1 ـ
أريــد زوجـــاً !
(( هل تتزوجني , غارد )) ؟ .
أخذت (( روزي )) تــــذرع أرض غرفتها , وقد توترت ملامحها ,
وانقبضت يداهـــا , كمـا أظلمت عيناهــــا الزرقاوان , الصريحتان فــي
العادة , وهي تكرر نفس الكلمات مرة بعد مـــرة بصـــوت خافت ومع
ذلك ما زالت غير واثقة من أنها ستتمكن من قولها بصوت عــال : (( هل
تتزوجني ؟ هل تتزوجني ؟ هل تتزوجني ؟ ))
ها أنها قالتها , وإن لم تبد الكلمات بالحزم والتأكيد المطلوبين .
على أي حال , اجتازت الآن الحاجز الأول , وبإمكانها إذن اجتياز
الآخــر . . . هكذا أخذت تحدث نفسها بشجاعة .
ابتلعت ريقها بصعوبة , ثم نظرت إلى التليفون القائم بجانب
سريرها : (( لا فائدة من التردد , ومن الأفضــل الانتهاء من هذا الأمر
الآن ! )) .
ولكن ليس هنا ! ليس وحدها في غرفتها المنعزلة بينما هي . . .
وحولت عينيها فجأة عن غطــاء السرير المزين بباقات الأزهار , بذوق
الفتيات الصغيرات . فقد كانت في الرابعة عشرة عندما اختارته , بينما
هي الآن في الثانية والعشرين تقريباً .
في الثانية والعشرين ! ولكنها ما زالت بالسذاجة والبساطة التي
كانت عليها . . . أو هكذا قيل لها .
شعرت بغصة في حلقها , وهي تتذكر من قال لها هذه الكلمات .
فتحت باب غرفتها , ثم أسرعت تهبط السلم . ستستعمل تليفون
الغرفة التي كانت مكتب أبيها وجدها من قبل . من الأفضل أن تقول
تلك الكلمات من غرفة المكتب تلك , فهذا يمنحها وزناً وكرامة .
رفعت السماعة ثم أخذت تدير الأرقام , توتر جسمها وهي تسمع
الرنين . ثم قالت للفتاة التي أجابتها من الطرف الآخر :
ـ أريد (( غارد جيميسين )) , من فضلك ! أنا (( روزي وندهام )) .
أخذت تنتظر الاتصال وهي تقضــم باطن شفتها السفلى
متوترة . . . وهذه عادة تملكتها منذ طفولتها وظنت أنها تجاوزتها .
ـ الأطفــال فقط يفعلون هذا , أمـــا النساء . . .
كان هذا ما حذرها منه غارد عندما كانت في الثامنة عشرة .
ثم سكت حينذاك ونظر إليها ساخراً , ما جعلها تســأله دون
تفكير : (( مــاذا تفعل النساء ؟ )) .
مال إلى الأمـــام وأشــار إلى شفتها السفلى المتورمة , ثم قال
بالسخرية نفسهـــا :
ـ النساء , يا روزي العزيزة البريئة , لا يكون هذا الأثر على
شفاههن إلا بفعل عــاشق . . .
لقد ضحك طبعاً لاحمرار وجنتيها . هذا هو غارد ! (( لو كان عاش
في الزمن القديم , لكان قاطع طريق أو قرصاناً . . . رجلاً لا يهتم
لأحد ويضع بنفسه قوانينه وأنظمته )) ! هذا ما كان يقوله جدها على
الدوام . جدها الذي كانت تشعر أنه يكن له دوماً نوعاً من العطف
رغم عدم اعترافه بذلك .
ـ مــاذا تريدين يا روزي ؟ ماذا حدث ؟
دفعتها خشونة صوته إلى تشديد قبضتها على السماعة مدركة أنه
ما زال يثير في نفسها الإضطراب . هذا رغم أنها تعلمت أثناء نضجها
كيف تتجاهل تعليقاته الساخرة التي ما زال يعذبها بها أحياناً .
لم يكن يتصرف على هذا النحو مع النساء الأخريات , بل كان
يفيض معهن إحساساً ودفئاً . لكنه , طبعاً , لا يعتبرها امرأة , وإنما
فقط . . .
ـ روزي هل ما زلت على الخط ؟ .
أعادها الضيق الذي بدا على صوته , إلى الواقع . تنفست بعمق :
ـ نعم , ما زلتُ هنا ! غارد . . . هناك شــيء يا غارد أريد أن
أســألك عنه الآن . . .
ـ لا أستطيع الكلام الآن , يا روزي ! إنني بانتظار مكالمة هامة .
اسمعـــي ! سأزورك هذه الليلة ونتحدث في ما تريدين .
شعرت روزي بالذعر , وقالت على الفـــور :
ـ لا ! لا !
تريد أن تســأله من مسافة بعيدة . إنها لا تريد أن تعرض عليه
الزواج وجهاً لوجه . وغصت بريقها , لكنه كان قد وضع السماعة فلم
تستطع إخباره بأنها لا تريد رؤيته .
عندما وضعت سماعتها , أخذت تحدق في أنحاء الغرفة بحزن .
أربعمائة عام من التاريخ تنام في هذه الغرفة من هذا المنزل الذي
أنشــئ هنا منذ وهبت الملكة اليزابيت الأولى قطعة الأرض لـ بيبرس
ويندهام , هدية مقابل خدمات أداها لها . هكذا قيل رسمياً , لكن
الشائعات حينذاك قالت إنها مقابل علاقة شخصية حميمة .
أطلق (( بيرس )) على المنزل اسم (( مرج الملكة )) اعترافاً منه بكرم
اليزابيت . لم يكن منزلاً فخمــاً , حتى ولا فسيحاً . لكنه في نظر روزي
كان فسيحاً للغاية بالنسبة إلى شخص واحد , أو حتى أســـرة
واحدة . . . خصوصاً عندما علمت أثناء عملها في الملجـــأ كم من
الناس دون مأوى وفــي حاجة ماسة إلى سقف فوق رؤوسهم .
آخر مرة طرقت هذا الموضوع مع غارد , قال لها ساخراً معنفاً :
ـ لو كان لك الخيار ماذا كنت ستفعلين ؟ تسلمينهم المنزل ؟ ثم
تتفرجين عليهم وهم ينتزعون خشب الجدران ليستعملوه حطباً في
المدفــأة ؟ تتفرجين عليهم وهم . . . ؟ .
احتدت حينذاك بغضب :
ـ هذا ليس إنصافاً ! أنت غير منصف . . .
