت بسرعة : (( لا , بل كلتانا إيطاليتان )) .

ـ نعم , من ناحية . . .

ـ من كل النواحــي . ـ

قاطعته بنبرة متمردة وأكملت : (( وُلدت في إيطاليا وأبي إيطالي واسمي

إيطالي )) .

رأى لمعان الغضب في عينيها الواسعتين : (( أنا آسف , لم أكن أنوي أن

أجرحك )) . ـ

ـ ألم تخبرك أولمبيا بالقصة ؟

ـ ليس تماماً . أنا أعلم أن أباك تزوج مرتين , ولكن , بطبيعة الحال ,

أولمبيا لا تعلم سوى القليل عن زوجته الأولى .

ـ أحبته أمي بشكل هائل , لكنه تخلى عنها عندما كنت في الخامسة من

عمري . أخبرتني أنه طردنا , نحن الاثنتين , من البيت .

سألها بصدمة حقيقية : (( هل أخبرتك أمك بذلك وأنت طفلة ؟ )) .

بدت شاردة الذهن : (( لكنني لم أصدقها . كنت أعبد أبي وكان يحبني

كثيراً . وعندما كان يعود إلى البيت كان ينادي اسمي أولاً . وظننت أن الأمر

سيبقى دوماً بهذا الشكل )) .

وعندما سكتت قال لها برفق : (( تابعي كلامك )) .

ـ لقد أقام علاقة مع امرأة أخرى . أراد طلاقاً سريعاً , فطردنا . قالت

أمي إنه أرغمها على العودة إلى إنكلترا مهدداً إياها بعدم إعطائها فلساً

واحداً , إذا لم تفعل . ـ

فكر ماركو في غويزيب ديستينو , الرجل البدين الأناني ذي العينين

الباردتين . ولم يكن صعباً أن يصدق هذه القصة تماماً .

سألها بعطف : (( لا بد أن حياتك أصبحت حزينة بعد ذلك ؟ )) .

ـ عشت على أمل أن يدعوني لزيارته , لكنه لم يفعل قط , لم أفهم ما

فعلته لكي ينقلب ضدي . لم تنسه أمي يوماً , وبقيت حزينة حتى آخر يوم في

حياتها , لم تعش بعده سوى اثني عشر عاماً , ثم ألم بها المرض وماتت . عند

ذلك ظننته سيرسل إلي ليأخذني , لكنه لم يفعل . كنت على وشك دخول

الكلية يومها وقال إنه لا يريدني أن أقطع دراستي .

تمتم ماركو شيئاً أشبه بالشتيمة , وقالت هارييت بجفاء : (( أظنني

تأخرت في فهم الوضع . كم كنت غبية ! )) . ـ

ـ هذا هو الأمر الوحيد الذي لا يمكن لأحد أن يتهمك به .

واخذ ماركو ينظر إليها باهتمام جديد . فقالت تصرف الأمر من

ذهنها : (( وما الذي تعرفه عني ؟ أنا غبية بالنسبة إلى الناس , لأنني لا أعرف

الكثير عنهم في الواقع )) . ـ

ـ أو ربما تعرفين الكثير من الأشخاص السيئين .

قال هذا وهو يفكر في الأب الذي طردها من بيته بكل أنانية , والأم التي

حـمـلت الطفلة عبء أحزانها : (( هل رفضك أبوك كلياً ؟ )) .

ـ لا . لقد حافظ على شيء من المظاهر عندما لم يستطع تجنب ذلك .

درست في روما لمدة سنة , وقد اخترت ذلك متعمدة لأنه سيكون مرغماً على

أن يوليني بعض الاهتمام . حتى أنني ظننت أنه سيدعوني إلى السكن معه .

ـ لكنه لم يفعل ؟

ـ دعاني إلى العشاء عدة مرات , فكانت زوجته تحدق إلي طوال الوقت .

لكن أولمبيا كانت دوماً لطيفة ودوداً معي . وقد أصبحنا صديقتين . وبعد

ذلك أخد أبي يرسل إلي المال من وقت لآخر .

ـ هل ساعدك في المتجر ؟

ـ لا , لقد فتحته بالمال الذي ورثته من جدي .

ـ كان بإمكان أبيك أن يساعدك , كما كان عليه أن يواجه تلك المرأة .

ـ أتعني زوجته . هل تعرفها ؟

ـ وأكرهها أيضاً , كما يكرهها معظم الناس . طبعاً كانت مصممة على

أن تبقيك بعيدة عن أبيك , يا لك من فتاة مسكينة ! لم يكن لديك حظ في

ذلك . ـ

ـ أظنني أعرف هذا الآن . لكنني حينذاك , ظننت أن بإمكاني أن أستميله

بالعمل الجيد , فأتعلم اللغات , وأنجح في الامتحانات وأكون إيطالية قدر

الإمكان . ـ

كان اهتمام ماركو يزداد بنشأتها الغريبة التي جعلت منها شخصية غير

عادية . فسألها بفضول : (( هل ظننتني حقاً مبعوثاً من الحكمة ؟ )) .

فأطلقت ضحكة صغيرة : (( لوهلة , نعم , ظننتني أصبحت أميزهم

الآن . دوماً أفكر في أن أموري المالية ستتحسن وأسدد ديوني . . . حسناً , إنها

تتحسن أحياناً ولكنها سرعان ما تسوء مرة أخرى )) .

ـ ولكن لماذا ؟ متجرك ذاك يجب أن يكون منجم ذهب . وبضاعتك من

الدرجة الأولى . صحيح أنك أخطأت بالنسبة إلى القلادة الأثرية , ولكن . . .

ـ أنا لم أخطئ . . . لا بأس . أحياناً أكون في القمة وإذا بي أرى قطعة

رائعة حقاً أشعر بأن علي الحصول عليها , فتكون ضربة تعصف بكل ما جمعته

من مال .

ـ لماذا لا تبيعين متجرك ؟

ـ أبيعه ؟ أبداً . إنه حياتي .

ـ هناك أشياء أهم من الآثار .

ـ هذا غير صحيح .

ـ تبدين واثقة من ذلك . ـ

ـ إنها ليست آثاراً فقط , بل هي عوالم أخرى تنفتح أمامي . إنك ترى

فيها آفاقاً فسيحة كانت منذ آلف السنين . . .

وشردت أفكارها مرة أخرى . وإذ أدرك أن من المستحيل أن يوقف هذا

السيل , جلس يصغي إليها ويفكر فيها في آن معاً . راح اهتمامه بها يزداد مع

مرور السهرة , بدت مثيرة للفضول , ذكية مثقفة وسريعة البديهة . ومن ـ

المؤسف أنها لم تكن رائعة الجمال . . . أو هذا رأيه فيها حالياً . . . فقد كان

من الصعب معرفة ذلك وشعرها يغطي معظم وجهها . لكن عينيها

الخضراوين كانتا تنفثان ناراً عندما تتكلم عن (( العوالم الأخرى )) التي أحبتها ,

وفي عينيها هاتين رأى نوعاً من الجمال .

وصلت هارييت بجدالها المحموم إلى نهايته , فسألته بقلق : (( أنت لا

تظنني مجنونة , أليس كذلك ؟ )) . ـ

ـ أنت شغوفة بعملك وذلك ليس جنوناً بل حسن حظ . إن إنقاذ

متجرك شيء يعنيك أنت أكثر من أي شخص آخر في العالم . وربما بإمكاني

أن أساعدك . كم تحتاجين لتتخلصي من ديونك ؟

ذكرت له رقماً كبيراً جعله يشعر بأنها غارقة في هوة عميقة فقال : (( إنه

مبلغ كبير لكن لكل شيء حل . أظننا في وضع نستطيع فيه أن نساعد بعضنا .

يمكنني أن أعطيك قرضاً يحل مشاكلك )) . ـ

ـ ولكن لماذا تفعل ذلك ؟

ـ لأنني أريد شيئاً بالمقابل .

ـ هذا طبيعي , ولكن ما هو ؟

فتردد قليلاً : (( قد ترين اقتراحي هذا غريباً نوعاً ما لكنني فكرت فيه

جيداً , وأؤكد لك أنه مناسب لكلينا . أريد أن تأتي إلى روما معي وتكوني

ضيفة أمي لفترة )) .

ـ هل أنت واثق من قبولها ذلك ؟

ـ ستكون مسرورة . جدتك كانت أعز صديقة لها وجُل ما ترجوه هو أن

تتحد أسرتانا , باختصار , إنها تحاول أن تزوجني !

ـ تزوجك ممن ؟ ـ

سألته ذلك مدعية جهلها بالموضوع .

ـ منك أنت . ـ

كانت تعلم أن هذه اللحظة ستحين عاجلاً أم آجلاً , ومع ذلك تملكها

الحرج . نظرت إليه جالساً في الزاوية وضوء الشمعة يتراقص على وجهه ,

فبدا لها فجأة وسيماً جداً . . . قوياً جداً . . . جذاباً جداً . . . أشبه بعاصفة

لا تقاوم تخترق حياتها جارفة كل شيء أمامها . . .

قالت محاولة كسب الوقت : (( مهلك لحظة . . . ما عادت الأمور تسير

على هذا النحو في أيامنا هذه )) .

ـ الزواج ما زال يجري بهذا الشكل في بعض المجتمعات . يعرفون

الأشخاص المناسبين ببعضهم البعض , آخذين بعين الاعتبار منافع هذا

التحالف . والداي تزوجا هكذا , وكان زواجهما سعيداً جداً . كانا

منسجمين تماماً من دون أن تعميهما مشاعر هي أعنف من أن تدوم .

ـ وأنت تطلب مني . . . ؟ ـ

ـ أن تفكري في ذلك . القرار النهائي نتخذه فيما بعد , بعد أن نعرف

بعضنا بشكل أفضل . وفي الوقت نفسه أحل لك مشاكلك المالية . فإذا

تزوجنا سأمحو الدين , وإلا سنتفرق كصديقين ويمكنك إن تعيدي إلي المال

بشروط سهلة . ـ

ـ أوه , أنت تسرد الأمور بسرعة , لا يمكنني أن أستوعب .

وكان هذا صحيحاً . فقد ظنت أنها مستعدة لهذا جيداً , ولكن كل شيء

بدا لها مختلفاً إلى حد خطف أنفاسها .

ـ لن تخسري شيئاً . في أسوأ الأحوال تكونين قد أخذت قرضاً من دون

فائدة ينقذ متجرك .

سألته بخشونة : (( ولكن ماذا ستستفيد أنت ؟ لا يمكنك أن تتزوج فقط

لترضـي أمــك )) .

بدا لها وكأنه تردد لحظة قبل أن يجيب بقليل من الإرغام : (( بل يمكنني ,

إذا كانت تلك هي رغبتي . لقد حان الوقت لكي أستقر وأؤسس أسرة

ويناسبني أن أرتب ذلك بهذا الشكل , ذلك سيمنحنا وقتاً للتفكير . تعودين

أنت معي وتجربين الحياة في بلادي . . . أعني بلادك . . . وتفكرين في ما إذا

كنت تحبين العيش فيها بصورة دائمة . إذا انسجمتما أنت وأمي , سنتحدث

في أمر الزواج )) . ـ

ـ وماذا عن انسجامنا معاً نحن الاثنين ؟

ـ هذا ما أرجوه , وإلا لن ننجح في زواجنا , أنا واثق من أنك ستكونين

أماً ممتازة لأولادنا , وبعد ذلك لن تجديني غير عقلاني .

سألته وقد ابتدأت عيناها تشردان : (( بالنسبة إلى ماذا ؟ )) .

ـ نحن لسنا مراهقين . لذا لن يتدخل الواحد منا في حرية الآخر .

حاولت أن تتفحص وجهه لكنها لم تستطع لأنه كان في الظل . وأخيراً

سألته : (( أليس لديك مانع في القيام بذلك بهذه الطريقة ؟ ما هو شعورك حيال

ذلك ؟ )) . ـ

فقال بفتور مفاجئ : (( لا حاجة بنا إلى مناقشة المشاعر )) .

ـ لكنك خططت لزواجك وكأنه اتفاقية عمل .

ـ أحياناً تكون النتائج عظيمة .

الإحكام والدقة الفائقة في لهجته أرسلت قشعريرة في كيانها . وحده

الرجل الذي بنى سياجاً حول نفسه يتصرف بهذا الشكل . وتساءلت عن

مدى ارتفاع ذلك السياج , ولماذا يحتاجه .

وماذا عن سياجك أنت حول نفسك ؟ تمتم بذلك صوت في داخلها .

أنت تعلمين أنه موجود , ولطالما فكرت أن العقل أسلم من القلب . ربما

كلاكما من الطينة نفسها فأحس هو بذلك !

رفضت هذه الفكرة بسرعة , لكنها بقيت تزعجها : (( إذا تزوجنا ,

ستتوقع مني أن آتي لأعيش معك , أليس كذلك ؟ )) . ـ

فأجفل قليلاً : (( هذا هو الترتيب المعتاد )) .

ـ لكنني إذا انتقلت إلى روما , سأفقد المتجر الذي أحاول أن أنقذه .

ـ يمكنك أن تسلمي متجرك لمن يديره , أو تنقليه إلى روما . وربما

تجدين من الأفضل أن يكون هناك أنا واثق من أن هناك أشياء كثيرة لم

تكتشفيها بعد .

لمس بهذا وتراً حساساً , فقالت من دون أن تواجه عينيه : (( أظن أن

معارفك كثيرون جداً )) . ـ

ـ ليس إلى هذا الحد . لكنني أعرف كثيراً من الناس يمكن أن ينفعوك .

فكرت أنه لا بد يعرف البارون أورازيو مانيللي . ولربما زار قصره

بمخزنه الفسيح الذي يخفي نفائس لا تعد ولا تحصى . منذ سنوات وهارييت

تراسل البارون , طالبة الترخيص لها بدراسة كهف (( علاء الدين )) ذاك ,

وكان رفض طلبها . ولكن بصفتها خطيبة ماركو . . .

كبحت هذا الإغراء لكنه بقي يهمس في داخلها . . وقالت : (( ستكون

زيارة غير مُلزمة لكلينا )) .

ـ هذا مفهوم .

ـ وبإمكاننا أن نفترق ببساطة إن لم ينجح ذلك .

ـ نفترق كصديقين . ولكن في الوقت نفسه , ستجد أمي السرور في

صحبتك . ـ

ممزقة بين الضمير والإغراء , أخذت تحدق في وجهه وكأنها كانت ترجو

أن تجد الجواب فيه . وفجأة وجدت الجواب , وهتفت بصوت خافت :

(( وجدتها . لقد تذكرت الآن أين رأيت وجهك )) .

فقال بتسلية : (( أنا مسرور . بمن أذكرك يا ترى ؟ )) .

ـ بالإمبرطور قيصر أغسطس .

ـ المعذرة , لم أسمع جيداً .

ـ إنه تمثال برونزي عندي في المتجر . وجهه كوجهك تماماً .

ـ كلام فارغ ومجرد تخيلات . ـ

ـ لا , ليس تخيلات . تعال معي وسأريك إياه .

ـ ماذا ؟

ـ فلنذهب لقد انتهينا من الطعام , أليس كذلك ؟

فقال : (( نعم , لقد انتهينا , هيا بنا )) . ـ

ماركو هو عادة ممن يتولون زمام القيادة , فيتبعهم الآخرون , لكنه

وجدها تكتسحه بحماستها وسرعتها . عادا إلى متجرها وأضاءت النور فوق

التمثال , ثم سألته باختصار : (( والآن , هل هذا أنت أم لا ؟ )) .

فقال مذهولاً : (( لا , ما من شبه على الإطلاق . هل اجتزت كل تلك

المسافة لكي أنظر إلى هذا ؟ )) .

ـ أنا لا أتخيل ذلك , إنه أنت , أنظر مجدداً . أنظر .

لم ينظر , بل أطلق ضحكة رقيقة وكأنما هناك شيء غامض قد سره ,

وتقدم ليقف أمامها واضعاً يداً على كتفها وبيده الأخرى رفع ذقنها ليستطيع

النظر إلى عينيها . شعرت بأنفاسه الدافئة على بشرتها ما أرسل رجفة خفيفة

في كيانها . ثم قال ساخراً : (( الرجل العاقل يبدأ حياته من هذه النقطة )).

ـ وأنت رجل عاقل جداً , أليس كذلك ؟

أزاح عن جبينه خصلة شعر: (( ربما لست عاقلاً كما كنت أظن . وأنا

أعلم أنك مثلي , فأنت مجنونة تماماً )) . ـ

ـ أظنني كذلك . لأن المرأة العاقلة لا ترضى حتى أن تفكر في عرضك .

ـ هذا صحيح وعلي أن أكون شاكراً إذن .

قال هذا وهو ينظر إلى وجهها , ومازال يبتسم محدقاً في عينيها . وفجأة

تبددت ابتسامته , وتراجع إلى الخلف : (( هل يمكنك الاستعداد للسفر خلال

يومين ؟ )) . ـ

ألقى هذا السؤال بتهذيب بارد , ومنعها الذهول من الكلام . فما إن بدأ

قلبها ينبض لقربه منها , حتى ابتعد متعمداً مغلقاً الباب على ما كان يمكن أن

يحدث بينهما , تمالكت أنفاسها وأجابت بصوت يماثل صوته : (( بما أن علي

أن أتحدث كنساء الأعمال , هل سأحصل على المال خلاص هذه المدة ؟ )) .

ـ ستحصلين عليه ظهر الغد .

ـ لكنك لم تر دفاتري .

ـ وهل أنا بحاجة إلى ذلك ؟ أنا واثق من أنها فظيعة .

ـ ربما كان المبلغ أكبر من مقدرتك .

ـ لا تقلقي . ـ

أطلقت ضحكة قصيرة حادة يشوبها التوتر والغضب : (( إذن , ربما علي

أن أتزوجك لأجل أموالك )) .

ـ أظن ذلك . أليس هذا ما كنا نتناقش فيه ؟

شملته بنظرة تمرد وهي تشبك ذراعيها على صدرها : (( لا استطيع أن

أهزمك أليس كذلك ؟ )) . ـ

ـ أحاول أن أضمن ربحي مع الجميع , إنها الطريقة الفضلى لبلوغ . . .

ـ القمة . . .

أكملت له كلماته فأومأ لها باحترام وقال : (( دعيني أقلك إلى بيتك )) .

ـ لا , أشكرك .

تلاشى غضبها عندما اطمأنت إلى مصير عملها الذي تحبه أكثر من أي

شيء في العالم . وبابتسامة مفاجئة عامرة بالبهجة قالت : (( أريد أن أبقى

وحيدة هنا فترة , بعد أن أصبح المكان آمناً )) .

فقال بحزم : (( سأنتظرك في الخارج . لقد حل منتصف الليل ولن أدعك

هنا وحدك مع هذه التحف , فريسة للناهبين وربما أسوأ من ذلك . موتك

لن يناسبني على الإطلاق )) .

فقالت بلطف : (( لا , لأنه سيكون عليك أن تراجع خطتك من جديد )) .

أمسك بيدها : (( يسرني أن أتعامل مع امرأة تفهم ما هو مهم . سأكون

خارج المتجر )) .

أمسك بيدها لحظة , ثم رفعها إلى شفتيه ليطبع عليها قبلة خفيفة قبل أن

يخرج . ـ

عندما أصبحت وحدها , نظرت إلى يدها التي كانت لا تزال تخزها .

راحت ترتجف وقلبها يخفق بشدة , ولكنها لم تعرف ما إذا كان ذلك بسبب

السرور أو بسبب الخشية . لقد هدد تحكمها بنفسها . أخذت تفرك بغضب

قفا يدها حتى أيقنت بأن ذلك التأثير قد تبدد . ثم نظرت حولها فتألقت

عيناها , إنها آمنة . ولو لفترة على الأقل . ـ

عـــــاد إليـــها طبعــها الغـــاضب ففكـــرت أن الخطوبة بإمكانـــها أن تستــمـر فقط

إلى أن تنتهي من دراسة (( قصر مانيللي )) . لم لا ؟ لقد شملها بنظرة وكأنها سلعة

يمكنه أن يستفــيــد منــهـــا , فلمـــاذا لا ينبغي لها أن تفعـــل معه الشيء نفسه ؟

وتملكتها موجة ثانية مــــن الاستياء للطريقة التي اقتـــرب فيها مـنـهـا , ثم عاد

فتراجع , لن يكون من السهل التعامل مع رجل مسيطر عل نفسه إلى هذا

الحـــد , وارتسم وجهه في ذهنــها فسقطت عينــاها على وجه أوغسطس

البرونزي . . . كان الوجهان متشابهين تماماً . . . مهما كان رأي ماركو .

