![]() | #1 | ||||||||||
مراقبةومشرفةسابقة ونجم روايتي وكاتبة وقاصة وملكة واحة الأسمر بقلوب أحلام وفلفل حار،شاعرة وسوبر ستارالخواطر،حكواتي روايتي وراوي القلوب وكنز السراديب ![]()
| ![]() ![]() الرواية رائعة ومنقولة للعلم ولينال كل حقه شكرا لمن كتبها 316-رجل الثلج -(الجزء الثاني من سلسلة لوسي غوردون) المـــلـخص : كانت هارييت غارقة في الديون , ومتجر التحف الذي تملكه مهدد بالإقفال النهائي في كل لحظة . في وسط هذه المحنة جاءها عرض من المليونير الإيطالي الرائع ماركو كالفاني لإنقاذ متجرها وتسديد ديونها مقابل أن تصبح زوجته . فهل ستقع ضحية هذا العرض المغري حتى لو كان ضد مبدئها الأساسي . لا زواج من دون حب ". إذا ذهبت مع ماركو إلى روما قد تقتنع بفكرته وتنقذ متجرها الغالي . لكن هل بإمكانها أن تنقذه هو من ماض يأسره ويجعله بارداً كالثلج , وهل بإمكانها أن تجد تحت للتذكير فقط السلسلة مكونة من ثلاث روايات رائعة الجزء الأول بعنوان الثاني بعنوان الثالث بعنوان ![]() | ||||||||||
![]() | ![]() |
![]() | #2 | ||||||||||
مراقبةومشرفةسابقة ونجم روايتي وكاتبة وقاصة وملكة واحة الأسمر بقلوب أحلام وفلفل حار،شاعرة وسوبر ستارالخواطر،حكواتي روايتي وراوي القلوب وكنز السراديب ![]()
| ![]() عدد الـــفصول : 12 عناوين الـــفصول : 1 ـ خبيرة أم مشاكسة ؟ 2 ـ أغسطس قيصر 3 ـ امرأة جديدة 4 ـ رقصة الحب 5 ـ رجل الثلج 6 ـ في عرين الأسد 7 ـ فخور أم غيور ؟ 8 ـ منزل العاشقين 9 ـ بين ذراعيك 10 ـ أعراس البندقية 11 ـ لن أعيش بدون حب ! 12 ـ كلا ! لم أندم ::::::::::::::::::::::::::::::::::::: | ||||||||||
![]() | ![]() |
![]() | #3 | ||||||||||
مراقبةومشرفةسابقة ونجم روايتي وكاتبة وقاصة وملكة واحة الأسمر بقلوب أحلام وفلفل حار،شاعرة وسوبر ستارالخواطر،حكواتي روايتي وراوي القلوب وكنز السراديب ![]()
| ![]() تمهيد أنا لست بحاجة إلى زوج , هل تفهمين هذا ؟ أنا لست بحاجة إلى زوج . ولا أريد ذلك بكل تأكيد . وهزت هاريـيت كتفيها بنعومة لدى تلفظها بالكلمات الأخيرة فصعقت المرأة الأخرى لذلك وقالت ضارعة : ( إهدئي يا هارييت )). ـ زوج ؟ يا إلهي , لقد أمضيت سبعة وعشرين عاماً من مري من دون أن أزعج نفسي بمخلوق يسبب لي الضيق و . . . ـ إسمعيني فقط . . . ـ ـ وعندما أرى أختي تتوسط لي لأتزوج . . . رباه ! حتى أنت لم تتورعي عن هذا , يا أولمبيا ؟ ـ أنا لم أتوسط للزواج . ظننت فقط أنك قد تجدين ماركو نافعاً . صدر عن هارييت صوت أشبه بشخير ساخر : (( ما من رجل نافع )). ـ لا بأس , لن أجادلك . أولمبيا وهارييت أختان غير شقيقتين , إحداهما إنكليزية والأخرى إيطالية . شعرهما الكث المائل إلى الاحمرار هو القاسم المشترك الوحيد الذي يجمعهما , رغم أن الأخت الصغرى أولمبيا تسرح شعرها الطويل بشكل بديع , بينما تشده هارييت إلى الخلف حول وجهها الجاد . ملابسهما تكشف أيضاً عن تناقض مزاياهما ؛ فأزياء أولمبيا قمة في الأناقة الإيطالية , أما هارييت فتختار من الملابس ما هو مريح وبسيط . كما أن قوام أولمبيا رشيق مغري أما قوام هارييت فأقرب إلى النحافة . نظرت أولمبيا حولها في ذك المتجر الأنيق في (( ويست إند )) لندن , كان مليئاً باللوحات الفنية الرائعة والتحف الأثرية . ولفت نظرها عدد منها . وعندما وقع بصرها على تمثال برونزي هتفت : (( ما أروعه )) . ـ فقالت هارييت : (( إنه القيصر الروماني أغسطس من القرن الأول )) . ـ إنه جميل حقاً ! وأخذت تتأمل التمثال عن كثب : (( أنفه رائع وتقاسيم وجهه أرستقراطية , وفمه جميل , أراهن على أنه كان معبود النساء )) . فقالت هارييت بحدة : (( أنت دوماً تفكرين فيهم بما يكفي , هذا شيء معيب )). فهزت كتفيها : (( في الحياة ما هو أهم )). ـ ـ هراء , لا شيء أهم من ذلك , يا ليتك تهتمين بالرجال الأحياء كما تهتمين بالأموات منهم . ـ فقالت هارييت بلهجة لاذعة : (( كنت لتوك تتغزلين برجل مات منذ ألفي سنة . وعلى كل حال , الأموات أفضل من الأحياء . فهم لا يكذبون ولا يمهلون أصدقاءهم . ويمكنك أن تتحدثي إليهم من دون أن يقاطعوك )). ـ كم أنت متهكمة ! أحذرك , إن ماركو متهكم أيضاً , ولولا ذلك لتزوج منذ زمن بعيد . ـ ـ إنه عجوز إذاً ! ـ ماركو كالـﭭـاني في الخامسة والثلاثين من العمر , مثقل بالمسؤوليات , ووسيم للغاية . ـ قالت أولمبيا هذا بحماسة , فسألتها هارييت : (( لماذا لم تتزوجيه إذن ؟ قلت إنه طلب منك الزواج أولاً )). ـ فعل ذلك لأن أمه صديقة لجدتي وترغب بتوحيد الأسرتين . ـ وهو يفعل ما تقوله له أمه ؟ إنه عديم الشخصية إذاً . ـ أنت مخطئة . ماركو لا يقتنع إلا برأيه الخاص , وهو يفعل هذا لأسبابه الخاصة أيضاً . ـ ـ لعله غريب الأطوار ! ـ إنه يعمل في مصرف ويكرس حياته للعمل الجاد . وهو يفكر الآن في الزواج , بعيداً عن الحب والغزل والعبث . ـ لعله شاذ ! ـ ـ حسب قول أصدقائي , هو ليس كذلك . بل على العكس , معروف عنه أنه يدمر النساء , فما إن يقيم علاقة مع المرأة حتى يتركها . يبدو أن عواطفه لا تتدخل في علاقاته , فعلاقاته بالنساء عابرة , ينهيها قبل أن تتعمق الأمور . ـ ـ بهذا الوصف , تجعلينه يبدو صعب المقاومة . ـ من واجبي إطلاعك على ماله وما عليه . ماركو لا يهتم بالورود وضوء القمر , لذا أريدك أن تفهمي الأمور بوضوح . ستكون علاقتك به اتحاداً أكثر منها زواجاً , بما أنك أنت أيضاً فتاة جادة . . . ـ هل ظننت أنني سأكون سعيدة بقبول الزواج بأحد الذين ترفضينهم ؟ شكراً يا أولمبيا . ـ ـ هل لك أن تتوقفي عن هذه الحساسية ؟ لقد تكبدت كل هذا العناء لكي أنبهك إلى أنه ربما يأتي إلى هنا الأسبوع القادم . . . ـ وأنا شاكرة جداً لك . في الواقع , كنت أفكر في السفر ويبدو لي الأسبوع القادم مناسباً تماماً . بسطت أولمبيا يديها بسخط وهي تهتف : (( رباه , يستحيل مساعدتك . ستنهين حياتك عانساً )) . وابتسمت هارييت بخبث فبدا وجهها حلواً : (( هذا إذا حالفني الحظ )) . * * * | ||||||||||
![]() | ![]() |
![]() | #4 | ||||||||||
مراقبةومشرفةسابقة ونجم روايتي وكاتبة وقاصة وملكة واحة الأسمر بقلوب أحلام وفلفل حار،شاعرة وسوبر ستارالخواطر،حكواتي روايتي وراوي القلوب وكنز السراديب ![]()
| ![]() 1 ـ خبيرة أممشـاكسة ـ يا ولدي العزيز , هل فكرت جيداً بالموضوع ؟ كان وجه السنيورا لوشيا كالـﭭـاني مليئاً بالاهتمام وهي تنظر إلى ابنها الذي كان يقفل حقيبة ثيابه . منحها ابتسامة سريعة حملت من الدفء أكثر مما تحمل لأي شخص آخر , لكنه لم يتوقف عن العمل : (( وماذا هناك لأفكر فيه ؟ أنا على أي حال أفعل ما طلبته أنت مني , يا أمي )). فقالت بتشكك أمومي : (( كلام فارغ , أنت لا تفعل إلا ما يناسبك )). ـ هذا صحيح , ولكن ما يناسبني كل ما يسرك . أنت تريدين أن أتزوج حفيدة صديقتك , وأنا رأيت ذلك مناسباً . ـ ـ إذا كنت تعني أن الفكرة أعجبتك , قل هذا , ولا تخاطب أمك وكأنك في اجتماع مجلس إدارة . ـ قالت هذا بحدة فتقدم يقبل خدها : (( آسف ولكن ما دمت أقوم بما تتمنينه , فلا أدري ما هو سبب قلقك هذا )). ـ عندما قلت إنني أود أن تتزوج حفيدة إيتا , كنت أعني أولمبيا , كما تعلم جيداً . إنها أنيقة , رشيقة , محنكة , وتعرف كل الطبقة الراقية في روما , ويمكن أن تكون خير زوجة . ـ ـ لا أوافقك الرأي , فهي فتاة عابثة تفتقر إلى النضوج . أختها أكبر منها سناً وأكثر رصانة كما فهمت . ـ لكنها نشأت في إنكلترا , وقد لا تتلكم الإيطالية . ـ أكدت لي أولمبيا أنها تتحدث الإيطالية . كما أن اهتماماتها ثقافية , ويبدو أنها ستناسب متطلباتي . ـ تناسب متطلباتك ؟ قالت الأم هذا بذعر : (( من تتحدث عنها هي امرأة من لحم ودم وليست مجموعة أسهم )). ـ فهز كتفيه : (( إنها مجرد طريقة في الكلام . هل نسيتُ شيئاً لم أضعه في الحقيبة ؟ )) . ـ وأخذ ينظر في أرجاء الغرفة السابحة في شمس ذلك الصباح المتألقة التي كانت تتسرب من نافذة الشرفة . خرج ليتنشق الهواء النقي ويمتع ناظريه بمشهد (( جادة فيتيتو )) . تطل شقته القائمة في الطابق الخامس من هذه البناية البديعة على كاتدرائية (( سانت بيتر )) ونهر التيبر . توقف لحظة يتأمل تألق أشعة الشمس على الماء . كان يفعل هذا كل صباح , مهما كان انشغاله . ولربما أثار هذا دهشة العديد من الأشخاص الذين يعتبرونه مجرد آلة حسابية . ـ أما بيته من الداخل فيعزز تحاملهم هذا عليه . فرغم أن الأثاث كان غالياً , إلا أنه يدل على البساطة , ويبدو بامتياز بيت رجل مكتفٍ بنفسه . اختيار السكن في وسط روما يناسب تماماً شخصية ماركو , لأن قلبه وعقله وكل وجوده كان رومانياً . كما أن طول قامته ومظهره وسماته المتغطرسة تجعله منحدراً من سلاسة ملوك . وليس مستبعداً أن يكون واحداً منهم ! أوليس أصحاب المصارف العالمية هم الملوك الجدد ؟ يبلغ ماركو الخامسة والثلاثين من العمر , وهو يتفوق على كل معاصريه في دنيا المال والشراء والبيع والمعاملات . . . فذلك بالنسبة إليه أشبه بالهواء الذي يتنفسه , وليس من باب المصادفة أن يتحدث عن زواجه المترقب بتلك الطريقة العملية التي بثت الذعر في نفس أمه . ـ وما لبث أن منحها أكثر ابتساماته سحراً : (( أمي , أعجب لجرأتك على تعنيفي بينما أنت التي اقترحت علي هذا الزواج )). ـ حسناً , على أحدهم أن يتدبر أمر تزويج أفراد هذه الأسرة . عندما أفكر في ذك العجوز الأحمق في البندقية الذي خطب مدبرة منزله . . . ـ أظنك تعنين (( بالعجوز الأحمق )) عمي فرانسيسكو , كونت كالـﭭـاني ورأس أسرتنا . فقالت باتزان : (( كونه (( كونت )) لا يمنعه من أن يكون عجوزاً أحمق , وكون غويدو وريثه لا يمنع من أن يكون شاباً أحمق حين يريد أن يتزوج من فتاة إنكليزية . . . )) . ـ فقال ماركو يغيظ أممه مداعباً بطريقته الجافة : (( لكن دولسي من أسرة ذات لقب , وهذا مناسب جداَ )) . ـ الأسرة ذات اللقب التي خسرت أموالها بسبب استهتارها . لقد سمعت أشنع القصص عن اللورد مادوكس , ولا أظن ابنته أفضل منه كثيراً . ـ لا تدعي أياً منهما يسمعك تنتقدين حبيبتهما , فهما في حالة من الهيام قد تدفعهما لفعل أي شيء دفاعاً عنهما . ـ أنا لا أقصد أن أكون عديمة التهذيب . لكن الحقيقة هي الحقيقة . على شخص ما أن يقوم بزيجة حسنة , ولا أحد يعرف ماذا سيفعل ذلك الخجول المرتبك في توسكانيا . ـ هز ماركو كتفيه وقد أدرك أن أمه تعني بكلامها ابن عمه ليو : (( ربما لن يتزوج ليو مطلقاً . ما من نقص في الفتيات الراغبات به في المنطقة . وربما لهذا السبب , يقوم بعلاقات قصيرة عابرة . . . )). ـ فقاطعته بحزم : (( لا حاجة بك لعدم التهذيب في التعبير . إذا لم يشأ أن يقوم بواجبه , فهذا يمنحك سبباً أكبر لأن تقوم أنت بواجبك )). ـ حسناً , أنا ذاهب إلى إنكلترا لأفعل هذا , إذا ناسبتني المرأة . ـ هذا إذا ناسبتها أنت . هي لن ترتمي على قدميك . ـ سأعود إليك إذن وأخبرك بفشلي . ـ لم يبد عليه الانزعاج لهذا الاحتمال . سبق له أن عرف بعض النساء اللواتي لم يتأثرن به . أولمبيا , طبعاً , رفضته . لكنهما كانا كأخٍ وأخته . قالت أمه وهي تتأمله محاولة أن تتبين ما يفكر فيه : (( أنا قلقة عليك , أريد أن أراك في بيت سعيد , بدلاً من تضييع وقتك سدى في علاقات تافهة . لو تزوجتما أنت وأليساندرا كما كان ينبغي عليكما , لكان لديكما الآن ثلاثة أولاد )). ـ ـ لم نكن ملائمين , ولنترك الكلام في هذا الموضوع . قال هذا بصوت رقيق لكن نبرة التحذير لم تكن خافية . فقالت لوشيا على الفور : (( طبعاً )). فعندما يحسم ماركو أمراً ما , تفضل أمه ألا تلح عليه . ـ حان وقت ذهابي , لا تقلقي يا أمي . كل ما في الأمر أنني سأقابل هارييت ديستينو , وأكون عنها فكرة . فإذا لم تعجبني لن أذكر لها شيئاً . ولن تعلم هي شيئاً عن الأمر . * * * عندما هبط بطائرته في لندن , لاحظ ماركو أنه يتصرف على غير طبيعته . فهو أساساً ممن يمعنون التفكير في الأمور , لكنه الآن يتصرف باندفاع . هو رجل منظم ويعيش حياة منتظمة , وهذا برأيه سر النجاح والثبات والاستقرار . فالعمل الصحيح يُنجز في الوقت الصحيح . عندما كان في الثلاثين من عمره , كان سيتزوج فعلاً لو أن اليساندرا لم تغير رأيها . لكنه سرعان ما أخمد هذا التفكير . فقد انتهى كل ما يتعلق بخطبته العقيمة , وكونه جعل من نفسه شاعرياً أحمق , أصبح من الماضي . والرجل الحكيم تعلمه التجارب , لــذا لن يكشف عن مشـــاعره مــرة أخرى أبــداً بذلك الشكـــل . لقد راقه اقتراح أمه بالزواج , إذ سيــجــد لنفسه أسرة من دون أن يورط قلبه في ذلك . ـ وصل إلى لندن عند العصر فنزل في الجناح الذي حجزه في فندق الريتز , ثم أمضى بقية النهار أمام الهاتف , يراجع المعاملات التي تحتاج إلى تدخله الشخصي . ظل يعمل حتى الثالثة صباحاً . ثم ذهب إلى فراشه ونام حوالي خمس ساعات أفادته كثيراً . ـ وهكذا أمضى ليلته قبل أن يقابل المرأة التي ينوي أن يتزوجها . * * * تناول فطوره قبل أن يتجه سيراً على الأقدام إلى (( غاليري ديستينو )). وإذ عين الوقت بالضبط , فقد وصل عند التاسعة إلا ربعاً , قبل بدء دوام العمل , ما سيمنحه فرصة يكون فيها فكرة عن المكان قبل أن يقابل صاحبته . ـ وما رآه نال استحسانه , فقد كان المتجر جميلاً . ورغم أنه لم ير سوى القليل من التحف المعروضة من خلال الشبكه الحديدية على واجهة المحل , إلا أن ما رآه بدا له مختاراً بشكل جيد يعكس بشكل واضح صورة هارييت ديستيتو العاقلة والأنيقة , فابتدأ يشعر نحوها بالدفء . غير أن ذلك الدفء تبدد قليلاً عندما مرت الساعة التاسعة من دون أن يطل أحد ليفتح المتجر , يا لانعدام الكفاءة ! واستدار فاصطدم بشخص صرخ : (( آخ )) . ـ المعذرة . ـ والتفت ليرى شابة مرتبكة تقفز على الرصيف ممسكة بقدمها , ثم تقول مجفلة : (( لا بأس )) . كانت على وشك أن تفقد توازنها لولا أن أمسك بها . ـ شكراً . هل كنت تريد الدخول ؟ ـ نعم لكنك تأخرت عن موعد فتح المحل . ـ ـ آه , نعم . هذا صحيح . انتظر لحظة ! لدي المفتاح . أخذت تبحث عن المفاتيح , وأخذ هو يتأملها , فلم يعجبه فيها شيء . كانت ترتدي بنطلون جينز وسترة صوفية عاديين جداً , وعلى رأسها قبعة صوفية زرقاء تغطي شعرها كلياً , قد تكون شابة , وربما جميلة أيضاً . . . ولكن من الصعب معرفة ذلك ما دامت تبدو كعامل بناء . لا بد أن هارييت ديستينو بحاجة ماسة إلى موظفة , لنستخدم هذه المرأة . وبعد وقت بدا له دهراً , سمحت له بالدخول . ـ لحظة واحدة , ومن ثم أعود إليك . ـ قالت هذا وهي تلقي أغراضها جانباً , وتفتح الشبكة الحديدية . ـ كنت أرجو , في الواقع , أن أقابل صاحبة المتجر . ـ ألا أنفع أنا ؟ ـ لا مع الآسف . جمدت الشابة فجأة , ثم رمقته بنظرة متوترة وقد تغير سلوكها بأكمله : (( طبعاً , كان علي أن أدرك هذا , يا لغبائي ! كل ما في الأمر أنني كنت أرجو أن تتأخر قليلاً . نعم , كنت أرجو أن تتأخر قليلاً . . . آسفة لأن الآنســة ديستينو ليست هنا حالياً )). فسألها بصبر : (( هلا قلت لي متى تكون هنا ؟ )). ـ ليس في وقت قريب . لكنني أستطيع الاتصال بها . ـ ـ أيمكنك أن تخبريها بأن ماركو كالـﭭـاني جاء لزيارتها ؟ فقالت متظاهرة بالجهل : (( من ؟ )) . ـ ماركو كالـﭭـاني , إنها لا تعرفني لكن . . . ـ أتعني أنك لست مبعوثاً من المحكمة ؟ فأجاب بإيجاز وقد تحولت نظراته غريزياً إلى بذلته الفاخرة : (( لا , لست من المحكمة )) . ـ ـ هل أنت واثق ؟ ـ أظنني كنت سأعلم لو أنني كذلك . فقالت بذهن شارد : (( نعم , طبعاً كنت ستعلم . ثم أنت إيطالي , أليس كذلك ؟ لكنتك مميزة . لكنها ليست قوية جداً لذا فاتتني في البداية )) . فقال ببطء ووضوح : (( أنا أفتخر بمهارتي في اللغات الأجنبية . والآن هلا قلت لي من أنت ؟ )) . ـ ـ أنا ؟ آه , أنا هارييت ديستينو . ـ أنت ؟ ولم يستطع أن يخفي نبرة الخيبة التي بدت في صوته . ـ نعم , ولم لا ؟ ـ لأنك سبق وأخبرتني بأنك لست هنا . ـ أحقاً ؟ آه , لا بد أنني أخطأت فهمك . ـ قالت هذا بنبرة غامضة فحدق إليها متسائلاً إن كانت مجنونة أو مجرد مختلة . خلعت قبعتها الصوفية , تاركة شعرها الطويل ينسدل على كتفيها , وعند ذلك أدرك أنها تقول الحقيقة لأن شعرها كان شبيهاً بشعر أولمبيا بكثافته ولونه . إنها المرأة التي يفكر في اتخاذها زوجة له . تنفس بعمق وحذر , وكانت هارييت تراقبه مقطبة الجبين : (( هل تعارفنا من قبل ؟ )) . ـ لا أعتقد ذلك . ـ ـ وجهك يبدو لي مألوفــاً . ـ لم نتعارف قط من قبل . أكد لها ذلك وهو يفكر في أنه لو رأي هذا الوجه لتذكره حتماً . ـ سأعد القهوة . دخلت إلى مؤخرة المتجر ووضعت الإبريق على النار مغتاظة من نفسها لهذه الفوضى التي أحدثتها بالرغم من تحذير أولمبيا لها . لكنها كانت شبه مقتنعة بأن ماركو لن يعبأ بالحضور ليراها , ثم أنها كانت منشغلة بدائنيها بحيث لم تجد وقتاً لتفكر في أشياء أخرى . ـ لم يكن لهارييت مثيل في خبرتها بالتحف الأثرية , فـــذوقــها رفيع تأخذ به المؤسسات الإجتماعية المهيبة . لكنها , بشكل ما , لم تستطع أن تحول مهارتها هذه إلى فوائد تجارية تفي بها الديون المتراكمة . ـ انتهت القهوة فعــادت إلى الواقع . لم تكن تريد بأي شكل أن تكشف عن ضائقتها المادية لهذا الرجل . وإذا به يظهر فجأة بجانبها فشرد ذهنها للتشابه , أين رأته قبل الآن يا ترى ؟ ـ لقد وعدت أولمبيا بألا تدع ماركو يشتبه في أنها على علم بحضوره , لذا كان التظاهر بالغباء الطريق الأسلم . فقد اكتشفت مؤخراً أن الناس يصدقون دائماً من يتظاهر بالغباء . ـ لماذا تريد أن تراني يا سيد . . . كالـﭭـاني , أليس كذلك ؟ ـ ألا يعني اسمي شيئاً ؟ ـ ـ آسفة , ولكن هل من المفترض أن يعني شيئاً ؟ ـ أنا صديق أختك أولمبيا . ظننتها قد ذكرت لك اسمي . ـ نجن أختان غير شقيقتين , ولا نرى بعضنا كثيراً . كيف حالها هذه الأيام ؟ ـ قالت هذا بشكل عفوي , فأجاب : (( مازالت اجتماعية ورائعة الجمال , أخبرتها بأنني أريد أن أتعرف إليك عندما أحضر إلى لندن . وإذا كنت توافقين يمكننا أن نمضي هذه السهرة معاً وقد نذهب لحضور مسرحية ما ونتناول العشاء معاً فيما بعد )) . ـ هذا جيد . ـ أي نوع من المسرحيات تحبين ؟ ـ كنت أحاول أن أحصل على تذكرة لمسرحية (( الرقص على الخط )) لكن المقاعد قد نفذت , والليلة هو العرض الأخير . ـ أظن أن بإمكاني الحصول على تذكرتين . فقالت بذعر وقد أنبها ضميرها : (( إذا كنت تفكر في شرائهما من السوق السوداء , فإن ثمن التذكرة مرتفع جداً )) . فقال باسماً : (( لن أحتاج إلى اللجوء إلى السوق السوداء )) . نظرت إليه بما يشبه الرهبة : (( أيمكنك أن تحصل على مقعدين لهذه المسرحية بظرف دقيقة ؟ )) . ـ فقال بشي من السخرية : (( لا يمكنني أن أعرض نفسي للفشل الآن , لكن دعي الأمر لي , سأمر لاصطحابك عند الساعة السابعة )) . ـ حسناً . يمكننا أن نذهب إلى مسرحية أخرى . ليس لدي مانع . فقال بحزم : (( بل سنذهب إلى هذه المسرحية بالذات . أراك الليلة )) . فقالت بشبه ذهول : (( إلى اللقاء )) . استدار نحو الباب ثم عاد فتوقف وكأنه تذكر شيئاً : (( بالمناسبة , هل لك أن تثمني هذه لي )) . ثم أخرج من جيبه لفافة قماش فتحها أمام عينيها المتشوقتين , كاشفاً عن قلادة رائعة فريدة من نوعها أخذتها برفق وحملتها إلى مكتبها حيث أضاءت مصباحاً قوياً . ـ قال ماركو : (( لدي صديق في روما خبير في هذه الأشياء . برأيه أن هذه إحدى أفضل القطع الأثرية الإغريقية التي رآها في حياته )) . فقالت من دون أن ترفع عينيها : (( إغريقية ؟ كلا . إنها (( أترورية )) من بلاد (( أتروريا )) القديمة غرب إيطاليا )) . لقد نجحت في اختبارها الأول , لكنه أخفى سروره وعاد يضغط عليها : (( هل أنت واثقة ؟ صديقي خبير حقيقي )) . فقالت متنازلة : (( قد يكون التفريق بينهما صعباً , لكنها من صنع صاغة (( أتروريا )) في العهود القديمة )) . ـ انطلقت في الحديث إلى حد لم يعد يستطيع إيقافها , وكانت الكلمات تتفق من فمها كسيل دافئ فأصغى إليها بإعجاب متزايد . قد تكون غريبة الأطوار نوعاً ما , لكنها السيدة المثقفة التي يتمناها , هذه التحفة الأسطورية ملك لأسرته منذ مئتي سنة , وهي (( أترورية )) فعلاً , وقد ميزتها هي تماماً . ثم نسفت إعجابه بقولها بأسف : (( ولكن ليتها كانت أصلية ! )) . فحدق إليها : (( بل إنها أصلية )) . ـ لا , مع الأسف , إنها نسخة ممتازة عن الأصل . من أفضل النسخ التي رأيتها . ويمكنني أن أفهم لماذا انخدع بها صديقك . . . ـ لكنك لم تخدعي أنت بها . ـ قال هذا شاعراً بانزعاج غير منطقي لتشويهها سمعة ( صديقه ) الذي لا وجود له أصلاً . ـ لطالما تملكني اهتمام غير عادي في صناعات (( اتروريا )) . قالت هذا مسمية المقاطعة التي أصبحت فيما بعد مدينة روما والأرياف المحيطة بها : لقد زرت الحفريات هناك منذ سنتين , فكـــانت من أروع . . . )) . ـ ـ وهل هذا يؤهلك لإبداء رأيك بهذه القطعة ؟ قاطعها بقوله هذا وقد هزم غيظه تهذيبه . ـ إسمع , أنا أعلم ما اتحدث عنه وبصراحة , ( خبيرك ) هذا لا يحسن التفرقة بين (( الإغريقي )) و (( الأتروري )) . ـ لكنها حسب قولك , زائفة . وهذا غير ممكن . ـ ـ إنها نسخة . وصانعها نسخها عن قطعة أترورية , وليس إغريقية . أذهله التحول الذي بدا في عينيها . فقد ذهبت تلك الشابة الغريبة الأطوار التي اصطدمت به عند الباب , لتحل مكانها امرأة منتقدة فولاذية واثقة لا تتساهل في آرائها . وكان سيعجب بذلك لو أنها لم تكن تحاول أن تمحو مليون دولار من ثروته . ـ ـ أتقولين إن هذه لا تساوي شيئاً ؟ ـ آه , ليس تماماً . لا بد أن الذهب يساوي شيئاً . كانت تتكلم كأنها راشد يسترضي طفلاً خائب الأمل . فصرف بأسنانه وقال ببرودة : (( هل لك أن تشرحي رأيك ؟ )) . ـ يُنبئني حدسي بأن هذه القطعة ليست أصلية . ـ أتعنين حدس المرأة ؟ ـ كلا طبعاً . لا شيء من ذلك . حدسي مبني على المعرفة والخبرة . ـ وهذا يبدو لي اسماً آخر لحدس المرأة , لم لا تكونين صادقة وتعترفين بذلك . التهبت عيناها بشكل رائع : (( يا سيد . . . مهما كان اسمك , إذا كان حضورك إلى هنا هو فقط لكي تحرجني , فأنت تضيع وقتك سدى . وزن هذه القلادة خفيف . والقلادة (( الأترورية )) الحقيقية أثقل منها وزناً و . . . )) . لقد شردت مرة أخرى وأخذت الحقائق والأرقام تتدفق من فمها بسرعة وثقة وتحكم في الموضوع . ما عدا أنها كانت مخطئة تماماً , كما أخذ يفكر عابساً . إذا كان هذا مستوى خبرتها فلا عجب في أن عملها فاشل . وقـــال محـــاولاً إرضــاءهـــا : (( حسناً , حسناً أنا واثق من أنك على صواب )) . ـ ـ أرجوك لا تسايرني . وعندما هم بالجواب , راجع نفسه , متسائلاً أين ذهب ذكاؤه . لم يكن في نيته أن يدعها تفقده أعصابه . الهدوء هو درعه الأفضل , وبه يصل إلى النصر . لقد قام بمعاملاته , ونظم حياته تبعاً لمصلحته . وإذا بها تنسف كل ذلك في خمس دقائق . قال بشيء من الجهد : (( سامحيني . لم أقصد أن أكون غير مهذب )) . ـ لا بأس فأنا أفهمك نظراً إلى حالة الفقر التي تركتك فيها . ـ لم تتركيني في حالة فقر ما دمت لم أوافق على تثمينك للتحفة . مدت إليه القلادة وهي تقول بلطف كاد يثير سخطه : (( أفهم ذلك . عندما تعود إلى روما , لم لا تسأل صديقك أن يعيد النظر إلى هذه ؟ ولكن إياك أن تصدق كلمة مما يقول لأنه لا يفرق بين (( بلاد الإغريق )) و (( أتروريا )) )) . ـ سأمر لاصطحابك من هنا عند السابعة . قال لها هذا بابتسامة متوترة . ـ * * * نهاية الفصل (( الأول )) . . . : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : | ||||||||||
![]() | ![]() |
![]() | #5 | ||||||||||
مراقبةومشرفةسابقة ونجم روايتي وكاتبة وقاصة وملكة واحة الأسمر بقلوب أحلام وفلفل حار،شاعرة وسوبر ستارالخواطر،حكواتي روايتي وراوي القلوب وكنز السراديب ![]()
| ![]() 2 ـ أغسطس قيصر عند الساعة السابعة , وقفت هارييت تنظر من واجهة متجرها إلى العاصفة في الخارج . كانت قد ذهبت إلى بيتها وغيرت ملابسها وعادت بسرعة لئلا تجعله ينتظر طويلاً . ـ لكن يبدو أنه ليس دقيقاً في مواعيده فقد مضت الساعة السابعة منذ عشر دقائق ولم يظهر بعد أي أثر له . وعند السابعة والربع تمتمت بشتيمة لا تتلفظ بها سيدة مهذبة , ثم استعدت لمغادرة المتجر باستياء . أقفلت المتجر وأخذت تحدق ساخطة إلى المطر المنهمر عندما توقفت سيارة عند المنعطف وامتدت من بابها يد أمسكت بها , وأطبقت عليها قبضة جبارة سحبتها إلى الداخل بسرعة . ـ أعتذر لتأخري . لقد أعاقني المطر . المسرحية , لحسن الحظ , لا تبدأ قبل الثامنة , لذا أظننا سنصل في الوقت المناسب . سألته غير مصدقة : (( أنت حتماً لا تعني أنك وجدت تذكرتين ؟ )) . ـ بلى طبعاً . لمــــاذا تشكين بي ؟ ـ ومن رشوت ؟ فقال ضاحكاً : (( كان الأمر أكثر نزاهة من ذلك بقليل )) . ـ أعجبني هذا . وأعجبها أكثر عندما اكتشفت أنه حجز أفضل مقصورة في المسرح . لا شك في أن لهذا الرجل علاقات جيدة . قدم ماركو إليها الكرسي الأقرب إلى خشبة المسرح , ما مكنه من النظر إليها وإلى العرض في الوقت نفسه . لم يجدها رائعة الجمال , فقد كانت أكثر نحافة مما ينبغي بقليل , لكنها بليونة عارضات الأزياء , كما أنها أنيقة , أو على الأقل يمكنها أن تكون كذلك إذا اهتمت بمظهرها . ـ ثوب السهرة الذي ارتدته لم يكن سيئاً جداً , كان طوله يصل إلى الكاحل , ويظهر رشاقة حركاتها . بدا لونه الأحمر القاتم رائعاً مع أنه لا يتناسب مع شعرها البني المائل للاحمرار , وكان شعرها منسدلاً على كتفيها . لو أنها ترفعه لكي يكشف عن وجهها وعنقها الطويل لكان ذلك أفضل ـ بكثير . أليس هناك من يخبرها بهذه الأشياء ؟ حليها القليلة لم تكن جميلة ولا متلائمة مع بعضها البعض . فقد يلائمها أن تتزين بالذهب , وأن تختار حلياً كبيرة تتناسب مع شخصيتها القوية الهادئة . التفكير بالذهب ذكره بالقلادة , لكن مزاجه الآن جيد ولا يحمل لها أي نية سيئة . وعلى أي حال محاورتهما الغاضبة كانت مفيدة لكسر الجليد بينهما . كان العرض المسرحي عبارة عن موسيقى عصرية بالغة الظرف حلوة الأنغام . بدا الراقصون سريعي الحركة وبالغي الحيوية , وقد استمتعتا بذلك معاً , وغادرا المسرح مسرورين . كان المطر قد توقف والسيارة تنتظرهما في الخارج . ـ قال ماركو : (( أعرف مطعماً صغيراً يقدم ألذ الأطباق في لندن )) . ثم أخذها إلى مكان لم تسمع به من قبل رغم أنها من سكان لندن , ودهشت قليلاً عن دخولها مطعماً فرنسياً لكنها ما لبثت أن أدركت بالضبط ما يريه . . . فإذا كان ينوي حقاً أن يعبث معها ويوقعها في شباكه عليه أن يثير دهشتها في البداية . ـ ـ ربما كان علي أن أسألك إذا كنت تحبين الطعام الفرنسي . ألقى عليها هذا السؤال بعد أن جلسا معاً إلى مائدة هادئة . ـ أحبه بقدر ما أحب الطعام الإيطالي تقريباً . قالت هذا بالفرنسية . وقد يكون هذا زهواً منها , لكنها شعرت بأن عرض مواهبها كلها قد يكون فكرة حسنة . ـ أنت طبعاً غير متعصبة قومياً . عليك أن تكوني كذلك نظراً إلى نوع عملك . هل تتكلمين الإسبانية ؟ ـ نعم , واليونانية واللاتينية أيضاً . ـ اليونانية الحديثة أم القديمة ؟ ـ كلاهما . وتجنبت أن تبدو في صوتها نبرة الاضطراب . ـ طبعاً . قال هذا بابتسامة خفيفة وهو يميل برأسه احتراماً . كان الطعام لذيذاً حقاً . وكان ماركو خير مضيف , إذ بقي يسألها عما ترغب بع من دون أن يضغط عليها بما يقترحه . وناسبها ذوقه تماماً . بدا الضوء خافتاً عند مائدتهما , فهو عبارة عن شمعتين يتراقص لهبهما على وجهيهما . بدا لها وسيماً للغاية وأنيقاً ببذلته الرسمية وقميصه الأبيض الذي أبرز لون بشرته البرونزي . أما شفتاه الرقيقتان . فكانتا تبرزان ابتسامته النادرة وتمنحانها مظهراً ساخراً كان يسرها . ـ لفتت عيناه انتباهها , فهما بنيتان داكنتان إلى حد السواد , تظللهما جبهة عالية وحاجبان سميكان , ما أضفى على وجهه لمحة من الغموض أثارت فضولها . من حسن الحظ أن ألومبيا نبهتها إلى ما سيجري , وإلا لفوجئت تماماً , و لربما وجدته جذاباً إلى حد خطير . انتهزت الفرصة وقررت أن تربكه قليلاً لمجرد الهزل . فسألته ببراءة : (( ما الذي جاء بك إلى لندن ؟ العمل ؟ )) . لعل السؤال فاجأه , لكنه لم يظهر ذلك : (( قليلاً , كما يجب أن أزور اللايدي دولسي مادوكس التي أصبحت خطيبة ابن عمي غويدو منذ أسابيع قليلة )) . ـ ـ هل هي ابنة اللورد مادوكس ؟ ـ نعم , أتعرفينها ؟ ـ جاءت إلى المتجر مرتين . ـ شارية أم بائعة ؟ ـ بائعة . وسكتت فجأة وقد أحست بأنها تدوس في حقل ألغام . فقال ماركو : (( ربما كانت تبيع تحفاً من منزل أسلافها لكي تسدد ديون أبيها . فقد عرفت أنه مقامر كبير )) . ـ نعم , لكنني لا أحب أن أتكلم عن الآخرين . ـ ـ هذا شيء معروف . دلوسي مضطرة للعمل لتعيش . وكانت تعمل وكيلة لمؤسسة استعلامات خاصة عندما جاءت إلى فينيسيا وتعرفت إلى غويدو . ما رأيك فيها ؟ فقالت بحسد : (( إنها رائعة الجمال , بشعرها الطويل الأشقر ذاك , هل مازال على حاله ؟ )) . ـ ـ نعم هي رائعة الجمال , وستبقي غويدو منضبطاً . فضحكت : (( هل هو بحاجة إلى ذلك ؟ )) . ـ بكل تأكيد , فغويدو ليس لديه أي حس بالمسؤولية . هذا قول عمي فرانسيسكو بالمناسبة , الكونت كالـﭭـاني . كان متلهفاً ليتزوج غويدو وينجب له وريثاُ . ـ أليس لديه أبناء ؟ ـ لا . واللقب سيكون من نصيب أحد أبناء إخوته , والمفروض أن يكون ليو , الأخ الأكبر غير الشقيق لغويدو . ولكن لأسباب قانونية , حُرم من اللقب . ـ ـ هذا فظيع ! ـ ليو لا يظن هذا . فهو لا يريد أن يكون كونت , المشكلة أن غويدو أيضاً لا يريد , لكن ذلك سيصبح قدره , وهكذا حاول عمي أن يجد له عروساً مناسبة , ثم تخلى عن ذلك بائساً عندما وقع غويدو في غرام دولسي . وعمي أيضاً , وقع في غرام مدبرة منزله منذ سنوات , وقد استطاع أخيراً إقناعها بأن تتزوجه . إنه في السبعينات , وهي في الستينات , وهما الآن أشبه بعصافير الحب . فهتفت هارييت : (( كم هذا جميل ! )) . ـ هذا صحيح , لكنه ليس رأي الجميع . فأمي مشمئزة لأنه تزوج (( خادمة )) , كما تسميها . ـ هل يهتم الناس بأمور كهذه هذه الأيام ؟ ـ البعض فقط . أمي رقيقة القلب , لكن نظرتها إلى هذا الأمر قديمة الطراز . ـ ماذا عنك أنت ؟ ـ أنا لا اتخذ دوماَ الطرق العصرية . أنا أتخذ قراراتي بعد طول تفكير . ـ مدير أو صاحب مصرف مضطر إلى هذا , بطبيعة الحال . ـ ليس دوماً , لدي سمعة بأنني أنجرف أحياناً . فسألته بشكل غير إرادي : (( أنت ؟ )) . فقال بجد : (( كنت معروفاً بتهوري أحياناً )) . ـ لما فيه المصلحة طبعاً . ـ طبعاً . ـ أخذت تتأمله لترى إن كان جاداً أم لا . وتكهن هو بما تفعل , فنظر إليها بجفاء رافعاً حاجبيه وكأنه يسألها إن كانت تحققت من الأمر الآن . طالت اللحظة فازداد شعوراً بالضيق وهو ينتبه إلى أن شيئاً في سلوكها قد تغير . ـ سألها ليعيدها إلى الواقع : (( أتريدين مزيداً من العصير ؟ )) . ـ آسفة , ماذا قلت ؟ ـ العصير ؟ ـ آه , لا . شكراً . سبق وقلت إن وجهك مألوف . يا ليتني أستطيع أن أتذكـــر . . . ـ ربما أذكرك حبيب سابق . ـ آه , لا , منذ دهر وأنا وحيدة . تمتمت بذلك وما زالت نظراتها شاخصة إليه . لقد حيرته فهي تارة محنكة , وتارة خرقاء , ومع ذلك أصبح لديه فكرة جيدة عنها . سألها أثنــاء تنــاولها الطعــام : (( لِمَ أنت وأولمبيا من جنسيتين مختلفتين ؟ )) . فقالت بسرعة : (( لا , بل كلتانا إيطاليتان )) . ـ نعم , من ناحية . . . ـ من كل النواحــي . ـ قاطعته بنبرة متمردة وأكملت : (( وُلدت في إيطاليا وأبي إيطالي واسمي إيطالي )) . رأى لمعان الغضب في عينيها الواسعتين : (( أنا آسف , لم أكن أنوي أن أجرحك )) . ـ ـ ألم تخبرك أولمبيا بالقصة ؟ ـ ليس تماماً . أنا أعلم أن أباك تزوج مرتين , ولكن , بطبيعة الحال , أولمبيا لا تعلم سوى القليل عن زوجته الأولى . ـ أحبته أمي بشكل هائل , لكنه تخلى عنها عندما كنت في الخامسة من عمري . أخبرتني أنه طردنا , نحن الاثنتين , من البيت . سألها بصدمة حقيقية : (( هل أخبرتك أمك بذلك وأنت طفلة ؟ )) . بدت شاردة الذهن : (( لكنني لم أصدقها . كنت أعبد أبي وكان يحبني كثيراً . وعندما كان يعود إلى البيت كان ينادي اسمي أولاً . وظننت أن الأمر سيبقى دوماً بهذا الشكل )) . وعندما سكتت قال لها برفق : (( تابعي كلامك )) . ـ لقد أقام علاقة مع امرأة أخرى . أراد طلاقاً سريعاً , فطردنا . قالت أمي إنه أرغمها على العودة إلى إنكلترا مهدداً إياها بعدم إعطائها فلساً واحداً , إذا لم تفعل . ـ فكر ماركو في غويزيب ديستينو , الرجل البدين الأناني ذي العينين الباردتين . ولم يكن صعباً أن يصدق هذه القصة تماماً . سألها بعطف : (( لا بد أن حياتك أصبحت حزينة بعد ذلك ؟ )) . ـ عشت على أمل أن يدعوني لزيارته , لكنه لم يفعل قط , لم أفهم ما فعلته لكي ينقلب ضدي . لم تنسه أمي يوماً , وبقيت حزينة حتى آخر يوم في حياتها , لم تعش بعده سوى اثني عشر عاماً , ثم ألم بها المرض وماتت . عند ذلك ظننته سيرسل إلي ليأخذني , لكنه لم يفعل . كنت على وشك دخول الكلية يومها وقال إنه لا يريدني أن أقطع دراستي . تمتم ماركو شيئاً أشبه بالشتيمة , وقالت هارييت بجفاء : (( أظنني تأخرت في فهم الوضع . كم كنت غبية ! )) . ـ ـ هذا هو الأمر الوحيد الذي لا يمكن لأحد أن يتهمك به . واخذ ماركو ينظر إليها باهتمام جديد . فقالت تصرف الأمر من ذهنها : (( وما الذي تعرفه عني ؟ أنا غبية بالنسبة إلى الناس , لأنني لا أعرف الكثير عنهم في الواقع )) . ـ ـ أو ربما تعرفين الكثير من الأشخاص السيئين . قال هذا وهو يفكر في الأب الذي طردها من بيته بكل أنانية , والأم التي حـمـلت الطفلة عبء أحزانها : (( هل رفضك أبوك كلياً ؟ )) . ـ لا . لقد حافظ على شيء من المظاهر عندما لم يستطع تجنب ذلك . درست في روما لمدة سنة , وقد اخترت ذلك متعمدة لأنه سيكون مرغماً على أن يوليني بعض الاهتمام . حتى أنني ظننت أنه سيدعوني إلى السكن معه . ـ لكنه لم يفعل ؟ ـ دعاني إلى العشاء عدة مرات , فكانت زوجته تحدق إلي طوال الوقت . لكن أولمبيا كانت دوماً لطيفة ودوداً معي . وقد أصبحنا صديقتين . وبعد ذلك أخد أبي يرسل إلي المال من وقت لآخر . ـ هل ساعدك في المتجر ؟ ـ لا , لقد فتحته بالمال الذي ورثته من جدي . ـ كان بإمكان أبيك أن يساعدك , كما كان عليه أن يواجه تلك المرأة . ـ أتعني زوجته . هل تعرفها ؟ ـ وأكرهها أيضاً , كما يكرهها معظم الناس . طبعاً كانت مصممة على أن تبقيك بعيدة عن أبيك , يا لك من فتاة مسكينة ! لم يكن لديك حظ في ذلك . ـ ـ أظنني أعرف هذا الآن . لكنني حينذاك , ظننت أن بإمكاني أن أستميله بالعمل الجيد , فأتعلم اللغات , وأنجح في الامتحانات وأكون إيطالية قدر الإمكان . ـ كان اهتمام ماركو يزداد بنشأتها الغريبة التي جعلت منها شخصية غير عادية . فسألها بفضول : (( هل ظننتني حقاً مبعوثاً من الحكمة ؟ )) . فأطلقت ضحكة صغيرة : (( لوهلة , نعم , ظننتني أصبحت أميزهم الآن . دوماً أفكر في أن أموري المالية ستتحسن وأسدد ديوني . . . حسناً , إنها تتحسن أحياناً ولكنها سرعان ما تسوء مرة أخرى )) . ـ ولكن لماذا ؟ متجرك ذاك يجب أن يكون منجم ذهب . وبضاعتك من الدرجة الأولى . صحيح أنك أخطأت بالنسبة إلى القلادة الأثرية , ولكن . . . ـ أنا لم أخطئ . . . لا بأس . أحياناً أكون في القمة وإذا بي أرى قطعة رائعة حقاً أشعر بأن علي الحصول عليها , فتكون ضربة تعصف بكل ما جمعته من مال . ـ لماذا لا تبيعين متجرك ؟ ـ أبيعه ؟ أبداً . إنه حياتي . ـ هناك أشياء أهم من الآثار . ـ هذا غير صحيح . ـ تبدين واثقة من ذلك . ـ ـ إنها ليست آثاراً فقط , بل هي عوالم أخرى تنفتح أمامي . إنك ترى فيها آفاقاً فسيحة كانت منذ آلف السنين . . . وشردت أفكارها مرة أخرى . وإذ أدرك أن من المستحيل أن يوقف هذا السيل , جلس يصغي إليها ويفكر فيها في آن معاً . راح اهتمامه بها يزداد مع مرور السهرة , بدت مثيرة للفضول , ذكية مثقفة وسريعة البديهة . ومن ـ المؤسف أنها لم تكن رائعة الجمال . . . أو هذا رأيه فيها حالياً . . . فقد كان من الصعب معرفة ذلك وشعرها يغطي معظم وجهها . لكن عينيها الخضراوين كانتا تنفثان ناراً عندما تتكلم عن (( العوالم الأخرى )) التي أحبتها , وفي عينيها هاتين رأى نوعاً من الجمال . وصلت هارييت بجدالها المحموم إلى نهايته , فسألته بقلق : (( أنت لا تظنني مجنونة , أليس كذلك ؟ )) . ـ ـ أنت شغوفة بعملك وذلك ليس جنوناً بل حسن حظ . إن إنقاذ متجرك شيء يعنيك أنت أكثر من أي شخص آخر في العالم . وربما بإمكاني أن أساعدك . كم تحتاجين لتتخلصي من ديونك ؟ ذكرت له رقماً كبيراً جعله يشعر بأنها غارقة في هوة عميقة فقال : (( إنه مبلغ كبير لكن لكل شيء حل . أظننا في وضع نستطيع فيه أن نساعد بعضنا . يمكنني أن أعطيك قرضاً يحل مشاكلك )) . ـ ـ ولكن لماذا تفعل ذلك ؟ ـ لأنني أريد شيئاً بالمقابل . ـ هذا طبيعي , ولكن ما هو ؟ فتردد قليلاً : (( قد ترين اقتراحي هذا غريباً نوعاً ما لكنني فكرت فيه جيداً , وأؤكد لك أنه مناسب لكلينا . أريد أن تأتي إلى روما معي وتكوني ضيفة أمي لفترة )) . ـ هل أنت واثق من قبولها ذلك ؟ ـ ستكون مسرورة . جدتك كانت أعز صديقة لها وجُل ما ترجوه هو أن تتحد أسرتانا , باختصار , إنها تحاول أن تزوجني ! ـ تزوجك ممن ؟ ـ سألته ذلك مدعية جهلها بالموضوع . ـ منك أنت . ـ كانت تعلم أن هذه اللحظة ستحين عاجلاً أم آجلاً , ومع ذلك تملكها الحرج . نظرت إليه جالساً في الزاوية وضوء الشمعة يتراقص على وجهه , فبدا لها فجأة وسيماً جداً . . . قوياً جداً . . . جذاباً جداً . . . أشبه بعاصفة لا تقاوم تخترق حياتها جارفة كل شيء أمامها . . . قالت محاولة كسب الوقت : (( مهلك لحظة . . . ما عادت الأمور تسير على هذا النحو في أيامنا هذه )) . ـ الزواج ما زال يجري بهذا الشكل في بعض المجتمعات . يعرفون الأشخاص المناسبين ببعضهم البعض , آخذين بعين الاعتبار منافع هذا التحالف . والداي تزوجا هكذا , وكان زواجهما سعيداً جداً . كانا منسجمين تماماً من دون أن تعميهما مشاعر هي أعنف من أن تدوم . ـ وأنت تطلب مني . . . ؟ ـ ـ أن تفكري في ذلك . القرار النهائي نتخذه فيما بعد , بعد أن نعرف بعضنا بشكل أفضل . وفي الوقت نفسه أحل لك مشاكلك المالية . فإذا تزوجنا سأمحو الدين , وإلا سنتفرق كصديقين ويمكنك إن تعيدي إلي المال بشروط سهلة . ـ ـ أوه , أنت تسرد الأمور بسرعة , لا يمكنني أن أستوعب . وكان هذا صحيحاً . فقد ظنت أنها مستعدة لهذا جيداً , ولكن كل شيء بدا لها مختلفاً إلى حد خطف أنفاسها . ـ لن تخسري شيئاً . في أسوأ الأحوال تكونين قد أخذت قرضاً من دون فائدة ينقذ متجرك . سألته بخشونة : (( ولكن ماذا ستستفيد أنت ؟ لا يمكنك أن تتزوج فقط لترضـي أمــك )) . بدا لها وكأنه تردد لحظة قبل أن يجيب بقليل من الإرغام : (( بل يمكنني , إذا كانت تلك هي رغبتي . لقد حان الوقت لكي أستقر وأؤسس أسرة ويناسبني أن أرتب ذلك بهذا الشكل , ذلك سيمنحنا وقتاً للتفكير . تعودين أنت معي وتجربين الحياة في بلادي . . . أعني بلادك . . . وتفكرين في ما إذا كنت تحبين العيش فيها بصورة دائمة . إذا انسجمتما أنت وأمي , سنتحدث في أمر الزواج )) . ـ ـ وماذا عن انسجامنا معاً نحن الاثنين ؟ ـ هذا ما أرجوه , وإلا لن ننجح في زواجنا , أنا واثق من أنك ستكونين أماً ممتازة لأولادنا , وبعد ذلك لن تجديني غير عقلاني . سألته وقد ابتدأت عيناها تشردان : (( بالنسبة إلى ماذا ؟ )) . ـ نحن لسنا مراهقين . لذا لن يتدخل الواحد منا في حرية الآخر . حاولت أن تتفحص وجهه لكنها لم تستطع لأنه كان في الظل . وأخيراً سألته : (( أليس لديك مانع في القيام بذلك بهذه الطريقة ؟ ما هو شعورك حيال ذلك ؟ )) . ـ فقال بفتور مفاجئ : (( لا حاجة بنا إلى مناقشة المشاعر )) . ـ لكنك خططت لزواجك وكأنه اتفاقية عمل . ـ أحياناً تكون النتائج عظيمة . الإحكام والدقة الفائقة في لهجته أرسلت قشعريرة في كيانها . وحده الرجل الذي بنى سياجاً حول نفسه يتصرف بهذا الشكل . وتساءلت عن مدى ارتفاع ذلك السياج , ولماذا يحتاجه . وماذا عن سياجك أنت حول نفسك ؟ تمتم بذلك صوت في داخلها . أنت تعلمين أنه موجود , ولطالما فكرت أن العقل أسلم من القلب . ربما كلاكما من الطينة نفسها فأحس هو بذلك ! رفضت هذه الفكرة بسرعة , لكنها بقيت تزعجها : (( إذا تزوجنا , ستتوقع مني أن آتي لأعيش معك , أليس كذلك ؟ )) . ـ فأجفل قليلاً : (( هذا هو الترتيب المعتاد )) . ـ لكنني إذا انتقلت إلى روما , سأفقد المتجر الذي أحاول أن أنقذه . ـ يمكنك أن تسلمي متجرك لمن يديره , أو تنقليه إلى روما . وربما تجدين من الأفضل أن يكون هناك أنا واثق من أن هناك أشياء كثيرة لم تكتشفيها بعد . لمس بهذا وتراً حساساً , فقالت من دون أن تواجه عينيه : (( أظن أن معارفك كثيرون جداً )) . ـ ـ ليس إلى هذا الحد . لكنني أعرف كثيراً من الناس يمكن أن ينفعوك . فكرت أنه لا بد يعرف البارون أورازيو مانيللي . ولربما زار قصره بمخزنه الفسيح الذي يخفي نفائس لا تعد ولا تحصى . منذ سنوات وهارييت تراسل البارون , طالبة الترخيص لها بدراسة كهف (( علاء الدين )) ذاك , وكان رفض طلبها . ولكن بصفتها خطيبة ماركو . . . كبحت هذا الإغراء لكنه بقي يهمس في داخلها . . وقالت : (( ستكون زيارة غير مُلزمة لكلينا )) . ـ هذا مفهوم . ـ وبإمكاننا أن نفترق ببساطة إن لم ينجح ذلك . ـ نفترق كصديقين . ولكن في الوقت نفسه , ستجد أمي السرور في صحبتك . ـ ممزقة بين الضمير والإغراء , أخذت تحدق في وجهه وكأنها كانت ترجو أن تجد الجواب فيه . وفجأة وجدت الجواب , وهتفت بصوت خافت : (( وجدتها . لقد تذكرت الآن أين رأيت وجهك )) . فقال بتسلية : (( أنا مسرور . بمن أذكرك يا ترى ؟ )) . ـ بالإمبرطور قيصر أغسطس . ـ المعذرة , لم أسمع جيداً . ـ إنه تمثال برونزي عندي في المتجر . وجهه كوجهك تماماً . ـ كلام فارغ ومجرد تخيلات . ـ ـ لا , ليس تخيلات . تعال معي وسأريك إياه . ـ ماذا ؟ ـ فلنذهب لقد انتهينا من الطعام , أليس كذلك ؟ فقال : (( نعم , لقد انتهينا , هيا بنا )) . ـ ماركو هو عادة ممن يتولون زمام القيادة , فيتبعهم الآخرون , لكنه وجدها تكتسحه بحماستها وسرعتها . عادا إلى متجرها وأضاءت النور فوق التمثال , ثم سألته باختصار : (( والآن , هل هذا أنت أم لا ؟ )) . فقال مذهولاً : (( لا , ما من شبه على الإطلاق . هل اجتزت كل تلك المسافة لكي أنظر إلى هذا ؟ )) . ـ أنا لا أتخيل ذلك , إنه أنت , أنظر مجدداً . أنظر . لم ينظر , بل أطلق ضحكة رقيقة وكأنما هناك شيء غامض قد سره , وتقدم ليقف أمامها واضعاً يداً على كتفها وبيده الأخرى رفع ذقنها ليستطيع النظر إلى عينيها . شعرت بأنفاسه الدافئة على بشرتها ما أرسل رجفة خفيفة في كيانها . ثم قال ساخراً : (( الرجل العاقل يبدأ حياته من هذه النقطة )). ـ وأنت رجل عاقل جداً , أليس كذلك ؟ أزاح عن جبينه خصلة شعر: (( ربما لست عاقلاً كما كنت أظن . وأنا أعلم أنك مثلي , فأنت مجنونة تماماً )) . ـ ـ أظنني كذلك . لأن المرأة العاقلة لا ترضى حتى أن تفكر في عرضك . ـ هذا صحيح وعلي أن أكون شاكراً إذن . قال هذا وهو ينظر إلى وجهها , ومازال يبتسم محدقاً في عينيها . وفجأة تبددت ابتسامته , وتراجع إلى الخلف : (( هل يمكنك الاستعداد للسفر خلال يومين ؟ )) . ـ ألقى هذا السؤال بتهذيب بارد , ومنعها الذهول من الكلام . فما إن بدأ قلبها ينبض لقربه منها , حتى ابتعد متعمداً مغلقاً الباب على ما كان يمكن أن يحدث بينهما , تمالكت أنفاسها وأجابت بصوت يماثل صوته : (( بما أن علي أن أتحدث كنساء الأعمال , هل سأحصل على المال خلاص هذه المدة ؟ )) . ـ ستحصلين عليه ظهر الغد . ـ لكنك لم تر دفاتري . ـ وهل أنا بحاجة إلى ذلك ؟ أنا واثق من أنها فظيعة . ـ ربما كان المبلغ أكبر من مقدرتك . ـ لا تقلقي . ـ أطلقت ضحكة قصيرة حادة يشوبها التوتر والغضب : (( إذن , ربما علي أن أتزوجك لأجل أموالك )) . ـ أظن ذلك . أليس هذا ما كنا نتناقش فيه ؟ شملته بنظرة تمرد وهي تشبك ذراعيها على صدرها : (( لا استطيع أن أهزمك أليس كذلك ؟ )) . ـ ـ أحاول أن أضمن ربحي مع الجميع , إنها الطريقة الفضلى لبلوغ . . . ـ القمة . . . أكملت له كلماته فأومأ لها باحترام وقال : (( دعيني أقلك إلى بيتك )) . ـ لا , أشكرك . تلاشى غضبها عندما اطمأنت إلى مصير عملها الذي تحبه أكثر من أي شيء في العالم . وبابتسامة مفاجئة عامرة بالبهجة قالت : (( أريد أن أبقى وحيدة هنا فترة , بعد أن أصبح المكان آمناً )) . فقال بحزم : (( سأنتظرك في الخارج . لقد حل منتصف الليل ولن أدعك هنا وحدك مع هذه التحف , فريسة للناهبين وربما أسوأ من ذلك . موتك لن يناسبني على الإطلاق )) . فقالت بلطف : (( لا , لأنه سيكون عليك أن تراجع خطتك من جديد )) . أمسك بيدها : (( يسرني أن أتعامل مع امرأة تفهم ما هو مهم . سأكون خارج المتجر )) . أمسك بيدها لحظة , ثم رفعها إلى شفتيه ليطبع عليها قبلة خفيفة قبل أن يخرج . ـ عندما أصبحت وحدها , نظرت إلى يدها التي كانت لا تزال تخزها . راحت ترتجف وقلبها يخفق بشدة , ولكنها لم تعرف ما إذا كان ذلك بسبب السرور أو بسبب الخشية . لقد هدد تحكمها بنفسها . أخذت تفرك بغضب قفا يدها حتى أيقنت بأن ذلك التأثير قد تبدد . ثم نظرت حولها فتألقت عيناها , إنها آمنة . ولو لفترة على الأقل . ـ عـــــاد إليـــها طبعــها الغـــاضب ففكـــرت أن الخطوبة بإمكانـــها أن تستــمـر فقط إلى أن تنتهي من دراسة (( قصر مانيللي )) . لم لا ؟ لقد شملها بنظرة وكأنها سلعة يمكنه أن يستفــيــد منــهـــا , فلمـــاذا لا ينبغي لها أن تفعـــل معه الشيء نفسه ؟ وتملكتها موجة ثانية مــــن الاستياء للطريقة التي اقتـــرب فيها مـنـهـا , ثم عاد فتراجع , لن يكون من السهل التعامل مع رجل مسيطر عل نفسه إلى هذا الحـــد , وارتسم وجهه في ذهنــها فسقطت عينــاها على وجه أوغسطس البرونزي . . . كان الوجهان متشابهين تماماً . . . مهما كان رأي ماركو . وتذكرت كلمات أولمبيا : ( أنفه رائع , ورأســـه أرستقراطـي , وفمه جميل صارم ) . وكان ذلك صحيحاً , لكن الغريب أنها الوحيدة التي رأت ذلك في رجــل حي . * * * | ||||||||||
![]() | ![]() |
![]() | #6 | ||||||||||
مراقبةومشرفةسابقة ونجم روايتي وكاتبة وقاصة وملكة واحة الأسمر بقلوب أحلام وفلفل حار،شاعرة وسوبر ستارالخواطر،حكواتي روايتي وراوي القلوب وكنز السراديب ![]()
| ![]() 3 ـ امـــرأة جديدة خـــلال الـيــومين التـــاليين , لم تـحظ هـــارييت بوقت للتفكير لكثرة التحضيرات المتوجبة عليها , تفحص ماركو دفاتر المتجر , واستغرب الطريقة التي تتبعها في تسيير أعمالها . لكنه سدد ديونها , كما ترك لها مبلغاً إضافياً لمديرة المتجر الممتازة التي استلمت عنها , وبلغت دهشة ماركو مبلغها عندما جاءها زبون وكان على وشك أن يشتري قطعة ثمينة للغاية , وإذا بها تتكلم عن القطعة باستخفاف حتى فقد الزبون اهتمامه بها وخرج من دون أن يشتريها . فقال لها ماركو , الذي كان جالساً ينظر مذعوراً : (( ليس في القطعة أي عيب )) . ـ ـ نعم , لكن الزبون لم يعجبني . ـ ماذا ؟ ـ لم يكن ليمنح القطعة العناية اللازمة . أنت لم تفهمني , أليس كذلك ؟ فأجابها عابساً : (( مطلقاً )) . ـ هذه ليست مجرد أشياء أشتريها وأبيعها . فأنا أعشقها . هل تبيع كلباً صغيراً مدللاً لرجل تعرف أنه لن يعتني به ؟ ـ الكلاب كائنات حية يا هارييت , بخلاف هذه . ـ وهذه أيضاً حية , أنا لا أبيع شيئاً لشخص لا أثق به . ـ ـ أنت مجنونة , تتصورين أشياء خيالية , فلنذهب من هنا . سافرا ظهر اليوم التالي إلى روما , حيث كانت بانتظارهما السنيورا لوشيا كالـﭭانـي , وأشرق وجهها ما إن رأت هارييت . هتفت وهي تتقدم نحوها فاتحة ذراعيها : (( إيتا , عزيزتي الغالية إيتا )) . شعرت هارييت بغصة في حلقها لهذا الترحيب غير المنتظر . وسألتها لوشيا وهي تمسك بكتفيها وتتراجع خطوة : (( أنت تعلمين لماذا دعوتك باسم إيتا , أليس كذلك ؟ )) . ـ كان أبي يدعوني بهذا الاسم في طفولتي . وكان يقول إن أمه . . . ـ نعم , كان تصغير اسمها إيتا , آه , كم تشبهينها . وعادت تحتضنها مرة أخرى , بدا استقبالها لابنها متحفظاً , لكن نظراتها لم تدع مجالاً للشك في أنه محور حياتها . ثم عادت , على الفور , بانتباهها إلى ضيفتها لتمسك بذراعها وتقودها إلى حيث كانت سيارة الرولز رويس بالانتظار . اجتازوا منطقة ريفية إلى أن وصلوا جنوب المدينة , كانت المنازل الفخمة مبنية بعيداً عن الطريق , مستترة خلف أسوار عالية وبوابات حديدية مزخرفة , حيث تقطن الأسر التي كانت تدير العالم بهدوء . ولم يكن بإمكان عائلة كالـﭭانـي أن تعيش في مكان آخر . بدت السنيورا كالـﭭانـي امرأة رائعة الجمال , بيضاء الشعر , بالغة الأناقة , وتكهنت هارييت بأنها على الأرجح تناهز السبعين من العمر , لكنها بقامتها الطويلة النحيفة ومشيتها المرنة تبدو أصغر سناً . ـ فرحت كثيراً عندما أخبرني ماركو أنك ستزوريننا , فمنزلنا يبدو خالياً تماماً أحياناً . قالت لها هذا وهم يجتازون بالسيارة البوابة الحديدية للفيلا . انسابت السيارة بين الأشجار إلى أن لاحت لهم الفيلا فجأة . بدت بيضاء بالغة الفخامة والاتساع , تتدلى الأزهار من شرفاتها , وتؤدي إلى بابها الأمامي درجات عريضة فتح أحد الخدم الباب , فسارت لوشيا أمامها بمهارة إلى الردهة ومنها إلى صالون فسيح . جاءت خادمة فأخذت معطف هارييت , وأتت خادمة أخرى بعربة الشاي . فقالت لوشيا : (( شاي انكليزي , لك خصيصاً )) . إلى جانب الشاي كان هناك بسكويت وحلوى تناسب كل الأذواق . تبادلوا الدعابات والمزاح لفترة , رغم أن هارييت أحست بأن انتباه لوشيا الحقيقي كان في مكان آخر . فقد راحت تتفحص ضيفتها , وبدا واضحاً أن ما رأته قد سرها . إذ لم تعرف هارييت في حياتها ترحيباً بمثل تلك الحرارة , وبدا ماركو مسروراً لما رآه . ـ نهضت لوشيا قائلة : (( والآن , سأريك غرفتك )) . بدت غرفتها رائعة للغاية بنوافذها المطلة على الريف الإيطالي البديع وعلى النهر وأشجار الصنوبر الممتدة تحت أشعة الشمس . كان السرير يتسع لثلاثة وقد صُنع من خشب الجوز المحفور وزُين بالملاءات المطرزة . أما الأرض فخشبية مصقولة , والأثاث قديم الطراز مصنوع من خشب الجوز أيضاً . وكانت التحف تقليدية , بعضها ثمين كما لاحظت هارييت بعينها الخبيرة . لكنها لم تشأ أن تفكر في العمل حالياً . ـ سألتها لوشيا بلطف : (( أتظنين أنك ستكونين مرتاحة هنا ؟ أتريدين أن تغيري شيئاً ؟ )) . ـ كل شيء رائع . وأنا فقط لم . . . ـ وتملكها الذعر عندما اغرورقت عيناها فجأة بالدموع فأشاحت بوجهها . فأجفلت لوشيا : (( ماذا حدث ؟ هل كنت فظاً معها يا ماركو ؟ )) . فأجاب على الفور : (( كلا , بكل تأكيد )) . فقالت هارييت بصوت أحش : (( على العكس كلاكما . . . لم أعرف يوماً . . . )) . فقال ماركو وعدم الارتياح بادٍ على وجهه : (( علي أن أذهب إلى العمل , فقد أهملته أكثر مما ينبغي . . . )) . ـ فسألته أمه باشمئزاز : (( ماذا تعني بقولك ( أكثر مما ينبغي )؟ )) . ـ أرجو المعذرة منك ومن هارييت لم أقصد أن أكون عديم التهذيب . ولكن علي حقاً أن أعود إلى مكتبي ومن ثم إلى شقتي لعدة أيام . ـ ألن تأتي إلى العشاء الليلة ؟ إنه أول مساء لإيتا معنا . ـ للأسف لن أتمكن من تناول العشاء معكما , لكنني سأزوركما قريباً . قبل أمه وبع لحظة تردد , قبل خذ هارييت , ثم خرج بسرعة . هتفت لوشيا : (( يا له من تصرف ! )) . ـ ـ إنه مدمن على العمل . وأظنه ضيع الكثير من الوقت . ـ أنا وأنت سنمضي الأيام القليلة المقبلة معاً . كم أنا سعيدة . وضغطت على يد هارييت . شعرت هارييت بأنها دخلت الجنة على غير توقع . فلوشيا فعلت ما بوسعها لترضيها وأمرت بإعداد الطعام الانكليزي خصيصاُ لها . طبت لك ذلك لأنني أعلم أنك نصف إنكليزية , لكن الإيطالية تسري في دمك , أليس كذلك ؟ ـ نعم . ـ وافقتها هارييت وهي تتساءل عما قاله ماركو عنها , فقد كانت عينا لوشيا تنضحان تفهماً . ومنذ ذلك الحين أصبحت الإيطالية لغتها , وسرعان ما أصبحتا صديقتين , سألتها لوشيا : (( لماذا لا تتصلين بأبيك لتعلميه بأنك هنا ؟ )) . لم تشأ هارييت القيام بذلك . لكنها عملت بنصيحة مضيفتها . أجابها صوت غير مألوف أخبرها بأن السنيور ديستينو وأسرته في رحلة لعدة أيام , لكنه لم يخبرها بمكان وجودهما حتى عندما أخبرته هارييت إنها ابنته , بدا واضحاً أنه لم يسمع بها قط من قبل . تركت رسالة لأبيها طالبة منه فيها أن يتصل بها . ثم أقفلت الخط رافضة أن تشعر بالألم . ـ استيقظت هارييت في الصباح التالي منتعشة , لتجد أن لوشيا قد وضعت برنامجاً لنهارهما : ((سنتغدى في المدينة , ثم ذهب في جولة )) . أسعدها أن تجدد معرفتها بروما , هذه العاصمة العظيمة التي عاشت في أحلامها . لقد كانت ذات يوم عاصمة العالم , فأصبحت الآن تعج بالسياح وزحمة السير , ومع ذلك ما زالت مليئة بالآثار القديمة الخالدة . بعد الغداء أخذتا تتمشيان في شارع (( فيا فيتيتو )) الرائع , وأشارت لوشيا إلى شقة ماركو التي كانت في الطابق الخامس رفعت هارييت نظرها إلى النوافذ , لكنها كانت مقفلة . ـ أمضت اليوم التالي وحدها لأن لوشيا كانت عضواً في عدة جمعيات خيرية وعليها أن تحضر اجتماعاتها . وهكذا انطلقت , سعيدة , تتجول في شوارع روما المبلطة , مستكشفة الأزقة الضيقة لتصل أخيراً إلى متجر يختص ببيع تحف إغريقية . وعندما غادرت المتجر كان دينها قد ازداد بشك كبير . كانت تتطلع بشوق لترى ما اشترته لماركو , لكنها حتى الآن لم تسمع عنه شيئاً . تناولت المرأتان عشاءهما ذلك المساء وحدهما . وفيما بعد , وهما تحتسيان القهوة معاً قالت لوشيا فجأة : (( هل يبدو لك فظيعاً أنني أبحث لابني عن عروس مناسبة ؟ )) . ـ ـ ربما يبدو ذلك غريباً نوعاً ما . ألا يعترض ماركو على فكرة الــزواج من غريبة ؟ ـ هذا أسوأ ما في الأمر , فهو لا يمانع أبداً . كان خاطباً مرة لكن الخطبة فشلت ومنذ ذلك الحين وهو يتصرف وكأن المشاعر لا تعني له شيئاً . ـ هل كان يحبها ؟ ـ أعتــقــد ذلـك , لكنه لا يـتـحــدث عــــن هذا الموضوع أمــام أحــــد ولا حتى أمامي . ربما أنــا عــاطفية حمقــاء , لكنني كنت أحب إيتا كثيراً وقــد ماتـت صغيرة جداً . كل ما أطلبه هو أن أرى عائلتينا متحدتين في الـزواج والأولاد . ـ أتمنى أن تخبرني عنها . ـ كنت صديقة لإحدى أخواتها فأخذتني لتعرفني إلى أهلها . كانت إيتا أكبر مني بعشر سنوات , لكنها أخذتني تحت جناحـها لأن أمي كانت ميتة . وكنت اشبينتها في عرسها وأول من رأى أبيك حين ولد . لقد رغبتا أن ينشأ أولادنا معاً , لكنني تزوجت متأخرة . ثم مرت سنوات كثيرة قبل أن يولد ماركو . لذا لم يحدث ذلك . ثم ماتت عزيزتي إيتا وما زلت أفتقدها كثيراً . كانت الشخص الوحيد الذي استطعت أن أفضي إليه بما في نفسي . ـ هل أنا أشبهها حقاً ؟ ـ جــوابــاً على ذلك فتحت لوشيا خزانة وأخــرجـت مـنهــا ألـبـــوم الصــور . ناولتها إياه وبدأت تريها الصرة تلو الأخرى : (( هذه هي . . . إنها إيتا عندما كانت في عمرك )) . ـ كانت الشابة في الصورة ترتدي ملابس قديمة الطراز , أما وجهها فكان شبيهاً بوجه هارييت وكأنه انعكاسها في المرآة . وقالت بعجب : (( أنا حقاً حفيدتها )) . ـ أكثر من أولمبيا بكثير : فهي لم تكن مناسبة مطلقاً . إنها فتاة ظريفة حلة لكنها طائشة , ومع ذك فقد فكرت فيها أولاً لأنني عرفتها منذ سنوات طويلة . يا ليتني عرفتك أكثر . و يا ليت أمك لم تبعدك عنا ! ـ يا ليت . . . ماذا ؟ ـ قال أبوك إنها لم تشأ أن ترى أياً من بعد أن تطلقا . وأصر على العودة إلى إنكلترا . ونفاها إلى هناك نهائياً )) . فقالت لوشيا على الفور : (( يا لتلك المرأة ! لم أحب أباك قط . إنه ضعيف الشخصية وغير جدير بأمه . والآن , أثار اشمئزازي تماماً )) . فقالت هارييت غاضبة : (( وأنا كذلك . لق أنكر علي تراثي الإيطالي الثقافي )) . ـ ـ حسناً , يمكنك أن تستعيديه هنا . قالت لوشيا هذا بحرارة , فأجابت هارييت متألمة : (( نعم . بالطبع )) . ـ هل من الفظاظة أن أقترح عليك أن ترتدي أزياء بلادنا ؟ ـ أتعنين أن ملابسي تبدو حقيرة ؟ ـ كلا بالطبع . ولكن بين المواهب الإنكليزية الكثيرة , ربما تفصيل الملابس ليس . . . وتركت بقية الجملة ون نهاية . فقالت هارييت بلهجة حاسمة : (( لا , معك حق . حان الوقت لكي أبدو بشخصيتي الحقيقية )) . ـ ثم اهــتـزت ثقتها بنفسهــا وتــابعت مترددة : (( مهما كــانت تلك الشخصية )) . ـ لا تقولي شيئاً كهذا مرة أخرى . منذ هذه اللحظة عليك أن تعيشي مجدداً . في الصباح التالي ذهبتا إلى (( فيا دي كوندوتي )) أغلى متاجر روما . وهناك راحت لوشيا تنتقي الأثواب مبعدة هذا بغطرسة , واضعة ذاك جانباً , إلى أن تكدست الملابس شيئاً فشيئاً . وعندما غيرت هارييت ملابسها كلها شعرت بأنها شخص آخر . كان شعوراً غريباً لكنه أعجبها . بعد ذلك عرفتها السنيورا إلى السيدة تالي مصممة الأزياء المتفوقة , التي أمضت فترة العسر في دراسة وجه هارييت وما يليق به . وكانت هارييت نادراً ما تعبأ بالماكياج . لكنها الآن أدركت خطأها . ـ عيناها , بخضرتهما الرائعة , يجب أن تبدوا أوسع وأكثر تألقاً . وأحمر الشفاء يجب أن يكون متلائماً مع لون العينين , ويبدو أن كل درجات الألوان تلائمها ما عدا اللون الذي اعتادت استعماله . كانت الشابة التي بادلتها النظر في المرآة غريبة , ذات عينين كبيرتين مظللتين وفم ممتلئ , لطالما حاولت تصغير حجمه . ـ وعندما أمسكت تالي المقص , هتفت هارييت : (( ليس شعري )) . ـ لا يمكنك أن تخفي وجهك خلف ذلك الستار من الشعر . قالت لوشيا هذا , لكن هارييت , التي بقيت لينة مرنة حتى الآن , تمسكت فجأة بالعناد وقد تملكها رغب غير مفهوم من التفكير في خسارة شعرها . استسلمت المرأتان أخيراً , لكنهما أصرتا على أن ترفعه عن وجهها . وبعد لحظات كان شعرها المرفوع ق غير شكل رأسها بأكمله . كاشفاً عن عنق طويل رائع كادت تنسى أنها تملكه . أخذت تتأمل نفسها , ممزقة بين الذعر والحماسة , مفكرة رغماً عنها بأن كارلو سيندهش حين يراها . اختارتا أخيراً ستة أثواب . أبقتا خمسة منها في المتجر حتى اليوم التالي لك يتم تقصيرها , ولم تأخذا معهما سوى بنطلون زيتي اللون وقميص من الساتان , وعندما جلست هارييت تتناول العشاء مع لوشيا , كانت معنوياتها مرتفعة للغاية , وفكرت في أن ماركو سيعجب بها لو جاء الآن . ـ لكن الأمسية مرت من دون أن يظهر له أثر , اتصلت به لوشيا ولكن عندما سمعت المجيب الصوتي قالت بحدة : (( لا . لن أترك له رسالة )) . ـ يبدو أنه مشغول جداً . حاولت هارييت أن تهدئها بهذه الكلمات وإن كانت في الواقع تشعر بأنها تريد أن تصرخ مثلها . ـ مرت عدة أيام وهو . . . مشغول . ألا يمكنه أن يستغني عن بعض الوقت لأجل . . . لأجل . . . ـ لكنني لا أعني له شيئاَ . أنا هنا فقط لكي نستطيع , أنا وهو , أن نعرف بعضنا بعضاً . ـ ألقت لوشيا عليها نظرة معبرة : (( حسناً , أنت ابتدأت لكل تأكيد تتعرفين إلى ابني . إنه أناني وغير مبالٍ )) . ـ بدا لها هذا صحيحاً . هل هذه حقاً نظرة ماركو إلى الغزل والتودد ؟ أن يتركها هنا لكي تكسب رضى أمه وكأن ذلك هو الشيء الوحيد المهم ؟ وصلت بقية الملابس عصر اليوم التالي فجعلتها لوشيا تستعرض نفسها بينما أخذت هي تتأملها . قالت هارييت : (( أنا لست واثقة بالنسبة إلى ثوب السهرة هذا . إنه ضيق )) . ـ بل إنه يلائم جسمك . وهو يبرز ثناياك بشكل بديع . اقتربت هارييت من المرآة : (( ولكن ليس لدي ثنا . . . آه , بل لدي )) . وأخذت تستجير , محاولة أن ترى الثوب الزعفراني اللون قدر الإمكان , من دون أن تجفل من الطريقة التي يكشف بها جسمها ـ همممم . . . قالت هذا وقد ابتدأ السرور يتملكها . ـ كان عليك أن تشتري لنفسك ملابس لائقة من قبل , بدلاً من تضييع وقتك على تاريخ الآثار . الرجال الأموات بأحسن حال في قبورهم , لكنهم لا يصفرون للنساء . ـ ـ ربما أنا لا أريد أن يصفر لي الرجال . ـ هل أنت امرأة أم لا ؟ أنت جميلة وعليك أن تبرزي جمال جسدك . ـ هذا ما أفعله . ـ قالت هذا وهي تحاول عبثاً أن تشد فتحة الثوب إلى أعلى : (( هذا الثوب ضيق لدرجة أنني أبدو كأنني عارية تماماً )) . ـ إنه ممتاز , ماركو , يا ولدي العزيز . فاستدارت هارييت مجفلة لتجـــد أن مــاركو قـــد دخــــل إلى الغرفة بهدوء وهو ينظر إليه مـســروراً . نهضت لوشيا وعانقته , فعانقها بـدوره بعطف قبــل أن يلقـــي بقبلة على وجنة هارييت . فعبقت خيــاشيمها برائحة عطره ممزوجة برائحة رجولته الحادة القوية . سألته أمه : (( ألا تظن أن مظهر هارييت يتحسن ؟ )) . ـ أظنها رائعة الجمال . ولكن يجب أن ترفع شعرها . ـ الحق معك . ماذا لم ترفعيه اليوم يا إيتا ؟ كان يبدو جميلاً جداً أمس . وأمسكت بخصلات شعرها رفعتها فوق رأس هارييت . فقالت هارييت مجفلة : (( لا )) . ثم عادت تسدله على كتفيها , ولكن كان هناك سبب آخر يمنعها , لم تستطيع أن تفهمه ابتدأت تشيح بوجهها مبتعدة , لكن يدي ماركو أمسكتا بكتفيها تديرانها إليه لتواجهه , ثم شعرت بأصابعه على رقبتها تجذب شعرها إلى أعلى . وسألها : (( لماذا تريدين أن تخفي وجهك ؟ )) . ـ ذلك ليس صحيحاً ـ بل أظنه كذلك . ـ ونظر إليها لحظة قبل أن يقول برقة : (( وأظن أيضاً أن على أبيك أن يجيب على أسئلة كثيرة )) . ـ لا أدري ماذا تعني . . . وماتت الكلمات على شفيتها , ذلك أنها فهمت تماماً ماذا يعنيه وهو يقول : (( إذا كنت تظنين بأن أحداً لن يرغب برؤية وجهك , لمجرد أن أبيك لم يكن يسر برؤيته , فأنت مخطئة )) . ذهلت لهذا الكشف المفاجئ , فصحيح أن معاملة أبيها تلك , التي ظنت أنها استطاعت أن تتجاوزها , ما زالت تؤثر فيها حتى الآن . لكنها لم تتوقع أن يرى تلك الحقيقة رجل بارد عديم المشاعر . قابلت عينيه , ثم أخذت نفساً حاداً وجمدت وهي ترى فيهما شيئاً ما . . . أم أنها مخطئة ؟ لكن تبد ذلك بسرعة ظنت معها أنه وهم . قال ماركو فجأة : (( إرفعيه . الشعر الطويل لا يناسب أبداً هذا الثوب )) . هذا السبب الواقعي المبتذل أعادها إلى الواقع . أسرعت إلى غرفتها لتجد الخادمة التي كلفتها لوشيا بمرافقتها , فساعدتها على رفع شعرها كما كان في اليوم السابق . ـ وعندئذ نزلت إلى الطابق الأسفل , لم يقل كارلو شيئاً عن مظهرها بل اكتفى بإيماءة راضية . أما لوشيا فكانت قد استفاقت من فرحتها بحضور ابنها وتذكرت أنها مستاءة منه . ـ أظن علينا أن نكون شاكرتين لأنك تنازلت وتذكرتنا أخيراً . هل سنحصل على خمس دقائق من وقتك الثمين أم عشر ؟ فقال ضاحكاً : (( لا تغضبي مني يا أمي ! لقد جئت لأكفر عن ذلك , وأدعو هارييت لتخرج معي الليلة )) . * * * نهاية الفصل (( الثالث )) : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : | ||||||||||
![]() | ![]() |
![]() | #7 | ||||||||||
مراقبةومشرفةسابقة ونجم روايتي وكاتبة وقاصة وملكة واحة الأسمر بقلوب أحلام وفلفل حار،شاعرة وسوبر ستارالخواطر،حكواتي روايتي وراوي القلوب وكنز السراديب ![]()
| ![]() 4 ـ رقصة حـــب (( بيلا فيغرا )) مطعم ليلي يقع في شارع (( فيا فيتيتو )) الذي يبعد عدة أمتار عن شقة ماركو . حال وصولها المكان أحست هارييت بأن الجو عابق بالثقافة والعلم , وتساءلت كم من النساء أحضرهن ماركو إلى هنا . قادها إلى مائدة منفردة بعض الشيء . لم يكن البرنامج الترفيهي قد ابتدأ , و كان النادلون يسرعون ذهاباً وإياباً لتلبية الطلبات . استدعى ماركو أحدهم بنظره واحدة , ما أغاظ عدداً من الزبائن الذين طال انتظارهم . جلست هارييت بارتياح حتى أن انزعاجها بسبب ثوبها الضيق بدأ يزول . ـ آسف لتقصيري هذا . أمي غاضبة جداً مني . هل أنت كذلك أيضاً ؟ فقالت غير صادقة تماماً : (( لا . لا بد أن لديك عملاً كثيراً بعد سفرك )) . فأومأ : (( لدي سكرتيرة جيدة , لكنني أفضل أن أتابع الأعمال بنفسي . أنا شاكر لك تفهمك , و آسف لأن أمي لا تتفهم ذلك . إنها تظن أن هذا يجرحك ويجعلك تسرعين بالعودة إلى انكلترا )) . ـ فقالت ببشاشة : (( لا , فأنا مسرورة جداً هنا , أنا وأمك منسجمتان جداً )) . ـ هذا ما فهمته منها , بالمناسبة , أتراني رأيتك في شارع (( فيا فيتيتو )) أمس ؟ ـ ربما . فقد استأجرت سيارة من هناك بعد أن اشتريت بعض الحاجيات . لقد وجدت متجراً على بعد شارعين . . . )) . أخبرته كل شيء دفعة واحدة . . . زيارتها إلى روما , النفائس الأثرية التي اكتشفتها , اللحظة التي ساورها فيها شعور بالذنب لإطلاق العنان لنفسها في الشراء , بهجة التملك . . . أصغى ماركو إليها , أولاً بابتسامة , ثم بحذر متصاعد . ـ ـ ماذا اشتريت بحق الله ؟ تلت عليه القائمة . ـ وكم كلفك هذا ؟ فقالت بلهجة دفاع : (( إنها صفقة . وهي ستبدو رائعة في المتجر )) . ـ المتجر الغارق بالديون ؟ بحق الله يا امرأة , أليس لديك إحساس بقيمة المال ؟ ـ إسمع , أنا أعرف أهمية المال , فأنا لا أنكرها . فقال بلهجة لاذعة : (( هو ذا تنازل منك الآن ! )) . ـ ولكن المال ليس الأول في قائمة أولوياتي . . . ـ يهمني أن أعرف مرتبته في قائمة أولوياتك . جعلها الغيظ تقول بصراحة : (( في أسفل القائمة إذا كان التفاوض هو في موضوع الجمال )) . ـ ـ الجمال يكلف مالاً . ـ هذا , هذا صحيح ! ـ لا بأس . هيا أخبريني بأنني مخطئ . لم تستطع . خبراء الاثار يعرفون أكثر من غيرهم كم يكلف الجمال , واضطرارها للاعتراف بذلك أثار سخطها أكثر من أي شيء آخر . ـ لا تنسي أنني رأيت حساباتك , وأذكر جيداً كم كانت مثيرة للشفقة . أظنك تعتبرين القيام بالعمل بشكل جيد ومسألة غير إلزامية . ـ كلام فارغ . ـ ـ ماذا قلت ؟ ـ لا بأس . أنا أعترف بأنني أميل إلى ترك هذا النوع من الأشياء يعالج نفسه بنفسه . فحدق في عينيها الشاردتين : (( هل هذا حقاً ما تفعلينه ؟ )) . ـ حسناً , أنت تعلم أنني كذلك ؟ ـ نعم , لكنني لم أعلم أنك ستحافظين على عاداتك في روما أيضاً . فقال بتمرد : (( أنا هكذا في كل مكان )) . ـ ـ هذا ما ابتدأت أدركه . ربما كان علي أن أوضح لك أن قرضي لك مشروط بعدم الوقوع في الدين مجدداً. ـ لست أقع في الدين , بضاعتي تجلب ربحاً . ـ دوماً تفترضين أن بإمكانك أن تجدي بيوتاً رفيقة بالقطع التي تبيعينها . . . إسمعي , أنت بائعة . ألا تعلمين أن من التهور شراء بضاعة من بائع آخر بثمن كامل لا ربح فيه ؟ ـ طبعاً أعلم ذلك , لكنني لم أستطع أن أمنع نفسي . ـ لم تستطيعي منع نفسك ؟ دعينا جميعاً نعيش تبعاً لدوافع عاطفية دون حس بالمسؤولية إذاً . فقالت ببرودة : (( هذا مختلف )) . ـ لا أرى أي اختلاف . ـ لأنك لا تعرف كيف تعيش تبعاً لدوافع عاطفية . فقال بحماسة : (( الحمد الله )) . ـ أنا لا أقلل من شأن المسؤولية . أنا أعرف كل هذه الأمور . . . ـ ليس كافياً أن تعرفيها . عليك أن تعيشي بها . ـ عندما رأيت تلك القطع الأثرية , أُغرمت بها . أنت لا تفهم مثل هذه الأمور , أليس كذلك ؟ ـ بل أعرفها جيداً . لقد أحببت تلك التحف , فتخيلت عن كل حس منطقي وكل تقدير وموضوعية . إياك ثم إياك أن تقرري أمراً و أنت عاشقة . وسكت عندما لاحظ أنه يتنفس بسرعة . وتملكه السرور لرؤية النادل قادماً , لم ينظر إليها بينما كان هذا الأخير يبذل لهما الأطباق , وعندما عادا وحدهما , ابتسم وكأنما شيئاً لم يكن : (( أنا لم أحضرك إلى هنا لأنتقدك . ربما تجاوزت الحد قليلاً )) . ـ قليلاً فقط . أظنني أبدو مجنونة بالنسبة إلى شخص يعمل في مجالك . فقال ضاراً : (( لا تدعينا نبدأ ذلك من جديد . ولكن دعيني ألقي نظرة على أوراق العمل , يمكنني أن أخبرك كيف . . . أستطيع أن أقترح أشياء قد تجدينها نافعة ؟ )) . فقالت بوداعة : (( شكراً )) . أوشك أن يجيبها ثم رأى لمعان عينيها فآثر الصمت . ـ ما هو عملك بالضبط . ـ أنا اعمل في مصرف تجاري وأتعامل بالأسهم والسندات , وأقدم الاستشارات المالية . أخذ يشرح لها كل شيء عن عمله , بينما كانت هي تصغي إليه باهتمام . قال : (( السيطرة سر النجاح . عليك دوماً أن تكوني المسيطرة وأن تتفوقي بشيء ما على الآخرين . أنت فقدت السيرة على متجرك , وأنا الآن المسيطر . . . لا , لا تغضبي , أنا لا أريد شيئاً منك . إنني فقط أساعدك لكي تتجنبي مسيطراً مثلي في المستقبل )) . ـ لا بأس , تابع حديثك . ـ كانت مبهورة إلى حد لم تفكر فيه في الدفاع عن نفسها مرة أخرى . وعندما راجع نفسه قال : (( دعيني أوضح لك ذلك بطريقة أخرى . . )) . أجابته ساخطة : (( أنت لست بحاجة إلى تبسيط حديثك عن الموضوع , فأنا أفهم كل كلمة تقولها )) . ـ إدراكك إذن يفوق إدراك أختك . ـ انفجرت هارييت ضاحكة , ثم قالت والضحك يخنقها : (( أتصورك تتكلم بهذا الشكل إلى أولومبيا , بينما هي تحاول أن تبدو مهتمة )) . فقال بابتسامة عريضة : (( كانت عيناها ستبدوان جامدتين , وبالمناسبة , أكثر النساء يصبحن هكذا بعد أول دقيقة من حديث كهذا )) . ـ هذا هو رأيي أنا أيضاً , إذا أنت أخذت امرأة في موعد , فهي لا تريد أن تسمع محاضرة عن الأسواق المالية . ـ وأنت ليس لديك مانع ؟ ـ هذا مختلف . نحن شريكان في العمل . فقال بعد لحظة : (( هكذا إذن , ونحن الآن في اجتماع عمل )) . ـ لكي نفكر في تقدم مشروعنا حتى الآن , ونخطط للمرحلة المقبلة . ـ حسناً , أولاً , هل يمكننا أن نتفق على أن تكبحي غريزة الشراء لديك لفترة ؟ ـ أتعني أنك تريدني أن أتوقف عن إنفاق المال ؟ ـ كنت أحاول قول ذلك بشكل مهذب ولكن من الآن فصاعداً أنا من يحدد المصاريف . تبدد فجأة ذلك الإعجاب الذي كان قد بدأ ينمو داخلها فسألته بنبرة تبعث الحذر في النفس : (( ماذا قلت ؟ )) . ـ لا مزيد من الشراء . هذا يكفي . ـ من قرر ذلك ؟ ـ أنا , إنني أقوم بإصلاح كامل لنظامك المالي . ولا يجدر بك أن تفعلي شيئاً حتى أقوم الوضع . ـ ـ حسناً , حسناً ! وماذا حدث للذوق واللياقة ؟ ـ أي ذوق ولياقة ؟ سيسببان لك الإفلاس ؟ فقال بفروغ صبر : (( كلام فارغ . ليس بإمكانك أن تفلسني )) . ـ كم هذا ممتع ! حقاً على أن أتزوجك لأجل أموالك . دعنا نعلن خطوبتنا حالاً . ـ يا له من عرض لا يمكن مقاومته ! ـ حسناً , لنواجه الأمر , ليس لديك شيء آخر تعرضه . فأنت فظ , مستبد , متغطرس ومتكبر . . . ـ ـ هل يُفترض بي أن أتأثر بهذا الكلام ؟ فكري جيداً . لا عيب في الغطرسة إذا كان الشخص واثقاً من نفسه . ـ وأراهن على انك دوماً واثق من نفسك . ـ ـ تماماً . وهذا يمنعني من أن أخطئ بسبب الناس الذين لا يعرفون ما يتكلمون عنه . ـ أتعنيني أنا ؟ ـ أعني أي شخص بهذه الصفة . ـ تعني بقية العالم بالنسبة إليك . لهذا ستحصل الآن بالضبط على الزوجة التي تحتاجها . تلك التي رأت أسوأ صفاتك وستتحملك لأجل أموالك . قال ساخراً : (( أتظنين أنك رأيت أسوأ صفاتي ؟ )) . ـ حسناً , أرجو ألا تكون بقية أسوأ منها . ـ قد تكون كذلك . ولمعت عيناه : (( قد تكون أسوأ بكثير . فكري جيداً قبل أن تقبليني زوجاً )) . ـ جميل ! لقد انتهى كل شيء . هنا تنتهي أقصر خطوبة في التاريخ . بطلا الرواية لم يستطيعا احتمال بعضهما بعضاً . خفض صوتها عند آخر كلماتها , وهي تلاحظ أنها تجتذب انتباه الزبائن . وكذلك نظر ماركو حوله , قبل أن يخفض صوته ويميل نحوها قائلاً ببرودة : (( لق تصرفت بشكل مسرحي مثير . لا حاجة بك لإظهار كل هذا الانفعال العاطفي )) . مالت هي أيضاً نحوه : (( لم أكن منفعلة , بل كنت واقعية هادئة . لم لا ؟ هذا ينجح معك )) . فقال بحدة : (( أنت لا تعرفين شيئاً عني . كل هذا لأنني أردت أن أنظم وضعك المالي . . . )) . ـ أنت لا تريد أن تنظم وضعي المالي , بل تريد أن تتحكم بي وبه , وإذا أنا سمحت لك بذلك , أين ستتوقف ؟ ـ سمحت لي ؟ أتظنين أنني أطلب إذناً ؟ ـ الأفضل أن تفعل ذلك . ـ هارييت , أنا أقول لك ألا تشتري المزيد . ـ وأنا أقول لك إنك منحتني قرضاً ولم تشتري روحاً وجسداً . المتجر هو ملكي . ـ ـ إلى متى سيبقى كذلك إذا أنا قررت أن أكون لئيماً ؟ ـ أنت لئيم ؟ لست كذلك بكل تأكيد . إصغ إلى يا ماركو . ذلك المتجر هو ملكي , وأنا أديره , وأنا وحدي أقرر ما هو بحاجة إليه . إذا رأيت بضاعة أعجبتني , لن أسألك أولاً , بل سأشتريها أخبرهم بأن يرسلوا إلي الفاتورة . ـ وإذا أنا أصريت على إعادتها . ـ سيكون ذلك صعباً لأنني سأكون قد عدت إلى إنكلترا . فقال بسخرية بالغة : (( بعد أن تسرقي قلادة (( أترورية )) أو اثنتين تخبئيهما تحت سترتك , كما أظن ؟ فقالت وهي تصرف بأسنانها : (( كانت زائفة وأنا سأفعل كل ما هو ضروري )) . ـ ـ ماركو بُني ! رفع الإثنين نظرهما ليريا رجلاً متوسط السن يقترب من مائدتهما . نهض ماركو يصافحه , مقدماً هارييت إلى الفريدو أوريس . وهو على الأرجح صاحب مصرف (( أوريس ناشيونال )) حيث يعمل ماركو . ـ مقاطعة طيور الحب أمر لا يغتفر . قال الفريدو هذا بمرح وهو يجر كرسياً مجاوراً ليجلس معهما : (( ما أجمل رؤية شابين مستغرقين في بعضهما البعض , رأساً لرأس , غافلين عن العالم ! )) . لا بد أن هذا ما كانا يبدوان عليه كما أدركت هارييت وهي تبتسم بصمت . فقال ماركو بلطف ومودة : (( لا تقل شيئاً يا الفريدو . دعنا نحتفظ بأسرارنا )) . وضع الفريدو إصبعه على شفتيه وغمز بعينه . لم تبد ثيابه أنيقة , بل بدا كرجل يحب أن يمضي وقتاً طيباً أكثر منه صاحب مصرف . وأخيراً تركهما فتنهدا بارتياح . ـ وقال ماركو وهو يزفر : (( آسف لذلك . لكنه رجل طيب وحــسن النية )) . فقالت ساخرة : (( ويحب العبث وأن يمثل دور صاحب المصرف )) . ـ من أين عرفت ذلك ؟ ـ من اسمه . لكنني أظن أن الاسم هو السبب الوحيد لوجوده هنا . فضحك : (( نعم , وهو يعلم ذلك , لكنه , والحق يقال , لا يتدخل في شيء . أنصحك بأن تتزوجيه فهو يملك عشرة أضعاف ما أملكه أنا , وسيدعك تبذرين الكثير من أمواله من دون أن يحتج )) . ـ آه , لكنه بن يتشاجر معي كما تفعل أنت . ـ يمكنك أن تعتمدي علي بشأن المشاجرات . ـ لا بأس , سأوافقك على أن الإدارة المالية ليست . . . ـ ما كنت لأصف تصرفك بالإدارة المالية . فسألته بعذوبة مصطنعة : (( أتريد أن تتشاجر مرة أخرى ؟ )) . ـ لا . ما زال الوقت مبكراً لذلك بعد آخر مرة . دعينا نسترد أنفاسنا أولاً . ـ هل ستكون هادئاً بينما أقوم بنوع من التنازل ؟ فنظر إليها بانتباه . ـ أعترف بأنني ارتكبت بعض الأخطاء , وسأهتم بسماع نصيحتك . فلوى شفتيه : (( تهتمين ؟ )) . ـ أهتم . ـ ـ إلى حد قبولها ؟ ـ دعنا نر ما يحمله المستقبل . ضحك . وغير الهزل وجهه وكأنما أضاء شيء في داخله . رأت أن بإمكانه أن يكون ساحراً إذا سمح لنفسه بالاسترخاء . كانت قد ابتدأت تفهم عادته في وصفه كل شيء بعبارات العمل . كانت كلمات يفهمها بسهولة لكنها تغطي شيئاً عميقاً ف داخله , بدأ الفضول يتملكها معرفة كنه ذلك الشيء . قال : (( يكفي لهذه الليلة )) . عندما قُدمت القهوة , خُفضت الأنوار , واتخذت الفرقة الموسيقية مكانها على خشبة المسرح . ثم تقدمت امرأة شابة إلى وسط المسرح أخذت تغني بصوت هامس . كانت أغنية من الفراق والشوق واستمرار الرغبة عندما يتبدد كل أمل . كانت فنانة ماهرة , تمكنت من أن تقتص الإحساس من كل كلمة حتى آخر قطرة . وانتشر في المكان جو شاعري رقيق , غامض . وشيئاً فشيئاً ابتدأت هارييت تستيقظ شاعرة بالحياة لإحساسها بأنها تجلس بجانب رجل جذاب لا يفصل بينه وبينها سوى طاولة صغيرة . اختلست نظرة إلى ماركو لترى إن كان يشعر بها كما تشعر به لكنه كان ينظر إلى المسرح حيث المغنية . ـ كان من السخافة أن تشعر بمشاعرها تستجيب لمجرد فكرة , لكنها لم تستطيع أن تسيطر على السخونة التي تسللت إلى كيانها . أخذت نفساً عميقاً مرتجفاً وسمرت نظراتها على الأرض . أما ماركو , فقد كان مواجهاً نظراته إلى كل مكان ما عداها . لقد ذهب إلى منزل أمه الليلة مستعداً لتناول العشاء ثم الرحيل , وهكذا يكون قد أدى واجبه . وإذا بنظرة واحدة إلى هارييت تغير رأيه . ها هي ذي مخلوقة رائعة الجمال , كانت متخفية في ملابس , تكايده بمراوغاتها منذ أول ليلة . تصميمه على إخراجها معه كان من وحي اللحظة , وهذا شيء صدمه لكنه لم يمنعه . عندما دخل بها إلى روما , تساءل كيف ستمر بهما السهرة , وما الذي سيتحدثان عنه . اختلس نظرة إليها فرأى وجها متحولاً عن خشب المسرح نحوه قليلاً , لكنها لم تكن تنظر إيه مباشرة . أدرك أنها تائهة في عالم داخلي هو ليس مدعواً إليه . كان الشعور بالغيرة شيئاً سخيفاً , وتمنى لو تنتبه إليه , لكنها لم تفعل . ـ الضوء الأزرق المنبعث من المسرح أبرز الظلال بحدة , وللحظة لم تبد كامرأة حية ولكن أشبه بتمثال لملكة قديمة ربما نفرتيتي أو كليوبترا . . . تمثال امرأة عظيمة مسلطة رائعة . لكنه يعلم أن هذا جزء واحد فقط منها , وفي اللحظة التالية ستعود إلى الحياة بضحكة صبية عفريتة , أو تحملق فيه بشراسة غريم . لا أحد يعلم . كان الفريدو يجذب انتباهه فاضطر إلى أن يبتسم له . كان الفريدو رجلاً طيباً , ليس فطناً للغاية ولكنه ودود , وسينفعه في الحصول على شراكة . كان يشير إلى هارييت غامزاً بعينه مشيراً إلى أنهما هما الإثنين الرجلين الوحيدين في العالم اللذين يعلمان بهذه العلاقة . و فجأة شعر ماركو بأنه يريد أن يضربه . ـ توارت المغنية ضمن عاصفة من التصفيق , وعزفت الفرقة موسيقى راقصة . سألها ماركو بأدب : (( هل تحبين أن ترقصي ؟ )) . أمسكت بيده فقادها إلى حلبة الرقص التي سرعان ما ازدحمت ليصبح الرقص عبارة عن حركات ثقيلة . أمسك بها بحزم , يشدها إليه ولكن من دون مبالغة , ووجدت هي خطواتها تنسجم مع خطواته بسهولة . كان تأثير الأغنية ما زال يتملكها , طارداً كل الأفكار ما عدا أنها مستمتعة بهذه اللحظة . وابتسمت . فسألها على الفور : (( ما الأمر ؟ )) . ـ أنا فقط مستمتعة بوقتي . ـ ـ لا , بل أكثر من ذلك . أخبريني . هذه الابتسامة تعني شيئاً ما . أقلقها إلحاحه , فنظرت في عينيه ورأت فيهما شيئاً أكثر حدة بالنسبة إلى سؤال تافه . ثم اصطدم بها شخص ما فشعرت بيدي ماركو تشتدان وتثبتانها . فأصبح وجهه قريباً من وجهها . وحلقت مشاعرها عالياً , فأغمضت عينيها لتخفي ما قد تكونا قد كشفتا له . تمتم بقول : (( أنظري إلي )) . ـ فتحت عينيها فوجدته يراقبها بحدة وأحست بسخونة يده على ظهرها , كانت الأفكار والمشاعر التي صدمتها , قد تملكتها . وصدرت عنها شهقة صغيرة . ـ ما الأمر ؟ ـ أنا . . . لا شيء . . . لا شيء . إنه الحر . ـ نعم , أصبح الجو حاراً نوعاً ما . شقتي قريبة من هنا , دعيني أدعوك إلى فنجان قهوة هناك . ـ عندما خرجا , كانت الساعة الثانية والنصف , وكانت النجوم تتألق في السماء , والشارع خالياً إلا من بعض المتسكعين . تأبط ماركو ذراعيها ثم اجتازا المسافة القصيرة إلى الشقة . شعرت هارييت بالارتياح بعد أن هداها المشي وهواء الليل . وعندما استقلا المصعد إلى الطابق الخامس , عادت تسيطر على نفسها مرة أخرى . كان الفضول يتملكها لرؤية شقة ماركو فقد حاولت أن تتخيلها ولم تستطع . بدا ماركو متكتماً إلى حد كان من المستحيل معه أن تتصور أي شيء لا يريد أن يكشفه . وقد رأت الحقيقة الآن . فوجئت بها في البداية , ثم أدركت أنها بالضب ما توقعته في عقلها الباطن . ـ لا يمكن أن يكون هناك بيت أكثر تحفظاً وغموضاً وتقشفاً من هذا . كانت الإثارة خفية , وقد عُلقت على الجدران عدة صور عصرية , وزُينت الرفوف ببعض التحف الفنية . بدا لها أن البيت ينتمي إلى رجل أخفى نفسه ربما حتى عن نفسه . ـ من خلال باب مفتوح يؤدي إلى غرفة نومه رأت هارييت جهاز كومبيوتر وجهاز فاكس وعدة هواتف وجهازي تلفزيون . هذا الرجل أخذ عمله إلى سريره . وتذكرت قول أولمبيا : ( معروف عنه أنه يدمر النساء , فما إن يقيم علاقة مع المرأة حتى يتركها ) . مهما كان ما حدث في حياة ماركو الخاصة , فقد حدث هنا في هذا المنزل وربما في تلك الغرفة بالذات . نادى من المطبخ : (( سأحضر القهوة )) . كان المطبخ أيضاً بسيطاً متقشفاً , ولكن رائع الجمال , ببياض جدرانه المزينة باللون الأزرق . وبدا من سهولة تحركه في أنحائه أنه اعتاد أن يطهو لنفسه , وهذا جعله يصنع القهوة بشكل ممتاز . قالت وهي ترشفها متلذذة : (( إنها لذيذة , كما أن البيت رائع )) . ـ شكراً , لكنه لا يعجب الكثيرين . ـ إنه هادئ ومريح , وأنا أحب ذلك كثيراً . كما أنك تعرف كيف تتباهى بتحفك مظهراً محاسنها بخلفياتها البسيطة وطريقة تنظيمها وإنارتها . ـ شكراً , المدح منك هو مدح حقيقي هل لك أن تعطيني رأيك بمجموعتي ؟ أنهت قهوتها قبل أن تقترب من إناء قائم على قاعدة مربعة . كان يبدو بزخرفته غريباً جداً بالنسبة إلى خلفيته البسيطة , وكان تقييمها له بأنه فرنسي من القرن الخامس شر صحيحاً , وأنه أصلي . فقال بحزم : (( كل شيء في مجموعتي أصلي )) . ابتسمت وهي تعيد (( الإناء )) إلى قاعدته وتبتعد : (( دعنا لا نتجادل في ذلك )) . ـ فقال وهو يقف أمامها : (( أوافقك , فالجدل مضيعة للوقت )) . ومال إلى الأمام , ووضع يده خلف رأسها وجذبها إليه معانقاً إياها بحذر , ثم بقوة وكأنه يريد أن يتأكد من ردة فعلها قبل أن يتخذ الخطوة التالية , كان الإحساس بهيجاً فاستسلمت هارييت له . تصرف وكأن لديهما كل الوقت الذي في العالم ليكتشفا بعضهما بعضاً , ووجدت هذا مريحاً . وعندما التفت ذراعه حول خصرها أحاطته بذراعيها تاركة يديها تستمتعان بالإحساس بقوته التي كانت تتسرب من خلال ملابس سهرته الأنيقة . كل ما في ماركو بدا منسجماً , رائعاً , وخصوصاً عناقه , بدا خبيراً رقيقاً في هذا كما هو في كل مهاراته الاجتماعية الأخرى . لكن إحساساً غريباً أوجعها فتحركت بين ذراعيه بقلق . شيء ما لم يكن صحيحاً في هذا الأمر . دفعت ماركو بعيداً عنها لكنه قاوم وبقي يحتضنها , وإذا بالغضب يتملكها , فاشتدت يداها على كتفه وقالت بحزم : (( هذا يكفي )) . ثم ابتعدت عنه وهي تتابع قائلة : (( حقاً إنك جريء )) . فقال ساخطاً : (( ما العيب في العناق ؟ لقد أمضينا معاً سهرة سارة للغاية , ثم رقصنا معاً واحتضن الواحد منا الآخر , فما الخطب ؟ )) . قالت بصوت مرتجف : (( أنت لم تعانقني , وإنما كنت تتفحص ما سيصبح ملكاً لك )) . ـ ـ ماذا ؟ ـ أنت تعلم ما أعنيه . لم يكن ذلك عناقاً بل نظرة عامة لترى إن كان التسلم سيكون في مصلحتك . ـ لا تكوني حمقاء . فقالت غاضبة : (( أنا واثقة من أنك كنت تحسب الأمر من كافة جوانبه . أنت لا تريدني أن آخذ أي فكرة قبل أن تقرر ما تريد , كي لا أزعجك فيما بعد , أيها الحذر البارد الشعور )) . فقال بحدة : (( لا تكثري الكلام ! لقد وضحت لي الصورة , لكنني فقط أتمنى لو أعلم ما تريدين )) . ـ ذلك بسيط جداً . إذا كنت تريد أن تعانقني فافعل ذلك بحرارة , وليس . . . لم تستطع أن تنهي كلامها لأنه انقض عليها بعناق عنيف . لم تتذكر كيف أصبحت بين ذراعيه , لكنهما كانتا تحيطان بها تجمدانها مكانها , حاولت أن تحتج لطريقته هذه , لكنه تمتم : (( إخرسي ! أنت قلت إن هذا ما تريدينه , وهذا ما ستحصلين عليه )) . ـ لم تحاول أن تستمر في الجدل . فهذا رجل غاضب للغاية , ولا يمكنها أن تشكو فهي التي جلبته لنفسها . ولكنها وجدت أنها لا تريد ان تتذكر . سرت في كيانها مشاعر لم تعرفها من قبل , أشبه بالنار في الهشيم . كان على هارييت أن تتخذ قرارها بسرعة وتبتعد عنه , إنها تلعب بالنار . لكن ذلك كان صعباً لأن جسدها كان متوتراً وأحاسيسها مشوشة , ما محى كل شيء من ذهنها . كيف يحصل ذلك وهما شبه عدوين ؟ كان رنين الهاتف خافتاً بحيث أنها بالكاد سمعته . حاولت أن تتجاهله لكن ماركو ابتعد عنها منزعجاً من المكالمة . ـ أخذت تنظر إليه كالحالمة وهو يرفع السماعة , منتظرة أن ينهي المكالمة . لكنه , بدلاً من ذلك , توتر منتبهاً . ثم قال بصوت مرتفع : (( نعم , أنا ماركو كالـﭭـاني )) . حدقت إليه هارييت ذاهلة لسرعة تحويله انتباهه عنها , وكأن ذلك العناق لم يكن . لم تستطع أن تصدق ذلك . وأخيراً رفع ماركو السماعة عن أذنه , لكنه لم يقفل الخط : ((( آسف , لكن هذا أمر هام . لن أستطيع أن أوصلك إلى البيت , لكن هناك شركة تاكسيات ممتازة . تجدين رقم الهاتف في ذلك الدفتر )) . سألته ورأسها يدور : (( ما . . . ماذا ؟ )) . ـ إنه على المنضدة بجانبك . . . آلو ؟ نعم , أنا ما زلت هنا . عاد إلى مكالمته الهامة . ـ قالت تحدث لوشيا الغاضبة فيما بعد تلك الليلة : (( أتعلمين ما الذي أفقدني صوابي حقاً ؟ أنه جعلني أنا أستدعي سيارة الأجرة )) . * * * نهاية الفصل (( الرابع )) . . . | ||||||||||
![]() | ![]() |
![]() | #8 | ||||||||||
مراقبةومشرفةسابقة ونجم روايتي وكاتبة وقاصة وملكة واحة الأسمر بقلوب أحلام وفلفل حار،شاعرة وسوبر ستارالخواطر،حكواتي روايتي وراوي القلوب وكنز السراديب ![]()
| ![]() 5 ـ رجــل الثــلج في اليوم التالي , وصلت إلى الفيلا باقة رائعة من الأزهار مع بطاقة جميلة للغاية من ماركو يأسف فيها لسوء الحظ الذي قطع عليهما تلك الأمسية البهيجة . ناولتها هارييت إلى لوشيا التي عبرت عن رأيها بنبرة اشمئزاز , لكنها . لحسن الحظ , لم تلق على هارييت أي سؤال . اتصل ماركو بعد يومين , دعاهما معاً إلى الغداء في المصرف, إذا كان لمصرف (( أوريس ناشيونال )) مطعم خاص يقصده الموظفون الرفيعو المستوى ويدعون إليه أصدقاءهم . وعامل ماركو وبعض زملائه المرأتين كملكتين . كانت لوشيا قد قصدت هذا المكان ثلاث مرات من قبل , لكنها المرأة الوحيدة التي دعاها ماركو , على الإطلاق , حتى الآن . وقد فهمت هارييت ما تتضمنه هذه الدعوة من امتياز . كانت تنوي أن تحتج على تصرفه الشهم في الليلة السابقة , ولكن ذلك كان مستحيلاً في هذه الظروف . ـ لم يستطع الفريدو أوريس أن يحفظ سراً , وسرعان ما كان الخبر يسري في روما بأسرها أن ماركو ظهر في النادي الليلي مع فتاة جديدة . لكن هذه الفتاة مختلفة , فقد كانت تقيم مع أمه وقد تناولت عشاءها في مطعم المصرف . وبع ذلك هاجت التخمينات لتستقر على الاستنتاج الصحيح تقريباً . ـ إذاً لم تعد خطوبتك سراً . ـ قالت لوشيا ذلك راضية بينما كانوا جميعاً يتناولون الفطور بعد عدة أيام , وكان ماركو قد أمضى الليلة الماضية في الفيلا . نظرت هارييت إليها بسرعة : (( ليست خطبة بالضبط )) . ـ ما هي إذن ؟ نظرت إلى ماركو , لكنه لم يساعدها بشيء . فقالت مترددة : (( إنها . . . نوع غير رسمي من . . . )) . ـ ـ لم يعد لي صبر على كل هذا التردد والعجز عن التصميم الجميع يرى أنكما مناسبان لبعضكما البعض . والآن العالم يعلم أنكما مخطوبان . سألها ماركو ساخراً : (( ألست أنت من أعطاهم هذا الانطباع يا ترى ؟ )) . ـ ـ أم أكن بحاجة إلى ذلك . الجميع رآكما ضائعين في بعضكما البعض في (( بيلا فيغرا )) . لم يكن بإمكانهما أن يوضحا أنهما كانا يتشاجران حينذاك , لذا لم يجب أحد منهما . واعتبرت لوشيا ذلك إثباتاً لقولها . فأضافت : (( ثم اصطحابك لنا إلى المصرف يُعتبر عملياً إعلان خطبة . ولذا علينا أن نقيم حفلة الآن . الجميع يتوقع منا ذلك . كما أنهم يتوقعون أن يروا الخاتم . اهتم إذن بما يلزم لذلك )) . ـ ثم خرجت من الغرفة قبل أن يستطيعا الجواب . سألته هارييت : (( ماذا سنفعل ؟ )) . ـ الحفلة , في الواقع , فكرة حسنة . لقد حان الوقت لتقابلي بعض أصدقاء الأسرة . ـ ولكن حفلة خطبة . . . وخاتم . . . ـ ذلك لا يغير شيئاً . سنقيم حفلة , وإذا غيرنا رأينا فسخنا الخطبة . والحق مع أمي بالنسبة إلى الخاتم . وكتب عنواناً أعطاها إياه : (( هذا أفضل صائغ في روما . سأخبره بأنك ستقصدينه )) . ـ ألن تأتي معـي ؟ فأجاب من دون أن يقابل نظراتها : (( لدي عمل مستعجل . سيعرضون عليك أروع ما لديهم فاختاري الأفضل )) . ذهبت هارييت إلى الصائغ في النهار نفسه فعامل خطيبة ماركو كالـﭭـاني ببالغ الاحترام , وأراها مجموعة من الخواتم الماسية كانت كلها غالية الثمن إلى درجة مخيفة . وأعجبها واحد منها مؤلف من ماسات صغيرة للغاية مركبة على ذهب أبيض , وفي الوسط ماسة كبيرة من نوع فاخر . لكنها كانت تعرف الكثير عن تجار الجواهر وأسعارهم الخيالية , ولا يمكنها أن تقبل هذا الخاتم بأي شكل , فسألته : (( أليس لديكم شيء . . . أصغر قليلاً )) . قالت هذا شاعرة بأن كلمة (( أرخص )) أقل لباقة . فأجاب الصائع : (( هذه هي المجموعة التي اختارها السنيور كالـﭭـاني )) . إذن , فقد جاء إلى المتجر , ولكن ليس معها , والأسوأ أنه يحاول أن يتحكم في اختيارها , وهذا لا يوافقها . فقالت بحزم : (( أريد أن أرى شيئاً آخـر )) . فذُعر : (( لكن السنيور كالـﭭـاني . . . )) . ـ لن يلبس هو هذا الخاتم , بل أنا . ـ ولكن . . . ـ طبعاً إذا كان هناك مانع , سأذهب إلى مكان آخـر . عند هذه الهزيمة , أحضر الرجل صينينة عليها خواتم أقل كلفة . اختارت أخيراً خاتم سوليتير بديعاً للغاية , مقاومة محاولته للعودة بها إلى الخواتم المترفة تلك , ثم خرجت وهو في إصبعها . جاء ماركو إلى الفيلا تلك الليلة وهو يحمل صندوق مجوهرات كبير . لم تتوقع منه هارييت الخضوع بسهولة , لذا لم يكن عليها أن تكون خارقة الذكاء لتتكهن بأن ذلك الصندوق يحتوي على الخواتم التي رفضتها . هل هذه الحرب ؟ إنها مستعدة لها . حيا ماركو أمه بحرارة قبل أن يأخذ هارييت جانباً . رفعت يدا قائلة : (( شكراً لخاتمي الجميل هذا )) . فأمسك بيدها بحزم وخلع منها الخاتم حتى دون أن ينظر إليه . ـ هاي . . . ماذا تفعل ؟ ـ هناك خطأ ! لا بد أنه أراك الصينية الخطأ . ـ لم يخطئ . وهذا هو الخاتم الذي أعجبني . ـ فقال بحزم : (( خطيبتي لا تلبس خاتماً رخيصاً )) . ـ رخيص ؟ لا بد أن ثمنه عشرة آلاف دولار . ـ بالضبط . قال باختصار . كان واضحاً أنه يكبح غيظه . ـ فهمت , إذا أخـــذت خطيبتك تتباهى بخــــاتم يســـــاوي فقــط عشـــرة آلاف دولار , سيبدأ عملاؤك في مراجعة أسعار أسهمهم , لكي يروا ما إذا كنت قد فقدت قدرتك المالية . ـ ما دمت تفهمين ذلك , كما هو واضح , لا أدري لما نخوض هــذا الحديث . ـ أرجوك أن تعيد إلي ذلك الخاتم . ـ لا . ـ إنه الخاتم الذي أريده . ـ ســاد صمت بدا فيه ماركو محبطاً وعاجزاً ثم التقت أعينهما والتصميم بادٍ لدى كليهما . ثم فتح ماركو العلبة : (( اختاري واحداً من هذه )) . قال هذا بحذر فقالت : (( لقد اخترت الخاتم الذي في إصبعي )) . سألها وهو يصرف بأسنانه : (( لماذا يجب أن يكون كل شيء مثــاراً للجدل ؟ )) . ـ لأنك تحاول السيطرة علي في كل شيء وأنا لا أقبل بهذا . ـ هذا هراء . أنا فقط أطلب منك أن تفعلي ما هو مناسب لوضعنا . منذ أيام , أنفقت مالاً أكثر من هذا من دون أن يطرف لك جفن . ودعيني أذكرك بانه مال لم أسمح لك بإنفاقه . ـ هل عدنا لنبدأ ذلك من جديد ؟ ـ كل ما في الأمر أنني أستغرب كيف تفرغين جيوبي بكل قسوة إذا تعلق الأمر بحجز أثري , ثم تصبحين فجأة بالغة الرقة بالنسبة إلى ثمن الخاتم . أين المنطق في هذا ؟ ـ لماذا يجب أن يكون هناك منطق ؟ فقال بعنف : (( هذا يساعد أحياناً )) . ـ المسألة ليست مسألة ثمن , وإنما تحكمك بي . ـ ألم تفكري بتأثير ذلك علي ؟ ـ عملاؤك سينسون هذا . ـ لكنه كان أمهر مما كانت تظن . وفي اللحظة التالية جاء بالشيء الذي لم تستعد له . لقد تلاشى الغضب من وجهه , ثم نظر إليها بابتساكة آسفة : (( هارييت . رغم أنك امرأة لامعة إلا أنك غبية للغاية )) . ـ ماذا يعني هذا ؟ سألته بحذر , شاعرة بأنه بنصب لها فخــاً ما . ـ أنا لا أخاف من عملائي بل من أمــي . ـ أحقاً . إذا كنت تريد أن تقنعني بأنك تخاف من أمك . . . ـ ماذا تظنينها ستقول لي إذا ظنت أنني عاملتك بدناءة بالنسبة إلى الخاتم ؟ وكا يبتسم لها بطريقة أقلقتها فقالت : (( سـأوضح لها بأن هــذا هو اختياري أنا . . . )) . فتنهد : (( هذا ليس جيداً . ستقول إنه كان علي أن أثبت وجـــودي . وهــي لا تعرف مدى صعوبة هذا معك . إذا أنت لم تساعدني على الخروج من هذه المشكلة , سوف . . . حسناً , لا أدري ماذا سأفعل )) . فقالت بحدة , محاولة ألا تستجيب لابتسامته: (( والآن كُف عن هــذا فأنا أرى ما في نفسك , هل تسمعني ؟ )) . ـ أنا واثق من ذلك . ـ ـ أنت غير مهتم . أليس كذلك ؟ ما دمت تحصل على ما تريد . ـ أنت تفهمينني تماماً . ـ حسناً , بعد كل هذه الاعترافات , عليك أن تخجل من نفسك . ـ لماذا ؟ ما الخطأ في حصولي على ما أريد ؟ ألا تحبين أنت أن تفعلي هذا ؟ ـ طبعاً , ولكن يتملكني بعض التردد ووخز الضمير عندما أفعل ذلك . فقال بجد : (( التردد ووخز الضمير مضيعة للوقت . إذا كان هناك مـا ينفعك فاسعي للحصول عليه )) . ـ من دون أن أهتم بالآخرين . . . ؟ ـ من دون أن تهتمي بأي شيء . ـ ولكن هذا فظيع . ـ ـ لا , بل هو صواب , والآن لِمَ لا تجربين هذا في إصبعك ؟ كان يتكلم وهو يضع في إصبعها الخاتم الذي جذب انتباهها في المتجر وكان هو يعلم طبعاً , إذ لا بد أن الصائغ أخبره بأن هذا الخاتم قد أثار اهتمامها . إنه أمامها في كل لفتة , وعليها أن تقاومه . لكن السخط تلاشى أمام جمال الخاتم بماساته الرائعة ومدت يدها تنظر إلى تلك الحجارة المتلألئة كالنجوم , وقد تملكتها الرهبة لجمالها . وقالت بيأس : (( لا يمكنني أن آخذه . لا أستطيع )) . لكنها لم تخفض يدها . وهتف ماركو ينادي أمه التي كانت تتسكع عند الباب بلهفة : (( ماما , تعالي هنئينا بخطوبتنا )) . قال هذا وهو يرفع يد هارييت يريها الخاتم فأطلقت أمه صوت إعجاب : (( آه , ما أروعه من خـاتم )) . ـ نعم , رائع , أليس كذلك ؟ قالت هارييت هذا والسخرية في عينيها . لم يعد من مجال للتراجع الآن . وهتفت لوشيا : (( سيذهل كل من يراه . والآن يمكننا أن نجلس ونستمتع بالتخطيط للحفلة )) . ـ فقال ماركو على الفور : (( سأغيب عن المدينة لعدة أيام )) . فقالت الأم : (( اذهب إذن , سنقوم بالعمل بشكل أفضل بدونك )) . وخرجت وهي تهمهم . وقالت له هارييت : (( لن أقول شيئاص عن عدم إحساسك بوخز الضمير , لأننا سبق وتحدثنا عن ذلك . لكنني أريدك أن تفهم جيداً أنني إذا غيرت رأيي بهذه الخطبة , وحالياً يبدو هذا محتملاً جداً , فأنا أريدك أن تستعيد الخاتم )) . ـ فقال مصدوماً : (( هذا طبيعي . وهل تظنين أنني سأتركه لك ؟ سأحتاجه للمرة التالية )) . كانت عيناه تداعبانها , وفجأة لم يعد يهمها شيء . كان صعباً ولا يطاق , ولكن لا شيء يصلح هذه الحال فيه . كما أن لديه سحراً خفياً يمكنه أن يتسلل خفية إلى كيانها . ولكن كان هناك شيء آخر لم تجرؤ على الاعتراف به لنفسها . فقد كانت هارييت العاقلة تتوارى في الظلال لتحل مكانها هارييت أخرى تريد ان تجازف وتعيش الحياة بقوة . هزها إدراكها ذلك , وكانت بحاجة إلى وقت لتفكر فيه . ـ بعد انتهاء العشاء اتفق ماركو وأمه على لائحة الضيوف . و عندما نظرت هارييت إليها رأت اسماً جعل عينيها تلمعان . وقالت بحماسة : (( البارون أورازيو مانيللي )) . فسألها : (( هل تعرفينه ؟ )) . ـ لا , ب أتمنى لو ادخل بيته , منذ دهور وأنا أحاول ذلك . ـ أظن لديه بعض القطع الأثرية التي ترغبين فيها . ـ آلاف القطع , لكنه لا يدع أحداً يراها . أظن الأمر سيكون مختلفاً الآن . هل تعرفه جيداً ؟ ـ اعرفه بشكل يسمح لك بدخول بيته , هل أفهم أن هذا ما تتوقعين مني ان أفعله ؟ ـ ذلك ليس مشكلة , أليس كذلك ؟ ـ وإذا كان في ذلك مشكلة , هل يشكل ذلك فرقاً ؟ ـ حسناً . . . ـ لا تزعجي نفسك بإظهار التهذيب . يسرني أن أكون نافعاً . تلك عقبة أزيلت , كما فكرت هارييت مسرورة , لأن ماركو لم يبد عليه سوى التسلية . وقد سنحت لها فرصة سعيدة لرؤية نفائس لم يٌكتشف عنها بعد . ـ * * * غاب ماركو أسبوعاً , فأغمضت لوشيا و هارييت الوقت بنشاط وبسرعة . جيش الخدم كله في الفيلا كان مشغولاً بتنظيف البيت لفصل الربيع وإظهاره للحياة بشكل جديد , وأرسلت الدعوات إلى الضيوف ومنها دعوة لى والد هارييت . ولكن بما أن الجواب لم يصل , كان معنى ذلك أنه ما زال مسافراً . بعد يوم واحد ابتدأت الأجوبة على الدعوات تصل . المجتمع بأسره بدا متلهفاً لرؤية المرأة التي ( غزت قلب الغازي ) . وهي جملة أخذت تتكرر في صالونات المدينة إلى أن وصلت إلى مسامع هارييت . فقالت لوشيا ساخرة : (( حسناً , إنها روما على كل حال . وهي المكان المناسب للذهاب إلى عرين الأسد )) . فقالت لوشيا: (( لا تقلقي . ماركو يعرف كل شيء عن الأسود , وهو لن يدعك تواجهينهم وحدك )) . ـ قبل الحفلة بيومين , جاء ماركو إلى الفيلا , وتناول الثلاثة عشاءً ساراً . وأثناء القهوة , قالت لوشيا : (( غداً سيبدأ أفراد الأسرة بالقدوم , هل أنت مستعدة للاجتماع بهم ؟ )) . فقالت هارييت : (( أنا متوترة بعض الشيء )) . فتنهدت لوشيا : (( أنا نفسي متوترة الأعصاب . فرانسيسكو سيحضر ليزا . لا أستطيع أن أدعوها خطيبته وهي في الستينات من عمرها )) . فقال ماركو : (( لقد بقي سنوات يتوسل إليها أن تتزوجه , ولكن كونها مدبرة منزله , وجدت فكرة الزواج غير مناسبة )) . فقالت لوشيا : (( كان كلامها صحيحاً )) . فقال ماركو : (( لقد سبق لهارييت أن قابلت دولسي )) . ـ لن يدهشني أن أعلم أن دولسي جاءت إلى متجر هارييت لتبيع فضيات الأسرة . ـ قالت لوشيا هذا بشيء من الخشونة , فقالت هارييت من دون تفكير : (( بل في الواقع رأس حصان من الرخام )) . لتغطي حماقتها هذه أسرعت تقول : (( أنا متشوقة حقاً لرؤيتها مرة آخرى , فقد انسجمنا تماماً . بعد أن انتهينا من العمل تناولنا الغداء معاً . إنها ملسة للغاية )) . أجفلت لوشيا مذعورة : (( مسلية ؟ هل هذه كل مؤهلاتها لتكون (( كونتيسا كالـﭭـاني المقبلة ؟ )) . ـ حسناً , أنـــا . . . فقال ماركو بهدوء : (( لا تحاولي أن تجيبي على ذلك . أمي , أنت لست منصفة مع هارييت )) . ـ لا , طبعاً هذا ليس ذنبك يا عزيزتي . ـ ربتت على يد هارييت , ومرت اللحظة بسلام . وتابعت لوشيا : (( وليو , طبعاً , لن يصل إلا في اللحظة الأخيرة فهو لا يرتاح في المجتمعات الراقية أو المتحضرة )) . فقال ماركو ضاحكاً : (( هـــذا صحيــح . وفي الـــواقع مــــا كان سيأتي على الإطلاق لو أنه لم يكن مسافراً إلى أميركا , ومن مطار روما يمكنه أن يذهب مباشرة إلى تكساس )) . فهتفت لوشيا : (( تكساس ؟ سيظنه الجميع راعي أبقار )) . فقال ماركو بلين : (( هذا بالضبط ما هو عليه , ما دام ذاهباً إلى أسواق دمغ الماشية هناك )) . فردت لوشيا : (( أسواق دمغ الماشية ؟ )) . ـ ليو يربي الخيول في (( توسكانيا )) إنها حيوانات ممتازة ومطلوبة جداً . فتنهدت لوشيا بأسى : (( راعي أبقار, بينما ينبغي أن يكون وريث فرانسيسكو ! )) . ـ في الصباح التالي كانت هارييت و لوشيا في المحطة تنظران قطار البندقية الذي يقل الكونت فرانسيسكو كالـﭭـاني . ظهر متأبطاً ذراع امرأة نحيفة كبيرة السن . و كانت هذه ليزا , عروسه المدعوة . وابتسمت هارييت لمنظرهما معاً . لقد دام حبهما الخفي طوال تلك السنوات , والآن , بعد أن انكشف حبهما هذا , بدا زهوهما وفرحهما ببعضهما البعض مؤثراً , وتساءلت كم من الأزواج ستبقى مشاعرهم بهذا الشكل بعد سنوات ؟ من المؤكد أنها وماركو لن يكونا كذلك فعلاقتهما لم تبدأ حتى بالحب . قد يكون ماركو على حق قراره ترتيب زواج من ذها النوع . لكنها شعرت بغصة في حلقها وهي تنظر إلى العاشقين المسنين . كان غويدو ابن عم ماركو شاباً وسيماً تحمل نظراته دعابة خبيثة . لكن عينيه كانتا تستقران على دولسي , التي ستصبح عروسه بعد أسابيع . رأته هارييت عاشقاً مثالياً , وأعجبها ذلك منه . حيتها دولسي بلهفة وعناق : (( لا أستطيع أن أصدق أنك أنت العروس . تصوري فقط أننا سنكون قريبتين . كم هذا عظيم ! )) . ـ ـ نعم . وافقتها هارييت وهي تتساءل عما إذا كان ذلك اليوم سيأتي حقاً . كان الخاتم اللامع في إصبعها حقيقياً , ولكن كا شيء آخر كان يحوطه جو من عدم الواقعية . كانت متشوقة للاستمتاع بالحفلة بالرغم من كل ما تشعر به من فوضى وتشتت . قد لا تكون لوشيا موافقة على زواج الكونت , لكن سلوكها نحو ليزا يالارتياح في صحبتها , كما أنها ارتاحت إلى ماركو , كما لاحظت هارييت . وهي تشعر أن دقته , هو أيضاً , يمكن الاعتماد عليها . قبل وجنتيها ثم قدم لها ذراعه لتتأبطها وهي تدخل المنزل . أثناء العشاء أخذ غويدو يخبرهم عن سوء التفاهم الذي ساد في أول لقاء له مع دولسي في البندقية , عندما ظنته قائد زورق الغندول , ولم يكن يعلم أنها تخفي سراً خاصاً بها . وكانوا جميعاً يضحكون عندما رفعت هارييت نظرها لترى شاباً طويلاً البنية واقفاً عند الباب . وقد عرفت من شعره الخشن ومظهره الصلب أنه (( الريفي الخجول )) . ـ صرخ الجميع : ليو ! ونهض غويدو وماركو ليصافحاه ويربتا على ظهره . ابتسم العملاق الصغير وبادلهما التربيت على الظهر , ثم عانق لوشيا ودولسي . ووقفت هارييت لتتعرف عليه , فنظر إليها مقيماً بشكل أصبحت معتادة عليه . كان وسيماً كشقيقيه الآخرين , لكن تأثيره على الناظر كان طاغياً جسدياً . وفكرت هارييت في أن رجال أسرة كالـﭭـاني جميعهم وسيمون . أعجبت غريزياً بليو , الذي صافحها ببساطة الرجل الذي يجد العمل أسهل من التفكير , محتفظاً بيدها بين يديه . ثم أخذ ينظر إليها من رأسها حتى أخمص قديمها بابتسامة إعجاب عريضة . وبادلته هي نظراته حتى سعل ماركو بشكل ذي معنى . نظرت إليه مذهولة وهي تسأله : (( من أنت ؟ )) . انفجر الجميع ضاحكين بمن فيهم ماركو . وهو لم يكن بالرجل الذي يتقبل بسهولة مثل تلك الدعابة , لكن استحسان أفراد أسرته لسرعة بديهتها سرته . وقال بابتسامة عريضة : (( إبتعد من هنا ليو ريثما أذكر خطيبتي بمن أكون , ثم انصحك بأن تدعها وشأنها في المستقبل )) . غمزها ليو , ثم قال بصوت هامس : (( في الشرفة عند منتصف الليل )) . لكن ذراع ماركو التي التفت حول خصر هارييت بشدة أبعدتها عن ليو ومنعتها من الجواب . قالت تحتج وهي تضحك بصوت خافت : (( كانا نمزح فقط )) . ـ أعرف ذلك لكن إحذري من ليو . فهو (( يمزح )) كثيراً مع الفتيات . فما أن يحب امرأة حتى يتركهـا . ـ غريب . لقد سمعت عنك الشيء نفسـه . فقطب جبينه : (( عجباً , اين سمعت ذلك ؟ )) . ـ في كل مكــان . ـ ونظرت إليه متحدية فتراجع (( دعينا ننهي العشاء )) . حيث أن العشاء كان في منتصفه , كان على ليو أن يعوض ما فات . فأخذ يلتهم الطعام متلذذاً بينما كان الحديث يدور حوله , وعندما تكلم راح يسأل هارييت عن نفسها , غير متظاهر بالغزل الآن , ولكن بكل اهتمام النسيب . قد يكون ذلك مجرد سلوك حسن , لكن هارييت شعرت وكأنها قد حققت حلماً رغم كل شيء . فق استقبلها أفراد الأسرة كلهم فاتحي الأذرع لها . كان صعباً عليها أن تصدق أن رجال كالـﭭـاني هم من الأسرة نفسها , فقد كانت ملامحهم مختلفة للغاية رغم أنهم جميعاً وسيمون . بدا ليو يشع نشاطاً وحيوية وطاقة وصحة , بينما بدا غويدو أخف بنية من أخيه , ومظهره الصبياني متوازن مع ذكائه الثاقب , ولديه طاقة مستترة تبقيه قلقاً إلا إذا كانت دولسي بقربه . في عيني هارييت , كان ماركو هو الأكثر تأثيراً وأناقة وتحفظاً , فهو رجل مستقل بذاته في كل شيء . في قلب أسرته هو رجل مسترخ مستعد للضحك . ولكن ما زال صعباً تصوره يتصرف مثل ليو البشوش اللامبالي , أو ينظر إلى امرأة بمثل الشغف الذي يشع من عيني غويدو . تساءلت عن الرأة التي أوشك أن يتزوجها في الماضي , والتي يُمنع ذكر اسمها في البيت مطلقاً . أتراه احبها حقاً , أم أنها هربت منه يائسة من عدم قدرتها على إخراجه من قوقعته ؟ ولربما الاحتمال الثاني هو الأرجح . و مع ذلك كان لديه مفاجأة لها عندما انفضت الحفلة فأخذها بيده خارجاً بها إلى الشرفة . ثم قال يذكرها : (( لديك موعد هنا في منتصف الليل )) . ـ فقالت تستفزه : (( ولكن ليس معك )) . فقال بابتسامة زادت من استفزازها : (( الأفضل أن يكون موعدك معي )) . ولم تكن هي تريد أفضل من هذا , كما أخذت تفكر وهو يدنو منها ليعانقها . كان في عناقه حلاوة أذابتها وجعلتها تشده أكثر إليها . لكنه تراجع قليلاً مبتسماً . ورفعت حاجبيها متسائلة لكنه هز رأسه فقط , فشعرت بأن هذه الاستراحة القصيرة طرحت من الأسئلة أكثر مما قدمت من الأجوبة . في ليلة الحفلة , كانت هارييت قد انتهت من ارتداء ملابسها عندما دخلت دولسي غرفتها . بدت أشبه بحلم في ثوبها الحريري الأزرق , وهتفت وهي تراها : (( آه , تبدين خلابة . لا عجب في أنك أذبت قلب (( رجـــل الثلج )) . ـ ـ رجل الثلج ؟ فأجفلت دولسي : (( ما كان ينبغي أن أقول ذلك , لكن غويدو يقول إن هذا ما اعتادت الأسرة أن تسميه به . ليس أمامه طبعاً فانت تعلمين طباعه . ولكنك حتماً ترين منه جانباً لا يراه أحد آخر )) . وأطلقت ضحكة حلوة : (( ها قد جعلتك تحمرين خجلاً )) . لكن هارييت أنكرت احمرار وجهها رغم شعورها بذلك . كان في ذلك التضمين ما يعني أنها وماركو عاشقان وذلك أربكها . ولتخفي وجهها تحولت مبتعدة وأخذت تسوي ثوبها . ـ كانت إخصائية التجميل قد حضرت إلى الفيلا واهتمت بتزيين هارييت بدقة بالغة . فبدت رائعة الجمال بعينيها الخضراوين الكبيرتين وشعرها المرفوع الذي لا يتدلى منه سوى عدة خصلات على خديها وعنقها . كانت تلبس ثوباً محكماً على جسدها من المخمل العسلي اللون , وأدركت أنها تبدو جميلة , ما منحها ثقة بنفسها . قُرع الباب ففتحته دولسي , وإذا بغويدو وماركو واقفان عنده بملابس السهرة . كانا وسيمين بشكل لا يصدق شمل ماركو هارييت بنظرة استحسان : (( هذا حسن , كما كنت أرجــو بالضبط . هذه ستبدو رائعة عليك )) . فتح علبة سوداء وأخرج منها سلسلة ذهبية حدقت دولسي إليها بعينين متسعتين قبل أن تمسك بيد غويدو وتخرج به من الغرفة بسرعة . فقال لها يعنفها وهما في الممر ![]() بدور العاشق . كان ذلك سيبدو مسلياً جداً )) . ـ ـ ما كنت سترى شيئاً , لأن ماركو ما كان ليتيح لنا فرصــة لذلك . إنما الآن بعد أن خرجنا , أراهن على أنهما مشتبكان بعناق مشبوب . ـ ما رأيك بأن نفعل مثلهما ؟ ـ كن حسن السلوك , ثم لدي مفاجأة لك . فلمعت عيناه : (( آه , أصبح الأمر مختلفاً الآن )) . وسمح لها بأن تقوده في اتجاه مختلف . لكن أملهما كان ليخيب لو شاهدا تصرف ماركو الهادئ وهو يرفع السلسلة المزخرفة ويضعها حول عنق هارييت ثم قال : (( كنت أعلم أن الذهب يليق بك )) . ـ حدقت هارييت في صورة المرأة التي واجهتها في المرآة وتملكها الذعر , لأنها لم تعرفها . هذه ليست هي , وإنما مخلوقة رائعة ذات سحر خالد . ـ شكراً لم أحلم قط أن بإمكاني أن أبدو بهذا الشكل . ـ أعلم هذا . أنت صائبة الرأي بالنسبة إلى الجميع ما عدا نفسك . لقد أدركت هذا عنك منذ اللحظة الأولى . نبرة خاصة في صوته نبهتها إلى أن أصابعه ما زالت على رقبتها . نظرت في المرآة فتقابلت أعينهما . ورأت في عينيه تألقاً لم يواجهها به من قبل . ثم بدا وكأنه ارتبك , فعاد الجمود إلى عينيه . ـ سألتهما لوشيا من عند الباب : (( هل أنتما جاهزان ؟ ابتدأ الناس بالتوافد )) . كان الخمسة الأخرون ينتظرون في الممر . حتى ليو ارتدى بذلة رسمية . ونظرت إيهم لوشيا التي بدت رائعة في الياقوت الأحمر , وهي تبتسم راضية , وتقول : (( شبان أسرة كالـﭭـاني وسيمون للغاية , وهم يجتذبون نساء جميلات , والآن فلنذهب جميعاً إلى الأسفل ونقتل المدعوين حسداً )) . نهاية الفصل (( الخامس )) . : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : | ||||||||||
![]() | ![]() |
![]() | #9 | ||||||||||
مراقبةومشرفةسابقة ونجم روايتي وكاتبة وقاصة وملكة واحة الأسمر بقلوب أحلام وفلفل حار،شاعرة وسوبر ستارالخواطر،حكواتي روايتي وراوي القلوب وكنز السراديب ![]()
| ![]() 6 ـ في عرين الأســد فكرت هارييت , وهي تقف في صف المستقبلين , أن تدفق الضيوف لن ينتهي أبداً . جميعهم من أصحاب المصارف ورجال الأعمال . هذه كونتيسا , وذاك دوق , وذلك بارون . . كان الجمع الحاضر كله من خيرة المجتمع والطبقات الرفيعة . أحست أنها محاطة من كل جهة بالثراء الفاحش , وتكهنت بــأن أقبية المصارف لا بد أخرجت ما يجوفها من مجوهرات وتيجان مرصعة وسلاسل متلالئة , تشير كل منها إلى أن لابسته يمكنها أن تنافس في الغنى أي امرأة هناك . كما يمكنها هي أيضاً ذلك , كما أدركت . ذلك أن الذهب المتألق الذي وضعه ماركو حول عنقها كان هو نفسه إعلاناً بذلك , وكذلك الخاتم . وارتجفت لدي التفكير في نفسها لابسة خاتماً لا يساوي أكثر من عشرة آلاف دولار بين هؤلاء الحاضرين . الخاتم الذي في إصبعها أخبر العالم كله بأن العروس التي اختارها ماركو كالـﭭـاني امرأة استحقت احترامه , وبالتالي يجب أن تستحق احترامهم هم أيضاً . أكثر النساء الحاضرات بدون أصغر سناً مما هن عليه لأن لديهن الوقت والمال لمحاربة السنوات . كم يلبسن أحدث الأزياء وأغلاها ثمناً , ليس لمجرد الترتيب والتأنق , إنما للاستعراض وربما للمعرض . . . عرض أنفسهن بدلاً من ثيابهن . هذا هو الأمر . ـ شعرت بقشعريرة من الخطر . وفجأة , تذكرت صوت أولمبيا يقول : ( معروف عن ماركو أنه يدمر النساء ) . كن يراقبنها بأعين متوهجة , أهو فضول , غيرة , أو سخرية ؟ أو كل هذا وأكثر ؟ شهوة , حسد , ذكريات , توقعات . . . بعض هذه المخلوقات الوقحات كن عشيقات له , ويردنها أن تعلم ذلك . وكن يحسبن كم سيبقى أميناً لها . ليس لمدة طويلة , كما يفكر بعضهن من دون شك . وهن يردنها أن تعلم ذلك أيضاً . إنها في عرين الأســد . ـ دفعها غضب مفاجئ إلى أن ترفع رأسها وتعدل كتفيها . لا يهم لو فُسخـت الخطبة بسرعة . الليلة على الأقل هو لها رسمياً , وستدافع عن حقها فيه . سألها ماركو : (( هل أنت بخير ؟ )) . ـ بأحسـن حال . ـ وأنا أصدقك . هنا غابة , لكنك قوية . ـ أنا لست خائفة , ولكن ربما عليهن هن أن يخفن فقال وهو يمنحها إحدى ابتساماته المشرقة النادرة : (( نعم تعالي )) . وقادها إلى باحة الرقص : (( دعينا نخبرهن بما يردن أن يعرفنه )) . وأخبر أولئك النسوة المستاءات ما كن يردن معرفته بالضبط . فرقصا الواحد في حضن الآخر الخد على الخد يتمايلان وكأن كلا منهما قد ذاب في الآخــر . ـ فكرت هارييت أن كل هذا زائف ومجرد عرض على الجموع . لكن البهجة التي شعرت بها لمجرد قربها منه كانت تشتعل داخلها مجدداً . كان ثوبها كاشفاً , ولكن بدلاً من أن تشعر بالخجل كالمرة الماضية , بدت مزهوة الآن . فقد أصبحت تعتقد بأنها تستحق أن يراها الآخرون , وكانت تريد من هذا الرجل بالذات , أن يعتقد ذلك أيضاً . وقد فعل , إذا صدقت النظرة التي بدت في عينيه . ـ قال بنعومة : (( أنت رائعة الجمال . لا أريدك أن ترقصي مع أي شخص آخــر )) . فقالت باسمة : (( إذن فلن أرقـــص )) . ـ لـسـوء الحظ يتوجب عليك ذلك , وكذلك أنا . ـ نعم وإلا سيخيب أمل كل أولئك النسوة . ـ إنسي أمرهن . ضحكت . وكانت قريبة من وجهه بحيث أدفأته أنفاسها , وشعرت به يرتجف : (( لن يعجبهن ذلك )) . فقال مرة أخـرى : (( إنسي أمرهن , آمـرك بذلك )) . ـ أنت تعطي الأوامر بسهولة بالغة , ولكن من غير الحكمة أن تخبرني بما علي أن أفكـر به . ـ فضاقت عيناه : (( لماذا ؟ )) . ـ لا ينبغي عليك قط أن تعطي أوامر لا يمكنك أن تنفذها بالقوة , كيف ستعرف أنني أفعل ما تريد ؟ ـ سآخــذ عدم قيامك بذلك أمراً مسلمـاً به , وبهذا لا يمكنني أن أخطئ . فقالت تغيظه مداعبة : (( أنت تفهمني كما أفهمك تماماً )) . ـ وماذا أنا برأيك ؟ ـ أنت طاغية . ـ وأنت سـاحرة . توقفت الموسيقى الراقصة , فألقى عليها نظرة جامدة قبل أن يفترقا إلى شركاء آخرين . رقصت هارييت مع الكونت كالـﭭـاني وغويدو , وليو , حتى وصلت أخيراً إلى البارون أورازيو مانيللي . ـ كانت قد قابلته بشك مختصر بداية السهرة . بدا لها أصغر مما توقعته . ليس شاباً لكنه ليس كبيراً في السن . ذا بنية قوية ووجه سمين وملامح متغطرسة . كانت قد كتبت إليه مرات كثيرة إلى حد تساءلت معه إن كان اسمها سيؤثر على استجابته . نظر إليها مقيماً ولكن من الصعب التكهن بما تعنيه نظراته . تقدم منها الآن طالباً الرقص معها وقد بدا من عينيه أنه تذكرهــا . وعندما دخلا الحلبة سألها : (( تساءلت لماذا كان اسمك مألوفاً . لقد كنت تكتبين إلي )) . ـ طوال سنوات . فالجميع يعرف أن مجموعة تحفك وتماثيلك أسطورية , لكنك تخفيها . ـ كان أبي وجدي جامعي التحف الفنية . أمــا أنا فأحب أن أمضـي أوقاتي بين الأحياء وليس الأموات . لماذا تريد شابة رائع الجمال مثلك أن تدفن نفسها في الماضي ؟ ـ أنا أعشق ذلك . إنه حياتي . ـ ـ من المؤكد أنه ليس كل حياتك . فزوجك سيرغب في اهتمامك . فقالت برزانة : (( وسيحصل عليه . إنما في حدود المعقول )) . قهقه ضاحكاً بصوت مرتفع , فالتفت الجميع نحوهما : (( ماركو لن يسمح لك بذلك )) . ـ ومن قال إنني سأسأله ؟ لن أتخلى عن عملي لمجرد أنني زوجة . فقال ضاحكاً : (( لقد ابتدأت أعجب بك . ربما علينا أن نتحدث أكثر من هذا )) . ـ عن مجموعتك ؟ وعن ذهاب إلى بيتك لرؤيتها ؟ ـ وكيف يمكنني أن أرفض طلبك ؟ احتك به شخص ما من الخلف , فقال : (( هل يمكننا الذهاب إلى مكان أقل ازدحاماً ؟ )) . ـ لو استطاعت أن تتسلل بعيداً للحظة , لما سبب ذلك أي أذى , كما أخذت تقنع نفسها . فهما سيذهبان إلى الغرفة المجاورة حيث تجري الحفلة أيضاً , ولكن الناس فيها أقل . ولكن في الغرفة التالية كان ثمة شخص يغني , فاستمرا في سيرهما حتى وصلا إلى الحديقة ووجدا مقعداً خشبياً تحت شجرة تدلت منها أنوار ملونة . ابتدأ مانيللي يتحدث عن الذهب والمجوهرات باسطاً سجــادة من الأعاجيب أمامها حتى بهرها . وابتعد عنها العالم الخارجي , ونسيت أين هي وماذا عليها أن تفعل الآن ؟ سرقها الوقت من دون أن تلاحظ عندما انفتح أمامها عالم جديد . وأخيراً قالت بحرارة : ((ولكن ما كان لك أن تخفي كل هذا . عليك أن تدع العالم بأجمعه يدخل بيتك ليرى تلك النفائس )) . أخذ يدها بين يديه : (( عليك أن تأتي إلى بيتي ذات يوم وسيكون من دواعي سروري أن أريك كل شيء )) . ـ سيكون ذلك رائعاً . ـ قال هذا بصوت خافت وهي تغمض عينيها وكأنها في حلم . لكن صوتاً بارداً بدد هذا الحلم : (( أنت تهملين ضيوفنا حبيبتي )) . كان ماركو واقفاً أمامها بابتسامة لم تصل إلى عينيه . كانت نظراته مسمرة على يدها التي كانت بين يديه . ـ سامحنا . قال أورازيو هذا وهو يقف من دون أن يترك يدها : (( في غمرة عجبي لاكتشاف سيدة مليئة بالحكمة والعلم بقدر ما هي رائعة الجمال , نسيت حسن السلوك واحتكرتها لنفسي . هل يمكنني القول , يا ماركو , كم أنت محظوظ في الحصول على حنان هذه الحلوة . . . ؟ )) . ـ التوت شفتا هارييت . كان هذه عرضاً مشيناً , إنما مسلياً . ثم استرقت نظرة أخرى إلى وجه ماركو . لم يجد أياً من هذا مسلياً . ثم استرقت نظرة أخرى إلى وجه ماركو . لم يجد أياً من هذا مسلياً وهو يقول بصوت فاتر : (( تبلغت التهنئة وأن أشكرك)) . كانت نظراته القاسية مسمرة على يد هارييت , فسحبتها بسرعة من يد أوزاريو بسرعة قبل أن يتركها , وهو يقول : (( لا تدعه يغيظك . لأنه يقول ذلك عمداً . كنه بدلاً من ذلك تأبطت ذراعه وعادت معه إلى البيت . وقالت تحاول إقناعه : (( لا تغضب )) . فقال بخشونة : (( لا أغضب ؟ أتدركين أن الليل قد انتصف تقريباً ؟ )) . ـ آه , رباه , أنا آسفة . ما كان لي أن أتأخر إلى هذا الحد . فقال بصوت متوتر : (( ربما بإمكاننا أن نناقش ذلك فيما بعد )) . أدهشها أن تراه يأخذ هذا الأمر جدياً . إنه يعلم أنها لا تهتم إلا بالنفائس التي في بيت أوزاريو . إنه رجل محنك وبإمكانه أن ينبذ ذلك جانباً . لكن غضبه الهادئ لم يترك شكاً في أن ذلك لمس منه وتراً حساساً . ـ ماركو . ـ ـ فلندع الحديث ند هذا الحد الآن . يجب أن يرانا الضيوف في أحسن مظهـر . ـ لكنك تعبس غاضباً في وجهي . ـ أنا لست كذلك . فهذا أسهل كثيراً . كان بعض الضيوف قد خرجوا إلى الحديقة وبإمكانهم أن يروا ماركو وهو يجذب عروسه إلى ذراعيه . فقالت : (( لا أظن . . . )) . فقال بعنف : (( إخرسي . . . إخرسي واجعلي المشهد يبدو حسناً )) . ارتفع الهتاف في الحديقة عندما شد ذراعيه حولها برغبة خشنة بينما استسلمت هي إلى عناقه . ما كانت لتختار أن يبدو الأمر بهذا الشكل , ولكن تملكها شعور بالذنب بأنـها عاملته بشكل سيء وعليها أن تساعده في إنقاذ كرامته . لو أنه فقط لا يحتضنها بهذه الشدة التي بدت للناظرين أشبه بعاطفة لا تنضب , بينما هي في الواقع غضب بالغ . وتمتمت : (( لا يا ماركو . . . هذا يكفي )) . فقال بصوت مرتجف : (( نعم . هذا يكفي لإقناعهم الآن , ولكن علينا أن نمثل دور العاشقين لبقية السهرة )) . ـ وأرخى قبضته فترنحت لحظة ورأسها يدور , واضطرت إلى التمسك به . بعض الضيوف الذين كانوا قد اجتمعوا على الشرفة قالوا جهاراً ما كان الباقون يفكرون فيه سراً . ـ ماركو , لقد جعلت الفتاة المسكينة يغمى عليها . . . ـ هكذا يكون العناق الرومنسي الحقيقي . ـ والآن , إنه يريد أن يتخلص منا بسرعة . وعلا الضحك . قالت لوشيا تنهر الشبان المشاغبين : (( هذا يكفي )) . فقال أحدهم : (( كنا نهنئه فقط , والآن , لو أن هارييت كانت لي . . . )) . فقال ماركو : (( لكنها ليست لك , فهي لي, ومن الأجدر بك أن تتذكر ذلك )) . كان صوته مرحاً ودوداً تقريباً , ولكن بعض المستمعين استشفوا النبرة الفولاذية الخافتة فيه , وأولهم المرأة الواقفة بين ذراعيه التي كانت ما زالت تشعر به يرتجف مثلها تماماً . وعندما تكلم , اشتدت ذراعه حولها بشكل غريزي , وأدركت هي أن هذه الرسالة لها هي بقدر ما كانت لهم . إنها تحذير . ونادى ماركو : (( هاتوا مزيداً من المرطبات . . . المرطبات للجميع )) . أسرع الخدم بزجاجات العصير , يملؤون الكؤوس الفارغة , ثم رفع ماركو يده يسكتهم : (( أنا أوفر الناس حظاً , فأروع امرأة في العالم وعدتني بأن تكون زوجتي . ولا أظن هناك سعادة أكبر من هذه )) . عجبت كيف يمكنه أن يقول ذلك , بينما يتهمها بأنها تخدعه ؟ كيف يمكنها أن تكتشف يوماً حقيقة تفكير هذا الرجل ؟ ـ إرفعوا كؤوسكم واشربوا معي نخب عروسي ! كلهم شربوا نخبها وانتهت السهرة بمرح صاخب . واستغرق حضور السيارات الفارهة لتأخذ الضيوف ساعة أخرى , بينما كان أفراد الأسرة بدعوتهم . ـ عندما توارت آخر سيارة , أغمضت هارييت عينيها إرهاقاً . عليها الآن أن تصلح الأمور بينها وبين ماركو . لكنها عندما فتحتها لم تجد له أثراً . رأتها لوشيا تنظر حولها فقالت لها : (( لا تقلقي , ربما يتحدث مع ابني عمه في مكتبه فلا تنتظريه )) . وافقت هارييت , فربما من الأفضل أن تدع غضبه يبرد أولاً . قبلت لوشيا ثم صعدت إلى غرفتها . كانت تنوي الاستحمام قبل الخلود إلى النوم , لكنها لم تستطع , شيء ما بالنسبة لهذه السهرة لم ينته بعد . مدت يديها إلى رقبتها محاولة أن تفك العقد الذهبي الثقيل , وهي تفكر كالعادة . . . ذهب أصلي من القرن السابع عشر , مزخرف بطريقة . . . آه , ومن يهتم بذلك ؟ من يهتم لشيء ما عدا النظرة التي رأتها في عيني ماركو عندما عثر عليها مع البارون ؟ ما هي أهمية أي شيء ما عدا ما كانت تعنيه تلك النظرة ؟ ثم رأتها مرة أخرى . لم تسمعه وهو يدخل الغرفة , وإذا به خلفها يزيح أصابعها جانباً لكي يفك لها القلادة . بدا وجهه مظلماً إلى حد توقعت معه أن ينتزع مها العقد انتزاعاً . لكنه رفعه بهدوء رغم أن أصابعه لم تكن ثابتة تماماً . قالت بلطف : (( لا أظنك ما زلت غاضباً . لقد كانت سهرة رائعة )) . فقال متوتراً : (( أنا مسرور لأنك استمتعت بها , ثم نعم , ما زلت غاضباً , فقد خدعتني )) . ـ ـ لمجرد أنني انخرطت في حديث مع . . . ؟ ـ لقد اختفيت من حفلة خطوبتنا مع رجل آخر , وبقيت معه قرابة ساعة , هل لذلك أي مبرر معقول ؟ ـ هل كانت غيبتي طويلة إلى هذا الحد ؟ لم أشعر بمرور الوقت كما أنني نسيت . . . ـ فقال بحدة : (( قولك إنك نسيت هو خطأ . شكراً , هذا كل ما كنت أحتاجه )) . ـ أنا آسفــة . أحال الغضب صوته إلى فولاذ : (( أقدر لك أن أفكارك عن السلوك هي غير تقليدية , ولكن ألم يخبرك أحد أنه يُفترض بالمرأة أن تفضل مرافقة خطيبها على مرافقة أي رجل آخر ؟ وإذا كانت لا تستطيع ذلك , عليها أن تتظاهر به من باب اللياقة والتهذيب , فلا يبدو رجلاً مخدوعاً أمام العالم كله . هل تفهمين ؟ )) . ـ طبعاً أفهم . آه , إسمع , أنا آسفة يا ماركو , آسفة حقاً , لم اقصد إهانتك , لقد انجرفت فقط . . . ورأت وجهه فقالت : (( قولي هذا زاد الأمر سوءاً , أليس كذلك ؟ )) . ـ ما تفعلينه يثبت أصلك الإنكليزي . أنت تظنين كون إسمك إيطالياً يجعلك واحدة منا . لكنني أقول لك إن الإسم لا يعني شيئاً . المهم هو القلب الإيطالي وأنت ليس لديك فكرة عن ذلك )) . حدقت هارييت إليه , وقد أذهلها أن هذا الرجل البارد المتحفظ الذي كانت تظن نفسها تعرفه , يقول شيئاً قاسياً كهذا . وهبت في وجهه تقول : (( كيف تجرؤ على القول إنني لست واحدة منكم ؟ إنه تراثي بقدر ما هو تراثك )) . ـ صحيح أن دمك شرق أوسطي حار , لكنه لم يعد له تأثير , وإلا لعرفت أن معاملة المرأة لزوجها شيء بالغ الأهمية بالنسبة إليه . ـ أنا لست امرأتك . ـ بل أن كذلك . وفكر لحظة ثم عاد يقول : (( أنت كذلك بالنسبة إلى الناس هنا . لكنك تظنين أننا مجرد صديقين حميمين , كما أننا رجل وامرأة مجردين من المشاعر . لكن الإنكليز فقط يفكرون بهذا الشكل )) . كان ينظر إليها وكأنه رجل غريب : (( مــاذا حدث ؟ ألا تحتملين قول الحقيقة ؟ )) . ـ فصرخت : (( هذه ليست الحقيقة )) . ـ بل الحقيقة وأنت تعرفين ذلك . أنت تلجأين إلى العالم الميت لأن العالم الحي كثير عليك ؟ قلبك مركز على الماضي حيث لا شيء يسبب الألم . ماذا تعرفين عن الكرامة أو الحب , أو العواطف المشبوبة ؟ إنها مجرد كلمات بالنسبة إليك . فصرخت : (( كان ذلك مني مجرد عدم اكتراث ولا علاقة له بالحب أو المشاعر . . . )) . ـ لكن علاقته قوية بالكرامة , كرامتي التي ذللتها أمام الجميع . ما الذي كنتما تتحدثان عنه طوال ذلك الوقت ؟ ـ وما الذي أتحدث عنه دوماً ؟ الآثار . أنت تعلم أنني كنت أريد الاتصال به لأنني أخبرتك بذلك وقلت إنك ستساعدني على زيارته . ـ يمكنك أن تنسي ذلك . فقدمك لن تطأ أبداً منزل ذلك الرجل . ـ أتراك تعطيني مزيداً من الأوامر ؟ ـ ـ فلنقل إنني أشير إلى ثوابت معينة . لقد خَلَف بيننا . وحيث إنك تعرفين هذا , من غير المعقول أن تسعي إلى صحبته . ـ ليست صحبته ما أسع إليها ولكن تحفه الفنية . ـ أنت لا تفهمين , أليس كذلك ؟ إذن دعيني أتكلم بوضوح . أنا أمنعك من الذهاب إلى بيته . ـ تمنعني . . . ؟ أنت تعطي الأوامر وأنا يُفترض بي أن أقول حـاضر . يا إلهي , أنت جئت إلى الشخص غير المناسب . لا بأس لقد تغيبت عن الحفلة وقتاً طويلاً . أنا آسفة , كان عدم مراعاة للمشاعر مني . ولكن الجميع في الحفلة كان يعلم أن خطبتنا مدبرة , وقد كان ادعاؤنا حسناً . ولكن ليس هنا أسرار في روما , كما قلت لي أنت بنفسك . وإذا كنت ستتحدث عن الكرامة , ماذا عن كرامتي أنا ؟ لم يكن في الحفلة امرأة الليلة لا . . . كيف أقولها بشكل مهذب ؟ لا تعرفك أكثر مما أعرفك أنا . ـ فقال وعيناه تلتهبان بشكل خطر : (( أتريدين أن تقولي إن هذا نوع من الانتقام ؟ )) . ـ لا . كلا طبعاً . ولكن لا أحد يظن أننا نعني , في الحقيقة , شيئاً لبعضنا البعض . . . فقال ساخراً : (( ( نعني شيئاً لبعضنا البعض ) ؟ ما الذي يزعجك في كلمة حب )) . قالت بغضب : (( لا علاقة للحب بهذا . لا يمكنك أن تغير العبارات كلما ناسبك ذلك )) . ـ أريد وعداً منك بألا تريه مرة أخرى . سواء كنت أنا هنا أم لا . فصرخت : (( بل سأراه إذا أنا أردت ذلك . والوعد الوحيد الذي يمكنني أن أقطعه لك هو أنني لن أعـدك بشيء )) . ـ أنا أنذرك . . . ـ لا تنذرني , فهذا لا يؤثر علي . ـ ـ أنت لن تريه مرة أخرى يا هارييت . وأنا أعني ذلك . ـ وإلا ماذا ستفعل ؟ ـ ستجدين نفسك على أول طائرة متجهة إلى إنكلترا . ـ ربنا بإمكانك أن تطردني من هذا المنزل , ولكن هل يمكنك أن تراهن على أنني لن أنتقل إلى فندق وأرى مانيللي كل يوم ؟ فضاقت عيناه : (( إياك أن تفعلي ذلك . أنا أنذرك )) . ـ هل تهددني ؟ ـ هذا ليس تهديداً بل إنذاراً . هل أنا واضح ؟ ـ تماماً , والآن دعني أكون واضحة . وخلعت الخاتم وقدمته له : (( هل هذا واضح بما يكفي ؟ )) . ـ تباً لك . وانتزع الخاتم منها بسرعة وألقاه بعيداً من دون أن ينظر أين وقع . حدقت إليه مصعوقة وهي تدرك انه على وشك فقدان السيطرة على نفسه : (( ماركو , أريدك أن تخرج الآن )) . واستدارت مبتعدة لكن يديه كانتا على كتفيها ترغمانها على مواجهته : (( لم أنته بعد )) . ـ حاولت أن تنتزع نفسها منه لكنه أبقى يديه في مكانهما حتى أذعنت له وقالت : (( دعني أذهب )) . ـ ربما عليك أن تلتزمي بالنصائح التي تسدينها . إياك أن تأمري بشيء لا يمكنك فرضه إلا إذا كنت تظنين نفسك من القوة بحيث يمكنك مقــاومتي . لم تجب , وإنما حملقت فيه بغضب بالغ . فتدلى شعرها على وجنتيها المتوهجتين . بدا أن مظهرها العنيف المتوحش قد فتنه , لأنه جذبها إليه فجأة محاولاً معانقتها . فقالت بصوت خافت : (( إياك أن تجرؤ . لقد انتهت خطوبتنا )) . فقال وهو يدنو منها أكثر : (( لا . لم تنته )) . حاولت أن تقاومه بكنه ثبتها بيديه الفولاذيتين , مانعاً إياها من الحركة , فأذعنت لعناقه . كانت تعيب عليه مازحة إصراره على تنفيذ ما يريد , لكنه كان يصر الآن والأمر ليس مضحكاُ . . . لأنه يملك القدرة التي لم يملكها رجل آخر على إثارة أحاسيسها . كان يعلم كيف يستعمل مهارته محركاً إياها بمهارة بين ذراعيه مرسلاً ارتعاشات من العواطف في داخلها , ثم وببطء , يعود فيكبح جماحه , وجماحها أيضاً . قالت بصوت مرتجف : (( كيف تجرؤ )) . كانت غاضبة للغاية منه لفرضه هذا عليها , والأكثر من ذلك أنه ابتعد حين بدأت تشعر بالاسترخاء . لم يجب . ولم تعرف حتى إن كان قد سمعها . كان وجهه مظلماً منزعجــاً وعيناه مسمرتين عليها وكأنهما تسألانها أسئلة لم تفهمها . ومرر يده على ذراعها مداعباً إياها بأصابعه . ـ الآن كانت ذراعاها مطلقتين وبإمكانها أن تدفعه عنها بعيداً غير أن الإرادة كانت تنقصها . أخذ يلامس وجهها مداعباً إلى أن وصلت أصابعه خلف أذنها , وكأنه كان يعلم أنها نقطتها الحساسة . أخذت نفساً مرتجفاً عندما سرى هذا الإحساس العذب في كيانها . لم يعد بإمكانها الإدعاء الآن , فهو سيشعر بخفقان قلبها الجنوني تحت أصابعه . لقد تحداها أن تقاومه , لكنها لا تستطيع أن تقاوم الأحاسيس التي تملكتها وجعلتها ترفع يديها ليس لتدفعه عنها بل لتعقدهما حول رأسه . اشتعلت الأحاسيس في كيانها بشكل لم تعرفه من قبل . لأنها , ربما للمرة الأولى في حياتها تشعر بالحياة مشرقة مثيرة . وتأوهت والتصقت به . شعرت به يتصلب ثم يجمد تماماً . رفع رأسه وهزه قليلاً , وكأنه يتساءل عما يحدث , ثم سمر نظراته على وجهها . أوشكت أن تصرخ إزاء التعبير الذي بدا على وجهه . لم ترَ انتصاراً كما توقعت , وإنما طيفاً من العذاب . ـ ماركو . . . فقال بصـــــوت أجش : (( لو رأيتك تفعلين هذا مع أي رجل آخر , لكنتُ . . . لكنتُ . . . )) . ـ انتظرته أن ينتهي , وهي تصغـي إلى أنفاسه السريعة وخفـقـات قلبها المرتفعة . كان هذا شخصاُ جديداً مرتبكاً معذباً بمشاعر عنيفة توشك أن تدمره . ليس ماركو الذي تعرفه . وأخيراً همست : (( سوف تفعل مــاذا ؟ )) . سرت في كيانه رجفة : (( هذا غير مهم )) . ارتجفت قبضته وتلاشت نظراته اللامعة تاركة عينيه حزينتين بشكل غريب . تمسكت بالأثاث , شاعرة بالأرض تهتز تحتها : (( ربما هو مهم )) . فقال بحدة : (( لا . انتهينا من هذا الـمــــوضوع الآن . وأنا آسف لتحذيري هذا لك )) . ـ ماركو . . . ـ أعدك بألا يحـــدث هذا مجدداً . ـ ماركو . * * * نهاية الفصل (( السادس )) . . . | ||||||||||
![]() | ![]() |
![]() | #10 | ||||||||||
مراقبةومشرفةسابقة ونجم روايتي وكاتبة وقاصة وملكة واحة الأسمر بقلوب أحلام وفلفل حار،شاعرة وسوبر ستارالخواطر،حكواتي روايتي وراوي القلوب وكنز السراديب ![]()