حتى (( رالف )) , المسؤول عن الملجــأ , قال في أكثر من مناسبة
إنها غير واقعية , وإنها مبالغة في المثالية ورقة القلب , كما أن ثقتها
بالآخرين هي أكثر مما يجب . خُـــيل إليها أن رالف يميل إلى
احتقارها , إذ كان , منذ البداية , عدائياً نحوها , ساخراً من بيئتها التي
نــشأت فيها ولهجتها المميزة , مديناً ثروتها وأسلوب حياتها , مقارناً
كل ذلك بحياة أولئك القانطين في الملجــأ .
قال ذات مرة , هازئاً :
ـ إن قيامك بعمل إنساني يجعلك تشعرين بالرضى عن نفسك ,
أليس كذلك ؟ .
فــأجابت حينذاك بصدق :
ـ هذا ليس صحيحاً ! لأن أموالي , أو ثروتي كما تحب أن
تسميها , هي . . . تحت الوصاية , ولا يمكنني التصرف بها حتى لو
رغبت في ذلك . وأعتقد أنني إذا سعيت إلى عمل (( حقيقي )) , أي عمل
بأجر , أكون سلبت ذالك العمل من شخص بحاجة إليه ليعيش .
تحسنت الــعلاقة بينهما هذه الأيام كثيراً , رغم أنهما كانا شديدي
الكراهية لبعضهما البعض , والأحرى القول إن رالف هو الذي يكره
غارد , ذلك أن غارد لم يكن يعبر عن مشاعره تجاه أي كان . وفي
الواقع , كان الشك يساورها أحياناً في أن غارد قد عرف حقاً المشاعر
البشرية في حياته .
إنها تعلم مبلغ كراهية رالف الذهاب إلى غارد كي يطلب مساعدة
مالية للملــجأ , لكن غارد كان أغنى رجل في المنطقة , وأعماله أكثر
الأعمـــال رواجاً .
قال لها أبوهـــا ذات مرة :
ـ إنه مزيج نادر جداً ! إنه مقاول ناجح للغاية , كما أنه رجل نزيه
وذو مثل عليا !
أمـــا رالف فكان يدعوه (( بغلاً متعجرفاً )) .
ـ جذاب !
همست بذلك إحدى زميلات روزي القديمات في المدرسة
عندما جاء لزيارتها . كانت متزوجة , وقد سئمت زوجها على ما
يبدو . فقد نظرت إلى غارد بنهم مكشوف لم تجده روزي محرجاً
فحسب , بل مذلاً أيضاً . كانت سارا , بنظراتها المحرقة التي أخذت
تلقيها على غارد باستمرار , والتلميحات والإيماءات المكشوفـــة ,
وبعض الملامسات المتعمدة , تبرز , بشكل ما , عدم نضج روزي ,
مبررة بذلك ما اعتاد غارد أن يوجهه إليها من انتقادات ساخرة .
هي تعلم جيداً أن غارد يظنها ساذجة غافلة . . لا بأس ! فلتتحمل
تعليقاته وسخريته المربكــة , والمؤلمة أحياناً , لكنها سبق وعاهدت
نفسها منذ زمن طويل ألا تندفع في علاقة غرامية من خارج مشروع
الزواج , ومع رجل له مثل مشاعرها , رجل يحبها ولا يخجل من
الإعتراف بحبه , مــا يجعلها تتخلى معه عن تحفظاتها وتكشف له عن
الجانب العاطفي من طبيعتها .
إنها لم تقابل ذلك الرجل حتى الآن , وستعرفه عندما تقابله ,
لكنها غير مستعجلة , على كل حال . فهي ما زالت عذراء في الحادية
والعشرين . في الحادية والعشرين وعلى وشك عرض الزواج على
رجــل . . . ليس بالتأكيد من النوع الذي تطلبه !
نظرت إلى ساعتها , إنها الرابعة ! كانت تعلم أن غارد غالباً ما
يبقى في مكتبه فترة طويلة بعد مغادرة الآخرين . وهذا يعني أنه لن
يــأتي إليها قبل السابعة أو حتى الثامنة . كل تلك الساعات
للانتظــار ! . . . ولتهيئ نفسها لعرض الزواج ذاك ! واحمر وجهها
ضيقاً .
ماذا سيقول ؟ سيضحك منها دون شك ! كل ذلك كان ذنب
محاميها ! لو أن (( بيتر )) لم يقترح . . .
وسارت نحو النافذة وهي تتذكر آخر كلمات بيتر قبل أن يخرج :
ـ عديني بأن تسأليه , على الأقل , يا روزي .
حينذاك أجابته غاضبة :
ـ ولماذا أضحي بنفســي لأنقذ هذا البيت ؟ هذا غير ممكن حتى
ولو كنت أريده . . . أنت تعرف شعوري .
رد عليها بيتر معترضـاً :
ـ أنت تعلمين ما الذي سيحدث إذا ورثه (( إدوارد )) . سيهدمـه
بالتأكيـــد وهو يشعر بالسرور .
ـ وأيضــاً ليعود إلى منزل جدي . نعم , أعلم هذا .
كان إدوارد ابن عم أبيها . وقد تشاجر مع جدها قبل أن تولد
روزي بوقت طويل , شجاراً خطيراً بسبب سلوكه والمال , كان من
نتيجته أن منعه الجد من وضع قدمه في هذا المنزل مرة أخرى .
لكل أسرة نعجتها السوداء , كما يقال , وأسرتهم غير مستثناة من
ذلك . حتى وهو في منتصف عمره الآن , وبالرغم من مظهره المحترم
وزواجه , ثمة شــيء غير سار في شخصية إدوارد .
قد لا يكون تجاوز القانون في معاملاته المالية , ولكنه بالتأكيد
تجاوز حدوده تحت ستار الظلام غير مرة , كما اعتاد أبوها أن يقول
أبوهــا . . .
أشاحت روزي بوجهها عن النافذة , ونظرت نحو الـمكتب .
كانت صورة أبيها الفتوغرافية ما زالت فوقه . صورة أخذت له بالبذلة
العسكرية قبل موت أخيه الأكبر بوقت قصير .
لقد ترك الجيش , حينذاك , وعاد إلى البيت ليكون بجانب
أبيه . . . ولم يكن هو نفسه غريباً عن الموت منذ وفاة والدة روزي .
كان المنزل (( مرج الملكة )) يعني الكثير بالنسبة إلى أبيها
وجدها . كانت هي تحب البيت طبعـــاً ــــ ومن ذا الذي لا يحبه ؟ ــــ وإنما
دون شعــور بالتملك .
لم يكن ما شعرت به وهي تجول في حجراته , هو الزهو , وإنمــا
الشعــور بالذنب .