وتذكرت كلمات أولمبيا : ( أنفه رائع , ورأســـه أرستقراطـي , وفمه جميل

صارم ) . وكان ذلك صحيحاً , لكن الغريب أنها الوحيدة التي رأت ذلك في

رجــل حي .


* * *

Just Faith 28-09-17 06:27 PM

3 ـ

امـــرأة جديدة

خـــلال الـيــومين التـــاليين , لم تـحظ هـــارييت بوقت للتفكير لكثرة

التحضيرات المتوجبة عليها , تفحص ماركو دفاتر المتجر , واستغرب

الطريقة التي تتبعها في تسيير أعمالها . لكنه سدد ديونها , كما ترك لها مبلغاً

إضافياً لمديرة المتجر الممتازة التي استلمت عنها , وبلغت دهشة ماركو مبلغها

عندما جاءها زبون وكان على وشك أن يشتري قطعة ثمينة للغاية , وإذا بها

تتكلم عن القطعة باستخفاف حتى فقد الزبون اهتمامه بها وخرج من دون أن

يشتريها . فقال لها ماركو , الذي كان جالساً ينظر مذعوراً : (( ليس في القطعة

أي عيب )) . ـ

ـ نعم , لكن الزبون لم يعجبني .

ـ ماذا ؟

ـ لم يكن ليمنح القطعة العناية اللازمة . أنت لم تفهمني , أليس كذلك ؟

فأجابها عابساً : (( مطلقاً )) .

ـ هذه ليست مجرد أشياء أشتريها وأبيعها . فأنا أعشقها . هل تبيع كلباً

صغيراً مدللاً لرجل تعرف أنه لن يعتني به ؟

ـ الكلاب كائنات حية يا هارييت , بخلاف هذه .

ـ وهذه أيضاً حية , أنا لا أبيع شيئاً لشخص لا أثق به . ـ

ـ أنت مجنونة , تتصورين أشياء خيالية , فلنذهب من هنا .

سافرا ظهر اليوم التالي إلى روما , حيث كانت بانتظارهما السنيورا لوشيا

كالـﭭانـي , وأشرق وجهها ما إن رأت هارييت . هتفت وهي تتقدم نحوها

فاتحة ذراعيها : (( إيتا , عزيزتي الغالية إيتا )) .

شعرت هارييت بغصة في حلقها لهذا الترحيب غير المنتظر . وسألتها

لوشيا وهي تمسك بكتفيها وتتراجع خطوة : (( أنت تعلمين لماذا دعوتك باسم

إيتا , أليس كذلك ؟ )) .

ـ كان أبي يدعوني بهذا الاسم في طفولتي . وكان يقول إن أمه . . .

ـ نعم , كان تصغير اسمها إيتا , آه , كم تشبهينها .

وعادت تحتضنها مرة أخرى , بدا استقبالها لابنها متحفظاً , لكن

نظراتها لم تدع مجالاً للشك في أنه محور حياتها . ثم عادت , على الفور ,

بانتباهها إلى ضيفتها لتمسك بذراعها وتقودها إلى حيث كانت سيارة الرولز

رويس بالانتظار .

اجتازوا منطقة ريفية إلى أن وصلوا جنوب المدينة , كانت المنازل

الفخمة مبنية بعيداً عن الطريق , مستترة خلف أسوار عالية وبوابات حديدية

مزخرفة , حيث تقطن الأسر التي كانت تدير العالم بهدوء . ولم يكن بإمكان

عائلة كالـﭭانـي أن تعيش في مكان آخر .

بدت السنيورا كالـﭭانـي امرأة رائعة الجمال , بيضاء الشعر , بالغة

الأناقة , وتكهنت هارييت بأنها على الأرجح تناهز السبعين من العمر , لكنها

بقامتها الطويلة النحيفة ومشيتها المرنة تبدو أصغر سناً .

ـ فرحت كثيراً عندما أخبرني ماركو أنك ستزوريننا , فمنزلنا يبدو خالياً

تماماً أحياناً .

قالت لها هذا وهم يجتازون بالسيارة البوابة الحديدية للفيلا . انسابت

السيارة بين الأشجار إلى أن لاحت لهم الفيلا فجأة . بدت بيضاء بالغة

الفخامة والاتساع , تتدلى الأزهار من شرفاتها , وتؤدي إلى بابها الأمامي

درجات عريضة

فتح أحد الخدم الباب , فسارت لوشيا أمامها بمهارة إلى الردهة ومنها

إلى صالون فسيح . جاءت خادمة فأخذت معطف هارييت , وأتت خادمة

أخرى بعربة الشاي . فقالت لوشيا : (( شاي انكليزي , لك خصيصاً )) .

إلى جانب الشاي كان هناك بسكويت وحلوى تناسب كل الأذواق .

تبادلوا الدعابات والمزاح لفترة , رغم أن هارييت أحست بأن انتباه

لوشيا الحقيقي كان في مكان آخر . فقد راحت تتفحص ضيفتها , وبدا

واضحاً أن ما رأته قد سرها . إذ لم تعرف هارييت في حياتها ترحيباً بمثل تلك

الحرارة , وبدا ماركو مسروراً لما رآه . ـ

نهضت لوشيا قائلة : (( والآن , سأريك غرفتك )) .

بدت غرفتها رائعة للغاية بنوافذها المطلة على الريف الإيطالي البديع

وعلى النهر وأشجار الصنوبر الممتدة تحت أشعة الشمس . كان السرير يتسع

لثلاثة وقد صُنع من خشب الجوز المحفور وزُين بالملاءات المطرزة . أما

الأرض فخشبية مصقولة , والأثاث قديم الطراز مصنوع من خشب الجوز

أيضاً . وكانت التحف تقليدية , بعضها ثمين كما لاحظت هارييت بعينها

الخبيرة . لكنها لم تشأ أن تفكر في العمل حالياً . ـ

سألتها لوشيا بلطف : (( أتظنين أنك ستكونين مرتاحة هنا ؟ أتريدين أن

تغيري شيئاً ؟ )) .

ـ كل شيء رائع . وأنا فقط لم . . . ـ

وتملكها الذعر عندما اغرورقت عيناها فجأة بالدموع فأشاحت

بوجهها . فأجفلت لوشيا : (( ماذا حدث ؟ هل كنت فظاً معها يا ماركو ؟ )) .

فأجاب على الفور : (( كلا , بكل تأكيد )) .

فقالت هارييت بصوت أحش : (( على العكس كلاكما . . . لم أعرف

يوماً . . . )) .

فقال ماركو وعدم الارتياح بادٍ على وجهه : (( علي أن أذهب إلى العمل ,

فقد أهملته أكثر مما ينبغي . . . )) . ـ

فسألته أمه باشمئزاز : (( ماذا تعني بقولك ( أكثر مما ينبغي )؟ )) .

ـ أرجو المعذرة منك ومن هارييت لم أقصد أن أكون عديم التهذيب .

ولكن علي حقاً أن أعود إلى مكتبي ومن ثم إلى شقتي لعدة أيام .

ـ ألن تأتي إلى العشاء الليلة ؟ إنه أول مساء لإيتا معنا .

ـ للأسف لن أتمكن من تناول العشاء معكما , لكنني سأزوركما قريباً .

قبل أمه وبع لحظة تردد , قبل خذ هارييت , ثم خرج بسرعة . هتفت

لوشيا : (( يا له من تصرف ! )) . ـ

ـ إنه مدمن على العمل . وأظنه ضيع الكثير من الوقت .

ـ أنا وأنت سنمضي الأيام القليلة المقبلة معاً . كم أنا سعيدة .

وضغطت على يد هارييت .

شعرت هارييت بأنها دخلت الجنة على غير توقع . فلوشيا فعلت ما

بوسعها لترضيها وأمرت بإعداد الطعام الانكليزي خصيصاُ لها .

طبت لك ذلك لأنني أعلم أنك نصف إنكليزية , لكن الإيطالية تسري

في دمك , أليس كذلك ؟

ـ نعم . ـ

وافقتها هارييت وهي تتساءل عما قاله ماركو عنها , فقد كانت عينا

لوشيا تنضحان تفهماً . ومنذ ذلك الحين أصبحت الإيطالية لغتها , وسرعان

ما أصبحتا صديقتين , سألتها لوشيا : (( لماذا لا تتصلين بأبيك لتعلميه بأنك

هنا ؟ )) .

لم تشأ هارييت القيام بذلك . لكنها عملت بنصيحة مضيفتها . أجابها

صوت غير مألوف أخبرها بأن السنيور ديستينو وأسرته في رحلة لعدة أيام ,

لكنه لم يخبرها بمكان وجودهما حتى عندما أخبرته هارييت إنها ابنته , بدا

واضحاً أنه لم يسمع بها قط من قبل . تركت رسالة لأبيها طالبة منه فيها أن

يتصل بها . ثم أقفلت الخط رافضة أن تشعر بالألم . ـ

استيقظت هارييت في الصباح التالي منتعشة , لتجد أن لوشيا قد

وضعت برنامجاً لنهارهما : ((سنتغدى في المدينة , ثم ذهب في جولة )) .

أسعدها أن تجدد معرفتها بروما , هذه العاصمة العظيمة التي عاشت في

أحلامها . لقد كانت ذات يوم عاصمة العالم , فأصبحت الآن تعج بالسياح

وزحمة السير , ومع ذلك ما زالت مليئة بالآثار القديمة الخالدة . بعد الغداء

أخذتا تتمشيان في شارع (( فيا فيتيتو )) الرائع , وأشارت لوشيا إلى شقة ماركو

التي كانت في الطابق الخامس رفعت هارييت نظرها إلى النوافذ , لكنها

كانت مقفلة . ـ

أمضت اليوم التالي وحدها لأن لوشيا كانت عضواً في عدة جمعيات

خيرية وعليها أن تحضر اجتماعاتها . وهكذا انطلقت , سعيدة , تتجول في

شوارع روما المبلطة , مستكشفة الأزقة الضيقة لتصل أخيراً إلى متجر يختص

ببيع تحف إغريقية . وعندما غادرت المتجر كان دينها قد ازداد بشك كبير .

كانت تتطلع بشوق لترى ما اشترته لماركو , لكنها حتى الآن لم تسمع

عنه شيئاً . تناولت المرأتان عشاءهما ذلك المساء وحدهما . وفيما بعد , وهما

تحتسيان القهوة معاً قالت لوشيا فجأة : (( هل يبدو لك فظيعاً أنني أبحث

لابني عن عروس مناسبة ؟ )) . ـ

ـ ربما يبدو ذلك غريباً نوعاً ما . ألا يعترض ماركو على فكرة الــزواج

من غريبة ؟

ـ هذا أسوأ ما في الأمر , فهو لا يمانع أبداً . كان خاطباً مرة لكن الخطبة

فشلت ومنذ ذلك الحين وهو يتصرف وكأن المشاعر لا تعني له شيئاً .

ـ هل كان يحبها ؟

ـ أعتــقــد ذلـك , لكنه لا يـتـحــدث عــــن هذا الموضوع أمــام أحــــد ولا حتى

أمامي . ربما أنــا عــاطفية حمقــاء , لكنني كنت أحب إيتا كثيراً وقــد ماتـت

صغيرة جداً . كل ما أطلبه هو أن أرى عائلتينا متحدتين في الـزواج والأولاد .

ـ أتمنى أن تخبرني عنها .

ـ كنت صديقة لإحدى أخواتها فأخذتني لتعرفني إلى أهلها . كانت إيتا

أكبر مني بعشر سنوات , لكنها أخذتني تحت جناحـها لأن أمي كانت ميتة .

وكنت اشبينتها في عرسها وأول من رأى أبيك حين ولد . لقد رغبتا أن ينشأ

أولادنا معاً , لكنني تزوجت متأخرة . ثم مرت سنوات كثيرة قبل أن يولد

ماركو . لذا لم يحدث ذلك . ثم ماتت عزيزتي إيتا وما زلت أفتقدها كثيراً .

كانت الشخص الوحيد الذي استطعت أن أفضي إليه بما في نفسي .

ـ هل أنا أشبهها حقاً ؟ ـ

جــوابــاً على ذلك فتحت لوشيا خزانة وأخــرجـت مـنهــا ألـبـــوم الصــور .

ناولتها إياه وبدأت تريها الصرة تلو الأخرى : (( هذه هي . . . إنها إيتا عندما

كانت في عمرك )) . ـ

كانت الشابة في الصورة ترتدي ملابس قديمة الطراز , أما وجهها فكان

شبيهاً بوجه هارييت وكأنه انعكاسها في المرآة . وقالت بعجب : (( أنا حقاً

حفيدتها )) .

ـ أكثر من أولمبيا بكثير : فهي لم تكن مناسبة مطلقاً . إنها فتاة ظريفة

حلة لكنها طائشة , ومع ذك فقد فكرت فيها أولاً لأنني عرفتها منذ

سنوات طويلة . يا ليتني عرفتك أكثر . و يا ليت أمك لم تبعدك عنا !

ـ يا ليت . . . ماذا ؟

ـ قال أبوك إنها لم تشأ أن ترى أياً من بعد أن تطلقا . وأصر على العودة

إلى إنكلترا . ونفاها إلى هناك نهائياً )) .

فقالت لوشيا على الفور : (( يا لتلك المرأة ! لم أحب أباك قط . إنه ضعيف

الشخصية وغير جدير بأمه . والآن , أثار اشمئزازي تماماً )) .

فقالت هارييت غاضبة : (( وأنا كذلك . لق أنكر علي تراثي الإيطالي

الثقافي )) . ـ

ـ حسناً , يمكنك أن تستعيديه هنا .

قالت لوشيا هذا بحرارة , فأجابت هارييت متألمة : (( نعم . بالطبع )) .

ـ هل من الفظاظة أن أقترح عليك أن ترتدي أزياء بلادنا ؟

ـ أتعنين أن ملابسي تبدو حقيرة ؟

ـ كلا بالطبع . ولكن بين المواهب الإنكليزية الكثيرة , ربما تفصيل

الملابس ليس . . .

وتركت بقية الجملة ون نهاية . فقالت هارييت بلهجة حاسمة : (( لا ,

معك حق . حان الوقت لكي أبدو بشخصيتي الحقيقية )) . ـ

ثم اهــتـزت ثقتها بنفسهــا وتــابعت مترددة : (( مهما كــانت تلك

الشخصية )) .

ـ لا تقولي شيئاً كهذا مرة أخرى . منذ هذه اللحظة عليك أن تعيشي

مجدداً .

في الصباح التالي ذهبتا إلى (( فيا دي كوندوتي )) أغلى متاجر روما . وهناك

راحت لوشيا تنتقي الأثواب مبعدة هذا بغطرسة , واضعة ذاك جانباً , إلى أن

تكدست الملابس شيئاً فشيئاً . وعندما غيرت هارييت ملابسها كلها شعرت

بأنها شخص آخر . كان شعوراً غريباً لكنه أعجبها .

بعد ذلك عرفتها السنيورا إلى السيدة تالي مصممة الأزياء المتفوقة , التي

أمضت فترة العسر في دراسة وجه هارييت وما يليق به . وكانت هارييت

نادراً ما تعبأ بالماكياج . لكنها الآن أدركت خطأها . ـ

عيناها , بخضرتهما الرائعة , يجب أن تبدوا أوسع وأكثر تألقاً . وأحمر

الشفاء يجب أن يكون متلائماً مع لون العينين , ويبدو أن كل درجات الألوان

تلائمها ما عدا اللون الذي اعتادت استعماله . كانت الشابة التي بادلتها

النظر في المرآة غريبة , ذات عينين كبيرتين مظللتين وفم ممتلئ , لطالما حاولت

تصغير حجمه . ـ

وعندما أمسكت تالي المقص , هتفت هارييت : (( ليس شعري )) .

ـ لا يمكنك أن تخفي وجهك خلف ذلك الستار من الشعر .

قالت لوشيا هذا , لكن هارييت , التي بقيت لينة مرنة حتى الآن ,

تمسكت فجأة بالعناد وقد تملكها رغب غير مفهوم من التفكير في خسارة

شعرها . استسلمت المرأتان أخيراً , لكنهما أصرتا على أن ترفعه عن وجهها .

وبعد لحظات كان شعرها المرفوع ق غير شكل رأسها بأكمله . كاشفاً عن

عنق طويل رائع كادت تنسى أنها تملكه . أخذت تتأمل نفسها , ممزقة بين

الذعر والحماسة , مفكرة رغماً عنها بأن كارلو سيندهش حين يراها .

اختارتا أخيراً ستة أثواب . أبقتا خمسة منها في المتجر حتى اليوم التالي

لك يتم تقصيرها , ولم تأخذا معهما سوى بنطلون زيتي اللون وقميص من

الساتان , وعندما جلست هارييت تتناول العشاء مع لوشيا , كانت معنوياتها

مرتفعة للغاية , وفكرت في أن ماركو سيعجب بها لو جاء الآن . ـ

لكن الأمسية مرت من دون أن يظهر له أثر , اتصلت به لوشيا ولكن

عندما سمعت المجيب الصوتي قالت بحدة : (( لا . لن أترك له رسالة )) .

ـ يبدو أنه مشغول جداً .

حاولت هارييت أن تهدئها بهذه الكلمات وإن كانت في الواقع تشعر

بأنها تريد أن تصرخ مثلها .

ـ مرت عدة أيام وهو . . . مشغول . ألا يمكنه أن يستغني عن بعض

الوقت لأجل . . . لأجل . . .

ـ لكنني لا أعني له شيئاَ . أنا هنا فقط لكي نستطيع , أنا وهو , أن نعرف

بعضنا بعضاً . ـ

ألقت لوشيا عليها نظرة معبرة : (( حسناً , أنت ابتدأت لكل تأكيد

تتعرفين إلى ابني . إنه أناني وغير مبالٍ )) . ـ

بدا لها هذا صحيحاً . هل هذه حقاً نظرة ماركو إلى الغزل والتودد ؟ أن

يتركها هنا لكي تكسب رضى أمه وكأن ذلك هو الشيء الوحيد المهم ؟

وصلت بقية الملابس عصر اليوم التالي فجعلتها لوشيا تستعرض نفسها

بينما أخذت هي تتأملها .

قالت هارييت : (( أنا لست واثقة بالنسبة إلى ثوب السهرة هذا . إنه

ضيق )) .

ـ بل إنه يلائم جسمك . وهو يبرز ثناياك بشكل بديع .

اقتربت هارييت من المرآة : (( ولكن ليس لدي ثنا . . . آه , بل لدي )) .

وأخذت تستجير , محاولة أن ترى الثوب الزعفراني اللون قدر

الإمكان , من دون أن تجفل من الطريقة التي يكشف بها جسمها

ـ همممم . . .

قالت هذا وقد ابتدأ السرور يتملكها .

ـ كان عليك أن تشتري لنفسك ملابس لائقة من قبل , بدلاً من تضييع

وقتك على تاريخ الآثار . الرجال الأموات بأحسن حال في قبورهم , لكنهم

لا يصفرون للنساء . ـ

ـ ربما أنا لا أريد أن يصفر لي الرجال .

ـ هل أنت امرأة أم لا ؟ أنت جميلة وعليك أن تبرزي جمال جسدك .

ـ هذا ما أفعله . ـ

قالت هذا وهي تحاول عبثاً أن تشد فتحة الثوب إلى أعلى : (( هذا الثوب

ضيق لدرجة أنني أبدو كأنني عارية تماماً )) .