| ![]() 7 ـ فخـــور أم غيور استيقظت هارييت فجأة عند الفجر وجلست في سريرها تصغي إلى الصمت . ثم نهضت وسارت إلى النافذة وفتحتها لتنظر إلى الفناء الهادئ حيث تنتشر أشجار الصنوبر . ما زالت ذكرى الليلة الماضية حية في كل جزء منها . لقد رأت ناحية من ماركو لم تعرفها قط من قبل . كانت تعلم أنه مليء بالتناقضات , وأن بإمكانه أن يكون تارة ساحراً مغرياً , وطوراً أنانياً حذراً . لكنها لم تكن تعرف أنه قد يصبح خطيراً . فأثناء اللحظات القليلة التي أمضتها بين ذراعيه , كان الجو بينهما مشحوناً , لكنها شعرت بأنها حية كما لم تشعر من قبل , كان ذلك مذهلاً إنما حقيقياً . حاولت أن تستعين بالمنطق لتحلل ما جرى . فرأت أنه على الرغم من الاضطراب الذي لاحظته على ماركو , كان يحاول أن يثبت نقطة ما . ظن أنها خدعته وهو لا يتحمل ذلك . فأصلح الأمر أمام الضيوف , لكن الكرامة دفعته إلى استعراض سيطرته أمامها عندما كانا بمفردهما , أراد أن يريها أنها له , سواء شاءت أم أبت . ـ وقد نجح . إنها تعرف الآن أن أقل لمسة منه يمكن أن تذيبها . لكن تفكيره كان مختلفاً , كما خمنت و هي تستعيد صورة وجهه , وتحاول أن تقرأ عينيه . أراد أن يريها أنه , بينما لا يسمح لنفسه بأن يكون لها , ليس لها خيار سوى أن تكون له . عندما رفعت عينيها إلى تلال روما البعيدة , استطاعت أن ترى وهج . الشمس الشارقة . كانت السادسة صباحاً تقريباً . ولا بد أن ماركو قد استيقظ الآن وهي تريد سماع صوته , لكن هاتفه كان مقفلاً وعندما اتصلت بشقته لم يجب أحد , لكنها لم تترك له رسالة وكيف بإمكانها ذلك وهي التي لا تدري ما تقول له ؟ كانت بحاجة إلى الخروج من البيت . ارتدت بسرعة بنطلون جينز وكنزة ثم خرجت من المنزل وسارت في طريق متعرج . تلك هي حياتها الآن : طريق متعرج مجهول الوجهة والمصير , صوت من داخلها نبهها إلى أن تعود إلى الوطن , لكن ألماً حلواً مراً في قلبها أرادها أن تبقى . وصلت إلى بحيرة صغيرة ثم ابتدأت تسير على ضفافها , مستمتعة بجمال النهار . كان ضباب الصباح قد تلاشى , والضياء متوهجاً وقد ارتفعت أغاريد الطيور في الجو . أين هي . ـ ثم رأت ما جعلها تقف حاسبة الأنفاس . كان هناك رجل جالساً على الأرض مستنداً إلى الشجرة , وما زال في ثياب الليلة الماضية نفسها , ما عدا سترته التي كان قد ألقى بها جانباً . كان قميصه مفتوحاً إلى منتصفه , ورأسه مستنداً إلى الخلف مُظهراً عنقه القوي الأسمر . جلست بهدوء بجانبه فرأت عينيه مغمضتين وكأنه نائم , كان التوتر الآن قد زال عن ملامحه , ورق فمه وكأنه لم ينطق قط بكلمات خشنة قاسية . بقيت هناك فترة تنظر إلى وجهه غير الحليق , وشعره المتدلي على جبهته , وشعرت بحنان لم يوح به إليها قط من قبل . كانت تعلم أنه سيكره فكرة أن يتفحصه أحد بهذا الشكل , لكنها لم تستطع أن تشيح نظرها . . . وفتح عينيه . ـ بدلاً من أن يبدو غاضباً , أدهشها مرة أخرى إذ بقي جالساً , ببساطة , دون حراك , يحدق فيها طويلاً إلى حد تساءلت معه عما إذا كان يراها فعلاً . وأخيراً ذهبت النظرة الذاهلة من عينيه ليحل مكانها ألم عاجز . ـ هل أمضيت الليل بطوله هنا ؟ ـ نعم , منذ تركتك . ـ ظننتك ذهبت إلى البيت . ـ كان علي أن أبتعد عنك , لكنني لم أستطع أن أتركك . إذا كنت تفهمين قصدي لقد فهمت قصده تماماً . فعندما خرج كالعاصفة الليلة الماضية , شعرت بانقباض في صدرها , وكأنها كانت متصلة به بخيط غير مرئي . وأدركت الآن أنه شعر به , هو أيضاً . جلست بجانبه , وأمسكت يده الباردة وأخذت تدلكها . تركها تفعل ذلك , وقد بدا أن الإرهاق يمنعه من أي ردة فعل , لكن عينيه كانتا على يدها الخالية من الخاتم . ـ فقالت تفسر له الأمر : (( لم أبحث عنه بعد . قد يكون في مكان ما في تلك الغرفة الفسيحة . إفرض أننا لم نعثر عليه ؟ )) . اكتفى بهزة بسيطة من كتفيه . وبعد لحظة تحركت أصابعه لتمسك بأصابعها , ثم سألها بهدوء : (( هل أنت بخير ؟ )) . ـ نعم , أنـا بـأحـسـن حــال . ـ هل أنت واثقة ؟ أنا سيء الطباع , مع الأسف . ـ لم تكن تحاول أن تؤذيني . فقال بصوت أجش : (( لا . لا فقط كنت أحاول أن أثير انتباهك )) . والتوت شفتاه قليلاً : (( في صغري , اعتدت مواجهة الإحباط بالصراخ . عند ذلك يصغي إلي الناس )) . فقالت برقة : (( نعم , كان علي أن أتكهن بذلك )) . ـ حان الوقت لكي أصبح كبيراً على هذه الأشياء , أليس ذلك ؟ ـ الناس لا يغيرون طباعهم . أنت لم تخفني . ـ الحمد الله , لأن هذا آخر ما كنت أريد . أرجوك يا هارييت إنسي كل شيء عن الليلة الماضية . ـ ـ كل شيء ؟ هل تعني . . . ؟ ـ كل شيء . إذهبي إلى بيت مانيللي متى شئت . وأعدك بألا أثير المشاكل مجدداً . ما مضى قد مضى . وما حصل كان نوعاً من الجنون لا أكثر . ـ ولكن ماذا حدث لك يا ماركو ؟ ـ لا أستطيع تفسير ذلك , لكن هناك شيئاً مـا لا أجد له تفسيراً منطقياً . دعينا فقط نقول إنني أغار بسهولة . إنني متملك , وهذا ليس حسناً . آسف . ـ ليس هناك ما يستوجب غيرتك . ـ أعلم ذلك , ولكن هناك أشياء لا يمكنني نسيانها . ـ عن تلك المرأة ؟ تلك التي كنت ستتزوجها ؟ فتململ : (( وماذا تعرفين عنها ؟ )) . ـ ليس الكثير . كنتما مخطوبين ثم غيرتما رأيكما . ساد صمت طويل , ثم قال وكأنه ينتشل الكلمات من هوة مخيفة : (( كان الأمر أكثر تعقيداً بقليل من ذلك )) . ـ فقالت تستدرجه : (( فسخ الخطوبات لا يتم دائماً للأسباب نفسها )) . فأومـأ : (( صحيح . على أي حال ! إنه يجعلني أتصرف بشكل غير منطقي . آسف )) . ضغطت على يده تطمئنه وهي تفكر أنها لم تر في حياتها رجلاً تـعيساً هكــذا . وقال بضعف : (( عندما تعثرين على الخاتم , هل ستلبسينه ؟ )) . فترددت : (( لا أدري )) . فانفجر ضاحكاً : (( إذا رحلت بهذه السرعة بعد حفلة الليلة الماضية , ستكثر الأقاويل . وكذلك . . . )) . وعاد هدوئه : (( سيؤذي هذا أمي إلى درجة كبيرة )) . ـ لن أرحل . . . حالياً . ـ شكراً . ومال إلى الأمام فجأة مريحاً رأسه عليها كئيباً يائساً فأحاطته بذراعيها , متلهفة إلى مواساته , لكنها كانت تعلم أنها لم تصل إلى أعماقه . أحنت رأسها وأراحت خدها على شعره الأشعث . حاولت أن تجعله يعلم من خلال قوة عناقها له بأنها إلى جانبه . وظنت أنها شعرت بذراعيه تشتدان حولها وكأنه وجد شيئاً هو بحاجة إلى التعلق به . ـ جلسا دون حراك بينما سرت السخونة في جسدها . كان إحساساً مختلفاً لم تعهده من قبل . كان أشبه برغبة عنيفة في حمايته . أشبه بالحب ! . يا للكارثة ! لم تكن تنوي أن تحبه , وهي ليست واثقة أنها تريد ذلك . لقد وقعت في الشرك قبل أن تعرف بوجوده . لماذا لم يتابع شجاره معها ؟ كان ذلك سيسهل أمـر فراقهما . . . هذا ليس عدلاً ! ابتعدت عنه , فدفع شعره إلى الخلف وقد سقط على جبينه : (( أظنني أبدو كالمتشرد )) . فقالت بحنان : (( قليلاً )) . ـ ابتدأ ينهض ثم أجفل : (( عضلاتي متصلبة )) . ـ لا يدهشني ذلك ما دمت أمضيت الليلة هنا . دعني أســاعدك . وضع ذراعاً حول عنقها ثم وقف متألماً , حاملاً سترته المتسخة بأوراق الشجر . وقالت : (( الأرض رطبة . كان من الممكن أن تصاب بذات الرئة )) . ـ اعتدت كثيراً النوم في العراء عندما كنت طفلاً . هناك في الغابة كنت أنصب خيمة وأتظاهر بأنني من جماعة المتمردين . فقالت وهي تريد أن تطيل هذه الفترة الحلوة بينهما : (( أرني المكان )) . ـ حسناً . قادها خلال الأشجار , بينما كانت ذراعاه لا تزال حول كتفيها . ثم صعدا مرتفعاً يؤدي إلى فسحة مسطحة من الأرض : (( هنا اعتدت أن أنام تحت النجوم )) . ـ ـ إنه مشهد رائع . ـ نعم , ولا يمكن ( للعدو ) أن يقترب منك على حين غفلة . فقالت : (( كم كان عددكم ؟ )) . ـ أنا فقط . كنت أحسد ليو وغويدو لأنهما شقيقين . لقد افترقا في الواقع عندما كان غويدو في العاشرة وأخذه العم فرانسيسكو ليعيش في البندقية , تاركاً ليو في توسكانيا لكنني دوماً كنت أفكر فيهما بأنهما أخوين . ـ من المؤسف أنك لم تحظَ بأخوة أو أخوات . ـ مات أبي باكراً , ولم تشأ أمي أن تتزوج بعده . ـ ولكن لا بد كان لك أصدقاء . ـ في المدرسة فقط . يبدو أن طفولته كانت حزينة , كما أخذت تفكر وهي تأسو لوحدة الصبي الصغير وللحياة التي عاشها بعيداً عن فتيان عائلة كالـﭭـاني وجلبتهم . ـ يمكنك أن ترى روما بأسرها من هذه البقعة . في الليل كنت أجلس تحت هذه الشجرة وأنظر إلى الأضواء . هنا بالضبط . ووضع سترته على الأرض وأشار إليها بأن تجلس عليها بجانبه . فقالت وهي تفسح له : (( وأنت أيضاً )) . جلسا معاً ووجدت يده طريقها إلى يديها . ـ وقالت : (( هذا مكان رائع . افهم رغبتك في مداومة القدوم إلى هنا )) . لم يجب . وانتبهت إلى ثقل على كتفها فالتفتت لترى رأسه على كتفها , وقد أغمض عينيه مرة أخرى . رأت الآن شيئاً آخر في وجهه . كان منهكاً ولم يكن لذلك صلة بقلة النوم . لقد انزاح التوتر والاستنزاف ليحل محلهما إرهاق عميق بدا وكأنه قد تسرب من ماضٍ بعيد أليم . لم يسبق أن فكرت قط في أن تشفق على ماركو , لكنها تشعر الآن بالشفقة عليه إلى حد لم تفهمه تماماً . حان الوقت لكي تصل إلى أعماقه لترى ما هي مشكلته . وبرفق , رفعت شعره عن جبهته . تحرك وفتح عينيه ونظر مباشرة إلى عينيها الباسمتين . قالت بحنان : (( لقد نمت مجدداً )) . ـ ـ عدة دقائق فقط . ثم رأت النظرة التي كانت قد أخافتها , وكأن ستاراً نزل على عينيه . تبدد الضوء من عينيه تاركاً فراغاً متعمداً . ثم تركها ونهض واقفاً من دون أن يسمح لها بمساعدته هذه المرة . قدم لها يده ليساعدها على النهوض , فأخذها ونهضت بسرعة كادت معها تفقد توازنها . تأملها ويده الأخرى على ذراعها , لكنه لم يجذبها إليه كما كان بإمكانه أن يفعل بسهولة . أدركت بذعر أن كل شيء قد ذهب , الحرارة والصلة التي كانت من قبل . أصبحت عيناه الآن يقظتين , وربما أصبح أكثر حرصاً عليها لأنه سمح لها بأن تقترب منه . سألها وهو ينظر في ساعته : (( كم الساعة ؟ علي أن أذهب الآن . آسف لتحميلك عبء هذا كله )) . ـ فقالت محاولة الرجوع إلى داخله : (( أنا مسرورة لأننا تحدثنا فقد أصبحت أفهمك الآن بشكل أفضــل )) . فهز كتفيه : (( وماذا هناك لتفهميه ؟ لقد تصرفت بشكل سيء مع أسفي الشديد , وكنت أنت صبورة جداً معي , ولكنك لست مضطرة لتحمل طبعي لأنني لن أثور عليك مرة أخرى )) . كادت تقول : (( حتى ولا عندما نتزوج ؟ لكن لسانها لم يطاوعها . كل ما كان مؤكداً منذ لحظة , فقد توارى الآن في الوهم . فهي لم تعد تعرفه . قامت بمحاولة أخيرة : (( الطباع الحادة ليست أسوأ شـيء في العالم . ربما لا ينبغي أن يكون الناس مهذبين طوال الوقت . أنا لم أكن مهذبة جداً معك الليلة الماضية وأنت . . . )) . ـ ـ ردة فعلي كانت عنيفة مع الأسف لكن هذا لن يحدث مجدداً . والآن , هل يمكننا أن ننسى الموضوع ؟ ودعك ذقنه غير الحليقة : (( الأفضل أن أعود إلى البيت لأستحم . لا أريد أن تراني أمي بهذا الشكل . وأرجوك لا تخبريها بشيء )) . ـ طبعاً لن أخبرها . عادا صامتين , وعندما بدا أمامها المنزل قال : (( أدخلي أولاً وأشيري إلي إذا كانت الطريق سالكة , لا , انتظري ! )) . أمسك بيدها وجذبها عائداً بها إلى داخل الأشجار عندما ظهرت لوشيا عند الباب الخلفي . ووصل صوتها إليهما : (( من ترك هذا الباب مفتوحاً ؟ من المؤكد أنه لم يكن كذلك طوال الليل )) . فقالت هارييت وهي تتقدم نحوها لوشيا : (( أنا من فتحه . لقد خــرجت باكراً لأتمشى )) . وركضت صاعدة الدرجات لتقبل لوشيا وتسحبها إلى الداخل وهي تثرثر معها , ولكنها في الحقيقة كانت تقوم بمناورة لتدخلها إلى المنزل . قاومت رغبة في النظر إلى الخلف , ولكن خيل إليها أنها تسمع خطوات تصعد الدرجات بخفة . ـ بعد ذلك بنصف ساعة , انضم ماركو إليهما على مائدة الفطور بعد أن اغتسل وحلق ذقنه . شكر أمه بظرف بالغ لنجاح الحفلة , ومدح نجـــاح هارييت في أول ظهور لها في المجتمع . ولم يذكر أي شيء آخــر . * * * بعد أيام قليلة جـاءت دعوة إلى حفلة في (( قصر مانيللي )) . وقالت لوشيا بدهشة : (( لم يسبق أن دُعينا إلى هناك من قبل ! )) . فقال ماركو : (( إنه في الواقع يريد هارييت يا أمي فهي تريد أن ترى مجموعته )) . ـ ومنح هارييت ابتسامة سريعة : (( هذا سيمنحك الشهرة . لم يتحقق هذا الامتياز لأحد من قبل . طبعاً سنقبل الدعوة )) . عادت الأمور في الفيلا إلى سابق عهدها , وكانت لوشيا الدائمة الانشغال بالجمعيات , سعيدة كون ضيفتها تمضي أوقاتها في المتاحف ومعارض الفنون . كانتا تتلاقيان لتناول العشاء في المنزل أحياناً وأحياناً في أحد المطاعم قبل الذهاب إلى الأوبرا . وفي المناسبات كان ماركو ينضم إليهما فقد أدركت هارييت أنه مولع بالأوبرا . ـ وكانت هارييت قد عثرت على الخاتم فراحت تلبسه في المناسبات قائلة للوشيا إنها تخاف عليه أن يضيع إذا لبسته دوماً . ولبسته عندما دعاها ماركو للغداء في المصرف مرة أخرى . كان مسروراً لكنها عرفت بأنه كان يرسل إليها برسائل صامتة بأن لا سبيل للعودة إلى تلك اللقاءات القصيرة الحميمة التي عرفاها . ـ قال لها بنعومة : (( أنت خائفة من أن أثير مشكلة في حفلة مانيللي , لكنني وعدتك بألا أفعل ذلك . ولا أحد سيظن شيئاً إذا ذهبت عالمة آثار مهمة مثلك للتفرج على مجموعته . لا , لا تنظري إلي بارتياب , فأنا أقر الآن بشهرتك العالمية . ذلك أن عدداً من زملائي هنا عرفوا اسمك وطلبوا التعرف إليك )) . ورفع كأسه : (( أنا فخور جــداً بخطيبتي )) . بخطيبته , وليس بها , كمـا لاحظت . * * * يقع قصـر مانيللي في وسط الجزء القديم من روما قرب كنيسة القديس بطرس . كانت الأنوار تتألق من النوافذ الواسعة والأبواب عندما وصلت سيارتهم . وكان البارون واقفاً لاستقبالهم . تملكت البهجة هارييت منذ اللحظة الأولى , إذ كانت تعلم أنها تبدو في أحسن حالاتها في ثوبها الحريري والعقد الياقوتي الذي أهداها إياه ماركو . وكانت تعرف معظم المدعوين . ـ رافقها ماركو في البداية ليقدمها إلى بعض الغرباء , مبدياً زهوه وإعجابه بها . ثم توارى عنها كما وعدها ووجه انتباهه إلى الضيوف الآخرين . وكان بإمكان هؤلاء أن يشغلوه طوال السهرة . كل ما كانت تطلبه خطيبته هو نظرة بين الحين والآخر ليرى إن كانت بحاجة إلى عون منه , لكن يبدو أنها لم تكن بحاجة إلى أي مساعدة , ذلك أن ثقة هارييت بنفسها قد ازدادت وكذلك سرعة بديهتها . الأمر الذي أذهل ضيوف مانيللي من دون استثناء . هذا بالإضافة إلى أن التحول الجسدي الذي أصبحت عليه , جعل منها شخصية مؤثرة . لم تكن جميلة , لكنها رائعة الشخصية . وبدا وكأنها لفتت انتباه كل رجل في الحفلة . ـ قالت أمه تعنفه : (( ماركو , كيف لك أن تهمل هارييت المسكينة ؟ )) . فأجاب ماركو بهدوء : (( مسكينة ؟ هارييت ناجحة تماماً من دوني . هل يبدو عليها أنها مهملة ؟ )) . فردت لوشيا بحدة : (( الرجال حائمون حولها . واحد منهم يبدو وكـــأن لعابه يسيل وهو ينظر إليها , وآخــر لا ينفك ينظــر إليها بلهفة )) . ـ ماما , الرجل الذي ينظر إليها بلهفة يملك النسخة الأصلية لتمثال مايكل أنجلو . ـ قال ماركو هذا وكأنه يفسر كل شيء : (( لا يمكنني أن أنافس كل هذا . وكل ذلك بريء للغاية )) . ـ هه . . . مانيللي ليس بريئاً إنه أحد أسوأ رجال روما . ـ لكن هارييت بريئة , وهذا هو المهم ثم أخــذ نفساً حاداً . ـ ما الأمر , يا ولدي العزيز ؟ لماذا تبدو بهذا الشكل ؟ فأجاب وهو يتمالك نفسه : (( لا شيء . أرجوك ألا تزعجي نفسك بهذا الأمر , يا أمـي . هل تسمحين لي بلحظة ؟ )) . ـ وابتعد عنها مسرعاً , شاعراً بأنه إذا لم يستطع أن ينفرد بنفسه حالاً , فسيختنق وفي الحقيقة استطاع أن يتجنب الأضواء والضحكات ويجد الوحدة تحت الأشجار المظلمة . وكان يتصبب عرقاً لما حدث لتوه . لقد قال : ( هارييت بريئة ) وكلمة ( بريئة ) صدرت كقنبلة هشمت الجدار الزجاجي الذي أقامه بينه وبين الماضي . ـ ( إنها بريئة . . . بريئة ) هذا ما قاله عندما حاول أصدقـاء أن ينبهوه إلى المرأة التي منحها قلبه ذات يوم , ورفض أن يصدق ما يقال عنها من شائعات . كان مجرد حب أعمى . . . أعمى وغبي . . . غلطة لا يمكن أن تتكرر أبداً لأنها لم تكن بريئة , وقد عرف ذلك بطريقة قاسية كادت تدمره . لقد عادت الذكريات إليه الآن , فتركته يرتجف كرجل تفترسه الحمى . لكن هارييت كانت مختلفة . فهي ليست بريئة وحسب , بل صريحة وهذه علامات الصدق . ـ بعد فترة , تمالك نفسه , وعندما تأكد أن بإمكانه الظهور بشكل طبيعي , عاد إلى الحفلة بابتسامة عريضة دون أن يسمح لعينيه بالبحث عنها . وكانت هارييت تستمتع بنجاحها . بعد أن دار بها ماركو في أنحاء المكان في البداية , تركها وابتعد مبتسماً تاركاً إياها لاهتماماتها , وبعد ذلك أخذ يسلي نفسه مع أكثر النساء جمـالاً , وهذا ما ناسبها تماماً , كما أخذت تفكر . ناسبها تماماً . ـ ثم , رأت من أزاح كل تلك الأفكــار من ذهنها . ـ اولمبيا . كانت أختها قد وصلت لتوها , فاندفعت نحو هارييت فاتحة ذراعيها فعانقتها وهي تهمس لها : (( سمعت الكثير عنك . هل خُطبت حقاً لماركو ؟ )) . ـ فقال هارييت بجفــاء : (( لست واثقة )) . تراجعت أولمبيا ونظرت إليها : (( أريد أن أعلم الحقيقة منك )) . فضحكـت هارييت : (( وإلا لما كنت أولمبيا . أين كنت طوال تلك المدة ؟ )) . ـ في أميركا مع والدي . ما زالا هناك . لكنني عدت اليوم , ثم أسرعـت إلى هنا لأنني سمعت أن ( ماركو وعروسه ) سيكونان في الحفلة . آه , يا أختي الماهرة . حصلت على شروطك إذن ؟ ـ حســنـاً . . . ـ طـبـعـاً فعلت هذا . هــذا الخاتم يا عزيزتي . . . لا بد أنه كلف . . . فضحكت هارييت : (( لا تبدإي . . )) . ـ ـ مـعـك حـق . مثلي دور الـــهـدوء . دعيه يـتـكهن . هـذا هـو السبيل إلى ماركو , وإلى الآخرين أيضاً . يقولون إنك جعلت مانيللي يأكــل من يـدك . ـ سيأخذني في جولة يريني فيها نفـائسه . ظهر مانيللي في تلك اللحظة ثم أخــذ المرأتين معه في جولة في منزله الفخم . تكلم جيداً وبشكل مفيد . وسرعان ما بان السأم في عيني أولمبيا , فاعتذرت ثم هربت , من دون أن يلحظها أي منهما . وعندما عادت إلى الحفلة أحــاط بها المعجبون , فشقت طريقها بينهم حتى وجدت ماركو . لم يرها منذ اليوم الذي عرض فيه الزواج عليها فرفضته في خمس ثوانٍ . وتبادلا التحية بمودة . قالت مداعبة : (( لم أكن أعلم ماذا فعلت عندما اقترحت عليك هارييت , أليس كذلك . هل أسأت إليك بذلك ؟ )) . ـ لا , أبداً . هارييت خيار ممتاز , ما عدا عادتها في الغياب مع رجـــال آخرين أثناء الحفلات . ـ آه , مانيللي يريها فقط لوحاته . لا حاجة بك للغيرة . ـ لا تكوني سخيفة . أنـا طبعاً لا أغــار . ـ ـ لا بأس . لا تصرخ بي . هارييت شخص مليء بالمفاجآت , كما أظنك صرت تعلم . علي أن أعترف بأنني نصحتك بها فقط لكي أغيظك . فقال ببرودة : (( كان علي أن أتوقع منك مثل هذه الدعابات . أنت لم تكبري منذ طفولتك عندما كنت أنقذك من على الأشجار التي كنت تتسلقينها . يمكنني أن أعتني بنفسي ولكن هل فكرت أنك بذلك ربما تؤذين هارييت )) . ـ ـ أتعني أنها قد تكون قد وقعت في حبك ؟ هذا هراء , يا عزيزتي . مــا كنت لأفعل هذا لو لم أكن واثقة منه . فأنا أعلم أنك غير قادر على الحب . وهي أيضاً , ألم تعلم أنت هذا بعد ؟ قالت هذا ضاحكـة , ثم ســارت في طريقها موفرة عليه ضرورة الإجابة . * * * نهاية الفصــ ـل (( السابع )) . . . : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : | ||||||||||
![]() | ![]() |
![]() |
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|