يا ليت الأمــور كانت غير ما هي عليه الآن ! يا ليت إدوارد غير ما
هو عليه ! إذن , لغادرت هذا المنزل بسهولة وسرور واشترت أو
استأجرت لنفسهــا شقة صغيرة في المدينة ومنحت كل وقتهـا واهتمامها
للعمل في الملجـــأ .
ولكن كيف بإمكــانها أن تفعل ذلك الآن ؟
لقد حذرهــا بيتر حينذاك , قائلاً :
ـ سيهدم إدوارد المنزل . سيجمع أولاً كــل ما يستحق البيع من
محتوياته ثم يهدمه حجراً بعد حجر , ثم يبيع الأرض لأحد أصدقائه
المقربين الذي سوف . . .
قاطعته محتجــة :
ـ كلا ! لا يمكنه القيام بذلك . المنزل مسجــل تراثياً و . . .
ـ حسب معرفتي بإدوارد , لن يصعب عليه أبداً العثور على من
يدعي أن البنائين أساوؤا فهم التعليمات التي أعطيت لهم . هل تظنين
أن هذا البيت سيصمد طويلاً عندما يهاجمه نصف (( دزينة )) من الرجال
مع (( بلدوزراتهم )) ؟ وطبعاً , لن تكون لإدوارد أية صلة بما حدث ! إنه
يكره جدك , يا روزي , وهو يعلم كم كان هذا المنزل غالياً عليه وعلى
أبيك .
قالت روزي متنهدة :
ـ كثيراً جداً ! لا , يا بيتر , هذا المكان أكبر من أن تسكنه أســرة
واحدة , مهما يكن مقدار جماله . . . آه ! لماذا لم يستمع جدي إلــي
ويسجله مؤسسة خيرية ؟ لماذا لم يفعل ذلك ؟ .
ـ أنت إذن لا تهتمين بما يحدث للمنزل ؟ إلا يهمك أن يرثه
إدوارد ويدمره . . . يدمـر أربعمئة عام من التاريخ ؟ .
قالت متبرمـــة :
ـ طبعاً يهمني ! ولكن ماذا بإمكاني عمله ؟ إنك تعرف شروط تلك
الوصية الحمقاء , التي تركها جدي , كما أعرفها : في حال وفاة ولديه
قبله , يذهب منزله ومزرعته إلى أقرب أقربائه بشرط أن يتزوج خلال
ثلاثة أشهـر من وفاته ويصبح قادراً على إنجاب وريث . لقد كتب تلك
الوصية منذ سنوات بعد وفاة عمــي توم , ولو أن أبــي لم . . .
سكتت حينذاك مختنقة بالدموع . لم تكن استوعبت بعد فكــرة
وفاة أبيها بنوبة قلبية قبل أسابيع فقط من وفاة جدها بعد إصابته
بغيبوبة توفي على أثرها . ثم قالت بــأسف :
ـ شروط تلك الوصية مكتملة جميعها في إدوارد . . .
قاطعها بيتر بهدوء :
ـ إنك أقرب أقــرباء جدك .
أجابته حينذاك , بجفــاء :
ـ نعم , لكنني لست متزوجة , ومن غير المحتمل أن أتزوج , على
الأقــل ليس خلال الأشهــر الثلاثة القادمة .
حينذاك قال بيتر بثقة :
ـ بل يمكنك عقد زواج مصلحة . زواج لغرض محدد يمكنك من
استكمال شروط وصية جدك . زواج يمكن إنهاؤه بسرعة وسهولة .
ـ زواج مصلــحة ؟
وحدقت به روزي باهتمام . بدا لها الأمر وكــأنه من إحدى
الروايات الخيالية التي تحب قراءتها . موضوع شــاعري جميل لكنه لا
يحدث في الحياة الواقعية .
ـ لا !
قالت ذلك بانفعال واستنكــار , وهي تهز رأسهــا بعنف جعل
خصلات شعرها السوداء تترامى على كتفيها . دفعتها عن وجهها
بضيق . كان شعرها آفة حياتها . . . أسود داكناً متمرداً يضج حيوية ؛
ولطالمـا دعاها جدها , وهو يدللها , بالغجرية الصغيرة . لكنها كلما
حاولت ترويضه وتنظيمه , كان يثور ويعود إلى شكله السابق , كومة
من الخصل الجعدة حالما ينغلق باب الحلاقة خلقها . وهكذا تخلت
في النهاية عن كل محاولة للسيطرة عليه .
ـ هذا مستحيل ! وحتى زواج المصلحة , يحتاج إتمامه إلى
شخصين . وأنا لا أعرف شخصــاً يقبل . . .
لكن بيتر قاطعها , حينذاك , قائلاً :
ـ أنا أعــرف .
أتراها سمعت نبرة شؤم في هذه الكلمات , أم أنها تخيلت ذلك ؟
سكتت وهي ترفع بصرها إلى وجه محاميها , بارتياب ثم سألته
بحـــذر :
ـ من ؟
ـ غارد جيميسن !
ما إن قال ذلك حتى انهارت جالسة على السلم وهي تقول
بحــزم :
ـ لا ! أبداً هذا غير ممكن ! .
لكنه تابع يقول بحماسة وكأنه لم يسمع اعتراضها :
ـ إنه اشخص الناسب تماماً ! وهو على أي حال , لا يخفي
رغبته في امتلاك هذا المنزل .
أجابت بجفاء وهي تتذكر كم من المرات كان غارد يزعج جدها
متوسلاً إليه أن يبيعه المنزل :
ـ أبداً ! إذا كان يريد هذا المنزل حقاً , يمكنه إقناع إدوارد ببيعه .
رفع بيتر حاجبيه :
ـ هيا , يا روزي ! أنت تعلمين أن ادوارد يكره غارد بقدر ما كان
يكره جدك تقريباً .
تنهدت روزي . كان هذا صحيحاً ! ذلك أن غارد وإدوارد عدوا
مصلحة قديمان . وكما قال أبوها في أكثر من مناسبة : لم تحدث بين
الرجلين مواجهة , إلا كان غارد هو الرابح .
قالت :
ـ نعم ! ومجرد معرفته بمبلغ حب غارد لهذا المنزل , يقوي رغبته
في هدمـــه .
ـ إن حديثنا يتناول فقط بعض الترتيبات العملية بينكما , أنتما
الاثنين . بعض الاجراءات الشكلية البسيطة التي تمكنك من استيفاء
شروط الوصية , وفي الوقت المناسب , يمكن فسخ الزواج . يمكنك
أن تبيعي البيت لغارد و . . .
فسألته بارتياب :
ـ في الوقت المناسب ؟ كم من الوقت يستغرق ذلك ؟ .