ـ إنه ممتاز , ماركو , يا ولدي العزيز .

فاستدارت هارييت مجفلة لتجـــد أن مــاركو قـــد دخــــل إلى الغرفة بهدوء

وهو ينظر إليه مـســروراً . نهضت لوشيا وعانقته , فعانقها بـدوره بعطف

قبــل أن يلقـــي بقبلة على وجنة هارييت . فعبقت خيــاشيمها برائحة عطره

ممزوجة برائحة رجولته الحادة القوية .

سألته أمه : (( ألا تظن أن مظهر هارييت يتحسن ؟ )) .

ـ أظنها رائعة الجمال . ولكن يجب أن ترفع شعرها .

ـ الحق معك . ماذا لم ترفعيه اليوم يا إيتا ؟ كان يبدو جميلاً جداً أمس .

وأمسكت بخصلات شعرها رفعتها فوق رأس هارييت .

فقالت هارييت مجفلة : (( لا )) .

ثم عادت تسدله على كتفيها , ولكن كان هناك سبب آخر يمنعها , لم

تستطيع أن تفهمه ابتدأت تشيح بوجهها مبتعدة , لكن يدي ماركو أمسكتا

بكتفيها تديرانها إليه لتواجهه , ثم شعرت بأصابعه على رقبتها تجذب شعرها

إلى أعلى . وسألها : (( لماذا تريدين أن تخفي وجهك ؟ )) .

ـ ذلك ليس صحيحاً

ـ بل أظنه كذلك . ـ

ونظر إليها لحظة قبل أن يقول برقة : (( وأظن أيضاً أن على أبيك أن يجيب

على أسئلة كثيرة )) .

ـ لا أدري ماذا تعني . . .

وماتت الكلمات على شفيتها , ذلك أنها فهمت تماماً ماذا يعنيه وهو

يقول : (( إذا كنت تظنين بأن أحداً لن يرغب برؤية وجهك , لمجرد أن أبيك لم

يكن يسر برؤيته , فأنت مخطئة )) .

ذهلت لهذا الكشف المفاجئ , فصحيح أن معاملة أبيها تلك , التي

ظنت أنها استطاعت أن تتجاوزها , ما زالت تؤثر فيها حتى الآن . لكنها لم

تتوقع أن يرى تلك الحقيقة رجل بارد عديم المشاعر . قابلت عينيه , ثم

أخذت نفساً حاداً وجمدت وهي ترى فيهما شيئاً ما . . . أم أنها مخطئة ؟ لكن

تبد ذلك بسرعة ظنت معها أنه وهم . قال ماركو فجأة : (( إرفعيه . الشعر

الطويل لا يناسب أبداً هذا الثوب )) .

هذا السبب الواقعي المبتذل أعادها إلى الواقع . أسرعت إلى غرفتها لتجد

الخادمة التي كلفتها لوشيا بمرافقتها , فساعدتها على رفع شعرها كما كان في

اليوم السابق . ـ

وعندئذ نزلت إلى الطابق الأسفل , لم يقل كارلو شيئاً عن مظهرها بل

اكتفى بإيماءة راضية . أما لوشيا فكانت قد استفاقت من فرحتها بحضور

ابنها وتذكرت أنها مستاءة منه .

ـ أظن علينا أن نكون شاكرتين لأنك تنازلت وتذكرتنا أخيراً . هل

سنحصل على خمس دقائق من وقتك الثمين أم عشر ؟

فقال ضاحكاً : (( لا تغضبي مني يا أمي ! لقد جئت لأكفر عن ذلك ,

وأدعو هارييت لتخرج معي الليلة )) .

* * *

نهاية الفصل (( الثالث ))

: : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : :

Just Faith 28-09-17 06:28 PM

4 ـ

رقصة حـــب

(( بيلا فيغرا )) مطعم ليلي يقع في شارع (( فيا فيتيتو )) الذي يبعد عدة أمتار

عن شقة ماركو . حال وصولها المكان أحست هارييت بأن الجو عابق بالثقافة

والعلم , وتساءلت كم من النساء أحضرهن ماركو إلى هنا .

قادها إلى مائدة منفردة بعض الشيء . لم يكن البرنامج الترفيهي قد

ابتدأ , و كان النادلون يسرعون ذهاباً وإياباً لتلبية الطلبات . استدعى ماركو

أحدهم بنظره واحدة , ما أغاظ عدداً من الزبائن الذين طال انتظارهم .

جلست هارييت بارتياح حتى أن انزعاجها بسبب ثوبها الضيق بدأ يزول .

ـ آسف لتقصيري هذا . أمي غاضبة جداً مني . هل أنت كذلك أيضاً ؟

فقالت غير صادقة تماماً : (( لا . لا بد أن لديك عملاً كثيراً بعد سفرك )) .

فأومأ : (( لدي سكرتيرة جيدة , لكنني أفضل أن أتابع الأعمال بنفسي .

أنا شاكر لك تفهمك , و آسف لأن أمي لا تتفهم ذلك . إنها تظن أن هذا

يجرحك ويجعلك تسرعين بالعودة إلى انكلترا )) . ـ

فقالت ببشاشة : (( لا , فأنا مسرورة جداً هنا , أنا وأمك منسجمتان

جداً )) .

ـ هذا ما فهمته منها , بالمناسبة , أتراني رأيتك في شارع (( فيا فيتيتو ))

أمس ؟

ـ ربما . فقد استأجرت سيارة من هناك بعد أن اشتريت بعض

الحاجيات . لقد وجدت متجراً على بعد شارعين . . . )) .

أخبرته كل شيء دفعة واحدة . . . زيارتها إلى روما , النفائس الأثرية

التي اكتشفتها , اللحظة التي ساورها فيها شعور بالذنب لإطلاق العنان

لنفسها في الشراء , بهجة التملك . . . أصغى ماركو إليها , أولاً بابتسامة , ثم

بحذر متصاعد . ـ

ـ ماذا اشتريت بحق الله ؟

تلت عليه القائمة .

ـ وكم كلفك هذا ؟

فقالت بلهجة دفاع : (( إنها صفقة . وهي ستبدو رائعة في المتجر )) .

ـ المتجر الغارق بالديون ؟ بحق الله يا امرأة , أليس لديك إحساس بقيمة

المال ؟

ـ إسمع , أنا أعرف أهمية المال , فأنا لا أنكرها .

فقال بلهجة لاذعة : (( هو ذا تنازل منك الآن ! )) .

ـ ولكن المال ليس الأول في قائمة أولوياتي . . .

ـ يهمني أن أعرف مرتبته في قائمة أولوياتك .

جعلها الغيظ تقول بصراحة : (( في أسفل القائمة إذا كان التفاوض هو في

موضوع الجمال )) . ـ

ـ الجمال يكلف مالاً .

ـ هذا , هذا صحيح !

ـ لا بأس . هيا أخبريني بأنني مخطئ .

لم تستطع . خبراء الاثار يعرفون أكثر من غيرهم كم يكلف الجمال ,

واضطرارها للاعتراف بذلك أثار سخطها أكثر من أي شيء آخر .

ـ لا تنسي أنني رأيت حساباتك , وأذكر جيداً كم كانت مثيرة للشفقة .

أظنك تعتبرين القيام بالعمل بشكل جيد ومسألة غير إلزامية .

ـ كلام فارغ . ـ

ـ ماذا قلت ؟

ـ لا بأس . أنا أعترف بأنني أميل إلى ترك هذا النوع من الأشياء يعالج

نفسه بنفسه .

فحدق في عينيها الشاردتين : (( هل هذا حقاً ما تفعلينه ؟ )) .

ـ حسناً , أنت تعلم أنني كذلك ؟

ـ نعم , لكنني لم أعلم أنك ستحافظين على عاداتك في روما أيضاً .

فقال بتمرد : (( أنا هكذا في كل مكان )) . ـ

ـ هذا ما ابتدأت أدركه . ربما كان علي أن أوضح لك أن قرضي لك

مشروط بعدم الوقوع في الدين مجدداً.

ـ لست أقع في الدين , بضاعتي تجلب ربحاً .

ـ دوماً تفترضين أن بإمكانك أن تجدي بيوتاً رفيقة بالقطع التي

تبيعينها . . . إسمعي , أنت بائعة . ألا تعلمين أن من التهور شراء بضاعة من

بائع آخر بثمن كامل لا ربح فيه ؟

ـ طبعاً أعلم ذلك , لكنني لم أستطع أن أمنع نفسي .

ـ لم تستطيعي منع نفسك ؟ دعينا جميعاً نعيش تبعاً لدوافع عاطفية دون

حس بالمسؤولية إذاً .

فقالت ببرودة : (( هذا مختلف )) .

ـ لا أرى أي اختلاف .

ـ لأنك لا تعرف كيف تعيش تبعاً لدوافع عاطفية .

فقال بحماسة : (( الحمد الله )) .

ـ أنا لا أقلل من شأن المسؤولية . أنا أعرف كل هذه الأمور . . .

ـ ليس كافياً أن تعرفيها . عليك أن تعيشي بها .

ـ عندما رأيت تلك القطع الأثرية , أُغرمت بها . أنت لا تفهم مثل هذه

الأمور , أليس كذلك ؟

ـ بل أعرفها جيداً . لقد أحببت تلك التحف , فتخيلت عن كل حس

منطقي وكل تقدير وموضوعية . إياك ثم إياك أن تقرري أمراً و أنت عاشقة .

وسكت عندما لاحظ أنه يتنفس بسرعة . وتملكه السرور لرؤية النادل

قادماً , لم ينظر إليها بينما كان هذا الأخير يبذل لهما الأطباق , وعندما عادا

وحدهما , ابتسم وكأنما شيئاً لم يكن : (( أنا لم أحضرك إلى هنا لأنتقدك . ربما

تجاوزت الحد قليلاً )) .

ـ قليلاً فقط . أظنني أبدو مجنونة بالنسبة إلى شخص يعمل في مجالك .

فقال ضاراً : (( لا تدعينا نبدأ ذلك من جديد . ولكن دعيني ألقي نظرة

على أوراق العمل , يمكنني أن أخبرك كيف . . . أستطيع أن أقترح أشياء قد

تجدينها نافعة ؟ )) .

فقالت بوداعة : (( شكراً )) .

أوشك أن يجيبها ثم رأى لمعان عينيها فآثر الصمت .

ـ ما هو عملك بالضبط .

ـ أنا اعمل في مصرف تجاري وأتعامل بالأسهم والسندات , وأقدم

الاستشارات المالية .

أخذ يشرح لها كل شيء عن عمله , بينما كانت هي تصغي إليه

باهتمام . قال : (( السيطرة سر النجاح . عليك دوماً أن تكوني المسيطرة وأن

تتفوقي بشيء ما على الآخرين . أنت فقدت السيرة على متجرك , وأنا الآن

المسيطر . . . لا , لا تغضبي , أنا لا أريد شيئاً منك . إنني فقط أساعدك لكي

تتجنبي مسيطراً مثلي في المستقبل )) .

ـ لا بأس , تابع حديثك . ـ

كانت مبهورة إلى حد لم تفكر فيه في الدفاع عن نفسها مرة أخرى .

وعندما راجع نفسه قال : (( دعيني أوضح لك ذلك بطريقة أخرى . . )) .

أجابته ساخطة : (( أنت لست بحاجة إلى تبسيط حديثك عن الموضوع ,

فأنا أفهم كل كلمة تقولها )) .

ـ إدراكك إذن يفوق إدراك أختك . ـ

انفجرت هارييت ضاحكة , ثم قالت والضحك يخنقها : (( أتصورك

تتكلم بهذا الشكل إلى أولومبيا , بينما هي تحاول أن تبدو مهتمة )) .

فقال بابتسامة عريضة : (( كانت عيناها ستبدوان جامدتين , وبالمناسبة ,

أكثر النساء يصبحن هكذا بعد أول دقيقة من حديث كهذا )) .

ـ هذا هو رأيي أنا أيضاً , إذا أنت أخذت امرأة في موعد , فهي لا تريد

أن تسمع محاضرة عن الأسواق المالية .

ـ وأنت ليس لديك مانع ؟

ـ هذا مختلف . نحن شريكان في العمل .

فقال بعد لحظة : (( هكذا إذن , ونحن الآن في اجتماع عمل )) .

ـ لكي نفكر في تقدم مشروعنا حتى الآن , ونخطط للمرحلة المقبلة .

ـ حسناً , أولاً , هل يمكننا أن نتفق على أن تكبحي غريزة الشراء لديك

لفترة ؟

ـ أتعني أنك تريدني أن أتوقف عن إنفاق المال ؟

ـ كنت أحاول قول ذلك بشكل مهذب ولكن من الآن فصاعداً أنا من

يحدد المصاريف .

تبدد فجأة ذلك الإعجاب الذي كان قد بدأ ينمو داخلها فسألته بنبرة

تبعث الحذر في النفس : (( ماذا قلت ؟ )) .

ـ لا مزيد من الشراء . هذا يكفي .

ـ من قرر ذلك ؟

ـ أنا , إنني أقوم بإصلاح كامل لنظامك المالي . ولا يجدر بك أن تفعلي

شيئاً حتى أقوم الوضع . ـ

ـ حسناً , حسناً ! وماذا حدث للذوق واللياقة ؟

ـ أي ذوق ولياقة ؟ سيسببان لك الإفلاس ؟

فقال بفروغ صبر : (( كلام فارغ . ليس بإمكانك أن تفلسني )) .

ـ كم هذا ممتع ! حقاً على أن أتزوجك لأجل أموالك . دعنا نعلن

خطوبتنا حالاً .

ـ يا له من عرض لا يمكن مقاومته !

ـ حسناً , لنواجه الأمر , ليس لديك شيء آخر تعرضه . فأنت فظ ,

مستبد , متغطرس ومتكبر . . . ـ

ـ هل يُفترض بي أن أتأثر بهذا الكلام ؟ فكري جيداً . لا عيب في

الغطرسة إذا كان الشخص واثقاً من نفسه .

ـ وأراهن على انك دوماً واثق من نفسك . ـ

ـ تماماً . وهذا يمنعني من أن أخطئ بسبب الناس الذين لا يعرفون ما

يتكلمون عنه .

ـ أتعنيني أنا ؟

ـ أعني أي شخص بهذه الصفة .

ـ تعني بقية العالم بالنسبة إليك . لهذا ستحصل الآن بالضبط على

الزوجة التي تحتاجها . تلك التي رأت أسوأ صفاتك وستتحملك لأجل

أموالك .

قال ساخراً : (( أتظنين أنك رأيت أسوأ صفاتي ؟ )) .

ـ حسناً , أرجو ألا تكون بقية أسوأ منها .

ـ قد تكون كذلك .

ولمعت عيناه : (( قد تكون أسوأ بكثير . فكري جيداً قبل أن تقبليني

زوجاً )) .

ـ جميل ! لقد انتهى كل شيء . هنا تنتهي أقصر خطوبة في التاريخ . بطلا

الرواية لم يستطيعا احتمال بعضهما بعضاً .

خفض صوتها عند آخر كلماتها , وهي تلاحظ أنها تجتذب انتباه

الزبائن . وكذلك نظر ماركو حوله , قبل أن يخفض صوته ويميل نحوها

قائلاً ببرودة : (( لق تصرفت بشكل مسرحي مثير . لا حاجة بك لإظهار كل

هذا الانفعال العاطفي )) .

مالت هي أيضاً نحوه : (( لم أكن منفعلة , بل كنت واقعية هادئة . لم لا ؟

هذا ينجح معك )) .

فقال بحدة : (( أنت لا تعرفين شيئاً عني . كل هذا لأنني أردت أن أنظم

وضعك المالي . . . )) .

ـ أنت لا تريد أن تنظم وضعي المالي , بل تريد أن تتحكم بي وبه , وإذا

أنا سمحت لك بذلك , أين ستتوقف ؟

ـ سمحت لي ؟ أتظنين أنني أطلب إذناً ؟

ـ الأفضل أن تفعل ذلك .

ـ هارييت , أنا أقول لك ألا تشتري المزيد .

ـ وأنا أقول لك إنك منحتني قرضاً ولم تشتري روحاً وجسداً . المتجر هو

ملكي . ـ

ـ إلى متى سيبقى كذلك إذا أنا قررت أن أكون لئيماً ؟

ـ أنت لئيم ؟ لست كذلك بكل تأكيد . إصغ إلى يا ماركو . ذلك المتجر

هو ملكي , وأنا أديره , وأنا وحدي أقرر ما هو بحاجة إليه . إذا رأيت بضاعة

أعجبتني , لن أسألك أولاً , بل سأشتريها أخبرهم بأن يرسلوا إلي

الفاتورة .

ـ وإذا أنا أصريت على إعادتها .

ـ سيكون ذلك صعباً لأنني سأكون قد عدت إلى إنكلترا .

فقال بسخرية بالغة : (( بعد أن تسرقي قلادة (( أترورية )) أو اثنتين تخبئيهما

تحت سترتك , كما أظن ؟

فقالت وهي تصرف بأسنانها : (( كانت زائفة وأنا سأفعل كل ما هو

ضروري )) . ـ

ـ ماركو بُني !

رفع الإثنين نظرهما ليريا رجلاً متوسط السن يقترب من مائدتهما .

نهض ماركو يصافحه , مقدماً هارييت إلى الفريدو أوريس . وهو على

الأرجح صاحب مصرف (( أوريس ناشيونال )) حيث يعمل ماركو .

ـ مقاطعة طيور الحب أمر لا يغتفر .

قال الفريدو هذا بمرح وهو يجر كرسياً مجاوراً ليجلس معهما : (( ما أجمل

رؤية شابين مستغرقين في بعضهما البعض , رأساً لرأس , غافلين عن

العالم ! )) .

لا بد أن هذا ما كانا يبدوان عليه كما أدركت هارييت وهي تبتسم

بصمت . فقال ماركو بلطف ومودة : (( لا تقل شيئاً يا الفريدو . دعنا نحتفظ

بأسرارنا )) .

وضع الفريدو إصبعه على شفتيه وغمز بعينه . لم تبد ثيابه أنيقة , بل بدا

كرجل يحب أن يمضي وقتاً طيباً أكثر منه صاحب مصرف . وأخيراً تركهما

فتنهدا بارتياح . ـ

وقال ماركو وهو يزفر : (( آسف لذلك . لكنه رجل طيب وحــسن

النية )) .

فقالت ساخرة : (( ويحب العبث وأن يمثل دور صاحب المصرف )) .

ـ من أين عرفت ذلك ؟

ـ من اسمه . لكنني أظن أن الاسم هو السبب الوحيد لوجوده هنا .

فضحك : (( نعم , وهو يعلم ذلك , لكنه , والحق يقال , لا يتدخل في

شيء . أنصحك بأن تتزوجيه فهو يملك عشرة أضعاف ما أملكه أنا ,

وسيدعك تبذرين الكثير من أمواله من دون أن يحتج )) .

ـ آه , لكنه بن يتشاجر معي كما تفعل أنت .

ـ يمكنك أن تعتمدي علي بشأن المشاجرات .

ـ لا بأس , سأوافقك على أن الإدارة المالية ليست . . .

ـ ما كنت لأصف تصرفك بالإدارة المالية .

فسألته بعذوبة مصطنعة : (( أتريد أن تتشاجر مرة أخرى ؟ )) .

ـ لا . ما زال الوقت مبكراً لذلك بعد آخر مرة . دعينا نسترد أنفاسنا

أولاً .

ـ هل ستكون هادئاً بينما أقوم بنوع من التنازل ؟

فنظر إليها بانتباه .

ـ أعترف بأنني ارتكبت بعض الأخطاء , وسأهتم بسماع نصيحتك .

فلوى شفتيه : (( تهتمين ؟ )) .

ـ أهتم . ـ

ـ إلى حد قبولها ؟

ـ دعنا نر ما يحمله المستقبل .

ضحك . وغير الهزل وجهه وكأنما أضاء شيء في داخله . رأت أن

بإمكانه أن يكون ساحراً إذا سمح لنفسه بالاسترخاء . كانت قد ابتدأت

تفهم عادته في وصفه كل شيء بعبارات العمل . كانت كلمات يفهمها

بسهولة لكنها تغطي شيئاً عميقاً ف داخله , بدأ الفضول يتملكها معرفة كنه

ذلك الشيء .

قال : (( يكفي لهذه الليلة )) .

عندما قُدمت القهوة , خُفضت الأنوار , واتخذت الفرقة الموسيقية

مكانها على خشبة المسرح . ثم تقدمت امرأة شابة إلى وسط المسرح أخذت

تغني بصوت هامس . كانت أغنية من الفراق والشوق واستمرار الرغبة

عندما يتبدد كل أمل .

كانت فنانة ماهرة , تمكنت من أن تقتص الإحساس من كل كلمة حتى

آخر قطرة . وانتشر في المكان جو شاعري رقيق , غامض .

وشيئاً فشيئاً ابتدأت هارييت تستيقظ شاعرة بالحياة لإحساسها بأنها

تجلس بجانب رجل جذاب لا يفصل بينه وبينها سوى طاولة صغيرة .

اختلست نظرة إلى ماركو لترى إن كان يشعر بها كما تشعر به لكنه كان ينظر

إلى المسرح حيث المغنية . ـ

كان من السخافة أن تشعر بمشاعرها تستجيب لمجرد فكرة , لكنها لم

تستطيع أن تسيطر على السخونة التي تسللت إلى كيانها . أخذت نفساً عميقاً

مرتجفاً وسمرت نظراتها على الأرض .

أما ماركو , فقد كان مواجهاً نظراته إلى كل مكان ما عداها . لقد ذهب

إلى منزل أمه الليلة مستعداً لتناول العشاء ثم الرحيل , وهكذا يكون قد

أدى واجبه . وإذا بنظرة واحدة إلى هارييت تغير رأيه . ها هي ذي مخلوقة

رائعة الجمال , كانت متخفية في ملابس , تكايده بمراوغاتها منذ أول

ليلة .

تصميمه على إخراجها معه كان من وحي اللحظة , وهذا شيء صدمه

لكنه لم يمنعه . عندما دخل بها إلى روما , تساءل كيف ستمر بهما السهرة ,

وما الذي سيتحدثان عنه . اختلس نظرة إليها فرأى وجها متحولاً عن

خشب المسرح نحوه قليلاً , لكنها لم تكن تنظر إيه مباشرة . أدرك أنها تائهة في

عالم داخلي هو ليس مدعواً إليه . كان الشعور بالغيرة شيئاً سخيفاً , وتمنى لو

تنتبه إليه , لكنها لم تفعل . ـ

الضوء الأزرق المنبعث من المسرح أبرز الظلال بحدة , وللحظة لم تبد

كامرأة حية ولكن أشبه بتمثال لملكة قديمة ربما نفرتيتي أو كليوبترا . . .

تمثال امرأة عظيمة مسلطة رائعة . لكنه يعلم أن هذا جزء واحد فقط منها ,

وفي اللحظة التالية ستعود إلى الحياة بضحكة صبية عفريتة , أو تحملق فيه

بشراسة غريم . لا أحد يعلم . كان الفريدو يجذب انتباهه فاضطر إلى أن

يبتسم له . كان الفريدو رجلاً طيباً , ليس فطناً للغاية ولكنه ودود , وسينفعه

في الحصول على شراكة . كان يشير إلى هارييت غامزاً بعينه مشيراً إلى أنهما هما

الإثنين الرجلين الوحيدين في العالم اللذين يعلمان بهذه العلاقة . و فجأة شعر

ماركو بأنه يريد أن يضربه . ـ

توارت المغنية ضمن عاصفة من التصفيق , وعزفت الفرقة موسيقى

راقصة . سألها ماركو بأدب : (( هل تحبين أن ترقصي ؟ )) .

أمسكت بيده فقادها إلى حلبة الرقص التي سرعان ما ازدحمت ليصبح

الرقص عبارة عن حركات ثقيلة . أمسك بها بحزم , يشدها إليه ولكن من

دون مبالغة , ووجدت هي خطواتها تنسجم مع خطواته بسهولة . كان تأثير

الأغنية ما زال يتملكها , طارداً كل الأفكار ما عدا أنها مستمتعة بهذه

اللحظة . وابتسمت . فسألها على الفور : (( ما الأمر ؟ )) .

ـ أنا فقط مستمتعة بوقتي . ـ

ـ لا , بل أكثر من ذلك . أخبريني . هذه الابتسامة تعني شيئاً ما .

أقلقها إلحاحه , فنظرت في عينيه ورأت فيهما شيئاً أكثر حدة بالنسبة إلى

سؤال تافه . ثم اصطدم بها شخص ما فشعرت بيدي ماركو تشتدان

وتثبتانها . فأصبح وجهه قريباً من وجهها . وحلقت مشاعرها عالياً ,

فأغمضت عينيها لتخفي ما قد تكونا قد كشفتا له .

تمتم بقول : (( أنظري إلي )) . ـ

فتحت عينيها فوجدته يراقبها بحدة وأحست بسخونة يده على ظهرها ,

كانت الأفكار والمشاعر التي صدمتها , قد تملكتها . وصدرت عنها شهقة

صغيرة .

ـ ما الأمر ؟

ـ أنا . . . لا شيء . . . لا شيء . إنه الحر .

ـ نعم , أصبح الجو حاراً نوعاً ما . شقتي قريبة من هنا , دعيني أدعوك

إلى فنجان قهوة هناك . ـ

عندما خرجا , كانت الساعة الثانية والنصف , وكانت النجوم تتألق في

السماء , والشارع خالياً إلا من بعض المتسكعين . تأبط ماركو ذراعيها ثم

اجتازا المسافة القصيرة إلى الشقة .

شعرت هارييت بالارتياح بعد أن هداها المشي وهواء الليل . وعندما

استقلا المصعد إلى الطابق الخامس , عادت تسيطر على نفسها مرة أخرى .

كان الفضول يتملكها لرؤية شقة ماركو فقد حاولت أن تتخيلها ولم تستطع .

بدا ماركو متكتماً إلى حد كان من المستحيل معه أن تتصور أي شيء لا يريد

أن يكشفه . وقد رأت الحقيقة الآن . فوجئت بها في البداية , ثم أدركت أنها

بالضب ما توقعته في عقلها الباطن . ـ

لا يمكن أن يكون هناك بيت أكثر تحفظاً وغموضاً وتقشفاً من هذا .

كانت الإثارة خفية , وقد عُلقت على الجدران عدة صور عصرية , وزُينت

الرفوف ببعض التحف الفنية . بدا لها أن البيت ينتمي إلى رجل أخفى نفسه

ربما حتى عن نفسه . ـ

من خلال باب مفتوح يؤدي إلى غرفة نومه رأت هارييت جهاز

كومبيوتر وجهاز فاكس وعدة هواتف وجهازي تلفزيون . هذا الرجل أخذ

عمله إلى سريره . وتذكرت قول أولمبيا : ( معروف عنه أنه يدمر النساء , فما

إن يقيم علاقة مع المرأة حتى يتركها ) .

مهما كان ما حدث في حياة ماركو الخاصة , فقد حدث هنا في هذا المنزل

وربما في تلك الغرفة بالذات .

نادى من المطبخ : (( سأحضر القهوة )) .

كان المطبخ أيضاً بسيطاً متقشفاً , ولكن رائع الجمال , ببياض جدرانه

المزينة باللون الأزرق . وبدا من سهولة تحركه في أنحائه أنه اعتاد أن يطهو

لنفسه , وهذا جعله يصنع القهوة بشكل ممتاز .

قالت وهي ترشفها متلذذة : (( إنها لذيذة , كما أن البيت رائع )) .

ـ شكراً , لكنه لا يعجب الكثيرين .

ـ إنه هادئ ومريح , وأنا أحب ذلك كثيراً . كما أنك تعرف كيف

تتباهى بتحفك مظهراً محاسنها بخلفياتها البسيطة وطريقة تنظيمها وإنارتها .

ـ شكراً , المدح منك هو مدح حقيقي هل لك أن تعطيني رأيك

بمجموعتي ؟

أنهت قهوتها قبل أن تقترب من إناء قائم على قاعدة مربعة . كان يبدو

بزخرفته غريباً جداً بالنسبة إلى خلفيته البسيطة , وكان تقييمها له بأنه فرنسي

من القرن الخامس شر صحيحاً , وأنه أصلي . فقال بحزم : (( كل شيء في

مجموعتي أصلي )) .

ابتسمت وهي تعيد (( الإناء )) إلى قاعدته وتبتعد : (( دعنا لا نتجادل في

ذلك )) . ـ

فقال وهو يقف أمامها : (( أوافقك , فالجدل مضيعة للوقت )) .

ومال إلى الأمام , ووضع يده خلف رأسها وجذبها إليه معانقاً إياها

بحذر , ثم بقوة وكأنه يريد أن يتأكد من ردة فعلها قبل أن يتخذ الخطوة

التالية , كان الإحساس بهيجاً فاستسلمت هارييت له . تصرف وكأن لديهما

كل الوقت الذي في العالم ليكتشفا بعضهما بعضاً , ووجدت هذا مريحاً .

وعندما التفت ذراعه حول خصرها أحاطته بذراعيها تاركة يديها تستمتعان

بالإحساس بقوته التي كانت تتسرب من خلال ملابس سهرته الأنيقة .

كل ما في ماركو بدا منسجماً , رائعاً , وخصوصاً عناقه , بدا خبيراً

رقيقاً في هذا كما هو في كل مهاراته الاجتماعية الأخرى . لكن إحساساً

غريباً أوجعها فتحركت بين ذراعيه بقلق .

شيء ما لم يكن صحيحاً في هذا الأمر . دفعت ماركو بعيداً عنها لكنه

قاوم وبقي يحتضنها , وإذا بالغضب يتملكها , فاشتدت يداها على كتفه

وقالت بحزم : (( هذا يكفي )) .

ثم ابتعدت عنه وهي تتابع قائلة : (( حقاً إنك جريء )) .

فقال ساخطاً : (( ما العيب في العناق ؟ لقد أمضينا معاً سهرة سارة

للغاية , ثم رقصنا معاً واحتضن الواحد منا الآخر , فما الخطب ؟ )) .

قالت بصوت مرتجف : (( أنت لم تعانقني , وإنما كنت تتفحص ما

سيصبح ملكاً لك )) . ـ

ـ ماذا ؟

ـ أنت تعلم ما أعنيه . لم يكن ذلك عناقاً بل نظرة عامة لترى إن كان

التسلم سيكون في مصلحتك .

ـ لا تكوني حمقاء .

فقالت غاضبة : (( أنا واثقة من أنك كنت تحسب الأمر من كافة جوانبه .

أنت لا تريدني أن آخذ أي فكرة قبل أن تقرر ما تريد , كي لا أزعجك فيما

بعد , أيها الحذر البارد الشعور )) .

فقال بحدة : (( لا تكثري الكلام ! لقد وضحت لي الصورة , لكنني فقط

أتمنى لو أعلم ما تريدين )) .

ـ ذلك بسيط جداً . إذا كنت تريد أن تعانقني فافعل ذلك بحرارة ,

وليس . . .

لم تستطع أن تنهي كلامها لأنه انقض عليها بعناق عنيف . لم تتذكر كيف

أصبحت بين ذراعيه , لكنهما كانتا تحيطان بها تجمدانها مكانها , حاولت أن

تحتج لطريقته هذه , لكنه تمتم : (( إخرسي ! أنت قلت إن هذا ما تريدينه ,

وهذا ما ستحصلين عليه )) . ـ

لم تحاول أن تستمر في الجدل . فهذا رجل غاضب للغاية , ولا يمكنها أن

تشكو فهي التي جلبته لنفسها . ولكنها وجدت أنها لا تريد ان تتذكر . سرت

في كيانها مشاعر لم تعرفها من قبل , أشبه بالنار في الهشيم .

كان على هارييت أن تتخذ قرارها بسرعة وتبتعد عنه , إنها تلعب

بالنار . لكن ذلك كان صعباً لأن جسدها كان متوتراً وأحاسيسها مشوشة ,

ما محى كل شيء من ذهنها . كيف يحصل ذلك وهما شبه عدوين ؟

كان رنين الهاتف خافتاً بحيث أنها بالكاد سمعته . حاولت أن تتجاهله

لكن ماركو ابتعد عنها منزعجاً من المكالمة . ـ

أخذت تنظر إليه كالحالمة وهو يرفع السماعة , منتظرة أن ينهي المكالمة .

لكنه , بدلاً من ذلك , توتر منتبهاً . ثم قال بصوت مرتفع : (( نعم , أنا ماركو

كالـﭭـاني )) .

حدقت إليه هارييت ذاهلة لسرعة تحويله انتباهه عنها , وكأن ذلك

العناق لم يكن . لم تستطع أن تصدق ذلك .

وأخيراً رفع ماركو السماعة عن أذنه , لكنه لم يقفل الخط : ((( آسف ,

لكن هذا أمر هام . لن أستطيع أن أوصلك إلى البيت , لكن هناك شركة

تاكسيات ممتازة . تجدين رقم الهاتف في ذلك الدفتر )) .

سألته ورأسها يدور : (( ما . . . ماذا ؟ )) .

ـ إنه على المنضدة بجانبك . . . آلو ؟ نعم , أنا ما زلت هنا .

عاد إلى مكالمته الهامة . ـ

قالت تحدث لوشيا الغاضبة فيما بعد تلك الليلة : (( أتعلمين ما الذي

أفقدني صوابي حقاً ؟ أنه جعلني أنا أستدعي سيارة الأجرة )) .

* * *

نهاية الفصل (( الرابع )) . . .


Just Faith 28-09-17 06:29 PM

5 ـ

رجــل الثــلج

في اليوم التالي , وصلت إلى الفيلا باقة رائعة من الأزهار مع بطاقة جميلة

للغاية من ماركو يأسف فيها لسوء الحظ الذي قطع عليهما تلك الأمسية

البهيجة . ناولتها هارييت إلى لوشيا التي عبرت عن رأيها بنبرة اشمئزاز ,

لكنها . لحسن الحظ , لم تلق على هارييت أي سؤال .

اتصل ماركو بعد يومين , دعاهما معاً إلى الغداء في المصرف, إذا كان

لمصرف (( أوريس ناشيونال )) مطعم خاص يقصده الموظفون الرفيعو المستوى

ويدعون إليه أصدقاءهم . وعامل ماركو وبعض زملائه المرأتين كملكتين .

كانت لوشيا قد قصدت هذا المكان ثلاث مرات من قبل , لكنها المرأة

الوحيدة التي دعاها ماركو , على الإطلاق , حتى الآن . وقد فهمت هارييت

ما تتضمنه هذه الدعوة من امتياز . كانت تنوي أن تحتج على تصرفه الشهم في

الليلة السابقة , ولكن ذلك كان مستحيلاً في هذه الظروف . ـ

لم يستطع الفريدو أوريس أن يحفظ سراً , وسرعان ما كان الخبر يسري في

روما بأسرها أن ماركو ظهر في النادي الليلي مع فتاة جديدة . لكن هذه الفتاة

مختلفة , فقد كانت تقيم مع أمه وقد تناولت عشاءها في مطعم المصرف .

وبع ذلك هاجت التخمينات لتستقر على الاستنتاج الصحيح تقريباً .

ـ إذاً لم تعد خطوبتك سراً . ـ

قالت لوشيا ذلك راضية بينما كانوا جميعاً يتناولون الفطور بعد عدة

أيام , وكان ماركو قد أمضى الليلة الماضية في الفيلا . نظرت هارييت إليها

بسرعة : (( ليست خطبة بالضبط )) .

ـ ما هي إذن ؟

نظرت إلى ماركو , لكنه لم يساعدها بشيء . فقالت مترددة : (( إنها . . .

نوع غير رسمي من . . . )) . ـ

ـ لم يعد لي صبر على كل هذا التردد والعجز عن التصميم الجميع يرى

أنكما مناسبان لبعضكما البعض . والآن العالم يعلم أنكما مخطوبان .

سألها ماركو ساخراً : (( ألست أنت من أعطاهم هذا الانطباع يا

ترى ؟ )) . ـ

ـ أم أكن بحاجة إلى ذلك . الجميع رآكما ضائعين في بعضكما البعض في

(( بيلا فيغرا )) .

لم يكن بإمكانهما أن يوضحا أنهما كانا يتشاجران حينذاك , لذا لم يجب

أحد منهما . واعتبرت لوشيا ذلك إثباتاً لقولها . فأضافت : (( ثم اصطحابك

لنا إلى المصرف يُعتبر عملياً إعلان خطبة . ولذا علينا أن نقيم حفلة الآن .

الجميع يتوقع منا ذلك . كما أنهم يتوقعون أن يروا الخاتم . اهتم إذن بما يلزم

لذلك )) . ـ

ثم خرجت من الغرفة قبل أن يستطيعا الجواب . سألته هارييت : (( ماذا

سنفعل ؟ )) .

ـ الحفلة , في الواقع , فكرة حسنة . لقد حان الوقت لتقابلي بعض

أصدقاء الأسرة .

ـ ولكن حفلة خطبة . . . وخاتم . . .

ـ ذلك لا يغير شيئاً . سنقيم حفلة , وإذا غيرنا رأينا فسخنا الخطبة .

والحق مع أمي بالنسبة إلى الخاتم .

وكتب عنواناً أعطاها إياه : (( هذا أفضل صائغ في روما . سأخبره بأنك

ستقصدينه )) .

ـ ألن تأتي معـي ؟

فأجاب من دون أن يقابل نظراتها : (( لدي عمل مستعجل . سيعرضون

عليك أروع ما لديهم فاختاري الأفضل )) .

ذهبت هارييت إلى الصائغ في النهار نفسه فعامل خطيبة ماركو

كالـﭭـاني ببالغ الاحترام , وأراها مجموعة من الخواتم الماسية كانت كلها غالية

الثمن إلى درجة مخيفة . وأعجبها واحد منها مؤلف من ماسات صغيرة للغاية

مركبة على ذهب أبيض , وفي الوسط ماسة كبيرة من نوع فاخر . لكنها كانت

تعرف الكثير عن تجار الجواهر وأسعارهم الخيالية , ولا يمكنها أن تقبل هذا

الخاتم بأي شكل , فسألته : (( أليس لديكم شيء . . . أصغر قليلاً )) .

قالت هذا شاعرة بأن كلمة (( أرخص )) أقل لباقة . فأجاب الصائع :

(( هذه هي المجموعة التي اختارها السنيور كالـﭭـاني )) .

إذن , فقد جاء إلى المتجر , ولكن ليس معها , والأسوأ أنه يحاول أن

يتحكم في اختيارها , وهذا لا يوافقها . فقالت بحزم : (( أريد أن أرى شيئاً

آخـر )) .

فذُعر : (( لكن السنيور كالـﭭـاني . . . )) .

ـ لن يلبس هو هذا الخاتم , بل أنا .

ـ ولكن . . .

ـ طبعاً إذا كان هناك مانع , سأذهب إلى مكان آخـر .

عند هذه الهزيمة , أحضر الرجل صينينة عليها خواتم أقل كلفة .

اختارت أخيراً خاتم سوليتير بديعاً للغاية , مقاومة محاولته للعودة بها

إلى الخواتم المترفة تلك , ثم خرجت وهو في إصبعها .

جاء ماركو إلى الفيلا تلك الليلة وهو يحمل صندوق مجوهرات كبير .

لم تتوقع منه هارييت الخضوع بسهولة , لذا لم يكن عليها أن تكون

خارقة الذكاء لتتكهن بأن ذلك الصندوق يحتوي على الخواتم التي رفضتها .

هل هذه الحرب ؟ إنها مستعدة لها . حيا ماركو أمه بحرارة قبل أن يأخذ

هارييت جانباً . رفعت يدا قائلة : (( شكراً لخاتمي الجميل هذا )) .

فأمسك بيدها بحزم وخلع منها الخاتم حتى دون أن ينظر إليه .