ـ سنة أو سنتين . . . لا أظن أن هناك شخصاً آخر تريدين الزواج
منه , أليس كذلك ؟ وإلا لما كان هناك مشكلة أو حاجة للزواج من
غارد .
قالت بحـــزم :
ـ لا يمكنني القيام بذلك , الفكرة كلها تبدو لــي كريهة منفرة .
ـ حسناً ! عليك إذن أن توطني نفسك لقبول حقيقة أن إدوارد
سيرث . لقد مضى على وفاة جدك شهــر تقريباً .
قالت متجاهلة قول بيتر :
ـ لا يمكنني القيام بذلك . لا يمكنني أن أطلب من رجـــل أن
يتزوجني , خصوصــاً غارد . . .
ضحك بيتر حينذاك :
ـ إنه عرض عملي , ليس إلا . فكـــري في ذلك , يا روزي . إننــي
أعرف تذبذب مشاعرك نحو المنزل (( مرج الملكة )) , لكنني لا أصدق
أنك تريدين أن تري إدوارد يهدمــه .
ـ لا ! لا أريد ذلك بالتأكيــد ! .
ـ ومــاذا ستخسرين إذن ؟قالت عند ذاك :
ـ حــــريتي !
عند ذلك ضحك بيتر :
ـ آه , لا أظن غارد سيتدخــل في هذا الأمر . إنه أكثر انشغالاً من
أن يهتم بما تفعلين . عديني بأن تفكري في الموضوع على الأقل , يا
روزي . إنني أفعل هذا لأجلك , لأنك إذا سمحت لإدوارد بهدم
المنزل , فلن يمكنك التخلص من الشعور بالذنب .
فسألته بجفــاء :
ـ هل تخدمني بابتزازي ؟ .
وإذ بدا عليه , حينذاك , شـــيء من الضيق , قالت :
ـ لا بأس . ســأفكــر في الأمــر .
وأخيراً , فعلت أكثر من مجرد التفكير في الأمر , كما اعترفت
روزي وهي تعود بأفكارها إلى الحاضر .
ـ المشكلة معك هي أنك أرق قلباً مما يجب أن تكونــي .
كم من المرات سمعت هذا الإتهام يوجه إليها على مر السنين !
مرات لا تحصى !
لكن بيتر على حق . لا يمكنها أن تدع إدوارد يدمر المنزل من
دون أن تحاول منعه , بتضحيتها بنفسها ! وارتسمت على شفتيها
ابتسامة حين التمعت في ذهنها فكرة ماكرة . يا لخيبة غارد لو أنه
تمكن من قراءة أفكارها ! كم من النساء يعتبرن , مثلها , الزواج منه
تضحية . . . ؟ لسن كثيرات . . . حتى ولا واحدة , على ما تعتقد .
حسناً إنها فتاة غريبة إذن . . . وشاذة بحيث أنها , لسبب ما , لم
تستطع أن ترى فيه أية جاذبية كسائر النساء . إنها إذن حصينة إزاء
مواهبه التي تنهار أمامها النساء . . . تنضح أعينهن رهبة وهن يهذين
بشكله المثير وعينيه الملتهبتين . . . بفمه وكتفه وجسمه , وشخصيته
المهيبة وهالة الغموض التي تحيط به .
من الغريب أن آخر شــيء كن يذكرنه هو ثروته !
حسناً , لا يمكنها أن ترى فيه ما يجذبها عاطفياً . فهو بالنسبة
إليها خنزير ساخر متغطرس لا يسره شــيء أكثر من جعلها موضعاً
للهزل .
أثناء حفلة عشاء منذ شهر واحد فقط , قالت لها المضيفة إن ابن
عمها يرغب في الجلوس بقربها أثناء العشاء . مال غارد نحو روزي ,
وكان قد سمع الحديث , قائلاً بتهكم :
ـ إذا كان يرجو أن يجد امرأة تحت هذه الكتلة الشعثاء من
الشعر , وهذا الثوب المضحك الذي ترتديه , يا روزي , سيصاب دون
شك بخيبة أمل مرة , أليس كذلك ؟ .
ولما كان (( الثوب المضحك )) الذي أشار إليه عزيزاً جداً عليها , إذ
صنعته بنفسها من قطع قماش أحضرتها من المبرات الخيرية ,
فأصلحتها وغسلتها ونسقتها بكل فخر واعتزاز ــــ إذ كان الأمر كذلك ,
فقد رمقته بنظرة بالغة المرارة وهي تقول :
ـ ليس كل الرجال يحكمون على المرأة من خلال إغرائها , يا
غارد ! .
فكان أن أجاب حينذاك , دون اهتمام بمشاعرها :
ـ هذا من حسن حظك ! لأنك , حسب الأقاويل , ليس لديك
أدنى فكـــــرة عن هذا الموضوع ! .
احمر وجهها طبعاً , ليس فقط لما قاله فهي , على كل حال , لا
تشعر بالخجل لأنها غير مستعدة لإقامة علاقات عابرة ولكن للطريقة
التي كان غارد ينظر بها إليها . . . للسخرية البادية في عينيه , وأيضاً
للصورة المفزعة التي مرت للحظة في خيالها إذ تمثلته مع إحدى
عشيقاته المغـــرمات !
نبذت هذه الصورة من ذهنها على الفور , لائمة نفسها على
خيالها الخصب وتهويماتها المزعجة .
ذاك المساء , كانت قد تابعت الجدال مع غارد , قبل أن يغادر
المنزل مع شقراء رائعة الجمال والأناقة كانت بصحبته .
كانت قالت له و هي ترفع ذقنها الصغير تحدياً :
ـ على كل حال , من الأصوب هذه الأيام عدم إقامة علاقات
عاطفية .
أجابها بلطف موافقاً :
ـ من المؤكد أن الظروف الحالية مناسبة جداً للتهرب والاختباء ,
خصوصــاً . . .
ـ خصوصاً ماذا ؟
فقال متهكماً :
ـ خصوصاُ في مثل وضعك !
ومنعتها عودة صاحبته من قول أي شــيء آخر , حينذاك .
زواج مصلحة من غارد ! ستكون مجنونة إذا سمحت لبيتر أن
يقنعها بهذه الفكرة الحمقاء . لكنه كان قد أقنعها بذلك ولم يعد
بإمكانها التراجع الآن .
هل رغبة غارد بتملك منزل (( مرج الملكة )) تكفــي لكي يوافق ؟
ـ حسناً يا روزي , ما سبب مكالمــــتك إذا كنت تسعين إلى هبة
أخرى منــي لمؤسستك الخيرية تلك ؟ عليك أن تعلمـــي أنني , حالياً , لا
أشعر بأية رغبة في العطــاء . . .
أخذت روزي تنظر إليه صامتة وهو يدخــل الردهة . كان قلبها
يخفق بقوة وكــأنه على وشك أن يخترق صدرها .
لم تتذكر أنها شعرأعادها الضيق الذي بدا على صوته , إلى الواقع . تنفست بعمق :
ـ نعم , ما زلتُ هنا ! غارد . . . هناك شــيء يا غارد أريد أن
أســألك عنه الآن . . .
ـ لا أستطيع الكلام الآن , يا روزي ! إنني بانتظار مكالمة هامة .
اسمعـــي ! سأزورك هذه الليلة ونتحدث في ما تريدين .
شعرت روزي بالذعر , وقالت على الفـــور :
ـ لا ! لا !
تريد أن تســأله من مسافة بعيدة . إنها لا تريد أن تعرض عليه
الزواج وجهاً لوجه . وغصت بريقها , لكنه كان قد وضع السماعة فلم
تستطع إخباره بأنها لا تريد رؤيته .
عندما وضعت سماعتها , أخذت تحدق في أنحاء الغرفة بحزن .
أربعمائة عام من التاريخ تنام في هذه الغرفة من هذا المنزل الذي
أنشــئ هنا منذ وهبت الملكة اليزابيت الأولى قطعة الأرض لـ بيبرس
ويندهام , هدية مقابل خدمات أداها لها . هكذا قيل رسمياً , لكن
الشائعات حينذاك قالت إنها مقابل علاقة شخصية حميمة .
أطلق (( بيرس )) على المنزل اسم (( مرج الملكة )) اعترافاً منه بكرم
اليزابيت . لم يكن منزلاً فخمــاً , حتى ولا فسيحاً . لكنه في نظر روزي
كان فسيحاً للغاية بالنسبة إلى شخص واحد , أو حتى أســـرة
واحدة . . . خصوصاً عندما علمت أثناء عملها في الملجـــأ كم من
الناس دون مأوى وفــي حاجة ماسة إلى سقف فوق رؤوسهم .
آخر مرة طرقت هذا الموضوع مع غارد , قال لها ساخراً معنفاً :
ـ لو كان لك الخيار ماذا كنت ستفعلين ؟ تسلمينهم المنزل ؟ ثم
تتفرجين عليهم وهم ينتزعون خشب الجدران ليستعملوه حطباً في
المدفــأة ؟ تتفرجين عليهم وهم . . . ؟ .
احتدت حينذاك بغضب :
ـ هذا ليس إنصافاً ! أنت غير منصف . . .
حتى (( رالف )) , المسؤول عن الملجــأ , قال في أكثر من مناسبة
إنها غير واقعية , وإنها مبالغة في المثالية ورقة القلب , كما أن ثقتها
بالآخرين هي أكثر مما يجب . خُـــيل إليها أن رالف يميل إلى
احتقارها , إذ كان , منذ البداية , عدائياً نحوها , ساخراً من بيئتها التي
نــشأت فيها ولهجتها المميزة , مديناً ثروتها وأسلوب حياتها , مقارناً
كل ذلك بحياة أولئك القانطين في الملجــأ .
قال ذات مرة , هازئاً :
ـ إن قيامك بعمل إنساني يجعلك تشعرين بالرضى عن نفسك ,
أليس كذلك ؟ .
فــأجابت حينذاك بصدق :
ـ هذا ليس صحيحاً ! لأن أموالي , أو ثروتي كما تحب أن
تسميها , هي . . . تحت الوصاية , ولا يمكنني التصرف بها حتى لو
رغبت في ذلك . وأعتقد أنني إذا سعيت إلى عمل (( حقيقي )) , أي عمل
بأجر , أكون سلبت ذالك العمل من شخص بحاجة إليه ليعيش .
تحسنت الــعلاقة بينهما هذه الأيام كثيراً , رغم أنهما كانا شديدي
الكراهية لبعضهما البعض , والأحرى القول إن رالف هو الذي يكره
غارد , ذلك أن غارد لم يكن يعبر عن مشاعره تجاه أي كان . وفي
الواقع , كان الشك يساورها أحياناً في أن غارد قد عرف حقاً المشاعر
البشرية في حياته .
إنها تعلم مبلغ كراهية رالف الذهاب إلى غارد كي يطلب مساعدة
مالية للملــجأ , لكن غارد كان أغنى رجل في المنطقة , وأعماله أكثر
الأعمـــال رواجاً .
قال لها أبوهـــا ذات مرة :
ـ إنه مزيج نادر جداً ! إنه مقاول ناجح للغاية , كما أنه رجل نزيه
وذو مثل عليا !
أمـــا رالف فكان يدعوه (( بغلاً متعجرفاً )) .
ـ جذاب !
همست بذلك إحدى زميلات روزي القديمات في المدرسة
عندما جاء لزيارتها . كانت متزوجة , وقد سئمت زوجها على ما
يبدو . فقد نظرت إلى غارد بنهم مكشوف لم تجده روزي محرجاً
فحسب , بل مذلاً أيضاً . كانت سارا , بنظراتها المحرقة التي أخذت
تلقيها على غارد باستمرار , والتلميحات والإيماءات المكشوفـــة ,
وبعض الملامسات المتعمدة , تبرز , بشكل ما , عدم نضج روزي ,
مبررة بذلك ما اعتاد غارد أن يوجهه إليها من انتقادات ساخرة .
هي تعلم جيداً أن غارد يظنها ساذجة غافلة . . لا بأس ! فلتتحمل
تعليقاته وسخريته المربكــة , والمؤلمة أحياناً , لكنها سبق وعاهدت
نفسها منذ زمن طويل ألا تندفع في علاقة غرامية من خارج مشروع
الزواج , ومع رجل له مثل مشاعرها , رجل يحبها ولا يخجل من
الإعتراف بحبه , مــا يجعلها تتخلى معه عن تحفظاتها وتكشف له عن
الجانب العاطفي من طبيعتها .
إنها لم تقابل ذلك الرجل حتى الآن , وستعرفه عندما تقابله ,
لكنها غير مستعجلة , على كل حال . فهي ما زالت عذراء في الحادية
والعشرين . في الحادية والعشرين وعلى وشك عرض الزواج على
رجــل . . . ليس بالتأكيد من النوع الذي تطلبه !
نظرت إلى ساعتها , إنها الرابعة ! كانت تعلم أن غارد غالباً ما
يبقى في مكتبه فترة طويلة بعد مغادرة الآخرين . وهذا يعني أنه لن
يــأتي إليها قبل السابعة أو حتى الثامنة . كل تلك الساعات
للانتظــار ! . . . ولتهيئ نفسها لعرض الزواج ذاك ! واحمر وجهها
ضيقاً .