ـ هاي . . . ماذا تفعل ؟

ـ هناك خطأ ! لا بد أنه أراك الصينية الخطأ .

ـ لم يخطئ . وهذا هو الخاتم الذي أعجبني . ـ

فقال بحزم : (( خطيبتي لا تلبس خاتماً رخيصاً )) .

ـ رخيص ؟ لا بد أن ثمنه عشرة آلاف دولار .

ـ بالضبط .

قال باختصار . كان واضحاً أنه يكبح غيظه .

ـ فهمت , إذا أخـــذت خطيبتك تتباهى بخــــاتم يســـــاوي فقــط عشـــرة آلاف

دولار , سيبدأ عملاؤك في مراجعة أسعار أسهمهم , لكي يروا ما إذا كنت قد

فقدت قدرتك المالية .

ـ ما دمت تفهمين ذلك , كما هو واضح , لا أدري لما نخوض هــذا

الحديث .

ـ أرجوك أن تعيد إلي ذلك الخاتم .

ـ لا .

ـ إنه الخاتم الذي أريده . ـ

ســاد صمت بدا فيه ماركو محبطاً وعاجزاً ثم التقت أعينهما والتصميم

بادٍ لدى كليهما . ثم فتح ماركو العلبة : (( اختاري واحداً من هذه )) .

قال هذا بحذر فقالت : (( لقد اخترت الخاتم الذي في إصبعي )) .

سألها وهو يصرف بأسنانه : (( لماذا يجب أن يكون كل شيء مثــاراً

للجدل ؟ )) .

ـ لأنك تحاول السيطرة علي في كل شيء وأنا لا أقبل بهذا .

ـ هذا هراء . أنا فقط أطلب منك أن تفعلي ما هو مناسب لوضعنا . منذ

أيام , أنفقت مالاً أكثر من هذا من دون أن يطرف لك جفن . ودعيني أذكرك

بانه مال لم أسمح لك بإنفاقه .

ـ هل عدنا لنبدأ ذلك من جديد ؟

ـ كل ما في الأمر أنني أستغرب كيف تفرغين جيوبي بكل قسوة إذا تعلق

الأمر بحجز أثري , ثم تصبحين فجأة بالغة الرقة بالنسبة إلى ثمن الخاتم .

أين المنطق في هذا ؟

ـ لماذا يجب أن يكون هناك منطق ؟

فقال بعنف : (( هذا يساعد أحياناً )) .

ـ المسألة ليست مسألة ثمن , وإنما تحكمك بي .

ـ ألم تفكري بتأثير ذلك علي ؟

ـ عملاؤك سينسون هذا . ـ

لكنه كان أمهر مما كانت تظن . وفي اللحظة التالية جاء بالشيء الذي لم

تستعد له . لقد تلاشى الغضب من وجهه , ثم نظر إليها بابتساكة آسفة :

(( هارييت . رغم أنك امرأة لامعة إلا أنك غبية للغاية )) .

ـ ماذا يعني هذا ؟

سألته بحذر , شاعرة بأنه بنصب لها فخــاً ما .

ـ أنا لا أخاف من عملائي بل من أمــي .

ـ أحقاً . إذا كنت تريد أن تقنعني بأنك تخاف من أمك . . .

ـ ماذا تظنينها ستقول لي إذا ظنت أنني عاملتك بدناءة بالنسبة إلى

الخاتم ؟

وكا يبتسم لها بطريقة أقلقتها فقالت : (( سـأوضح لها بأن هــذا هو

اختياري أنا . . . )) .

فتنهد : (( هذا ليس جيداً . ستقول إنه كان علي أن أثبت وجـــودي . وهــي

لا تعرف مدى صعوبة هذا معك . إذا أنت لم تساعدني على الخروج من هذه

المشكلة , سوف . . . حسناً , لا أدري ماذا سأفعل )) .

فقالت بحدة , محاولة ألا تستجيب لابتسامته: (( والآن كُف عن هــذا فأنا

أرى ما في نفسك , هل تسمعني ؟ )) .

ـ أنا واثق من ذلك . ـ

ـ أنت غير مهتم . أليس كذلك ؟ ما دمت تحصل على ما تريد .

ـ أنت تفهمينني تماماً .

ـ حسناً , بعد كل هذه الاعترافات , عليك أن تخجل من نفسك .

ـ لماذا ؟ ما الخطأ في حصولي على ما أريد ؟ ألا تحبين أنت أن تفعلي هذا ؟

ـ طبعاً , ولكن يتملكني بعض التردد ووخز الضمير عندما أفعل ذلك .

فقال بجد : (( التردد ووخز الضمير مضيعة للوقت . إذا كان هناك مـا

ينفعك فاسعي للحصول عليه )) .

ـ من دون أن أهتم بالآخرين . . . ؟

ـ من دون أن تهتمي بأي شيء .

ـ ولكن هذا فظيع . ـ

ـ لا , بل هو صواب , والآن لِمَ لا تجربين هذا في إصبعك ؟

كان يتكلم وهو يضع في إصبعها الخاتم الذي جذب انتباهها في المتجر

وكان هو يعلم طبعاً , إذ لا بد أن الصائغ أخبره بأن هذا الخاتم قد أثار

اهتمامها . إنه أمامها في كل لفتة , وعليها أن تقاومه .

لكن السخط تلاشى أمام جمال الخاتم بماساته الرائعة ومدت يدها تنظر

إلى تلك الحجارة المتلألئة كالنجوم , وقد تملكتها الرهبة لجمالها . وقالت

بيأس : (( لا يمكنني أن آخذه . لا أستطيع )) .

لكنها لم تخفض يدها . وهتف ماركو ينادي أمه التي كانت تتسكع عند

الباب بلهفة : (( ماما , تعالي هنئينا بخطوبتنا )) .

قال هذا وهو يرفع يد هارييت يريها الخاتم فأطلقت أمه صوت

إعجاب : (( آه , ما أروعه من خـاتم )) .

ـ نعم , رائع , أليس كذلك ؟

قالت هارييت هذا والسخرية في عينيها . لم يعد من مجال للتراجع الآن .

وهتفت لوشيا : (( سيذهل كل من يراه . والآن يمكننا أن نجلس

ونستمتع بالتخطيط للحفلة )) . ـ

فقال ماركو على الفور : (( سأغيب عن المدينة لعدة أيام )) .

فقالت الأم : (( اذهب إذن , سنقوم بالعمل بشكل أفضل بدونك )) .

وخرجت وهي تهمهم .

وقالت له هارييت : (( لن أقول شيئاص عن عدم إحساسك بوخز الضمير ,

لأننا سبق وتحدثنا عن ذلك . لكنني أريدك أن تفهم جيداً أنني إذا غيرت

رأيي بهذه الخطبة , وحالياً يبدو هذا محتملاً جداً , فأنا أريدك أن تستعيد

الخاتم )) . ـ

فقال مصدوماً : (( هذا طبيعي . وهل تظنين أنني سأتركه لك ؟ سأحتاجه

للمرة التالية )) .

كانت عيناه تداعبانها , وفجأة لم يعد يهمها شيء . كان صعباً ولا يطاق ,

ولكن لا شيء يصلح هذه الحال فيه . كما أن لديه سحراً خفياً يمكنه أن

يتسلل خفية إلى كيانها . ولكن كان هناك شيء آخر لم تجرؤ على الاعتراف به

لنفسها . فقد كانت هارييت العاقلة تتوارى في الظلال لتحل مكانها هارييت

أخرى تريد ان تجازف وتعيش الحياة بقوة . هزها إدراكها ذلك , وكانت

بحاجة إلى وقت لتفكر فيه . ـ

بعد انتهاء العشاء اتفق ماركو وأمه على لائحة الضيوف . و عندما

نظرت هارييت إليها رأت اسماً جعل عينيها تلمعان . وقالت بحماسة :

(( البارون أورازيو مانيللي )) .

فسألها : (( هل تعرفينه ؟ )) .

ـ لا , ب أتمنى لو ادخل بيته , منذ دهور وأنا أحاول ذلك .

ـ أظن لديه بعض القطع الأثرية التي ترغبين فيها .

ـ آلاف القطع , لكنه لا يدع أحداً يراها . أظن الأمر سيكون مختلفاً

الآن . هل تعرفه جيداً ؟

ـ اعرفه بشكل يسمح لك بدخول بيته , هل أفهم أن هذا ما تتوقعين

مني ان أفعله ؟

ـ ذلك ليس مشكلة , أليس كذلك ؟

ـ وإذا كان في ذلك مشكلة , هل يشكل ذلك فرقاً ؟

ـ حسناً . . .

ـ لا تزعجي نفسك بإظهار التهذيب . يسرني أن أكون نافعاً .

تلك عقبة أزيلت , كما فكرت هارييت مسرورة , لأن ماركو لم يبد عليه

سوى التسلية . وقد سنحت لها فرصة سعيدة لرؤية نفائس لم يٌكتشف عنها

بعد . ـ

* * *

غاب ماركو أسبوعاً , فأغمضت لوشيا و هارييت الوقت بنشاط وبسرعة .

جيش الخدم كله في الفيلا كان مشغولاً بتنظيف البيت لفصل الربيع وإظهاره

للحياة بشكل جديد , وأرسلت الدعوات إلى الضيوف ومنها دعوة لى والد

هارييت . ولكن بما أن الجواب لم يصل , كان معنى ذلك أنه ما زال مسافراً .

بعد يوم واحد ابتدأت الأجوبة على الدعوات تصل . المجتمع بأسره بدا

متلهفاً لرؤية المرأة التي ( غزت قلب الغازي ) . وهي جملة أخذت تتكرر في

صالونات المدينة إلى أن وصلت إلى مسامع هارييت .

فقالت لوشيا ساخرة : (( حسناً , إنها روما على كل حال . وهي المكان

المناسب للذهاب إلى عرين الأسد )) .

فقالت لوشيا: (( لا تقلقي . ماركو يعرف كل شيء عن الأسود , وهو

لن يدعك تواجهينهم وحدك )) . ـ

قبل الحفلة بيومين , جاء ماركو إلى الفيلا , وتناول الثلاثة عشاءً ساراً .

وأثناء القهوة , قالت لوشيا : (( غداً سيبدأ أفراد الأسرة بالقدوم , هل أنت

مستعدة للاجتماع بهم ؟ )) .

فقالت هارييت : (( أنا متوترة بعض الشيء )) .

فتنهدت لوشيا : (( أنا نفسي متوترة الأعصاب . فرانسيسكو سيحضر

ليزا . لا أستطيع أن أدعوها خطيبته وهي في الستينات من عمرها )) .

فقال ماركو : (( لقد بقي سنوات يتوسل إليها أن تتزوجه , ولكن كونها

مدبرة منزله , وجدت فكرة الزواج غير مناسبة )) .

فقالت لوشيا : (( كان كلامها صحيحاً )) .

فقال ماركو : (( لقد سبق لهارييت أن قابلت دولسي )) .

ـ لن يدهشني أن أعلم أن دولسي جاءت إلى متجر هارييت لتبيع

فضيات الأسرة .

ـ

قالت لوشيا هذا بشيء من الخشونة , فقالت هارييت من دون تفكير :

(( بل في الواقع رأس حصان من الرخام )) .

لتغطي حماقتها هذه أسرعت تقول : (( أنا متشوقة حقاً لرؤيتها مرة

آخرى , فقد انسجمنا تماماً . بعد أن انتهينا من العمل تناولنا الغداء معاً . إنها

ملسة للغاية )) .

أجفلت لوشيا مذعورة : (( مسلية ؟ هل هذه كل مؤهلاتها لتكون

(( كونتيسا كالـﭭـاني المقبلة ؟ )) .

ـ حسناً , أنـــا . . .

فقال ماركو بهدوء : (( لا تحاولي أن تجيبي على ذلك . أمي , أنت لست

منصفة مع هارييت )) .

ـ لا , طبعاً هذا ليس ذنبك يا عزيزتي . ـ

ربتت على يد هارييت , ومرت اللحظة بسلام . وتابعت لوشيا : (( وليو ,

طبعاً , لن يصل إلا في اللحظة الأخيرة فهو لا يرتاح في المجتمعات الراقية أو

المتحضرة )) .

فقال ماركو ضاحكاً : (( هـــذا صحيــح . وفي الـــواقع مــــا كان سيأتي على

الإطلاق لو أنه لم يكن مسافراً إلى أميركا , ومن مطار روما يمكنه أن يذهب

مباشرة إلى تكساس )) .

فهتفت لوشيا : (( تكساس ؟ سيظنه الجميع راعي أبقار )) .

فقال ماركو بلين : (( هذا بالضبط ما هو عليه , ما دام ذاهباً إلى أسواق

دمغ الماشية هناك )) .

فردت لوشيا : (( أسواق دمغ الماشية ؟ )) .

ـ ليو يربي الخيول في (( توسكانيا )) إنها حيوانات ممتازة ومطلوبة جداً .

فتنهدت لوشيا بأسى : (( راعي أبقار, بينما ينبغي أن يكون وريث

فرانسيسكو ! )) . ـ

في الصباح التالي كانت هارييت و لوشيا في المحطة تنظران قطار البندقية

الذي يقل الكونت فرانسيسكو كالـﭭـاني . ظهر متأبطاً ذراع امرأة نحيفة كبيرة

السن . و كانت هذه ليزا , عروسه المدعوة . وابتسمت هارييت لمنظرهما

معاً . لقد دام حبهما الخفي طوال تلك السنوات , والآن , بعد أن انكشف

حبهما هذا , بدا زهوهما وفرحهما ببعضهما البعض مؤثراً , وتساءلت كم

من الأزواج ستبقى مشاعرهم بهذا الشكل بعد سنوات ؟ من المؤكد أنها

وماركو لن يكونا كذلك فعلاقتهما لم تبدأ حتى بالحب . قد يكون ماركو على

حق قراره ترتيب زواج من ذها النوع . لكنها شعرت بغصة في حلقها

وهي تنظر إلى العاشقين المسنين .

كان غويدو ابن عم ماركو شاباً وسيماً تحمل نظراته دعابة خبيثة . لكن

عينيه كانتا تستقران على دولسي , التي ستصبح عروسه بعد أسابيع .

رأته هارييت عاشقاً مثالياً , وأعجبها ذلك منه . حيتها دولسي بلهفة وعناق :

(( لا أستطيع أن أصدق أنك أنت العروس . تصوري فقط أننا سنكون

قريبتين . كم هذا عظيم ! )) . ـ

ـ نعم .

وافقتها هارييت وهي تتساءل عما إذا كان ذلك اليوم سيأتي حقاً . كان

الخاتم اللامع في إصبعها حقيقياً , ولكن كا شيء آخر كان يحوطه جو من

عدم الواقعية . كانت متشوقة للاستمتاع بالحفلة بالرغم من كل ما تشعر به

من فوضى وتشتت . قد لا تكون لوشيا موافقة على زواج الكونت , لكن

سلوكها نحو ليزا يالارتياح في صحبتها , كما أنها ارتاحت إلى ماركو , كما

لاحظت هارييت . وهي تشعر أن دقته , هو أيضاً , يمكن الاعتماد عليها .

قبل وجنتيها ثم قدم لها ذراعه لتتأبطها وهي تدخل المنزل .

أثناء العشاء أخذ غويدو يخبرهم عن سوء التفاهم الذي ساد في أول

لقاء له مع دولسي في البندقية , عندما ظنته قائد زورق الغندول , ولم يكن

يعلم أنها تخفي سراً خاصاً بها . وكانوا جميعاً يضحكون عندما رفعت هارييت

نظرها لترى شاباً طويلاً البنية واقفاً عند الباب . وقد عرفت من شعره

الخشن ومظهره الصلب أنه (( الريفي الخجول )) .

ـ

صرخ الجميع : ليو ! ونهض غويدو وماركو ليصافحاه ويربتا على

ظهره . ابتسم العملاق الصغير وبادلهما التربيت على الظهر , ثم عانق لوشيا

ودولسي . ووقفت هارييت لتتعرف عليه , فنظر إليها مقيماً بشكل أصبحت

معتادة عليه . كان وسيماً كشقيقيه الآخرين , لكن تأثيره على الناظر كان

طاغياً جسدياً . وفكرت هارييت في أن رجال أسرة كالـﭭـاني جميعهم

وسيمون .

أعجبت غريزياً بليو , الذي صافحها ببساطة الرجل الذي يجد العمل

أسهل من التفكير , محتفظاً بيدها بين يديه . ثم أخذ ينظر إليها من رأسها

حتى أخمص قديمها بابتسامة إعجاب عريضة . وبادلته هي نظراته حتى سعل

ماركو بشكل ذي معنى .

نظرت إليه مذهولة وهي تسأله : (( من أنت ؟ )) .

انفجر الجميع ضاحكين بمن فيهم ماركو . وهو لم يكن بالرجل الذي

يتقبل بسهولة مثل تلك الدعابة , لكن استحسان أفراد أسرته لسرعة بديهتها

سرته . وقال بابتسامة عريضة : (( إبتعد من هنا ليو ريثما أذكر خطيبتي بمن

أكون , ثم انصحك بأن تدعها وشأنها في المستقبل )) .

غمزها ليو , ثم قال بصوت هامس : (( في الشرفة عند منتصف الليل )) .

لكن ذراع ماركو التي التفت حول خصر هارييت بشدة أبعدتها عن ليو

ومنعتها من الجواب . قالت تحتج وهي تضحك بصوت خافت : (( كانا نمزح

فقط )) .

ـ أعرف ذلك لكن إحذري من ليو . فهو (( يمزح )) كثيراً مع الفتيات .

فما أن يحب امرأة حتى يتركهـا .

ـ غريب . لقد سمعت عنك الشيء نفسـه .

فقطب جبينه : (( عجباً , اين سمعت ذلك ؟ )) .

ـ في كل مكــان . ـ

ونظرت إليه متحدية فتراجع (( دعينا ننهي العشاء )) .

حيث أن العشاء كان في منتصفه , كان على ليو أن يعوض ما فات .

فأخذ يلتهم الطعام متلذذاً بينما كان الحديث يدور حوله , وعندما تكلم راح

يسأل هارييت عن نفسها , غير متظاهر بالغزل الآن , ولكن بكل اهتمام

النسيب . قد يكون ذلك مجرد سلوك حسن , لكن هارييت شعرت وكأنها قد

حققت حلماً رغم كل شيء . فق استقبلها أفراد الأسرة كلهم فاتحي الأذرع

لها .

كان صعباً عليها أن تصدق أن رجال كالـﭭـاني هم من الأسرة نفسها , فقد

كانت ملامحهم مختلفة للغاية رغم أنهم جميعاً وسيمون . بدا ليو يشع نشاطاً

وحيوية وطاقة وصحة , بينما بدا غويدو أخف بنية من أخيه , ومظهره

الصبياني متوازن مع ذكائه الثاقب , ولديه طاقة مستترة تبقيه قلقاً إلا إذا

كانت دولسي بقربه .

في عيني هارييت , كان ماركو هو الأكثر تأثيراً وأناقة وتحفظاً , فهو

رجل مستقل بذاته في كل شيء . في قلب أسرته هو رجل مسترخ مستعد

للضحك . ولكن ما زال صعباً تصوره يتصرف مثل ليو البشوش اللامبالي ,

أو ينظر إلى امرأة بمثل الشغف الذي يشع من عيني غويدو . تساءلت عن

الرأة التي أوشك أن يتزوجها في الماضي , والتي يُمنع ذكر اسمها في البيت

مطلقاً . أتراه احبها حقاً , أم أنها هربت منه يائسة من عدم قدرتها على

إخراجه من قوقعته ؟ ولربما الاحتمال الثاني هو الأرجح . و مع ذلك كان

لديه مفاجأة لها عندما انفضت الحفلة فأخذها بيده خارجاً بها إلى الشرفة . ثم

قال يذكرها : (( لديك موعد هنا في منتصف الليل )) . ـ

فقالت تستفزه : (( ولكن ليس معك )) .

فقال بابتسامة زادت من استفزازها : (( الأفضل أن يكون موعدك معي )) .