ماذا سيقول ؟ سيضحك منها دون شك ! كل ذلك كان ذنب
محاميها ! لو أن (( بيتر )) لم يقترح . . .
وسارت نحو النافذة وهي تتذكر آخر كلمات بيتر قبل أن يخرج :
ـ عديني بأن تسأليه , على الأقل , يا روزي .
حينذاك أجابته غاضبة :
ـ ولماذا أضحي بنفســي لأنقذ هذا البيت ؟ هذا غير ممكن حتى
ولو كنت أريده . . . أنت تعرف شعوري .
رد عليها بيتر معترضـاً :
ـ أنت تعلمين ما الذي سيحدث إذا ورثه (( إدوارد )) . سيهدمـه
بالتأكيـــد وهو يشعر بالسرور .
ـ وأيضــاً ليعود إلى منزل جدي . نعم , أعلم هذا .
كان إدوارد ابن عم أبيها . وقد تشاجر مع جدها قبل أن تولد
روزي بوقت طويل , شجاراً خطيراً بسبب سلوكه والمال , كان من
نتيجته أن منعه الجد من وضع قدمه في هذا المنزل مرة أخرى .
لكل أسرة نعجتها السوداء , كما يقال , وأسرتهم غير مستثناة من
ذلك . حتى وهو في منتصف عمره الآن , وبالرغم من مظهره المحترم
وزواجه , ثمة شــيء غير سار في شخصية إدوارد .
قد لا يكون تجاوز القانون في معاملاته المالية , ولكنه بالتأكيد
تجاوز حدوده تحت ستار الظلام غير مرة , كما اعتاد أبوها أن يقول
أبوهــا . . .
أشاحت روزي بوجهها عن النافذة , ونظرت نحو الـمكتب .
كانت صورة أبيها الفتوغرافية ما زالت فوقه . صورة أخذت له بالبذلة
العسكرية قبل موت أخيه الأكبر بوقت قصير .
لقد ترك الجيش , حينذاك , وعاد إلى البيت ليكون بجانب
أبيه . . . ولم يكن هو نفسه غريباً عن الموت منذ وفاة والدة روزي .
كان المنزل (( مرج الملكة )) يعني الكثير بالنسبة إلى أبيها
وجدها . كانت هي تحب البيت طبعـــاً ــــ ومن ذا الذي لا يحبه ؟ ــــ وإنما
دون شعــور بالتملك .
لم يكن ما شعرت به وهي تجول في حجراته , هو الزهو , وإنمــا
الشعــور بالذنب .
يا ليت الأمــور كانت غير ما هي عليه الآن ! يا ليت إدوارد غير ما
هو عليه ! إذن , لغادرت هذا المنزل بسهولة وسرور واشترت أو
استأجرت لنفسهــا شقة صغيرة في المدينة ومنحت كل وقتهـا واهتمامها
للعمل في الملجـــأ .
ولكن كيف بإمكــانها أن تفعل ذلك الآن ؟
لقد حذرهــا بيتر حينذاك , قائلاً :
ـ سيهدم إدوارد المنزل . سيجمع أولاً كــل ما يستحق البيع من
محتوياته ثم يهدمه حجراً بعد حجر , ثم يبيع الأرض لأحد أصدقائه
المقربين الذي سوف . . .
قاطعته محتجــة :
ـ كلا ! لا يمكنه القيام بذلك . المنزل مسجــل تراثياً و . . .
ـ حسب معرفتي بإدوارد , لن يصعب عليه أبداً العثور على من
يدعي أن البنائين أساوؤا فهم التعليمات التي أعطيت لهم . هل تظنين
أن هذا البيت سيصمد طويلاً عندما يهاجمه نصف (( دزينة )) من الرجال
مع (( بلدوزراتهم )) ؟ وطبعاً , لن تكون لإدوارد أية صلة بما حدث ! إنه
يكره جدك , يا روزي , وهو يعلم كم كان هذا المنزل غالياً عليه وعلى
أبيك .
قالت روزي متنهدة :
ـ كثيراً جداً ! لا , يا بيتر , هذا المكان أكبر من أن تسكنه أســرة
واحدة , مهما يكن مقدار جماله . . . آه ! لماذا لم يستمع جدي إلــي
ويسجله مؤسسة خيرية ؟ لماذا لم يفعل ذلك ؟ .
ـ أنت إذن لا تهتمين بما يحدث للمنزل ؟ إلا يهمك أن يرثه
إدوارد ويدمره . . . يدمـر أربعمئة عام من التاريخ ؟ .
قالت متبرمـــة :
ـ طبعاً يهمني ! ولكن ماذا بإمكاني عمله ؟ إنك تعرف شروط تلك
الوصية الحمقاء , التي تركها جدي , كما أعرفها : في حال وفاة ولديه
قبله , يذهب منزله ومزرعته إلى أقرب أقربائه بشرط أن يتزوج خلال
ثلاثة أشهـر من وفاته ويصبح قادراً على إنجاب وريث . لقد كتب تلك
الوصية منذ سنوات بعد وفاة عمــي توم , ولو أن أبــي لم . . .
سكتت حينذاك مختنقة بالدموع . لم تكن استوعبت بعد فكــرة
وفاة أبيها بنوبة قلبية قبل أسابيع فقط من وفاة جدها بعد إصابته
بغيبوبة توفي على أثرها . ثم قالت بــأسف :
ـ شروط تلك الوصية مكتملة جميعها في إدوارد . . .
قاطعها بيتر بهدوء :
ـ إنك أقرب أقــرباء جدك .
أجابته حينذاك , بجفــاء :
ـ نعم , لكنني لست متزوجة , ومن غير المحتمل أن أتزوج , على
الأقــل ليس خلال الأشهــر الثلاثة القادمة .
حينذاك قال بيتر بثقة :
ـ بل يمكنك عقد زواج مصلحة . زواج لغرض محدد يمكنك من
استكمال شروط وصية جدك . زواج يمكن إنهاؤه بسرعة وسهولة .
ـ زواج مصلــحة ؟
وحدقت به روزي باهتمام . بدا لها الأمر وكــأنه من إحدى
الروايات الخيالية التي تحب قراءتها . موضوع شــاعري جميل لكنه لا
يحدث في الحياة الواقعية .
ـ لا !
قالت ذلك بانفعال واستنكــار , وهي تهز رأسهــا بعنف جعل
خصلات شعرها السوداء تترامى على كتفيها . دفعتها عن وجهها
بضيق . كان شعرها آفة حياتها . . . أسود داكناً متمرداً يضج حيوية ؛
ولطالمـا دعاها جدها , وهو يدللها , بالغجرية الصغيرة . لكنها كلما
حاولت ترويضه وتنظيمه , كان يثور ويعود إلى شكله السابق , كومة
من الخصل الجعدة حالما ينغلق باب الحلاقة خلقها . وهكذا تخلت
في النهاية عن كل محاولة للسيطرة عليه .