ولم تكن هي تريد أفضل من هذا , كما أخذت تفكر وهو يدنو منها

ليعانقها . كان في عناقه حلاوة أذابتها وجعلتها تشده أكثر إليها . لكنه تراجع

قليلاً مبتسماً . ورفعت حاجبيها متسائلة لكنه هز رأسه فقط , فشعرت بأن

هذه الاستراحة القصيرة طرحت من الأسئلة أكثر مما قدمت من الأجوبة .

في ليلة الحفلة , كانت هارييت قد انتهت من ارتداء ملابسها عندما

دخلت دولسي غرفتها . بدت أشبه بحلم في ثوبها الحريري الأزرق , وهتفت

وهي تراها : (( آه , تبدين خلابة . لا عجب في أنك أذبت قلب (( رجـــل

الثلج )) . ـ

ـ رجل الثلج ؟

فأجفلت دولسي : (( ما كان ينبغي أن أقول ذلك , لكن غويدو يقول إن

هذا ما اعتادت الأسرة أن تسميه به . ليس أمامه طبعاً فانت تعلمين طباعه .

ولكنك حتماً ترين منه جانباً لا يراه أحد آخر )) .

وأطلقت ضحكة حلوة : (( ها قد جعلتك تحمرين خجلاً )) .

لكن هارييت أنكرت احمرار وجهها رغم شعورها بذلك . كان في ذلك

التضمين ما يعني أنها وماركو عاشقان وذلك أربكها . ولتخفي وجهها

تحولت مبتعدة وأخذت تسوي ثوبها . ـ

كانت إخصائية التجميل قد حضرت إلى الفيلا واهتمت بتزيين هارييت

بدقة بالغة . فبدت رائعة الجمال بعينيها الخضراوين الكبيرتين وشعرها

المرفوع الذي لا يتدلى منه سوى عدة خصلات على خديها وعنقها .

كانت تلبس ثوباً محكماً على جسدها من المخمل العسلي اللون ,

وأدركت أنها تبدو جميلة , ما منحها ثقة بنفسها .

قُرع الباب ففتحته دولسي , وإذا بغويدو وماركو واقفان عنده بملابس

السهرة . كانا وسيمين بشكل لا يصدق

شمل ماركو هارييت بنظرة استحسان : (( هذا حسن , كما كنت أرجــو

بالضبط . هذه ستبدو رائعة عليك )) .

فتح علبة سوداء وأخرج منها سلسلة ذهبية حدقت دولسي إليها بعينين

متسعتين قبل أن تمسك بيد غويدو وتخرج به من الغرفة بسرعة . فقال لها

يعنفها وهما في الممر :(( لقد افسدت المشهد . مشهد رجل الثلج وهو يقوم

بدور العاشق . كان ذلك سيبدو مسلياً جداً )) . ـ

ـ ما كنت سترى شيئاً , لأن ماركو ما كان ليتيح لنا فرصــة لذلك . إنما

الآن بعد أن خرجنا , أراهن على أنهما مشتبكان بعناق مشبوب .

ـ ما رأيك بأن نفعل مثلهما ؟

ـ كن حسن السلوك , ثم لدي مفاجأة لك .

فلمعت عيناه : (( آه , أصبح الأمر مختلفاً الآن )) .

وسمح لها بأن تقوده في اتجاه مختلف .

لكن أملهما كان ليخيب لو شاهدا تصرف ماركو الهادئ وهو يرفع

السلسلة المزخرفة ويضعها حول عنق هارييت ثم قال : (( كنت أعلم أن

الذهب يليق بك )) . ـ

حدقت هارييت في صورة المرأة التي واجهتها في المرآة وتملكها الذعر ,

لأنها لم تعرفها . هذه ليست هي , وإنما مخلوقة رائعة ذات سحر خالد .

ـ شكراً لم أحلم قط أن بإمكاني أن أبدو بهذا الشكل .

ـ أعلم هذا . أنت صائبة الرأي بالنسبة إلى الجميع ما عدا نفسك . لقد

أدركت هذا عنك منذ اللحظة الأولى .

نبرة خاصة في صوته نبهتها إلى أن أصابعه ما زالت على رقبتها . نظرت

في المرآة فتقابلت أعينهما . ورأت في عينيه تألقاً لم يواجهها به من قبل . ثم بدا

وكأنه ارتبك , فعاد الجمود إلى عينيه . ـ

سألتهما لوشيا من عند الباب : (( هل أنتما جاهزان ؟ ابتدأ الناس

بالتوافد )) .

كان الخمسة الأخرون ينتظرون في الممر . حتى ليو ارتدى بذلة رسمية .

ونظرت إيهم لوشيا التي بدت رائعة في الياقوت الأحمر , وهي تبتسم

راضية , وتقول : (( شبان أسرة كالـﭭـاني وسيمون للغاية , وهم يجتذبون نساء

جميلات , والآن فلنذهب جميعاً إلى الأسفل ونقتل المدعوين حسداً )) .


نهاية الفصل (( الخامس )) .

: : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : :

Just Faith 28-09-17 06:29 PM

6 ـ

في عرين الأســد


فكرت هارييت , وهي تقف في صف المستقبلين , أن تدفق الضيوف لن

ينتهي أبداً . جميعهم من أصحاب المصارف ورجال الأعمال . هذه كونتيسا ,

وذاك دوق , وذلك بارون . . كان الجمع الحاضر كله من خيرة المجتمع

والطبقات الرفيعة .

أحست أنها محاطة من كل جهة بالثراء الفاحش , وتكهنت بــأن أقبية

المصارف لا بد أخرجت ما يجوفها من مجوهرات وتيجان مرصعة وسلاسل

متلالئة , تشير كل منها إلى أن لابسته يمكنها أن تنافس في الغنى أي امرأة

هناك . كما يمكنها هي أيضاً ذلك , كما أدركت . ذلك أن الذهب المتألق

الذي وضعه ماركو حول عنقها كان هو نفسه إعلاناً بذلك , وكذلك الخاتم .

وارتجفت لدي التفكير في نفسها لابسة خاتماً لا يساوي أكثر من عشرة آلاف

دولار بين هؤلاء الحاضرين . الخاتم الذي في إصبعها أخبر العالم كله بأن

العروس التي اختارها ماركو كالـﭭـاني امرأة استحقت احترامه , وبالتالي يجب

أن تستحق احترامهم هم أيضاً . أكثر النساء الحاضرات بدون أصغر سناً مما

هن عليه لأن لديهن الوقت والمال لمحاربة السنوات . كم يلبسن أحدث

الأزياء وأغلاها ثمناً , ليس لمجرد الترتيب والتأنق , إنما للاستعراض وربما

للمعرض . . . عرض أنفسهن بدلاً من ثيابهن . هذا هو الأمر . ـ

شعرت بقشعريرة من الخطر . وفجأة , تذكرت صوت أولمبيا يقول :

( معروف عن ماركو أنه يدمر النساء ) .

كن يراقبنها بأعين متوهجة , أهو فضول , غيرة , أو سخرية ؟ أو كل

هذا وأكثر ؟ شهوة , حسد , ذكريات , توقعات . . . بعض هذه المخلوقات

الوقحات كن عشيقات له , ويردنها أن تعلم ذلك . وكن يحسبن كم سيبقى

أميناً لها . ليس لمدة طويلة , كما يفكر بعضهن من دون شك . وهن يردنها

أن تعلم ذلك أيضاً .

إنها في عرين الأســد . ـ

دفعها غضب مفاجئ إلى أن ترفع رأسها وتعدل كتفيها .

لا يهم لو فُسخـت الخطبة بسرعة . الليلة على الأقل هو لها رسمياً ,

وستدافع عن حقها فيه . سألها ماركو : (( هل أنت بخير ؟ )) .

ـ بأحسـن حال .

ـ وأنا أصدقك . هنا غابة , لكنك قوية .

ـ أنا لست خائفة , ولكن ربما عليهن هن أن يخفن

فقال وهو يمنحها إحدى ابتساماته المشرقة النادرة : (( نعم تعالي )) .

وقادها إلى باحة الرقص : (( دعينا نخبرهن بما يردن أن يعرفنه )) .

وأخبر أولئك النسوة المستاءات ما كن يردن معرفته بالضبط . فرقصا

الواحد في حضن الآخر الخد على الخد يتمايلان وكأن كلا منهما قد ذاب في

الآخــر . ـ

فكرت هارييت أن كل هذا زائف ومجرد عرض على الجموع . لكن

البهجة التي شعرت بها لمجرد قربها منه كانت تشتعل داخلها مجدداً . كان

ثوبها كاشفاً , ولكن بدلاً من أن تشعر بالخجل كالمرة الماضية , بدت مزهوة

الآن . فقد أصبحت تعتقد بأنها تستحق أن يراها الآخرون , وكانت تريد من

هذا الرجل بالذات , أن يعتقد ذلك أيضاً . وقد فعل , إذا صدقت النظرة

التي بدت في عينيه . ـ

قال بنعومة : (( أنت رائعة الجمال . لا أريدك أن ترقصي مع أي شخص

آخــر )) .

فقالت باسمة : (( إذن فلن أرقـــص )) .

ـ لـسـوء الحظ يتوجب عليك ذلك , وكذلك أنا .

ـ نعم وإلا سيخيب أمل كل أولئك النسوة .

ـ إنسي أمرهن .

ضحكت . وكانت قريبة من وجهه بحيث أدفأته أنفاسها , وشعرت به

يرتجف : (( لن يعجبهن ذلك )) .

فقال مرة أخـرى : (( إنسي أمرهن , آمـرك بذلك )) .

ـ أنت تعطي الأوامر بسهولة بالغة , ولكن من غير الحكمة أن تخبرني بما

علي أن أفكـر به . ـ

فضاقت عيناه : (( لماذا ؟ )) .

ـ لا ينبغي عليك قط أن تعطي أوامر لا يمكنك أن تنفذها بالقوة , كيف

ستعرف أنني أفعل ما تريد ؟

ـ سآخــذ عدم قيامك بذلك أمراً مسلمـاً به , وبهذا لا يمكنني أن

أخطئ .

فقالت تغيظه مداعبة : (( أنت تفهمني كما أفهمك تماماً )) .

ـ وماذا أنا برأيك ؟

ـ أنت طاغية .

ـ وأنت سـاحرة .

توقفت الموسيقى الراقصة , فألقى عليها نظرة جامدة قبل أن يفترقا إلى

شركاء آخرين .

رقصت هارييت مع الكونت كالـﭭـاني وغويدو , وليو , حتى وصلت

أخيراً إلى البارون أورازيو مانيللي . ـ

كانت قد قابلته بشك مختصر بداية السهرة . بدا لها أصغر مما

توقعته . ليس شاباً لكنه ليس كبيراً في السن . ذا بنية قوية ووجه سمين

وملامح متغطرسة . كانت قد كتبت إليه مرات كثيرة إلى حد تساءلت معه إن

كان اسمها سيؤثر على استجابته . نظر إليها مقيماً ولكن من الصعب التكهن

بما تعنيه نظراته . تقدم منها الآن طالباً الرقص معها وقد بدا من عينيه أنه

تذكرهــا .

وعندما دخلا الحلبة سألها : (( تساءلت لماذا كان اسمك مألوفاً . لقد

كنت تكتبين إلي )) .

ـ طوال سنوات . فالجميع يعرف أن مجموعة تحفك وتماثيلك أسطورية ,

لكنك تخفيها .

ـ كان أبي وجدي جامعي التحف الفنية . أمــا أنا فأحب أن أمضـي

أوقاتي بين الأحياء وليس الأموات . لماذا تريد شابة رائع الجمال مثلك أن

تدفن نفسها في الماضي ؟

ـ أنا أعشق ذلك . إنه حياتي . ـ

ـ من المؤكد أنه ليس كل حياتك . فزوجك سيرغب في اهتمامك .

فقالت برزانة : (( وسيحصل عليه . إنما في حدود المعقول )) .

قهقه ضاحكاً بصوت مرتفع , فالتفت الجميع نحوهما : (( ماركو لن

يسمح لك بذلك )) .

ـ ومن قال إنني سأسأله ؟ لن أتخلى عن عملي لمجرد أنني زوجة .

فقال ضاحكاً : (( لقد ابتدأت أعجب بك . ربما علينا أن نتحدث أكثر

من هذا )) .

ـ عن مجموعتك ؟ وعن ذهاب إلى بيتك لرؤيتها ؟

ـ وكيف يمكنني أن أرفض طلبك ؟

احتك به شخص ما من الخلف , فقال : (( هل يمكننا الذهاب إلى مكان

أقل ازدحاماً ؟ )) . ـ

لو استطاعت أن تتسلل بعيداً للحظة , لما سبب ذلك أي أذى , كما

أخذت تقنع نفسها . فهما سيذهبان إلى الغرفة المجاورة حيث تجري الحفلة

أيضاً , ولكن الناس فيها أقل . ولكن في الغرفة التالية كان ثمة شخص

يغني , فاستمرا في سيرهما حتى وصلا إلى الحديقة ووجدا مقعداً خشبياً تحت

شجرة تدلت منها أنوار ملونة .

ابتدأ مانيللي يتحدث عن الذهب والمجوهرات باسطاً سجــادة من

الأعاجيب أمامها حتى بهرها . وابتعد عنها العالم الخارجي , ونسيت أين هي

وماذا عليها أن تفعل الآن ؟ سرقها الوقت من دون أن تلاحظ عندما انفتح

أمامها عالم جديد . وأخيراً قالت بحرارة : ((ولكن ما كان لك أن تخفي كل

هذا . عليك أن تدع العالم بأجمعه يدخل بيتك ليرى تلك النفائس )) .

أخذ يدها بين يديه : (( عليك أن تأتي إلى بيتي ذات يوم وسيكون من

دواعي سروري أن أريك كل شيء )) .

ـ سيكون ذلك رائعاً . ـ

قال هذا بصوت خافت وهي تغمض عينيها وكأنها في حلم .

لكن صوتاً بارداً بدد هذا الحلم : (( أنت تهملين ضيوفنا حبيبتي )) .

كان ماركو واقفاً أمامها بابتسامة لم تصل إلى عينيه . كانت نظراته مسمرة

على يدها التي كانت بين يديه .

ـ سامحنا .

قال أورازيو هذا وهو يقف من دون أن يترك يدها : (( في غمرة عجبي

لاكتشاف سيدة مليئة بالحكمة والعلم بقدر ما هي رائعة الجمال , نسيت

حسن السلوك واحتكرتها لنفسي . هل يمكنني القول , يا ماركو , كم أنت

محظوظ في الحصول على حنان هذه الحلوة . . . ؟ )) . ـ

التوت شفتا هارييت . كان هذه عرضاً مشيناً , إنما مسلياً . ثم استرقت

نظرة أخرى إلى وجه ماركو . لم يجد أياً من هذا مسلياً . ثم استرقت

نظرة أخرى إلى وجه ماركو . لم يجد أياً من هذا مسلياً وهو يقول بصوت

فاتر : (( تبلغت التهنئة وأن أشكرك)) .

كانت نظراته القاسية مسمرة على يد هارييت , فسحبتها بسرعة من يد

أوزاريو بسرعة قبل أن يتركها , وهو يقول : (( لا تدعه يغيظك . لأنه

يقول ذلك عمداً . كنه بدلاً من ذلك تأبطت ذراعه وعادت معه إلى البيت .

وقالت تحاول إقناعه : (( لا تغضب )) .

فقال بخشونة : (( لا أغضب ؟ أتدركين أن الليل قد انتصف تقريباً ؟ )) .

ـ آه , رباه , أنا آسفة . ما كان لي أن أتأخر إلى هذا الحد .

فقال بصوت متوتر : (( ربما بإمكاننا أن نناقش ذلك فيما بعد )) .

أدهشها أن تراه يأخذ هذا الأمر جدياً . إنه يعلم أنها لا تهتم إلا بالنفائس

التي في بيت أوزاريو . إنه رجل محنك وبإمكانه أن ينبذ ذلك جانباً . لكن

غضبه الهادئ لم يترك شكاً في أن ذلك لمس منه وتراً حساساً .

ـ ماركو . ـ

ـ فلندع الحديث ند هذا الحد الآن . يجب أن يرانا الضيوف في أحسن

مظهـر .

ـ لكنك تعبس غاضباً في وجهي .

ـ أنا لست كذلك . فهذا أسهل كثيراً .

كان بعض الضيوف قد خرجوا إلى الحديقة وبإمكانهم أن يروا ماركو

وهو يجذب عروسه إلى ذراعيه .

فقالت : (( لا أظن . . . )) .

فقال بعنف : (( إخرسي . . . إخرسي واجعلي المشهد يبدو حسناً )) .

ارتفع الهتاف في الحديقة عندما شد ذراعيه حولها برغبة خشنة بينما

استسلمت هي إلى عناقه . ما كانت لتختار أن يبدو الأمر بهذا الشكل , ولكن

تملكها شعور بالذنب بأنـها عاملته بشكل سيء وعليها أن تساعده في إنقاذ

كرامته .

لو أنه فقط لا يحتضنها بهذه الشدة التي بدت للناظرين أشبه بعاطفة لا

تنضب , بينما هي في الواقع غضب بالغ .

وتمتمت : (( لا يا ماركو . . . هذا يكفي )) .

فقال بصوت مرتجف : (( نعم . هذا يكفي لإقناعهم الآن , ولكن علينا

أن نمثل دور العاشقين لبقية السهرة )) . ـ

وأرخى قبضته فترنحت لحظة ورأسها يدور , واضطرت إلى التمسك

به . بعض الضيوف الذين كانوا قد اجتمعوا على الشرفة قالوا جهاراً ما كان

الباقون يفكرون فيه سراً .

ـ ماركو , لقد جعلت الفتاة المسكينة يغمى عليها . . .

ـ هكذا يكون العناق الرومنسي الحقيقي .

ـ والآن , إنه يريد أن يتخلص منا بسرعة .

وعلا الضحك .

قالت لوشيا تنهر الشبان المشاغبين : (( هذا يكفي )) .

فقال أحدهم : (( كنا نهنئه فقط , والآن , لو أن هارييت كانت لي . . . )) .

فقال ماركو : (( لكنها ليست لك , فهي لي, ومن الأجدر بك أن تتذكر

ذلك )) .

كان صوته مرحاً ودوداً تقريباً , ولكن بعض المستمعين استشفوا النبرة

الفولاذية الخافتة فيه , وأولهم المرأة الواقفة بين ذراعيه التي كانت ما زالت

تشعر به يرتجف مثلها تماماً . وعندما تكلم , اشتدت ذراعه حولها بشكل

غريزي , وأدركت هي أن هذه الرسالة لها هي بقدر ما كانت لهم . إنها

تحذير .

ونادى ماركو : (( هاتوا مزيداً من المرطبات . . . المرطبات للجميع )) .

أسرع الخدم بزجاجات العصير , يملؤون الكؤوس الفارغة , ثم رفع

ماركو يده يسكتهم : (( أنا أوفر الناس حظاً , فأروع امرأة في العالم وعدتني

بأن تكون زوجتي . ولا أظن هناك سعادة أكبر من هذه )) .

عجبت كيف يمكنه أن يقول ذلك , بينما يتهمها بأنها تخدعه ؟ كيف

يمكنها أن تكتشف يوماً حقيقة تفكير هذا الرجل ؟

ـ إرفعوا كؤوسكم واشربوا معي نخب عروسي !

كلهم شربوا نخبها وانتهت السهرة بمرح صاخب . واستغرق

حضور السيارات الفارهة لتأخذ الضيوف ساعة أخرى , بينما كان أفراد

الأسرة بدعوتهم . ـ

عندما توارت آخر سيارة , أغمضت هارييت عينيها إرهاقاً . عليها الآن

أن تصلح الأمور بينها وبين ماركو . لكنها عندما فتحتها لم تجد له أثراً .

رأتها لوشيا تنظر حولها فقالت لها : (( لا تقلقي , ربما يتحدث مع ابني

عمه في مكتبه فلا تنتظريه )) .

وافقت هارييت , فربما من الأفضل أن تدع غضبه يبرد أولاً . قبلت

لوشيا ثم صعدت إلى غرفتها .

كانت تنوي الاستحمام قبل الخلود إلى النوم , لكنها لم تستطع , شيء ما

بالنسبة لهذه السهرة لم ينته بعد . مدت يديها إلى رقبتها محاولة أن تفك العقد

الذهبي الثقيل , وهي تفكر كالعادة . . . ذهب أصلي من القرن السابع عشر ,

مزخرف بطريقة . . . آه , ومن يهتم بذلك ؟

من يهتم لشيء ما عدا النظرة التي رأتها في عيني ماركو عندما عثر عليها

مع البارون ؟ ما هي أهمية أي شيء ما عدا ما كانت تعنيه تلك النظرة ؟

ثم رأتها مرة أخرى . لم تسمعه وهو يدخل الغرفة , وإذا به خلفها يزيح

أصابعها جانباً لكي يفك لها القلادة . بدا وجهه مظلماً إلى حد توقعت معه

أن ينتزع مها العقد انتزاعاً . لكنه رفعه بهدوء رغم أن أصابعه لم تكن ثابتة

تماماً .

قالت بلطف : (( لا أظنك ما زلت غاضباً . لقد كانت سهرة رائعة )) .

فقال متوتراً : (( أنا مسرور لأنك استمتعت بها , ثم نعم , ما زلت

غاضباً , فقد خدعتني )) . ـ

ـ لمجرد أنني انخرطت في حديث مع . . . ؟

ـ لقد اختفيت من حفلة خطوبتنا مع رجل آخر , وبقيت معه قرابة

ساعة , هل لذلك أي مبرر معقول ؟

ـ هل كانت غيبتي طويلة إلى هذا الحد ؟ لم أشعر بمرور الوقت كما أنني

نسيت . . . ـ

فقال بحدة : (( قولك إنك نسيت هو خطأ . شكراً , هذا كل ما كنت

أحتاجه )) .

ـ أنا آسفــة .

أحال الغضب صوته إلى فولاذ : (( أقدر لك أن أفكارك عن السلوك هي

غير تقليدية , ولكن ألم يخبرك أحد أنه يُفترض بالمرأة أن تفضل مرافقة خطيبها

على مرافقة أي رجل آخر ؟ وإذا كانت لا تستطيع ذلك , عليها أن تتظاهر به

من باب اللياقة والتهذيب , فلا يبدو رجلاً مخدوعاً أمام العالم كله . هل

تفهمين ؟ )) .

ـ طبعاً أفهم . آه , إسمع , أنا آسفة يا ماركو , آسفة حقاً , لم اقصد

إهانتك , لقد انجرفت فقط . . .

ورأت وجهه فقالت : (( قولي هذا زاد الأمر سوءاً , أليس كذلك ؟ )) .

ـ ما تفعلينه يثبت أصلك الإنكليزي . أنت تظنين كون إسمك إيطالياً

يجعلك واحدة منا . لكنني أقول لك إن الإسم لا يعني شيئاً . المهم هو القلب

الإيطالي وأنت ليس لديك فكرة عن ذلك )) .

حدقت هارييت إليه , وقد أذهلها أن هذا الرجل البارد المتحفظ الذي

كانت تظن نفسها تعرفه , يقول شيئاً قاسياً كهذا . وهبت في وجهه تقول :

(( كيف تجرؤ على القول إنني لست واحدة منكم ؟ إنه تراثي بقدر ما هو

تراثك )) .

ـ صحيح أن دمك شرق أوسطي حار , لكنه لم يعد له تأثير , وإلا

لعرفت أن معاملة المرأة لزوجها شيء بالغ الأهمية بالنسبة إليه .

ـ أنا لست امرأتك .

ـ بل أن كذلك .

وفكر لحظة ثم عاد يقول : (( أنت كذلك بالنسبة إلى الناس هنا . لكنك

تظنين أننا مجرد صديقين حميمين , كما أننا رجل وامرأة مجردين من

المشاعر . لكن الإنكليز فقط يفكرون بهذا الشكل )) .

كان ينظر إليها وكأنه رجل غريب : (( مــاذا حدث ؟ ألا تحتملين قول

الحقيقة ؟ )) . ـ

فصرخت : (( هذه ليست الحقيقة )) .

ـ بل الحقيقة وأنت تعرفين ذلك . أنت تلجأين إلى العالم الميت لأن

العالم الحي كثير عليك ؟ قلبك مركز على الماضي حيث لا شيء يسبب الألم .

ماذا تعرفين عن الكرامة أو الحب , أو العواطف المشبوبة ؟ إنها مجرد كلمات

بالنسبة إليك .

فصرخت : (( كان ذلك مني مجرد عدم اكتراث ولا علاقة له بالحب أو

المشاعر . . . )) .

ـ لكن علاقته قوية بالكرامة , كرامتي التي ذللتها أمام الجميع . ما الذي

كنتما تتحدثان عنه طوال ذلك الوقت ؟

ـ وما الذي أتحدث عنه دوماً ؟ الآثار . أنت تعلم أنني كنت أريد

الاتصال به لأنني أخبرتك بذلك وقلت إنك ستساعدني على زيارته .

ـ يمكنك أن تنسي ذلك . فقدمك لن تطأ أبداً منزل ذلك الرجل .

ـ أتراك تعطيني مزيداً من الأوامر ؟ ـ

ـ فلنقل إنني أشير إلى ثوابت معينة . لقد خَلَف بيننا . وحيث إنك

تعرفين هذا , من غير المعقول أن تسعي إلى صحبته .

ـ ليست صحبته ما أسع إليها ولكن تحفه الفنية .

ـ أنت لا تفهمين , أليس كذلك ؟ إذن دعيني أتكلم بوضوح . أنا أمنعك

من الذهاب إلى بيته .

ـ تمنعني . . . ؟ أنت تعطي الأوامر وأنا يُفترض بي أن أقول حـاضر . يا

إلهي , أنت جئت إلى الشخص غير المناسب . لا بأس لقد تغيبت عن الحفلة

وقتاً طويلاً . أنا آسفة , كان عدم مراعاة للمشاعر مني . ولكن الجميع

في الحفلة كان يعلم أن خطبتنا مدبرة , وقد كان ادعاؤنا حسناً . ولكن ليس

هنا أسرار في روما , كما قلت لي أنت بنفسك . وإذا كنت ستتحدث عن

الكرامة , ماذا عن كرامتي أنا ؟ لم يكن في الحفلة امرأة الليلة لا . . . كيف

أقولها بشكل مهذب ؟ لا تعرفك أكثر مما أعرفك أنا . ـ

فقال وعيناه تلتهبان بشكل خطر : (( أتريدين أن تقولي إن هذا نوع من

الانتقام ؟ )) .

ـ لا . كلا طبعاً . ولكن لا أحد يظن أننا نعني , في الحقيقة , شيئاً

لبعضنا البعض . . .

فقال ساخراً : (( ( نعني شيئاً لبعضنا البعض ) ؟ ما الذي يزعجك في كلمة

حب )) .

قالت بغضب : (( لا علاقة للحب بهذا . لا يمكنك أن تغير العبارات

كلما ناسبك ذلك )) .

ـ أريد وعداً منك بألا تريه مرة أخرى . سواء كنت أنا هنا أم لا .

فصرخت : (( بل سأراه إذا أنا أردت ذلك . والوعد الوحيد الذي

يمكنني أن أقطعه لك هو أنني لن أعـدك بشيء )) .

ـ أنا أنذرك . . .

ـ لا تنذرني , فهذا لا يؤثر علي . ـ

ـ أنت لن تريه مرة أخرى يا هارييت . وأنا أعني ذلك .

ـ وإلا ماذا ستفعل ؟

ـ ستجدين نفسك على أول طائرة متجهة إلى إنكلترا .

ـ ربنا بإمكانك أن تطردني من هذا المنزل , ولكن هل يمكنك أن تراهن

على أنني لن أنتقل إلى فندق وأرى مانيللي كل يوم ؟

فضاقت عيناه : (( إياك أن تفعلي ذلك . أنا أنذرك )) .

ـ هل تهددني ؟

ـ هذا ليس تهديداً بل إنذاراً . هل أنا واضح ؟

ـ تماماً , والآن دعني أكون واضحة .

وخلعت الخاتم وقدمته له : (( هل هذا واضح بما يكفي ؟ )) .

ـ تباً لك .

وانتزع الخاتم منها بسرعة وألقاه بعيداً من دون أن ينظر أين وقع .

حدقت إليه مصعوقة وهي تدرك انه على وشك فقدان السيطرة على

نفسه : (( ماركو , أريدك أن تخرج الآن )) .

واستدارت مبتعدة لكن يديه كانتا على كتفيها ترغمانها على مواجهته :

(( لم أنته بعد )) . ـ

حاولت أن تنتزع نفسها منه لكنه أبقى يديه في مكانهما حتى أذعنت له

وقالت : (( دعني أذهب )) .

ـ ربما عليك أن تلتزمي بالنصائح التي تسدينها . إياك أن تأمري بشيء

لا يمكنك فرضه إلا إذا كنت تظنين نفسك من القوة بحيث يمكنك

مقــاومتي .

لم تجب , وإنما حملقت فيه بغضب بالغ . فتدلى شعرها على وجنتيها

المتوهجتين . بدا أن مظهرها العنيف المتوحش قد فتنه , لأنه جذبها إليه فجأة

محاولاً معانقتها .

فقالت بصوت خافت : (( إياك أن تجرؤ . لقد انتهت خطوبتنا )) .

فقال وهو يدنو منها أكثر : (( لا . لم تنته )) .

حاولت أن تقاومه بكنه ثبتها بيديه الفولاذيتين , مانعاً إياها من الحركة ,

فأذعنت لعناقه . كانت تعيب عليه مازحة إصراره على تنفيذ ما يريد , لكنه

كان يصر الآن والأمر ليس مضحكاُ . . . لأنه يملك القدرة التي لم يملكها

رجل آخر على إثارة أحاسيسها .

كان يعلم كيف يستعمل مهارته محركاً إياها بمهارة بين ذراعيه مرسلاً

ارتعاشات من العواطف في داخلها , ثم وببطء , يعود فيكبح جماحه ,

وجماحها أيضاً .

قالت بصوت مرتجف : (( كيف تجرؤ )) .

كانت غاضبة للغاية منه لفرضه هذا عليها , والأكثر من ذلك أنه ابتعد

حين بدأت تشعر بالاسترخاء .

لم يجب . ولم تعرف حتى إن كان قد سمعها . كان وجهه مظلماً منزعجــاً

وعيناه مسمرتين عليها وكأنهما تسألانها أسئلة لم تفهمها . ومرر يده على

ذراعها مداعباً إياها بأصابعه . ـ

الآن كانت ذراعاها مطلقتين وبإمكانها أن تدفعه عنها بعيداً غير أن

الإرادة كانت تنقصها . أخذ يلامس وجهها مداعباً إلى أن وصلت أصابعه

خلف أذنها , وكأنه كان يعلم أنها نقطتها الحساسة . أخذت نفساً مرتجفاً

عندما سرى هذا الإحساس العذب في كيانها .

لم يعد بإمكانها الإدعاء الآن , فهو سيشعر بخفقان قلبها الجنوني تحت

أصابعه . لقد تحداها أن تقاومه , لكنها لا تستطيع أن تقاوم الأحاسيس التي

تملكتها وجعلتها ترفع يديها ليس لتدفعه عنها بل لتعقدهما حول رأسه .

اشتعلت الأحاسيس في كيانها بشكل لم تعرفه من قبل . لأنها , ربما للمرة

الأولى في حياتها تشعر بالحياة مشرقة مثيرة . وتأوهت والتصقت به .

شعرت به يتصلب ثم يجمد تماماً . رفع رأسه وهزه قليلاً , وكأنه يتساءل

عما يحدث , ثم سمر نظراته على وجهها . أوشكت أن تصرخ إزاء التعبير

الذي بدا على وجهه . لم ترَ انتصاراً كما توقعت , وإنما طيفاً من العذاب .

ـ ماركو . . .

فقال بصـــــوت أجش : (( لو رأيتك تفعلين هذا مع أي رجل آخر ,

لكنتُ . . . لكنتُ . . . )) . ـ

انتظرته أن ينتهي , وهي تصغـي إلى أنفاسه السريعة وخفـقـات قلبها

المرتفعة . كان هذا شخصاُ جديداً مرتبكاً معذباً بمشاعر عنيفة توشك أن

تدمره . ليس ماركو الذي تعرفه .

وأخيراً همست : (( سوف تفعل مــاذا ؟ )) .

سرت في كيانه رجفة : (( هذا غير مهم )) .

ارتجفت قبضته وتلاشت نظراته اللامعة تاركة عينيه حزينتين بشكل

غريب .

تمسكت بالأثاث , شاعرة بالأرض تهتز تحتها : (( ربما هو مهم )) .

فقال بحدة : (( لا . انتهينا من هذا الـمــــوضوع الآن . وأنا آسف

لتحذيري هذا لك )) .

ـ ماركو . . .

ـ أعدك بألا يحـــدث هذا مجدداً .

ـ ماركو .

* * *


نهاية الفصل (( السادس )) . . .


Just Faith 28-09-17 06:30 PM

7 ـ

فخـــور أم غيور


استيقظت هارييت فجأة عند الفجر وجلست في سريرها تصغي إلى

الصمت . ثم نهضت وسارت إلى النافذة وفتحتها لتنظر إلى الفناء الهادئ

حيث تنتشر أشجار الصنوبر .

ما زالت ذكرى الليلة الماضية حية في كل جزء منها . لقد رأت ناحية

من ماركو لم تعرفها قط من قبل . كانت تعلم أنه مليء بالتناقضات , وأن

بإمكانه أن يكون تارة ساحراً مغرياً , وطوراً أنانياً حذراً . لكنها لم تكن تعرف

أنه قد يصبح خطيراً . فأثناء اللحظات القليلة التي أمضتها بين ذراعيه , كان

الجو بينهما مشحوناً , لكنها شعرت بأنها حية كما لم تشعر من قبل , كان

ذلك مذهلاً إنما حقيقياً .

حاولت أن تستعين بالمنطق لتحلل ما جرى . فرأت أنه على الرغم من

الاضطراب الذي لاحظته على ماركو , كان يحاول أن يثبت نقطة ما . ظن أنها

خدعته وهو لا يتحمل ذلك . فأصلح الأمر أمام الضيوف , لكن الكرامة

دفعته إلى استعراض سيطرته أمامها عندما كانا بمفردهما , أراد أن يريها أنها

له , سواء شاءت أم أبت . ـ

وقد نجح . إنها تعرف الآن أن أقل لمسة منه يمكن أن تذيبها . لكن

تفكيره كان مختلفاً , كما خمنت و هي تستعيد صورة وجهه , وتحاول أن تقرأ

عينيه . أراد أن يريها أنه , بينما لا يسمح لنفسه بأن يكون لها , ليس لها خيار

سوى أن تكون له .

عندما رفعت عينيها إلى تلال روما البعيدة , استطاعت أن ترى وهج .

الشمس الشارقة . كانت السادسة صباحاً تقريباً . ولا بد أن ماركو قد

استيقظ الآن وهي تريد سماع صوته , لكن هاتفه كان مقفلاً وعندما اتصلت

بشقته لم يجب أحد , لكنها لم تترك له رسالة وكيف بإمكانها ذلك وهي التي لا

تدري ما تقول له ؟

كانت بحاجة إلى الخروج من البيت . ارتدت بسرعة بنطلون جينز وكنزة

ثم خرجت من المنزل وسارت في طريق متعرج .

تلك هي حياتها الآن : طريق متعرج مجهول الوجهة والمصير , صوت من

داخلها نبهها إلى أن تعود إلى الوطن , لكن ألماً حلواً مراً في قلبها أرادها أن

تبقى .

وصلت إلى بحيرة صغيرة ثم ابتدأت تسير على ضفافها , مستمتعة

بجمال النهار . كان ضباب الصباح قد تلاشى , والضياء متوهجاً وقد

ارتفعت أغاريد الطيور في الجو .

أين هي . ـ

ثم رأت ما جعلها تقف حاسبة الأنفاس . كان هناك رجل جالساً على

الأرض مستنداً إلى الشجرة , وما زال في ثياب الليلة الماضية نفسها , ما عدا

سترته التي كان قد ألقى بها جانباً . كان قميصه مفتوحاً إلى منتصفه , ورأسه

مستنداً إلى الخلف مُظهراً عنقه القوي الأسمر . جلست بهدوء بجانبه فرأت

عينيه مغمضتين وكأنه نائم , كان التوتر الآن قد زال عن ملامحه , ورق فمه

وكأنه لم ينطق قط بكلمات خشنة قاسية . بقيت هناك فترة تنظر إلى وجهه غير

الحليق , وشعره المتدلي على جبهته , وشعرت بحنان لم يوح به إليها قط من

قبل . كانت تعلم أنه سيكره فكرة أن يتفحصه أحد بهذا الشكل , لكنها لم

تستطع أن تشيح نظرها . . .

وفتح عينيه . ـ

بدلاً من أن يبدو غاضباً , أدهشها مرة أخرى إذ بقي جالساً , ببساطة ,

دون حراك , يحدق فيها طويلاً إلى حد تساءلت معه عما إذا كان يراها فعلاً .

وأخيراً ذهبت النظرة الذاهلة من عينيه ليحل مكانها ألم عاجز .

ـ هل أمضيت الليل بطوله هنا ؟

ـ نعم , منذ تركتك .

ـ ظننتك ذهبت إلى البيت .

ـ كان علي أن أبتعد عنك , لكنني لم أستطع أن أتركك . إذا كنت تفهمين

قصدي

لقد فهمت قصده تماماً . فعندما خرج كالعاصفة الليلة الماضية , شعرت

بانقباض في صدرها , وكأنها كانت متصلة به بخيط غير مرئي . وأدركت

الآن أنه شعر به , هو أيضاً .

جلست بجانبه , وأمسكت يده الباردة وأخذت تدلكها . تركها تفعل

ذلك , وقد بدا أن الإرهاق يمنعه من أي ردة فعل , لكن عينيه كانتا على يدها

الخالية من الخاتم . ـ

فقالت تفسر له الأمر : (( لم أبحث عنه بعد . قد يكون في مكان ما في

تلك الغرفة الفسيحة . إفرض أننا لم نعثر عليه ؟ )) .

اكتفى بهزة بسيطة من كتفيه . وبعد لحظة تحركت أصابعه لتمسك

بأصابعها , ثم سألها بهدوء : (( هل أنت بخير ؟ )) .

ـ نعم , أنـا بـأحـسـن حــال .

ـ هل أنت واثقة ؟ أنا سيء الطباع , مع الأسف .

ـ لم تكن تحاول أن تؤذيني .

فقال بصوت أجش : (( لا . لا فقط كنت أحاول أن أثير انتباهك )) .

والتوت شفتاه قليلاً : (( في صغري , اعتدت مواجهة الإحباط بالصراخ .

عند ذلك يصغي إلي الناس )) .

فقالت برقة : (( نعم , كان علي أن أتكهن بذلك )) .

ـ حان الوقت لكي أصبح كبيراً على هذه الأشياء , أليس ذلك ؟

ـ الناس لا يغيرون طباعهم . أنت لم تخفني .

ـ الحمد الله , لأن هذا آخر ما كنت أريد . أرجوك يا هارييت إنسي كل

شيء عن الليلة الماضية . ـ

ـ كل شيء ؟ هل تعني . . . ؟

ـ كل شيء . إذهبي إلى بيت مانيللي متى شئت . وأعدك بألا أثير المشاكل

مجدداً . ما مضى قد مضى . وما حصل كان نوعاً من الجنون لا أكثر .

ـ ولكن ماذا حدث لك يا ماركو ؟

ـ لا أستطيع تفسير ذلك , لكن هناك شيئاً مـا لا أجد له تفسيراً منطقياً .

دعينا فقط نقول إنني أغار بسهولة . إنني متملك , وهذا ليس حسناً . آسف .

ـ ليس هناك ما يستوجب غيرتك .

ـ أعلم ذلك , ولكن هناك أشياء لا يمكنني نسيانها .

ـ عن تلك المرأة ؟ تلك التي كنت ستتزوجها ؟

فتململ : (( وماذا تعرفين عنها ؟ )) .

ـ ليس الكثير . كنتما مخطوبين ثم غيرتما رأيكما .

ساد صمت طويل , ثم قال وكأنه ينتشل الكلمات من هوة مخيفة : (( كان

الأمر أكثر تعقيداً بقليل من ذلك )) . ـ

فقالت تستدرجه : (( فسخ الخطوبات لا يتم دائماً للأسباب نفسها )) .

فأومـأ : (( صحيح . على أي حال ! إنه يجعلني أتصرف بشكل غير

منطقي . آسف )) .

ضغطت على يده تطمئنه وهي تفكر أنها لم تر في حياتها رجلاً تـعيساً

هكــذا .

وقال بضعف : (( عندما تعثرين على الخاتم , هل ستلبسينه ؟ )) .

فترددت : (( لا أدري )) .

فانفجر ضاحكاً : (( إذا رحلت بهذه السرعة بعد حفلة الليلة الماضية ,

ستكثر الأقاويل . وكذلك . . . )) .

وعاد هدوئه : (( سيؤذي هذا أمي إلى درجة كبيرة )) .

ـ لن أرحل . . . حالياً .

ـ شكراً .

ومال إلى الأمام فجأة مريحاً رأسه عليها كئيباً يائساً فأحاطته بذراعيها ,

متلهفة إلى مواساته , لكنها كانت تعلم أنها لم تصل إلى أعماقه . أحنت رأسها

وأراحت خدها على شعره الأشعث . حاولت أن تجعله يعلم من خلال قوة

عناقها له بأنها إلى جانبه . وظنت أنها شعرت بذراعيه تشتدان حولها وكأنه

وجد شيئاً هو بحاجة إلى التعلق به . ـ

جلسا دون حراك بينما سرت السخونة في جسدها . كان إحساساً مختلفاً

لم تعهده من قبل . كان أشبه برغبة عنيفة في حمايته . أشبه بالحب ! .

يا للكارثة ! لم تكن تنوي أن تحبه , وهي ليست واثقة أنها تريد ذلك .

لقد وقعت في الشرك قبل أن تعرف بوجوده . لماذا لم يتابع شجاره معها ؟ كان

ذلك سيسهل أمـر فراقهما . . . هذا ليس عدلاً ! ابتعدت عنه , فدفع شعره إلى

الخلف وقد سقط على جبينه : (( أظنني أبدو كالمتشرد )) .

فقالت بحنان : (( قليلاً )) . ـ

ابتدأ ينهض ثم أجفل : (( عضلاتي متصلبة )) .

ـ لا يدهشني ذلك ما دمت أمضيت الليلة هنا . دعني أســاعدك .

وضع ذراعاً حول عنقها ثم وقف متألماً , حاملاً سترته المتسخة بأوراق

الشجر . وقالت : (( الأرض رطبة . كان من الممكن أن تصاب بذات الرئة )) .

ـ اعتدت كثيراً النوم في العراء عندما كنت طفلاً . هناك في الغابة كنت

أنصب خيمة وأتظاهر بأنني من جماعة المتمردين .

فقالت وهي تريد أن تطيل هذه الفترة الحلوة بينهما : (( أرني المكان )) .

ـ حسناً .

قادها خلال الأشجار , بينما كانت ذراعاه لا تزال حول كتفيها . ثم

صعدا مرتفعاً يؤدي إلى فسحة مسطحة من الأرض : (( هنا اعتدت أن أنام

تحت النجوم )) . ـ

ـ إنه مشهد رائع .

ـ نعم , ولا يمكن ( للعدو ) أن يقترب منك على حين غفلة .

فقالت : (( كم كان عددكم ؟ )) .

ـ أنا فقط . كنت أحسد ليو وغويدو لأنهما شقيقين . لقد افترقا في

الواقع عندما كان غويدو في العاشرة وأخذه العم فرانسيسكو ليعيش في

البندقية , تاركاً ليو في توسكانيا لكنني دوماً كنت أفكر فيهما بأنهما

أخوين .

ـ من المؤسف أنك لم تحظَ بأخوة أو أخوات .

ـ مات أبي باكراً , ولم تشأ أمي أن تتزوج بعده .

ـ ولكن لا بد كان لك أصدقاء .

ـ في المدرسة فقط .

يبدو أن طفولته كانت حزينة , كما أخذت تفكر وهي تأسو لوحدة

الصبي الصغير وللحياة التي عاشها بعيداً عن فتيان عائلة كالـﭭـاني وجلبتهم .

ـ يمكنك أن ترى روما بأسرها من هذه البقعة . في الليل كنت أجلس

تحت هذه الشجرة وأنظر إلى الأضواء . هنا بالضبط .

ووضع سترته على الأرض وأشار إليها بأن تجلس عليها بجانبه . فقالت

وهي تفسح له : (( وأنت أيضاً )) .

جلسا معاً ووجدت يده طريقها إلى يديها . ـ

وقالت : (( هذا مكان رائع . افهم رغبتك في مداومة القدوم إلى هنا )) .

لم يجب . وانتبهت إلى ثقل على كتفها فالتفتت لترى رأسه على كتفها ,

وقد أغمض عينيه مرة أخرى .

رأت الآن شيئاً آخر في وجهه . كان منهكاً ولم يكن لذلك صلة بقلة

النوم . لقد انزاح التوتر والاستنزاف ليحل محلهما إرهاق عميق بدا وكأنه قد

تسرب من ماضٍ بعيد أليم . لم يسبق أن فكرت قط في أن تشفق على ماركو ,

لكنها تشعر الآن بالشفقة عليه إلى حد لم تفهمه تماماً . حان الوقت لكي تصل

إلى أعماقه لترى ما هي مشكلته . وبرفق , رفعت شعره عن جبهته .

تحرك وفتح عينيه ونظر مباشرة إلى عينيها الباسمتين .

قالت بحنان : (( لقد نمت مجدداً )) . ـ

ـ عدة دقائق فقط .

ثم رأت النظرة التي كانت قد أخافتها , وكأن ستاراً نزل على عينيه .

تبدد الضوء من عينيه تاركاً فراغاً متعمداً . ثم تركها ونهض واقفاً من دون

أن يسمح لها بمساعدته هذه المرة . قدم لها يده ليساعدها على النهوض ,

فأخذها ونهضت بسرعة كادت معها تفقد توازنها . تأملها ويده الأخرى على

ذراعها , لكنه لم يجذبها إليه كما كان بإمكانه أن يفعل بسهولة .

أدركت بذعر أن كل شيء قد ذهب , الحرارة والصلة التي كانت من

قبل . أصبحت عيناه الآن يقظتين , وربما أصبح أكثر حرصاً عليها لأنه

سمح لها بأن تقترب منه .

سألها وهو ينظر في ساعته : (( كم الساعة ؟ علي أن أذهب الآن . آسف

لتحميلك عبء هذا كله )) . ـ

فقالت محاولة الرجوع إلى داخله : (( أنا مسرورة لأننا تحدثنا فقد أصبحت

أفهمك الآن بشكل أفضــل )) .

فهز كتفيه : (( وماذا هناك لتفهميه ؟ لقد تصرفت بشكل سيء مع أسفي

الشديد , وكنت أنت صبورة جداً معي , ولكنك لست مضطرة لتحمل

طبعي لأنني لن أثور عليك مرة أخرى )) .

كادت تقول : (( حتى ولا عندما نتزوج ؟ لكن لسانها لم يطاوعها . كل ما

كان مؤكداً منذ لحظة , فقد توارى الآن في الوهم . فهي لم تعد تعرفه .

قامت بمحاولة أخيرة : (( الطباع الحادة ليست أسوأ شـيء في العالم . ربما

لا ينبغي أن يكون الناس مهذبين طوال الوقت . أنا لم أكن مهذبة جداً معك

الليلة الماضية وأنت . . . )) . ـ

ـ ردة فعلي كانت عنيفة مع الأسف لكن هذا لن يحدث مجدداً . والآن ,

هل يمكننا أن ننسى الموضوع ؟

ودعك ذقنه غير الحليقة : (( الأفضل أن أعود إلى البيت لأستحم . لا

أريد أن تراني أمي بهذا الشكل . وأرجوك لا تخبريها بشيء )) .

ـ طبعاً لن أخبرها .

عادا صامتين , وعندما بدا أمامها المنزل قال : (( أدخلي أولاً وأشيري إلي

إذا كانت الطريق سالكة , لا , انتظري ! )) .

أمسك بيدها وجذبها عائداً بها إلى داخل الأشجار عندما ظهرت لوشيا

عند الباب الخلفي . ووصل صوتها إليهما : (( من ترك هذا الباب مفتوحاً ؟ من

المؤكد أنه لم يكن كذلك طوال الليل )) .

فقالت هارييت وهي تتقدم نحوها لوشيا : (( أنا من فتحه . لقد خــرجت

باكراً لأتمشى )) . وركضت صاعدة الدرجات لتقبل لوشيا وتسحبها إلى

الداخل وهي تثرثر معها , ولكنها في الحقيقة كانت تقوم بمناورة لتدخلها إلى

المنزل . قاومت رغبة في النظر إلى الخلف , ولكن خيل إليها أنها تسمع

خطوات تصعد الدرجات بخفة . ـ

بعد ذلك بنصف ساعة , انضم ماركو إليهما على مائدة الفطور بعد أن

اغتسل وحلق ذقنه . شكر أمه بظرف بالغ لنجاح الحفلة , ومدح نجـــاح

هارييت في أول ظهور لها في المجتمع . ولم يذكر أي شيء آخــر .

* * *

بعد أيام قليلة جـاءت دعوة إلى حفلة في (( قصر مانيللي )) .

وقالت لوشيا بدهشة : (( لم يسبق أن دُعينا إلى هناك من قبل ! )) .

فقال ماركو : (( إنه في الواقع يريد هارييت يا أمي فهي تريد أن ترى

مجموعته )) . ـ

ومنح هارييت ابتسامة سريعة : (( هذا سيمنحك الشهرة . لم يتحقق هذا

الامتياز لأحد من قبل . طبعاً سنقبل الدعوة )) .

عادت الأمور في الفيلا إلى سابق عهدها , وكانت لوشيا الدائمة

الانشغال بالجمعيات , سعيدة كون ضيفتها تمضي أوقاتها في المتاحف

ومعارض الفنون . كانتا تتلاقيان لتناول العشاء في المنزل أحياناً وأحياناً في

أحد المطاعم قبل الذهاب إلى الأوبرا . وفي المناسبات كان ماركو ينضم

إليهما فقد أدركت هارييت أنه مولع بالأوبرا . ـ

وكانت هارييت قد عثرت على الخاتم فراحت تلبسه في المناسبات قائلة

للوشيا إنها تخاف عليه أن يضيع إذا لبسته دوماً . ولبسته عندما دعاها ماركو

للغداء في المصرف مرة أخرى . كان مسروراً لكنها عرفت بأنه كان يرسل

إليها برسائل صامتة بأن لا سبيل للعودة إلى تلك اللقاءات القصيرة الحميمة

التي عرفاها . ـ

قال لها بنعومة : (( أنت خائفة من أن أثير مشكلة في حفلة مانيللي ,

لكنني وعدتك بألا أفعل ذلك . ولا أحد سيظن شيئاً إذا ذهبت عالمة آثار

مهمة مثلك للتفرج على مجموعته . لا , لا تنظري إلي بارتياب , فأنا أقر الآن

بشهرتك العالمية . ذلك أن عدداً من زملائي هنا عرفوا اسمك وطلبوا

التعرف إليك )) .

ورفع كأسه : (( أنا فخور جــداً بخطيبتي )) .

بخطيبته , وليس بها , كمـا لاحظت .

* * *

يقع قصـر مانيللي في وسط الجزء القديم من روما قرب كنيسة القديس

بطرس . كانت الأنوار تتألق من النوافذ الواسعة والأبواب عندما وصلت

سيارتهم . وكان البارون واقفاً لاستقبالهم .

تملكت البهجة هارييت منذ اللحظة الأولى , إذ كانت تعلم أنها تبدو في

أحسن حالاتها في ثوبها الحريري والعقد الياقوتي الذي أهداها إياه ماركو .

وكانت تعرف معظم المدعوين . ـ

رافقها ماركو في البداية ليقدمها إلى بعض الغرباء , مبدياً زهوه وإعجابه

بها . ثم توارى عنها كما وعدها ووجه انتباهه إلى الضيوف الآخرين . وكان

بإمكان هؤلاء أن يشغلوه طوال السهرة . كل ما كانت تطلبه خطيبته هو نظرة

بين الحين والآخر ليرى إن كانت بحاجة إلى عون منه , لكن يبدو أنها لم تكن

بحاجة إلى أي مساعدة , ذلك أن ثقة هارييت بنفسها قد ازدادت وكذلك

سرعة بديهتها . الأمر الذي أذهل ضيوف مانيللي من دون استثناء . هذا

بالإضافة إلى أن التحول الجسدي الذي أصبحت عليه , جعل منها شخصية

مؤثرة . لم تكن جميلة , لكنها رائعة الشخصية . وبدا وكأنها لفتت انتباه كل

رجل في الحفلة . ـ

قالت أمه تعنفه : (( ماركو , كيف لك أن تهمل هارييت المسكينة ؟ )) .

فأجاب ماركو بهدوء : (( مسكينة ؟ هارييت ناجحة تماماً من دوني . هل

يبدو عليها أنها مهملة ؟ )) .

فردت لوشيا بحدة : (( الرجال حائمون حولها . واحد منهم يبدو وكـــأن

لعابه يسيل وهو ينظر إليها , وآخــر لا ينفك ينظــر إليها بلهفة )) .

ـ ماما , الرجل الذي ينظر إليها بلهفة يملك النسخة الأصلية لتمثال

مايكل أنجلو . ـ

قال ماركو هذا وكأنه يفسر كل شيء : (( لا يمكنني أن أنافس كل هذا .

وكل ذلك بريء للغاية )) .

ـ هه . . . مانيللي ليس بريئاً إنه أحد أسوأ رجال روما .

ـ لكن هارييت بريئة , وهذا هو المهم

ثم أخــذ نفساً حاداً .

ـ ما الأمر , يا ولدي العزيز ؟ لماذا تبدو بهذا الشكل ؟

فأجاب وهو يتمالك نفسه : (( لا شيء . أرجوك ألا تزعجي نفسك بهذا

الأمر , يا أمـي . هل تسمحين لي بلحظة ؟ )) . ـ

وابتعد عنها مسرعاً , شاعراً بأنه إذا لم يستطع أن ينفرد بنفسه حالاً ,

فسيختنق وفي الحقيقة استطاع أن يتجنب الأضواء والضحكات ويجد

الوحدة تحت الأشجار المظلمة . وكان يتصبب عرقاً لما حدث لتوه .

لقد قال : ( هارييت بريئة ) وكلمة ( بريئة ) صدرت كقنبلة هشمت

الجدار الزجاجي الذي أقامه بينه وبين الماضي . ـ

( إنها بريئة . . . بريئة ) هذا ما قاله عندما حاول أصدقـاء أن ينبهوه إلى

المرأة التي منحها قلبه ذات يوم , ورفض أن يصدق ما يقال عنها من

شائعات . كان مجرد حب أعمى . . . أعمى وغبي . . . غلطة لا يمكن أن

تتكرر أبداً لأنها لم تكن بريئة , وقد عرف ذلك بطريقة قاسية كادت تدمره .

لقد عادت الذكريات إليه الآن , فتركته يرتجف كرجل تفترسه الحمى .

لكن هارييت كانت مختلفة . فهي ليست بريئة وحسب , بل صريحة

وهذه علامات الصدق . ـ

بعد فترة , تمالك نفسه , وعندما تأكد أن بإمكانه الظهور بشكل طبيعي ,

عاد إلى الحفلة بابتسامة عريضة دون أن يسمح لعينيه بالبحث عنها .

وكانت هارييت تستمتع بنجاحها . بعد أن دار بها ماركو في أنحاء

المكان في البداية , تركها وابتعد مبتسماً تاركاً إياها لاهتماماتها , وبعد ذلك

أخذ يسلي نفسه مع أكثر النساء جمـالاً , وهذا ما ناسبها تماماً , كما أخذت

تفكر . ناسبها تماماً . ـ

ثم , رأت من أزاح كل تلك الأفكــار من ذهنها .

ـ اولمبيا .

كانت أختها قد وصلت لتوها , فاندفعت نحو هارييت فاتحة ذراعيها

فعانقتها وهي تهمس لها : (( سمعت الكثير عنك . هل خُطبت حقاً

لماركو ؟ )) . ـ

فقال هارييت بجفــاء : (( لست واثقة )) .

تراجعت أولمبيا ونظرت إليها : (( أريد أن أعلم الحقيقة منك )) .

فضحكـت هارييت : (( وإلا لما كنت أولمبيا . أين كنت طوال تلك

المدة ؟ )) .

ـ في أميركا مع والدي . ما زالا هناك . لكنني عدت اليوم , ثم أسرعـت

إلى هنا لأنني سمعت أن ( ماركو وعروسه ) سيكونان في الحفلة . آه , يا أختي

الماهرة . حصلت على شروطك إذن ؟

ـ حســنـاً . . .

ـ طـبـعـاً فعلت هذا . هــذا الخاتم يا عزيزتي . . . لا بد أنه كلف . . .

فضحكت هارييت : (( لا تبدإي . . )) . ـ

ـ مـعـك حـق . مثلي دور الـــهـدوء . دعيه يـتـكهن . هـذا هـو السبيل إلى

ماركو , وإلى الآخرين أيضاً . يقولون إنك جعلت مانيللي يأكــل من يـدك .

ـ سيأخذني في جولة يريني فيها نفـائسه .

ظهر مانيللي في تلك اللحظة ثم أخــذ المرأتين معه في جولة في منزله

الفخم . تكلم جيداً وبشكل مفيد . وسرعان ما بان السأم في عيني أولمبيا ,

فاعتذرت ثم هربت , من دون أن يلحظها أي منهما . وعندما عادت إلى

الحفلة أحــاط بها المعجبون , فشقت طريقها بينهم حتى وجدت ماركو . لم

يرها منذ اليوم الذي عرض فيه الزواج عليها فرفضته في خمس ثوانٍ . وتبادلا

التحية بمودة . قالت مداعبة : (( لم أكن أعلم ماذا فعلت عندما اقترحت عليك

هارييت , أليس كذلك . هل أسأت إليك بذلك ؟ )) .

ـ لا , أبداً . هارييت خيار ممتاز , ما عدا عادتها في الغياب مع رجـــال

آخرين أثناء الحفلات .

ـ آه , مانيللي يريها فقط لوحاته . لا حاجة بك للغيرة .

ـ لا تكوني سخيفة . أنـا طبعاً لا أغــار . ـ

ـ لا بأس . لا تصرخ بي . هارييت شخص مليء بالمفاجآت , كما أظنك

صرت تعلم . علي أن أعترف بأنني نصحتك بها فقط لكي أغيظك .

فقال ببرودة : (( كان علي أن أتوقع منك مثل هذه الدعابات . أنت لم

تكبري منذ طفولتك عندما كنت أنقذك من على الأشجار التي كنت

تتسلقينها . يمكنني أن أعتني بنفسي ولكن هل فكرت أنك بذلك ربما تؤذين

هارييت )) . ـ

ـ أتعني أنها قد تكون قد وقعت في حبك ؟ هذا هراء , يا عزيزتي . مــا

كنت لأفعل هذا لو لم أكن واثقة منه . فأنا أعلم أنك غير قادر على الحب .

وهي أيضاً , ألم تعلم أنت هذا بعد ؟

قالت هذا ضاحكـة , ثم ســارت في طريقها موفرة عليه ضرورة الإجابة .


* * *


نهاية الفصــ ـل (( السابع )) . . .


: : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : :


الساعة الآن 11:20 AM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.