ـ هذا مستحيل ! وحتى زواج المصلحة , يحتاج إتمامه إلى
شخصين . وأنا لا أعرف شخصــاً يقبل . . .
لكن بيتر قاطعها , حينذاك , قائلاً :
ـ أنا أعــرف .
أتراها سمعت نبرة شؤم في هذه الكلمات , أم أنها تخيلت ذلك ؟
سكتت وهي ترفع بصرها إلى وجه محاميها , بارتياب ثم سألته
بحـــذر :
ـ من ؟
ـ غارد جيميسن !
ما إن قال ذلك حتى انهارت جالسة على السلم وهي تقول
بحــزم :
ـ لا ! أبداً هذا غير ممكن ! .
لكنه تابع يقول بحماسة وكأنه لم يسمع اعتراضها :
ـ إنه اشخص الناسب تماماً ! وهو على أي حال , لا يخفي
رغبته في امتلاك هذا المنزل .
أجابت بجفاء وهي تتذكر كم من المرات كان غارد يزعج جدها
متوسلاً إليه أن يبيعه المنزل :
ـ أبداً ! إذا كان يريد هذا المنزل حقاً , يمكنه إقناع إدوارد ببيعه .
رفع بيتر حاجبيه :
ـ هيا , يا روزي ! أنت تعلمين أن ادوارد يكره غارد بقدر ما كان
يكره جدك تقريباً .
تنهدت روزي . كان هذا صحيحاً ! ذلك أن غارد وإدوارد عدوا
مصلحة قديمان . وكما قال أبوها في أكثر من مناسبة : لم تحدث بين
الرجلين مواجهة , إلا كان غارد هو الرابح .
قالت :
ـ نعم ! ومجرد معرفته بمبلغ حب غارد لهذا المنزل , يقوي رغبته
في هدمـــه .
ـ إن حديثنا يتناول فقط بعض الترتيبات العملية بينكما , أنتما
الاثنين . بعض الاجراءات الشكلية البسيطة التي تمكنك من استيفاء
شروط الوصية , وفي الوقت المناسب , يمكن فسخ الزواج . يمكنك
أن تبيعي البيت لغارد و . . .
فسألته بارتياب :
ـ في الوقت المناسب ؟ كم من الوقت يستغرق ذلك ؟ .
ـ سنة أو سنتين . . . لا أظن أن هناك شخصاً آخر تريدين الزواج
منه , أليس كذلك ؟ وإلا لما كان هناك مشكلة أو حاجة للزواج من
غارد .
قالت بحـــزم :
ـ لا يمكنني القيام بذلك , الفكرة كلها تبدو لــي كريهة منفرة .
ـ حسناً ! عليك إذن أن توطني نفسك لقبول حقيقة أن إدوارد
سيرث . لقد مضى على وفاة جدك شهــر تقريباً .
قالت متجاهلة قول بيتر :
ـ لا يمكنني القيام بذلك . لا يمكنني أن أطلب من رجـــل أن
يتزوجني , خصوصــاً غارد . . .
ضحك بيتر حينذاك :
ـ إنه عرض عملي , ليس إلا . فكـــري في ذلك , يا روزي . إننــي
أعرف تذبذب مشاعرك نحو المنزل (( مرج الملكة )) , لكنني لا أصدق
أنك تريدين أن تري إدوارد يهدمــه .
ـ لا ! لا أريد ذلك بالتأكيــد ! .
ـ ومــاذا ستخسرين إذن ؟قالت عند ذاك :
ـ حــــريتي !
عند ذلك ضحك بيتر :
ـ آه , لا أظن غارد سيتدخــل في هذا الأمر . إنه أكثر انشغالاً من
أن يهتم بما تفعلين . عديني بأن تفكري في الموضوع على الأقل , يا
روزي . إنني أفعل هذا لأجلك , لأنك إذا سمحت لإدوارد بهدم
المنزل , فلن يمكنك التخلص من الشعور بالذنب .
فسألته بجفــاء :
ـ هل تخدمني بابتزازي ؟ .
وإذ بدا عليه , حينذاك , شـــيء من الضيق , قالت :
ـ لا بأس . ســأفكــر في الأمــر .
وأخيراً , فعلت أكثر من مجرد التفكير في الأمر , كما اعترفت
روزي وهي تعود بأفكارها إلى الحاضر .
ـ المشكلة معك هي أنك أرق قلباً مما يجب أن تكونــي .
كم من المرات سمعت هذا الإتهام يوجه إليها على مر السنين !
مرات لا تحصى !
لكن بيتر على حق . لا يمكنها أن تدع إدوارد يدمر المنزل من
دون أن تحاول منعه , بتضحيتها بنفسها ! وارتسمت على شفتيها
ابتسامة حين التمعت في ذهنها فكرة ماكرة . يا لخيبة غارد لو أنه
تمكن من قراءة أفكارها ! كم من النساء يعتبرن , مثلها , الزواج منه
تضحية . . . ؟ لسن كثيرات . . . حتى ولا واحدة , على ما تعتقد .
حسناً إنها فتاة غريبة إذن . . . وشاذة بحيث أنها , لسبب ما , لم
تستطع أن ترى فيه أية جاذبية كسائر النساء . إنها إذن حصينة إزاء
مواهبه التي تنهار أمامها النساء . . . تنضح أعينهن رهبة وهن يهذين
بشكله المثير وعينيه الملتهبتين . . . بفمه وكتفه وجسمه , وشخصيته
المهيبة وهالة الغموض التي تحيط به .
من الغريب أن آخر شــيء كن يذكرنه هو ثروته !
حسناً , لا يمكنها أن ترى فيه ما يجذبها عاطفياً . فهو بالنسبة
إليها خنزير ساخر متغطرس لا يسره شــيء أكثر من جعلها موضعاً
للهزل .
أثناء حفلة عشاء منذ شهر واحد فقط , قالت لها المضيفة إن ابن
عمها يرغب في الجلوس بقربها أثناء العشاء . مال غارد نحو روزي ,
وكان قد سمع الحديث , قائلاً بتهكم :
ـ إذا كان يرجو أن يجد امرأة تحت هذه الكتلة الشعثاء من
الشعر , وهذا الثوب المضحك الذي ترتديه , يا روزي , سيصاب دون
شك بخيبة أمل مرة , أليس كذلك ؟ .
ولما كان (( الثوب المضحك )) الذي أشار إليه عزيزاً جداً عليها , إذ
صنعته بنفسها من قطع قماش أحضرتها من المبرات الخيرية ,
فأصلحتها وغسلتها ونسقتها بكل فخر واعتزاز ــــ إذ كان الأمر كذلك ,
فقد رمقته بنظرة بالغة المرارة وهي تقول :
ـ ليس كل الرجال يحكمون على المرأة من خلال إغرائها , يا
غارد ! .
فكان أن أجاب حينذاك , دون اهتمام بمشاعرها :
ـ هذا من حسن حظك ! لأنك , حسب الأقاويل , ليس لديك
أدنى فكـــــرة عن هذا الموضوع ! .
احمر وجهها طبعاً , ليس فقط لما قاله فهي , على كل حال , لا
تشعر بالخجل لأنها غير مستعدة لإقامة علاقات عابرة ولكن للطريقة
التي كان غارد ينظر بها إليها . . . للسخرية البادية في عينيه , وأيضاً
للصورة المفزعة التي مرت للحظة في خيالها إذ تمثلته مع إحدى
عشيقاته المغـــرمات !
نبذت هذه الصورة من ذهنها على الفور , لائمة نفسها على
خيالها الخصب وتهويماتها المزعجة .
ذاك المساء , كانت قد تابعت الجدال مع غارد , قبل أن يغادر
المنزل مع شقراء رائعة الجمال والأناقة كانت بصحبته .
كانت قالت له و هي ترفع ذقنها الصغير تحدياً :
ـ على كل حال , من الأصوب هذه الأيام عدم إقامة علاقات
عاطفية .
أجابها بلطف موافقاً :
ـ من المؤكد أن الظروف الحالية مناسبة جداً للتهرب والاختباء ,
خصوصــاً . . .
ـ خصوصاً ماذا ؟
فقال متهكماً :
ـ خصوصاُ في مثل وضعك !
ومنعتها عودة صاحبته من قول أي شــيء آخر , حينذاك .
زواج مصلحة من غارد ! ستكون مجنونة إذا سمحت لبيتر أن
يقنعها بهذه الفكرة الحمقاء . لكنه كان قد أقنعها بذلك ولم يعد
بإمكانها التراجع الآن .
هل رغبة غارد بتملك منزل (( مرج الملكة )) تكفــي لكي يوافق ؟
ـ حسناً يا روزي , ما سبب مكالمــــتك إذا كنت تسعين إلى هبة
أخرى منــي لمؤسستك الخيرية تلك ؟ عليك أن تعلمـــي أنني , حالياً , لا
أشعر بأية رغبة في العطــاء . . .
أخذت روزي تنظر إليه صامتة وهو يدخــل الردهة . كان قلبها
يخفق بقوة وكــأنه على وشك أن يخترق صدرها .
لم تتذكر أنها شعرت من قبل بمثل هذا التوتر . . . حتى ولا
عندما علم جدها بتسللها خفية في إحدى الليالي لســرقة السمك من
مزرعته مع كليم أنجرز .
كادت تغرق في تداعياتها ولكنها ما لبثت أن عادت بأفكـــارها إلى
:7R_001::7R_001::7R_001::7R_001::7R_001::7R_001::7 R_001::7R_001::7R_001::7R_001::7R_001::7R_001::7R_ 001::7R_001::7R_001::7R_001::7R_001::7R_001::7R_00 1::7R_001::7R_001::7R_001::7R_001::7R_001::7R_001: :7R_001::7R_001::7R_001::7R_001:ت من قبل بمثل هذا التوتر . . . حتى ولا[/size][/font]
عندما علم جدها بتسللها خفية في إحدى الليالي لســرقة السمك من
مزرعته مع كليم أنجرز .
كادت تغرق في تداعياتها ولكنها ما لبثت أن عادت بأفكـــارها إلى
الواقع , بحزم .
حضر غارد مبكــراً أكثر مما توقعت . حضر ببذلته الأنيقة الغالية
الثمن , وقميصه القطني المنشى الناصع البياض , ولو لم يكن مألوفاً
لديها بهذا الشكل لوجدت ذلك مثبطاً جداً لعزيمتها .
لكن غارد قد يكون مثبطاً حتى في ملابسه العادية , على ما
حدثت نفسها . ولم يكن هذا بسبب طول قامته , حتى ولا عرض كتفيه
وعضلاته المشدودة التي طالما تأوهت صديقاتها لرؤيتها . بل كان
هناك شــيء يتعلق بغارد نفسه . . . شــيء معين لا تدركه الحواس . . .
هو الذي يجعله مختلفاً عن غيره من الرجال . . . هالة من القوة
والسيطرة , من . . . الرجولة الخالصة التي تعترف بها روزي نفسها .
كانت تشعر بها إنما لا تنجذب إليها , كما ذكرت نفسها بحدة . لا
يمكن أبداً أن تنجذب إلى غارد , فهو ليس نموذجها المفضل بين
الرجال . إنها تحب من الرجال الرقيق الدافــــئ العواطف . . الأليف ,
والأكـــثر . . . إنسانية , والأقـــل . . . الأقــل هوســـاً .
وتنحنحت متوترة . ســـألها بجفــاء :
ـ مــاذا حدث ؟ إنك تحدقين في كأنك تحدقين في كلب ! .
ردت عليه بحدة وألم :
ـ أنا لست خائفة منك ! .
ـ أنا مسرور جداً لسماع ذلك . علي أن أستقل الطائرة إلى
بروكسل عند الصباح , يا روزي , ولدي حقيبة يد مليئة بالمستندات
لأقــرأها قبل ذلك . أخبريني فقط ماذا تريدين , يا فتاتي الطيبة , إنما لا
تتراجعي الآن قائلة إن الأمر غير هام . نحن الاثنين نعلم جيداً أنك ما
كنت لتتصلي بي لو كـــــان الأمر عادياً .
قطبت جبينها قليلاً للسخرية البادية في صوته , لكنه كان ينظر
إليها بنفاذ صبر وهو يفك أزرار سترته ويحل ربطة عنقه .
وعندما ركزت نظراتها على حركات يديه , شعرت بالإنقباض في
قلبها يشتد .
ـ هيا , يا روزي ! لا أريد أية ألاعيب ! مزاجي , حالياً , لا يحتمل
هذا .
ذكــرها تحذيره الشفهي المصحوب بنظرته العنيفة الثاقبة , بزلتها
القديمة مع (( كليم أنجرز )) وعقابه القاسي لهما .
ابتلعت ريقها متوترة . فات أوان التراجع الآن .
استجمعت شجاعتها وجذبت نفساً عميقاً .
ـ غارد ! أريدك أن تتزوجــــني . . .
* * * * * *
: : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : : :